شبكة صدفة

شبكة صدفة (http://www.aadd2.net/vb/index.php)
-   ابحاث علميه و دراسات (http://www.aadd2.net/vb/forumdisplay.php?f=13)
-   -   الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة (http://www.aadd2.net/vb/showthread.php?t=129045)

نور 06-07-2011 01:58 PM

الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 

الاقتصاد المصريّ
من الاستقلال إلى التبعيَّة
1974 - 1979

ج2

عــادل حُسَين

الفهرس

الفصل السادس
(1974)بداية الهجوم الانفتاحي.. الأحلام والنتائج. 4
مقدمة. 5
هوامش الفصل السادس.. 285
الفصل السابع
(1975)تطوير الهجوم واستمرار المقاومة. 352
هوامش الفصل السابع. 510
الفصل الثامن
(1976)هبَّةُ يناير تؤجِّل إعلانَ الاستسلام534
مقدمة. 535
هوامش الفصل الثامن. 749
مُلحَق الفصل الثامن. 778
الفصل التاسع
(1977/ 1978) فتــرة الاستســلام797
هوامِش الفصل التاسِع. 1097
مُلحق الفصل التاسع. 1156
خُلاصة خطاب النوايا المُقدَّم إلى صندوق النقد الدولي. 1156
الفصل العاشر
(1974/ 1979) التَغيُّراتُ الهيْكليَّة والبِنيَويَّة، والسَّلام الأمريكي الإسرائيلي. 1176
هوامش الفصل العاشر. 1595
الخلاصة. 1731


الفصل السادس


(1974)
بداية الهجوم الانفتاحي.. الأحلام والنتائج

مقدمة
نبدأ في هذا الفصل، محاولة التحليل الديناميكي المركب للتطورات الاقتصادية.
ووفقًا للمفاهيم والنماذج التي حددناها، قلنا إن مصر كانت قد حققت خطوات مهمة باتجاه الاستقلال السياسي والاقتصادي في النصف الثاني من الخمسينيات، وأثناء الستينيات، وقادت أقطار المنطقة في نضال ثوري في الاتجاه نفسه، ولبلورة الانتماء إلى مشروع قومي عظيم، وارتبط هذا النضال بعلاقات دولية مناسبة، وبدور نشِط بين الدول التابعة والساعية للاستقلال والتنمية الجادة. ولا شك، أن مُجمل هذه السياسات كان خلف عدوان 1967 بالمساندة المباشرة من الولايات المتحدة. إن كافة النواقص التي تسجَّل ضد ثورة 23 تموز/ يوليو، لا تجعلنا نهدر إنجازات هائلة لشعبنا باتجاه الاستقلال. ومن يفعل ذلك يسهم (بقصد أو غير قصد) في الحملة السياسية والنفسية الشرسة، التي تهدف إلى تقويض الثقة بالنفس، وبقدرتنا على أن نحقق أي شيء بإرادتنا المستقلة، وهي حملة تستفيد منها القوَى التي استعمرتنا تقليديًّا، وخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، وتشبه الحملة التي تعرضنا لها مع هزيمة الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي في القرن التاسع عشر.
ويهمنا – في السياق الحالي – أن نركز الانتباه على عدد من التغييرات الداخلية التي أحدثتها القيادة الثوريَّة للدولة.
* فقد حققت سيطرة الدولة الوطنية على مفاتيح الاقتصاد القومي.
* وهذه السيطرة مكَّنت من مواجهة العالم الخارجي من مركز قوة نسبي.
* ومكنت أيضًا من البدء في تنمية شاملة، وتنمية صناعية، وفق تخطيط وأولويات محددة من القاهرة، تحمل سمات مهمة لتنمية متمركزة حول ذاتها، وتتولى التنفيذ والإدارة مؤسسات وطنية، تربي أجيالاً من الكوادر الفنية المبدعة والملتزمة وطنيًّا.
* وإنجاز كل ذلك، كان معركة ضارية ضد قوَى القهر الخارجية ومصالحها، وكان يتطلب تغييرات اجتماعية عميقة، فتم إقصاء الطبقة الرأسمالية الكبيرة (المرتبطة بدرجة أو أخرى بالقوى الخارجية) عن مواقع السيطرة الاقتصادية، وأعيد توزيع الناتج القومي على نحو أفضل؛ لتغليب علاقات التعاون بين الطبقات الوطنية.
هذه الإنجازات لم تكن بالشمول أو العمق الواجب، والمؤسسات التي تولتها لم تكن بالكفاءة المطلوبة، ولكن كانت – مع ذلك – كافية لدعوة القوَى الخارجية للتدخل بالقوة المسلحة في محاولة لتقويض ما تحقق. وهذا الهدف السياسي من العدوان في عام 1967، تأجل تنفيذه إلى ما بعد حرب عربية ناجحة في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، فكافة السياسات التي انتهجت بعد الحرب (وضمنها السياسات الاقتصادية) كانت انحرافًا متزايدًا عن طريق الاستقلال، وهذه السياسات المركبة كانت سياسات الخطوة خطوة.. من الاستقلال إلى التبعية. ورغم السهولة البادية التي تمت بها العملية، فإن الأمر لم يخلُ من محاولات للمقاومة، ولكن
لم تكن المقاومة حركة سياسية جماهيرية، ولم تكن قادرة – بالتالي – على إيقاف الردة. فالهَبَّات الجماهيرية (حتى في ذروة كانون الثاني/ يناير 1977) لم تكن امتدادًا لجهد منظم يعِي أبعاد المخططات المضادة، ويواجهها بسياسات ثورية تؤيد الجماهير. ظلت الهبّات في مناسبات متفرقة وحول قضايا جزئية. وكان شأنها في ذلك شأن محاولات العناصر التكنوقراطية والبيروقراطية الإيجابية (داخل مؤسسات الدولة)، فقد حاولت هذه أيضًا أن تعوق الردة بأساليبها الخاصة، وبغير رؤية سياسية شاملة، فتهاوت محاولاتها المتناثرة. ولا شك أن هذه الردة، والسهولة التي تمت بها، تحتاج فحصًا وتفسيرًا.


نور 06-07-2011 01:59 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
أولاً – الإطار العام للتغيرات:
(1) لا نهدف في هذا الكتاب إلى تقديم تاريخ متكامل لهذه الفترة، فمن الناحية العملية يتعذر تحقيق ذلك؛ حيث إننا بصدد فترة نعيشها، وهي فترة من الحرب الممتدة (ساخنة وباردة) بكل ما يعني ذلك من تلاحق للأحداث. والمصادمات والتغيرات المفاجئة للدارس، ترجع في قسم منها إلى أن التطورات في مثل هذه اللحظة التاريخية غير العادية لا تخضع دائمًا للحسابات الكمية الباردة؛ ولذا يصعب التنبؤ بهذه التطورات – قبل حدوثها – ويصعب أيضًا تحليلها – بعد أن تحدث، خاصة وأنت لا تملك فرصة للتأمل الطويل؛ لأن تدفق التغيرات والقفزات لا يتوقف ولا يهدأ. إلا أن بعض التغييرات تبدو للباحث أيضًا كمفاجأة؛ لأن كثيرًا من الأسئلة الجوهرية، تحتاج إجاباتها إلى معلومات كثيرة غير متوافرة. ويبدو أحيانًا أن المعلومات المتوافرة الآن لأهل عالمنا، ومعايشي عصرنا، أكثر من المعلومات التي كانت متوافرة لأجدادنا عن عالمهم وعصرهم. ويبدو بالتالي أن قدرتها على فهم ومتابعة ما يحدث حولنا أصبحت أفعلَ. ولكنني أعتقد أن هذا التصور غير صحيح، وخاصة بالنسبة للباحث؛ فكل ما يقال عن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات، أدى إلى زيادة كمية هائلة في المعلومات المتاحة، وأدى إلى سرعة خرافية في تداولها بين دائرة واسعة من المواطنين، ولكن ظل تجدد الأحداث الفعلية، واتساع نطاقها، أعلى من إنجازات ثورة المعلومات والاتصالات. وأهم من ذلك أن نوع المعلومات لم يتغير كثيرًا، أي أن ما يسمح بإلقاء الضوء عليه – رغم كل ما يقال عن تعمق الممارسات الديمقراطية– لا زال بعيدًا عن دائرة مهمة من القرارات، ولا زالت قنوات الاتصال السرية تحتجز المعلومات المعاصرة الأكثر أهمية وتأثيرًا في تفسير ما يحدث حولنا.
إن الدارس للسياسات الدولية، يرتكب حماقة بالغة، ويصل إلى استنتاجات في منتهى السذاجة؛ إذ اعتمد على ما ينشر باعتباره حقيقة قابلة للاستخدام المباشر، فهو مضطر – صراحة أو ضمنًا – إلى استخدام فروض كثيرة لسد الفجوات الكبيرة في معلوماته. وتساعده في ذلك المفاهيم النظرية التي توصل إليها البحث العلمي في مجال العلاقات الدولية. والمجاهيل لا تقتصر على محتوى السياسات الدولية، ولكن على وسائل الحوار، وأساليب اتخاذ القرارات وأساليب تنفيذها. أي على قواعد اللعبة كلها. إن الإدارة الفعلية للعلاقات الدولية إدارة سريَّة. وقد كشفت هذه الحقيقة تحقيقات الكونجرس الأمريكي حول أنشطة المخابرات المركزية، وكذلك ما نشرته الصحافة الغربية. ولا نقصد أنه تم الكشف عن بعض الجرائم الوحشية التي ارتكبت سرًّا في الدول التابعة والاشتراكية، فالجرائم والتدخلات العنيفة تظل حالات خاصة، وهذا الإطار من الممارسات كان - على أية حال - سرًّا معلنًا، ولم يضِفْ ما نُشر بشأنه أخيرًا إلا بعض التفاصيل. فتدخل المخابرات المركزية في أحداث جواتيمالا، وإيران (مصدق) والكونغو (لومومبا) وكوبا، وشيلي.. إلخ، كان معلومًا (1). ولكننا نقصد أنه بات مكشوفًا الآن، أن الإدارة الفعلية اليومية لمجمل العلاقات الدولية إدارة سريَّة، والمخابرات هي مجرد مؤسسة مهمة ضمن المؤسسات العامة في هذه الإدارة أو هي المؤسسة الأشهر في هذا المجال.
(2) أشرنا إلى أسلوب صندوق النقد والبنك الدولي ووكالة التنمية، في الإدارة السرية للسياسات الاقتصادية في الدول التابعة، وكشف فيليب أجي مدى الصلاحيات الواسعة للمخابرات المركزية، وأساليب عملها المتنوعة ضمن استراتيجية الإدارة الأمريكية للتحكم في التطورات السياسية اليومية لهذه الدول؛ بحيث تظل في موقع الخضوع والتبعيَّة. وتكلفت كتابات أخرى بكشف طرف من الدور السري للشركات العابرة للجنسية في التخطيط والتنفيذ للسياسات الفعلية، بالتعاون مع الحكومات المعنية (2). وقد نسجل هنا أن كل ما كُشف من وثائق ومعلومات تجنب كشف الدور الأمريكي السري في المنطقة العربية، وتجنب بالتحديد دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي (3). وبشكل عام، فإن معلومات أجي المهمة، وكذلك ما جاء في الكتابات الأخرى، لم تصل إلى كشف أسلوب إدارة العلاقات في المستوى الأعلى، على مستوى كبار المسئولين، ويبدو أن المصادر المصرية ألقت ضوءًا خاصًا على هذا الجانب، ونشير هنا إلى ما كتبه علوي حافظ وحسنين هيكل، فالأول استُخِدم كقناة موصلة إلى الرئيس الراحل عبد الناصر بعد 1967. وشهادته تكشف عينة من أدوات وآليات إدارة حوار سري بين الإدارة الأمريكية وعبد الناصر (4). استخدم في التمويه باكستانيون (أحدهم أصبح رئيسًا لبنجلاديش بعد الانقلاب ضد مجيب الرحمن) على هيئة مستثمرين ورجال أعمال، واشتملت المحاولة على انتقاء شخصية مناسبة موالية للغرب وقريبة من عبد الناصر (علوي)، واستخدمت الشفرة والأسفار السرية إلى اليونان وجنيف ولندن، ومن خلال الدور المسنود إلى الوسيط كان مقصودًا دعم مركزه عند
عبد الناصر، وكان مستهدفًا في الوقت نفسه تجنيده للمخابرات المركزية؛ بإغراءات مالية وسياسية؛ حيث لوَّح له بأنه يمكن أن يكون رئيسًا للجمهورية (إذا لم يقبل – وقد زعم أنه فعل ذلك – فإن مجرد التلويح بالمنصب يحدث أثرًا مهمًا عند الرجل، وإذا قبل أصبح هذا ورقة تهديد يمكن أن تستخدم ضده عند عبد الناصر، وبالتالي ورقة ابتزاز مناسبة لاستخدامه كعميل). ولكن ما يعنينا على أية حال، هو أسلوب الاتصالات السرية، لإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأخرى على أعلى المستويات. ويفهم من كتابات علوي أنه لم يكن القناة السرية الوحيدة.

إلا أن شهادة هيكل (الأقرب من مركز الأحداث والقرارات) أكثر أهمية وتحديدًا، عن فترة أخرى من الأحداث (5)، وهو يقرر أنه خلال عام 1972 بأكمله، كان يجري استخدام قناتين للاتصال بين مصر والولايات المتحدة، كانت القناة الأولى هي قناة الاتصال العادي بين وزارتي الخارجية هنا وهناك، وكانت القناة الثانية السرية؛ من خلال المخابرات المصرية والمخابرات المركزية الأمريكية. وفي العام نفسه جرت محاولات عديدة لإقامة اتصالات سرية متنوعة مع المستويات المصرية العليا، ويروي حسنين هيكل مثلاً أن رئيس شركة البيبسي كولا (دونالد كندال) وهو صديق شخصي لنيكسون، جاء إلى القاهرة، واتصل به (وعلاقاته بالسادات في ذلك الوقت كانت وثيقة) عن طريق زكي هاشم (محامي مصري له علاقات وثيقة بدوائر الأعمال الأجنبية وأصبح وزيرًا للسياحة بعد ذلك)، وكان اقتراحه أن يتم ترتيب اجتماع سري بين هيكل وكيسنجر في منزل كندال. ولكن لم يحدث هذا الاجتماع (حسب رواية هيكل). وفقط في شباط/ فبراير 1973 تم لقاء سريّ على مستوى عالٍ، بين كيسنجر وحافظ إسماعيل (وكان مستشار الأمن القومي آنذاك). كان مقترحًا في البداية أن يكون اللقاء في قاعة أمريكية قرب برشلونة، ثم تعدلت الترتيبات بأن ذهب حافظ إسماعيل في زيارة رسمية إلى واشنطن؛ حيث تقابل معه الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون (23 شباط/ فبراير) ولم يظهر كيسنجر في هذا اللقاء إلى فترة قصيرة؛ حتى
لا يبدو أنه مهتم بقضية الشرق الأوسط، وتمويهًا بالتالي عن اجتماعه السري مع حافظ إسماعيل (في اليوم التالي) في منزل رئيس شركة البيبسي كولا.

في الاجتماع مع نيكسون، أكد الرئيس الأمريكي على أن المناقشات المقبلة مع مصر ينبغي أن تتم (كما كان الحال مع الصين وفيتنام) على مستويين: مستوى وزارة الخارجية حيث يمكن أن يكون كل شيء معلنًا، والمستوى الآخر خلال القنوات السرية التي يشرف عليها كسينجر، ودون معرفة وزارة الخارجية الأمريكية. والمستوى الآخر – كما قال نيكسون – هو القناة الموصلة إلى تسوية حقيقة. ولا بد من ضمان السرية؛ إذ إن إسرائيل لا ينبغي أن تعلم شيئًا عمّا يجري (طلب نيكسون من جنرال سكو كروفت عدم تسجيل هذه الفقرة في المحضر).
وفي الاجتماع مع كيسنجر قيل لحافظ إسماعيل إن ثلاثة مبادئ ينبغي أن تحكم التعامل "الثقة المتبادلة – لا غش – السرية الكاملة".
وأثناء القتال في تشرين الأول/ أكتوبر كانت حلقة الوصل عبر المخابرات، أي حلقة الوصل غير المرئية، عاملة طول الوقت، بين القاهرة وواشنطن، وفي تبادل الرسائل العاجلة بين السادات ونيكسون (6)، ومع تطور العلاقات أصبحت اللقاءات المباشرة (وفي اجتماعات مغلقة) بين الرؤساء،
أو بين الرئيس المصري والمبعوثين على مستوى عالٍ، ظاهرة عادية ومتكررة، ويشابهها الاتصال التليفوني المباشر. وأعتقد أن الرئيس السادات، قد كشف تمامًا طبيعة الإدارة السرية، وما تضمنه من إخفاء للمعلومات والتدابير الأساسية، حين قال – حسب رواية حسني مبارك "إن تواجد المعلومات كلها عند فرد واحد عمل خطير، ويجب أن يكون هناك على قمة المسئولية من يشارك الرئيس فيما لديه من معلومات وخطط موضوعة لكل الاحتمالات... "وقال الرئيس إنني قررت أن أضع غيري معي في الصورة، صورة العمل بكافة جوانبه"، فعين مبارك كنائب لرئيس الجمهورية (7).

(3) ومؤكد أن هذا الأسلوب لا يمارس مع الولايات المتحدة وحدها، فالاتحاد السوفيتي يستخدم أسلوبًا مشابهًا، والعلاقات السوفيتية الأمريكية، تتم أيضًا بالأسلوب نفسه (ولكن بمؤسسات أكثر رشدًا عند الجانبين) (8). ولسنا بصدد تقييم هذا الأسلوب في إدارة العلاقات الدولية، فحسبنا الآن أن نعرف قواعد اللعبة كما هي، وندرك على ضوء هذه المعرفة أن معلوماتنا عمّا يحدث حولنا محدودة جدًا. وقد يصح للباحث أن يحاول إجابة الأسئلة على طريقة علماء الحفريات الذين يتصورون شكل الحيوان وحجمه من قطعة عظم وبعض الأنياب. هذه مسألة واردة وهامة، ولكن مع كل المصاعب التي أشرنا إليها، يتعذر على هذه المحاولة أن ترقي إلى مستوى تركيب تاريخ متكامل. وقد قررنا من البداية، أننا لا نهدف إلى محاولة من هذا النوع، فتركيزنا موجه إلى التغير في السياسات والبنية الاقتصادية. وهذا الاختيار لا يعفينا من كل المصاعب، ولكن يقلل منها أن المعلومات في هذا الجانب أوفر للأحداث؛ لأن التطور في النظام الاقتصادي المصري لا يمكن فهم أسبابها الكاملة،
أو استيعاب نتائجها البعيدة، بغير تذكّر دائم لأهمية المنطقة العربية حضاريًا؛ ولخطورتها وحساسيتها استراتيجيًّا. أو بغير تتبع يقظ لتطور الصراع على أرض المنطقة منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. إن تحليلنا يهدف إلى تطبيق مناسب للنتائج النظرية الممثلة في نموذج التبعية/ الاستقلال. وكما وصلنا إلى هذا النموذج – نظريًّا – عبر منهج مركب، فإن محاولة تطبيقه أو استخدامه في دراسة الحالة المصرية، حتى مع تركيزنا على الجانب الاقتصادي، تتطلب مراعاة المنهج المركب، أي مراعاة المتغيرات غير الاقتصادية التي أثرت في شكل ومضمون التطورات الاقتصادية موضع التحليل، في الحالة المصرية على وجه التحديد. فنظرًا لطبيعة المنطقة، ولوزن التحدي الصهيوني في تحديد السياسات المصرية؛ ونظرًا لأهمية الدور المصري في الاستراتيجية العربية يصبح مضمون ما تحقق داخل مصر أكبر جدًا من مجرد انتكاس في التطور الاقتصادي لقطر من الأقطار. إن حجم ونوع المصيبة يتحدد بأثر هذه الانتكاسة على الدور المصري في النهضة العربية، وكذلك بأثر هذه التطورات على المستقبل الصهيوني، وعلى استمرار وإحكام الهيمنة الغربية الأمريكية؛ حضاريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا على هذه المنطقة الهامة من العالم. ومن المفارقات التاريخية أن هذا الحجم الهائل للمصيبة، تحقق بعد أول حرب تحريرية ناجحة ضد إسرائيل، وقوى السيطرة الدولية التي ساندتها.

(4) من المؤكد أن حرب 1967 حققت أهدافًا أساسية لإسرائيل، ولكنها لم تحقق مباشرة أهداف الولايات المتحدة، فرغم إضعاف هيبة وتماسك الأنظمة الساعية للاستقلال في المنطقة، ورغم حقيقة أن احتلال الأراضي واجه هذه الأنظمة بمهمة استنزفت طاقتها، فإن بلورة النتائج على النحو الذي استهدفته السياسة الأمريكية، لم تتحقق، ومواصلة الاعتماد على عنصر الزمن وحده؛ لكي تركع هذه الأنظمة وتصفى. بدا مع السبعينيات أنه مسألة غير مضمونة تمامًا، مع موالاة الاستعداد العسكري، ومع مزيد من التدخل (بل الوجود) السوفيتي. مسألة أخرى كان تقلق الولايات المتحدة وهي أن إسرائيل (بامتداداتها الصهيونية داخل المؤسسات الأمريكية) أصبحت قوة مزعجة، وهامش استقلالها في الحركة وصل إلى أبعاد منذرة، خاصة وإسرائيل في قلب منطقة تحتل موقعًا متقدمًا في الاستراتيجية الأمريكية.
إن جوهر الدور الأمريكي المفتَرض بين الدول العربية كان يقوم على عملية تبادل بعض الأراضي العربية مقابل تصفية الاتجاهات المتمردة في المنطقة. وهذه العملية تتضمن أن تكون الأراضي المحتلة في 1967 رهن تصرف الإدارة الأمريكية، تعيدها قطعةً قطعة وفْق تطورات الصفقة مع الأطراف العربية المعنية. ولكن هامش الاستقلال الإسرائيلي بعد 1967 جعل التحكم في الأراضي المحتلة ملكًا للقرار الإسرائيلي، قبل أن يكون في يد الإدارة الأمريكية، فأصبح مستحيلاً من الناحية العملية أن تلعب الولايات المتحدة الدور المتوقع منها.
وهذا التحليل – بكل نواحيه، والذي لا يخلو من فروض– يؤدي إلى فرض آخر، وهو أن الولايات المتحدة كانت تبحث عن مخرج. ولعل هذا يقربنا من تصور بعض ما حوته الاتصالات السياسية، ويفسر عديدًا من الأحداث لمن يحاول أن يُعد تصورًا تقريبيًّا للتطورات السياسية العامة منذ أوائل السبعينيات (9).
ووفقًا لما نشره مصدر مصري مسئول عن الاجتماع السري لحافظ إسماعيل، فإن كيسنجر أوضح أن الولايات المتحدة تفضل بحث مشاكل الشرق الأوسط بالتفصيل، مع الأطراف المعنية وحدها ومباشرة، وبعيدًا عن الاتحاد السوفيتي. وبالنسبة لمصر، فإن عليها أن تفكر فيما هي مستعدة لتقديمه، مقابل انسحاب إسرائيلي جزئي. "والضمانات بالكلام لا تكفي؛ فالتنازلات المتوقعة من مصر سياسية وأرضية"(10) وهذا كلام لم يكن مرضيًا، ولكن كان مؤشرًا إلى احتمال تدخل أمريكي في الصراع. والعرض الأمريكي مثَّل تقديرًا معينًا لتوازن القوى، عبر عنه كيسنجر فيما بعد للمسئولين الإسرائيليين على النحو التالي: "إنني أتذكر الآن أن حافظ إسماعيل أبلغني عدة مرات أن الوضع الحالي
لا يمكن أن يستمر، وسألني عمّا إذا كانت الولايات المتحدة لم تفعل شيئًا في مواجهة هذا الاحتمال".. وأضاف كيسنجر أنه "لم تبدُ على وجهي مجرد ابتسامة خفيفة، ولكنني ضحكت في داخلي وضحكت. حرب؟ مصر؟ لقد اعتبرت ما قيل كلامًا فارغًا، وتبجُّحًا بلا أي مضمون" (11).

ويبدو الآن أن الاتصالات السريَّة خلال 1972، 1973، لم تنجح في انتزاع الموافقة على كل التنازلات العربية، فكيسنجر كان يقول لكبار الدبلوماسيين العرب (25 أيلول/ سبتمبر 1973) إن "ما نحتاجه، هو أن نعثر على وسائل تمكننا من تحويل ما هو غير مقبول لكم حاليًا، إلى وضع يمكنكم أن تعيشوا معه"(12). ولكن أهم من ذلك أن الاتصالات السرية مع الجانب الآخر كانت – على ما يبدو – أكثر فشلاً في إقناع الإسرائيليين بتسلُّم الولايات المتحدة بعض الأراضي؛ لاستخدامها في صفقتها. ولعله عبر عن هذا المعنى للقادة الإسرائيليين حين قال: "إنني لا أودُّ أن ألوم أحدًا، ولكن كان ممكنًا أثناء عام 1973 أن نمنع الحرب، إذا كنا قد تنبهنا لما هو قادم.. بدلاً من عمل شيء كنا نتبادل النكات حول الأحذية التي تركها المصريون خلفهم عام 1967" (13).
(5) المهم، حدث بعد تجميد ظاهر للموقف، وبعد وقف طويل لإطلاق النار، أن تحركت القوات المصرية والسورية، وفْق مخطط عربي محكم موحد، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، كانت الحرب محدودة بمقياس الأرض التي دار عليها القتال، وبمقياس الزمن الذي استغرقته، ولكن من المؤكد أن الأرض المحدودة والزمن المحدود شهدا كثافة في القتال، ومعدلاً في فقد العتاد، لم تخبرهما حرب سابقة (13). ومن المؤكد أيضًا أن هذه الحرب العسكرية بامتداداتها الاقتصادية (النفطية) لسعت بنيران الصراع كل أنحاء الأرض، بل وانعكس البُعد العالمي للحرب في شكل عسكري مباشر، حين أعلنت القوتان العُظميان رفع حالة التأهب النووي في مرحلة من المراحل.
إن حرب تشرين الأول/ أكتوبر – بهذا المستوى، وبهذه الخطورة – تبلور ما يقال عن الأهمية الاستراتيجية لمنطقتنا، وعن نوع الصراعات داخلها ومن حولها. إن حرب تشرين الأول/ أكتوبر كان مفروضًا – في كل الأحوال – أن تغير صورة المنطقة، وتؤثر تأثيرًا هامًا على التوازنات الدولية التي كانت قائمة قبلها (14). وقد حدث هذا فعلاً، ولكن في عكس الاتجاه الذي كان ممكنًا، والذي تطلعت إليه أمتنا، في نضالها الطويل لتحرير الإرادة.
(6) ما سبق الحرب، وما دار حقيقة أثناء الحرب، يحمل كثيرًا من علامات الاستفهام. ولكن بوسعنا أن نقرر – وفق ما أعلن من كل الأطراف – أن حملة الخِداع الاستراتيجي ضد إسرائيل، كانت ناجحة تمامًا. وغرور القيادة الإسرائيلية أوصلها إلى حد الاستهانة بالتقارير المؤكدة حول التحركات العربية على الجبهتين، والتي بلغت حدًّا لم يعد ممكنًا إخفاؤه. ومعروف الآن أن الإدارة الأمريكية اتفقت مع إسرائيل في تفسيراتها لتطور الموقف، وطلبت منها ألا تبدأ القتال بضربة وقائية. وللحقيقة كانت جولدا مائير نفسها قد استبعدت مثل هذا الإجراء؛ بسبب الثقة الزائدة في قوتها "التي لا تقهر"، وفي الضعف المهين للأعداء.

نور 06-07-2011 02:00 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
في المرحلة الأولى من القتال، انهارت القوات الإسرائيلية معنويًّا وماديًّا. وهامش الاستقلال الذي حققته إسرائيل بعد 1967، منعها - من البداية - من طلب النجدة الأمريكية بصوت عالٍ، فاكتفت بطلب قائمة متواضعة من الأسلحة، ولكن مع تعاظم الخسائر ابتلعت كبرياءها، وبدأت في الصراخ. في مساء 8 تشرين الأول/ أكتوبر كان كيسنجر يبشر السفير الإسرائيلي، بأن بلاده ستحصل على طائرتين فانتوم خلال 24 ساعة (وفقًا للقائمة التي سبق أن قدمها)، فإذا بالسفير يستنكر: "طائرتان؟ إن إسرائيل تحتاج عشرات".
ولكن رغم الإلحاح وحركة المكوك التي قام بها السفير بين البيت الأبيض والخارجية والدفاع، تلكأ البنتاجون في إرسال المعدات الحربية المطلوبة، وثبت في هذه الأثناء أن إسرائيل عاجزة تمامًا إذا تُركت وحدها. وأبلغت واشنطن السفير الإسرائيلي (10 تشرين الأول/ أكتوبر) أن السوفييت يتحركون في الأمم المتحدة لوقف القتال؛ حتى يتجمد الموقف في نقطة يملك العرب فيها المبادرة، وإسرائيل لم تتمكن بعدُ من مجرد الإعداد لهجوم مضاد، فرفض السفير الإسرائيلي هذا العرض باسم حكومته، وعاد إلى الإلحاح في إقامة جسر جوي أمريكي فورًا لمواجهة الجسر الجوي الذي أقامه السوفييت مع مصر وسوريا. ولكن في مساء 12 تشرين الأول/ أكتوبر كانت الأعصاب الإسرائيلية قد احترقت تمامًا، وكان الدبلوماسي الإسرائيلي يقول لكيسنجر: "إذا لم يبدأ جسر جوي أمريكي كثيف إلى إسرائيل فورًا؛ فإنني سأعلم من ذلك أن الولايات المتحدة ترتد عن تعهداتها وسياستها، وسنستخلص نتائجَ بالغة الخطورة من كل هذا" (15). (كان هذا تهديدًا بالهجوم العلني على الموقف الأمريكي في ظل أزمة ووترجيت الحرجة)، ولكن لم يكن هذا التحذير سببًا كافيًا لتغيير الموقف الأمريكي؛ فالموقف لم يتغير إلا بعد اعتراف من جولدا مائير، بأن الموقف الإسرائيلي أصبح ميئوسًا منه. وتوضيح ذلك أن كيسنجر طلب في اليوم نفسه (12 تشرين الأول/ أكتوبر) رأي القيادة الإسرائيلية في قرار– تحرك الولايات المتحدة – لوقف إطلاق النار، مع بقاء قوات كل طرف في أماكنها، على أن يطبق بعد 12 ساعة من صدوره (لإتاحة فرصة للقوات الإسرائيلية لتحسين مواقعها). وكان رد مائير (بعد اجتماعها مع ديان وإليعازر رئيس الأركان) كالتالي: "في سوريا هناك تقدم ضئيل والمقاومة أصبحت أكثر ضراوة؛ بسبب تدخل العراقيين. (والقوات المصرية صامدة بقوة في مواقعها على القناة). وعلى ذلك، ينبغي أن نوافق على السيناريو الذي تقدم به كيسنجر، ودون مد الوقت". ولم يستطع إيبان والسفير الإسرائيلي دينتز، تصديق ما يقرآه؛ فالقيادة الإسرائيلية قبلت ما كانت ترفضه منذ يومين، ودون وقت إضافي 12 ساعة. "لقد تبيَّنوا بسرعة أن القيادة الإسرائيلية لا تعتقد أنها تستطيع تحسين موقفها خلال 12 ساعة، وأنها تخشى أن كل ساعة إضافية قد تجعل الموقف أكثر سوءًا" (16).
فقط بعد انتزاع هذا الاعتراف، بدأ الجسر الجوي الكثيف.
قد يلاحظ هنا – وفي الفترة نفسها – شيء من الغموض في الموقف المصري، فهو لم يبادر ولم يقبل وقف إطلاق النار في اللحظة المناسبة. وفي الوقت نفسه، توقفت القوات المصرية عن التقدم إلى المضايق لإحراز نصر عسكري حاسم (17). وشائع أن السوفييت كانوا ضمن المستنكرين للموقف بعد انهيار خط باريلف، وبعد حالة الشلل والارتباك التي أصابت القيادة الإسرائيلية في الأيام الأولى من القتال. ومعروف أيضًا أن السوفييت اقترحوا وقف القتال في لحظة مناسبة. وتفسير الموقف المصري قد يرجع إلى أخطاء سياسية، أو إلى تقييمات للموقف العسكري لا نعلمها. ولكن هل يمكن أن نفترض أيضًا أن الاتصالات السرية أسهمت في صياغة الموقف المصري في تلك الفترة؟ يمكن أن نفترض مثلاً أن الولايات المتحدة قدمت وعودًا مجددة بالتدخل السياسي الحاسم في الصراع، بعد الأداء العسكري العربي الرائع، وألمحت إلى حرصها على تجنب التدخل السافر والكثيف لدعم إسرائيل؛ كمحاولة لتحسين صورتها في العالم العربي، وإعدادًا لقبول الولايات المتحدة كوسيط في التسوية المرتقبة. ومثل هذا الكلام كان يشجع القيادة المصرية على إطالة أمد القتال؛ لتأكيد النتائج السياسية المترتبة على العبور الناجح والرائع لقناة السويس (ويدخل في ذلك وعد السعودية بالتدخل نفطيًّا إذا استمر القتال مدة معقولة (18). ولكن قد نتصور أيضًا أن الولايات المتحدة حذرت في الوقت نفسه من مواصلة القوات المصرية للتقدم. فاقتلاع القوات الإسرائيلية من المضايق يعني أن القوات المصرية ركبت سيناء؛ أي أصبح الطريق مفتوحًا إلى حدود مصر الدولية، بل إلى الأراضي الإسرائيلية. وبالتالي أصبح تحرير سيناء بالقوة مسألة متاحة، وأصبحت الحاجة إلى الدور الأمريكي لاستعادة الأرض حاجة محدودة. إن تعظيم الدور المصري/ العربي في تحرير الأرض، وفي صياغة التسوية لا يستبعد الدور الأمريكي، ولكن يحد منه، ويخلق توازنًا بين القوتين العُظميان، وكل هذا مرفوض من الولايات المتحدة، ويتنافى مع مفهوم السلام الأمريكي.
(7) على أية حال، حدث - بعد أن أُعيدت إسرائيل إلى المقاس المطلوب، وإلى الاعتماد المُطلَق على قوة الولايات المتحدة - أن تحولت الإدارة الأمريكية إلى الجانب العربي لتعيده أيضًا إلى المقاس المطلوب. وكان هذا يعني "استعادة التوازن العسكري في المنطقة، وتزويد الولايات المتحدة بالتالي بوسيلة ضغط دبلوماسية؛ لتشكيل مفاوضات ما بعد الحرب". كان الدعم الأمريكي في اليونان مصدرًا أساسيًّا لمعلومات إسرائيل عن تحديد منطقة اللقاء بين الجيش الثاني والثالث. وبعد أن كانت إسرائيل تطلب وقف إطلاق النار في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، تطورت الأمور إلى أن أصبحت مصر هي التي تطلب وقف إطلاق النار، وعللت القيادة المصرية موقفها – صراحة – بأنها بصدد موقف أمريكي جديد، وقد علل كيسنجر تغير الموقف الأمريكي، بأنه أمر لا يتعلق بالصراع المحدد بين العرب وإسرائيل، ولكنه يدخل في الحسابات الدولية التي لا ينبغي أن تسمح للسلاح السوفيتي بهزيمة السلاح الأمريكي، أي أن المسألة تكاد تكون مسألة فنية، أو مجرد هيبة. وهذه مغالطة بطبيعة الحال؛ لأن وقائع ونتائج القتال في الصراع المحدد بين العرب وإسرائيل، تدخل أيضًا في الحسابات الدولية للولايات المتحدة، بل تأتي أولاً، كعامل حاسم في تحديد صورة المستقبل لمنطقة تحتل موقعًا أساسيًّا في الاستراتيجيات الدولية.
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر وصل كوسيجين إلى القاهرة، وكشف عن خطورة النتائج المترتبة على التسلل الإسرائيلي إلى الضفة الغربية للقناة، وتقول مصادر مختلفة إنه حصل على موافقة الرئيس السادات على قرار بوقف إطلاق النار. ولكن يقول الرئيس السادات إن كوسيجين بقي في القاهرة أربعة أيام، وبعدها عاد إلى موسكو "وفي أذنه عبارة واحدة: إني لن أوقف إطلاق النار.. وفي أذني عبارة واحدة: أوقف النار". إلا أن الرئيس يقول أيضًا: إنه "في يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر (يوم عودة كوسيجين إلى موسكو) تدخلت أمريكا، وأعلنت أنني غير مستعد لمحاربة أمريكا، فوافقت على وقف إطلاق النار، وأرسلت للسوفييت ليخبروا أمريكا" (19).
في 10 تشرين الأول/ أكتوبر كان كيسنجر في موسكو. كان الموقف يتطلب قرارات عاجلة، وكان يتطلب مشاورات حول طبيعة التطورات السياسية المقبلة. وبالنسبة لكيسنجر كان من أهدافه أيضًا، كسب مزيد من الوقت لصالح إسرائيل في أرض المعركة. ولكن صدر رغم هذا – عن اجتماع موسكو – القرار بوقف إطلاق النار. وفي طريق العودة توقف كيسنجر في إسرائيل، بعد أن كانت القيادة الإسرائيلية قد استوعبت المعنى السياسي المقصود من صدور قرار كهذا دون مشاورات سابقة معها. كان هذا المعنى لا يقل خطورة في مضمونه عن القرار نفسه.
ولكن من المسلم به أن إسرائيل لم تتمثل عمليًّا لوقف إطلاق النار، بل استخدمت القرار في تنظيم قواتها، وفي شن هجوم هام؛ لتحسين موقفها على الضفة الغربية في القناة، فهل كانت الولايات المتحدة بعيدة عن ذلك؟ كل الشواهد تدل على غير هذا، فبالتأكيد كانت مواقع إسرائيل التي طلب قرار 22 تشرين الأول/ أكتوبر وقف القتال عندها، تجعل موقف قواتها في الضفة الغربية بالغ الحرج، وبالتالي كانت الوقائع في ميدان القتال لا تضع الولايات المتحدة على مسافة متقاربة من الطرفين، كانت الوقائع تجعلها في موقف المدافع عن إسرائيل في مواجهة موقف مصري أقوَى. ولم يكن هذا ما تطلبه. وحسب رواية إسرائيلية، فإن كيسنجر سأل في إسرائيل: كم عدد الأيام المطلوبة لإكمال الحصار على الجيشين المصريين في الضفة الشرقية في القناة؟ وتراوحت الإجابة بين 3 و7 أيام. فعلق كيسنجر: "حسنًا، إن وقف إطلاق النار في فيتنام لم ينفذ في الوقت المتفق عليه تمامًا"(20). ويقول جولان: "إن كلماته بدت لمستمعيه بمثابة إشارة مرور (غير مباشرة) لاستمرار القتال". ولكن سواء قالها كيسنجر بهذا الشكل غير المباشر، أو بشكل مباشر، فإن رسائل السادات إلى بريجنيف ونيسكون توالت كل ساعة حول تطورات الموقف واستمرار إسرائيل في القتال. وجاء في رد نيكسون (24 تشرين الأول/ أكتوبر) أنه أبلغ الحكومة الإسرائيلية أن استمرارها في عمليات عسكرية هجومية سيؤدي إلى أوخم العواقب فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة – إسرائيل في المستقبل".
وأضاف أن الحكومة الإسرائيلية نفت أنها تقوم بعمليات هجومية "ويستحيل أن نحدد من هنا الوقائع الحقيقية". وهذه العبارة الأخيرة – كما قال هيكل – لم تكن مقنعة تمامًا، ودعمت شكوك الروس في أن إسرائيل قد سُمِح لها – وبتعمد - أن تواصل انتهاكاتها لوقف إطلاق النار.
(8) رغم العجز عن احتلال الإسماعيلية، وعن اقتحام السويس، كان الجيش الثالث والسويس تحت الحصار، حين صدر القرار الثاني لوقف إطلاق النار (24 تشرين الأول/ أكتوبر) فأذاع السادات نداء إلى بريجنيف ونيكسون لتشكيل قوة سوفيتية – أمريكية لحفظ السلام. وبعد الرسالة بساعات تلقى الرئيس الأمريكي رسالة حادة ومنذرة من بريجنيف. تبنت الرسالة اقتراح السادات، ثم أضاف بريجنيف: "إنني أقولها بصراحة: إنه إذا رأيتم أنه يستحيل أن نعمل معًا في هذا الموضوع، فإننا سنكون مواجَهين بالضرورة الملحة لتناول مشكلة اتخاذ الخطوات الملائمة من جانب واحد. إن إسرائيل لا يمكن أن يُسمح لها بالمضي في انتهاكاتها".
كان مستحيلاً أن تقبل الولايات المتحدة دخول قوات سوفيتية، منفردة أو مع قوات أمريكية، في هذه اللحظة، وفي المنطقة العربية، وضد إسرائيل. فإذا تمكن الروس من التواجد في الشرق الأوسط باعتبارهم المنقذين للعرب – كما قال كيسنجر – يصبح إخراجهم بالغ الصعوبة، ويتزايد نفوذهم على تدفق النفط إلى الغرب. وقد فسرت رسالة بريجنيف في مجلس الأمن القومي الأمريكي، على أنها تهديد حقيقي بالتحرك، تؤيده المعلومات المؤكدة عن انتشار حالة التأهب بين القوات الأمريكية. وتطلب الأمر أيضًا تحركًا موازيًا لمحاصرة المشكلة في المنبع. أي منع تطور الموقف إلى حالة يضطر فيها السادات إلى طلب التدخل السوفيتي. ويتحقق ذلك بأمر حاسم إلى إسرائيل، يمنعها من ممارسة الحصار الكامل على الجيش الثالث (21). ويبدو أن الاتصالات السرية نجحت في تهدئة القيادة المصرية، وأقنعها باختيار البديل الأمريكي لإعداد ترتيبات مؤقتة غير رسمية. فتم إبعاد السوفييت مؤقتًا عن القضية العاجلة الساخنة. قضية إخراج الجيش الثالث من مخاطر الحصار.
(9) بالمفهوم الاستراتيجي، كانت النتائج السياسية والعسكرية بعد وقف إطلاق النار كارثة بالنسبة لإسرائيل؛ وإضعافًا لأوروبا الغربية واليابان. وتحسنت – في المقابل وبدرجات متفاوتة – المواقف النسبية للأطراف الأخرى: العرب – الاتحاد السوفيتي – الولايات (22). ولكن الدبلوماسية السرية التي صاحبت الحرب الساخنة، لم تتوقف في صراعها المميت أثناء الحرب الباردة التي بدأت فور وقف إطلاق النار، واستخدمت فيها كل الأدوات؛ بما في ذلك التهديد بتدخلات دولية عسكرية عند تجدد الاشتباكات.
بدأت الولايات المتحدة تحركها، وفق تقييم صحيح للتغير الذي أصاب توازن القوى الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل (ويبدو أنها ارتاحت إلى ذلك) ونشرت على لسان كيسنجر تصريحات نصف علنية في هذا الاتجاه؛ ففي اجتماعه مع عدد من وزراء الخارجية العرب (17 تشرين الأول/ أكتوبر) قال كيسنجر إن "سبب الفشل السابق في تطبيق قرار 242 كان التفوق العسكري الكامل لإسرائيل.. كان العرب ضعافًا، وهم اليوم أقوياء. لقد حقق العرب أكثر مما كان يعتقد أي إنسان (بما في ذلك هم أنفسهم) أنه ممكن" (23). ووفقًا لمعلومات المصادر المصرية، فإن كيسنجر واجه الإسرائيليين بهذه الحقيقة: "قد يكون صحيحًا أنهم استعادوا المبادرة، ولكن أثبتت الأيام الأولى من القتال، أن عديدًا من مسلماتهم الاستراتيجيَّة كانت خاطئة: لقد أخذتهم المفاجأة – أثبت العرب قدرتهم على العمل المنسق – أزمة الطاقة تزود العرب بمَيزة سياسية". ولم يذكر طبعًا على لسان كيسنجر أنه ثبت أن قدرة إسرائيل على الحركة المستقلة أصبحت محدودة جدًّا.
هذا التقييم للتغير الاستراتيجي، أكده نيكسون حين وصف جولدا مائير "بأنها كُفْأَة جدًا، ولكن عنادها كان يقوم على إحساسها بالتفوق العسكري، والوضع الآن مختلف". إلا أن نيكسون أشار إلى ملاحظة أخرى، "لقد اتهمتمونا عام 1967 بالتواطؤ مع إسرائيل. ولكنكم جئتم هذه المرة لتتكلموا معنا (رغم المعونات الكثيفة المعلنة – ع. ح). ويشكل هذا فارقًا كبيرًا (24). ولا شك أن هذه الملاحظة الهامة لم تكن تقصد لقاءه العلني مع وزراء الخارجية العرب، بقدر إشارتها إلى الاتصالات السرية التي تواصلت دائمًا، قبل وأثناء القتال. ولا شك أن هذه الاتصالات كانت رصيدًا هامًا للتحرك الأمريكي في المراحل التالية.
كان هدف الولايات المتحدة في حربها الباردة – داخل المنطقة – تأكيد ما حققته من ترويض وإخضاع لإسرائيل، وكانت تهدف أيضًا، ومن خلال وعدها بإعادة الأراضي المحتلة، إلى إخضاع الجانب العربي لشروطها وإخراج الاتحاد السوفيتي من الساحة. وتطلب ذلك الاستفادة من الوقائع التي خلقها القتال، والتي لعبت الولايات المتحدة دورًا أساسيًّا في تشكيلها على نحو ملائم. لقد انتهت العمليات العسكرية إلى مأزق أو اختناق يواجه كل طرف من طرفي القتال. وبعد الاحتواء المؤقت لأزمة الحصار، وبعد التقاط الأنفاس، ظل الوضع بالغ الخطورة كما قال كيسنجر: "خط وقف إطلاق النار كان خطًا مجنونًا. تصور حربًا تنتهي بمثل هذه الطريقة؛ بحيث يحاصر الإسرائيليون الجيش الثالث بمحاصرتهم لمدينة السويس على الضفة الغربية في القنال، وفي نفس الوقت يجدون قوتهم المحاصرة هذه تدريجيًّا وقد أصبحت محاصرة بقوة مصر أكبر (بمساعدة قوات سوفيتية أو دونها) تعمل بالقرب من خط تموينها الأساسي في القاهرة"(25).
(10) إن الترتيبات المؤقتة وغير الرسمية، لم يكن من شأنها ضمان إمدادات كافية ومنتظمة للجيش الثالث. وبالتالي ظل الموقف منذرًا باحتمال تحرك عنيف لفتح الطريق عُنوة ولتجدد حرب شاملة. ولم يكن كيسنجر غافلاً عن احتمال التدخل السوفيتي في كل ذلك، (واصلت القوات السوفيتية المحمولة جوًّا حالة تأهبها بعد القرار بوقف حالة التأهب بين القوات الأمريكية). وكان شرحه للجانب الإسرائيلي يتضمن هذا السيناريو المحتمل: إذا لم تعطوا المصريين ممرًّا إلى الجيش الثالث سيأتي الروس بطائراتهم الهيلوكوبتر ليفعلوا ذلك. ماذا ستفعلون؟ هل ستطلقون النار عليهم؟ وماذا ستعمل الولايات المتحدة في تقديركم؟ الولايات المتحدة لن تسمح بتصرف سوفيتي من جانب واحد. إن هذا يجعل السوفييت أبطال العالم العربي. ولكي نمنع هذا، سترسل الولايات المتحدة الهليوكوبتر التابع لها هي محملاً بالطعام إلى الجيش الثالث" (26).
بوسعنا أن نتصور أن الاتصالات السرية التي أقنعت القيادة المصرية بقبول ترتيبات مؤقتة كانت مدعومة بوعد بإجراء خطوة أخرى، أي: بمواصلة التدخل من أجل صيغة رسمية ومستقرة. وبالتأكيد كانت الإدارة الأمريكية حريصة على احتكار حل هذه المشكلة الحساسة – من وجهة النظر المصرية. ولكن وضح منذ ذلك الوقت أن السياسة الخطوَة خطوة، تتضمن بالضرورة محاولةً دءوبًا لكسب الوقت، واستخدمت في المفاوضة كل فنون المناورة؛ لتحقيق ذلك(27).
خطوة إقامة طريق مستقر لتموين السويس والجيش الثالث، تطلبت تدخل كيسنجر لصياغة أسلوب التفاوض، وحين اجتمع الفريقان - المصري والإسرائيلي - عند الكيلو 101 (29 أكتوبر) تعثرت محاولة الوصول إلى اتفاق، وفي 30 أكتوبر كان إسماعيل فهمي في واشنطن للتباحث مع نيكسون وكيسنجر. وفي 31 أكتوبر وصلت مائير لنفس الغرض. ومثل هذا المنظر انتصارًا دبلوماسيًّا مُهِمًّا، أكد أن الولايات المتحدة أصبحت مقصد الطرفين؛ لحل المشاكل المستعصية. المباحثات مع الطرفين تناولت المشكلة الساخنة للجيش الثالث، وتصورات الخطوة التالية. كان موقف مصر أن تكون الخطوة التالية عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر، وهذا الموقف كان مرفوضًا. ولكن أهم من ذلك أن مشكلة الجيش الثالث (التي تضغط على أعصاب المفاوض المصري) ظلت مؤجلة، رغم أن كل يوم، بل كل ساعة، كانت مليئة بالمرارة والمخاطرة. وفقط بعد خمسة أيام من وصول كيسنجر إلى القاهرة في أول زيارة (أي: في 11 نوفمبر) وقعت اتفاقية النقاط الست بشروط مهينة عند الكيلو 101 (وكانت القوات السوفيتية لا زالت تحت التأهُّب عند زيارة كيسنجر. أي: كان البديل الثاني لا يزال قائمًا أمام القيادة المصرية). ولكن كان كيسنجر يستخدم دائمًا في مفاوضاته مع مصر: "أو بوسعكم أن تحصلوا على الأسلحة من الاتحاد السوفيتي، ولكن لن تحصلوا على الأرض
إلا منا". وهذه المقولة ناقصة بدرجة مُخلة؛ فقد بدا في تلك الفترة أنه أصبح بوسع الولايات المتحدة أن تتصرف فعلاً في معظم الأراضي (على الأقل) التي تحتلها إسرائيل؛ نتيجة حرب أكتوبر. لكنْ فارقٌ كبير بين أن تستخدم الولايات المتحدة صلاحياتها في ردّ الأراضي، تحت ضغط القوة العربية (بمكوناتها المختلفة) في المقام الأول، وبين أن ترد الأراضي؛ لِقاء قبول مصر والدول العربية لوضع التبعية الكاملة للولايات المتحدة (هذا إذا كان صحيحًا أنها سترد الأراضي كلها في حالة الاختيار الثاني).

وبالتأكيد كانت الولايات المتحدة تعمل – في خطواتها المتتابعة – على خلق الوقائع وتطويرها بطريقة تتفق مع هذا الاختيار الثاني، بل عملت تدريجيًّا على إغلاق الطريق الآخر المحتمل؛ بحيث لا يبقى أمام القيادات العربية هامش للمناورة المستقلة، ولا يصبح هناك إلا طريق واحد مفتوح، ترسمه الولايات المتحدة. وتبدأ هذه الترتيبات بإبعاد صياغة التسوية عن موازين الجو الساخن التي أنشأتها حرب أكتوبر وامتداداتها البترولية، والتي وضعت العرب في مركز قوة نسبية. كانت الولايات المتحدة تسعى للتسويف المتعمد، وكانت القيادات العربية، وبينها الملك فيصل، تدرك هذا المخطط لخفض درجة الحرارة، من خلال تجزئة المشاكل، ومعالجة كل جزئية بدم بارد (28). وإذا كانت سحب من الضباب قد تكثفت في سماوات العلاقات المصرية السوفيتية، فإن زيارة كيسنجر قد أضافت إلى السحاب الأسود عواصفَ رعدية شديدة، وإذا كان لدى السوفييت شك في نيات مصر وقيادة مصر، فإن هذه الزيارة.. أكدت لديهم أنني (أي: الرئيس السادات) اتفقت مع الأمريكان عليهم" (29).

نور 06-07-2011 02:01 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(11) بعد التوصل إلى اتفاقية الكيلو 101 ظل وضع الجيش الثالث مقلقًا ومهينًا، ونشبت عبر الخطوط المتشابكة حرب استنزاف ضارية - غير مُعلنة - ضد القوات الإسرائيلية على الضفة الغربية للقناة. وإذا كان مطلوبًا مع ذلك احتواء الموقف، وإذا كان غير مسموح لأيٍّ من الطرفين أن يفجره، فإن الولايات المتحدة تملك - إذن وَحدها - إخراج الجيشين المتحاربين من هذا المأزق. وقد وعدت بذلك فعلاً، لكنْ لمَ العجلة؟ استطالة الزمن في هذا الظرف، مسألة مفيدة لانتزاع التنازلات من الطرفين عبر الاتصالات السرية. وبالفعل جاء كيسنجر في جولة نوفمبر، بعد أن كانت مصر قد عدَّلت من مسألة عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر (التي تعكس رغبة في إضعاف الموقف الإسرائيلي، وتهديدًا بالتالي بالعودة للقتال إذا تعذر الاتفاق، وتهديدًا بالتالي بتنشيط الدور السوفيتي). كانت فكرة إجراء انسحاب إسرائيلي إلى خط أكثر استقرار من خطوط 22 أكتوبر قد قدمت باسم فض الاشتباك بين القوات المتحاربة. وبمنطق دفع الحركة بمعدل سريع (وفقًا للمصالح العربية). كان الاقتراح المصري أن تكون المرحلة الأولى من الانسحاب إلى خط العريش/ رأس محمد. وكان الملك فيصل يربط رفع الحظر البترولي بالانسحاب الكامل في بداية الاتصالات، ثم تعدل المطلب إلى "قدر معقول من
ألا نحاسب". وكان موقف كيسنجر في كل الأحوال "أنه تلزمني فترة ما بين ستة أشهر إلى سنة كاملة؛ حتى نصل إلى بداية شيء معقول" (30).

أذكر أيامها أن هذا التصريح أدهش الكثيرين من الفترة التي تصوروها طويلة قبل الوصول إلى "بداية شيء معقول". إلا أن كيسنجر أوضح أنه يمكن - في هذه الأثناء - أن تتحقق بعض الخطوات (فصل أول للقوات)، ولكن ليس قبل 31 ديسمبر (بحجة الانتخابات الإسرائيلية).
في 14 ديسمبر جاء كيسنجر إلى المنطقة. كانت التحركات المختلفة في تلك الفترة ضمن التحضير لمؤتمر جنيف. وبالتأكيد كان الاتحاد السوفيتي متحمسًا لحل القضية من خلال هذا المؤتمر، وبمشاركته النشطَة (بصفته أحد رئيسي المؤتمر). ونفترض هنا أن الإصرار السوفيتي على عقد المؤتمر، وموافقة الأطراف العربية (ردًّا على التسويف الأمريكي) دفعًا للولايات المتحدة التحرك السريع؛ حتى
لا تفقد ما كسبته، فحتى هذه اللحظة كان كيسنجر يدرك "أن السادات يملك بديلين: الأول أن يحاول ويحقق اتفاقًا، عبر مساعدة الولايات المتحدة، في جو من الاسترخاء. والثاني أن يحاول ويصل إلى اتفاق بمساعدة البريطانيين والفرنسيين واليابانيين والسوفييت، ولكن في مناخ من الأزمة الدولية مع الولايات المتحدة التي أصبحت مُتخلِّفة وراء الدول الأخرى"(31).

وما نُشر عن رحلة كيسنجر في ديسمبر يقول إنها كانت لتذليل العقبات أمام مؤتمر جنيف، ولكن يصعب تصديق ذلك، فحتى من خلال ما نشر يمكن اكتشاف حقيقة أن كافة المناورات والوعود قد استخدمت لاستبعاد السوريين، ولشق الصف العربي؛ بإعطاء أولوية خاصة لمصر، ثم لتفريغ المؤتمر من أي مضمون فعلي.
انعقد مؤتمر جنيف في 21 ديسمبر، ووفقًا لرواية الإسرائيليين، ألحَّ جوميكو – في لقائه الخاص مع وزير الخارجية الإسرائيلي (إيبان) – على أن المطلوب مواصلة المؤتمر (بلا انتظار للانتخابات الإسرائيلية)، والتوصل بسرعة على "تقدم ذي مغزى". وفهم الإسرائيليون أن مقصد السوفييت يتجاوز مجرد اتفاق مبدئي لفصل القوات. ولكن كانت جولة كيسنجر قبل المؤتمر، قد بحثت مباشرة مع مصر وإسرائيل مشروع اتفاق لفصل القوات. الاتصالات التي سبقت الزيارة، والمفاوضات المباشرة، أصرت على أن يعتدل الجانب المصري في مطالبه كشرط لتدخل الولايات المتحدة، فتعدلت المطالبة المصرية بأن يكون الانسحاب إلى خط العريش/ رأس محمد، واكتفت بأن يكون خط الانسحاب الأول إلى شرق المضايق. ويبدو أن الوعود الأمريكية في هذا الاتجاه كانت خلف الموقف المصري المتردد إزاء المساندة السوفيتية، وإزاء مؤتمر جنيف.
(12) في 10 يناير عاد كيسنجر إلى المنطقة، بعد إلحاح من مصر وإسرائيل. وبدأ دبلوماسية المكوك للتوصل إلى اتفاق للفصل بين القوات على الجبهة المصرية. وفي 17 يناير وقع الاتفاق فعلاً، ووضح أن كيسنجر فرض على كل طرف أن يقبل تجزئة مطالبه؛ فتحولت الخطوة المُرتقبة إلى خطوتين. فالانسحاب الإسرائيلي وفق الاتفاق، يكون فقط من المواقع غرب القناة، وأخذت إسرائيل - مقابل ذلك - تخفيفَ الوجود العسكري المصري شرق القناة، مع البدء في تطهير قناة السويس وتعمير مدنها. والشرط الأخير قد نتصور أن القيادة المصرية وافقت عليه اقتناعًا، وليس خضوعًا. ولكن من المؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة أصرَّا على ألا يكون المطلب مجرد قرار مصري مستقل، ولكن شرطًا أو جزءًا لا يتجزأ من الاتفاق، اتفق على عدم إعلانه. ويدعونا هذا إلى إلقاء الضوء على نوع من فنون العمل السري تكرر بعد ذلك كثيرًا. فبعد كل اتفاقية ثار الكلام حول البنود السرية، وأقسم المسئولون أنه لا توجد أيَّة اتفاقيات سرية مع إسرائيل، وواقع الحال أن هناك الآن أسلوب الاتفاق الثلاثي؛ فالحكومة المصرية توقع ما يسمى مذكرة إيضاحية، موجهة إلى الحكومة الأمريكية تتضمن التزامها بالشرط المعين، والحكومة الأمريكية توقع في نفس الوقت مذكرة إيضاحية إلى الحكومة الإسرائيلية تتضمن التزامًا بأن هذا الشرط المعين (كعودة الملاحة في القناة) سينفذ. هذا الأسلوب يضرب عددًا من العصافير بحجر واحد، فهو يتيح للحكومة المصرية (أو الإسرائيلية) أن تنفي أنها التزمت أمام الدولة الأخرى بالتزامات معينة، والحكومة الأمريكية تبدو كما لو أنها تلقت تفسيرًا أو اقتراحًا أو التزامًا من الحكومة المعنية، دون أن يكون لها دخل أو ترتيب في ذلك (ويذكرنا هذا بخطاب النوايا عند صندوق النقد الدولي، وإعلان السياسة عند البنك الدولي – راجع الفصل الرابع). ومن ناحية ثالثة، فإن التجاء الحكومتين المصرية والإسرائيلية إلى الولايات المتحدة لتبليغ الشروح والالتزامات، تأكيدٌ للدور الخاص للولايات المتحدة؛ كشريك مهيمن في إنشاء وتنفيذ الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية. وقد نفترض بالمناسبة أن الولايات حصلت أيضًا على بعض هذه المذكرات أثناء المفاوضات والاتفاقيات؛ لتعبر عن التزامات خاصة قبلها، ولحسابها الخاص (بعيدًا عن القضايا المباشرة لمصر/ إسرائيل)، فهي وسيلة لها إلزام الاتفاقية أو المعاهدة، دون مثالب إجراءات التصديق الدستورية، وما تتضمنه من علنية، في حالة الصيغة التقليدية للاتفاقيات الدولية (ولم يتنبه المعارضون في مصر إلى هذا التكنيك الجديد).
المهم، كانت الاتفاقية الأولى لفصل القوات، تعني تأجيل الانسحاب الإسرائيلي إلى شرق المضايق لخطوة ثانية، وتأجل سداد الثمن المباشر لذلك (مرور الشحنات الإسرائيلية في القناة عند فتحها للملاحة) إلى حين التوصل إلى هذه الخطوة. ويقال إن مائير التفتت إلى كيسنجر بعد توقيعها للاتفاق وقالت: "إنني أعتقد بإخلاص وأمانة، أنك صنعت تاريخًا في هذا الأسبوع، وليس عندي أي شك في ذلك" (32). وهذا الارتياح الإسرائيلي مفهوم. ولكن تقبيل كيسنجر على الوجنتين – من الجانب المصري – واعتباره أخًا وليس مجرد صديق، هو الموقف غير المفهوم.
فاتفاقية الفصل الأول للقوات حققت التالي: تجميد صيغة مؤتمر جنيف – دعم اتجاه الولايات المتحدة للانفراد بتسوية النزاع وفق شروطها هي – يرتبط بكل ذلك إبعاد السوفييت سياسيًا عن منطقة النزاع، وعن الجانب العربي بالتحديد – انعكس ذلك مباشرة (بمجرد توقيع الاتفاقية) في أزمة إمداد القوات المسلحة المصرية بالأسلحة السوفيتية. وكانت القيادة المصرية تحاول تطويق مثل هذه الأزمات في الماضي، ولكنها قررت هذه المرة (18 أبريل) تنويع مصادر السلاح (هل كان هذا واردًا في مذكرة من المذكرات الإيضاحية؟) – أيضًا حققت الاتفاقية تصدعًا في الجبهة العربية المحاربة. صحيح أن السادات أعلن يوم توقيع الاتفاقية أن كيسنجر وعد بالتوصل إلى خطوة مشابهة على الجبهة السورية، ولكن منطق الخطوة خطوة بطبيعته يؤدي إلى بذر الشقاق والشكوك، خاصة وأن الخطوة الأولى تبدأ دائمًا من مصر، والمخطط الأمريكي والإسرائيلي يشير دائمًا ومنطقيًا إلى معاملة مصر معاملة خاصة (بصفتها الدولة الأقوى) لإغرائها بالابتعاد عن الآخرين؛ وتمهيدًا للبطش بهؤلاء الآخرين. ويمكننا أن نفترض أن المناورات التي تمت في تلك الفترة، والمعلومات (أو شبه المعلومات) التي سُرِّبت، أسهمت في خلق نتائج مطلوبة تمامًا من وجهة نظر كيسنجر(33). وبعد فترة كافية لحدوث هذه النتائج، حققت مفاوضات المكوك، اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية (28 فبراير). ومع طول الزمن، ومع الضغط، ومع "المجهود الشاق" الذي بذله كيسنجر، أعلنت الدول النفطية وقف قيودها على تصدير النفط (18/ 3)؛ اكتفاء بمجرد وعد من الولايات المتحدة بخطوة أخرى محدودة (وكان إنهاء الحظر والتقييد – كما ذكرنا – مربوطًا بشيء قريب من التسوية الشاملة). وبذا تخففت الولايات المتحدة من ضغط أوروبا الغربية واليابان، وتخلَّصت من منظر أن السعودية تفرض حظرًا على الولايات المتحدة.
والخلاصة، أن اتفاقية الفصل الأول للقوات، بكل النتائج السابقة، أضعفت إمكانية اللجوء إلى بديل استخدام القوة. أسهم الاتفاق إسهامًا أساسيًا في خلق وقائع ومؤسسات تجعل اختيارَ بديلٍ للخطوة خطوة مغامرةً صعبة. وبالتالي استراحت الولايات المتحدة إلى ما حققته، وجاءت زيارة نيكسون للمنطقة، تعبيرًا عن تدشين المرحلة الجديدة من السيطرة. قلنا: إن النتائج المباشرة بعد وقف العمليات العسكرية كانت تعني – بالمعنى الاستراتيجي – خسارة لإسرائيل، واستفادة بدرجات متفاوتة للجانب العربي وللاتحاد السوفيتي وللولايات المتحدة. ونشهد الآن بأن الدور النشط، والمكثف للسياسة الأمريكية (وعلى رأسها كيسنجر) في تلك الفترة الحرجة، أدى إلى تغير سريع في المعادلة. فالاتحاد السوفيتي فقد دوره أو كاد، والولايات المتحدة أصبحت في موقع السيطرة والمستفيد الأول من نتائج الحرب. ونضيف إلى هذا أن التوازن النسبي بين طرفي الصراع المحليين والمباشرين تعدلت أيضًا على نحو واضح، فتدعم الموقف الإسرائيلي، وساء الموقف العربي. حدث هذا لأسباب عديدة، على رأسها اختلال التوازن في التسليح، وليس أقلها إدارة إسرائيل لمعركتها الدبلوماسية بكفاءة أعلى، ومستفيدة من الأدوات المختلفة المتاحة، ولكن لا ننسى أيضًا أن تحيزات هنري كيسنجر شخصيًّا، ليست فوق مستوى الشبهات(34).
ثانيًا – الهجوم المخطط لتقويض الاستقلال الاقتصادي:
(1) الخطوة خطوة، سياسية متكاملة:
إن الموافقة على نزع مخالبنا وأنيابنا، بينما الأرض
لا زالت محتلة، يعني تسلًُّم الولايات المتحدة "للتوكيل المصري" في قضية الصراع. ويعني أننا لن ندفع الولايات المتحدة للتدخل بدافع الضغط والتهديد، ولكن سنجذب انتباهها بالإغراء، ويتضمن الإغراء مشاركة أو منافسة إسرائيل في تحقيق وحماية المصالح الأمريكية. والقرار المصري – بهذا المفهوم – كان قرارًا بالانسحاب في ظروف تبدو مواتية للتقدم. وكان طبيعيًّا أن يطلب من الجانب العربي، ومن مصر بشكل خاص، إثبات حسن النية بعد تاريخ "أسودَ" من الكفاح ضد الإمبريالية.

كان لا بد أن تساعد مصر في إعادة ترتيب الأوضاع داخل المنطقة على نحو يكفل اطمئنان الولايات المتحدة على مصالحها، ويكفل احتواء النتائج التي كانت محتملة بعد الحرب. وداخل مصر، كان استقلال الإرادة (سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا) يتنافى مع "حسن النية" ونبذ أسلوب التهديد. وفي هذا النطاق، لم تكن الخطوة خطوة مجرد تعديلات متتابعة في مواقع القوات العسكرية على الخرائط، فعمقها الحقيقي، تمثل فيما كان يحدث داخل مصر: في ارتباطاتها الدولية – في علاقاتها العربية – في وضع مؤسساتها السياسية وقواتها المسلحة – في التغيرات الأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية – ثم في علاقتها مع إسرائيل. باسم الخطوة خطوة، وبذريعة الأزمات في البيت الأبيض، وانتخابات الرئاسة، والعناد الإسرائيلي، مرت الأعوام واستفادت الولايات المتحدة وإسرائيل من تبدد الجو الساخن الذي أنشأته حرب أكتوبر. والولايات المتحدة (التي كانت منشغلة جدًا في الانتخابات والأزمات) لم تغفل لحظة عن التدخل الفعلي في الشرق الأوسط. الانتخابات كانت تشغلها فقط عن التقدم بمقترحات متكاملة حول قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنها لم تغفل لحظة عن تعميق التناقضات العربية، ولم تغفل أبدًا عن إحكام سيطرتها على مواقعها النفطية في الخليج، ولم تغفل أبدًا عن إحداث ثورة مضادة متكاملة في مصر وغيرها، ولم تنشغل طبعًا
أو تقصر في تسلح إسرائيل. وإثباتًا لحسن النية؛ ولأننا حلفاء الحاضر والمستقبل، كان لا بد أن تقبل القيادة المصرية بكل ذلك، كان لا بد أن تقبل لعبة "الإستربتيز" فتخلع عن الشعب المصري مكتسباته التاريخية.. قطعة قطعةً.. إن هذا التحليل يؤكد المسئولية الجسيمة للقيادة المصرية، فالولايات المتحدة لم تتسلل إلى مصر من النافذة، ولم تقتحم الأبواب عُنوة، ولكنها عادت في وضح النهار، وبدعوة رسمية، ويبدو أيضًا أنها كانت تستعد لهذا اليوم، فتخطيطها كان جاهزًا ومحكمًا(35). وكما قلنا كان هذا التخطيط – تحت عنوان الخطوة خطوة – شاملاً لكافة المجالات.
وفي دراستنا لتطور الجانب الاقتصادي، (كما في الجوانب الأخرى)، ينبغي
ألا نغفل أبدًا عن فرض أن هناك تدبير وتخطيط لإحداث ما حدث.

وتبرر هذا الفرض، مفاهيمنا العامة حول طبيعة العلاقات الدولية، وحول التبعية المفروضة، ودور صندوق النقد والبنك الدولي، ووكالة التنمية الأمريكية، فالأشقاء الثلاثة مؤسسات تخطط وتدير السياسات اللازمة اقتصاديًّا؛ لإعادة إنتاج النظام الدولي القائم على دول مسيطرة ودول تابعة. ومعروف أن هذه المؤسسات تقوم بمجهود مضاعف وأكثر تنسيقًا في الدول التي حاولت التمرد، فبعد نجاح "الجهات الأخرى" في التصفية السياسية لمحاولة الاستقلال، يكون الأشقاء الثلاثة جاهزين لدعم هذا الانتصار بالسياسات الاقتصادية الملائمة لإعادة النظام الاقتصادي إلى أوضاعه "الطبيعية"، أي إلى التبعية من جديد، بأقل آلام ممكنة، وبأقصى سرعة. وفي حالة مصر، بدورها القائد في صراعات ومستقبل المنطقة، لا نتصور أن يكون الموقف مختلفًا. إن الممارسة الاقتصادية هي، في التحليل النهائي وبالتحديد، الممارسة المرتبطة مباشرة بتوفير الحاجات المعيشة لمجتمع ما. والتوصل (عبر طرق مختلفة) إلى أن تكون إدارة النسق الاقتصادي من الخارج، تأكيد لتبعية هذا المجتمع لمن يديرون نسقه الاقتصادي.
وكما كان استخدام احتلال الأراضي مجالاً للعمل المخطط والتآمر السري، ويساعد في محاولات استعادة الولايات المتحدة بالذات لإدارة النسق الاقتصادي المصري، فإن الهجوم على الجبهة الاقتصادية – بهذا الهدف – لا بد وأن يكون بدوره مجالاً للتخطيط والتآمر السري المدبر، وتستفيد من نتائجه سياساتٌ الخطوة خطوة في جبهة الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي الجبهات الأخرى.
ومع ذلك فإن فرض "التدبير والتخطيط الخارجي لإحداث ما حدث في إدارة وبنية الاقتصاد المصري" لا يقوم فقط على الاستدلال المنطقي؛ فالمعلومات المتاحة – رغم أنها غير كاملة بطبيعة الحال – تؤيد صحة هذا الفرض (كما يتضح من فصول الكتاب – خاصة من السادس إلى العاشر) وسنلحظ أيضًا أن استخدام هذا الفرض، يساعد في تفسير كثير من التطورات التي يصعب تفسيرها بغيره. وغنيٌّ عن البيان أن تركيزنا على دور المخططات الخارجية، لا يعني إغفال القوَى الاجتماعية والسياسية المحلية، ولكن التركيز يعني أن القوة الخارجية – بإمكانياتها المختلفة – كانت القائد والمخطط لمسار الثورة المضادة. وهذا طبيعي؛ فالثورة المستقلة تتطلب - بحكم تعريفها - قيادة محلية وعقلاً مستقلاً، والثورة المضادة لإملاء التبعية تتطلب – أيضًا بحكم تعريفها – قيادة خارجية. يتطلب الأمر طبعًا استخدام أدوات محلية، ولكن العقل والقيادة للقوى التي تفرض سيطرتها. وعلى كلٍّ، فإن الخلاف في هذا الأمر، لا يعكس خلافًا نظريًّا، بقدر ما يعبر عن نجاح الممارسات السرية في إخفاء الدور الحقيقي للقوى الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في القطاع الاقتصادي (كما في القطاعات الأخرى) (36).
(2) بيع الأحلام:
أ- كان الموقف بعد أكتوبر 1973 يشيع – من الناحية الاقتصادية – تفاؤلاً عامًا بإمكانيات المال العربي، وبإمكانيات الموقف الجديد للولايات المتحدة، وللغرب بشكل عام. والقفزة الهائلة والسريعة في الفوائض المالية العربية بالذات، خلقت حالة غريبة من انعدام الوزن "في المنطقة العربية، لا عند النفطيين فقط، ولكن عند جيرانهم أيضًا، وفي غياب تصور نظري متكامل، ومع سيادة قصر النظر السياسي، وتقلص الإرادة المستقلة، كان لا بد من تفاقم الحالة، وأصبح هناك وهمٌ عام بأن تيارًا متدفقًا من الأموال السهلة في طريقه إلى مصر؛ ليحل كافة المشاكل. ولم يكن الوهم بلا أساس، فالأموال العربية كانت بالفعل متغيرًا يبشر بإمكانية إيجابية كبيرة، ولكن تحول الإمكانية إلى فعل كان يحتاج عديدًا من الشروط المعقدة، والتعامل مع الإمكانية كما لو كانت فعلاً متحققًا يفضي إلى كوارثَ.

نور 06-07-2011 02:07 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
وقد أسهمت الولايات المتحدة في إذكاء هذا الوهم، وفي إشاعة المفاهيم الخاطئة؛ كغطاء أيديولوجي لغزوها السلمي– ومؤكد أن إسهامها كان مخططًا، ومؤكد أيضًا أنها تمكنت - من خلال حلفائها وعملائها - من التشويش الناجح، فتصرفت غالبية القوى الوطنية بوحي من الحلم اللذيذ، حلم تدفق البترو/دولارات، والدولارات التي تمكننا من استيراد كل ما حُرمنا منه، وخاصة في مجال الاستهلاك؛ أسوة بإخواننا النفطيين. وحتى في مجال التنمية، كان الحلم اللذيذ يقضي بأن العملية أصبحت ميسرة مع تدفق الأموال من الخارج.
ب- والتحرك الواعي لتسويق هذا التصور الجديد كان نشطًا في كل المستويات، فنقرأ مثلاً في وثيقة للبنك الدولي (مفروض أنها محظورة النشر، أيّ مواجهة لقيادات النخبة السياسية الحاكمة) كلامًا ورديًّا حول المستقبل الجديد للاقتصاد المصري، تقول الوثيقة: "إن هناك تزايدًا ضخمًا في القدرة المالية في العالم العربي، ولمصر موقف فريد حياله يرجع إلى عدة عواملَ مركبة: دور مصر التاريخي الطويل والثقافي في المنطقة، ومناصرتها النشطة والمتواصلة للقضية العربية، وزعامتها السياسية، وحجمها بوصفها أكبر دولة عربية، وذات صناعة وهياكل مالية متطورة، وقوة عمل. وتلك العناصر مجتمعة، تجعل مصر تتمتع بموقف لا مثيل له في المنطقة يجعل في إمكانها جذب استثمار الأموال من الدول العربية الغنية بالبترول، ومن جهة أخرى، إمداد هذه الدول بعدد كبير من العمال المهرة، الأمر الذي ينجم عنه تحويل مقدار كبير من النقد إلى مصر" (37).
ج- وفي تقرير آخر (محظور النشر أيضًا) مقدَّم إلى اجتماع مغلق لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (oecd) ينكشف حجم الوعود المحددة التي أغرقت بها القيادات السياسية المصرية. يقول التقرير: "كان متوقعًا بعد زيادات سعر النفط في أكتوبر وديسمبر 1973، أن كمية تقرب من 5 بليون دولار، قد تتدفق من فوائض الدخول المتعاظمة للدول العربية المنتجة للنفط، إلى الدول العربية الأقل ثراء، وبالتحديد إلى مصر. ومنذ ذلك الحين، كانت هناك تقديرات بأن مصر وحدها تلقت وعودًا بما يزيد على 5 بليون دولار كمعونة واستثمار. وبالإضافة لذلك، تلقت مصر أيضًا تعهدات سخيَّة من كل الدول الغربية الصناعية، ومن الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية" (38).
د- والحقيقة أن زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون للقاهرة (12 يونيو 1974) كانت قد سبقتها زيارة لروبرت مكنمارا (رئيس البنك الدولي – 27 فبراير 1974)؛ حيث قابل الرئيس السادات، وأبلغه أن البنك سيُولي مصر اهتمامًا خاصًا إذا "صححت" سياساتها الاقتصادية، وفق توصيات صندوق النقد الدولي.. وفي مايو وفدت بعثة الصندوق لمناقشة المسئولين، وتقديم "التوصيات". أيضًا سبقت زيارة نيكسون جولات لوزير خارجيته في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ جولته الأولى (5 نوفمبر 1973)
لم يكن كيسنجر يعد لاتفاق النقاط الست عند الكيلو 101،
ثم لاتفاق الفصل الأول للقوات (17 يناير)، بمعزل عن تصور عام وتام للدور الأمريكي في المنطقة العربية، أو بمعزل عن تصور للتطورات المرتقبة في العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة، ونجحت جهود كيسنجر في إنشاء لجنة التعاون المشترك برئاسة وزيري الخارجية المصري والأمريكي (31 مايو). ومعروف الآن أن أحاديث كيسنجر مع كبار المسئولين – في تلك الفترة – تضمنّت وعودًا بمساعدات اقتصادية سخيَّة. ويؤكد هذا اعتراف "شيهان" (المطِّلع والقريب الصلة من هنري كيسنجر)، فهو يقول: "إن جوهر سياسة كيسنجر بشأن الشرق الأوسط، كان ذا مستويين: المستوى الأول، هو احتواء النزاع العربي الإسرائيلي الذي اعتبره مُستعصيًا تقريبًا، "أمَّا المستوى الثاني فهو الترويج للتكنولوجيا الأمريكية، التي يتوقُ إليها العربُ جميعًا (بما في ذلك الراديكاليون) والتي تساعده على كسب الوقت بينما يقوم بالانتهاء من المشكلة الأولى: وكان يقول للعرب: إنني أعرف ما تريدون وهو عودة أراضيكم، الأمر الذي اجتهد في تحقيقه، وفي الوقت نفسه سأقدم لكم كل شيء تريدون الدخول في مناقشته من أجل القرن العشرين". وبالنسبة للمسئولين المصريين: "كانت السياسة الموازية (أي: المستوى الثاني) تعني التأييد الأمريكي والأموال الأمريكية وتشجيع المستثمرين الأمريكيين، وأمراء البترول على إنقاذ الاقتصاد المصري – وناهيك عن تشجيع دول غرب أوربا على بيع الأسلحة للسادات؛ نظرًا لأن مخطط كيسنجر الطويل الأمد هو القضاء على الاتحاد السوفيتي باعتباره مصدر الأسلحة الرئيسي بين الدول العربية" (39).

هـ- ولم يقتصر الأمر على الوعود، فقد تطلبت اللعبة التلويح ببعض "البشائر" فقفز رقم المنح المقدم من الأقطار العربية النفطية أثناء حرب أكتوبر وبعدها، وكذلك خلال عام 1974. وبعد اتفاقية الفصل بين القوات، اكتظت الفنادق بطوابير ممن جاءوا بصفة مستثمرين، ويبدو الآن أن أغلبهم كانوا جواسيس وأفاقين، أو على أحسن الفروض، مستثمرين غير جادين. وإلى جانب هؤلاء تدفقت عروض شركات البترول العالمية – وخاصة الأمريكية – لعقد اتفاقات (من 22 نوفمبر 1973 حتى 18 ديسمبر 1974 كان العدد 23 اتفاقية منها 21 مع شركات أمريكية). وفي تلك الفترة بالذات (بعد الارتفاع الكبير المفاجئ في أسعار النفط) كان هذا التدفق لشركات البترول ذا أثر نفسي ساحق.
و- قدم نيكسون وكيسنجر إلى السادات - في تلك الأيام- "العديد من الوعود – وعودًا بتقديم مساعدات اقتصادية، وأخرى بتزويد مصر بقوة نووية تُستخدم في الأغراض السلمية" (29). وكان "مجموع المساعدات والاستثمارات الأمريكية المتوقع بثقة – أثناء زيارة الرئيس نيكسون – يصل إلى 2000 مليون دولار كحد أدنى(40).. ولذلك، وحين تقرر إصدار القانون رقم 43 لسنة 1974 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، كانت مناقشته تعكس هذا الجو العام؛ فالحكومة متعجلة لإصدار القانون؛ تعبيرًا عن جديتها في فتح الأبواب "لاستقبال الأموال" قبل وصول نيكسون، وبالفعل قدمت المشروع في 19 مايو 1974، وتشكلت لجنة مشتركة من اللجنة التشريعية واللجنة الاقتصادية، ولجنة الخطة والموازنة ولجنة القوى العاملة (في مجلس الشعب) لدراسة المشروع على وجه السرعة، فعقدت اللجنة المشتركة أول اجتماعاتها في يوم 21 مايو، ورغم أن المناقشات تميزت بالترحيب الساذَج والسوقي، فإن أية كلمة تحفُّظ كانت تثير رعب ممثل الحكومة، فيسرع إلى تحذير الأعضاء "تعلمون أن رأس المال حساس، وأخشى مع حرية الصحافة التي نحرص عليها جميعًا، وحرية المناقشة، أن تنقل بعض عبارات يساء فهمها في الخارج؛ فالغاية التي نتوخَّاها جميعًا، هي الانفتاح على الدنيا دون خوف" (41).. ورغم أن اللجنة المشتركة كانت تعقد الجلسات المتوالية، وتندفع في إنجاز المهمة، نجد أن ممثل الحكومة يقول: "إن الحكومة ترجو من السيد رئيس اللجنة بوصفه وكيلاً للمجلس، التعجيل بنظر مشروع قانون استثمار المال العربي والأجنبي"(42)، وحين انتهت أعمال اللجنة في أول يونيو كان رئيس المجلس في ذلك الوقت (حافظ بدوي) يقول كلامًا من قبيل "نريد أن نحس بإشراقة فجر جديد، نريد أن نحس بالدنيا وقد تفتحت لنا، فنحن في حاجة إلى أن نفتح الأبواب، نحن في حاجة إلى أن يطل علينا الفجر الجديد (...) أرجو أن نفتح للرخاء أبوابنا، وأن نفتح في الحياة آمالنا، وأن ننظر بعيدًا عن هذه المحاذير التي سمعتها من الأخ أحمد طه (عضو يساري في المجلس)، نريد أن نبتعد قليلاً عن هذه المحاذير، ولنعتمدْ دائمًا على الله"(43).. وحتى رجل أكثر احترامًا كعبد العزيز حجازي، (كان النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء) كان يدلي بكلام يقرب أحيانًا من الهذيان. كان في وضع المدافع الأول عن مشروع القانون، وكان يُسكت أي معارضة، بمجرد الإشارة إلى فيض الأموال والمشروعات التي تنتظر قانون الاستثمار؛ ففي الجلسة العامة لمجلس الشعب، أعلن أن "هناك مبالغ كبيرة معروضة علينا؛ كقروض أو مساهمات في مجالات كثيرة؛ كالبترول والبتروكيماويات والغزل والنسيج، واستصلاح الأراضي، وكل هذا يؤكد وجود الثقة، وبقي توفير الحوافز للمستثمر".. وعند تحفظ البعض على تأجير الأراضي الزراعية للأجانب، قال عبد العزيز حجازي: إنه "يود أن يقول بهذه المناسبة، إننا الآن بصدد مشروعين صغيرين معروضين علينا، في مساحة 300 ألف فدان غرب النوبارية؛ الأول لتربية الحيوان، والثاني لتحديث وتصنيع الإنتاج الحيواني، فهل يجوز لنا أن نرفض أحد هذين المشروعين؟ بالطبع لا". ورغم تصفيق الغالبية لهذه البشائر، أضاف الرجل بشرى أخرى: "فعلى سبيل المثال، تقدم المستثمرون اليابانيون بعرض لاستصلاح واستزراع مساحة نصف مليون فدان في الأراضي الصحراوية، على أن يستخدموا في هذا المشروع كل إمكاناتهم وخبراتهم للبحث عن المياه الجوفية، واستزراع هذه المساحة، مع تحملهم كافة الأعباء، كما يحدث تمامًا بالنسبة للبحث عن البترول... فهل نرفض تعمير الصحراء؟ لا أعتقد أن أحدًا منا يوافق على ذلك، وبالتالي فمثل هذه المسائل يجب أن نتناولها بأفق واسع ورحب"(44).
وسط هذا الطوفان من التصريحات الوردية، وافق مجلس الشعب في حماس عارم على القانون 43 لسنة 1974، وفي جلسة واحدة (9 يونيو 1974)، وقبل وصول نيكسون بثلاثة أيام.. وكان التفاؤل الاقتصادي غارقًا في التفاؤل السياسي العام للمسئولين بالنسبة لموقف الولايات المتحدة، بعد اتفاقية يناير. كانت التصريحات تؤكد مثلاً "أن كيسنجر استطاع – تحت قيادة الرئيس نيكسون – أن يحدث ثورة رائعة في السياسة الأمريكية في منطقتنا"(46). وقيل: "إن الموقف في أمريكا تغير تغيرًا حاسمًا"(47).. وتعبيرًا عن هذا التفاؤل، بدأ العمل فعلاً في تطهير القناة وفي التعمير، وصرح الرئيس بأنه يفكر في مستقبل مئات الألوف من الجنود والضباط الأبطال الذين حققوا لمصر معجزة العبور، وأنه يرى أن الدولة لا ينبغي أن تكتفي بأن توفر لكل منهم معاشًا، بل يجب أن تعد له عملاً يحبه ويسعده (48).
ز-.. وهكذا تضافر التضليل الأمريكي مع المماشاة الكاملة من القيادة السياسية، ومع التطلع إلى الخير الغامر عند فتح الأبواب، وانعكس ذلك في أغرب ترحيب برئيس الولايات المتحدة، الذي قتلت أسلحته إخواننا وأبناءنا منذ شهور. وكان نيكسون ومن معه على رأس المندهشين، ويبدو أن المرافقين له أدركوا أن حملة الوعود والتضليل وصلت إلى أبعاد تنذر بالخطورة والنكسة، حين يثبت كذبها (49).
وبالفعل، كان البيان المشترك – في ختام الزيارة – بداية للإحباط؛ فلم يكن هناك التزام محدد بمعونات عاجلة بأي قدر، واكتفى بوعود عامة أو محدودة مثل "وقد وافقت الولايات المتحدة على المساعدة في تدعيم الهيكل المالي لمصر. ولدفع هذه العملية يزور مصر في المستقبل القريب وليم سايمون وزير الخزانة للولايات المتحدة أقصى مساهمة ممكنة للتنمية الاقتصادية في مصر؛ وفقًا لتفويض من الكونجرس، وتشمل تطهير قناة السويس، ومشروعات التعمير، وإنعاش التجارة المصرية. وبالإضافة إلى ذلك، ستولي الولايات المتحدة اهتمامًا ذا أولوية خاصة، لاحتياجات مصر من السلع الزراعية".. وإذا لاحظنا أن قرار المساهمة في تطهير القناة وفي التعمير سبق زيارة نيكسون، ولأسباب تتعلق بتأكيد أثر فصل القوات، وتدعيمًا لسياسة التهدئة في الجبهة المصرية الإسرائيلية، فإن الجديد الذي وعدت به الزيارة يصبح محدودًا جدًا. ولا يغير من ذلك أن ينص البيان على مجموعات العمل المشتركة التي تبحث مشروعات ومقترحات تقدم إلى اللجنة المشتركة التي حدد لها أن تجتمع برئاسة كيسنجر في واشنطن، في أواخر عام 1974. لقد نص البيان على ست مجموعات عمل مشتركة:
1. مجموعة لبحث خطط إعادة فتح قناة السويس، وتعمير المدن على طول القناة ودور الولايات المتحدة في هذه الجبهة.
2. مجموعة لتقديم التوصيات حول زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث المنجزات التكنولوجية.
3. مجموعة لتطوير البحث العلمي وتركز على تبادل العلماء.
4. مجموعة لمساعدة الحكومة المصرية في تطوير الخدمات والأبحاث الطبية.
5. مجموعة لتشجيع التبادل الثقافي من خلال المعارض والزيارات.
6. ثم مجموعة (قد تكون الوحيدة التي بدا أنها تتناول أمورًا واعدة ومحددة، وترتيبها في البيان المشترك بعد مجموعة قناة السويس)، وهي مجموعة عمل مشتركة لبحث وتقديم توصيات بإجراءات تهدف إلى فتح الطريق أمام إسهام الاستثمار الخاص للولايات المتحدة في مشروعات مشتركة في مصر؛ ولزيادة التجارة بين البلدين. وتوجيه فرص الاستثمار وفقًا لاحتياجات مصر للدعم المالي والتكنيكي والمادي من أجل النمو الاقتصادي.
وتشجع الولايات المتحدة وتدعم مشروعات المؤسسات الأمريكية في مصر، وجدير بالذكر أن المشروعات التي يتفاوض بشأنها حاليًا في مجالات: البتروكيماويات، الغذاء والآلات الزراعية، تنمية الأرض الزراعية، الطاقة، السياحة، البنوك – وجمع من القطاعات الاقتصادية الأخرى. وتزيد القيمة التقديرية للمشروعات التي تبحث جديًا عن 2000 مليون دولار. إن التكنولوجيا ورأس المال الأمريكيين بالارتباط مع القدرة الاستيعابية لمصر، ومع قوة عملها الماهرة، وفرص الاستثمار المنتج عندها، ويمكن أن تسهم بفاعلية في دعم التنمية للاقتصاد المصري".
هذا شيء قد يبدو محددًا (لغير المدقق).. وهو رقم قد يتفق مع الوعود التي سبقت الزيارة (2000 مليون دولار) ولكن من المؤكد أن المسئولين المصريين كانوا يأملون في مكونات مختلفة لهذا المبلغ الموعود، كان الأمل في "معونات" سائلة أو شبه سائلة لتدعيم ميزان المدفوعات، وليس في مشروعات هي – على أحسن الفروض – تحت الدراسة
ولم تتقرر بعد، وإذا تقررت، فإن عائدها بعيد (وعلى كل فإنها لم تتقرر حتى الآن!).

وهناك شيء آخر يبدو محددًا ومبهجًا، فتعويضًا عن الأحلام الضائعة في معونات نقدية أو سلفية، أعلنت حكومة الولايات المتحدة في بند خاص، أنها ستقدم إلى مصر التكنولوجيا النووية "ستبدأ الحكومتان المفاوضة حول اتفاق للتعاون في مجال الطاقة النووية، تحت إجراءات أمنية يتفق عليها، وعند إبرام هذا الاتفاق تكون الولايات المتحدة مستعدة لبيع مفاعلات نووية ووقودًا لمصر، وسيمكن هذا مصر مع بداية الثمانينيات من توليد كميات إضافية كبيرة من الطاقة الكهربائية، لدعم احتياجات تنميتها المتزايدة بسرعة"(50).
ولا شك أن هذا العرض كان من أهدافه الإبهار، ولكن كان رأي بعض الفنيين الوطنيين أن بديل المحطات النووية (حال حدوثه في ظروف سياسية معينة) لا يعتبر أفضل البدائل المتاحة لإنتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربائية، ففضلاً عمّا يتضمنه هذا العرض من محاذير اقتصادية وفنية، فإنه يعني– حال حدوثه – تسلُّم مفتاح الطاقة التي تسير اقتصادنا – ودون ضرورة – لقوة عظمى تتعارض مع طموحنا للاستقلال. أي أنه أداة جديدة لفرض الهيمنة. ولم يكن متصورًا بطبيعة الحال أن تسمح الولايات المتحدة باحتمال استخدام هذه المفاعلات في غير الأغراض السلمية. وستستخدم هذه الذريعة لفرض رقابة واسعة مباشرة. ومع كل، كان المفروض أن يشرع في إقامة هذه المحطات عام 1976، وأن تبدأ في العمل عام 1983، ولكن الكونجرس
لم يعتمد الاتفاق حتى الآن. وهذا يؤكد تدخل الاعتبارات السياسية في إقامة وتشغيل محطات نووية، وهو يبدأ أيضًا فرحة من تصوروا أيامها أنهم حصلوا من الولايات المتحدة على شيء محدد.. شيء "يدخلهم إلى القرن الواحد والعشرين"(51).



(3) تصورات التنمية بين القوى الوطنية والبنك الدولي:
أ- إن الأحلام والأساطير التي شاعت حول الأموال التي ستنهمر، انعكست في بعض المناقشات الاقتصادية والتنموية. في أواخر 1973 وأثناء 1974 كان كلام عجيب يكتب ويقال في محافل محترمة. وكان مطلوبًا بالتالي تأكيد بديهيات كادت تضيع في زحمة الأحلام. عبد العزيز حجازي كان يقول مثلاً إننا "كدنا نصبح أفقر شعوب المنطقة، بينما الثراء والبناء والتعمير وعلامات الانتعاش المادي واضحة في الدول العربية الشقيقة من حولنا"(52). وهذا الكلام كان يتكرر على لسان كل المسئولين الكبار، وكل الكُتاب والمحدثين الذين سيطروا فجأة على كل وسائل الإعلام، وكان يتكرر أيضًا على لسان اقتصاديين وفنيين يتحدثون بوقار شديد. كان بعضهم يخرج من هذه المقارنة بأن أداءنا الاقتصادي والسياسي كان منحطًا (وكأن الدول "الغنية" حققت ثراءها بالجد والاجتهاد وليس "بخبطة" البترول!).
فما كان حالنا يختلف عن حالهم بهذه الدرجة لولا الحرب، "ولولا تحويل بلدنا من قطر زراعي إلى بلد صناعي، وتحويل مجتمعنا من مجتمع رأسمالي إلى مجتمع اشتراكي"، ولولا محاولاتنا "لنشر الثورة والاشتراكية من حولنا؛ مما يخلق لنا المتاعب مع دولة عربية وأجنبية حاولت الإطاحة بالنظام الثوري القائم عن طريق تجويعنا بوقف مساعداتها والتآمر علينا، بل العدوان السافر على أراضينا كما وقع في عام 1956. فأثر ذلك كله على اقتصادنا" (كهذا مثلاً كتب وحيد رأفت) (53).
ب- إن انتشار السوقية والتشويش في الفكر الاقتصادي والتنموي، لم يكن مجرد سذاجة؛ فالتخطيطات الخارجية كانت تذكي هذا الاتجاه، ولكن لم يخل الأمر مع ذلك من محاولات لطرح تصورات نظرية على قدر من الجدية؛ لتبيان التعديلات المطلوبة في النظام والسياسات الاقتصادية، للتلاؤم مع المتغيرات الجديدة؛ أي لتحديد المضمون المقترح لما يسمى بالانفتاح الاقتصادي، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أطروحات عبد المنعم القيسوني (باعتبار أنه تولى بعد ذلك مسئولية القطاع الاقتصادي) والقيسوني لم يعرف عنه أنه اشتراكي متطرف؛ ولذا كانت تصوراته ترشح القطاع الخاص المصري والعربي دور أكبر، وبالنسبة لأهداف التنمية قال إنه "قد يكون من مصلحتنا أن نبدأ بالصناعات الخفيفة لاستغلال الطاقات العاطلة وأن نعطيها الاهتمام الأكبر، فهي أرخص أنواع الاستثمار. أما الصناعات الثقيلة مثل صناعة الحديد والصلب وغيرها، فإنها تحتاج لموارد كبيرة، وقد يكون من المصلحة أن نؤجلها بعض الشيء" إلا أن القيسوني ظل في ذلك الوقت مدافعًا عن إنجازات الخمسينيات والستينيات لتدعيم الاستقلال الاقتصادي. "فلم يكن كافيًا أن نحصل على الاستقلال السياسي، بل كان لا بد أيضًا أن نسيطر على الأوضاع الاقتصادية في بلادنا". والحديث عن الانفتاح الآن – كما يقول – يأتي بعد أن مصرنا المنشآت الاقتصادية الأجنبية في مصر، وبعد أن سيطرنا على مراكز التحكم الاقتصادي في البلد، وشعرنا أننا مسيطرون على حياتنا الاقتصادي؛ (ولذا) أصبح بإمكاننا أن نفتح بعض المجالات، دون خوف أو تردد لرءوس الأموال العربية والأجنبية". ومن سياق الدراسة يتأكد أن القيسوني كان لا يضع البنوك ضمن "بعض المجالات" المفتوحة، وهو ينص على أن من مهام الانفتاح الأساسية فتح الأبواب للأموال العربية" بالذات، والتعامل مع الشرق والغرب "نفتح على الجميع بلا استثناء"(45)، يعني هذا العرض أنه حتى بالنسبة لشخص كالقيسوني، كان ما حدث بعد ذلك، بعيدًا عن تصوراته.

نور 06-07-2011 02:09 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
ج- إلا أن المحاولة الأهم لطرح تصور نظري تمثلت في ورقة أكتوبر (مايو 1974)، ففضلاً عن صفتها كوثيقة رسمية، فإنها أشمل وأعمق وأكثر راديكالية مما جاء في دراسة القيسوني، وقد وصفت بأنها تصور استراتيجي حتى عام 2000، وحددت في إطار هذا أن استراتيجية التنمية هي جزء من استراتيجية حضارية تهدف إلى خلق إنسان جديد بقيم تتصل بتراث المنطقة، وكان طبيعيًا أن تتناول كافة الممارسات الاجتماعية والسياسية، ولم تنس استهداف خريطة جديدة لمصر. وفي الجانب الاقتصادي، قدمت ورقة أكتوبر تقييمًا إيجابيًا لمنجزات ثورة 23 يوليو، وحاولت أن تعيد الرشد والاتزان أمام المتغيرات الجديدة. جاء في هذه الورقة:
* إن شعبنا قد غير ظروف حياته منذ يوليو 1952، وعلى مدى الاثنين والعشرين عامًا الماضية، ودون إغفال للسلبيات فإن "ما أريد أن أؤكده هو أن التقييم الموضوعي لما حدث يفضي إلى نتيجة لا يمكن أن ينازع فيها منصف، وهي أن المحصلة النهائية كانت إيجابية إلى حدود بعيدة وعميقة".
* "إن النضال من أجل حرية الإرادة الوطنية لا ينتهي بخروج المحتل، ولكنه ممارسة يومية مضنية ومكلفة، وإن كانت ثمارها في المدى الطويل أعظم بكثير مما يتوهم البعض كسبه من أي تبعية".
* "لقد أرجف الذين زعموا أننا نريد أن نلغي الميثاق،
أو أن نعدل عن اشتراكيتنا، أن وثائق الثورة لا تنسخ بعضها، ولكنها تكمل بعضها البعض". وإذا كان منهاجنا الأساسي هو حرية الإرادة الوطنية في اتخاذ القرار، وفي صياغة المستقبل، فإن الممارسة الفعالة لهذه الحرية تقتضي حسابًا دقيقًا لكل ما يحيط بنا من ظروف؛ لنقرر لأنفسنا ما هو خليق فعلاً بتحقيق أهدافنا في البناء والتقدم".

* إن معركة البناء لا تقل مشقة وتعقيدًا عن معركة العبور، وهي مثلها تحتاج إلى التخطيط الدقيق، والعمل الشاق وروح التضحية والعطاء".
* "إن فترة ما بعد الحرب تفرض تضحيات وجهودًا
لا تقل عن تلك التي فرضتها الحرب ذاتها، وعلينا – إذن - أن نتذكر دائمًا هذه الحقيقة، وأن ندرك أن الرخاء يحتاج منا إلى عمل كثير وطويل وشاق". ولكننا "نرفض أن يكون التقدم لصالح قلة تنعزل عن الجماهير، وترتبط بأساليب حياة غريبة عنها. ونريد أن تشارك أوسع الجماهير في صنع التقدم، وفي الاستفادة العادلة من ثمراته"... "إننا يجب أن نفهم الاشتراكية بالعقل والقلب معًا. ولذلك يجب ألا ننقطع عن التفكير في جماهيرنا الأكثر حرمانًا. وفي وسائل توفير أكرم سبل العيش والأمان والتقدم لها، فالأمم تقاس بمستوى قاعدتها العريضة، لا بمستوى قممها القليلة".

* ومع فتح أكتوبر العظيم ونتائجه الواسعة، فإن "دولة مثل مصر بوسعها اليوم أن تمد خطوط التعاون الدولي في اتجاهات متعددة، وأن تستفيد من كل الفرص التي يتيحها الوضع العالمي الجديد، مدركين أن قوتنا الذاتية وروابطنا العربية وعلاقاتنا الإفريقية، وانتماءنا لحركة عدم الانحياز، أسلحة أساسية في أيدينا لنرعى مصالحنا، وندافع عن حقوقنا، ونحول دون أن يتم أي اتفاق على حسابنا".
* "دور القطاع العام في المرحلة المقبلة بالغ الأهمية؛ ففي ظل سياسة الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار العربي والأجنبي، يظل القطاع العام هو الأداة الأساسية لتنفيذ أية خطة للتنمية، وهو الذي يتولى المشروعات الأساسية التي لا يقدم عليها غيره؛ ذلك أن القطاع العام هو وحده الذي يمكن أن تلزمه الخطة إلزامًا مباشرًا، في حين أن التخطيط للقطاعات الأخرى له معنى مختلف، ويتم بأساليب غير مباشرة؛ كالضرائب والائتمان والأسعار، والحوافز والإعفاءات، كما أن القطاع العام يظل الأداة الأساسية للتعبير عن الإرادة الوطنية في تشكيل اقتصادنا القومي. إنه الضمان الرئيسي لأن تظل القرارات الاقتصادية الهامة قرارات مصرية، تعبر بالفعل عن استقلال مصر الاقتصادي".
* "إنا ندرك تمامًا أن عبء التقدم والبناء يقع أساسًا على عاتق الشعب المصري (...) أمَّا عن رأس المال الأجنبي فليس عندي من رد على المتشككين خيرٌ مما جاء في الميثاق".. "وقد أوضح الميثاق أننا نقبل المساعدات غير المشروطة والقروض، كما نقبل الاستثمار المباشر في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديثة. وهذا بالدقة هو خطنا".
كذلك "فإن الانفتاح الذي أعلناه، هو انفتاح على العالم كله شرقه وغربه؛ لأننا ندرك تمامًا أن تنوع علاقتنا الاقتصادية الدولية هو الأساس المادي لحرية حركتنا السياسية (...) ويهمني في هذا الصدد أن أخص بالحديث أولاً المال العربي".
* "التنمية ليست عملاً عفويًا، يتم كيفما اتفق، في تلقائية كاملة، إنما التنمية عمل علمي يقوم على التنبؤ بالمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية في آجال زمنية معينة، ويعد التصور الوطني لمواجهتها (...) على أن هذا كله يحتاج إلى تغيير وتطوير في فلسفة التخطيط، وفي أجهزته ومسئولياته، ويجعلها أكثر دقة، وأكثر مرونة، وأوسع مخيلة، فهناك التخطيط للقطاع العام، الذي هو رأس الحربة في معركة التقدم والبناء لتحديد أهدافه، وإعادة رسم أولوياته، وهناك التخطيط الذي يخدم الاستثمارات الوافدة، بإعداد الدراسات المسبقة، وبتوفير حاجياته في إطار الاقتصاد القومي في مُجمله".
* * *
هذه النقاط لا تمثل ملخصًا دقيقًا، وقد لا تحيط إحاطة كاملة بالمفهوم النظري العام خلف ورقة أكتوبر؛ فهي نقاط مختارة (وقد لا تخلو من تحيز) بهدف إبراز الموقف الذي اتخذته الورقة حِيال القضايا الأساسية التي كانت، ولا زالت، محل خلاف حاد بين القوى السياسية المختلفة داخل المجتمع. وبالتأكيد فإن هذا الموقف كان يعني أن تأثير القوى الوطنية الواعية كان لا يزال قريبًا من مركز إصدار القرارات الاستراتيجية (55).
د- ومن الطريف أن البنك الدولي حين أراد تلخيص ورقة أكتوبر، ركز على نقاط مختلفة، فكتب "أن الجدل الدائر حول إجراء تغيير في الاستراتيجية الاقتصادية، والاتجاه الذي حددته ورقة أكتوبر، يتلخص أساسًا فيما يلي:
* أدت حرب أكتوبر في عام 1973 إلى توحيد كافة قطاعات المجتمع المصري، وينبغي أن تستخدم تلك الوحدة في "معركة البناء" التي يتمثل هدفها في تحديث المجتمع المصري.
* ويتمثل العنصر الأساسي في عملية التحديث في تسريع النمو الاقتصادي، ويتطلب هذا إجراء تغييرات في مهام القطاعات المختلفة، وفضلاً عن ذلك، فإن مصر تحتاج مساعدة هائلة من الخارج، في شكل معونات مالية وتكنولوجية، ومن ثم يتعين عليها انتهاج سياسة اقتصادية متوجهة للخارج.
* قام القطاع العام بدور حاسم في التنمية السابقة لمصر ولكن أوضحت الخبرة عددًا من النواقص، وبالتحديد فإن هذا القطاع عانى من: أ- إفراط في البيروقراطية. ب- إلحاق بعض الأنشطة التي لا تتفق مع مهمة القطاع العام، وكان ينبغي أن تترك للقطاع الخاص.
بيد أنه في التحليل النهائي نجد أن القطاع العام، قد لعب دورًا إيجابيًا، لا سيما في تنفيذ مشروعات كبرى، وزيادة الإنتاج، ودفع تكلفة سياسة مصر للعمالة الكاملة، وتثبيت الأسعار، وكان المطلوب إعادة توجيه القطاع؛ بهدف تخليصه من العقبات، ورفع كفاءته. وفي المستقبل يكون التركيز الرئيسي لأنشطة القطاع العام على:
أ- أن يكون الأداة الأولى لتنفيذ خطة التنمية (حيث إنه كان القطاع الوحيد الذي يلتزم مباشرة بالخطة).
ب- أن يقوم بالمشروعات الأساسية؛ لتنفيذ خطة التنمية التي لا ترغب أو تستطيع القطاعات الأخرى أن تقوم بها.
جـ- أن يقدم خدمات أساسية للاستثمار الخاص والأجنبيّ.
* القطاع الخاص كعامل منتج كان قد أصابه الشلل؛ وذلك بسبب عدد من "السياسات المتناقضة" في الماضي. وقد حان الوقت لإنهاء هذه الظروف، ولإمداد القطاع الخاص بالاستقرار، والتشجيع لتعظيم الإنتاج.
* ورغم أن العبء الأساسي للتنمية، يقع على كاهل مصر؛ فإنها لا تزال في حاجة إلى قدر كبير من الموارد الأجنبية، وقد أدَّت الأوضاع المتغيرة في العالم أن أصبح توافد الكميات الضروريَّة من رأس المال الخارجي؛ ممكنًا جدًا، إذا توفرت استجابة مناسبة.
وكانت الظروف الجديدة ذات طابعين: الأول كان زيادة الموارد المالية للعالم العربي، فمالكو هذه الفوائض قد يرغبون في استثمار جزء منها في مصر؛ بسبب الروابط التاريخية والحضارية؛ ولأن مصر يمكن أن تقدم ملاذًا اقتصاديًا سليمًا. والعامل الثاني تمثل في الوضع الذي تبوأته مصر بعد حرب أكتوبر والذي حفز الدول الأخرى، إلى أن تأخذ أهدافها وجهودها مأخذ الجد، وترغب في الاستثمار بها. وينبغي أن تمسك الاستجابة المصرية بتلك الفرص الجديدة – وبصياغة ورقة أكتوبر فإن "مسئوليتنا الوطنية لا تسمح بتجاهل هذه الفرص". بيد أن الاستفادة من ذلك تتطلب موقف (توجه للخارج)، وكانت مصر مستعدة لانتهاج هذه السياسة بتوفير كافة الضمانات القانونية الضرورية للمستثمرين الأجانب.
* إن جهد التنمية لا يمكن أن يكون مسألة عشوائية، وإنما يجب أن يتم في إطار مخطط، والأوليات المحددة للخطة ينبغي أن تؤكد على إقامة صناعة حديثة، وزراعة كثيفة ذات عائد مرتفع، وعلى تنمية النفط والطاقة والسياحة.
* وأخيرًا ينبغي التأكيد على أن الأهداف الاجتماعية
لم تهمل، وقد أكدت ورقة أكتوبر على "أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تستقيم وتنطلق، إلا إذا سايرتها تنمية اجتماعية بمعدلات متكافئة". وكجزء من تنمية اجتماعية متوازنة على نحو أفضل، ينبغي أن يكون هناك نمو متعادل بين الأقاليم، وبذلك يقل التفاوت الذي اتسع بين العاصمة والمحافظات(56).

كان هذا ما فهمه خبراء البنك الدولي من ورقة أكتوبر، وهدفهم يعكس تحيزًا مضادًا لتحيزنا، فقد ركز البنك على ما يرضيه، أو اختصر في النقاط التي يختلف معها، مشوهًا
أو مغفلاً ما كنا نعتبره الجوهر الإيجابي، فبينما ألحت ورقة أكتوبر على مفهوم الاستمرارية في ثورة يوليو، وعرضت كافة تعديلاتها المفترضة في هذا الإطار، عرض البنك هذه التعديلات منفصلة عن أصولها؛ وكأساس لشيء مختلف تمامًا. وارتبط بذلك تجاهل مفهوم الاستقلال في اتخاذ القراءات الاقتصادية، ولم يكن هذا على سبيل السهو؛ فهو يعكس حنق البنك على هذا المفهوم، وبالتالي على الاتجاه العام للورقة. وقد عبر عن هذا الحنق صراحة حين أورد في بند مستقل، وبعد تلخيصه لورقة أكتوبر تقييمه الخاص لسياسة مصر الاقتصادية قبل الانفتاح، فكتب: "أن الاقتصاد المصري – وقياسًا على تطوراته في العقد الأخير – اتسم بهيمنة القطاع العام (عقب التأمينات الواسعة النطاق في 1961)، وبضوابط جامدة على الأسعار، والواردات والاستثمار. وفي الواقع على كافة القرارات الاقتصادية الجوهرية، وكذلك بتخطيط مركزي مفصل لمعظم المشروعات والسياسات، وبلجوء متزايد إلى الأوامر الإدارية كوسيلة لتنفيذ السياسة، وبانعدام المنافسة، وبالإنتاجية المنخفضة في معظم القطاعات، وبمعدل متدهور من الاستثمار والمعونة الخارجية.. وباختصار، أصبح الاقتصاد منعزلاً ومصابًا بالأنيميا، وقد تقدمت ورقة أكتوبر باستراتيجية جديدة جريئة؛ لتمكينه من الخروج من عُزلته النسبية، وأصبحت هذه الاستراتيجية معروفة باسم: سياسة الانفتاح، وتعني أساسًا: التحرك نحو اقتصاد أقل صرامة، ويسمح فيه لكل من القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية بدور نشِط وتنافسي" (57).

هذا التقييم القاتم يعكس رفض البنك للمضمون الأساسي لورقة أكتوبر ولمفهومها في الانفتاح. ولا يتسع المجال لعرض رأينا. ولكن لا بد أن نشير إلى أن تقرير البنك الدولي نفسه عرض في موضع آخر تقييمًا مختلفًا لتجربة التنمية المصرية في الستينيات: "فخلال الفترة 60 – 1967 نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل حقيقي 6% سنويًا تقريبًا – في المتوسط. وقد رافقت ذلك زيادة مطردة في مستوى الاستثمار الذي وصل إلى 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي المدخرات المحلية (أكثر من 14% في 66/ 1967). وحتى منتصف الستينيات، كان هناك تدفق ملموس لرأس المال الخارجي. وبعد حرب 1967 ضعفت الاستثمارات بسبب تحويل الموارد إلى مستلزمات الدفاع؛ ولنضوب تدفق رءوس الأموال (إلى مصر). خلال 68 – 1972 كان صافي التدفق متجهًا إلى الغرب إذا أخذنا في الاعتبار (سداد) فوائد الديون. وكان هناك تدهور في مستوى الاستثمار (وصل إلى 12% من الناتج الإجمالي في 1972) وفي معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي، فكان في المتوسط حول 3% سنويًا بالأسعار الثابتة، في الفترة 67 – 1973. وانخفضت أيضًا المدَّخرات المحلية إلى حوالي 8% من الناتج القومي في 1973" (58).
هذا التقييم – مع تحفظنا – يختلف تمامًا عن التقييم السابق، فالمعدلات التي اعترف بها – حتى 1967 – تعني تسليمًا بنجاح جهود التنمية في مرحلة التأميمات الواسعة، والتحليل لهبوط المعدلات بعد 1967 يشير إلى الحرب والضغوط الغربية، وليس إلى "مصيبة" القطاع العام والتخطيط المركزي كما قيل في التقويم السابق!
على أية حال، كان اهتمامنا بمنظور البنك الدولي؛ بسبب أن هذا البنك هو المرجع الفني المختص للدول الغربية ولدوائر الأعمال، فيما يختص باستراتيجيات التنمية في الدول التي يتعامل معها. ورغم أن البنك الدولي كان في هذه المرحلة – كالولايات المتحدة وصندوق النقد – يتحسس الخطى، وحَذِرًا في إبداء الملاحظات، فإن معارضته لمفاهيم ورقة أكتوبر كانت واضحة حسب العرض السابق، وزادها وضوحًا في فقرة تقول – تحت عنوان (عوامل ضغط على التنمية) – إن "الاستراتيجية الجديدة التي وضعت خطوطها في ورقة أكتوبر، قد تفتح مجالاً للتنافس بين الأهداف واتباعها جميعًا، وفي نفس الوقت يمكن أن يكون بمثابة فرملة للتنمية، ويمكن تحديد مجالات هذا التنافس المحتمل في: توزيع عادل للدخل يتعارض مع الحوافز التي ينبغي توفيرها من أجل نمو القطاع الخاص – الحماية المفروض تقديمها للصناعة، ونتائج ذلك على الكفاءة الاقتصادية – ترشيد نظام الأسعار (ويشمل كلا من الأسعار المحلية وسعر الصرف) من ناحية، وتثبيت الأسعار من ناحية أخرى – اللامركزية في اتخاذ القرار، وفي مواجهتها الحاجة إلى الإبقاء على بعض أهداف اجتماعية محددة مركزيًّا" (59).
* ولكن ينبغي أن نسجل أن ورقة أكتوبر كانت بالفعل نشازًا غريبًا وسط النغم السائد، وسجلت "الطليعة" وقتها هذه الملاحظة، فكتبت: "ماذا بعد الموافقة على ورقة أكتوبر؟ مفروض أن الوثيقة أصبحت إطارًا للتحرك السياسي في مختلفة مؤسسات الدولة، ونرجو أن تكون المبادئ التي تضمنتها دليلاً يوجه الحوار، ويحصر الخلاف في المرحلة المقبلة".. وأشارت الطليعة إلى تعارض الورقة مع اتجاه الإعلام "فعلى ضوء الوثيقة لم يعد مقبولاً مثلاً أن تصور المرحلة الماضية على أنها مجرد كم هائل من السلبيات، وعلى ضوء الوثيقة لم يعد مقبولاً أن ينكر البعض كل ما جاء في الميثاق".. كذلك لم يعد مستساغًا نشر أفكار خاطئة عن الأسباب الموضوعية للمتاعب الاقتصادية. لم يعد مستساغًا تصوير هذه المصاعب، على أنها مجرد نتاج للقطاع العام والسياسات "الاشتراكية" الخاطئة. وأن مجرد فتح الأبواب، بلا حساب سيقدم حلاً سحريًّا لكل المشاكل (..) أيضًا لم يعد مقبولاً أن يمتد الحوار إلى المقارنة بين اقتصاديات السوق، واقتصاديًّا التخطيط المركزي، وأيهما أفضل.. فقد حسمت هذه القضية". كذلك "أكدت الوثيقة ما نص عليه دستورنا في المادة 30 حول دعم القطاع العام". "هذه مجرد عينة من المبادئ التي تحددت في ورقة أكتوبر. وهي تختلف مع كثير ما قرأناه وشاهدناه خلال الأشهر الماضية في وسائل إعلامنا" (60).
كانت ورقة أكتوبر آخر محاولة من العناصر الوطنية في الدولة للتصدي نظريًّا للغزو الخارجي وضغوط أعوانه (61). والنقد الحقيقي لورقة أكتوبر أنها كانت مجرد ورقة، وقد خنقت إعلاميًّا حتى ماتت. وبعد ثلاث سنوات من الانتكاسات الفعلية أعلن الرئيس السادات دفنها رسميًّا مع كل المواثيق السابقة للثورة. إن هزيمة ورقة أكتوبر، وما رشحته من سياسات، لم تكن هزيمة في ندوة فكرية مع البنك الدولي، وما أشبه، فهي هزيمة ولدتها كل القوى التي تناولناها. والبنك الدولي بالمناسبة لم يقتحم الميدان على نطاق واسع في العام الأول للانفتاح، منتظرًا دور الحكومة الأمريكية وصندوق النقد.
(4) صندوق النقد الدولي (المطالبة بخفض سعر الصرف وإلغاء الدعم):
أ- بحثنا في الفصول (2، 3، 4) تدخلات الحكومة الأمريكية المباشرة وتدخلات البنك الدولي على مستوى المشروع والقطاع، وتوجنا البحث بمحاولة لإعادة تشكيل صورة عامة، أيدناها بعرض معلومات مركزة ومتكاملة لشرح طبيعة الهيئات الدولية واستراتيجيتها في فرض وإدامة التبعية بقيادة الولايات المتحدة، وحاولنا أن نعمق هذا العرض نظريًا (الفصل 5). وبدءًا من هذا الفصل يتناول التحليل متابعة تدخل القوى الخارجية (بشكل مباشر أو غير مباشر) على مستوى الماكرو لإحداث التغييرات المناسبة في بنية الاقتصاد القومي ككل. والتدخل على مستوى الوحدة والقطاع (التدخل من أسفل) والتدخل على مستوى الاقتصاد الكلي أكثر خطرًا. ووصل القوى الخارجية إلى درجة التأثير الفعال على الإدارة المركزية للاقتصاد الكلي أكثر خطرًا. ووصول القوى الخارجية إلى درجة التأثير الفعّال على الإدارة المركزية للاقتصاد يعني أنها ضمنت تحقيق هدفها الرئيسي، فالتدخل على مستوى الوحدة يتحدد إطاره، ويتغلغل، بقدر نجاح القوى الخارجية في صياغة استراتيجية التنمية والسياسات الاقتصادية، والمؤسسات المنفذة لهذه السياسات.
وقد "ظلمنا" في الواقع دور صندوق النقد الدولي في الحالة المصرية، فدوره أثناء تحليلنا للديوان المصرية لم يظهر بالقدر الذي يتكافأ مع خطورة هذا الصندوق كما شرحناها، أو مع حقيقة الدور الفعلي الذي أداه. وعذرنا في ذلك هو السرية التامة التي أحاطت تحركات الصندوق؛ بحيث
لم يظهر اسمه في الوثائق المعلنة إلا لمامًا، ولكن آن لنا "أن نرد اعتباره"، ونكشف دوره الطبيعي كرأس حربة في الهجوم المشترك.

ب- كانت آخر "مشاورات" أجريت مع صندوق النقد الدول قبل حرب أكتوبر في الفترة 10 – 19 فبراير 1973"(62). جاء في قرار مجلس المديرين التنفيذيين للصندوق (13 يونيو) بعد بحث التقرير المقدم عن نتائج المشاورات:
* بعد عامين من استعادة ملموسة للحيوية الاقتصادية تحت ظروف من الاستقرار النسبي، تباطأ نمو الاقتصاد المصري منذ 1970، وبرزت من جديد ضغوط على الموارد ومع الضوابط الشاملة للأسعار، انعكست هذه الضغوط أساسًا في مصاعب ميزان المدفوعات. ويعتقد الصندوق أنه لا بد من تدعيم السياسات المالية، وبالتحديد يجب الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي.
* تدعو الخطط الرسمية لزيادة الاستثمار؛ من أجل رفع معدل النمو الاقتصادي. ويعتقد الصندوق أن تحقيق هذا الهدف سيحتاج إعادة توجيه السياسات الاقتصادية؛ بحيث تحسن تخصيص الموارد وتخفف الضغط على النقد الأجنبي.
* وقد اعترفت السلطات المصرية لبعض الوقت بضرورة إصلاح جذري في نظام النقد الأجنبي يحقق تحسنًا متواصلاً في القطاع الخارجي، ويقلل الاعتماد الكبير الحالي على الضوابط والاتفاقات الثنائية. وأثناء الأعوام الأخيرة اتخذت خطوات محدودة في هذا الاتجاه، وكانت النتيجة على أي حال نظامًا معقدًا من تعدد أسعار الصرف. ويعتقد الصندوق أنه من مصلحة مصر أن تشرع بلا تأخير في إصلاح أساسي لنظام النقد، وهو يوصي في الأثناء بتبسيط التعدد في أسعار الصرف، وبتوسيع نظام الحوافز. ويجب أن تبذل جهودٌ متزايدة أيضًا؛ لإنهاء الترتيبات اتفاقات الدفع الثنائية مع أعضاء الصندوق.
ج- كانت المشاورات، في نطاق المشاورات الدورية التي يجريها الصندوق مع الأعضاء؛ وفقًا للمادة 14 من اتفاقيته، التي سمحت للدول الأعضاء؛ بتطبيق ترتيبات مؤقتة قبل الانتقال إلى الالتزام العام الذي تفرضُه المادة 8 من الاتفاقية (إعلان حرية تحويل العملة – الامتناع عن فرض أيَّة قيود على المدفوعات الجارية المستحقة إلى غير المقيمين – عدم التمييز بين الأعضاء في المعاملات الخارجية إلا بموافقة مسبقة من الصندوق). وتتراوح الترتيبات التي يقبلها الأعضاء، أو يقبلها الصندوق بين بدائلَ كثيرة. وعلى ذلك كان القرار المُتخذ قبل الشروع الفعلي في سياسة الانفتاح، يشير باتجاه "التوصيات" التقليدية للصندوق، ولكن بتحفظ شديد، والتوصيات ذات الصياغة المحددة تقتصر على الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي (وهذا مطلب لا يعترض عليه)، أما الإصلاحات النقدية فيبدو أن السلطات المصرية أنشأت السوق الموازية (سبتمبر 1973) كاستجابة "محدودة" لهذه التوصية (بالإضافة إلى اعتبارات واقعية). وبالنسبة لاتفاقيات الدفع (التي يعترض عليها الصندوق من حيث المبدأ) اقتصرت المطالبة على أن تنهي بعض الاتفاقيات مع الدول أعضاء الصندوق (أي: استُثنيت مجموعة الدول الاشتراكية).
* وفي مايو 1974 – بعد إعلان الانفتاح وقبيل زيارة نيكسون – وفدت بعثة من الصندوق لإجراء مشاورات جديدة برئاسة جون جنتر. كانت المشاورات هذه المرة أكثر شمولاً، والتوصيات أكثر صراحة. ويشير تقرير البعثة إلى العجز في ميزان المدفوعات وتراكم المتأخرات. وقد أبدت البعثة انزعاجها من حجم القروض، وأن نسبة كبيرة منها ذات طبيعة قصيرة الأجل (1/2 الدين كان يستحق خلال 4 أعوام) وهذه القضية – كما يقول التقرير – كانت تقلق أيضًا الجانب المصري، وإعادة التوازن – من وجهة نظر الصندوق – لن يكفي في علاجها الدخل المتوقع من القناة أو البترول كما اقترح الجانب المصري، فالأمر يتطلب إصلاحًا جذريًّا للقطاع الخارجي، يكون مدخلاً للإصلاح الاقتصادي الشامل، "فالقطاع الخارجي – بمنظور سياسة الانفتاح – يقدم الموقع الأفضل لبداية عملية الترشيد. وهذه العملية ينبغي أن تستند إلى أساس من سياسة ملائمة للنقد الأجنبي. والخطوات التي اتخذتها بالفعل السلطات المصرية تمثل بداية (تطبيق سوق موازية رسمية مع إجراءات نحو لامركزية القرار، فيما يتعلق بالتجارة الخارجية).
ومن المهم دعم هذه البداية كخطوة رئيسَةٍ نحو إنشاء سعر معدل وحيد للصرف، عند مستوى واقعي، وإعادة هيكلة الأسعار في قطاعات التجارة الداخلية والخارجية، وفي نفس الوقت، فإن المؤسسات المسئولة تحتاج إلى إصلاح، وبالتحديد فإن برنامجًا ديناميكيًّا لزيادة الصادرات لا بد أن يُنَفَّذ.
وتعتقد البعثة أن الوقت مناسب لتلك الإجراءات، ومن المسلم به أن تلك الإجراءات، سيكون لها تأثير على الأسعار المحلية، ولكن الزيادات في بعض الأسعار ضرورية؛ لتغيير التوازن النسبي بين القطاعين المحلي والخارجي؛ حتى تخفف حدة اختناقات النقد الأجنبي عبر الزمن (التشديد للمؤلف).
ولكن الجانب المصري لم يتفق في المشاورات حول مناسبة الوقت لهذا الاندفاع في الإجراءات، فيسجل تقرير البعثة أن المسئولين المصريين يوافقون على هدف التوسع في السوق الموازية؛ وصولاً إلى سعر واحد للصرف، ولكن "كانوا يرون أن مثل هذه الخطوة الكبيرة قد تؤدي إلى استنزاف كبير لموارد النقد الأجنبي المتاحة، أو إلى معدل عالٍ من زيادة السعر؛ ولأن هذه النتائج قد تضعف القبول الذي تلقاه سياسة الانفتاح؛ فإنهم يميلون إلى اتخاذ منهج تدريجي".
* والحقيقة أن شرح خبراء البنك الدولي لملابسات اللحظة التي رآها الصندوق مناسبة للتوسع في تنفيذ برنامجه التقليدي، يدعم رؤية المسئولين المصريين آنذاك؛ إذ يقول البنك: إنه "تتعين ملاحظة أن هذه السياسة للتحرر الاقتصادي، قد اتبعت في مناخ سياسي واقتصادي دولي غير مواتٍ إلى حد بعيد". ويقصد التقرير بهذا المناخ أنه "كانت تسيطر على اقتصاد مصر في عام 1974 ضغوط منبعثة من القطاع الخارجي، ولكنها انتشرت على بقية الاقتصاد. فعلى الجانب الخارجي، اشتملت الضغوط على التقدم البطيء نحو السلام في الشرق الأوسط، وعلى الارتفاع الشديد في أسعار واردات مصر الرئيسَة، والانكماش في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبطء المسحوبات من المعونات السهلة ومن رأس المال الأجنبي الخاص. وعلى الجانب المحلي، أدى تصاعد الأسعار العالمية للغذاء إلى زيادة صافي دعم الموازنة لمواد الاستهلاك الشعبي بما يقرب من ثلاثة أضعاف؛ حيث حاولت الحكومة تثبيت الأسعار المحلية للمواد الغذائية المستوردة" (63). ولا تعنينا في هذا الكلام تفاصيل تحليل وتقديم أوضاع الاقتصاد المصري عام 1974، فنحن نختلف في بعض النقاط الهامة. وينبع خلافنا من رفض استراتيجية الانفتاح التي تتبناها الهيئات الدولية من حيث المبدأ، ولكن حتى لو أخذنا بهذه الاستراتيجية، فإن الظرف لم يكن مناسبًا للبدء فيها – باعتراف البنك الدولي – إذا لم يكن مقصودًا إحداث انهيار. فالظرف الذي وصفه البنك الدولي تطلب من أية دولة محترمة إحكام الإدارة المركزية للاقتصاد، حتى مع اقتناعها بالتوجه تدريجيًّا نحو الانفتاح (كما حدث في الدول الغربية أثناء الحرب وبعدها) ولم يحدث أبدًا أن كان مثل هذا الظرف فرصة للانفتاح الفوري وإلغاء القيود؛ لأن الانفتاح الفوري والكامل في مثل هذه اللحظة يورث الكوارث.
وقد سجل تقرير البنك الدولي أيضًا اعتراضًا مبدئيًا ومنطقيًا للمسئولين المصريين على توصيات صندوق النقد الدولي، فيقول: "إن الحكومة واعية بالتشوهات الناتجة عن قيام سعر للصرف مبالغ فيه، ولكنها تشعر أن التخفيض الفوري لقيمة الجنيه، ليس الجواب الأكثر ملاءمة.
وتنهض هذه الحجة على أساس أن الصادرات المصرية تشمل عددًا كثيرًا من السلع ذات مرونة سعرية منعدمة (الصادرات "التقليدية" القائمة على القطن) وتذهب إلى دول الكتلة الشرقية (حوالي 64% من صادرات مصر عام 1974 إلى منطقة الاتفاقيات الثنائية)، بينما تتكون معظم الواردات المصرية من سلع ضرورية (وبالتالي لا يمكن الحد منها) تأتي أساسًا من كتلة العملات الحرقة (حوالي 74% من الواردات عام 1974 مصدره هذه البلاد). وعلى ذلك، فإن الإجراء التقليدي بتخفيض العملة، وإعادة توحيد سعر الصرف، قد يؤدي فقط إلى زيادة موقف النقد الأجنبي سوءًا، في المدى القصير)... والطريف أن التقرير علق على وجهة النظر المصرية بأن "هذا القلق الذي تشعر به السلطات ليس قلقًا بلا مبرر" ولكن لم يرتب على ذلك إلا ضرورة أن تنفذ السلطات التوصيات المقدمة من صندوق النقد؛ بحجة أنه
ما دام "الاقتصاد سيفتح على أية حال أمام المنافسة الخارجية، فمن الواجب أن نبدأ في اتجاه التزام سعر للصرف يعكس حقائق الموقف؛ تجنبًا لسوء تخصص الموارد" (64). وهذا كلام مسطح، ومجرد ترديد لأكذوبة المفعول السحريّ لتغيير سعر الصرف، وبغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، وعن الاعتراضات العملية المثارة، وهذا الكلام يقال رغم أن البنك الدولي يعترف بأن مشكلة العجز في ميزان المدفوعات (وأحد جوانبها الأساسية زيادة الصادرات) لا يحلها مجرد خفض سعر الجنيه المصري، فالسلع الصناعية هي "رأس الحرية في عملية الوصول إلى معدلات نمو أعلى في مجال نمو الإنتاج والصادرات. ولكن المنافسة في الأسعار لا تكفي في حد ذاتها بالنسبة لهذه السلع. فهناك اعتبارات هامة أخرى مثل النوعية والتصميم، ومدى الثقافة في السلع وتكاليف الإدارة وتوفر قطع الغيار بصفة منتظمة وتوصيل الاعتمادات إلى المشترين المحتملين. وهكذا فإن إحداث تغيير هيكلي كبير في اتجاه الصادرات أو تركيبها، سوف يتطلب قدرًا كبيرًا من الإجراءات بخلاف ترشيد سعر الصرف، وينتظر أن يستغرق التنفيذ الناجح لهذه السياسة الشاملة فترة الخطة الخمسية القادمة بأكملها على الأقل" (65).

وصحيح أن البنك الدولي يشرح موقفه في نطاق "تسويقه" لتصوراته الاستراتيجية المتكاملة، وما تتضمنه من دور الاستثمار الأجنبي والتبعية للأسواق الغربية – وهذه قضية أخرى – ولكن يبقى أنه يقول بصراحة إن زيادة الصادرات (بهدف تقليص أو إنهاء العجز في ميزان المدفوعات) لن يتحقق حلها السريع بمجرد تعديل سعر الصرف، والإجراءات المتشابكة المطلوبة لا يمكن إنجازها في الأجل المتوسط، إذن لماذا الإلحاح على البدء بتعديل واسع في سعر الصرف بالذات، وتحرير الواردات في الأجل القصير، بل فورًا، رغم أن أي عاقل يلمح عدم مناسبة التوقيت؛ حتى بين المتفقين على صحة الإجراء من حيث المبدأ؟
إن حديثنا السابق قد يسوغ للبعض أن يتحدث عن التناقض بين مدرسة صندوق النقد ومدرسة البنك الدولي،
أو بين المدرسة النقدية (من النقود) والمدرسة البنيوية ذات النظرة الأشمل لتكامل المتغيرات الاقتصادية، على أساس أن الأخيرة لا تقتصر على البنود التقليدية لبرنامج الاستقرار الذي يلح عليه صندوق النقد.

والبنك الدولي يشهد فعلاً انتعاشًا للاتجاهات البنيوية بعد أن اكتسب اقتصاديوه خبرة "وضع ومتابعة استراتيجيات التنمية في الدول التابعة. ولكن – كما سبق أن ذكرنا (الفصلان 4 و5) – ومن خلال تجربتنا العملية، نؤكد أن المسألة تناقضًا في الأساس، فهو تمايز في إطار التكامل، والتنسيق محكم بين المؤسستين. وقد نشير أيضًا إلى حقيقة أن تقرير البنك الدولي (الذي نقلنا عنه) رغم أنه شبه سرّي ومحدود التوزيع، فإن كاتبيه من الخبراء لا يعلمون – بالدقة- كل قواعد العمل المتفَق عليها، ولا يعتبرون بالتالي بدقّة عمّا يبلغه البنك الدولي للمستويات الأعلى من الدولة في الاجتماعات والوثائق الأكثر سرية. وقد صرح ماكنمارا الرئيس السادات (حين قابله عام 1974) بأن شروط البنك الدولي للبدء في "مساعدة" مصر، هي نفس شروط صندوق النقد، ومن الناحية العملية، كانت الآراء التي نقلناها عن البنك الدولي، تنتهي إلى ضرورة الإسراع في تنفيذ ما يقوله الصندوق.
* إذا قلنا إن الهدف الذي لا يخفيه صندوق النقد هو "إحداث بنيوية للاقتصاد" سنجد أن برنامج الاستقرار الذي صاغه (والمسنود من الولايات المتحدة والبنك الدولي) كان منطقيًا ومحسوبًا بواقعية. فالدعوة (في بداية 1974) للتوسع الفوري الكبير في السوق الموازية وصولاً إلى سعر موحد منخفض للجنيه المصري، كان لا بد أن يؤدي إلى كوارث، دون أي عائد اقتصادي إيجابي في المقابل. وهذا الإجراء مع إخراج الاستيراد من تخطيط الدولة في ظروف اقتصاد منهك. وندرة في النقد الأجنبي، ومعدلات تضخم فالتة في الأسواق الموردة، كان لا بد وأن يؤدي إلى توسع في استيراد سلع غير ضرورية، وبأسعار بالغة الارتفاع، أي يؤدي إلى انهيار في ميزان المدفوعات، وإلى غرق واختناق بالديون الخارجية في آخر عام 1974، رغم أن مشكلة الديون كانت واصلة بالفعل إلى أبعاد تثير انزعاج صندوق النقد الدولي (كما أشرنا) في بداية العام. إلا أن هذه النتيجة التي تبدو بدَهيَّة ومزعجة، كانت بالنسبة للصندوق وحلفائه تبدو بدَهيّة ومطلوبة. والفارق بين "مزعجة" و"مطلوبة" هو الفارق بين هدف وهدف.
إن الإغراق في الديون الخارجية، يبدو متعارضًا مع هذه التنمية المستقلة، وهذا صحيح بالقطع، ولكن إذا كان الهدف إخضاع بلد ما، وإرباك إدارته، فإن إغراقه في وضع المدين المعسر، وسيلة ممتازة ومجدية لتحقيق الهدف.
* على أيَّة حال، كان مشروع القرار المقدم من بعثة الصندوق إلى أعضاء مجلس المديرين التنفيذيين، في يوليو 1974، على ضوء تقرير بعثة الصندوق على:
1. كان نمو الاقتصاد المصري بطيئًا لعدد من السنوات، فالدفاع له عبء ثقيل، والاستهلاك بشكل عام زاد نصيبه من الموارد المتاحة، ونتج عن ذلك مستوى منخفض من الاستثمار، وقد أدت الصعاب المزمنة في النقد الأجنبي إلى قصور في قطع الغيار والمواد الخام، وبالتالي إلى نقص خطير في استخدام القدرة الصناعية، ويعتقد الصندوق أن تهيئة أساس للنمو الاقتصادي من جديد، تتطلب تغييرات بنيوية رئيسَة للاقتصاد، مع اهتمام خاص بتصحيح الأسعار النسبيَّة.
2. وقد اتخذت السلطات المصرية بعض الخطوات لترشيد القطاع الخارجي؛ كجزء من سياسة جديدة للانفتاح الاقتصادي. والصندوق يثني على الخطوات التي اتخذت حتى الآن، ولكنه يعتقد أن هذه السياسة يمكن نجاحها فقط في حالة إرسائها على سياسة أكثر واقعية للنقد الأجنبي. ويوصي الصندوق باتخاذ خطوات وإجراءات أخرى لتوسيع نطاق السوق الموازية، ولتقليل درجة التحكم الإداري في التبادلات الخارجية؛ تطلعًا إلى إنشاء سعر صرف موحد؛ كهدف نهائي عند مستوى واقعي.
3. كان التوسع في الائتمان المصرفي خلال العامين الماضيين كبيرًا على نحو غير ملائم، وضغوط الطلب الناتجة تم احتواؤها فقط بالاعتماد الكثيف على الضوابط. ويعتقد الصندوق أن الحاجة إلى دعم السياسات المالية المحلية لن تكون فقط لاحتواء ضغوط الطلب، ولكن أيضًا لزيادة الموارد المتاحة للتنمية.
4. اعتمدت مصر بشدة على ضوابط النقد الأجنبي والتجارة للحد من الطلب للنقد الأجنبي، ومارست أيضًا التعدد في أسعار الصرف. ورغم هذه الضوابط كان هناك اعتماد متزايد على الديون القصيرة الأجل، والمتوسطة الأجل، التي تؤدي إلى مصاعبَ في المستقبل. ويلاحظ الصندوق أنه على الرغم من بقاء متأخرات كبيرة على المدفوعات الجارية، فإن خفضًا أساسيًّا في هذه المتأخرات قد تحقق خلال العام الماضي. وتهدف السياسة إلى إنهاء المتأخرات في أقرب وقت ممكن. كان هناك أيضًا خفضٌ في درجة اعتماد مصر على اتفاقات الدفع الثنائية، ويوصي الصندوق باتخاذ خطوات أبعدَ في هذا الاتجاه. وفي ظل الظروف الحالية يمنح الصندوق موافقته حتى 31 يوليو 1975 على ممارسات مصر لتعدد أسعار الصرف؛ كنتيجة لترتيبات السوق الموازية. ويعيد النظر في هذه الممارسات أثناء مشاوراته القادمة مع مصر". (التشديد من المؤلف).
* ولا شك أن المقارنة بين قراري 1973، 1974 تكشف أن الأخير كانت صياغاته ومطالباته أصرح، ويعكس ذلك جو المشاورات التي سبقت كلا من القرارين، فالجانب المصري كان أكثر انفتاحًا، وأكثر استعدادًا بالتالي لعرض البيانات وتقبل "النصائح"، وعلى سبيل المثال تضمن قرار 1973 إشارة عامة إلى ضرورة إصلاح نظام النقد، وفي المقابل طالب قرار 1974 بالتوسع الفوري في السوق الموازية أي بالتوسع في ممارسة تعدد أسعار الصرف، وأوضح في نفس الوقت أنه يلح في هذا المطلب على مضض، ولمدة عام واحد؛ تطلعًا إلى توحيد سعر الصرف (طبعًا حول ما دون سعر السوق الموازية – أي: خفض السعر الرسمي للجنيه). ولكن ظلت توصيات الصندوق تعكس مع ذلك حقيقة أنه لا زال يواجه مقاومة على الجانب المصري.
ويلاحظ أن الصندوق استخدم – لتسويق توصياته – أساليب الغواية. فمشاكل التنمية هي في الأساس (كما يزعم) نقص في الموارد، وخاصة من النقد الأجنبي، وهذه يمكن أن تتوفر بشرط أن تقبل السلطات إجراء التغييرات البنيوية التي يطلبها الصندوق، وعلى رأسها "تصحيح" الأسعار المحلية (من خلال خفض سعر الصرف وإلغاء تدخلات التخطيط المركزي في تحديد الأسعار، أو ما يسمى بإلغاء الدعم في صوره المختلفة).
أيضًا يشير القرار إلى الفشل النسبي للتدخلات الحكومية المباشرة في التجارة الخارجية، وفشل تعدد أسعار الصرف، في منع تفاقم الديون الخارجية، وتراكم المتأخرات، وكان تقرير البعثة عن مشاوراتها في القاهرة، قد سجل أن الأمر يتطلب معونات خارجية كثيفة وعاجلة. "إن الموارد الخارجية لا تقتصر الحاجة إليها من أجل تحرير ملموس للواردات، فهي تساعد أيضًا على التخلص من المتأخرات الحالية على المدفوعات الجارية، وتقلل من الاعتماد على القروض القصيرة الأجل والمتوسطة الأجل التي تقترب من مستويات خطيرة". وكان طبيعيًّا أن يلوح الصندوق بعد ذلك إلى دوره وإمكانياته في هذا الاتجاه، إذا نفذت الحكومة شروطه، فمن "المتوقع منطقيًّا زيادة المعونات الخارجية والداخلية زيادة محسوسة، إذا صيغ برنامج مناسب للإجراءات الخارجية والداخلية".
إن عديدًا من المسئولين في الدولة وفي القطاع الاقتصادي كانوا – بحكم الانتماء المدرسي أو المصلحة – مع الاتجاه العام لبرنامج الصندوق. والوعد بالمعونات لم يكن – كما نعلم – في حدود الوعود التقليدية الموجهة للدول "النامية"، والمنظر المتوقع لبلايين الدولارات المنهمرة كان يدير الرءوس. ولكن حدث رغم كل ذلك اعتراض على تنفيذ البرنامج – وسط الظروف السائدة – بالطفرة التي يطلبها الصندوق. رفضت الحكومة التوجه السريع إلى خفض سعر الصرف (من خلال التوسع الكبير في السوق الموازية)، ورفضت خفض تدخلها في ضبط الأسعار. لقد أعلن الصندوق أن تدفق المعونات (بما في ذلك المعونات الخليجية) مشروط بتنفيذ البرنامج، وأكد البنك الدولي بالفعل أن قروضه مقيدة باستجابة الحكومة لتوصيات الصندوق، وأعلنت الحكومة الأمريكية نفس الموقف، فيما يتعلق بقروضها الميسرة من خلال وكالة التنمية، بل جعلت الالتزام "بتوصيات" الصندوق ضمن شروط تحركها النشط على ساحة المواجهة المصرية – الإسرائيلية. ومع ذلك أصرت الحكومة على الاعتراض. وقد يفسر هذا الموقف بأن الانهيار المؤكد (نتيجة للبرنامج) كان مسألة واضحة تمامًا، ويتعذر على أي مسئول اتخاذ قرار صريح بإحداثه. ومن ناحية أخرى نتصور أن القيادة المصرية قدرت أن الإمكانيات والاحتمالات التي فجرتها حرب أكتوبر تمكنها من دفع الولايات المتحدة للتحرك نحو التسوية، وجذب المساعدات المطلوبة، رغم تمردها على توصيات الصندوق، خاصة إذا كانت الأنظار موجهة إلى الدول العربية النفطية كمصدر أساسي لهذه المساعدات. إلا أن معارضة الحكومة لتنفيذ البرنامج كانت تحديًا يستدعي استخدام كل الإمكانيات المضادة الإجهاضية. فإحداث الانهيار هدف تكتيكي هام، يضع أصحاب "المساعدات" المنفذة في مركز القوة وإملاء الشروط، ويمكنهم بالتالي من إعادة تشكيل البنية الاقتصادية حسب المواصفات التي تلائمهم. وفشل صندوق النقد – بصفته طليعة اقتحام – في تحقيق المهمة تحقيقًا كاملاً، بضربة خاطفة ومباشرة، كان يتطلب تدخُّّل الجهات الأخرى.

نور 06-07-2011 02:11 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(5) انهيار ميزان المدفوعات:
أ- "القطاع الخارجي – بمنظور سياسة الانفتاح – يقدم الموقع الأفضل لبداية عملية الترشيد (أي: عملية الإخضاع – ع. ح). وهذه العملية ينبغي أن تستند إلى أساس من سياسة ملائمة للنقد الأجنبي". هكذا أفصح صندوق النقد عن خطة العمل. ورغم أهمية هذا الكلام – كاعتراف – فإن كافة المفاهيم العامة كانت توصلنا طبعًا إلى هذا التحديد لاتجاه الهجوم. والنتيجة المُفجعة لعملية "الترشيد" في القطاع الخارجي أسفرت عن قفزة غير مسبوقة في عجز الميزان التجاري في آخر 1974 (أول أعوام الانفتاح الاقتصادي) إلى 1798.1 مليون دولار (وكان 662.3 مليون دولار عام 1973).. وحدث هذا الانهيار، رغم أن الصادرات السلعية في ذلك العام زادت إلى 1671.1 مليون دولار (مقابل 1004.3 مليون عام 1973) ولكن التدافع على الاستيراد من الغرب (دون زيادة مناسبة في التصدير) أوقعتنا في هذا العجز الرهيب. لقد ارتفع نصيب "مناطق العملات الحرة" من الصادرات المصرية عام 1974 إلى 36% فقط (مقابل 35% في العام السابق). وكان مفروضًا أن تكون هذه الزيادة الطفيفة من محددات تمدد الاستيراد من الغرب، ولكن حدث أن ارتفع نصيب الواردات من "مناطق العملات الحرة" إلى 71% من إجمالي الواردات (مقابل 60% في العام السابق). وأوقع من النسب هنا، أن نقول إن الواردات من الأسواق الغربية ارتفعت من حوالي 1000 مليون دولار إلى 2463 مليون عام 1974.
والمثير للدهشة أن هذا الاتجاه تحقق، رغم غياب تسهيلات ائتمانية بشروط معقولة، وليس فقط في ظل زيادة طفيفة في صادرات مصر إلى الغرب، وسجلت وزارة التخطيط هذه الملاحظة، فكتبت أن "ثمة ظاهرة مُلفتة للنظر، وهي عزوف الوزارات عن استخدام القروض والتسهيلات التي تقدمها الدول الاشتراكية، حتى هبطت نسبتها من المكون الأجنبي للاستثمار إلى إعادة التفاوض بشأن القروض المخصصة لمشروعات عدلنا عنها، أو تأجل تنفيذها لاستخدامها في مشروعات الخطة المقترحة"، وقد أضاف تقرير الوزارة أن هذا الاتجاه لا يتفق مع المفهوم الصحيح لسياسة الانفتاح، فالمفهوم الأساسي "أنها انفتاح على العالم كله شرقه وغربه، فمصر الحريصة على استقلالها الاقتصادي، وموقفها المبدئي كدولة رائدة في عدم الانحياز، ترى في تنوع علاقاتها الاقتصادية، تأكيدًا لعدم انحيازها وتأمينًا لاستقلالها"(66)، ولكن واضح أن هذا المفهوم كان في ذهن وزارة التخطيط وحدها، والدلالة الأساسية لكلامها السابق أن المسألة أصبحت خارجة تمامًا عن أي سيطرة مركزية؛ بحيث أصبح دور أجهزة التخطيط في موضوع خطير كهذا يقتصر على النقد وتوجيه النصح، "وإذا كانت أجهزة التخطيط غير قادرة على حسم مثل هذه الأمور الاستراتيجية، والتي لا تقرر وفق معايير فنية فقط، ولكن وفْق معايير سياسية واقتصادية وفنية معًا، إذا كان التخطيط قد فقد سيطرته، حتى في هذا المجال من تعاملنا مع الخارج... إذن ماذا بقي للحديث عن (الخطة) (67).
ب- تفسير البنك الدولي للانهيار: المهم، ترتب على هذا الاختلال الشديد، الغرقُ في الديون الصعبة. وأحمد
أبو إسماعيل محق في أن "المديونية التي تحققت عام 1974 لم تحدث من قبلُ في تاريخ البلاد. فهذه أول مرة في تاريخ مصر الاقتصادي، يتحقق فيها هذا القدر من القروض قصيرة الأجل في عام واحد" (68). وهو محقٌ أيضًا حين يضيف أننا "منذ ذلك التاريخ، ونحن ما زلنا في هذه المشكلة"(69)، ولكن من العبث أن يحاول أبو إسماعيل أن يتنصل بعد ذلك من مسئوليته حين تولى وزارة المالية، فهذا الاتجاه الخطر
لم يقتصر على عام 1974، ويحسن أن ننقل هنا تقييم البنك الدولي لهذا الموضوع:

"عام 1973 يكسر استمرارية نمط السلوك لميزان المدفوعات. قبل 1973 كانت مصر تعاني بطريقة مزمنة من عجز ميزان المدفوعات، إلا أن العجز للميزان لم يتجاوز أبدًا 6 أو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الحد الأعلى تحقق فقط في أحوال استثنائية. وبعد 1973 تحرك العجز (معبرًا عنه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) في إطار 15 – 20 في المائة بدلاً من صفر – 7 في المائة. حدث انقطاع هنا. تغير واضح من نمط إلى آخر. الفارق في حجم ونسبة العجز في ميزان المدفوعات قبل وبعد (1973) ليس فارقًا في الدرجة، وإنما في النوع. التغير كبير جدًا في مستوى الجسامة والعواقب الاقتصادية لهذه التغيرات بالغة الدلالة" (التشديد للمؤلف).
ويستطرد تقرير البنك بعد ذلك إلى محاولة تعليل هذا الانكسار الخطير في المسار، فقد "كان هناك تحرك معاكس في الشروط الخارجية للتجارة بعد 1973 راجع إلى حد كبير من زيادة سعر القمح المستورد أربعة أضعاف، ولم تقابلها زيادات مقارنة في سعر صادرات القطن، وفي عامي 1974 و1975 ارتفعت أسعار مكونات الواردات والصادرات بدرجات غير متساوية، ولكن بشكل واضح، كان الرقم القياسي العام لأسعار الصادرات 1969/ 1970 = 100، و1974 = 213، و1975 = 215 – والرقم القياسي لأسعار الواردات لعامي 1974 و1975 = 239، أي أن الأسعار النسبية تحركت ضد الصادرات المصرية بـ 12 في المائة بين 1973 و1974، ولكن المؤشر الأكثر دلالة هو حركة نسبة أسعار صادرات القطن/ الواردات الزراعية التي انخفضت بحوالي 35 في المائة بين 1973 و1974، ومع ذلك، فإن الحركة المعاكسة في شروط التجارة ليست التفسير الوحيد، وقد لا تكون التفسير الأهم للتدهور الشديد جدًا في ميزان المدفوعات، فقد شهدت أحجام الواردات والصادرات تحركات في الاتجاه الخاطئ، أي بأسلوب ضار إلى أقصى حد من وجهة نظر ميزان المدفوعات، فللوهلة الأولى قد يتوقع الإنسان أن تؤدي زيادات أسعار الواردات إلى خفض في حجم الواردات، وزيادات أسعار الصادرات إلى توسع حقيقي في الصادرات. ولكن أحجام الواردات زادت بعد 1973، وانخفضت الصادرات. كان وقع التوسع في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار) ملحوظًا.. إن "مفعول الدخل" الذي عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر" كان - بوضوح - القوة السائدة، ويبدو أن الزيادة في الطلب المحلي قد نشطت الواردات، وحرفت الصادرات عن الأسواق الخارجية إلى الداخل"(70) (التشديد للمؤلف).
هذا العرض للبنك الدولي، يحتوي على قسم وصفي صحيح للانكسار الحاد والخطير في نمط السلوك لميزان المدفوعات. ولكن حين انتقل إلى التحليل والتفسير، ترك كثيرًا من الأسئلة مفتوحة، والإجابة التي قدَّمها كانت خاطئة أو غير مقنعة. فقد لاحظ مثلاً أن حركة الأسعار في تجارتنا الخارجية لم تؤدِّ إلى النتائج التي تتوقعها أو تبشر بها الهيئات الدولية، ولكنه "نسي" أن يسجل أن الأسعار (وبالتالي خفض سعر الصرف) لا تؤدي هذا الدور الحاسم الذين ينسبونه إليها لتحسين ميزان المدفوعات. فخفض سعر الصرف يؤدي – كما يقولون – إلى رفع سعر الواردات، فينخفض تلقائيًا الميل للاستيراد. ولكن حدث عام 1974 أن ارتفعت أسعار الواردات إلى أعلى؛ مما كان يمكن أن يتوقع في حالة خفض سعر الصرف (في ظروف عادية)، وكانت النتيجة زيادة حجم الواردات. وعني ذلك أن الأخذ بتوصيات الصندوق والبنك الدولي (بتخفيض سعر الصرف في عام 1974)
لم يكن يؤدي وحده إلى الإقلال من الواردات، ولكنه كان يؤدي بالقطع إلى الهبوط بحصيلة الصادرات (لانخفاض أسعار التصدير؛ نتيجة خفض سعر الصرف – أي: لمزيد من التدهور في شروط التبادل – مع وضوح العجز عن زيادة الكميات المصدرة؛ لتعويض انخفاض الأسعار).

والنتيجة الحتمية: مزيد من انهيار ميزان المدفوعات. ومفهوم طبعًا أننا لا نقصد إلى نفي أي أثر للأسعار على حركة الصادرات والواردات، ولكننا ننفي أن يكون للأسعار هذا الدور الحاسم، في إطار من تحرير التجارة من الضوابط المركزية، كما قالت وألحت التوصيات الدولية في عام 1974.
ج- المدخل الأول لتفسيرنا: لقد اعترف تقرير البنك الدولي بأن "الحركة المعاكسة في شروط التجارة، قد لا تكون التفسير الأهم للتدهور؛ ولذا أضاف التقرير أن "مفعول الدخل" عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر"، وكان القوة السائدة، فحدث التوسع الكبير في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار). وهذا التفسير خاطئ تمامًا – في تقديرنا – إلا أن الإجابة الصحيحة، تتطلب الغوص في نوع من التحليل، لم يكن متوقعًا أن يَلِجَهُ البنك الدولي في تقرير كهذا. فالإجابة الصحيحة، تبدأ بالفرض العام الذي نقيم عليه دراستنا، وهو أننا بصدد محاولة لإخضاع مصر، ولإعادة تشكيل أوضاعها - السياسية والعسكرية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية - على نحو يضمن استمرارها في التبعية. وهذه المحاولة تتطلب تخطيطًا مُحكمًا، فكل حرب (ساخنة أو باردة) تفترض، وجود خطة وهيئة أركان وإدارة عمليات. كل حرب تستخدم القوة بأشكالها المختلفة، وتستخدم الخداع والمراحل وتقسيم الأدوار، ولا بد أيضًا من ركوب المخاطرة المحسوبة، ودفع التكلفة المطلوبة لتحقيق الهدف.
* إذا تذكرنا هذا ونحن بصدد القطاع الخارجي، وما أصابه من انهيار، فإن من واجبنا أن نذكر أيضًا أن مخاطر خسائر التعامل مع العالم الخارجي من موقع ضعف، أوصلتنا في الستينيات إلى ضرورة التأميم الكامل للاستيراد، وتأميم القسم الأكبر من تجارة الصادرات، كان التأميم أداة ترشيد حقيقية، وأداة للاستقلال الاقتصادي، رغم كل النواقض التي أصابت التنظيم والممارسة(71). وقسم من هذه النواقض كان بسبب انخفاض مفهوم ومُبرَّر في مستوى الخبرة والكفاءة الفنيَّة والتنظيمية. ولكن قسمًا آخر (أعتقد أنه أهم) كان بسبب الإفساد والتخريب المنظم، والتوسع في هذا القسم الأخير هو "محاولات" "ترشيد" القطاع الخارجي (بمفهوم الصندوق ومن معه) والتي لم تتوقف برغم التأميم. فالتجارة الخارجية ليست مجرد تبادل في التصدير والاستيراد. ولكنها اقتتال في نطاق استراتيجيتين متصارعتين؛ استراتيجية تهدف إلى تأكيد الاستقلال، واستراتيجية مضادة تهدف إلى فرض التبعية، وقطاع التجارة الخارجية المؤمم (وخاصة على جانب الاستيراد) كان في خط المواجهة الأساسي، وعلى احتكاك يومي "بأعداء الاستقلال الاقتصادي". وكما في كل قتالٍ لا بد من خسائر إلى جانب الانتصارات، ولا يقتصر مفهوم الخسائر في قطاع الاستيراد الوطني على مجرد عقد بعض الصفقات بشروط غير مناسبة، فأخطر من ذلك عمليات الاختراق، وشراء بعض "الناس المُهمين"، وهذه مسألة متوقعة باستمرار في هذا القطاع بالذات، إذا أخذنا في الاعتبار إمكانيات الخصوم الهائلة؛ ولذا يتطلب الحفاظ على دور القطاع بالذات، إذا أخذنا في الاعتبار إمكانيات الخصوم الهائلة؛ ولذا يتطلب الحفاظ على دور قطاع الاستيراد في تدعيم الاستقلال أن يخضع القطاع لعمليات متابعة دقيقة من هذا المنطلق(72)، إلى جانب عمليات التطوير الفني والإداري.
ولكن إعلان الانفتاح، كان يعني على أيَّة حال، انتقال الدول العربية واحتكاراتها من مرحلة حرب العصابات،
أو حرب الاستنزاف، إلى مرحلة الاقتحام والهجوم الشامل.
وفشل الصندوق في توجيه ضربته المباشرة من خلال "سياسة ملائمة للنقد الأجنبي" لم يكن يعني أن عمليته
لم تنجح في فتح بعض الثغرات الهامة التي استثمرتها القوى المعاونة في تحقيق النتيجة المستهدفة من خفض سعر الصرف.

* فقد صدر قرار وزير المالية (64 لسنة 1974) لتطوير السوق الموازية (أُنشئِت في سبتمبر 1973؛ لتمارس من خلالها أنواع محددة من المبادلات بسعر مخفض للجنيه. الجنيه = 1.7 دولارًا). والسوق لم تكن مجرد ممارسة لتعدد أسعار الصرف، فهذا مطلوب ولا غبار عليه إذا كان الهدف إنشاء نظام نقدي فرعي مستقر ومكمل للنظام الأصلي، يزيد حصيلة الدولة من النقد الأجنبي (وخاصة مدخرات العاملين في الخارج) من خلال حوافز مناسبة ومرنة في سعر التحويل، بشرط أن يخضع التصرف في هذه الحصيلة لأولويات الميزانية النقدية. ولكن هذا الهدف لم يكن في نية صندوق النقد الذي بارك إنشاء السوق الموازية، ولم يكن أيضًا في نية السلطات المصرية عام 1974، وبالتالي كان تطوير السوق – في ذلك العام – لتوسيع نطاقها بشكل عام، وكمنفذ للقطاع الخاص إلى مجال الاستيراد، ودعم هذا ما أسمي بالاستيراد دون تحويل عملة(73). وتأكَّد كل ذلك بقرار رئيس الجمهورية بالقانون 137 لسنة 1974.
إلا أن التوسُّع في موارد وعمليات السوق الموازية، ظل محدودًا خلال 1974، وكان التوسُّع الحقيقي في النشاط الاستيرادي للقطاع الخاص عن طريق الاستيراد دون تحويل عملة (وهذه تسمية مضللة طبعًا، والأفضل أن نطلق عليه نظام الاستيراد الممول ذاتيًّا) وهذا النظام يسمح للمصريين الحائزين على نقد أجنبي في الخارج؛ باستخدام أرصدتهم في استيراد سلع (صدرت قائمة – في ذلك العام – بهذه السلع تضم 300 سلعة)، وكان متوقعًا مع التوسُّع في هذا النظام أن يصل حجم الواردات عن طريقه، وعن طريق السوق الموازية إلى 15% من إجمالي الواردات عام 1975.
ونظام الاستيراد الممول ذاتيًّا كان مثار نزاع لم يتوقف بين السلطات المحلية، والهيئات الدولية؛ فبعثة صندوق النقد الدولي تسجل في تقريرها أن الجانب المصري طلب رأي البعثة في مشروعه للتوسع في الاستيراد الممول ذاتيًّا، وكان رأي الصندوق أن التوسع في هذا النظام، سيكون على حساب السوق الموازية (وهذا صحيح؛ لأنه عبارة عن سوق سوداء للنقد الأجنبي، وأصحاب المُدخرات يفضلون التعامل مع هذه السوق؛ لأنها تعرض سعرًا أعلى لأرصدتهم) ومن ناحية أخرى، فإن المستوردين يفضلون أيضًا القيام بعملياتهم خلال هذا النظام؛ لأنه يتيح مرونة أوسع؛ فمجال المسموح به في نظام الاستيراد الممول ذاتيًا، أوسع من المجال الذي تتيحه السوق الموازية، وكان تقدير الصندوق أنه في حالة تعويم سعر الصرف في السوق الموازية، سيزداد سعر الجنيه المصري انخفاضًا، إذا كان نظام الاستيراد الممول ذاتيًا قائمًا ومتزايدًا(74). ولم يسجل التقرير رد الجانب المصري على هذه الحجج، ولكننا يمكن أن نتصور أن الموقف كان كالتالي: موقف صندوق النقد كان متسقًا مع أهداف فرض خفض كبير للسعر الرسمي للجنيه المصري، وتخليص التجارة الخارجية من السيطرة المركزية، وزيادة نصيب القطاع الخاص فيها، والتوسع في السوق الموازية، هو توسيع لدائرة التعامل المعلن بسعر مخفّض، وبالتالي خلق أمر واقع يسهل الانتقال الشامل إلى سعر الصرف الموحد المنخفض، وقد عبرت بعثة الصندوق عن هذا الرأي بصراحة، فقالت: إن اتجاهها هو "التوسع في السوق الموازية؛ حتى نتوصل إلى سعر واحد للصرف"، والأهداف الأخرى: القضاء على التحكم المركزي وزيادة نصيب القطاع الخاص، ينبغي أن تتحقق من خلال لهذا التوسع في السوق الموازية، والصندوق محق إذا رأى أن الاستيراد الممول ذاتيًا، يحقق مشاركة القطاع الخاص بشكل مشوه، وبطريقة لا تتسق مع باقي أهدافه، وهو يعوق استخدام السوق الموازية كأداة انتقالية.
ولا مانع من التذكير هنا بأن حكاية الاستيراد الممول ذاتيًا بدأت قبل 1967 كأمر واقع (فيما عرف أيامها ببضائع غزة)، وبعد العدوان تلقى هذا النظام اعترافًا قانونيًا محدودًا(75). ومع الإعلان الواسع عن الانفتاح الاقتصادي، قفزت عمليات الاستيراد - دون تحويل عملة - قفزةً هائلة ومتوقعة، فالجو السياسي العام فرض المشروعية القانونية لهذا السوق، ومع تكاثر الدخول الطفيلية وتراكمها، اتسع حجم الطلب على السلع الكمالية المستوردة. وكان تقدير صندوق النقد محقًا في أن منظمي هذه السوق يفضلون العمل من خلالها على العمل من خلال السوق الموازية. وكانت السلطات تدرك أيضًا هذه الحقيقة، وكانت تدرك أن انتعاش هذه السوق لا بد وأن يكون على حساب موارد واستخدامات السوق الموازية، ولكنها مضت مع ذلك في حفز الاستيراد دون تحويل عملة بدافعين متعارضين: دافع الاستسلام أمام فئة المستوردين الشرهة والمؤثرة بقوة على القرارات، ودافع آخر (قد يبدو غريبًا) هو أن بعض العناصر الوطنية قدرت أن التوسع من خلال هذا السوق (وليس من خلال السوق الموازية) قد يكون مقبولاً تكتيكيًا؛ حيث ظل هذا النظام يتيح للمسئولين ممارسة النفاق السياسي، فيسمحون من جهة لأصحاب الدخول العالمية بكل أنماط الاستهلاك السفيهة، ولمنظمي العملية بتحقيق أرباح خرافية، وفي نفس الوقت يواجهون الشعب بتصريحات حادة ضد من انحرفوا بأهداف الاستيراد دون تحويل عملة إلى استيراد الكماليات(76). ويضاف إلى ذلك أن إلهاء القطاع الخاص المستورد في عمليات الاستيراد الممول ذاتيًّا، خير من احتوائه داخل السوق الموازية، فتظل هذه تحت هيمنة القطاع العام، ويظل القطاع الخاص كمًا ونوعًا على هامش قطاع الاستيراد، وأيضًا فإن الاستيراد الممول ذاتيًا يظل سوقًا سوداء للنقد، وانحصار نطاق السوق الموازية، يعني تضييقًا لدائرة التعامل القانوني بالسعر المنخفض للجنيه، ويحدّ بالتالي من إمكانية استخدام السوق الموازية كمَعْبر للسعر الموحَّد المخفض، ويدعم هذا الموقف التفاوضي مع صندوق النقد. وبمعنى آخر، فإن العناصر صاحبة هذا التقدير أرادت أن تستخدم قاصدة ولحسابها، ما اعتبره الصندوق نظامًا معيقًا لأهدافه(77).
إلا أن هذا التقدير كان – في أحسن الفروض – من المحاولات المبعثرة للمقاومة، ولم يكن ممكنًا أن يصمد طويلاً، فنظام الاستيراد الممول ذاتيًا تبديد سفيه للموارد، ويصعب الدفاع عنه في أي مناقشة جادة، ومواصلة الدفاع عنه أعطت صندوق النقد فرصة أن يبدو في وضع المطالب فعلاً بالترشيد في مواجهة إدارة تحمي نظامًا فاسدًا. إن المحافظة على استقلال الدولة في وضع سياستها النقدية
لا يتحقق بهذه التكتيكات "الخائبة"، وإنما بنضال شاقٍ ومجموعة من السياسات الاقتصادية المستقلة التي تعتمد على التأييد الواعي من القوى الوطنية، وليس على تأييد السماسرة والمهربين، إن تأييد السماسرة والمهربين أبقى قرحة الاستيراد بالتمويل الذاتي، رغم اعتراض صندوق النقد ومن معه، ولكن السماسرة والمهربين فتحوا في المقابل الأبواب الأخرى للصندوق كي يرتع ويأمر.. وطوبى لمن يضحك أخيرًا!

* إن التراجعات التي تحققت في إطار التوسع في السوق الموازية، والاستيراد بالتمويل الذاتي، ظلت تمثل تعديلاً محدود الأثر في النظم الحاكمة للتجارة الخارجية. ولم يكن سهلاً في نفس الوقت إنهاء المؤسسة المصرية العامة للتجارة الخارجية التي يتم التعامل الخارجي الأساسي عبر شركاتها. الإنهاء الرسمي والقانوني لتأميم التجارة الخارجية وللاستيراد بشكل خاص كان متعذرًا في ذلك الوقت؛ ولذا كان لا بد من الالتفاف بهدف إفراغ هذه السيطرة الحكومية من مضمونها الحقيقي. وقد تمَّ ذلك بموافقة مجلس الوزراء في سبتمبر 1974 بإعادة تشكيل لجان البت؛ بحيث تصبح تحت إشراف الوزراء المختصين؛ طبقًا للتخصص السلعي، وصدر قرار وزير التجارة رقم 338 لسنة 1974 بإعادة تشكيل هذه اللجان (42 لجنة) ولتحديد اختصاصاتها، وكان الهدف المعلن لهذا التنظيم الجديد هو تحقيق اللامركزية، وسرعة البت في احتياجات القطاعات، وكان هذا الهدف يستجيب تمامًا للمطالبة التي ألحت عليها بعثة الصندوق في مشاوراتها.
* وإلى جانب هذا الإجراء، صدر قانون 93 لسنة 1974 الذي رخص للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين من المصريين، ممارسة حق تمثيل الشركات الأجنبية في مصر. هذا القانون كان تراجعًا خطيرًا عن القانون 107 لسنة 1961 الذي قصر أعمال الوكالة التجارية على القطاع العام. وعودة القطاع الخاص إلى مجال التوكيلات تحقق تحت ضغط صندوق النقد ومطالبات الاحتكارات الأجنبية، وتدافع عملائها المصريين الذين يعلمون الأرباح الخرافية السهلة، الناشئة عن هذا المجال. كان القرار الجمهوري يشترط ألا يكون الوكيل من بين العاملين في الحكومة والهيئات العامة، والمؤسسات العامة، وشركات القطاع العام، ما لم يكن قد مضى على تركه العمل بها سنتان على الأقل واشترط القرار أيضًا ألا يكون عضوًا في مجلس الشعب أو المتفرغين سياسيًّا طوال عضويتهم. وذلك ما لم يكن عاملاً في هذا قبل عضويته. أيضًا ألا يكون الوكيل من الأقارب من الدرجة الأولى لأحد العاملين بالحكومة والهيئات العامة ومؤسسات وشركات القطاع العام، من الفئة العالية ومَن في مستواهم.
والحقيقة أن أهمية كل هذه الشروط (التي حرصنا على إثباتها) تكمن في أنها تفضح وعي من أصدروا القرار بأنهم يفتحون بابًا خطرًا، تتسلل عن طريقه الشركات العابرة للجنسية لخلق فئة عميلة. وتفضح الوعي بخطورة أن تكون هذه الفئة قريبة أو مندمجة مع مراكز إصدار القرارات السياسية. ولكن تحقق طبعًا ما كان محتمًا أن يحدث، فالشركات كانت حريصة على التعاون بالذات مع النوعيات التي حاول القرار أن يستبعدها. وتحقق ذلك بالفعل عبر كافة أشكال التحايل. وسجل هذه الظاهرة تقرير رسمي (بعد العام الأول من الانفتاح) فقال إنه "واكبت سياسةَ الانفتاح الاقتصادي ظاهرتان خطيرتان عليه؛ هما ارتفاع الأسعار، وانتشار العمولات والسمسرة".... والسمسرة أو العمولة
لا ينبغي أن "تدفع لذوي المناصب الرسمية أو المتصلة بهم، وينبغي ألا تدفع السمسرة في صفقات عادية أو بشروط مجحفة"(78).

وقد فاحت رائحة التدخل من كبار المسئولين في الأعمال والصفقات؛ بحيث اضطر الرئيس السادات إلى المطالبة بسرعة تطبيق قانون الكسب غير المشروع "لتحديد القلة المنحرفة، وبهذا ندعم الثقة في اقتصادنا، ونرفع عن القيادات عُقَد الخوف من اتخاذ القرارات؛ خشية الاتهام بالانحراف"(79). ولكن نبه تقرير آخر إلى "أن على جهات الرقابة أن تنشط في تعقب الدخول الحرام، وفي الفئات العليا من أصحاب الدخول في المجتمع، وعليها أن تقترب من مواطن الشك عن صفقات الملايين وتعاقدات الخارج التي
لا يمكن أن يظهر أثر الانحراف فيها في إقرار يقدمه صاحب الشأن"(80) (طبقًا لقانون الكسب غير المشروع).

وحاول محمود القاضي (عضو مجلس الشعب آنذاك) أن يكشف أبعاد هذا التطور الخطير. فتقدم بسؤال إلى الحكومة يقول إن "هناك مكاتب استشارات، ولكن تلك المكاتب
لا علاقة لها بالاستشارات، وإنما هو تنظيم لعمليات الوكالة، ولا أعرف ما هو الذكاء والنبوغ الذي ظهر فجأة على بعض صغار السن من العباقرة والأصهار. إنني أطالب الحكومة أن تقدم إلى المجلس بيانًا بأسماء أصحاب هذه المكاتب الذين ظهرت عبقريتهم مبكرة في مكاتب التوكيلات أو الاستشارات، وأن يتضمن البيان المذكور عدد وحجم العمليات التي قام بها هؤلاء الأشخاص وشركاتهم الجديدة منذ 1967 حتى اليوم؛ وذلك حتى نكون على بينة من الأمر، وحتى نقطع الألسنة التي قد تتطاول على أُناس شرفاء، ويجب أن يتضمن البيان أيضًا حجم العمليات التي قامت بها هذه المكاتب مع الحكومة أو القطاع العام" (81).

وجه هذا السؤال إلى الحكومة في بداية مناقشة مشروع الخطة والموازنة العامة، ولكن رئيس مجلس الوزراء، والوزراء تجاهلوا الأمر تمامًا، وقد عاد محمود القاضي إلى آثار الموضوع، وألح في إحراج الحكومة، وفي المطالبة ببيان الوكلاء من أقارب المسئولين، ولكن الفصل التشريعي الأول، انفضَّ قبل أن يتلقى صاحب السؤال إجابته(82)،
ولا زالت قائمة الوكلاء – حتى لحظة كتابة هذا الكلام – من الأسرار العليا للدولة. وقد توصلت دراسة علمية أخيرة إلى أن عدد أصحاب التوكيلات كان حوالي 700 (في أواخر 1977). وهم فريقان: فريق العملاء القديم. وفريق العملاء الجديد. الفريق الأول من أصحاب مكاتب التوكيلات المؤَمَّمة عام 1961، وكانت بعض عناصره قد نقلت أعمالها خارج مصر، ثم عادت بعد الانفتاح، وكان البعض الآخر بمثابة غواصات داخل القطاع العام، برزت إلى السطح وعادت إلى نشاطها الصريح منذ أواخر 1973، وحتى قبل قانون وقرار 1974 – أما فريق العملاء الجديد (وهو الأكثر عددًا) فكان من الوافدين إلى صفوف الوكلاء والوسطاء والسماسرة والمستشارين، معتمدين على نفوذهم السياسي وصلاتهم بالجهاز التنفيذي (83).

وقد تضخمت هذه الفئة سريعًا، وأصبح دورها المؤثر معروفًا رغمه كل حيل التغطية القانونية، وأصبح ذائعًا ومنشورًا في عام 1976 أن سوق الأعمال غاص بكبار المسئولين السابقين (اثنان من رؤساء الوزراء السابقين – 22 وزيرًا سابقًا – عشرات من رؤساء شركات القطاع العام السابقين – ووكلاء الوزارات والمحافظين – حسبما نشر) وأن معظم الصفقات الكبرى تتم الآن عن طريق هؤلاء المستوردين، كما أنهم حصلوا على أكبر التوكيلات التجارية(84). وقد قيل أكثر من هذا الكلام رسميًا، وفي مواجهة الحكومة، حين أعلن عضو مجلس الشعب (عباس المصري) أن "هناك عشر أو خمس أُسَر على الأكثر من هذه الطبقة توجد في أوروبا وفي أمريكا. ولا نستطيع أن نعقد صفقة واحدة في الخارج إلا إذا وقع عليها نفر من هؤلاء، وهم بعيدون كل البعد عن أن يتأثروا بما نقوله هنا، أو ما نفرضه من ضرائب ومن.. إلخ؛ لأنهم في الخارج.
إن أي مشروع نريد له تمويلاً خارجيًّا – وهذا أمر تعرفه كل الشركات – يقال للذي يذهب إلى الخارج أن هذا المشروع يجب الاتصال في شأنه بفلان أو فلان بالاسم حتى تتم الصفقة" وقد صاحت بعض الأصوات يومها تطلب إعلان الأسماء، فرد عباس المصري: "أعرف هذه الأسماء جيدًا، وبعض الزملاء يعرفونها... وبعض هذه الأسماء تنتسب إلى رجال عظماء يتكلمون كثيرًا عن النظام الاشتراكي، وبعض هذه الأسماء تنتسب إلى رجال عظماء يتكلمون كثيرًا عن النظام الاشتراكي، وبعض هذه الأسماء لها نسب جديد في مصر" (85). هذا الكلام حين يقال في أية دولة، يقفز ممثلو الحكومة للتصدي، ولكن الحكومة عندنا آثرت أن تصمت تمامًا، فلم تبادر إلى نفي الاتهام، ولم تطلب من العضو إعلان الأسماء!
ولم نذهب بعيدًا؟ لقد أصبح معروفًا ومنشورًا أن عددًا من المسئولين نسقوا أعمالهم في الخارج على هيئة شركة قابضة للتجارة الدولية، مقرها لوكسمبورج، اسمها شركة "مالتي تريد" (يناير 1974). وقامت هذه بإنشاء شركة مساهمة فرنسية مقرها الدائم في باريس، وهذه الشركة وراء غالبية صفقات استيراد السلع الاستهلاكية؛ بمعنى أنها تحصل على عمولات غير مبررة عن هذه الصفقات، بل "يقال إن هذه الشركة تحصل على عمولات عن صفقات غريبة ومعقدة؛ مثل صفقة استيراد مصر لسكر من الصين الشعبية، عن طريق تاجر يمني. فقد حصلت الشركة المذكورة على 10 في المائة من تلك الصفقة عمولة لها" (86).
أي أنها لا تعتق شيئًا.. وعلم أنها قامت خلال عامي 1975، 1976 بعمليات بلغت 655 مليون دولار، منها 20 مليون دولار قيمة صادرات مصرية لأوروبا، ويتضمن هذا أنها قامت بتوريد 36% من احتياجات مصر من القمح، وحوالي 70% من السكر، كما حصلت على تسهيلات حكومية فرنسية بقيمة 200 ألف طنًا من الدقيق لمصر، وأيضًا قامت بتوريد جانب من احتياجات الصناعة من الآلات وحديد التسليح والخردة والفحم.. وقد سجلت تقارير للرقابة الإدارية مخالفات وانحرافات متعددة، في الصفقات المنفذة من خلال هذه الشركة (87). وللعلم، كان أول رئيس لهذه الشركة عبد المنعم القيسوني (الذي أصبح فيما بعدُ رئيسًا للمجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء)، وخلفه حامد السايح (الذي أصبح وزيرًا للاقتصاد) ثم مصطفى خليل (الذي أصبح رئيسًا لمجلس الوزراء) (88)، ورغم أن النشر عن هذه الشركة، كان على هيئة اتهام واضح، لم تجسر الحكومة على الرد، وحين أثير الموضوع في مجلس الشعب، امتنعت عن الإجابة (89).
ورغم خطورة كل هذه المعلومات، فإن ما تنشره الصحف الأجنبية، حول علاقة كبار المسئولين وأقاربهم بقطاع التجارة، أكثر خطورة.
* وقد حاول الفنيون الوطنيون – عبثًا - إعادة السيطرة المركزية على حركة الاستيراد، والحد من الصفقات المريبة، فأعلنت مؤسسة التجارة – في تقرير رسمي – أن لجان البت تعمل بمعزل عن المؤسسة المتخصصة. التي يمكنها إعطاء الصورة الأدق لأسواق السلع الخارجية (..) وأنه من الأفضل أن تمثل المؤسسة وشركاتها تمثيلاً فعليًا في لجان البت"، وتساءلت المؤسسة عن المدى الذي ينبغي أن يسمح به لمكاتب القطاع الخاص والأفراد، للتقدم مباشرة "للجان البت" بالعروض؛ سواء بالنسبة للاستيراد أو التصدير، فالنظام الذي أصبح معمولاً به كان يسمح للقطاع الخاص والأفراد للتقدم مباشرة للجان البت بالعروض التي يحصل عليها من الموردين الأجانب وفي حالة إرساء العطاءات عليه، يتولى القطاع العام عملية الاستيراد، وفتح الاعتمادات؛ وبذلك تكون عمولة هذه العمليات للقطاع الخاص، وتتم عادة بينه وبين المورد الأجنبي. وفي الاجتماعات الرسمية كشف بعض المسئولين في مؤسسة التجارة أنه أصبح من الواضح أن بعض الاحتياجات لا يعلن عنها قبل وقت كافٍ؛ حتى يتمكن الجميع من تقديم العروض؛ وفقًا لفرص متكافئة في الاشتراك؛ ضمانًا للوصول إلى أفضل الشروط وأحسن الأسعار، فأحيانًا يعلن عن بعض الاحتياجات ويحدد أسبوعًا لتقديم العروض، ويكون مطلوبًا من المورد أن يقدم الأسعار، ويفتح خطاب ضمان لتأكيد جدية العرض المقدم منه، وبالتالي يقوم بالاتفاق مع السفن التي يشحن عليها وتكاليفها، وقال المسئولون الوطنيون إن ذلك، يوصف في بعض الأحيان بالتعجيز، وتكون الفرصة بطبيعة الحال لمن عرف بهذه الاحتياجات مسبقًا بطريقة أو أخرى (!). وفي بعض الأحيان أيضًا كان يتم الإعلان عن تصدير سلع معينة تضم عدة شحنات في الشهر نفسه، ويطلب من المستوردين تقديم الأسعار خلال ثلاثة أيام، مما يؤدي إلى أن يقول البعض، "إن سفن المشتري لا بد وأن تكون في الإسكندرية" (!).
وفي غياب المؤسسة - كجهاز تنظيم مركزي - يعطي النظامُ الجديد لجانَ البت المبعثرة سلطاتٍ كاملة لشراء ما تحتاجه من مستلزمات الإنتاج، ولكن حيث إن السلعة الواحدة قد تكون مطلوبة لأكثر من قطاع، فإن البت فيها – وفق النظام المستحدث – كان للجان متعددة، وأدى ذلك إلى شراء السلعة الواحدة بأكثر من سعر. كذلك لوحظ أن لجان البت (الغياب الخبرة المجمعة والمبلورة) تقتصر في دراستها للعروض على الناحية السعرية دون أن تأخذ في الاعتبار بعض الظروف الأخرى؛ مثل إمكانيات الموردين في التوريد، ومركز هؤلاء الموردين في الخارج، وضرورة تفضيل التعاقد مع المنتجين مباشرة ودون وسطاء، على الأقل لضمان التوريد، ولإقامة علاقات دائمة ومباشرة. ولكن في هذا الأمر لم تكن القرارات الخاطئة؛ بسبب نقص الخبرة فقط، فقد أشار البعض بصراحة إلى أن لجان البت تعرضت "لضغوط" من بعض الجهات لتفضيل عروض معينة (90).
وفي إطار توسيع السوق الموازية صدر قرار وزير التجارة رقم 286 لسنة 1974 (في 22/8/1974) بشأن السلع المسموح بتوريدها إلى البلاد؛ طبقًا للقرار 64 لسنة 1974، وقد سجلت الرقابة الإدارية وزن أصحاب النفوذ والتوكيلات، فقالت إنه "توالى بعد ذلك صدور قرارات وزارية لوزير التجارة، تضمنت إضافة أصناف أخرى للقائمة الأساسية وهي القرارات أرقام 148، 466، 555 لسنة 1974، وأرقام 62، 143، 259، 508 لسنة 1975، والقرار 227 لسنة 1976، وقد ردد كثير من المتعاملين في هذه الآونة أن صدور قرارات وزارية؛ بإضافة بعض السلع قد حقق لبعض المستوردين مكاسب طائلة؛ إذ كانوا يقومون بالشحن والسعي لدى المسئولين؛ حتى تصدر القرارات بإضافة ما قاموا بشحنه من سلع. وعند نشر هذه القرارات وعلم باقي المستوردين بها، يكون قد أُتيح لهؤلاء تحقيق مكاسب طائلة؛ مستفيدين - في ذلك - من ظروف احتياج الأسواق للسلع التي استوردوها" (91).
* هذه الثغرات الخطيرة في خطوطنا الدفاعية، دبرتها ووسعتها – بكل الطرق – قوى الغزو الخارجي؛ لإحداث الانهيار. فسيل الوعود والأكاذيب حول التدفقات الهائلة للمعونات، كان عماد الخداع الاستراتيجي في هذه المرحلة من الغزو، وقد ساعدت هذه الوعود في الإخلال بأي تقديرات رشيدة، وشلت إرادة المقاومة عند مستويات مختلفة من السلطة، وعند قطاعات وطنية كثيرة. من هذا الجو من الوعد بآلاف الملايين من الدولارات، كان طبيعيًّا أن تسود موجة الاستيراد من الأسواق الغربية على أوسع نطاق. ولمَ لا، والمعونات والمِنَح ستتولى السداد؟
إلا أن الخديعة لم تكن إحدى الأدوات الفعالة، وكانت موجهة بالتحديد إلى الفئات الوطنية التي كان يمكن أن ترفض التورط في هذه السياسات، لولا أن وعيها زُيِّف، وإرادتها شُلَّتْ؛ ولذا نشطت – إلى جانب الخديعة – التوجيهات السياسية المباشرة المرتبطة بالدور الأمريكي في الصراع المصري الإسرائيلي. فالحد من العلاقات الاقتصادية مع الدول الاشتراكية، كان جزءًا من مخطط إبعاد السوفييت عن منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي كان لا بد أن يتسع الاستيراد من الأسواق الغربية – بقرار سياسي – رغم استحالة زيادة التصدير إلى هذه الأسواق بمعدلات معقولة. أيضًا كان لا بد من شرط دفع عجلة التعمير في منطقة قناة السويس (ويتضمن التعمير بالضرورة، زيادة في الاستيراد من الغرب).
وكان مفهومًا أن هذا التوجه السياسي، يؤثر حتمًا بالسالب على ميزان المدفوعات.
ولكن لم يكن كافيًا مع ذلك التزام القيادة السياسية بهذا التوجه لتحقيق كل النتيجة المطلوبة: أي انهيار ميزان المدفوعات؛ ولذا تدخلت الحكومات والشركات والبنوك الدولية لإكمال المهمة. فيلاحظ مثلاً أن الأسواق الغربية انفتحت عام 1974 بالذات للقطن المصري، واستوعبت القسم الأكبر من صادراته، ثم توقفت عن هذا الاتجاه في الأعوام التالية، فهل كان هذا محض صُدفة في أسواقٍ، تخضع معدلات ومناطق الاستيراد فيها، لقدر كبير من التوجيه الحكوميّ؟ جائز طبعًا أن تكون صدفة، ولكن جائز أيضًا – في إطار التصور العام للحركة – محاولة هذه الدول لدعم القرار السياسي، بتعديل التوزيع الجغرافي لتجارة مصر الخارجية، وللإيحاء بأن الاستغناء عن الأسواق التقليدية للقطن (في الشرق) مسألة ممكنة، ولحفز حركة الاستيراد من الغرب في العام الأول من الانفتاح.
أيضًا حدث أن تضافرت كل الجهات المتحالفة من أجل رفع أسعار الواردات بمعدلات غير طبيعية، ولا تتناسب مع معدلات التضخم التي كانت سائدة في الأسواق الموردة، ومثال القمح هنا صارخ؛ فواردات القمح زادت أسعارها أكثر من ثلاثة أضعاف. والقمح سلعة استراتيجية، وخضوع أسعارها لسياسات الحكومات في الغرب، مسألة لا خلاف عليها (4 دولة تحتكر تقريبًا صادرات العالم من الحبوب، وهي الولايات المتحدة – كندا – أستراليا – الأرجنتين. الولايات المتحدة تحتكم وحدها على 50% من الصادرات) وللتذكرة، فإن منع صادرات القمح ذات الترتيبات الخاصة في السداد (قانون 480) سلاح استُخدم كثيرًا في منازعات الولايات المتحدة مع الدول التابعة. وفي عام 1974 و1975 بالذات، كانت التصريحات العلنية حول استخدام القمح؛ كأداة للإخضاع السياسي تتطاير في جو شامل للدول النفطية والعربية، فإنه ظلت هناك مصلحة سياسية في رفع أسعار المواد الغذائية، وعلى رأسها القمح، وكان هناك دائمًا "من يصرخون بأن هناك علاقة مباشرة بين أسعار النفط، وبين أسعار الأسمدة والطعام، ومجاعة مئات الملايين في الهند وبجنلاديش والأقطار النامية الأخرى (غير البترولية) في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية" (92). أي كان هناك هدف إرباك اقتصاديات هذه الدول بشكل عام، واستخدام ذلك (ضمن أهداف أخرى) في الوقيعة بين الدول التابعة النفطية، والدول التابعة غير النفطية.
في هذا الإطار السياسي لاستخدامات القمح، نعتقد أن أثر المبالغة في رفع أسعاره على ميزان المدفوعات المصري
لم يكن صدفة. كانت الحكومة المصرية تتطلع – بسذاجة – إلى استيراد سلع زراعية بقروض طويلة الأجل من الولايات المتحدة، قيمتها 750 مليون دولار؛ وفقًا لبرنامج الغذاء من أجل السلام. كان هذا التطلع ضمن جو الآمال والأحلام، ولكن تبين أن كل الميزانية المقترحة، وفقًا للفقرة الأولى من القانون 480، للسنة المالية 1975، لا تتجاوز 742 مليون دولار، وفي نفس الوقت كان مخططًا ألا يزيد نصيب أي بلد– في سنة التكدير الشامل هذه – عن 10% من اعتمادات البرنامج. وعلى ذلك، خُصِّص لمصر 100 ألف طن من القمح (بدلاً من المليون التي طلبتها). وتلقت مصر – بمقتضى هذا البرنامج – شحنات مجانية من الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من عام 1974 لم تتجاوز قيمتها 2.8 مليون دولار (93).

صحيح أن هذا الرقم عبرت به الولايات المتحدة عن "عواطفها"، وأن منزلة مصر عندها لا تقل عن منزلة شيلي وفيتنام الجنوبية (قبل تحريرها) وكوريا الجنوبية، ولكن ظل الرقم ضئيلاً جدًا بالنسبة للاحتياجات التي تولت الولايات المتحدة توريدها بأسعار خرافية، بالتعاون مع حلفائها السياسيين، في [كارتل] القمح؛ فقد بلغت واردات القمح 2.5 مليون طن خلال 1974 قيمتها 682.8 مليون دولار، والدقيق 200 ألف طن قيمتها 64 مليون دولار، وكان متوسط ثمن الطن المتري من القمح المستورد 28 جنيهًا عام 1972 و99 جنيهًا عام 1974.
واعترف البنك الدولي بأن غياب التمويل السهل للمواد الغذائية، ضاعف أيضًا من المشكلة؛ حيث اضطرت مصر إلى استيراد هذه المواد باستخدام تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل جدًا، وبأسعار فائدة مرتفعة، وكان هذا سببًا أساسيًّا خلف أزمة السيولة الحادة، التي تجتازها مصر حتى الآن(94).
وبالإضافة إلى هذه السلعة المسعرة سياسيًّا، وبقرارات حكومية أو شبه حكومية، أصبح معروفًا الآن أن أسعار السلع المستوردة من الأسواق الغربية كانت – بشكل عام – بالغة الارتفاع عن المستويات الطبيعية. ومع ذلك توسع الاستيراد، ولم ينكمش. وكما ذكرنا عبر البنك الدولي عن دهشته الطريفة من هاتين النتيجتين "المتعارضتين"، ومع أن الأمر
لا يبدو عجيبًا أو مُلغزًا.

* فالشركات العابرة للجنسية (بحكم مصالحها المتشعبة، وعملياتها الإنتاجية والتسويقية في مختلفة الدول) تتابع بانتظام التطورات الدولية، وتنصح حكومات دولها، وتتقبل النصح، حول السياسات المقترحة في المناطق والدول المختلفة. هذا كلام لا يختلف حوله. ولجان الاستماع في الكونجرس الأمريكي، والتحقيقات المجراة حول الشركات العابرة للجنسية، وحول شركات النفط في الشرق الأوسط وغيره، وعشرات الكتب الصادرة في الغرب، مليئة بالمعلومات والأمثلة الوفيرة. ومنطقة الشرق الأوسط (بكل ما فيها) وإخضاع الدول العربية – وعلى رأسها مصر –
لم تكن لتبعد أبدًا عن مبدأ التنسيق بين الشركات والحكومات المعنية، متضمنًا توزيع الأدوار. لقد استطاعت الضغوط السياسية من الولايات المتحدة والهيئات الدولية تسهيل مهمة المهاجمين؛ سواء من خلال الموقع الاستراتيجي الحاكم الذي احتلته الولايات المتحدة في إدارة الصراع المصري الإسرائيلي، أو من خلال ما صاحب ذلك من حملة التضليل العام، أو قرار التعمير، أو قرارات "اللامركزية" في الاستيراد، والسماح للقطاع الخاص بأعمال الوكالة التجارية. وكان على الشركات أن توسع هذه الثغرات بكل إمكانياتها على نسج شبكة العملاء وتقديم الرَّشاوَى على أوسع نطاق.

وخبرة رجال الأعمال الغربيين في فتح الأسواق بهذه الأساليب "القذرة" خبرة عريقة ومعروفة، رغم أن الامتناع الواضح عن تناول الوقائع الهامة عن الفساد في تحليل مشاكل التنمية في البلاد المتخلفة، يعتبر من أوضح الأمثلة حول تحيز "منهج ما بعد الحرب" (في دراسات التنمية) كما لاحظ وبحق ميردال. والعدد المحدود من الاقتصاديين الغربيين الذي تناولوا قضية الفساد (في دراسات منشورة)، كان رأيهم أن الرشوة ضرورة وعملية تشحيم غير ضارة لإدارة متضخمة وبطيئة. وأعتقد أن أحدهم كان صادقًا تمامًا حين أوضح "أن الفساد في هذه الدول ليس مجموعة من الظواهر المتفرقة، ولكنه نسق سياسيّ يمكن لمن يمارسون السلطة أن يوجهوه بدقة معقولة"، فهذا التشخيص صحيح إذا كان مقصودًا "بمن يمارسون السلطة" المؤسسات المعنية في الدول المسيطرة – في المقام الأول – "فعالم الأعمال كان نشطًا بشكل ملحوظ، في حفز ممارسات الفساد مع السياسيين وكبار المسئولين. إن أحد القضايا الهامة التي تلزم التقارير الرسمية والمناقشات العامة الصمت حيالها هو الدور الذي يلعبه رجال الأعمال الغربيون المتنافسون على الأسواق في أقطار جنوب آسيا، أو المشتغلون في استثمارات مباشرة في المشروعات الصناعية هناك؛ سواء بشكل مستقل،
أو كمشروعات مشتركة مع الشركات المحلية أو الحكومات. إن ممثلي دوائر الأعمال الغربية، لا يشيرون أبدًا إلى هذا الموضوع علنًا، ولكن بوسعي أن أؤكد شخصيًّا أنهم يعترفون صراحة في الأحاديث الخاصة، أنه من الضروري عادة أن يُرشَى المسئولون الكبار والسياسيون من أجل عقد صفقة، ولا بد من رشوة مسئولين كبار ومسئولين صغار؛ لكي يديروا مشروعاتهم دون عقبات عديدة، (…) وبين الأقطار الغربية، يقال عادة: إن الشركات الفرنسية والأمريكية والألمانية الغربية (خاصة) هي أقل الشركات تمنُّعًا في استخدام الرَّشاوَى لشق طريقها، بل يقال: إن الشركات اليابانية أسخى أيضًا في هذا الباب. ومن ناحية أخرى
لم أسمع أبدًا ادعاءً بأن الوكالة التجارية للبلاد الشيوعية قدمت أو دفعت رشاوى فردية" (95).

"الأساليب القذرة" ممارسة معروفة - إذن - ومسلَّم بها، تتولاها إدارات محترفة؛ كجزء من الآليات الضرورية لفرض التبعية وإعادة إنتاجها. وقد حدث بالفعل أن تدفق ممثلو دوائر الأعمال الغربية منذ 1973، مع عملاء المخابرات، والمغامرين من كل نوع، وعملت كل الجوقة على بيع الأحلام، وعقد الصفقات، فتحولت اللامركزية في الاستيراد إلى فوضَى شاملة.
ونجحت الفئة المحلية العميلة للشركات الدولية في لعب دورها المرسوم لفتح السوق المصري على مصراعيه. كان مطلوبًا من هذه الفئة تمرير أكبر كمية ممكنة من الصفقات، وبأسعار تزيد كثيرًا عن المستويات الطبيعية، وكان عائد هذه الفئة يتناسب مع نجاحها في أداء المهمة، فالميل الحدي للحوافز (عمولات ورشاوى مالية وعينية) يتزايد بكثرة مع زيادة حجم الصفقة، ومع ارتفاع سعرها، فجرى التسابق المجنون لعملاء الشركات نحو تحقيق الهدف. وقضية ارتفاع العمولات لا يختلف عليها في الأوساط المصرية المسئولة، فأحمد أبو إسماعيل اعترف مثلاً في بيان مكتوب بأن الواردات المصرية "تحملت أعباء إضافية من فوائد وعمولات استيراد مرتفعة" (96). إلا أن البعض يتصور أن ارتفاع أسعار الواردات؛ تم فقط بسبب العمولات المرتفعة (أي لتغطية تكلفة العمولات) وهذا غير صحيح. فالعمولات المرتفعة كانت – كما قلنا – حافزًا أيضًا لرفع أسعار الواردات.
ولا ينبغي أن نفهم حرص الموردين – في حالتنا – على رفع الأسعار؛ باعتباره مجرد حرص تقليد تقليدي على تعظيم الربح، فالشركات العابرة للجنسية، لا تتعامل مع الأسعار، في كل صفقة وفي كل مكان؛ وفق هذا المنطق البسيط (كالبقال أو صاحب معرض وورشة الأحذية، رغم أن حتى هؤلاء، لهم هامش ما من المرونة في تحديد الأسعار).
فسياسة الأسعار – في الشركة العملاقة – تتحدد مركزيًّا كجزء من التخطيط العام، وتتحدد مستوياتها في الفروع المختلفة، وفي الدول المختلفة؛ حسب معاييرَ متعددة، وتختلف هذه المعايير في الدولة الواحدة من مرحلة إلى أخرى. إنها تهدف – في التحليل النهائي، ومن مجمل عملياتها – إلى تعظيم ربحها، ولكن هامشها في المناورة من أجل تحقيق الهدف، هامش واسع؛ سواء في إطار النظرة الشاملة لأعمال الشركة المنتشرة في أرجاء العالم، أو في إطار المصالح الاستراتيجية للدولة الأم التي تتبعها إدارة الشركة، أو في إطار المصالح الاستراتيجية للدول الغربية.
ففي بعض المراحل، يمكن أن تمارس سياسة إغلاق من أجل فتح أسواق معينة (أي: تباع السلع بسعر التكلفة
أو بسعر يقل عن التكلفة). وفي أحيان أخرى، تمتثلُ هذه الشركات لقوانين وقرارات حكوماتها، فتمتنع تمامًا عن التعامل مع أسواق معينة، ضد توجهاتها التلقائية والغريزية لتوسيع عملياتها وزيادة أرباحها؛ احترامًا لاعتبارات استراتيجية وسياسة (بدا هذا واضحًا في محاصرة الدول الاشتراكية الأوروبية والصين وكوبا – ورغم الانفراج الدولي لا زالت هناك ضوابط سياسة مراعاة).

وفي أحيان ثالثة، لا تكون هناك مقاطعة كاملة؛ وفق قواعدَ صريحة معلنة، ولكن يحصر التعامل من خلال إرهاق العميل بتعقيدات مكتبية، أو برفع السعر، أو بالامتناع عن تقديم تسهيلات في السداد (وبدا هذا مثلاً في التعامل مع مصر في النصف الثاني من الستينيات وأوائل السبعينيات). وفي أحيان رابعة، يطلق العنان للشركات؛ كي تتسابق بلا أي ضابط خلف غرائزها؛ لزيادة المبيعات ومضاعفة الأرباح، طالما أن هذا يتسق مع الخط الاستراتيجي والسياسي العام (وأبرز مثال هنا حالة البيع للدول المصدرة للنفط؛ حيث تكونت كارتلات من الشركات لرفع الأسعار؛ كجزء من مخططات ما يسمى إعادة تدوير البترودولارات).
وتخطيط هذه الشركات لعملياتها – وضمنها تخطيط الأسعار – لا يخضع فقط للاعتبارات الذاتية لكل شركة، فهو يتأثر تأثرًا كبيرًا – كما رأينا – بالتطورات والتوجيهات السياسية للدول الغربية. ومن حقنا - على ضوء ذلك - أن نفترض أنه كان مطلوبًا من الشركات العابرة للجنسية والموردين – بدءًا من 1974 – أن تتنافس في إحداث الانهيار المدبر لميزان المدفوعات المصري، وما يترتب على ذلك من الإغراق في الدين. كان المطلوب من دوائر الأعمال، أن تحق بوسائلها "الخاصة" ما عجز صندوق النقد الدولي عن تحقيقه؛ من خلال خفض سعر المصرف الرسمي. ويعني ذلك أن التنافس في زيادة المبيعات ورفع الأسعار لم يكن مجرد استجابة للتطلعات التلقائية لدوائر الأعمال، ولكن كان يعني أن هناك ضوءًا أخضرَ أمام هذه التطلعات التلقائية؛ لكي تندفع بأقصى طاقة، مع ضمان بألا تتعرض هذه الأعمال إلى مخاطرَ اقتصادية شديدة؛ بسبب هذا التوسع في البيع إلى عميل مفلس.
د- التفسير الثاني (الديون المصرفية): ينقلنا هذا إلى الوجه الآخر للعملة، ونقصد تراكم الديون القصيرة الأجل. ودور هذه الديون أنها يسرت وحفزت زيادة الاستيراد (حجمًا وسعرًا)، وأدت في نفس الوقت إلى مزيد من تكلفته. وأيضًا كانت طبيعة هذه الديون (قصر الآجال والمعدل العالي للفائدة) وكانت استخداماتها (في أوجه لا تزيد موارد النقد الأجنبي) تجعل السداد عند موعد الاستحقاق مستحيلاً، وبالتالي كانت كل زيادة في الاستيراد بواسطة هذه التسهيلات، تعني مزيدًا من الغرق في مأزق لا خلاص منه. وقد تحدثنا عن جملة التخدير بالأحلام التي صاحبت الانفتاح الاقتصادي. وهذه الحملة المدبرة، جعلت عددًا كبيرًا من المخدوعين، ينتظر فيض المِنح العربية النقدية، والمعونات الأمريكية والغربية لمواجهة العجز المتصاعد في ميزان المدفوعات، وهذه الحملة لم يكن ممكنًا أن تحقق أهدافها بالكفاءة المطلوبة، ما لم تكن مصحوبة ببعض "البشائر" تهل بين الحين والآخر، وتحقق ذلك من خلال التدفقات النقدية من دول الخليج العربية التي يبدو أنها استخدمت، وفق مخطط بارع، فمن حيث الكم، كانت بالقدر الذي يكفي لإبقاء جذوة الآمال متقدة، ولا يكفي في نفس الوقت لوقف الحاجة إلى الديون الصعبة. ومن حيث الأسلوب، لم تتدفق المعونات وفق اتفاقية تحدد الكميات والتوقيت. فلو تحددت الأمور – كما في تحويلات دعم الخرطوم – يكن عمل حسابات تنبؤات واقعية، فلو تحددت الأمور – كما في تحويلات دعم الخرطوم – يمكن عمل حسابات وتنبؤات واقعية، ويصعب خلق جو الإرباك والتمني اللازم للإغراق في الديون الصعبة؛ ولذا بدا الموقف من خلال التدفقات غير المنتظمة أن الاحتمالات بلا سقف، وتتوقف على نجاح الاتصالات السياسية، وبالفعل كانت الاتصالات تحدث بعض النتائج، وخاصة في أواخر 1973 بعد حرب أكتوبر، ولكن دخلت المسألة – مع احتواء وسيطرة الولايات المتحدة للموقف – في آلية الإغراق، وأصبحت التدفقات غير المنتظمة مسألة مدبرة، وبمثابة "الجزرة" التي تحفز "الحمار" على مواصلة السحب على التسهيلات المصرفية، وتسهيلات الموردين.
فبعد حرب أكتوبر وصلت المنح العربية على 725 مليون دولار، وغطت هذه المنح 111% من عجز السلع والخدمات، وبإضافة سداد المدفوعات الرأسمالية، تكون هذه المنح قد غطت 62% من إجمالي الالتزامات المالية الخارجية لمصر. وهذه الصورة كانت بشيرًا طيبًا لاحتمالات عام 1974، وبالفعل زادت المنح غير المنتظمة إلى مجموعة 1264 مليون دولار في ذلك العام (تتضمن حوالي 221 مليون دولار منحًا بترولية)، ولكن على أمل المزيد من المنح، وبكافة الدوافع الأخرى التي تحدثنا عنها، كان مطلوبًا ومحتمًا أن يتجاوز عجز السلع والخدمات هذا المبلغ، فالمنح غطت 78% فقط من العجز، و55% من إجمالي الالتزامات المالية الخارجية. ولم تتقدم مصادر المعونة الأخرى لستر الموقف؛ فالبنك الدولي الذي وعَد بتقديم 200 مليون دولار في الفترة من يوليو 1974 إلى يونيو 1975، لم يتم توقيع اتفاقية محددة معه؛ وبالتالي لم يبدأ السحب الفعلي في عام 1974 (باستثناء قرض قناة السويس). ونفس الأمر بالنسبة للوعود التي تلقتها مصر من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (oecd)، وبالنسبة للولايات المتحدة بالذات كانت الفجوة هائلة بين ما وعدت به القيادة السياسية، وبين ما اعتمدته فعلاً؛ فقد طلب الرئيس الأمريكي نيكسون من الكونجرس في أبريل 1974 اعتماد مبلغ هزيل (250 مليون دولار) كمعونة لمصر، وكتب نيكسون في رسالته إلى الكونجرس: "إن هذه المساعدات (لمصر والدول العربية)، ستُسهم في بناء ثقة هذه البلاد في الولايات المتحدة، وستدعم القوى المعتدلة في المنطقة" (24/4/1974)، وتحدث بعد ذلك كيسنجر إلى الكونجرس، وأوضح أن "هذه المساعدات هي محاولة لتكريس مؤشر جديد، يظهر لأول مرة منذ عقود من الزمان.
إن هذه المساعدات، هي الإسهام الأمريكي في خلق حوافز لدى كل الأطراف؛ لكي يديروا ظهورهم للحرب ويتوجهوا نحو السلام، ولكي يغيروا أولوياتِهم من الصراع إلى التعمير (...) حينما تدرسون مقترحاتِنا، نرجوكم أن تتذكروا فلسفتنا الأساسية، وهي تنمية التعاون ومنع المواجهات والضغوط علينا وعلى أصدقائنا وحلفائنا"(97) (26/4). ورغم الفجوة الهائلة بين الوعود الأولى وبين المبلغ المقترح (مشفوعًا بكل هذه التفسيرات) لم يعلن الكونجرس موافقته، إلا في أواخر العام، ولم يبدأ السحب عليه إلا عام 1975، وفي المقابل أدى التدهور في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي إلى هبوط معدل السحب على اتفاقيات التعاون الاقتصادي والفني، وإلى إيقاف كامل التسهيلات للموردين، وارتبط هذا وذاك بالتزامات السداد في هذين الحسابين، فأصبح صافي حركة رأس المال من الاتحاد السوفيتي إلى مصر بالسالب لأول مرة، وبلغ صافي التدفق من مصر إلى الاتحاد السوفيتي 228 مليون دولار (183 مليونًا اتفاقيات تعاون + 45 مليونًا تسهيلات مورِّدين، بخلاف أقساط الديون العسكرية) وإجمالاً أوضح تقرير للبنك الدولي أنَّ حسابات القروض المتوسطة والطويلة الأجل، سجلت عام 1974 تدفقًا صافيًا من مصر للخارج (وإلى دول الكتلة الغربية كما إلى دول الكتلة الشرقية) يصل إلى حوالي 132 مليون دولار (52 مليون جنيه)، فرغم التيسيرات التي قدمها الموردون الغربيون، زاد إجمالي تسهيلات الموردين عن مدفوعات السداد لهذا البند بحوالي 21 مليون دولار فقط (8 مليون جنيه) بينما المدفوعات على هذه الديون وصلت إلى 402 مليون دولار (157 مليون جنيه) (98)، وقد طرح تقرير ثانٍ للبنك الدولي، تقديرًا آخر، جعل التدفق إلى مصر 273 مليون دولار (تسهيلات موردين) + 199 مليون دولار (قروض متوسطة وطويلة) مقابل تدفق من مصر 281 مليون دولار (تسهيلات موردين) + 195 مليون دولار (قروض متوسطة وطويلة) (99)، ولكن تظل النتيجة الجوهرية واحدة، رغم هذا التعديل في الأرقام. فرصيد حسابات القروض الطويلة والمتوسطة الأجل، ظل بالسالب، وإن كان العجز – حسب التقدير الأخير – أقل بأربعة ملايين دولار. وتضاف إلى كل هذا مدفوعات الفوائد (أساسًا على تسهيلات الائتمان المصرفي) وقدمت (في المصدرين) بحوالي 165 و112.7 مليون دولار على التوالي، وكانت النتيجة التي تسللت وانتشرت عبر كل ذلك و"في غياب أيَّة آلية للتحكم" – كما يقول البنك الدولي – تفاقم الديون المصرفية.
* في آخر الفترة (يناير/ مارس) وصلت التسهيلات المصرفية القائمة (شاملة غير المسحوبة) 512.8 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (أبريل/ يونيو) وصلت إلى 635.7 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (يوليو/ سبتمبر) بلغت 754.7 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (أكتوبر/ ديسمبر)؛ أي مع آخر السنة، كان الرقم قد قفز إلى 1055.2 مليون جنيه (أو 2696 مليون دولار) (100). وكانت حوالي 440 مليون جنيه في نهاية 1973 (حوالي 1127 مليون دولار)، أي زيادة 139.6% في عام واحد. وبلغت الديون القائمة للمراسلين في الخارج (أي: الكميات المسحوبة أو خطابات الاعتمادات المدفوعة بوساطة هذه المؤسسات) 423 مليون جنيه (1082 مليون دولار) في نهاية 1974 بالمقارنة مع 195 مليون جنيه (449 مليون دولار) في نهاية 1973. وقد خلق هذا النوع من التمويل، بتكلفته الباهظة، أزمةَ سيولة خارجية حادة، وورث عام 1975 وضعًا يطالب فيه – خلال السنة – بسداد تسهيلات مصرفية وصلت قيمتها إلى حوالي 2050 مليون دولار. وبالنسبة لإجمالي الدين العام الخارجي المعلن، كان 31% مستحقًا للسداد خلال عامين، و40% خلال ثلاثة أعوام، 46% خلال أربعة أعوام(101).
* إن تسهيلات الموردين لا تعتبر في معظم الحالات ضمن الديون الميسرة، ومع ذلك فهو إجراء تقليدي لتشجيع المستوردين على زيادة مشترياتهم، ولكن هذا لا يعني أن الشركات تقدم هذه التسهيلات في أي وقت، ولأي عميل، وبأي مقدار، فهنا أيضًا يتحدد القرار بالأوضاع السياسية العامة، وبالأوضاع الخاصة للموردين، وبمدَى الثقة في اقتصاديات العميل، وفي قدرته على أداء التزاماته. ولكن الأوضاع السياسية تأتي أولاً. ويفسر هذا - إلى حد بعيد - هبوطَ تسهيلات الولايات المتحدة، ووقف القروض الحكومية الغربية. ومع الدور الأمريكي الجديد تغير الموقف، ويشير إلى هذا بصراحة تقرير البنك الدولي عن القروض. إلا أن التدفق الأكبر للديون، جاء في عام 1974، على يد البنوك (وليس عبر تسهيلات الموردين). وهذا "السخاء" – من البنوك – لا بد أن يكون أيضًا بقرار سياسي. فقد كان معروفًا تمامًا نضوب الموارد الذاتية للحكومة المصرية، وكان معروفًا أيضًا، أن المعونات النقدية لم تنهَمر على السلطات المصرية. كذلك لا يمكن أن يكون هذا التسابق بسبب الغفلة والبلاهة؛ فهذه الأوصاف لا تنطبق أبدًا على مصادر الإقراض الغربية (موردين أو بنوك)، ومن المسلم به أن البنوك الكبرى في الدول الغربية (وعلى رأسها البنوك الأمريكية) تسيطر على توزيع التسهيلات التمويلية في العالم، وفق شروط ومعاييرَ تحقق المصلحة السياسية والاقتصادية للدول المسيطرة، وعلى حساب الدول التابعة، وفي مواجهة "حالة خاصة" تتحدد سياسة هذه البنوك؛ وفقًا للتوجيهات والتكتيكات المحددة، ومركز التوجيه هو الحكومات الغربية (خاصة الحكومة الأمريكية – ولا ننسى أيضًا النفوذ الصهيوني) والهيئات الدولية (الصندوق والبنك وتوابعهما). وهناك "نظام للإنذار المبكر" أقامته الهيئات الدولية، ووظيفة هذا النظام – في الظروف العادية – إصدار توصيات محددة ضد تشجيع مزيد من تسهيلات الموردين والتسهيلات المصرفية إلى الدول "التي تقع في منطقة الخطر"(102)، وهذا "النظام" جزء من علاقات التشابك والتنسيق بين الهيئات الدولية، وبين المصارف والشركات الدولية، ووفقًا لهذه العلاقات لم يعمل "نظام الإنذار المبكر" عام 1974 بالنسبة لمصر (رغم توفر الدواعي الفنية لذلك)، بل تدافعت البنوك بحرص ودأَب غريبين، لإقراض مدين معسر!
* ولا يُخل بهذا التحليل، أن التوجه للإقراض المصرفي الواسع، تقابل مع التحرك التدريجي نحو إقامة خطوط ائتمان كبيرة مع البنوك العاملة في الشرق الأوسط، والمعتمدة بشدة على التمويل العربي، رغم استمرار توثيق الروابط التقليدية مع البنوك الأمريكية في أوروبا الغربية (كما يقول البنك الدولي) فأولاً: لا تخرج البنوك العاملة في الشرق الأوسط (وضمنها البنوك العربية الجنسية) بإدارتها وروابطها وتوجيهاتها عن شبكة البنوك الدولية. وثانيًا: ظلت البنوك الأوروبية والأمريكية مصدر الإقراض الأساسي. والصحيح أن المؤامرة في كل الأحوال مُوِّلت بالبترودولار؛ سواء في جانب المنح والمعونات، أو في جانب الديون المصرفية (سواء كانت ودائع البترودولار في مراكز الشرق الأوسط، أو في أفرع البنوك وخارج الشرق الأوسط).
وهذا النوع من التمويل، يهدِف من ناحية – إلى التخفيف من أعباء المخاطر الاقتصادية والسياسية، حول مصير هذه الديون (ومن هنا، السخاء في التسهيلات المصرفية، مقابل الشًُّح في تسهيلات الموردين). ومن ناحية أخرى كان هذا النوع من التمويل، يؤدي إلى تعميق التناقضات بين الدول والشعوب العربية.
هـ- التفسير الإجمالي: تمت "المؤامرة" بتدبير وتخطيط. ولا أعتقد أن هذا التحليل يقوم على الاختلاف أو الجموح في الخيال؛ فهو تحليل يستند إلى خلفية من المسلمات المعروفة والمنشورة عن آليات العلاقات بين دول السيطرة الغربية والدول التابعة، وإلى حقيقة أن الدول المسيطرة (والولايات المتحدة على رأسها) تلجأ إلى التخطيط في تحقيق أهدافها. وفوق كل ذلك، فإن تحليلنا يبدو تفسيرًا معقولاً لنتائجَ تبدو شاذة وغير مفهومة بغير هذه الفروض وهذا التحليل.
* و.. نعود الآن إلى التعليق على تفسير البنك الدولي لانهيار ميزان المدفوعات المصري؛ فقد سجل تقرير البنك أن التوسع في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار) كان ملحوظًا.. وأن "مفعول الدخل" الذي عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر" كان بوضوح القوة السائدة، ويبدو – كما يقول التقرير – أن الزيادة في الطلب المحلي نشطت الواردات، وصرفت الصادرات عن الأسواق الخارجية إلى الداخل. وهذا التفسير – على ضوء العرض السابق – لا يوصف بأنه سطحيّ، ولكن بأنه تفسير مغالط، فالنص على أن مفعول الأسعار لعِب دورًا مضادًا لمفعول الدخل، يتضمن إصرارًا على أن ارتفاع أسعار الواردات لعب دوره "التقليدي" في اتجاه خفض الاستيراد، ويعني هذا أن ارتفاع الأسعار، جعل الانهيار في ميزان المدفوعات أقل. وهذا الاستنتاج المطلق، والمجرد عن ظروف المكان والزمان المحددين، لا معنى له.
إن ارتفاع الأسعار لا يحقق خفضًا في الاستيراد، إلا إذا كانت التجارة الخارجية تُدار إدارة رشيدة، وتهدف – ضمن ما تهدف – إلى الحد من عجز ميزان المدفوعات، ولكن إذا أخذنا بالفرض الذي نبدأ منه التحليل، وهو أن هناك هجومًا مخططًا لإخضاع مصر، وأن انهيار ميزان المدفوعات سلاح مجرب في هذا الاتجاه، تكون زيادة الأسعار غير متعارضة في هذه الحالة مع زيادة حجم الواردات، بل إنهما يتعاونان معًا لتحقيق الهدف باتساق تام، والأدوات المستخدمة لإحداث الزيادة في الاتجاهين كانت نفس الأدوات: العمولات. و الرَّشاوَى – والتسهيلات الائتمانية الباهظة التكلفة. إن ارتفاع الأسعار لم يكن في حالتنا – إذن - "فرملة" للاستيراد، ولكنْ كان قوة دفع إضافية، تضافرت مع الزيادة المتعمدة في الاستيراد؛ ليكون الانهيار في ميزان المدفوعات أفعل.
هذه هي المغالطة الأولى، والمغالطة الثانية أن تقرير البنك صوَّر العملية كما لو أن زيادة في الموارد النقدية قد حدثت – كمرحلة – فأدت إلى زيادة الطلب الداخلي (لكل من سلع الاستثمار والاستهلاك) – في مرحلة تالية، وهذا تصوير يكون صحيحًا في حالة حصول مصر على مِنَح وقروض نقدية ميسرة، فأنفقت في زيادة الاستيراد – بطريقة غير رشيدة – رغم ارتفاع الأسعار، وإذا تم الأمر بهذه الصورة؛ فإننا لا نكون بصدد حالة تثير الفزع؛ إذ تكفي وقفة متأنية لتحليل ما تم – بأعصاب هادِئة – بهدف الترشيد، ولكننا – باعتراف البنك الدولي – بصدد كارثة، والكارثة لا تفهم
إلا على ضوء تصور معاكس تمامًا لتصور البنك، ووفقًا للوقائع الثابتة، فإن الموارد النقدية التي حصلت عليها مصر، كانت في قسم كبير منها مقيدةً بواردات بأسعار مرتفعة، أي: قدمت القروض الصَّعبة؛ لتنفيذ الواردات التي تم الاتفاق
أو التعاقد عليها، وبالتالي لم يزد الدخل فزاد الطلب المحلي، ولكن فرضت زيادة الطلب، فأدَّى ذلك إلى التورط في الديون الصعبة، أي أدى إلى زيادة الدخل بطريقة مشوهة.

* ويثير السخرية، أن مسئولاً كأحمد أبي إسماعيل يكتب في أواخر 1977 أن عدم تدفق المنح الموعودة والقروض الميسرة في عام 1974، والغرق في الديون الصعبة، كان بسبب أن "الأصدقاء" كانوا يجهلون واقع الحال، "فالعرب كانوا يظنون أن مصر تمر بعملية بناء اقتصادي كبير؛ نتيجة لتطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي. وبالنسبة للأصدقاء الأمريكان، فقد لمست بنفسي ذلك في مايو 1975؛ فقد كان لديهم الانطباع بأن الحالة أحسن من الوضع الحقيقي لها، فلم يصدقوا أننا بحاجة إلى مبالغَ ضخمة لسداد التسهيلات المصرفية التي اقترضتها حكومة د. حجازي في عام 1974، وللحصول على احتياجاتنا من السلع الرئيسَة، إلا بعد أن اجتمعت بخبراتهم وناقشت هذه الاحتياجات تفصيلا"(103).
هذا الكلام يثير السخرية، إذا كان أبو إسماعيل يعتقد أن "الأصدقاء الأمريكان" نكثوا بوعودهم في موضوع المعونات، وطلبوا من الدول النفطية أن تَغُل يدها هي الأخرى؛ لأنهم تصوروا - خطأ - أن الأحوال الاقتصادية مزدهرة، وخاصة بالنسبة لميزان المدفوعات. إنني أصدق أن الأمريكان أبلغوا أبا إسماعيل بهذا الكلام فعلاً، ولكن بهدف ابتزاز المفاوض المصري؛ لكي يرفع أية ضوابطَ على حرمة المعلومات، وأيضًا لكي يخدعوه لعام آخر. وبالفعل حدث أن مواصلة الإغراق في الديون الصعبة، استمرت أيضًا خلال عام 1975، ولم تتدفق المعونات في هذا العام، إلا بالقدر وللوظيفة التي تمثلها الجزرة في حكاية الحمار، وقد فعلوا ذلك رغم أنَّ أبا إسماعيل ناقش معهم "الاحتياجات تفصيلاً"، يعني تأكد أنَّ المسألة ليست مسألة جهل، ولكنَّ أبا إسماعيل لم يفهم - حتى الآن – المسألة، أو لا يريد أنْ يفهم.
و- الصورة الواقعية لتجارة مصر الخارجية: بعد هذا العرض لنتائج "اللامركزية" و"تحرير التجارة الخارجية من القيود البيروقراطية"، يحسن أن ندعم فروضنا العامة، وحديثنا عن دور الوكلاء، وأرقامنا السابقة، بعرض صورة واقعية لما آلت إليه حركة الاستيراد الفعلية بعد الانفتاح. فقد تضافر مع رفع الموردين لأسعار مبيعاتهم، عجز ميناء الإسكندرية عن الاتساع لهذا الكم من الواردات بغير تخطيط، فتوالت غرامات التأخير، وكانت رافدًا آخر لزيادة تكلفة الاستيراد. في يونيو 1974، أعلنت حالة الطوارئ القصوَى في ميناء الإسكندرية؛ لأن 945 ألف طنًا من البضائع كانت مكدسة في المخازن وعلى الأرصفة وداخل الميناء. وفي نوفمبر 1974 كشفت مناقشات لجنة النقل بمجلس الشعب مع المسئولين أن استمرار التكدس في الميناء يكلف مليون دولار يوميًّا – في المتوسط – كغرامات تأخير للسفن، وفي آخر السنة قدر إجمالي ما تحمَّله الاقتصاد المصري؛ كغرامات تأخير (خلال 1974) بحوالي 49 مليون دولار(104).
* إلا أن قضية ميناء الإسكندرية أصبحت تتجاوز كثيرًا أنها قضية اختناق وغرامات تأخير، وما نفهمه من طبيعة هذه الظاهرة، يعني أنه لم يكن ممكنًا احتواء الأزمة بمجرد تطوير الأساليب الإدارية للميناء، فالفوضى التي بدأت مع التوسع المجنون في التعاقد على صفقات عجيبة وبأسعار شاذة، كان لا بد أن تُستكمل بحلقات مترابطة في سلسلة التلاعب فور إتمام التعاقد، وعقب خروج البضائع من المصنع وشحنها فوق بواخرَ مستهلكة في عبوات غير ملائمة، ثم في مرحلة ما بعد التفريغ في ميناء الإسكندرية. ويحسن أن نشير هنا إلى الدراسة التي قامت بها الرقابة الإدارية مع 18 جهة مسئولة في الدولة(105)، وتتركز الدراسة على مها تتعرض له السلع المستوردة في الميناء في خطوات متتالية:
1. فالسفن تفرِغ شحناتِها دون حصر سليم للبضائع، من حيث الكميات والماركات والعلامات، وحالة غير السليم منها، ودون مطابقة هذه البضائع مع المسجل على "مانفستو" السفينة! كان العمل يجري في السابق على أن تتولَّى شركات الملاحة والتوكيلات الملاحية تعيين العدد المناسب من "كتبة الحصر" على كل سفينة، ثم يتولى مندوب التوكيل الملاحي بعد ذلك مسئولية تتبع البضائع؛ وفقًا للحصر المحقق على السفينة لحين تستيفها بالساحة، إذا كانت واردة تحت نظام (تسليم صاحبه) أو تسليمها إلى "مخزنجي الاستلام" بمخازن شركة المستودعات إذا كانت واردة تحت نظام (تسليم مخزن). كانت تلك – كما تشير دراسة الرقابة الإدارية – الطريقة المتبعة في حصر كميات البضائع المفرغة من السفن؛ فهي مسئولية شركات الملاحة، والتوكيلات الملاحية تتولاها بصفته مالكة للسفن أو وكيلة عن مُلاكها، يلزمها القانون بتسليم البضاعة المنقولة إلى أصحابها أو وكلائهم بالحالة التي تسلَّموها عليها كمًّا وكيفًا.
"ولكن بعد أن تضاعف حجم الواردات، وانخفض مستوى الأداء، وتغيرت طبيعة العلاقات بين الفئات العاملة في الميناء، فإن الطريقة التي كانت متبعة سابقًا، لم تعد مطبقة من الناحية العملية". وليست المسألة مجرد إهمال بطبيعة الحال، فكَتَبَة الحَصْر لا يتبعون أية جهة حكومية أو قطاع عام، وإنما لهم جمعية تعاونية تقوم بتشغيلهم، "وهذه الفئة من أخطر الفئات في ميناء الإسكندرية"، والمعلومات (في قسم البحث الجنائي بشرطة ميناء الإسكندرية) تشير إلى أن عددًا كبيرًا من هذه الفئة مشاركٌ "في علاقات غير سليمة" مع بعض أطقم البواخر.
وهذه العلاقات تعني - من البداية - أن بوابة مصر مفتوحة على مصراعيها، فكتبة الحصر يمكن أن يثبتوا عُجُوزات وهمية في بعض البضائع؛ لكي تُعتبر عجزًا من ميناء الشحن (ويتولى كاتب التوكيل مع مخزنجي ومراقب الباخرة التابعَين لنفس التوكيل الملاحي - عمليةَ الاستيلاء على هذه البضائع التي تم إثبات عجز بها، ثم إخراجها من الدائرة الجمركية بطرق غير مشروعة) ويمكن أيضًا إثبات العكس، أي: إثبات وصول بضاعة لم ترد أصلاً، أو وردت بمواصفات مختلفة تمامًا؛ لتغطية تلاعب المتعاقدين. وتتكفل الحلقات الأخرى من العملية بطمس معالم هذه الجريمة، وقد حاولت شركات التوكيلات الملاحية (قطاع عام) التخلص من كتبة الحصر "ولكن أجهزة الأمن تدخلت لإعادتهم، واللجان الكثيرة التي شُكِّلت لحل مشكلة كتبة الحصر، ولوضع حد للسرقة، والتهريب والتلاعب لم تنتهِ إلى نتيجة".
2. نتيجة لانعدام الجرد السليم أصبح هناك تلاعب خطير في كميات ونوع البضائع المفرغة، قبل تخزينها أو جمعها (تشوينها) في الساحات، ويعقب ذلك تلاعب آخر أثناء التخزين، أو تواجد البضائع في الساحات، "فالبضاعة يتم تفريغها دون رقابة حقيقية، وعملية الاستلام والتسليم تتم دون وجود رقيب". وتتم بالتالي "سرقات ضخمة ويثرى المنحرفون ثراء فاحشًا" ويساعد ذلك تواطؤ عمال الشحن والتفريغ، فهم لا يلتزمون بالأصول الفنية، ويترتب على ذلك (مع ضعف العبوات المستخدمة في التغليف في كثير من الأحوال) - الإضرارُ بسلامة البضائع المفرغة، والعبث بها، وهنا أيضًا المسألة ليست مجرد إهمال "ويؤكد ذلك أن شركة واحدة هي شركة الشحن والتفريغ (قطاع عام) بها 4500 عامل من بينهم 900 عامل من ذوي السوابق، ومن بينهم من له 19 سابقة "وقد طلب رئيس مجلس إدارة هذه الشركة من الجهات المختصة نقلهم إلى جهات أخرى؛ حيث إن العمل في ظل هذا الوضع، يعتبر نوعًا من أنواع المساعدة على التلاعب والانحراف" (ولم يلتفت طبعًا لهذا الطلب).
ورغم التعليمات الجمركية بضرورة ترتيب الطرود غير السليمة فور دخولها المخزن، وجردِها بحضور مندوب الملاحة "والمخزنجي" ومندوبي الجمارك، إلا أنه كثيرًا ما يتأخر هذا الجرد لفترة طويلة، تُتاح فيها فرصة العبث بمشمول تلك الطرود، والتلاعب فيها.
3. تتعرض أثناء وجودها بالميناء أو ملاحتها الخارجية لسرقات منظمة، تتولاها عصابات متخصصة، والأمر العجيب أن نظام الحراسة داخل الميناء هو – نفسه – أحد الأسباب الرئيسية التي تساعد على حدوث السرقات والانحراف والتلاعب (!) فضلاً عن قلة العدد، وتجزئة المسئولية، فإن "عددًا كبيرًا من الحراس – كما يقول المسئولون بالميناء – ليسوا على مستوى مناسب من الأمانة".
....."وعندما تنتهي مراحل تداول البضائع الواردة إلى الميناء؛ بتسليمها لأصحابها وخروجها من الدائرة الجمركية تتعرض البضائع لكثير من المخاطر، لا سيما المملوكة منها للقطاع العام؛ حيث تبدأ سلسلة المخاطر من الطريقة السيئة التي يتم بها سحب البضائع – خصوصًا من الساحات المكدسة – دون مراعاة لسلامة البضائع، وكنتيجة طبيعية لهذا الوضع، فإن عملية الصرف تتم بعيدًا عن أية رقابة؛ مما يفسح المجال للانحراف والتلاعب، أو التواطؤ مع أمناء مخازن المستودعات".
4. وفي الطريق من الميناء إلى المخازن الرئيسية داخل البلاد، نكون في "ساعة السرقة الشاملة التي تجمع وحدها كل الصور التي تحدث في كل المراحل. إن أرتال السيارات التي لا تنقطع والقطارات التي لا تتوقف، والصنادل البحرية فوق النيل تشارك كلها في نقل تلال البضائع التي تستوردها الدولة، ولكنها – كلها أيضًا – تمضي على الطريق الذي يرسمه اللصوص (...) وعند وصول البضائع إلى المخازن تبدأ مرحلة سرقة من نوع جديد سرقة تستغل القصور في الإجراءات المخزنية التي تؤدي بالضرورة إلى الانحراف".
* هذا ما آلت إليه تجارة مصر الخارجية في ظل الانفتاح كما صورها تقرير رسمي من أعلى هيئة رقابية. وهذه الصورة البشعة، لم تشكلها العمليات المتناثرة لصغار الأوغاد واللصوص – كما حاول التقرير أن يقول – فمن المعروف تمامًا (بالتحديد لدى المسئولين في الرقابة الإدارية) أن هناك مؤسسات منظمة. وعلى رأس الآلاف من الأوغاد الصغار، تتربع قيادات من "ناس مهمين"، تستخدم الرَّشاوَى والضرب والقتل، وتستخدم نفوذها لتحقيق أغراضها؛ ولهذا السبب ألقي بتقرير الرقابة الإدارية (ومَن معها) في سلة المهملات(106).
إن هذه الصورة من النهب الواسع، والفوضى الشاملة قوضت - عمليًّا - ما بقي من مركزية الإشراف على الاستيراد (رغم التأميم الشكلي الذي كان لا زال سائدًا). لقد تكفلت جهود الوكلاء وبعثرة لجان البت، بخلق سلطة فعلية، تقرر في كثير من الحالات ما يستورد وما لا يستورد خلف ظهر السلطة الإسمية (المؤسسة العامة للتجارة)، ولكن
لم يكن هذا كافيًا لتحقيق الفوضى الكاملة، وفقط بمتابعة المسار الفعلي للسلع المستوردة. يمكننا أن نتصور بشكل ملموس، كيف تدفقت الصفقات الغربية، وكيف انهار ميزان المدفوعات، بعد أن أصبح الأمر خارج أي سيطرة،
أو متابعة. إن أبواب مصر لم تفتح على مصاريعها. ولكن
لم تعد هناك أبواب أصلاً.

ويمكننا أن نقدر أن الموردين الأجانب كانوا المستفيد الأول من هذه الجريمة، واقتسم معهم الأرباح الخرافية وكلاء الشركات الأجنبية (ومن في مرتبتهم). إن الأخيرين هم القيادة المحلية "للمافيا" التي أحدثت الانهيار. ولا يعني ذلك أن كل الفساد الذي سيطر على مسار الاستيراد كان بتدبير الجهات الأجنبية، بل ويعني أنه انحصر – على الجانب المحلي – في عملاء أو وكلاء الشركات الأجنبية. فانتشار الفساد داخل النسيج الاجتماعي له منطقه الخاص والغلاب، وبالفعل دخلت في العملية عصابات تهريب محترفة، وتجار جملة من خارج أصحاب التوكيلات، ولكن ظل واضعو المخططات الخارجية أصحاب المصلحة الأبعد في إطلاق هذا المنطق الداخلي لانتشار الفساد، بلا مقاومة أو ردع بهدف إشاعة الفوضى والإرباك في إدارة الاقتصاد المصري أثناء هذه المرحلة من الغزو. فضلاً عن أن واضعي المخططات الخارجية (من عملائهم) كانوا أيضًا أصحاب القسم الأكبر من المكاسب المباشرة.
إن الصورة السابقة لم تكتمل كلها عام 1974، ولكن اكتملت واستمرت في سنوات تالية تطلبها تحقيق الأهداف الموضوعة للمرحلة الأولى من الغزو. وهذه الصورة كانت للإسكندرية، حيث عمليات الاستيراد الأساسية، ولكن الصورة التي أضيفت بعد ذلك في بورسعيد كانت أكثر بشاعة.
(6) انفجار التضخم:
أ- هكذا حققت الهجمة المشتركة المضمون الأساسي لتوصية صندوق النقد؛ بخفض سعر الصرف. اعترضت الحكومة على هذا المطلب؛ لكيلا يحدث انهيار في ميزان المدفوعات، ولكن الانهيار تحقق، وأصبحت المطالبة بخفض سعر الصرف، مجرد مطالبة باعتراف قانوني، بعد اعتراف الأمر الواقع. وقد حدث تطور موازٍ لذلك في مجال تحرير الأسعار الداخلية من الضوابط المركزية. رفضت الحكومة توصيات صندوق النقد بإحداث قفزة في هذا المجال؛ لأن العواقب لذلك – من منظور أيَّة إدارة محلية للنسق الاقتصادي – يراها الأعمى؛ فالعواقب لذلك – في الظروف السائدة – قفزة وخيمة في معدلات التضخم، تزيد الاقتصاد المصري فوضَى وإنهاكًا، وتزيد التوترات الاجتماعية السياسية. ولكن هنا أيضًا كان ما تخشى منه الإدارة الاقتصادية، هو عين ما يهدف إليه الصندوق؛ كي تصبح الإدارة أكثر حاجة ليد خارجية تنتشلها من مأزقها، وأكثر استعدادًا بالتالي لقبول شروط الإنقاذ؛ ولذا تضافرت القوَى الأخرى لدعم محاولات الصندوق، ولم يكن كافيًا لرد هذه الهجمات مجرد أن تعترض الحكومة على قرار بتحرير الأسعار (كما اعترضت على خفض سعر الصرف). لقد عبرت الحكومة عن معارضتها في هذا المجال، وعن إصرارها على التحكم في الاتجاهات التضخميَّة، بقفزة في اعتماد الدعم المباشر للأسعار. كان صافي اعتمادات الدعم 11 مليون جنيه (1972) وزاد إلى 89 مليون جنيه (1973) ثم قفز إلى 322 مليون جنيه (1974) حسب تقديرات الميزانية، ووصل فعليًّا إلى 330 مليون جنيه. والحقيقة أن اعتمادات الحكومة لضبط الأسعار المحلية تجاوزت هذه الأرقام الصريحة، فالسكر المستورد – على سبيل المثال – كان يتلقى دعمًا مباشرًا (يدخل في نطاق الأرقام السابقة) ولكنْ، كان هناك دعمٌ آخر غير مباشر، يتمثل في تثبيت سعر السكر المنتج محليًّا عند مستوى يقل كثيرًا عن السعر العالمي. وما ينطبق على السكر المنتج محليًّا، ينطبق طبعًا على عديد من السلع الأخرى (كمنتجات نهائية أو كمستلزمات إنتاج)، بالإضافة إلى استمرار إنفاق الدولة على الخدمات المجانية.
ومع ذلك ارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين بنسبة 10% (حسب البيانات الرسمية)، وكانت نسبة الارتفاع أعلى في قسم الطعام والشراب (15%- وهذا القسم يمثل أكثر من 50% من استهلاك الأسرة المصرية) (107)، إلا أن التقديرات غير الرسمية ذكرت أن الارتفاع الفعلي في الأسعار بلغ نحو 20% في ذلك العام(108). ويعني كل هذا انخفاضًا حقيقيًّا في متوسط الأجر، وتدهورًا ملموسًا في مستوى معيشة أصحاب الدخول الثابتة، رغم كل اعتمادات الدعم. وهذه نتيجة منطقية؛ فالتحكم في الاتجاهات التضخمية (وفي الأسعار)
لا يمكن أن يتم بإجراء واحد يتيم، وإنما بمجموعة من السياسات المتكاملة، وفي غيبة هذه السياسات، أو بالأصح في وجود مجموعة من السياسات المضادة لتثبيت الأسعار، كان لا بد أن تتهاوَى قرارات الدعم، فهي في هذه الحالة تحمل عوامل هزيمتها في داخلها. إن صندوق النقد له سياسات متسقة منطقيًّا، وهو يعترف بأن هذه السياسات تؤدي عادة إلى رفع الأسعار (وإن كان الارتفاع المتوقع من سياساته أعلى كثيرًا مما يزعم). ولكن السلطات المصرية أرادت أن تنفذ سياسات الولايات المتحدة والهيئات الدولية في الانفتاح، وأن تمنع في نفس الوقت ما يترتب عليها حتميًّا من انفلات في الأسعار. والأداة المستخدمة (الدعم) لتحقيق هذا الهدف كان أعجز من أن تواصل الصمود طويلاً ضد هجمات العوامل المحدثة للتضخم من كل جانب.

ب- فالميزانية العامة مثقلة بعجز كبير (653 مليون جنيه عام 1974 مقابل 386 مليون عام 1973)؛ ووفقًا للبيانات النقدية بلغ إسهام الجهاز المصرفي في تمويل هذا العجز 320 مليون جنيه، وهذه القفزة في عجز الميزانية يفسرها إلى حد كبير أن إعانات الدعم زادت بنسبة 270%، في الوقت الذي لم تزد فيه الإيرادات الجارية إلا بنحو 12%، وهاتان النسبتان تبلوران التعارض غير المحتمل بين الأهداف، فالنسبة الأولى تشير إلى محاولة الحكومة للمحافظة على مستوى المعيشة للجماهير العاملة، والنسبة الثانية تكشف انخفاض معدل الزيادات في الإيرادات الحقيقية، فالمؤسسات العامة (وخاصة أرباح المؤسسة العامة للقطن) أسهمت به 20% من الزيادة المحدودة في الإيرادات الجارية، والرسوم الجمركية (أكبر بنود الإيرادات) زادت فقط بنسبة 16% رغم تضاعف قيمة الواردات (بسبب المتأخرات في السداد). ولا شك أن زيادة الإيرادات الحقيقية للموازنة العامة؛ لتمويل الدعم تمويلاً غير تضخمي، لا يمكن أن يتحقق إلا باستحواذ الدولة على نصيب متعاظمٍ من الفائض الاقتصادي الذي يبدد على يد أصحاب الدخول العليا.
وبشكل عام، فإن الموارد الحقيقية لمصر محدودة بالناتج القومي الإجمالي، وهي لا يمكن أن تتسع لتمويل التزامات الدفاع الوطني؛ ولتمويل الاستثمارات الضرورية؛ ولتثبيت (ولا نقول رفع) مستوى المعيشة للجماهير العاملة.. ثم أيضًا لتوفير البذخ للبعض، إن السياسة الاقتصادية كان يبدو أنها أمام خيارين: فإما أن تزيد إيرادات الخزانة زيادة حقيقة، وإما أن تضغط (أو تلغى) التزاماتها بالنسبة لاعتمادات دعم الأسعار.
ولكنَّ الحكومة ابتدعت ومارست مسارًا ثالثًا؛ فأصرت على مواصلة الدعم دون زيادة مناسبة في الإيرادات الحقيقية. وإذا تذكرنا المناخ السياسي العام الذي تحدثنا عنه، فإنه يبدو أن الحكومة أقامت حساباتها على فرض تدفق هائل من المعونات يسد الفجوة، والنتيجة العملية التي تمخضت عن ذلك كانت سد الفجوة بزيادة كم الإصدار النقدي، الذي حافظت به الحكومة (شكليًّا) على قدر كبير من التزاماتها المعلنة، فالعاملون يقبضون رواتبهم بانتظام، والاعتمادات تخصص على الورق لهدف الدعم. ووصل البعض من ذلك إلى أن سياسة الدعم على هذا النحو كان "لها أثرها السلبي على ارتفاع الأسعار في الداخل؛ نتيجة لما تضيفه من عبء على ميزانية الدولة، مما قد يضطرها إلى الالتجاء للاقتراض من البنك المركزي لتمويل هذه السياسة"(109).
ولكنني لا أعتقد أن الحصاد النهائي لأثر الدعم على الأسعار كان بالسالب، ولكنه من ناحية أخرى، لم يكن بالإيجاب بالقدر الذي يبدو من أرقام الاعتمادات، وفي كل الأحوال لم يكن ممكنًا لسياسة إبقاء الدعم أن تستمر على هذا النحو طويلاً، فالتزايد في طبع البنكنوت بهذه المعدلات مسألة خطيرة، ويُضاف إلى ذلك أن الدولة عمَدت إلى تغطية موقفها جزئيًّا بزيادة الاقتراض من الخارج، وبشروط صعبة لزيادة المعروض من السلع (بعد أن تلكأت المعونات الموعودة)، وهذه أيضًا مسألة خطيرة، ويستحيل عمليًّا الاستمرار فيها.
ج- والحقيقة أنه إذا كان إبقاء الدعم قد حدَّ - جزئيًّا ومؤقتًا - من التضخم، وحد بالتالي من عمق وسرعة إعادة توزيع الناتج القومي الإجمالي، إلا أن مجمل السياسات الاقتصادية كان يدفع في عكس هذا الاتجاه، ويحكم الحصار حول مفعول وإمكانية استمرار سياسة الدعم؛ فوفقًا لتوجيهات القيادة السياسية، والجهات الخارجية، تحولت بسرعة شعارات "تحرير" القطاع الخاص، إلى فوضى شاملة، فتكاثرت الأنشطة الطفيلية، وانتشرت كأورام سرطانية تفتك بالنسيج الاجتماعي في كل الاتجاهات، وهذه الأنشطة (المضاربة والتهريب والسوق السوداء والسرقات والعمولات و الرَّشاوَى.. إلخ) شكلت شبكة مترابطة للنهب واستخدمت هذه الفئة الصاعدة إمكانياتها المتنوعة (وعلى رأسها التوسع في إقامة العلاقات العضوية مع مستويات الغدارة الحكومية المختلفة) في الاستفادة من جو التضخم؛ لفرض فوضى متزايدة في نسق الأسعار. لم "تتحرر" الأسعار لتصبح أكثر عقلانية ومتسقة مع تكلفة الإنتاج، أو مع الأسعار العالمية كما زعم صندوق النقد، ولكن لتصبح خاضعة للأهواء، ولقدرة أصحاب الأعمال، ومبرمي الصفقات على تعظيم نصيبهم من كعكة الناتج القومي الإجمالي، ولم تنج اعتمادات الدعم نفسها من استنزاف هؤلاء الناس، وأصبحت هذه حجة إضافية تُستخدم ضد مبدأ الدعم، مع أن حقيقة أن هذه الفئة تلتهم جزءًا من اعتمادات الدعم يمكن أن تكون حجة إضافية لتصفية الأنشطة الطفيلية.
إلا أن تصفية الأنشطة الطفيلية لم تعد ميسورة؛ فقد انتشر أصحاب هذه الأنشطة بسرعة رهيبة، مستفيدين من كل الظروف المواتية المتاحة، وبالتالي غلظ قوامهم، وأصبحوا يملكون قدرة ذاتية على حماية مصالحهم ومواقعهم (إذا كان هناك من يكفر في مهاجمتها). ولكن لم يكن في قيادة السلطة من يفكر في مثل هذه المحاولة، بل كانت الاختيارات السياسية لقيادة السلطة تسبغ الحماية وتوفر الأمان. فالمساس بفئة الأغنياء الجدد يتعارض تمامًا مع مبدأ الانفتاح كما أملته الجهات الغربية، وقبلته القيادة المصرية، وكانت الحجة النظرية بالمناسبة أن هؤلاء الأفاقين الأوغاد هم مناط الأمل لإنهاض مصر والاقتصاد المصري!.
كان ممنوعًا – إذن - تصفية الأنشطة الطفيلية التي تولدت ثروات من غير عمل منتج، والتي تستحيل متابعتها في حالة تحصيل ضرائب (وهي نية لم تكن موجودة على أية حال) وترتب على كل ذلك تعذر زيادة إيرادات الميزانية، بل لم يكن ممكنًا منع استنزافها، وكان لا بد أن تتغلب في النهاية فوضى ارتفاع الأسعار على محاولات التحكم.
د- وقد نشير بشكل خاص إلى هدف التركيز على تعمير منطقة القناة (لأسباب استراتيجية) في ظروف فتح باب العمل في الأقطار المجاورة لعمال الإنشاء بلا ضابط (كهدف للانفتاح المرسل). إن الاستثمار في قطاع التعمير يولد بطبيعته ضغوطًا تضخمية (حيث إنه تيار من الإنفاق النقدي لا تقابله زيادة في الإنتاج السلعي)، وقد أدت المبالغة والفوضى في حسابات التكلفة، وندرة العمالة المدربة (نتيجة الهجرة) إلى مضاعفة النتائج التضخمية للتعمير، وإلى تشويه هيكل الأجور، وتسريع إعادة توزيع الناتج القومي لصالح أصحاب الأعمال.
هـ- إن حديثنا السابق أشار إلى أن قرار الحكومة بمواصلة التحكم في الأسعار، عارضته الأهداف والسياسات الأخرى، فأصابته عوامل التعرية وتآكل، ولكن أشاع المسئولون (لتبرير الخيبة) أن معدلات التضخم التي واجهناها بدءًا من عام 1975 كانت في الأساس مستوردة، بمعنى أن ارتفاع أسعار الواردات أدى إلى ارتفاع الأسعار في سوقنا المحلي. ولكن هذا التحديد للتضخم المستورد كانت تكفي لهدمه دراسةُ كريمة كريم، التي أثبتت أن الأثر الكمي لارتفاع أسعار الواردات، لم يكن المكوِّنَ الأساسي لارتفاع الأسعار داخل السوق المصرية (110). وقد عضدت هذه الدراسة نتائج دراسات أخرى لعدد من الاقتصاديين الوطنيين، أوضحت أن المتغيرات الأساسية التي أفضت إلى ارتفاع الأسعار، لا تخرج عن دائرة التحكم للدولة؛ أي أن التحكم في الأسعار كان ممكنًا من خلال سياسات اقتصادية متكاملة وملائمة(111).
ونحن نرفض طبعًا فكرة التضخم المستورد بالتحديد الذي طرحه الاقتصاديون الرسميون. ولو حصرنا بحثنا في إطار حسابات اقتصادية بحتة واستاتيكيَّة، فإن الرد الذي قدمته كريمة، يكفي - كما قلنا - لدحض هذه الفكرة. إلا أننا نرفض في الحقيقة تحليل أسباب التضخم بمنهج وحيد الجانب واستاتيكي؛ ولذا نختلف أيضًا مع منهج ونتائج الدراسات الأخرى التي أشرنا إليها. فبالمنهج المركب، وبالتحليل الديناميكي وفق مفهوم التبعية، لا يكون كم الإسهام المنخفض للأسعار الخارجية في مركب التضخم في سنة معينة، أساسًا مقبولاً للقول بأن التضخم الذي عانيناه منذ 1974 كان مشكلة داخلية في الأساس. كذلك لا يكفي أن نرصد أن غالبية المتغيرات الاقتصادية المؤثرة في معدلات التضخم مقيمة وعاملة داخل النسق الاقتصادي المصري؛ كي نستنتج أن التحكم في الأسعار ممكن. إن التضخم – في حالتنا المحددة– هو أساسًا اختلال في العلاقة الملائمة بين التدفقات النقدية من ناحية وتدفقات السلع والخدمات من ناحية أخرى، أو هو – حسب التعبير الشائع – نقود كثيرة تطارد سلعًا وخدماتٍ قليلة. والمتغير الأول (النقود) يتحدد بسياسة الإصدار والائتمان والمتغير الثاني (السلع والخدمات) يتحدد بقدرات الاقتصاد القومي على الإنتاج، وعلى نتائجَ تعامله مع الأسواق الخارجية، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن كل هذه المتغيرات تظل تابعة للسلطة السياسية (بكل ما تمثله اقتصاديًّا واجتماعيًّا) صاحبة الصلاحيات الواسعة في صياغة هذه المتغيرات، وفي ترتيبها والتعامل معها.
والقول بأن في وُسْع الدولة أن تتحكم في الأسعار من خلال سياسات اقتصادية متكاملة وملائمة، ينطوي على فرض أن هذه السلطة (أو الإدارة المركزية) مستقلة، وقادرة على التعامل مع المتغيرات المختلفة وفق سياسات اقتصادية رشيدة تتخذها بعيدًا عن تسلط القوى الخارجية وحلفائها في الداخل. هذا الفرض (الاستقلال)، وهذه النتيجة (إمكان التحكم في الأسعار) يبرران بالفعل الحديث عن انفجار التضخم باعتباره مشكلة داخلية. ولكن كل هذا لا علاقة له بما نحن بصدد تفسيره في حالتنا. فالسلطة صاحبة الصلاحيات الواسعة (في الدول التابعة) توجه من الخارج، وسياساتها الاقتصادية (التي تفضي - ضمن ما تفضي - إلى معدلات معينة من التضخم) تحدد في جوهرها من الخارج. ومن هذا المنطلق ينبغي على الاقتصادي الوطني أن يكشف أن المتغيرات المُفضية للتضخم تخرج عن دائرة التحكم للدولة "الرسمية"، وأن انفجار التضخم بهذا المعنى، لا يكون مشكلة داخلية في الأساس. ليست القضية أن يقدم الاقتصادي وصفة تبدو معقولة لمكافحة التضخم، فأهم من ذلك أن تكون "الوصفة" قابلة للتشغيل، ويتطلب ذلك تحديد أن السبب الأول لإعاقة التشغيل يكمن في السلطة "الفعلية" الموجودة بالخارج، وفي التشويهات التي أحدثتها في البنية الاقتصادية والاجتماعية لتنسيق مع مصالحها وسياساتها.
من هذا المنطلق لن نحاكمَ العوامل الخارجية، ونعتبرها السبب الأول لانفجار التضخم، بمعيار أثر أسعار السلع المستوردة على هيكل الأسعار المحلية في سنة معينة؛ فهذا المعيار مفيد فقط في ظل إدارة مستقلة، ولكن في حالة الدولة التابعة تحاكم العوامل الخارجية بمعيار سياسة الانفتاح بشروط الدول المسيطرة، والتي لا تعني بالنس

نور 06-07-2011 02:14 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(1) المجالات والتسهيلات:
أ- كان هناك اختراقٌ خطير آخر، للاستقلال الاقتصادي تمثل في القانون 43 لسنة 1974 – (استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة) (112). وقد أشرنا في بداية الفصل إلى الجو الذي أحاط بمناقشة وإقرار هذا القانون، كانت الوعود بفيض من المنح والمعونات، تصاحبها وعود مماثلة بتدفق مشروعات الاستثمار المباشر. فقط نفتح الباب، ونترك لها باقي المهمة! وحدث أيامها أن ارتفعت أصوات تنبه إلى بدهيَّة أن تجارب الدول التابعة في الاستسلام لهذه الآمال كانت بلا أساس، "وأن الاعتماد على قوانين السوق وحوافز الربح يدفع الجزء الأكبر من رءوس الأموال الأجنبية الخاصة، إلى الانسياب تلقائيًّا نحو الدول الصناعية، وليس نحو الدول النامية. ففي الأولى (مهما فعلنا) أمان أكبر، وعائد أعلى.
وهذا الكلام صحيح، بالذات في مجال الصناعات المتقدمة ذات التكنولوجيا المعقدة والسريعة التجدد، وهو المجال الذي نتمنى أن تتقدم إليه المشروعات الغربية"(113) ولكن مثل هذا الكلام، لم يكن يجد من يسمعه، ورغم مرور الأعوام، ووضوح الخبرة العملية، ظل الأفَّاقون يشيعون الآمال؛ بحيث كان علي الجريتلي مضطرًا في عام 1977 إلى التذكير والتحذير "في ضوء التاريخ الحديث، من الإسراف في التفاؤل بشأن احتمالات ورود المال العربي الخاص؛ إذ يئُول معظم فائض النفط للحكومات العربية والهيئات الحكومية المتخصصة في استثماره، بينما نصيب القطاع الخاص منه ما زال ضئيلاً، فضلاً عن قلة عدد رجال الأعمال العرب في غير مجال التجارة" (114).
ب- وقد اشتمل القانون 43 على تنازلات سخيَّة للمستثمرين الأجانب، شملت إعفاءات ضريبية جمركية، وأباحت للمشروعات - المنشأة وفقًا لأحكام هذا القانون - حقَّ الاستيراد، وفتح حسابات بالنقد الأجنبي تستخدمها دون إذن أو تراخيص، خاصة لدفع قيمة وارداتها السلعية والاستثمارية، والمصروفات غير المنظورة، ولسداد أقساط القروض الخارجية وفوائدها، أو لأية أغراض لأزمة لهذه المشروعات، ولكن أهمّ من ذلك، كان اعتبار هذه المشروعات من شركات القطاع الخاص، حتى إذا كان الشريك من القطاع العام، وترتب على ذلك إبعاد المشروعات المشتركة من دائرة القوانين والتنظيمات المحددة للقطاع العام، والتي تيسر التخطيط المركزي. ويعني ذلك كما قال فؤاد مرسي أن "نظام الاستثمار الأجنبي سوف يشكل بمشروعاته اقتصادًا قائمًا بذاته داخل الاقتصاد المصري".. بل "ويبدو الخطر من احتمال تحول القطاع الأجنبي داخل الاقتصاد المصري، إلى قطاع ثالث قائد"(115)، وهذا القطاع يخرجه القانون أيضًا عن سيادة الدولة، فقد نص على ضمان بعدم التأميم، وهو نص يتعارض مع المادة 35 من الدستور، وقد علقنا أيامها بأن هذا النص "لا يؤكد ثقة المستثمر الأجنبي.. بالعكس، وهو يشكك المستثمر في مدى جدية الضمانات التي نقدمها، وفي مدى استعدادنا لاحترام هذه الضمانات" (116)؛ لأن القانون الحالي – كما يقول علي الجريتلي – "لا يقيد الحكومات المستقلة. والمبدأ المستقر دوليًّا، هو أن التأميم حق غير منازَع فيه للدولة ذات السيادة، بشرط دفع تعويض عادل للمستثمرين الأجانب. وقد أوفت مصر بالتزاماتها كاملة في هذا الصدد، في أعقاب التأميم الشامل، ودفعت قُرابة ثمانين مليونًا من الجنيهات الإسترلينية للحكومات المعنية، وتمت المفاوضات الخاصة بالتعويض بإشراف البنك الدولي" (117). ومن الطريف أن نذكر هنا أن الاتفاقيات المختلفة التي وقعتها الحكومة المصرية مع الدول صاحبة الاستثمارات المحتملة؛ بهدف التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات لم تتضمن نصًا يمنع التأميم، وهذا طبيعي؛ لأن الدول "المحترمة" التي وقعت معنا الاتفاقيات رفضت أن يكون هذا من الضمانات المنصوص عليها؛ لأنها لا يمكن أن تلتزم من ناحيتها بشيء كهذا.
ج- وقد توسع القانون 43 في المجالات المفتوحة أمام رأس المال الأجنبي، فوفقًا للمادة الثالثة، نفتح الباب في التصنع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل وغيرها من المجالات – استصلاح الأراضي البور الصحراوية واستزراعها، ومشروعات تنمية الإنتاج الحيواني والثروة المائية، ويكون هذا الاستصلاح والاستزراع بطريقة الإيجار طويل الأجل (50 سنة يجوز مدها إلى مدة أو مدد تصل إلى 50 سنة أخرى) – مشروعات الإسكان – شركات الاستثمار التي تهدف إلى توظيف الأموال في المجالات المنصوص عليها في هذا القانون – بنوك الاستثمار وبنوك الأعمال وشركات إعادة التأمين بالعملات الحرة – البنوك التي تقوم بعمليات بالعملة المحلية متى كانت في صورة مشروعات مشتركة مع رأس مال محلي مملوك لمصريين، لا تقل نسبته في جميع الأحوال عن 51%.
وأستأذن القارئ هنا في العودة إلى مقال مجلة الطليعة الذي ناقش إدخال المستثمرين الأجانب في كل هذه المجالات، على اعتبار أنه يحمل في صياغته نبض الانفعال في لحظة الصراع. سجل المقال أن القانون خرج على ورقة أكتوبر (التي كان الاستفتاء قد تم عليها منذ أيام)، وكانت الورقة تؤكد "ما جاء في ميثاق العمل الوطني من أننا نقبل المساعدات غير المشروطة، والقروض، كما نقبل الاستثمار المباشر في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديثة. وقالت ورقة أكتوبر: "إن هذا بالدقة هو خطنا".
* ولكنَّ قانون الاستثمار، حدد مجالاتٍ لا تدخل في هذا الخط، فلماذا يدخلُ رأس المال الأجنبي في مجال السياحة – مثلاً – رغم أنها قطاع لا يحتاج إلى مهارة تكنولوجية عالية تفتقدها؟ قد يقال: إن المقصود هو المستثمر العربي.. ولكن القانون لم يحدد.
* ويلاحظ بشكل عام أن القانون لم يضع ضوابطَ كافية تمنع أن يترتب على الاستثمار الأجنبي مزيد من العجز في ميزان المدفوعات. ينبغي أن نطمئن إلى أن قيمة ما ستحوله المشروعات الأجنبية من أرباح وفوائدَ سنوية، وكذلك ما ستدفعه لقاء استيراد قطع الغيار ومستلزمات الإنتاج، لا يزيد على ما يدخل بلدنا من نقد أجنبي في مختلف أشكال رأس المال المستثمر. قد يقال إن النص على أن مشروعات الاستثمار سيُسمح بها في نطاق الخطة القومية (م3) يحقق الاطمئنان المطلوب، وإن الخطة ستراعي هذا الاعتبار عند اقتراحها قائمة المشروعات. وهذا صحيح إلى حد ما – ولكن سوابقنا مع تخلُّف التخطيط والمتابعة في مراحلَ كثيرة، وتحديد مشروع القانون لبعض مجالات استثمار رأس المال الأجنبي، يجعل الإنسان يقلق عند السماح بالعمل في مجال كالنقل. فهو – كالسياحة – لا يحتاج خبرات فنية، ولكنه يختلف عن السياحة مع ذلك؛ فالسياحة مصدر للنقد الأجنبي، وبالتالي فإن تحويل أرباحها إلى الخارج هو تحويل لجزء من النقد الأجنبي الذي أدخلته إلى مصر. ولكن في حالة النقل سيحصل صاحب المشروع على إيراداته بالعملة المصرية ثم يصدر أرباحه بالنقد الأجنبي.
* نفس الأمر في حالة الإسكان فوق المتوسط والإداري الذي يدفع إيجاره بالعملة المحلية، فإن لصاحب هذه المساكن تحويل صافي العائد إلى الخارج بالنقد الأجنبي، في حدود 6% سنويًّا من المال المستثمر.
وبالمناسبة، فإن القطاع الخاص المصري، يتجه في مجال الإسكان إلى الإسكان فوق المتوسط، ولا يسهم في حل مشاكل الإسكان لجماهيرنا الواسعة إلا بأقل القليل.. ولكن أصحاب الدخول العالية لا يكتفون بهذا، بل يطلبون أن يتجه رأس المال العربي أيضًا إلى خدمتهم.. ثم يتحمل المجتمع كله مهمة تحويل عائد هذه الخدمة المقدمة إليهم!. نحن
لا نطلب ضوابطَ في صلب القانون، تضمن أن تكون الحصيلة العامة لكل المشروعات، في ميزان المدفوعات إيجابية.

* مسألة أخرى: السماح لرأس المال الأجنبي باستصلاح الأراضي البور، واستزراعها بطريق الإيجار طويل الأجل وتنمية الثروة المائية. وفي مصر بالذات.. يعني هذا أن يشاركنا رأس المال الأجنبي في عائد السد العالي الذي حاربنا بالسلاح لإقامته. وهذا غير مقبول، فالسد العالي ليس من الهياكل الارتكازية التي تقيمها الدولة كي يستفيد منها توسُّع الاستثمار الخاص؛ المصري والأجنبي. السد العالي ليس توسيعًا لميناء، أو مدًّا لبعض الطرق. السد العالي مشروع تكلف 400 مليون جنيه، ودفع كل مواطن جزءًا من دخله من أجل إنشائه، والطبيعي أن تعود كل ثماره إلى مجموع الشعب، وليس على حفنة من أصحاب المشروعات الخاصة.
* أيضًا.. لماذا نسمح ببنوك العملات الحرة التي ستنافس بنوكنا المصرية في تجميع المدخرات العربية ومدخرات المصريين في الخارج؛ كي توجهها إلى أعمال لا تخضع لأولوياتنا.. ولكن تخضع لأوامر المراكز الرئيسَةِ لهذه البنوك في العواصم الأجنبية؟!.
وأخطر من هذا: كيف نسمح بقيام بنوك خاصة أجنبية ومشتركة، وتقوم بعمليات بالعملة المحليَّة؟
إن البنوك وشركات التأمين هي خط الدفاع الأساسي للقطاع العام.. وهي الضمان الأساسي لإمكانية تمويل التنمية، فبدون السيطرة المركزية على الموارد والتحكم في إنفاقها وفق الأولويات.. كيف نتحدث عن تنفيذ خطة مستقلة طموحٍ؟
* أيضًا بالنسبة للمناطق الحرة. لا توجد أيَّة ضمانات في مشروع القانون تمنع استخدام موقع مصر الممتاز في منافسة الصناعة المصرية داخل السوق العربية والأفريقية. بل ولا توجد ضمانات كافية لمنع استخدام هذه المناطق ضد الصناعات المصرية داخل السوق المحلية" (118).
* إن أخطر ما في قضية الاستثمار الأجنبي هو إمكانية أن يتحول القطاع الأجنبي إلى قطاع قائد، فهذا التحول الخطير يعني أن البنية الاقتصادية قد تكيفت تمامًا مع وضع التبعية. ومسألة أن هذا الاحتمال خطير كان من مسلَّمات النضال الوطني في مصر، فطلعت حرب كان يقول في عام 1920 إن "أملنا أن يخرج مواطنونا من هذه الأزمة (يقصد أزمة هبوط أسعار القطن عام 1920 بعد موجة التضخم الشديد التي صاحبت الحرب العالمية الأولى) بالعظات والعبر، وأن يستفيدوا من دروسها، فينظموا صفوفهم ويلجوا باب الاستقلال الاقتصادي، ويدخلوا ميدان العمل الصحيح، ويستثمروا أموالهم في مرافق بلادهم الحيوية على مختلف أنواعها، ويتكاتفوا فيما بينهم لترقية شئونهم الاقتصادية (...) ويمصِّروا الشركات الأجنبية التي يشكون في تصرفاتها بشراء أسهمها؛ حتى تكون لهم الكلمة العليا في جمعياتها العمومية"(119).. ولكننا في لَوثة ونكسة 1974 كنا في حاجة؛ لأن نناقش خطر الهيمنة الخارجية من أول وجديد!
(2) معركة السماح ببنوك أجنبية:
أ- على أيَّة حال، هذا التحول الكامل إلى بنية تابعة،
لم يكن متصورًا أن يتم في يوم وليلة، بل كان مقدرًا – عند الأقل من أصحاب النظرة الواقعية – أن الاستثمارات الأجنبية ستتلكأ؛ لأن الساحتين؛ السياسية والاقتصادية، لم تكونا قد هُيِّئتا بعدُ، على النحو الذي يكفيها ويرضيها، ولكن كان مقدرًا - في نفس الوقت - أن تتحقق خطوة هامة نحو الهدف، تكلفتُها بسيطة وأثرها حاسم. أقصد: محاولة الهيمنة على قطاع البنوك، وإنهاء الدور الحاكم للقطاع الحاكم في هذا المجال.

والحقيقة أن خطر عودة البنوك الأجنبية، كان القضية التي أثارت أكبر قدر من التحفظ والمعارضة، أثناء مناقشة مشروع قانون الاستثمار. وأعتقد أن هذا الموقف كان طبيعيًّا جدًا؛ لأن الخبرات المريرة للنضال الوطني – في هذه الجبهة بالذات – كانت ولا زالت حية في ذاكرة المعاصرين. وقبل المعاصرين وخبرتهم، كان إنشاء بنك مصر من النتائج الجوهرية لثورة 1919 الوطنية العارمة، وكان أجدادنا يدركون أن اقتحام القطاع المصرفي أساس للتحرك نحو الاستقلال الاقتصادي، وكان طلعت حرب يقول: إن "أموال البلاد معطلة؛ بعضها مُكتنَز، وبعضها في بنوك أجنبية، وكلاهما لا تستفيد منه البلاد شيئًا مذكورًا.
إن نظرة في تقارير هذه البنوك، تدلنا على أن الجزء الأكبر من أموالنا مستعمل خارج البلاد، في بونات على خزائن الحكومات، أو سَنَدات قروض الحرب، أو ما شابه ذلك من العمليات التي هي في مصلحة المساهمين فقط، ومصلحة الدول التابعة لها"(120). إلا أن قوى السيطرة الاستعمارية، كانت تدرك أهمية بقائها في هذا الموقع أداة أساسية لاستمرار سيطرتها؛ ولذا لم يكن التمصير سهلاً، وبعد أكثرَ من ثلاثة عقود من النضال، كانت البنوك الأجنبية في عام 1956 لا زالت تستحوذ على ما يزيد عن نصف جملة الودائع بالبنوك التجارية، وعلى ما يناهز نصف إجمالي قروض البنوك والكمبيالات المخصومة لديها (121). وكلنا يذكر تقرير وزير المالية والاقتصاد المصري حول دور البنوك الأجنبية، بعد تأميم قناة السويس؛ فقد استخدمت الدول الغربية هذه البنوك وسيلة للتخريب، وأصدرت إليها توجيهًا "بكف يدها عن إجراءات التمويل المعتادة؛ سواء في ذلك تمويل محصول القطن، أو التمويل الصناعي والتجاري، وكانت ترمي بذلك إلى إحداث تدهور في اقتصاديات البلاد لتثير اضطرابات عامة بها (122)، وأضاف الوزير أن "الأحداث أثبتت أن كثيرًا من فروع بنوك الدول المعتدية التي كانت تعمل في مصر، تمنح قروضها إلى عملائها في مصر؛ بناء على أوامرَ مباشرة تأتيها من الخارج. ومؤدَّى هذا أن سياسة الائتمان التي يقوم عليها الاقتصاد المصري كانت ترسم خارج البلاد؛ وفقًا لما تمليه مصالح غير مصرية– هذا على الرغم من أن النفوذ الذي كانت تملكه هذه البنوك الأجنبية، كان مستمدًا مما يتجمع لديها من أموال مصرية، وودائعَ يأتمنها المصريون عليها، ومدخرات يحتفظون بها لديها؛ إذ إنه لم يكن لديها بمصر رءوس أموال تُذكر" (123).
ووزير المالية والاقتصاد (صاحب هذا التقرير) كان
عبد المنعم القيسوني، ويشهد للرجل أنه عاد إلى تذكير الاقتصاديين المصريين، بمضمون الكلام السابق في مارس 1974؛ فقد أشار إلى دعوته لرؤساء البنوك الأجنبية في مصر في يوليو 1956، "وطلبت شخصيًا من رؤساء البنوك الأجنبية في مصر ألا يستغلوا وضعهم الخاص، ولا يستغلوا سيطرتهم على الموارد المتاحة تحت أيديهم للتأثير على الاقتصاد المصري؛ خصوصًا أننا كنا على أبواب موسم قطني جديد، وكان لا بد من تدبير الأموال لتمويل مشتريات القطن من المنتجين، وإعدادها للتصدرير إلى الخارج (...) ومن جهة أخرى كانت البنوك الأجنبية في مصر تتصرف إلى حد ما في موارد النقد الأجنبي المتاحة للبلد، وتعلمون حضراتكم أننا عندما أممنا قناة السويس قامت الدولة المستعمرة بتجميد أموالنا كلها لديها، وكنا متوقعين هذا، فحاولنا تهريب بعض هذه الأموال إلى دول أخرى قبل التأميم بثلاثة أو أربعة أيام؛ حتى لا تشعر هذه الدول بما كنا قد انتويناه تجاه قناة السويس، ولكن كانت الأموال التي تمكنا من توجيهها للخارج لا تزيد على 4 أو 5 ملايين من الجنيهات، وكانت البنوك الأجنبية - بطبيعة الحال - خاضعة لنظام الرقابة على النقد الأجنبي، ولكننا كنا نطبق الرقابة على النقد بشيء كبير من المرونة؛ بحيث إن البنوك الأجنبية كان في إمكانها أن تتصرف - إلى حد ما - في هذه الأموال: أموال الاعتمادات وحصيلة الصادرات.. إلخ، وفي طريقة استخدامها. طلبت منهم مراعاة المصلحة العليا للاقتصاد المصري في طريقة استخدامهم للأموال المحلية والأجنبية الموجودة تحت سيطرتهم. ولكنهم لم يستجيبوا لرجائي، وعملوا على تخفيض المبالغ المخصصة لتمويل القطن، كما عملوا على سرعة استنزاف مبالغ النقد الأجنبي التي كانت حرة تحت تصرفهم؛ بحيث يضعوننا أمام مشاكلَ اقتصادية داخلية وخارجية حرجة. وكان لا بد من اتخاذ إجراء مضاد، إجراء لحماية الاقتصاد المصري؛ ولمنع سيطرة الأجانب عليه، ولمنع تهديد الأجانب لنا، واستخدامهم لأموالنا المودعة لديهم لطعننا في صدورنا. وكان الرد الطبيعي على ذلك هو فرض الحراسة على بنوك الأعداء، ثم تمصيرها كليًا" (124).

للأسف نسي عبد المنعم القيسوني هذا الكلام بعد ذلك حين تولَّى قيادة ما أُسمِي بالمجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء، ولكن وقت مناقشة مشروع القانون لم يكن الجميع قد نسي بعد هذه الخبرة؛ ولذا عارض كل رجال البنوك الانفتاح في قطاعهم عند مناقشة قانون الاستثمار، وكان بين المعارضين أحمد زندو (محافظ البنك المركزي آنذاك) وحامد السايح (وكان رئيسًا للبنك الأهلي – وقد تغير موقفه بعد ذلك). ولكن ينبغي أن نشيد - بإعزاز خاص - بوقفة حسن زكي أحمد (الرئيس السابق لبنك القاهرة) الذي قاد ببسالة معارضة مجموعة البنوك، حتى أُقصِي من منصبه(125). إلا أن المعارضة لم تقتصر طبعًا على رجال البنوك، فقد تحدث رجال من مختلف الاتجاهات السياسية وعارضوا، ولكنْ هنا أيضًا، لعبت خمر الأحلام بالعقول الطيبة، وتمكنت العناصر المشبهوة من تنفيذ التوجيهات، فانفتح الباب أمام البنوك الأجنبية، وتتطلب هذه النتيجة وقفة خاصة.
ب- فمع أحلام تدفق المنح والمعونات، وأحلام تفجُّر البترول، وأحلام تدفق الاستثمارات الغربية، كانت هنا أيضًا أحلام أن تكون القاهرة سوقًا مالية للبترودولارات. وممثلو الحكومة كانوا يسربون هذا الأمل الخادع؛ فيدغدِغون الأعصاب، أثناء مناقشة مشروع القانون 43 في اللجنة المشتركة، وحين اتضحت المعارضة القوية لموضوع البنوك، كان وزير التأمينات يقول مثلاً: "نريد أن تكون القاهرة سوقًا مالية، كما كانت لندن في الماضي، خاصة أن هناك بلايين الجنيهات فائضٌ في الدول العربية، إذا
لم نشعرها بأننا ننفتح اقتصاديًّا، فستذهب كل هذه الأموال إلى تشيزمانهاتن في الخارج" (126).

ويضيف شريف لطفي، أن الهدف من قانون الاستثمار "ليس مقصورًا على الاستثمار في مجال الصناعة والزراعة فقط، بل إن أول أهدافه أن تتحول القاهرة إلى مركز مالي ونقدي دولي، وهذا هدف رئيسي، ومن ثم فإن كل ما يتعلق بالبنوك، وببورصة الأوراق المالية، يهدف إلى تحقيق هذا الهدف". وعلى ذلك، صوَّرت البنوك الأجنبية، على أنها ناقل للأموال إلى مصر، بل لفيض من الأموال، "فلا مجال للمقارنة بينها وبين البنوك التي كانت موجودة من قبل؛ كبنك باركليز مثلاً، فبنك باركليز كان عبارة عن فرع في مصر، وكان يتعامل في أموال المصريين فقط، ولم يكن يأتي بأية أموال من الخارج"(126) (وزير التأمينات) ويبدو أن أغلب المعارضين ابتلعوا وقتها هذا الطعم، فلم يتساءل أحدهم عن حقيقة أن هذه البنوك ناقلة للأموال من الخارج إلى الداخل، وعما إذا كانت قدرتها في ذلك تزيد عن قدرة البنوك المصرية. "فالبنوك المصرية والعربية والمشتركة تستطيع بما لها من مراسلين ومساهمات في بنوك (الكونسوريتا) العالمية المشتركة، وما تتمتع به من تسهيلات ائتمانية طائلة، تمويل التجارة الخارجية والاستثمار دونما حاجة إلى البنوك الأجنبية" (127). ولكن هذا التقييم – الواقعي – الذي كتبه علي الجريتلي (بعد سنوات من إقرار المصيبة) لم يجد أيامها من يقوله؛ لأن الأحلام كبست حتى على عقول المعارضين.
ج- كان الانفتاح في القانون 43 يسمح بقيام بنوك أجنبية 100% بحجة أنها فروع لبنوك خارجية، وتتعامل بالنقد الأجنبي فقط، وفي هذا النطاق، تمارس كل الأنشطة المصرفية؛ ابتداء من تقبل الودائع، إلى الإقراض طويل الأجل وقصير الأجل، حسْب نص المادة (3 – 5) فإن هذه البنوك تقوم "بالعمليات التمويلية الاستثمارية بنفسها؛ سواء تعلقت بمشروعات في المناطق الحرة، أو بمشروعات محلية أو مشتركة، أو أجنبية مقامة داخل جمهورية مصر العربية، وكذلك لها أن تقوم بتمويل عمليات تجارة مصر الخارجية". وقيل في الحوار إن "هذا السماح لا يضيف جديدًا؛ لأن هذا الفرع لا يزيد عن الأصل الموجود في لندن أو باريس، ونحن نتعامل مع هذا الأصل الآن، يبقى الجديد أن البنك يكون قريبًا منا، وفي هذا تسهيل للعمل".. وأشير أيضًا إلى أن "استخدام كلمة فرع في وصف أحد هذه البنوك، يقصد به فقط أن يتبع المركز الأم، وليس الشكل القانوني، فهذا الشكل يخضع لقانون البنوك، الذي يشترط أن تأخذ البنوك العامة في مصر شكل شركات مساهمة مصرية، خاضعة لرقابة البنك المركزي".. وقد فاتت كل هذه المغالطات على جهة المعارضين فانسحبوا بسرعة من موقف المعارضة المبدئية للبنوك الأجنبية إلى خط الدفاع الثاني: خط البنوك المشتركة التي تتعامل بالجنيه المصري، وقد عبر عن ذلك رئيس اللجنة المشتركة (جمال العطيفي) وكان من الأقطاب البارزين لجبهة المعارضة، فقال "أعتقد أنه لا اعتراض على البندين 4، 5 وأن النقاش كله يدور حول البند 6" (128).
وبالفعل تمكنت المعارضة من تكريز نيران شديدة، ومبررة تمامًا، على هذا البند؛ فقد تم تجاوز كل المحاذير السياسية والاقتصادية الخاصة بفروع البنوك الأجنبية (إمكانيات التآمر السياسي – الإخلال باستقلال ومركزية السياسة الائتمانية – استنزاف الكوادر المدربة من البنوك المصرية) بحجة أن أموالاً هائلة ستأتي من ورائها، ولكن ما هي الحجة التي يمكن أن تبرر احتمال كل هذه المخاطر وأكثر منها، في حالة البنوك التي تتعامل بالجنيه المصري؟ بنوك الاستثمار أو فروع البنوك "هذا موضوع آخر. إنما البنك الأجنبي الذي يجيء ليتعامل بالعملة المحلية، ماذا سيحمل معه؟ سيحمل رأسماله فقط، أي أنه لن يأتي بأي تمويل خارجي، يعني لن تحدث أية إضافة للاقتصاد القومي. بالعكس الودائع من عندنا (وسيزاحم البنوك المصرية مزاحمة غير متكافئة في اجتذابها) وعمليات البنوك التجارية مربحة جدًا، وبعد هذا سألتزم أنا أن أحول له أرباحه بالعملة الأجنبية. هذه هي المشكة التي تواجهنا فقط. كل رجال البنوك بلا استثناء، معترضين على هذا النص" (جمال العطيفي)(129).
ماذا كانت الحجة المقابلة؟ لم يكن أمام ممثلي الحكومة (وأبواق الجهات الأجنبية) إلا أن يلوِّحوا مرة أخرى بالأحلام، فأعلن مصطفى مراد أن "هذا البند أساسي. وهو يتيح للمصارف الأجنبية أن تتعاون مع المصارف المصرية في تمويل عمليات داخلية، وقبل ودائع داخلية مقابل الهدف الأساسي، وهو تقبل ودائع من الدول العربية"؛ أي أن الأمر صفقة الموافقة على البنوك المشتركة في مقابل مجيء الودائع العربية، وزاد وزير التأمينات من توضيح الوقف فقال: "يجب أن نقضي على الانغلاق الذي كنا فيه، وننفتح انفتاحًا حقيقيًّا، وأؤكد لكم أنه إذا قصرنا معاملات البنوك على الاستثمارات، ودون المعاملات المصرفية في الداخل، فلن يأتي إلى مصر أي بنك.
عمليات البنوك متكاملة، ولا يمكن أن نجزئها. إن أنصاف الحلول، وعملية مواربة الباب، لن تحقق ما نريده"(126).. وكالعادة، أثبت هذا الكلام فعاليته، فمرت الموافقة على البند 6، من حيث المبدأ، واضطر المعارضون إلى الانسحاب لخط الدفاع الثالث: من يكون الشريك المصري في هذه البنوك المشتركة؟
د- قال المعارضون إن الشريك مع البنك الأجنبي، ينبغي أن يكون بنكًا من بنوك القطاع العام، وكانت حجتهم أن الشريك الأجنبي سيكون بنكًا أو أكثر من البنوك الدولية الكبرى، وبالتالي ستمثل حصة رأس المال الأجنبي في الجمعية العمومية ومجلس الإدارة - ككتلة منظمة بمندوبين ملتزمين، فإذا كان التمثيل المصري المقابل من مساهمين مبعثرين، فإن كتلة البنك الأجنبي، يمكن أن تحكم سياسات البنك المشترك وتشك الإدارات وفق ما تراه، رغم أنها تمتلك 49% فقط من رأس المال بنص القانون. وقد عرض حسن زكي أحمد خبرته في هذا المجال "إنني كبنك القاهرة، أساهم بنسبة 40% في بنك القاهرة – عمان، وفي كل سنة أنا الذي أمثل الأغلبية – رغم أنني أملك 40% من الأسهم – لأنه قليلاً ما يتفق رأي الـ 60%" (126). وغني عن البيان أنه إذا تمكن الشريك الأجنبي من السيطرة الفعلية على سياسة إدارة البنك المشترك؛ فإن ضربة أخرى قاسية تكون قد وجِّهت إلى سيطرة الدولة على السياسة الائتمانية. ولكن ممثلي الحكومة (حسب التعليمات) كانوا لا يقبلون أقل من التسليم الكامل واستخدموا في النقاش حُججًا عابثة، فقال بعضهم إنه لا بد من إعطاء القطاع الخاص المصري فرصة المشاركة أيضًا في البنوك التجارية، فالقطاع الخاص من "مصريين أمناء على بلدهم، يهمهم ارتفاع قدرِه"، وأضاف وزير التأمينات آنذاك، أنه ليس مقبولاً في "عهدنا المشرق" أن نقول للمصري إنك لست محل ثقة؛ ولذا فإن النص على قصر المشاركة على القطاع العام دون الأفراد، إساءة لشعور المواطنين المصريين. وكان طبيعيًّا أن يرد رئيس اللجنة (العطيفي) بأن المسألة ليست مسألة ثقة أو عدم ثقة في المواطن المصري، ولكنها مسألة تنظيم؛ لضمان سيطرة الدولة على قطاع المصارف.. وهذه هي القضية، ولكن وزير التأمينات رد بتصريح بالغ الغرابة، فقال إنه يعتقد "كأستاذ جامعي، وأستاذ بنوك بالذات، أن البنك الأجنبي لا يأتي ليرسم سياسة هدم، ولماذا نفترض سوء النية، فنتوقع أن هذه البنوك ستأتي لتهدم"(129). وبالتأكيد كان التصريح بالغ الغابة، فقد كان بوسع المرحوم حسن شريف، أن يقول: إننا يقظون وقادرون على منع أي تخريب، ولكن أن يقال إن البنك الأجنبي بطبيعته لا يمكن أن يشترك في سياسة هدم، فإنَّ هذا – كما أوضحنا – كان يتعارض حتى مع خبرتنا المعاصرة. إلا أن المسئولين في تلك الفترة كانوا مستعدين لقول أي شيء، بل وصل الحال بعبد العزيز حجازي، إلى وضع تعريف جديد للملكية العامة للمجتمع؛ ففي العادة يأخذ ذلك شكل ملكية الدولة، وهي في هذا تختلف عن الملكية الخاصة التي هي ملكية فرد، أو بعض أفراد، وقد طالب المعارضون – كما سبق أن ذكرنا – بأنه إذا كان ولا بد من إنشاء هذه البنوك، فإن الشريك المصري الذي يملك 51% من الأسهم، يجب أن يكون أحد بنوك القطاع العام؛ وذلك حتى نظل مرتبطين – بأي قدر – بمبدئنا القديم، الذي كان ينص على أنه "يجب أن تكون المصارف في إطار الملكية العامة" (الميثاق – الباب السادس).
لقد طالب المعارضون بهذا، فإذا بحجازي يقول إنه "عندما نتكلم عن إطار الملكية العامة، فإنما نعني أن الغالبية فيها، أو الجزء الأكبر منها، السيطرة عليه للمصريين".. "وبالتالي فإنني أعتقد أن إطار الملكية العامة، محافَظٌ عليه بالكامل، في حدود النص الذي سبق أن شرحته؛ طالما أن الـ 51% في أيد أمينة وغير مستغلة" (130).. أي أن ملكية أي أصحاب أعمال مصريين "شرفاء" هي ملكية عامة!
و.. انتزعت الموافقة، ومر البندان 5، 6 من المادة الثالثة، بلا أي تعديل.
(3) تقييم لمعركة البنوك:
أصبح مطلوبًا الآن تقويم هذه المعركة، وما قيل فيها وحولها. وفي اعتقادنا أن المعارضين ابتلعوا فكرتين ساذجتين أو غير صحيحتين: الفكرة الخاصة بتحويل القاهرة إلى سوق مالية دولية. والفكرة الأخرى خاصة بدور فروع البنوك الأجنبية.
أ- وبالنسبة للمفهوم الأول، نبدأ بسؤال تبدو إجابته بدَهيَّة، ولكنها غابت مع ذلك عن الأذهان. والسؤال هو: ما هي السوق المالية؟ بشكل عام هي – ككل سوق – لقاء بين عرض وطلب. وتتميز السوق المالية بنوع السلعة التي تُتعامل فيها (أي: الأموال) وبنوع المؤسسات المناسبة لتنظيم التعامل في هذه السلعة المحددة. ويفترض هذا الوصف أن السوق المالية (محلية أو إقليمية أو دولية) ليست سوقًا عاملة في فراغ، فهي مرتبطة عضويًّا بنسيج النشاط الاقتصادي، فموارد السوق المالية (جانب العرض) هي نتاج عملية إنتاج اجتماعي، واستخدامات هذه الموارد (جانب الطلب) هي نتاج الحاجة إلى إعادة الإنتاج الاجتماعي وتوسيعه. وعلى ذلك تكون المؤسسات المطلوبة متطورة من داخلها لتحقق أهدافها المتنامية، وتخضع في هذا لمجمل التطورات في بنية المجتمع المعين، وفي بنيته الاقتصادية. (هذا صحيح إذا كان الحديث عن اقتصاد متمركز حول نفسه). والبنوك الغربية – ببنتها الحالية تشكلت وتطورت على نحو ملائم لمجمل التطورات التي حققتها هذه المجتمعات بشكل عام، ولكن لا يعني ذلك أن جوهر الوظيفة التي تحققها السوق المالية (ترتيب العلاقة بين العرض والطلب) ينبغي أن تؤدي دائمًا، عبر نفس المؤسسات في كل مكان وزمان.
هذا الإطار العام للتصور لم يكن حاضرًا كمدخل للبحث الجاد، فقد أطلقت شعارات السوق المالية الدولية، وانتشرت؛ كجزء من حملة التضليل العام وليس أكثر. وهذه الشعارات حققت مهمتها، فأزاغت الأبصار بعد تراكم المدخرات لدى الدول العربية النفطية؛ نتيجة رفع أسعار النفط. وقضية "إعادة تدوير" هذه الأرصدة الدولارية إلى الدول الغربية، وإلى الولايات المتحدة بشكل خاص، مسألة شغلت السياسيين الاقتصاديين في تلك الدول، فلم لا تدخل مصر في "اللعبة"؟ أليس مفيدًا لكل الأطراف العربية أن يكون جزء متعاظم من "إعادة التدوير" هذه إلى المنطقة العربية وإلى مصر؟ هذا التساؤل والتطلع من القوى الوطنية كان مشروعًا تمامًا، وإجابة التساؤل: نعم، ولكن كيف؟ هنا قيل على لسان المسئولين وأشباه المسئولين، كلام ساذج ومبتذل. قيل عن السوق المالية كلام عام كالذي نقلناه، فصرح بعضهم بأنها كسوق لندن في الماضي، دون أن يتذكر أن لندن أيامها
لم تكن فقط مركزًا ماليًا دوليًّا، ولكن مركزًا صناعيًا، ومركزًا سياسيًا دوليًا، وعاصمة لامبراطورية، وكأن كل هذه الاعتبارات لم تكن ذات تأثير مباشر على طبيعة وتشكيل – سوق لندن المالية الدولية في الماضي وحتى الآن. فكتب أحد التقارير الرسمية أنه "حتى تكون مصر سوقًا مالية، وسوقًا للودائع، لا بد من وجود خدمات حديثة، وفنادق مريحة.. إلخ(131)، ولكن أحدهم لم يكتف بهذه "الدعائم الأساسية" للسوق المالية الدولية فأطال في وصف الفنون الحديثة المستخدمة في الأسواق المالية الدولية الآن: التلكس والكومبيوتر والأزرار والأجهزة والدوائر التلفزيونية الخاصة التي تنقل على شاشتها آخر البيانات عن الأسواق الأخرى عبر التلستار..إلخ (132). ومثل هذا الكلام كان مقصودًا به إبهار المستمعين، وإقناعهم بأن حكاية السوق المالية، واجتذاب البترودولارات عن طريقها، مسألة لا يقدر عليها إلا "الخواجات" أصحاب هذه التكنولوجيا. ومع الانبهار لم يكن هناك من يتوقف ليلتقط أنفاسه، ويطلب بحث الموضوع بالتسلسل الطبيعي، فالهدف من إنشاء السوق المالية ينبغي أن يبحث أولاً، والمؤسسات المناسبة تبحث بعد ذلك، والتجهيزات التكنولوجية تأتي في آخر القائمة.

ليست القضية أن تكون القاهرة مجرَّد مركز إضافي من مراكز إعادة التدوير للبترودولار العربي، فالقضية موقع المحطة النهائية لسوق القاهرة الدولي. إن موقع العرض المرشح لتغذية سوق القاهرة المزعومة معروف، وهو الدول العربية صاحبة المدخرات، ولكن أين موقع الطلب؟ أين ستستخدم هذه الموارد؟ هل في الدول الصناعية الغربية أساسًا، أو داخل مصر والمنطقة العربية بشكل رئيسي؟ إذا كان الهدف هو الدول الصناعية الغربية، فإن البنوك الأجنبية تكون بالفعل أكفأ وأنسب للمهمة، فهي أدرى بظروف هذه الدول، وهي بالتالي أقدر على اجتذاب الودائع وتوظيفها، وهي أقدر على تقديم الاستشارات والخدمات، لمن يريدون توظيف أموالهم في استثمارات طويلة الأجل، ولمن يريدون الاحتفاظ بسيولة عالية؛ حيث تتوفر في الأسواق الغربية الأساليب والأدوات المتنوعة والمتطورة من أوراق مالية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، وكلها قابلة للتداول بيعًا وشراء من خلال أجهزة تعمل بدقة وسرعة. وكل هذا تقدمه فروع البنوك الأجنبية بفكاءة عالية من خلال اتصالاتها بمراكزها الرئيسية. إلا أن شبكة فروع البنوك الأجنبية – بهذا الشكل – هي مجرد قناة من قنوات التحويل، أو "إعادة التدوير"، إلى الدول الغربية. والأرباح الكبيرة التي تحققها من عمليات "الترانزيت" هذه، والتي تصدرها إلى الخارج، هي أيضًا قناة إضافية من قنوات التحويل. وإذا كان هناك من يتحدث عن سوق بيروت، وعن سوق البحرين، فإن هذه الأسواق لا يزيد دورها عما ذكرنا، وهو دور على هامش الأسواق المالية الدولية المركزية، وتابع لها، وإقامة سوق إضافية من نفس النوع مقرها القاهرة – بكل ما يتطلبه ذلك من تعديلات جذرية في المؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية – مسألة تهم البنوك والدول الغربية في المقام الأول، ولا تنتفع منها – على المستوى المحلي – إلا الفئات التي ترتبط مصالحها بتغيير النظام الاقتصادي بشكل عام، والفئات المتعاونة مع شبكة البنوك الأجنبية، وسوق الأوراق المالية بشكل خاص.
قد يقال إن الهدف مما كان يقال عن السوق المالية الدولية، هو إعادة تدوير البترودولار إلى داخل مصر، والمنطقة العربية، ولكن في هذه الحالة كان يسهل بقدر بسيط من التأمل استنتاج أن البنوك الأجنبية ليست وسيلة مناسبة للهدف؛ لأن هذا الهدف – ببساطة شديدة – يتعارض تمامًا مع استراتيجية هذه البنوك. فالبنوك الأجنبية مهمتها الأولى توظيف الأموال النفطية في خدمة الاقتصاد الغربي والأمريكي، وهي تحرص على أن يكون الكمُّ المُعاد تدويره إلى الدول التابعة (والدول العربية) محدودًا وموزعًا على هذه الدول وفق حسابات هذه البنوك، (وهي حسابات سياسية أولاً) وفي الأوجه التي تعيّنها. والتقاء الطلب العَربيّ مع العرض العَربي من البترودولار، على هذا النطاق المحدود، وبهذا الشكل غير المباشر (أي: عبر وسيط أجنبي) كان (ولا يزال) يتحقق فعلاً، ولم يكن يستدعي تشويه النظام المصرفي المصري، وتصفية استقلاله.
ب- وينقلنا هذا إلى فكرة إنشاء فروع للبنوك الأجنبية داخل مصر، وأنها ستجعل مهمتنا في التعامل مع البنوك الدولية أيسر، فالصحيح أن مهمة هذه البنوك هي التي أصبحت أيسر، مهمتها في السيطرة على موارد واستخدامات البترودولار داخل مصر. لقد تكلَّفت الاتفاقات السياسية، والترتيبات مع الهيئات الدولية، بفرض الوصاية الأمريكية على التدفقات الخاصة عبر قنوات البنوك، فأسرعت البنوك الأجنبية للاستحواذ عليها؛ كي تخرج بها عن تخطيط السلطات المصرية المركزية، ولتوظيفها على النحو الذي تمليه سياستها هي.
قال شريف لطفي: "إن البنوك الأجنبية في الماضي: كانت تستطيع أن تستثمر المدخرات المصرية في الخارج، وقد انتفى هذا الوضع كلية في ظل هذا القانون" (126)،
ولا أدري على أي أساس كان يجزم بهذه الثقة، وقد حدث على أية حال أن هذه البنوك لم تخيِّبْ ظننا، فهي لم تجلب مواردَ من الخارج، والودائع التي جمعتها بالنقد الأجنبي كانت في أغلبها ودائع من المصريين، وقامت بتوظيف قسم كبير منها في الخارج (انظر الفصلين الثامن والعاشر)، وعملياتها في مصر لم تكن في مجال الاستثمار إلا بشكل هامشي.

"هذه البنوك الأجنبية ماذا تعمل إذن؟ لا نستطيع أن نتجاهل أن البنك الأجنبي له أغراض سياسية، يأتي ويدخل السوق ويعطي السلف لناس قد لا يستحقون سلفًا: وهذا حصل في عدة بنوك أجنبية، (يعني البنك يروح فارش) ويقول الناس إن هذا البنك عظيم، فإذا سألنا لم يفعل ذلك، وهل هي مغامرة؟ فإن الإجابة هي أنه عمل ذلك؛ ليربط نفسه بناس أو شخصيات لها مفاتيح الدولة". هكذا حذر حسن زكي أحمد قبل وقوع الكارثة، ثم تساءل الرجل بعد شرحه: هل نحن مستعدون لهذا؟ وقال: مستحيل!(133)! ولكن ثبت للأسف أن المسألة "لا مستحيل ولا حاجة".
وبالمناسبة، فإن رقابة البنك المركزي لم تكن لتفعل شيئًا في هذه المواضيع، حتى لو كانت سياسة الدولة تتطلب ذلك، (وهي لم تكن تتطلب طبعًا في ظل الانفتاح)، فوفقًا للمادة 40 من قانون الرقابة على البنوك؛ فإن "على مجلس إدارة البنك المركزي أن يضع قواعدَ عامة تتبع في الرقابة على البنوك التجارية، ويجوز وفقًا لمقتضيات حالة الائتمان أن تتناول هذه القواعد تنظيم المسائل الآتية:
* تحديد نسبة ونوع الأموال السائلة التي يجب أن تحتفظ بها البنوك التجارية.
* تعيين الوجوه التي يمتنع على البنوك التجارية استثمار الأموال فيها، وتحديد الاحتياطات الواجب توافرها لمقابلة الأصول المعرضة لتقلبات شديدة في قيمتها، وتعيين الحد الأقصى لقروض البنوك التجارية واستثماراتها بالنسبة لأنواع معينة من القروض والاستثمارات.
كان هذا هو كل اختصاص البنك المركزي المصري في قانون الرقابة على البنوك إلا أن البنك المركزي كان إلى جانب هذه المهام، يمارس صلاحيات أخرى باعتباره مؤسسة بنوك، أي: كمالك للبنوك، وليس كمجرد رقيب عليها، وكان يملك بهذه الصفة أن يتدخل لإقراض عميل وتحديد المبلغ،
أو لعدم إقراض عميل آخر، وكل هذا لا يملكه كبنك في علاقاته بالبنوك الأجنبية والمشتركة؛ لأنها بنوك خاصة.

لقد أخطأ المعارضون – إذن - حين تجاوزوا عن مخاطر فروع البنوك الأجنبية، وحين خدعوا في دورها المزعوم لجذب المدخرات العربية، فبهذا الخطأ – أخذت البنوك الأجنبية وأنصارها زمام المبادرة، فبعد التسليم بأنها "تفتح أبواب الأمل"، أصبح بوسعها أن تفرض ما تشترطه لمجيئها، وهو فتح الباب أيضًا أمامها لتشارك في العمليات المصرفية بالجنيه المصري.
ج- ولكن إذا كانت هذه هي حقيقة أسطورة السوق المالية الدولية، وإذا كانت هذه هي حقيقة الدور الذي تلعبه فروع البنوك الأجنبية، فهل كان هناك طريق آخر لإعادة تدوير الأموال العربية، أو لتوطين هذه الأموال في المنطقة العرقية؟ في ذلك الوقت (1974) كانت هناك إمكانيات واضحة. وحاليًا أصبحت الإمكانية أصعب بعد استقرار الهيمنة الأمريكية الغربية. في ذلك الوقت كان مطلوبًا أن تتم دراسات وجهود جادة من منطلق قطري وقومي مستقل، ويكفي أن نذكِّر هنا بالدراسات والجهود التي بذلها الأعداء لاستيعاب المدخرات العربية على الوجه الأمثل (134). إن الدراسات – على الجانب العربي – كان ينبغي أن تستوعب الحقائق التالية (135): من ناحية العرض:
* عرض الأموال في العالم العربي يأتي دائمًا كعرض فعلي ومباشر، وذي ضخامة غير عادية بالنسبة للأقطار النفطية؛ نتيجة لتقسيط مدفوعات الشركات النفطية على أقساط معدودة خلال السنة، فتحتاج تلك الأموال إلى إيجاد المقابل الفوري والآمن من الطلب؛ حتى لا تفوتها الفوائد التي يمكن الحصول عليها. وبما أن هذه الأموال لا تلقى في المنطقة العربية هذا الطلب الفعلي جاهزًا، فإنها تتجه بطبيعة الحال اتجاهًا جارفًا ومنطقيًّا نحو الأسواق الغربية؛ حيث يوجد الطلب بالشكل المرغوب فيه. وفي الحقيقة فإن أغلب الأموال لا تغادر الدول الغربية على الإطلاق، فهي تحول ببساطة من حسابات الشركات النفطية في لندن ونيويورك إلى حسابات الدول النفطية في نفس المراكز، ثم تنتشر بعد ذلك إلى الدول الأوروبية الأخرى، وإلى كندا واليابان.
* أصحاب تلك الأموال؛ سواء جهات حكومية أو جهات خاصة، يريدون إبقاء قسم كبير منها في شكل أموال سائلة، يمكن التصرف بها بأخف القيود والشروط.
في مقابل ذلك نلاحظ في جانب الطلب (أيام 1974 وحتى الآن) ما يلي:
* أنه طلب احتمالي في أحيان كثيرة، وليس طلبًا فعليًّا، يتمكن من استيعاب العرض فورًا، وبطريقة سليمة وآمنة، فالمشاريع المحتاجة إلى تمويل في كثير من البلدان العربية، لم تتبلور بصورة كافية.
* أنه طلب لأموال طويلة الأجل في الأساس (أو هكذا ينبغي أن يكون)؛ إذ إن معظم المشاريع تحتاج إلى وقت غير قصير في بعض الأحيان؛ حتى تدرَّ الأرباح التي من شأنها تأمين تسديد الأموال المقترَضة.
وتعني هذا الحقائق أن الالتقاء المحتمل بين العرض والطلب على الأرض العربية، لن يتم بغير دراسات جادة وترتيبات متنوعة، وهذه الترتيبات تتضمن مؤسسات مناسبة، وهي في حالتنا لا بد أن تكون في الأساس مؤسسات حكومية وشبه حكومية (136)، ولا أحسب أن في هذه الحقيقة ما يفزع، فحتى مع الدول الغربية تم القسم الأكبر من إعادة التدوير من خلال الحكومات والهيئات الدولية، والقسم الأقل قامت به الأسواق المالية الخاصة بإشراف ومساعدة الحكومات، ومن ناحية أخرى، ينبغي أن نتذكر أن الجهاز الحكومي في الدول النفطية – ممثلاً بالبنك المركزي أو وزارة المالية – هو صاحب الأموال النفطية الوحيد. وهو المسئول أساسًا عن توظيف القسم الأكبر من هذه البلايين من الدولارات، وهذه الحقيقة لن تغيرها أي حوافز تقدم للقطاع الخاص في هذه الأقطار.
والترتيبات عبر المؤسسات الحكومية، لا تعني أنها مجرد ترتيبات سياسية، فهي تضع بالقطع الدراسات والحسابات الاقتصادية في اعتبارها، ولكن في إطار نظرة سياسية أرحب، وهذه النظرة تشمل المواجهات والتعامل مع العالم الخارجي، وتشمل استقرار العلاقات الثنائية والمتعددة بين الدول العربية، وتشمل مفاهيم التنمية المتكاملة، وتضمن تحديد الأهداف المشتركة للأجل الطويل، وكل ذلك سيؤثر في منهج الحسابات الاقتصادية في هذا الإطار قدمت بشأنها دراسات كثيرة، ولكن كل هذا كان يتطلب تحرُّكًا نشطًا ومخططًا وكفئًا من جانب الطلب؛ ليس فقط لأن "عنصر الطلب يجب بالضرورة أن يكون أنشط من عنصر العرض في سوق تتميز بتنافس حاد على العنصر الأخير" كما يقول إبراهيم شحاته (137)، ولكن لأن واقع الحال، كان يجعل دول الطلب (وعلى رأسها مصر) مهيأة لأن تكون المبادرة والقادرة على حل المشاكل التي تحول دون لقاء العرض مع الطلب؛ سواء من حيث إعداد المشروعات، أو التقدم بالتصورات العامة الموجهة للتعاون، إذا لا يغيب عن تصورنا أن العاملين في الإدارات المركزية الضيقة للدول النفطية، أعدادهم قليلة، وكفاءاتهم لا تتسع للمهام المطلوبة، والخبراء الأجانب يتسببون من خلال النصائح الفنية (ودعك من الضغوط السياسية) في تشويهات خطيرة في استخدامات المُدَّخرات العربية.
ولكنْ هل الأنسب تسمية مثل هذه الترتيبات المقترحة: محاولة لإنشاء سوق مالية إقليمية؟ إن الترتيبات تتضمن جزئيًّا إنشاء نوع من السوق، ولكن الوزن الأكبر في المحاولة للسياسات غير المرتبطة كليًا بمنطق السوق؛ ولذا
لا يبدو أن إطلاق اسم سوق مالية إقليمية يعبر عن مجمل المحاولة التي تناولناها.. في كل الأحوال ينبغي أن نعي باستمرار أن المحاولة الأصيلة لإعادة تدوير قدر متعاظم من البترودولارات إلى المنطقة العربية، عبر مؤسسات وقرارات عربية، هي معركة حادة وعنيفة ضد المخططات الدولية الأمريكية، وهذا يؤكد - من جديد - دور مصر (أو الطلب) في المبادرة إلى اقتحام هذا الاختيار، ومن الناحية الاقتصادية كان يتطلب هذا من مصر، أول ما يتطلب، المحافظة على استقلال السياسات المالية والنقدية، وليس فتح الباب
بلا حساب للبنوك الأجنبية.



نور 06-07-2011 02:16 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(4) نتائج القانون في العام الأول:
صدر القانون 43 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، بعد إسكات الأصوات المعارضة، وحدث في التطبيق ما توقعناه، فقطاع البنوك كان المجال الوحيد الذي اندفع إليه رأس المال الأجنبي، فهم يدركون مثلنا وأكثر منا، الأهمية الاستراتيجية لهذا القطاع. إن دافيد روكفلر لم ينتظر حتى صدور القانون، فطالب أثناء مقابلته للرئيس السادات (فبراير 1974) بفتح مكتب لبنك تشيزمانهاتن الذي يرأسه (138)، وفي مفاوضات عبد العزيز حجازي مع وليم سايمون (وزير المالية الأمريكي في يوليو 1974) وقعت الوثائق الخاصة بإعادة العمل باتفاقية ضمان الاستثمارات الأمريكية في مصر، وتم الاتفاق في المباحثات على خطوات تتضمن:
1- السماح لأربعة بنوك أمريكية من الدرجة الأولى، بفتح فروع لها في مصر، وهي "تشيزمانهاتن"، و"فيرست ناشيونال بانك"، و"بنك أوف أمريكا"، و"الأمريكان إكسبريس".
2- تزور مصر مجموعة من 16 من كبار رجال الأعمال الأمريكيين الذين يمثلون 10 من أكبر الشركات الأمريكية خلال الفترة من 3 إلى 5 أغسطس لدراسة إمكانيات الاستثمار فيها (139).
ولكن البند الأول هو الذي أسفر عن نتائج سريعة، فحتى نهاية سبتمبر 1974 أعلنت الهيئة العامة لاستثمار المال العربي والأجنبي أن عدد المشروعات التي وافقت عليها بلغ إجمالي رأسمالها نحو 104.3 مليون جنيهًا، منها 54.9 مليون جنيه نقد أجنبي. ويخص الشريك الأجنبي من هذا الكلام الهزيل 22.9 مليونًا جنيه فقط، وتتضمن حصة الجانب المصري 75 مليونًا جنيه للقطاع العام و6.4 ملايين للقطاع الخاص. وبالنسبة للمشروعات بنظام المناطق الحرة، أعلنت الهيئة أنها وافقت على مشروعات قيمة رأسمالها نحو 91 مليون جنيه.
ورغم هزال كل هذه الأرقام بالنسبة للتوقعات، أكدت بيانات البنك المركزي أن المستثمر فعلاً بالنقد الأجنبي وفقًا للقانون 43، لم يتجاوز في آخر ديسمبر 1974 مبلغ 7 مليون دولار، أو حوالي 2.8 مليون جنيه مصري!
في مقابل هذا ثبت من بيانات هيئة الاستثمار أنه حتى مارس 1975، كان 19 بنكًا من البنوك العالمية قد طلبت افتتاح فروع لها في مصر. أوضحت البيانات أنه تمت بالفعل الموافقة على إنشاء خمسة بنوك، منها بنك مشترك يتألف من بنك مصر (51%) مع بنك فيرست ناشيونال شيكاغو، وبنك دي روما، وكذلك ووفق على إنشاء بنك ثالث يتألف من بنك الإسكندرية (51%) مع بنك باركليز (140)، ولم تمضِ فترة قصيرة، إلا وكان البنكان الأمريكيان الآخران في بيان حجازي – سايمون يبدءان أيضًا أعمالهما في القاهرة.
ب- هذا الغزو الذي أحدث تصدعًا مؤلمًا في مكتسبات الاستقلال الاقتصادي، بدأ مع إقرار قانون الاستثمار، وتأكد مع الموافقات التي تمت في أواخر 1974 وأوائل 1975. وقد يذكر للحكومة في ذلك الوقت أنها كانت مترددة أيضًا في هذا المجال، فرغم الاندفاع غير المسئول أثناء مناقشة مشروع القانون، أعلن أنه في الممارسة العملية ستصر الحكومة على أن يكون الشريك المصري – في حالة البنوك المشتركة – بنكًا من بنوك القطاع العام، وأنه لن يسمح للقطاع الخاص المصري بالمشاركة، أو بإنشاء بنوك تجارية خاصة. ولكنها في هذا الموقف – كما في غيره من المواقف– كانت تتراجع سريعًا أمام الضغوط؛ ولذا صرح وزير التعاون الاقتصادي – قبل استقالة الوزارة بشهر واحد– أن قرار الحكومة هو قرار مرحلي لمدة عام أو عامين (141). وقد حاولت الحكومة طمأنة القلِقين على مستقبل بنوك القطاع العام، فأعلنت أن شركات القطاع العام ستقصر معاملاتها على هذه البنوك، ولكن لم يكن إعلان الحكومة كافيًا للطمأنة؛ فالنسبة الأكبر من الودائع (ودائع القطاع الخاص والقطاع العائلي) مفتوحة لمنافسة محمومة من البنوك الأجنبية.
ج- ومع الاندفاع نحو تأسيس البنوك التجارية المشتركة، كان طبيعيًّا أن تمتد يد المراجعة إلى تنظيم قطاع البنوك كله، فألغيت عمليات الدمج السابقة (كان البنك الصناعي قد أُدمِج في بنك الإسكندرية، وبنك بورسعيد في بنك مصر). وبدأت إعادة النظر في الهيكل التنظيم للجهاز المصرفي على أساس إلغاء نظام التخصص (الذي تقرر 1971) وبحيث يعود كل بنك، وحدةً مستقلة تتعامل مع أية جهة، وفي مختلف الأغراض. ولا شك أن إلغاء تخصص بنوك الدولة يعني خطوة هامة لتفكيك البناء التنظيمي المتماسك للقطاع العام، ونذكر أن إسماعيل صبري (وزير التخطيط آنذاك) كان قد طرح – في فترة سابقة – تصورًا حول تنظيم قطاع البنوك، على نحو يتناسب مع أسلوب التنمية المخططة في مصر وكان التصور يقوم على:
1. تخصيص بنك للتجارة الخارجية.
2. تحقيق التخصص والتكامل بين البنوك التجارية الأخرى. (وكان هذا التخصص قد بدأ تنفيذه – فيما يتعلق بالقطاع العام). ونعتقد أنه – في ظل سيطرة الدولة على البنوك – لا معنى فعلاً للتنافس، أو لتعدد الفروع في نفس المكان.
3. توفير الرقابة الكاملة للبنك المركزي على البنوك التجارية بحيث يكون مجموع فروعها شبكة مصرفية واحدة، تغطي الجمهورية وتحركها في المقام الأول توجيهات البنك المركزي. أما الائتمان طويل الأجل؛ ففي تقديرنا أنه لا بد من وجود بنك للاستثمار في الجهاز المصرفي المصري، ويجب أن يتلقى هذا البنك الفائض الإيجابي لكل شركات القطاع العام، وعليه أن يوفر لكل شركة الاستثمارات المقررة لها في الخطة (142).
ونحن نعلم أن إسماعيل صبري ويحيى الجمل – من خلال موقعهما في مجلس الوزراء – سجلاً اعتراضهما على الغزو الأجنبي لقطاع المصارف، وعلى تشويه نظامه، ولكن اتجاه السياسة العامة، والضغوط، عصفت بكل التحفظات. وقد نرى إدخال تعديلات للتصور الذي عرضه إسماعيل صبري لتنظيم القطاع العام المصرفي، إذا كنا نستهدف جذب مدخرات واستثمارات عربية، ولكن إذا كان الهدف الكامن خلف التصور ثابتًا، وهو تطويع الأداء في الجهاز المصرفي لاحتياجات التنمية المخططة، فإن التعديلات كانت ستأخذ مسارًا مختلفًا تمامًا عن الذي تحقق. إن التعديلات المحققة كانت ردة سببها الغزو الخارجي، الذي يرمي إلى هدف مضاد.


(5) القانون لم يكن مع ذلك تسليمًا كاملاً:
يبقى في النهاية أن نسجل أن القانون 43 ظل يحمل بعض الضوابط، فمن ناحية كانت صلاحية الأجهزة التنفيذية في الموافقة على المشروعات وفي متابعتها واسعة نسبيًّا، ومن ناحية أخرى اشتملت المادة 2 على ما اعتبره كبار المستثمرين المحتملين مسئولاً أساسيًا – من الزاوية الاقتصادية – عن إحجامهم، فهذه المادة تعرف المال المستثمر الذي تتناوله أحكام القانون، وجاء في البند الأول من التعريف أنه "النقد الأجنبي الحر المحول لجمهورية مصر العربية، بالسعر الرسمي عن طريق أحد البنوك المسجلة لدى البنك المركزي المصري؛ لاستخدامه في تنفيذ أحد المشروعات أو التوسع فيها".
والنقطة المحددة هنا هي: السعر الرسمي. فقد رفض المستثمرون أن يُحسب نقدهم الحر المحول إلى/ ومن مصر بالسعر الرسمي، وتضامنوا بالتالي مع الهيئات "الدولية" التي تضغط لخفض سعر الجنيه، وقد عبَّر أيامها مصطفى كامل مراد عن رأي هذه الجهات، "فاقترح حذف عبارة (السعر الرسمي)؛ ذلك أن الاتجاه الآن إلى تعويم الجنيه المصري في السوق الموازية، وقد يجري مستقبلاً إنشاء بورصة (كامبيو)، فلن يكون هناك سعر رسمي للجنيه المصري؛ لأن سعره سيتغير باستمرار، حسب مركز الاقتصاد المصري". وأوضح مندوب الحكومة سبب التمسك بعبارة السعر الرسمي، وقال إنه "جرت مداولات كثيرة في اللجنة الوزارية عمَّا إذا كان من الأفضل إضافة هذه العبارة، أو لا داعي لذلك، وكانت الآراء كما يلي:
* إن ما جرى عليه العمل فعلاً حتى الآن، هو أن التحويل يكون بالسعر الرسمي، والمقصود بالسعر الرسمي في هذه الحالة سعر التحويلات، وليس سعر السوق الموازية،
ولا سعر حسابات "ج".

* إن الأرباح تحول أيضًا بهذا السعر الرسمي (...) وعلى ذلك رأت اللجنة الوزارية تسجيل ما كان معمولاً به في نص المشروع". وأضاف وزير المالية تأكيدًا للموقف الذي كانت تتخذه الحكومة من قضية تعويم الجنيه، والذي كان يعني في تلك الظروف خفضًا كبيرًا في سعره الرسمي، فقال "كلنا نتكلم عن تعويم الجنيه، ولكن ذلك لم يتقرر للآن، وما زال تحت الدراسة، وفي حالة تعويم الجنيه، فلن يكون له إلا سعر واحد" (143).
رابعًا – الانفتاح وتشويه الخطة الانتقالية:
(1) الإطار العام للخطة:
كانت خطة 1974 قد وضعت، وأصوات القتال لم تخفت بعدُ؛ ولذا كان إجمالي الاستخدامات الاستثمارية في تلك الخطة 550.5 مليون جنيه (بالإضافة إلى 25 مليون جنيه زيادة في المخزون السلعي)، وكان هدف النمو المحدد لها 6.6%. وكان طبيعيًّا أن يتناول الخطة تعديل ما في العام الأول للانفتاح، فاتخذ قرار وضع الخطة الانتقالية في أبريل(144)، وأعيد النظر في استثمارات النصف الثاني من سنة 1974 لكي تتمشى مع إطار الخطة الانتقالية، وتم ذلك بتقرير استثمارات إضافية لهذه الفترة. أما الفترة التالية في الخطة الانتقالية (وهي سنة 1975) فقد قدمت كخطة سنوية، والأولويات التي حكمت الفترتين كانت واحدة.
وعمليًّا، كان التعديل في برنامج النصف الثاني من سنة 1974، عبارة عن طلب اعتمادات إضافية تقدمت به الحكومة إلى مجلس الشعب، وجهت بشكل أساسي إلى التعمير. فجملة الاعتمادات الإضافية بلغت 194.3 مليون جنيه (منها 16.6 مليون جنيه خصمًا على الاستثمارات غير الموزعة)، وكان نصيب التعمير من هذه الاعتمادات 106.3 مليون جنيه (بنسبة 54.7%). وعلى هذا يعتبر الجزء الخاص بعام 1975 – داخل الخطة الانتقالية - الجهد الأكثر تكاملاً لأجهزة التخطيط، ونعرض إطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1975 في هذا الفصل؛ لأنه يعبر عن تصورات التنمية كما سادت فعلاً في العام الأول من الانفتاح.
أ- يبلغ حجم الاستخدامات الاستثمارية المُستهدَفة نحو 1222.9 مليون جنيه (شاملاً الزيادة في المخزون وقدرها 40 مليون جنيه)، وإذا استبعد الإنفاق الاستثماري من هذا الرقم (11.5 مليون جنيه) والأرض (20.9 مليون جنيه) فإن إجمالي التراكُم الرأسمالي يكون 1190.5 مليون جنيه.
واستهدفت خطة 1975 الوصول بالناتج المحلي الحقيقي إلى 3757.2 مليون جنيه بزيادة قدرها 316.2 مليون جنيه عما كان متوقعًا تحقيقه في عام 1974، أي بنسبة 9.2% (بالأسعار الثابتة)، وترتفع الزيادة في الناتج المحلي إلى 388.9 مليون جنيه، أي بنسبة 10.7% (بالأسعار الجارية).
وتعني هذه الأرقام أن الخطة كانت طموحة جدًا من حيث الأهداف؛ فإجمالي الاستخدامات الاستثمارية المستهدفة (دون التغير في المخزون) يزيد عن ضعف ما كان مستهدفًا في 1974 (550.5 مليون جنيه) ويتجاوز ما تقرر لها بالفعل (728 مليون جنيه) بحوالي 455 مليون جنيه، وكان معدل نمو الإنتاج القومي الحقيقي في ذلك العام 3.14% (145). وقد عزت الخطة لارتفاع معدلات النمو المستهدف إلى "تشغيل الطاقات العاطلة، واستكمال المشروعات الجاري تنفيذها، فضلاً عن تزايد نشاط بعض المشروعات والقطاعات ذات الأهمية الخاصة؛ كمجمع الحديد والصلب، الذي يزيد إنتاجه بنسبة 200% ومجمع الألومنيوم الذي ينتج لأول مرة، وشركة "كيما" بعد عمرتها الجسيمة، وقطاعي التشييد والكهرباء".
ب- وبالنسبة لأولويات الخطة كانت: التعمير أولاً – ثم استكمال المشروعات التي قطعت شوطًا كبيرًا في التنفيذ – ثم الإحلال والتجديد والطاقات العاطلة لإزالة الاختناقات بهدف زيادة معدلات الإنتاج – ويقتصر الاستثمار في المشروعات الجديدة التي تلعب دورًا استراتيجيًّا في التنمية (مثل الأسمدة والأسمنت) أو التي تلبي حاجات ماسة للجماهير. ويلاحظ أن الاستثمارات العينية الموزعة في القطاع العام (نحو 1056.2 مليون جنيه) خصص منها 438.9 مليون جنيه للقطاعات السلعية (41.5%)، منها 196.3 للصناعة (أي 18.6% دون البترول والكهرباء)، وكانت نسبة الزراعة 4.3% والري والصرف 4%. وبالنسبة لاعتمادات الجهاز الإداري زنادت بحوالي 281.4 مليون جنيه عن عام 1974، منها 242.7 مليون جنيه لوزارة الإسكان والتعمير "لمواجهة أعباء التعمير"، وهذا المبلغ إذا أضيف إليه 134.3 مليون جنيه مخصص لهيئة قناة السيوس، يرتفع إجمالي الموجه لمنطقة القناة إلى حوالي 370 مليون جنيه، أي أنها استحوذت وحدها على 35% من إجمالي الاستثمارات للقطاع العام.
ج- هيكل التمويل: أوضحت الخطة أنها وضعت ضمن أهدافها معاودة بناء "مخزون سلعي استراتيجي، يمكن استخدامه لتوفير احتياجات القوات المحاربة وقت الحرب، ولضمان أقوات الجماهير، وإشباع حاجاتها في الحرب والسلم معًا دون أزمات حادة"، وهذا الهدف كان يعني في الحقيقة زيادة المبالغ المخصصة للمخزون إلى 275 مليون جنيه؛ وبذا وصل المطلوب للاستثمار والمخزون إلى حوالي 1466 مليون جنيه (1191 + 275)، وفي نفس الوقت قدرت الخطة المدخرات المحلية (= الاستثمار والمخزون – العجز الجاري في ميزان المدفوعات) بما لا يتجاوز 116 مليون جنيه، أي 7.9% فقط، وإذا أضيفت مبالغ الدعم العربي (مقدرة بـ 250 مليون جنيه) إلى المدخرات المحلية، لا ترتفع النسبة إلى أكثر من 25%، وتظل الخطة تنتظر كرم الجهات الخارجية لتوفير 75% من المطلوب.
د- السياسات الاقتصادية: لم تتناول الخطة الانتقالية السياسات المحددة التي تضمن تنفيذ الأهداف، وهذا الإغفال لم يكن على سبيل السهو، ولكنه انعكاس لنقص الصلاحيات المخولة لأجهزة التخطيط المركزية؛ ولذا اكتفت الوزارة بتوجيه بعض "النصائح والتعليقات" المتفرِّقة، واطمأنت - فيما يبدو - على ما يتضمنه هيكل الخطة نفسه من أدوات اعتبرتها كافية لتحقيق الأهداف، فقد تضمنت الخطة إسناد 91.5% من جملة الاستثمارات العينية الموزعة إلى القطاع العام.
(2) نقد الأولويات:
أ- بعد هذا العرض لإطار الخطة الانتقالية، ننتقل إلى الملاحظات، وقد وصف تقرير للبنك الدولي هذه الخطة بأنها "أولاً خطة مؤقتة لعبور فترة الظروف غير العادية التي نشأت عقب حرب أكتوبر 1973، توجهًا إلى مرحلة تكون العودة فيها إلى التخطيط المعتاد، ولخمس سنوات ممكنة. وثانيًا، فإنها المحاولة الأولى لإضفاء مضمون عملي لسياسة الانفتاح الاقتصادي؛ ولذا تعهد الخطة إلى القطاع الخاص بدور أكبر جدًا – الاستثمار الخاص المستهدف في 1975 حوالي ثلاثة أضعاف المستوى للعام السابق، وأيضًا إلى رأس المال الأجنبي، وثالثًا، تركز إلى حد كبير على مشروعات ذات فترة حضانة قصيرة؛ مثل مشروعات تحقيق التوازن، والتحديث، والاستخدام الأكمل للطاقة الصناعية القائمة. هذا التأكيد على ما يسمى "القطاعات الإنتاجية" يؤدي على أية حال إلى بعض الإهمال للقطاعات الاجتماعية" (146). وفي هذا الوصف التحليلي العام يصدق التقرير في (أولاً)، فالخطة اسمها انتقالية، وتقريرها يحدها هدفها بأنه "تثبيت وتقوية القاعدة التي سوف ينطلق منها الاقتصاد المصري خلال الخطط الخمسية القادمة". ويصدق تقرير البنك في (ثانيًا) أيضًا، فهي تعبير عن الممارسة العملية لسياسة الانفتاح (وليس لورقة أكتوبر)، وتعبير عن هذه الممارسة في إطار مفاهيم الانفتاح وتوازنات القوى في تلك السنة. هذه الممارسة كانت تعكس تراجعًا عن ورقة أكتوبر، ولكن تراجعًا غير كامل. وتركيز البنك الدولي على زيادة دور القطاع الخاص المصري والأجنبي، ولم يكن تركيزًا على أهم ما نعتبره تراجعًا عن ورقة أكتوبر، والحقيقة أن نصيب القطاع الخاص (98.2 مليون جنيه) كان يزيد فعلاً ثلاث مرات عن حجم استثماره المقدر في خطة 1974، وكان النصيب المعلن للقطاع العام – في المقابل – 1056.2 مليون جنيه، وكان يبدو بالتالي أن نسبة الاستثمار الخاص، ظلت 8.5% فقط.
أما (ثالثًا) التي جاءت في تقرير البنك الدولي (عن الأولويات) فإنها غير صحيحة. وسنتحرر هنا من تقييمات البنك الدولي؛ لنقدم تصورنا الخاص. ولا شك أن أولويات الخطة تقررت سياسيًّا، فهي قد تقررت – كما يقول تقرير الخطة – "في ضوء توجيهات السيد الرئيس ومناقشات اللجنة العليا للتخطيط السياسي".
ب- ويتضح ذلك تمامًا بالنسبة للنقطة ذات الأولوية الأولى – أي التعمير – فإن اعتبارات السياسة العليا هي التي قررتها، أقصد الاختيار الاستراتيجي لأسلوب حل للصراع المصري/ الإسرائيلي. في وقت من الأوقات صرح الرئيس السادات بأن عملية التعمير تبدأ عندما ينسحب آخر جندي إسرائيليّ من الأرض العربية (147). ولكن بعد اتفاقية الفصل الأول للقوات، ومع وعود محددة بانسحاب إسرائيليّ آخرَ في اتفاقية فصل ثان للقوات في أكتوبر، التزمت القيادة بالبدء في التعمير، وأسندت المهمة إلى عثمان أحمد عثمان، وكانت تعليمات الرئيس له: "إنني أريد إعادة بناء هذه المدن التي تقع تمامًا في مدن المدفعية الإسرائيلية. إنني أريد أن أوضح للإسرائيليين، أنني لا أنوي شن حرب ضدهم مرة أخرى"(148).
وقد دارت بالفعل عجلة التعمير بأقصى سرعة، واحتل الأولوية في خطة، تهدف إلى إنعاش اقتصاد مُنهَك، رغم أن التعمير – من الناحية الاقتصادية – كان يزيد من متاعب الاقتصاد المصري. وقد تدفقت الوعود والقروض بشكل مخطط نحو هذه الأولوية بالذات؛ إذ أسرعت الولايات المتحدة إلى قيادة عمليات تطهير مجرى القناة. وفي رسالة نيكسون إلى الكونجرس (24 أبريل) اقترحت معونة "لدعم" مصر (حوالي 250 مليون دولار) من أجل: 1- تطهير قناة السويس. 2- إصلاح المنشآت المدمرة. 3- المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد المصري. ومن هذا المجموع المتواضع، اقترحت الرسالة تخصيص 170 مليون دولار لتعمير منطقة القناة (149). وفي يونيو قدمت الكويت 150 مليون دولار لنفس الغرض. وفي أغسطس قدمت السعودية 300 مليون دولار كمعونة عاجلة لتعمير منطقة القناة، أثناء زيارة للملك فيصل (وبالمناسبة كانت الصحافة المصرية قد توقعت أن تقدم السعودية 1.2 بليون دولار كقروض مُيسَّرة بالإضافة إلى معونة التعمير.. ولكن لم يحدث). وفي نوفمبر 1974 أعلن صندوق التنمية السعودي موافقته على التعاون في تقديم قروض لبعض المشروعات؛ كممول شريك مع البنك الدولي، وكان على رأس القائمة قرضٌ للإسهام في إعادة فتح قناة السويس للملاحة.
والبنك الدولي كان قد أعلن (بعد زيارة مكنمارا للقاهرة) عزمه على تقديم قروض قيمتها 200 مليون دولار لعدد من المشروعات (في السنة المالية يوليو 1974/ يونيو 1975) ولكن لم يستخدم عام 1974 إلا قرض قناة السويس (50 مليون دولار). أما إيران الشاه، فكان الاتفاق معها (849.6 مليون دولار) في مايو 1974 يشمل مجالات متنوعة، ويتكون من تسهيلات ائتمانية واستثمارات مشتركة. وأثناء زيارة الشاه (يناير 1975) كان على رأس المشروعات التي حددت استعادة التسهيلات الملاحية في ميناء بورسعيد (حيث لإيران منطقة تجارة حرة)، وكان مقترحًا أن تقيم بها مصنع بتروكيماويات، وخط لنقل البترول بين السويس وبورسعيد تشترك فيه إيران مع آخرين، بالإضافة إلى المساهمة في إعادة الملاحة في القناة وتطويرها من خلال عقد مع شركة يابانية (150).
ولا ننسى طبعًا أن اليابان قدمت بدورها 38 بليون ين (حوالي 60 مليون جنيه) قرضًا لإعادة الملاحة في القناة(151).
ج- واحتلال التعمير لموقع الأولوية الأولى مسألة يختلف معها جذريًّا كل من له تصور استراتيجي مغاير في مجال الصراع مع إسرائيل. ولكن حتى في نطاق التصور الاستراتيجي "الرسمي"، لم يكن مفهومًا أن يتسع نطاق العملية على النحو الذي صار، رغم أعبائها الاقتصادية الثقيلة. والطريف أن البنك الدولي – يزعم دائمًا أنه بعيد عن السياسة، ويقيس الأمور من زاوية اقتصادية فنية (ويضيف حاليًا أنه يهتم أيضًا بالنواحي الاجتماعية) ولكن هذا البنك الدولي لم يتوقف بأي تحفظ أمام قضية التعمير، بل تجاهلها تمامًا، وهو يحصر أوجه تركيز الخطة. ولكن لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب، أثبتت في الحقيقة أنها تحذر. ورئيس اللجنة في ذلك الوقت (أحمد أبو إسماعيل) كان قد اكتسب سمعة طيبة عند الهيئات الدولية والدوائر اليمنية، باعتباره المنظر الاقتصادي للانفتاح غربًا بلا حدود، ولكنه توقف مع ذلك أمام قضية التعمير؛ إذ لاحظ "أن الكثير من المشروعات يتعلق بالتعمير والإسكان والمرافق، وهذه أنشطة لن تترتب عليها صادرات، ولكن الخطة تمول جانبًا كبيرًا من هذه بقروض، وهذا يضعف مركزنا الاقتصادي؛ ذلك أنه لن يمكن سداد مثل هذه القروض، إلا إذا أمكن زيادة الصادرات من المشروعات الأخرى زيادة ضخمة تكفي لسداد قروض المشروعات جميعها، وهذا أمر لا يتأتى لمشروعات حديثة التكوين، وكان واجبًا على المخطط للمحافظة على سلامة الاقتصادي المصري في علاقاته الخارجية، أن يعتمد في تمويل مشروعات الإسكان والتعمير والمرافق على المعونات، كما فعلت كثير من الدول التي مرت بها حرب" (152).
د- إلا أن مخاطر التعمير على هذا النطاق الواسع
لم تقتصر اقتصاديًّا على مسألة القروض المتعذر سدادها، فالعملية بطبيعتها تزيد الضغوط التضخمية (كما أسلفنا)، وعثمان أحمد عثمان الذي قرر تصدير عمال البناء والحرف المكملة بلا ضابط، كان هو نفسه المشرف على عمليات التعمير، ويدرك احتياجاتِها الكبيرة من هؤلاء العمال، وقد انعكس ذلك في تشوه هيكل الأجور على المستوى القومي، وكان ذلك ضمن أسباب مضاعفة التكلفة للأعمال الإنشائية عمومًا، ومعها الضغوط التضخمية. وللحقيقة لم يفت وزارة التخطيط في هذه النقطة أن تتقدم "بواجب الشرح والنصح" فسجلت أن عنق الزجاجة في أعمال الإنشاء والتعمير، يتمثل في عنصر العمالة "فقد بدأت الشكوى من نقص العمالة الفنية منذ العام الماضي بصفة خاصة؛ نتيجة للعمل في ليبيا (ولم يشأ تقرير الوزارة أن يضيف السعودية ودول الخليج). كما أن أعمال التعمير قد جذبت نسبة عالية من العمالة المتاحة؛ نظرًا للأجور المرتفعة في منطقة القناة، مما يخشى منه على معدلات التنفيذ في بقية المشروعات. وتجدُر الإشارة هنا إلى أن زيادة الأجور، لن تحل مشكلة العمالة في قطاع التشييد على المستوى القومي؛ حيث إن عرض العمالة الفنية أقل من الطلب بشكل واضح. كما أن ارتفاع الأجور يزيد من تكاليف التشييد؛ مما ينقص الحجم العيني المنفذ من الخطة؛ ولهذا فلا بد من التحفظ فيما يتعلّق بسفر عمال البناء في الخارج".

ولم يكن ممكنًا أن يستخدم التخطيط (بعد كل ما قال) كلمة أشد من "التحفظ" حتى لا يغضب الوزير القوي عثمان أحمد عثمان (ومن خلفه). وقد منح مجلس الشعب وزارة التعمير سلطات واسعة بمقتضى القانون رقم 62 لسنة 1974، وهذا القانون خوَّل الوزارة وضع خطة التعمير، ويسلمها سلطات مالية وإدارية واسعة، دون التقيد بالقواعد المنظمة للتصرف في النقد الأجنبي وباللوائح المالية، أو لوائح المناقصات والممارسات والمقاولات. وبمقتضى هذه الصلاحيات خرجت استثمارات تبلغ 242.7 مليون جنيه (وهي الاستثمارات المخصصة للتعمير) من دائرة الإشراف المركزي لأجهزة التخطيط. وقد أعلن مجلس الشعب في ردِّه على بيان الحكومة أن السلطات الواسعة المخوَّلة لوزارة التعمير
"لا تعني تحللاً من رقابة المجلس، بل تفرض مزيدًا من اليقظة والحزم"، ولكن هذا الحزم لم يظهر أبدًا، رغم أن كافة التقارير غير الرسمية كان تلِح على ضرورة التدخل، "فالتعمير يسير بطريقة عشوائية وغير مخططة" – هذا ما أعلنه مثلاً عضو مجلس الشعب المسئول عن متابعة هذا الأمر، وقد شرح الرجل أوجه الإسراف العجيب (153). وكتب في نفس اتجاهه ميلاد حنا (أستاذ الإنشاءات بهندسة عين شمس) وقال "إنه سأل المسئولين التنفيذيين عن سر هذا الإسراف، فأجابوا بأنهم - بدورهم - لا يعرفون السبب، وأنهم يتصورون أن هذه سياسة عليا!" (154).

وفي مجال التعمير، كان ذائعًا أيضًا المبالغة في الاستعانة بالخبرات الأجنبية، في أمور لا تستأهل أبدًا الاستعانة بالأجانب، وكانت هذه العملية تتم بالذات من خلال شركة "المقاولون العرب"، وأحاطت بذلك شبهات قوية. كذلك كانت التقديرات الرسمية (التي سربتها دوائر التخطيط في ذلك الوقت) تقرر أن حجم الأعمال المقدر إسنادها إلى قطاع المقاولات الخاص. في مناطق التعمير – يتجاوز 140 مليون جنيه أثناء خطة 1975. وباختصار يمكن أن نقول إن هذا التعمير كان مضخة هائلة لتحويل الموارد – بطرق غير مشروعة – إلى القطاع الخاص المشوه، وتمت هذه العملية تحت أعين الجميع، بل بمساندة ومباركة من جهات في قمة المسئولية والنفوذ.
هـ- لماذا غض البنك الدولي بصره عن كل ذلك،
ولم يتوجه بكلمة نقد "اقتصادي" واحدة إلى التوسع في قطاع التعمير أو إلى سلبيات الأداء
، رغم أن هذه السلبيات – من وجهة النظر الاقتصادية البحتة – لم تكن خافية على أحد؟ هذا السؤال قد يبدو للبعض مشروعًا، ولكنه بالقطع – وعلى ضوء مفهومنا للبنك الدولي – يعتبر سؤالاً ساذجًا. فكل ما نعتبره سلبيًّا، كان إيجابيًا تمامًا من المنظور الاقتصادي للبنك الدولي. من هذا المنظور أصاب قطاع التعمير – باتساعه وأسلوب أدائه – عديدًا من العصافير بحجر واحد:

حصر دائرة التخطيط المركزي والمتابعة المركزية؛ بإخراج أهم مجال للاستثمارات الجديدة من هذه الدائرة – أخل بالتوازن المعقول بين القطاعات الاقتصادية؛ فالتوسع في التعمير كان بالضرورة على حساب التوسع في قطاعات أخرى، وعلى حساب حصول هذه القطاعات على احتياجاتها من الاستثمار ومستلزمات الإنتاج، وإحداث الاختلال والإرباك، كان مفيدًا في هذه المرحلة – تأكد هذا الاتجاه من خلال زيادة تكلفة التشييد، ونُدرة العمالة، فمع أولوية التعمير، كان لا بد أن تهبط معدلات التنفيذ العيني للإنشاءات في المجالات التي لم تكن تحظى بمباركة البنك الدولي – وما ترتب على ذلك من ديون خارجية صعبة، وزيادة في الضغوط التضخمية، يساعد الحملة المشتركة لخفض سعر الجنيه، ويساعد في إشاعة الفوضى في هيكل الأسعار الذي حاولت الحكومة أن تحميه – وما يعتبر فسادًا ودخولاً طفيلية من زاوية معينة، كان من منظور البنك (ومن معه) إحداثًا لتراكم أوَّلِي سريع في يد عصابات من المغامرين، أي في يد قطاع خاص، حسب المواصفات المطلوبة، قطاع خاص انتفخ بدخول هائلة؛ نتيجة للسياسة الأمريكية والسلام الأمريكي؛ ونتيجة للتعامل مع الشركات الأجنبية. أليس كل هذا كافيًا لكي يلتزم البنك الدولي جانب الصمت، علامة على الرضا والارتياح؟ بالقطع يكفي، ودعك من مسألة أن التعمير كان – أيضًا – مطلبًا أمريكيًّا إسرائيليًّا لإقامة عائق أمام تجدد الاشتباكات العسكرية؛ ولتكثيف الوجود الأجنبي في حزام عازل بين القوات (سواء في شكل مصالح، أو في شكل خبراء التعمير والبترول).
(3) دلالة التركيز على الصناعة:
أ- كانت هذه الأولوية الأولى للخطة الانتقالية. إلا أن الأولويات التالية مثَّلت - إلى حد ما - محاولة التوازن أو مرحلة التردد في الانفتاح المطلوب. وقد حظيت هذه بمعارضة في تقرير البنك الدولي كما أسلفنا، وأيضًا في مجلس الشعب، فقد هُوجم استئثار القطاع العام بالنصيب الغالب من الاستثمار. ونقد تقرير لجنة الخطة والموازنة، ما وصفه بأنه مبالغة في التركيز على الطاقات العاطلة، وقال إن الزراعة لم تنلْ مكانها المناسب في الأولويات؛ حيث إن نصيبها من استثمارات 1975 لا يعدو 4.3%، "ويقل حجم ما خصص لوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي من استثمارات في هذه الخطة، عمَّا خُصص لها عام 1974"، والحقيقة أن الخلاف بين الحكومة واللجنة، لم يكن في المفاضلة بين الزراعة والصناعة، ولكن في تحديد دور كل من القطاعين العام والخاص في إنجاز الأهداف العاجلة كما جاءت في خطة 1975.
إن تشجيع القطاع الخاص المنتج (كما هو الحال في الزراعة) ضرورة قومية، ولكن كان معقولاً أن تكون أولوية أو درجة التشجيع بقدر الإسهام المتوقع لهذا القطاع في تحقيق الخطة المعينة، وهي في هذه الحالة خطة إنعاش تهدف إلى تحقيق عائد سريع ومرتفع يمكن للدولة تعبئته لمواجهة الأعباء والالتزامات المتعددة، والتركيز على قطاع الزراعة – بوصفه المعروف – لم يكن ليحقق هذا الهدف، وإذا كان المطلوب – في المدى القصير – خطة تحقق – بقدر معقول من اليقين – عائدًا سريعًا، فإن التركيز لا بد وأن يكون على الصناعة (في القطاع السلعي) فهي بطبيعتها قطاع منظم، وكان مفترضًا – في 1975 – أنها خاضعة للإدارة المركزية، وهي بالتالي أقدر على تحقيق الهدف المطلوب لذلك العام، وقد تمسكت الحكومة، بموقفها من تحديد الأولويات، وتمسكت بهذا الحجم الكبير لاستثمارات القطاع العام، ولاستثمارات الصناعة، وكان موقفها في هذه الجزئية صحيحًا، ووفقًا لحسابات تبدو واقعية، ولكن نكرر كالعادة أن السياسات لا بد أن تكون متكاملة.
ب- وأعتقد أن من واجبنا أن نذكر – بالمناسبة – أن القطاع الخاص لم يكن "مظلومًا" جدًا، فأرقام الاستثمار العام أخفت نسبة محترمة من الأموال كان مفروضًا أن تحول إلى القطاع الخاص، وإذا تركنا جانبًا موضوع العمولات، وما أشبه في التجارة الخارجية والتعاقدات المحلية، فإنه يكفي أن نشير إلى قطاع المقاولات، فقد كان متوقعًا أن يتعاظم دور قطاع المقاولات الخاص بنفس معدلات زيادته في منطقة القناة (مباشرة أو من الباطن) وحجم إنتاج التشييد في الخطة الانتقالية، كان مقدرًا أن يصل إلى 654.6 مليون جنيه، وكان الحجم المقابل في خطة 1974
لا يتجاوز 391 مليون جنيه، ورغم أن هذه الزيادة الهائلة تبلغ 68% فقد تمت تصفية شركتين من شركات القطاع العام في مجال المقاولات، ورفع حد التعاقد – في نفس الوقت – مع مقاولي القطاع الخاص من 100 ألف جنيه إلى 500 ألف جنيه. ويعني ذلك أن الإجراءات العملية كانت تتيح للقطاع الخاص فرصة التوغل في ميدان استراتيجي يتسع باتساع القطر، وهو في هذا الميدان يشتغل بمال الدولة وتسهيلات بنوك الدولة، ويحقق تراكمًا خرافيًا. ويستحيل تقديم أرقام محددة عن الأرباح، ولكن أحد القريبين من الصورة (محمود أبا وافية) اضطُرَّ إلى "المطالبة بإعادة النظر في العلاقات بين شركات المقاولات وأصحاب الدخول الطفيلية الذين يريدون أن يثروا دون مجهود أو تعب" (155). وقد أشارت لجنة الرد على بيان الحكومة إلى نفس المعنى حين أعلنت "أنه قد أصبح من الضروري أن تمتد أحكام قانون الكسب غير المشروع إلى المتعاملين مع القطاع العام من الأفراد". وقالت: "إن الفساد والثراء يرجع - في معظمه - إلى علاقات في أحد طرفيها موظف اؤتِمن على أموال عامة، فخان الأمانة، وفي الطرف الآخر فرد يسعى إلى التأثير على ذمة الموظف العام؛ ليتقاسما معًا الربح الحرام". إن هذه الفقرة كانت تتسع لفئات أخرى غير المقاولين، ولكن لا شك أن أعمال المقاولة التي تحركت في نطاق 655 مليون جنيه، كانت من أكثر المجالات إسالة للعاب. وقد دلَّت الخبرة المصرية أثناء الخطة الخمسية الأولى (60/ 1961 – 64/ 1965) على أن قيام القطاع الخاص بنصيب كبير من إنتاج التشييد، أدَّى إلى مضاعفة التكلفة، واستنزاف المال العام، وإرباك المواعيد، وكان هذا الكلام معروفًا ومعلنًا، والخبرة الحالية المتجددة أكدت نفس الشيء.

(4) هيكل التمويل المشوَّه:
أ- ننتقل بعد هذا إلى هيكل التمويل: وقد حددنا الأبعاد الشاذة لاختلال الهيكل، وقال تقرير الخطة هذا الاختلال يبرز "بعض الصعاب والمشاكل التي تصاحب جوانب التنمية خلال عام 1975، إلا أن التقدير الموضوعي لآثار حرب أكتوبر في رفع مكانة مصر، وتأكيد التضامن العربي والتغيير الإيجابي في مواقف بعض الدول الأجنبية، والنتائج السياسية النشيطة التي تمارسها الحكومة بتوجيه من السيد الرئيس لدعم كل أشكال التعاون العربي والدولي، وتزايد الثقة في الاقتصاد المصري، واستقراء ما تم عقده بالفعل من اتفاقات وما هو بسبيل الإبرام، كل ذلك يجعل التخطيط يطمئن إلى أن بوسعنا مواجهة هذا العجز بمواردَ خارجية في هذه الفترة الاستثنائية، التي تبرر في ذاتها الاعتماد الكبير على تلك الموارد. كما أن النتائج المتوقعة عن تنفيذ الخطة من شأنها أن تضع الاقتصاد المصري في وضع أفضلَ عند بداية الخطة الخمسيَّة".
وهذا التبرير – من أوله لآخره – لا يبدو مقنعًا؛ فمن حيث المبدأ، من يحتكر التمويل يملك التخطيط، يملك إملاء الأولويات، وتحديد المشروعات، وهذه بدَهيَّة لا تحتاج عناء الإثبات. وقد بنت الحكومة توقعاتِها بتوفير التمويل – ووفق شروطها هي – على فرض تزايد الثقة في الاقتصاد المصري، ولا ندري كيف تتزايد الثقة في اقتصاد تعلن الخطة أنه مفلس وعاجز تمامًا عن تمويل تنميته؟ أيضًا بُنيت التوقعات على تغير الظروف السياسية، واستقراء ما تم من اتفاقات. ويلاحظ هنا أن الخطة كانت تدرك أن أولوياتها جعلت الانحياز غربًا جزءًا من بنيتها (ورغم نقدها بالكلام للمبالغة في هذا الاتجاه في مواضعَ متفرقة من تقرير الخطة) فالمكون الأجنبي في إجمالي الاستثمارات العينية قُدِّر
بـ 468 مليون جنيه، وكان نصيب التمويل الأجنبي الحر (أي من الدول الغربية) 408.4 مليون جنيه، ونسبته 87.3%. وأرجعت الخطة "هذا الارتفاع الملحوظ في الاعتماد على التمويل الأجنبي الحر إلى احتياجات التعمير المعطاة أولوية في خطة 1975 والتي لم يسبق تضمين معظمها في أيَّة افتقادية دفع"، والحقيقة أنه لا سبق ولا كان متوقعًا أن تتضمن اتفاقيات الدفع مع الدول الاشتراكية إسهامًا في عمليات التعمير التي اعتُبرت جزءًا من السلام الأمريكي، ولكن لم تكن مشروعات التعمير وحدها المسئولة عن هذا الانحياز في هيكل تمويل الخطة.

وإذا كان من أسباب هذا الانحياز تفاؤل راجع إلى "تغير الظروف السياسية، واستقراء ما تم من اتفاقيات" مع الأصدقاء الجدد، فقد ثبت الآن أن هذه التقديرات كانت جزءًا من أحلام الفترة، بل كان واضحًا – حتى في تلك الأيام – أن استقراء ما تم فعلاً من اتفاقيات، كان يؤدي إلى غير التفاؤل؛ فوفقًا لتصريحات الرئيس السادات وقت إعداد الخطة، كانت الوعود (الوعود وليس الاتفاقيات المحددة) التي حصلت عليها السلطات المصرية كالتالي: إيران 100 مليون دولار – ألمانيا الغربية 30 مليون دولار – الولايات المتحدة 250 مليون دولار – البنك العربي الدولي 50 مليون دولار (156).
ب- ومع هذا الصورة لإمكانيات التمويل الميسرة لم يكن يعني تنفيذ الخطة، إلا لجوءًا للاقتراض الصعب لسد الفجوة التمويلية، أي تدهورًا متزايدًا في وضع الاقتصاد المصري، وقد أشار تقرير لجنة الخطة والموازنة – في مجلس الشعب– في ذلك الحين إلى أنه لا يعترض على تمويل عجز يصل إلى نحو 1100 مليون جنيه بالاقتراض من الخارج، وقال إنه ليس هناك عيب أو خطر في ذلك، ولكنه أشار إلى أن الخطة تقترض نوعين من القروض:
1- قروض إنتاجية قصيرة الأجل.
2- قروض استثمارية طويلة الأجل.
أما النوع الأول من القروض، فإن الخطة تقوم بالحصول عليه؛ لتمويل شراء جانب كبير من السلع الوسيطة، خصوصًا تلك التي تدخل في تشغيل الطاقات العاطلة، وهذه القروض يجب سدادها بعد فترة قصيرة. ولكي يمكن سدادها يجب أن نكون قادرين على تصدير جزء من الإنتاج الذي تحقق نتيجة لعملية الاقتراض من الخارج، فإذا كانت أرقام الخطة تتوقع جمودًا في حجم صادراتنا؛ فإن هذا يعني أننا لن نتمكن من سداد فوائد وأقساط القروض الإنتاجية قصيرة الأجل، التي سنقترضها لتشغيل الطاقات العاطلة، ومعنى ذلك أن هذه الطاقات العاطلة التي سيتم تشغيلها عام 1975 نتيجة للاقتراض، ستعود طاقة عاطلة مرة أخرى؛ لأنه لن يكون هناك من يقرض دون انتظار سداد قرضه وفوائده، وإن عدِم سداد القروض التي ستمول الطاقات العاطلة؛ سيضر بالمركز الائتماني للدولة، وسيضعف قدرتنا في الحصول على القروض الإنتاجية التي نموِّل بها إنتاجنا العادي، وبذلك ستظهر الاختناقات في اقتصادنا القومي بصورة أكثر عنفًا في عام 1975.
كان هذا موقف لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب من ضوابط الاقتراض لتشغيل الطاقات العاطلة (وسبق أن ذكرنا معارضتها لقروض التعمير)، وقد كان هامًا أن نثبت هذا الموقف؛ لأنه قُدِّر بعد ذلك لكاتب تقرير اللجنة - أحمد أبي إسماعيل - أن يصبح وزيرًا للمالية بعد هذا الكلام بأربعة أشهر. وكل ما كان واعيًا به وحذِرًا منه، قام هو بتنفيذه، بل بوسعنا أن نقول إن الوزير المسئول عن صياغة الخطة الانتقالية كان يتوقع – بناء على الاتصالات السياسية– أن هناك احتمالات قوية للحصول على قروض ميسرة (157)، وقد يصلح هذا كتبرير ما، لخطة تعتمد أساسًا على التمويل الخارجي، ولكن ما هي حجة المسئولين الذين اتضح لهم أن الموارد الخارجية الميسرة غير متوافرة بالقدر الذي كان متوقعًا، ما هي حجتهم في الاستمرار؟ لقد سجلت (الطليعة) أيامها، أننا - من حيث المبدأ - ضد الاعتماد على الإقراض الخارجي كمصدر أساسي لتمويل التنمية، ويزداد اعتراضنا– مثل تقرير لجنة الخطة والموازنة – إذا كان محتملاً أننا لن نستطيع سداد هذه القروض الكبيرة، وبالتحديد إذا كانت قصيرة الأجل (158).
(5) السياسات العامة المصاحبة للخطة:
أ- بالنسبة للسياسات العامة التي اعتمدت عليها الحكومة لتنفيذ الخطة، ذكرنا أنها كانت مرتكزة على الدور القيادي للقطاع العام كمعطي، ولكن كان مفهومًا أن هجوم الجهات الخارجية على القطاع العام، ذو شُعَبٍ ثلاث: شُعبة تستهدف ضرب سيطرة الدولة على التجارة الخارجية والبنوك؛ باعتبارها أكثر المواقع أهمية – والشعبة الثانية تستهدف إنهاء التنظيم المركزي للقطاع العام – والشعبة الأخيرة تستهدف تقليص حجم القطاع العام المنتج بشكل عام.
وقد تناولنا ما حققته شعبة الهجوم الأولى – ونوضح هنا أن الحكومة حاولت أن تقف ضد شُعبة الهجوم الثانية خلال عام 1974، وحين أثار مصطفى كامل مراد (بتوارد خاطرٍ غريب مع المطالبات الدولية) قضيةَ إلغاء المؤسسات النوعية رد رئيس مجلس الوزراء "بأن إلغاء المؤسسات العامة، يضع كل المكاسب التي حققناها من خلال إدارة القطاع الاقتصادي، ومن أجل هذا؛ فإنني أؤيد تأييدًا كاملاً بقاء المؤسسات العامة الاقتصادية؛ باعتبارها الشركات الأم (شركات قابضة)" (159).
ولكن هذا الموقف كان – كالعادة – يتراجع سريعًا؛ فبعد أيام من التصريح السابق، صدر قرار بإعطاء 20 مصنعًا سلطاتٍ مطلقة في الإنتاج والاستيراد والنقل البحري، وفي التعامل مع البنوك لتدبير العملات الأجنبية؛ لاستيراد مستلزمات الإنتاج، وأعلن أن هذه القائمة دفعة أولى، وأن كافة الوزراء كُلِّفوا بتقديم أسماء الشركات التي يطبق عليها هذا النظام في قطاعاتهم. وصرح وزير التعاون الاقتصادي بأنه لا يرى مانعًا في تطبيق هذا النظام على كل الشركات العامة. وصحيح أن هذا الإجراء ظل محدود الأثر من الناحية العملية، ولكنه كان مؤشرًا واضحًا إلى أن الحكومة في موقف الدفاع، وتستعد للتراجع. ويعزز هذا الاتجاه أن قطاع الاستثمار المشترك كان مقررًا (وفق القانون 43) معاملته كقطاع خاص، ويعني هذا – ضمن ما يعني – أنه لا يخضع لسلطة المؤسسات النوعية. إن صيغة المؤسسات النوعية
لم تراعِ - في كل الأحوال - طبيعة العلاقات الاقتصادية الموضوعية بين الشركات العامة، ويمكن أن يقال إن أسلوب ممارستها لمهامها التنظيمية والإشرافية، كان يحتاج تطويرًا يزيد من استخدامات المُحفِّزات المعنوية والاقتصادية.

ولكن لم يكن الحل أبدًا لعلاج الصداع قطعَ الرقبة. ودور المؤسسات العامة كان في الأساس – ورغم كل التحفظات – إيجابيًّا، وكان ضرورة لتكامل الجهود في تنفيذ التنمية المخططة، ولترشيد تخصيص الموارد على مستوى مركزي، وللتنسيق بين الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية (على مستوى الوحدات) منعكسة في تحديد الأهداف، وفي السياسة السعرية.. إلخ. وكذلك كانت المؤسسات العامة أداة ضرورية لدعم القطاع العام في مواجهة التحديات الخارجية. وقد تذرعت الجهات الأجنبية بتبرير غريب لهجومها على المؤسسات النوعية، فادَّعت أن المؤسسة المركزية تسيء بالضرورة إلى إنتاجية المشروعات التابعة؛ لأنها بالضرورة أداة بيروقراطية، تعوق إطلاق المبادرات في الوحدات المنتجة، وهذا ادعاء مفضوح الكذب، فقائلوه على بيِّنة من وضع الشركات العابرة للجنسية، التي تدير - من مقر قيادتها في واشنطن أو بون أو أيَّة عاصمة مركزيَّة - فروعًا في أستراليا وزئير وبوليفيا، ويعلمون أن فروع هذه الشركات إذا جاءت في مصر، ستكون حلقة تابعة لهذه المؤسسات المتشعبة والمتكاملة. وهذه المؤسسات تقوم نطاق صلاحياتها– وبكفاءة عالية – بنفس المسئوليات التي تقوم بها المؤسسات المتشعبة والمتكاملة. وهذه المؤسسات النوعية داخل الاقتصاد المصري، ولكن في محاولة للتمركز حول الذات. ويصعب – على ما أعتقد – تفسير هجوم الجهات الخارجية على المؤسسات النوعية للقطاع العام، إلا إذا قلنا إن حيثيات دفاعنا عن هذه المؤسسات، هي نفس الحيثيات الحقيقية التي تدفع الجهات الأجنبية إلى المطالبة بتصفيتها؛ إذ يكفي أنها تنظيم مناسب لقيادة القطاع العام للتنمية المستقلة؛ كي تكون التصفية واجبة. وقد حاولت الحكومة – كما سجلنا أن تعترض.
وحاولت الحكومة أيضًا أن تقف ضد شعبة الهجوم الثالثة، التي تستهدف تقليص حجم القطاع العام. كانت المطالبة ببيع جزء من القطاع العام، قد تفجرت لأول مرة في تقرير لجنة الخطة والموازنة لمجلس الشعب (أبو إسماعيل – ديسمبر 1973). قال التقرير "إنه من الممكن فتح باب للاستثمار الخاص (العربي والمصري) في 49% من أسهم شركات القطاع العام". وأضاف أن هذه الوسيلة ستمكن من توفير النقد الأجنبي للشركات فيزداد إنتاجها، وتزداد إمكانيات التصدير، وأيضًا ستزداد أرباح العمال وتفتح منافذ لاستثمار المدخرات المصرية (160). ويعلم الله ما إذا كان الأمر هنا أيضًا مجرد توارد خواطر، أو شيئًا آخر. ولكنْ معروفٌ أن هذا المطلب، قدمته الجهات الخارجية. ومعروفٌ أيضًا أنها لم تكن من الإلحاح عليه، وتسايرها في الصحف وداخل مجلس الشعب جوقة عالية الصوت. ووقفت الحكومة أيامها مع الرافضين لهذا الاتجاه. ولكن توصيات الجهات الخارجية حول تقليص القطاع العام، كانت لا تقتصر على طرح بعض الأسهم لاكتتاب القطاع الخاص. فلمساندة هذا الاتجاه، كانت التوصيات تلِحُّ على الحد من إنشاء القطاع العام لمشروعات جديدة؛ كي يتولى القطاع الخاص (الأجنبي والمصري) هذه المهمة، فينخفض - مع الزمن - الوزن النسبي لناتج القطاع العام. وقد لاحظنا أن الخطة الانتقالية ركزت اهتمامها على مشروعات الإكمال والإحلال والتجديد، وجعلت البدء في مشروعات جديدة استثناء. وأيامها كان الموقف مبررًا بأنها خطة إنعاش (انتقالية)، ولَكَم - مع ما كشفته التطورات اللاحقة - يمكن أن نفترض أن هذا التوقف عن بدء مشروعات جديدة، قد يكون أيضًا بتأثير الضغوط الخارجية.
ونضيف في نهاية هذه الفقرة، أن أشد ما أصاب القطاع العام في تلك السنة، لم يكن الإجراءات المحددة والمباشرة. أفعل ما تحقَّق، كان انهيار المعنويات، والثقة بالنفس لدى قيادات القطاع العام والعاملين فيه. فالحملة الشرسة ضد الناصرية والتأميمات، تركزت أيضًا ضد القطاع العام؛ باعتباره رمزًا للفشل والتبديد. ونتائج هذه الحملة كانت رصيدًا هامًا استخدمه الأعداء بكفاءة في السنوات التالية.
ب- وإذا كنا قد تناولنا في هذا الفصل مجملَ الممارسات التي أشاعت الفوضى، وخلخلت أساس النظام الاقتصادي، فإن أخطر من كل ما ذكرنا – على المجتمع ككل – فتح الباب بلا ضوابطَ أو ترتيباتٍ، لتصدير قوة العمل المصرية للخارج. تناولنا هذه القضية أثناء الحديث عن قطاع الإنشاء والتعمير، ونذكر الآن أن التصريحات والسياسات الرسمية كانت تعارض أي تخطيط في هذا المجال. كان وزير الإسكان والتعمير آنذاك (عثمان أحمد عثمان) يتحدث مثلاً عن نقص عمال البناء فيقول: "إن هذا قائم فعلاً، وكانت الدولة تمنع سفر عمال البناء إلى الدول العربية، ولكنني عارضت ذلك، وصار الآن يُسمح لعمال البناء بالهجرة (...) فبِالبلاد وفرةٌ من الأيدي العاملة، ولا خوف من نقص عمال البناء المهرة (...) وأودُّ أن أوضح، أننا لو لم نتمسك بحرية الفرد الكاملة في ظل المنافسة، فلا يمكن أن نحقق أي تقدم، فمن شاء السفر من البلاد، فليسافر (...) وعلينا ألا نعتقد أن قلة العمال تعوق معركة التقدم، فهذا غير صحيح، والحرية والتنافس يجلبان الرخاء"(161)... (كلام يبدو كالهذيان، ولكننا نعلم أن عثمان بالذات لا يهذي)، وعبد العزيز حجازي تحدث في نفس الاتجاه "فالعمالة المصرية قوة تصديرية ضخمة، بدأنا تصديرها فعلاً إلى بعض دول أوروبا. ولكن لكي أدعمها كقوة تصدير؛ لا بد من توسيع قاعدة التعليم والتدريب. لا بد من مشروعات في هذا الشأن. لا بد من دعم التعليم الأجنبي، وتعليم اللغات؛ حتى يكون العامل المصري مرغوبًا في الخارج في أيَّة دولة"(162).
وفي مناسبة أخرى قال رئيس مجلس الوزراء: إنه "لا بد أن يكون هدفنا بالنسبة لتصدير العمالة واضحًا؛ كهدفنا بالنسبة لتصدير القطن والأرز، وأن نكسر الكلام الخاص بقيد الهجرة وعدم تصدير البشر؛ لأن هناك ندرة؛ ولأن ذلك يكلف كذا؛ ولأننا محتاجون لهذه الخبرات. بالعكس، فإن العملية التصديرية ضرورة لشعب ينمو، ولا تتوازن إمكانياته مع النمو البشري الموجود".
وعلَّقنا أيامها بأننا لا نعتقد "أن تصريحًا من هذا النوع قد ظهر في أيَّة دولة نامية أو غير نامية، فكافة الدول تجزع من مشكلة استنزاف العقول والمهارات البشرية، عن طريق الهجرة، وقد صرح بعض المسئولين في الدول الأخرى بأنهم عاجزون عن منع هذه الظاهرة الخطيرة، ولكنهم بالقطع
لا يذكرون أنهم يخططون لتشجيعها!

إن المهارات البشرية هي المحرك الأساسي لتسارع التنمية. هذه المسألة أصبحت من المسلمات الآن، ومعروف أن عدد اليد العاملة المثقفة والمدربة في مصر، لا يزيد عن احتياجاتنا. فنسبة الأميين - كما نعلم - أكثر من 70%، وما يبدو أحيانًا في شكل فائض، هو في الحقيقة نتيجة لسوء التخطيط أو سوء التوزيع. فقد يتزايد عدد عرض المؤهلين في مهنة أو مناطق أخرى. وفي التحليل النهائي سنجد أن الطلب أكثر من العرض. ومع ذلك.. ليس مطلوبًا أن نمنع التصدير المؤقت في بعض المهن إلى الدول العربية مثلاً
أو الأفريقية. هذا مطلوب، ولكن ليكن مفهومًا أن هذا يمثل تضحية من جانب مصر في الجزء الأكبر من هذه التخصصات؛ فالمدرسون الذين نرسلهم إلى الدول العربية يؤثرون بالسلب على مستوى الأداء في المدارس المصرية، والأطباء يؤثرون على مستوى مستشفياتنا ووَحَداتنا الصحيَّة.. وهكذا، وفي الحقيقة ينبغي أن تعالَج هذه القضايا مع الدول الشقيقة، في إطار تصور عام للتكامل الاقتصادي وتبادل الموارد النادرة على أسس من المصلحة المتبادلة"(163).

إنني موقنٌ الآن، أن فتح الباب بلا ضوابطَ أمام نزوح قوة العمل المصرية إلى الخارج، والذي بدأ على نطاق غير مسبوق منذ 1974، كان أخطر - في آثاره - من فتح الباب
بلا ضوابط أمام الاستيراد أو الاستثمار الأجنبي، ولا أعتقد أن عدم التخطيط في هذا المجال لم يكن "مخططًا"؛ فالنتائج كانت موجعة جدًا، وهي نتائج لم يقتصر نطاقها على الاقتصاد – بمعنى التأثير على الإنتاجية والاختلالات العشوائية في هيكل الدخول والأجور مثلاً – فالنتائج المجتمعة والاجتماعية والسياسية، كانت أبعدَ أثرًا (انظر الفصل العاشر).

خامسًا – عودة للإطار العام و.. ختام:
(1) نعود إلى التذكير بتطورات الموقف في جبهة الصراع المصري/ الإسرائيلي؛ فبعد الوقائع والتغيرات المؤسسية المحققة في اتفاقية فض الاشتباك على الجبهة المصرية، (ثم على الجبهة السورية) استخدمت الولايات المتحدة سياسة التسويف قبل أن تبدأ الخطوة التالية المرتقبة، بحجة أزمة الرئاسة في الولايات المتحدة، ولكن دون أن تغفل طبعًا عن استخدام الوقت لإحداث التغيرات المطلوبة بهمة محمومة، بل كان التسويف، وتعليق الخطوة التالية، عنصرًا مواتيًا لفرض التغيرات على القيادات التي تريد أن تثبت للولايات المتحدة "حسن سيرها وسلوكها".
وبعد تولي جيرالد فورد منصب الرئاسة، تتابعت تصريحاته المنذرة، فأعلن في سبتمبر مثلاً "أن الأمم ذات السيادة لا يمكن أن تسمح بأن تكون سياساتها مملاة عليها،
أو مصيرها مقررًا بتدابير مفتعلة، ولا تسمح بتشويه الأسواق العالمية للسلع" (164)، وهذه التصريحات جزءًا من محاولة تحطيم الأوبك نفسه، ولكنها كانت في الوقت موجهة إلى الأقطار العربية النفطية التي عبرت عن ضيقها من جمود الموقف الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي، وكان السادات يعبر أيضًا عن تململه، وعبرت تصريحاته عن لهجة نقدية لأول مرة منذ أكتوبر 1973، فوصف موقف الولايات المتحدة بأنه "لم يتبلور بعد"، وأضاف أن الولايات المتحدة ساعدت مساعدة فورية ومجانية في إزالة العوائق من قناة السويس، ولكن لم يزل هناك مشروع لمنح 250 مليون دولار، وهو المشروع الموجود في الكونجرس (165)، وعاد إلى تأكيد نفس الشكوى أمام التلفزيون الأمريكي، فقال: إنه "لا يتوقع غير 250 مليون دولار وهو مبلغ لا يمكن مقارنته بما تقدمه أمريكا لإسرائيل. مصر تخسر سنويًا مثلاً 300 مليون دولار من بترول سيناء (أي 2000 مليون خلال السنوات السبع الماضية) وسوف أطالب أمريكا بهذا" (166). وكل هذا كان يؤكد أن سيطرة الولايات المتحدة على الموقف لا زالت هشة، ويتطلب التدعيم (إلى جانب التهديد) الإسراع بالخطوة المرتقبة. وبالفعل بدأت الرحلة السادسة لكيسنجر إلى الشرق الأوسط.

وكان يتوقع في هذه الجولة – كما صرح دبلوماسي كبير من مرافقيه "أن يصل إلى نتائجَ محددة خلال مباحثاته؛ حتى لا يتخذ مؤتمر القمة العربي القدم في الرباط (29 أكتوبر) مواقفَ متشددة". كانت الولايات المتحدة تخشى من انعقاد هذا المؤتمر في جو من نفاذ الصبر؛ ولذا أعلن في ختام الجولة (14 أكتوبر) وعدًا محددًا لتهدئة "المعتدلين" وقال "سوف أعود إلى المنطقة في الأسبوع الأول من نوفمبر؛ للعمل على تحقيق التقدم نحو السلام في الشرق الأوسط، على أسس قوية ومحددة".
(2) ومعروف الآن أن الأسس القوية، كانت تعني تحركًا ثانيًا على الجبهة المصرية. وتأجيل أي تحرك على الجبهة الفلسطينية، مع تسليمها للملك حسين. وهذا التوجه قبلته القيادة المصرية، فهدد بتفجير الشكوك والتناقضات العربية، وبعزل مصر. ولم يكن ذلك يزعج كيسنجر بطبيعة الحال، ولكن حدث أن قلب مؤتمر الرباط هذه الحسابات، كان المؤتمر تحركًا في الاتجاه المضاد تمامًا، إذا وضع القضية الفلسطينية في مقدمة الصورة؛ كهدف لأيَّة خطوة محتملة، وقرر أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وبعث رسالة تحية إلى القيادة السوفيتية، وكانت المفاجأة (أو هكذا بدت للمراقبين الخارجيين) أن الملك فيصل بحسِّه الإسلامي العميق نحو فلسطين والقدس، كان مع كل هذا الاتجاه بلا تحفظ. ولم تعترض القيادة المصرية.
كان مؤتمر الرباط كما كتب شيهان: "أول هزيمة كبرى تلحق بكيسنجر منذ اندلاع حرب أكتوبر، واعتبره بمثابة عقبة كبرى في سبيل دبلوماسية المراحل" (167). وأبلغت القاهرة أن الاستمرار في سياسة الخطوة خطوة - لتحقيق اتفاق جديد لفض الاشتباك - أصبح متعذرًا. وكانت الولايات المتحدة تعتقد أن التلويح بوقف الدور الأمريكي، ورقةُ ضغط حاسمة، ولكن القيادة المصرية لم تكن قد فقدت زمام المبادرة السياسية تمامًا، فقام وزير الخارجية المصري (إسماعيل فهمي) بزيارة الاتحاد السوفيتي، مع وزير التخطيط (إسماعيل صبري) الذي أعلن بعد عودة الوفد أن السوفييت تعهدوا بتقديم قروض تبلغ 151 مليون دولار لمشروعات تنمية 1975، 1980، وتشمل مشروعات التوسع في مجمع الألومنيوم (نجع حمادي) ومجمع الحديد والصلب في حلوان، بالإضافة إلى إقامة مجمع جديد في الإسكندرية (3 ملايين طن سنويًّا) كما وافقوا مبدئيًّا على المقترحات المصرية لتوجيه القروض السابقة غير المستخدمة إلى مشروعات جديدة (حوالي 373.3 مليون دولار) (168).
(3) وغير معروف طبعًا ما جرى في الاتصالات السرية، ولكن معروف أن الموقف الأمريكي – كما عبر عنه كيسنجر في زيارته لمصر (5 نوفمبر) – لم يتغير. وقد يعني هذا تصورًا من الولايات المتحدة، أن التحرك المصري لا يمثل اتجاهًا جديدًا. ولكن حدث في النصف الثاني من ديسمبر، أنْ استقبل السادات وفدًا من قيادات الشباب السوفيتي (بمناسبة أسبوع الصداقة العربية السوفيتية) وقال: "إن شعبنا في مصر وشبابنا أيضًا يعلم مدى نمو وازدهار العلاقة بين البلدين، ولقد تعاونا سويًّا في بناء القاعدة الصناعية في مصر، وتعاونا أيضًا في بناء السد العالي. كما تعاونا في مجال تزويد مصر بالأسلحة السوفيتية، وما زالت مجالات التعاون واسعة بين البلدين.
لقد صمدت الصداقة السوفيتية المصرية للمصاعب والعواصف الكثيرة، وأثبتت أنها متينة. ومن الطبيعي أن يحدث خلاف أو يقع نوع من سوء الفهم في أية مرحلة من المراحل، ولكن الأسس الراسخة والمتينة للصداقة بين البلدين كفيلة دائمًا بأن تتغلب على هذه المشاكل. وأوضح السادات أن المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفيتي لمصر أمر يعرفه كل مصري، وكل شاب مصري. وكما قلت في مناسبة سابقة، إن ظهور الكتلة الاشتراكية بعد الحرب الثانية، كان له أكبر الأثر في حركات التحرر في العالم الثالث، ومن أجل ذلك نريد أن تتم هذه المسيرة بفهم كامل على كل المستويات في بلدينا، وسوف تتيح لنا زيارة صديقي العزيز الرفيق بريجنيف، أن يعبر الشعب المصري عما يُكِنُّه نحو الاتحاد السوفيتي، ولا شك أن الزيارة ستكون نقطة تحول في الصداقة في بلدينا، ولكي تتم المسيرة التي بدأناها سويًّا"(169).
كان هذا الحديث آخر مرة يذكر فيها الاتحاد السوفيتي بكل هذه الحفاوة والحرارة، ولكن أدركت الإدارة الأمريكية أيامها، أن سيطرتها على الموقف ليست كاملة بعد، وأنه
لا بد من خطوات جديدة قبل استخدام التحذير والتهديد،
أو على الأقل لا بد من بعض الإغراء مع إعلان التحذيرات، فعادت الاتصالات. وكما يقول الرئيس السادات فإن "الأمريكان رغم كل ظروفهم الداخلية السيئة بعثوا يقولون إنهم يريدون استئناف الحركة من أجل السلام".

وكان آلون (وزير الخارجية الإسرائيلي) في زيارة لواشنطن خطوة انسحاب تالية على الجبهة المصرية.
ويبدو أن السوفييت استشعروا اتجاه القيادة المصرية – مرة أخرى – إلى قبول تحرك أمريكي منفرد، بعيدًا عن مؤتمر جنيف؛ إذ عاد الفتور إلى العلاقات المصرية السوفيتية، وجرى لقاء في موسكو حول الموقف الجديد مع وزيري الخارجية والدفاع المصريين، وأعلن بعد هذا اللقاء إلغاء زيارة برجينيف للقاهرة (30 ديسمبر). لم يحمل الإلغاء مجرد احتجاج على قبول القيادة المصرية لإبعاد الاتحاد السوفيتي عن التسوية، ولكنْ ترتب على الإلغاء أيضًا، تأجيلُ بحث جدولة الديون، وتزويد القوات المسلحة بالعتاد.
(4) في هذا الإطار العام، وعلى ضوء ما جاء في هذا الفصل، نلخص النتائج في القطاع الاقتصادي. لقد قطعت الولايات المتحدة شوطًا هامًا في إخضاع الاقتصادي المصري، ولكنها لم تكن قد أنهت مهمتها بعدُ على نحو يطمئنها، واستخدمت الولايات المتحدة في هذا كافة الوسائل والفرص المتاحة بكفاءة عالية، وحققت التالي:
1. اختراق للقطاع الخارجي أسفر عن الإغراق في الديون، وتقليص العلاقات مع الدول الاشتراكية، وإصدار قانون الاستثمار، وفتح الباب بالذات أمام البنوك الأجنبية.
2. فرض أولوية التعمير بممارساتها ونتائجها الاقتصادية المدمرة (بالإضافة إلى أهميتها السياسيَّة).
3. إفشال سياسة الحكومة في السيطرة على الأسعار، وارتفاع معدلات التضخم.
4. فتح باب العمل في الخارج بلا حدود.
5. حدث مع كل ذلك، ومن خلاله، توسع سريع في الفئات الاجتماعية المستفيدة، والمساندة للانفتاح الأمريكي والتي تحتل مواقعَ سياسية واقتصادية فعالة.
ومن الناحية المقابلة ظلت السلطات تقاوم على مستويات مختلفة، وفي معاركَ دفاعية غير متماسكة، فواصلت الحكومة رسميًّا رفض مطالب الحكومة الأمريكية وصندوق النقد والبنك الدولي والشركات العابرة للجنسية، في تخفيض السعر الرسمي للجنيه، وواصلت محاولاتها للسيطرة على هيكل الأسعار المحلي، وواصلت أيضًا، ومعها الفنيون الوطنيون، الدفاع عما في حوزتهم من معلومات، وعن مصالح القطاع العام.
ولكن كان الأعداء في نهاية العام في الموقف الأقوى، وكانوا يستعدُّون لمرحلة الهجوم الجديدة، مستفيدين من زيادة التدهور في حالة التسهيلات المصرفية، ابتداء من سبتمبر (راجع فقرة الديون الخارجية في هذا الفصل)، والتي أدت إلى توقف عن السداد بشكل حاد، وتراكم المتأخرات، (ويلاحظ أن هذه الفترة – بالمناسبة – هي نفس فترة الإنذارات التي سبقت وصاحبت أزمة الرباط). وحاول رئيس مجلس الوزراء أن يحصل على معونات نقدية عاجلة من دول الخليج (من خلال جولة في ديسمبر) لإطفاء الأزمة، وكان قد سبقها بزيارة لإيران (أبريل)، ولكنه عاد بوعود للمشاركة في مشروعات استثمارية طويلة الأجل، وصفر اليدين بالنسبة لأية معونات نقدية عاجلة. وفي آخر العام، كان عامل جديد يتدخل في الموقف؛ إذ انتقلت معارضة الانفتاح إلى الشارع، فتحركت جماهير ساخطة على الانفتاح الذي لم يجلب الأموال، وإنما نشر الفساد واللصوصية والغلاء.

هوامش الفصل السادس
(1) صدر عديد من الدراسات في الغرب حول دور المخابرات المركزية ضد التجارب الثوريَّة في الخمسينيات والستينيات. ولا نستبعد أن المخابرات المركزية كانت خلف بعض ما سرب من معلومات (أو ما أُشيع كمعلومات) بهدف التخويف والحرب النفسية. في المكتبة العربية، يمكن الرجوع إلى ترجمة كتاب دافيد وايز – توماس روس: الحكومة الخفية، (القاهرة: دار المعارف، 1965)، ترجمة جورج عزيز – أيضًا اقرأ عن دور المخابرات المركزية، وأجهزة التخريب الأخرى ضد تجربة شيلي في: مجدي نصيف، شيلي – الثورة، والثورة المضادة، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1976).
(2) Philip Agee, CIA Diary, op. cit. وبالنسبة للشركات العابرة للجنسية. انظر مجدي نصيف – شيلي – مرجع سابق، أيضًا:
A. Sampson. The Sovereign State, The secret History of ITT, London: Coronet Books, 1975).
وأيضًا يمكن الرجوع إلى عديد من الكتب المعروفة التي تتناول تاريخ وأسلوب عمل شركات النفط.
(3) Victor Marchetti and John D. Marks, The CIA and the Cult of Intelligence, (N. Y: Alfred A. Knoff, 1974). The first book the U.S. Government ever went to court to censor before publication.
هذا الكتاب مرجع هام فعلاً، وقد حكم بحذف عدد من الفقرات من الكتاب؛ لكي يُسمح بنشره، وكانت أغلب الفقرات المحذوفة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، أي: بمنطقة الصراع العربي الإسرائيلي.
(4) علوي حافظ، "مهمتي السرية بين عبد الناصر وأمريكا"، الأخبار، (31/ 7-7/8 سنة 1976).
(5) M. Heikal, The Road to Ramadan, (Fontana: Collins, 1976), pp. 198-202 Ibid, p. 247.
bid, P. 247. (6).
(7) حسني مبارك، حديث إلى علي حمدي الجمال، "4 مفاجآت في حياتي آخرها منصب نائب رئيس الجمهورية"، الأهرام، (5/6/1975).
(8) في قضية عبد الحكيم عامر (1967) سُئل صلاح نصر – في التحقيق معه – عن صِلاته بالمخابرات المركزية، فقال إنه كان على صلة منتظمة بها؛ بالمخابرات السوفيتية، كجزء من مسئولياته؛ كمدير للمخابرات العامة المصرية. وبالنسبة لدور المخابرات المركزية الأمريكية في أوروبا الغربية (لجمع المعلومات، وللتأثير في السياسات) انظر:
Philip Agge and Lowis Wolf, Dirty Work, The CIA in Western Europe, 1978.
دور المخابرات المركزية في التخريب داخل الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، نُشر عنه الكثير، وأيضًا عن الدور المشابه، وفي اتجاه مضاد للمخابرات السوفيتية، ولكن لم ينشر – في حدود علمنا – عن دور المخابرات كأجهزة للاتصالات التحتية بين الدولتين. ومعروف أن الاتصالات السرية وقواعد العلاقات (خاصة في ظل الانفراج الدولي)
لا تقتصر على شبكة المخابرات. ولكن لم تنشر أيضًا معلومات محددة عن ذلك.

(9) نعتمد في الصفحات التالية على ما تناثر من معلومات في كتب أمريكية وإسرائيلية. وأيضًا على ما جاء على لسان الرئيس السادات، وفي كتاب حسنين هيكل. وفي ذهننا طبعًا أن المعلومات في كافة هذه المصادر سرية بحساب دقيق، ومبتورة أو محورة لخدمة مصالح معينة. وبالتالي استخدمناها بعد مضاهاة ومحاكمة، وبمساعدة المفاهيم النظرية التي نعتبرها صحيحة.
(10) Heikal, The Road to Ramadan, op. cit., p. 202.
(11) Mattei Golan, The Secret Conversations of Henry Kissinger. Step – by – Step Diplomacy in the Middle East, (New York: Bantam edition. 1976), pp. 144–155.
(12) Marvin Kalb and Bernard Kalb, Kissigner, (Boston: Little brown, 1974), p. 456.
(13) الرقم الإجمالي للدبابات المحطمة خلال 15 يومًا من القتال، وصل إلى 3000، وللمقارنة فإن الخسائر في معركة من أكبر معارك الدبابات خلال الحرب العالمية الثانية، بين رومل ومونتجمري في الشمال الأفريقي، لم يتجاوز 650 دبابة خلال ستة أشهر (هيكل – الطريق إلى رمضان، مرجع سابق، ص157).
(14) انظر مثلاً: د. جمال حمدان، 6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، (القاهرة: عالم الكتب، 1974)، الفصل التاسع.
(15) Kalb, Kissinger, op. cit., 475.
(16) M. Golan, The Secret Conversations. op. cit, p. 66.
(17) حسنين هيكل تساءل في كتابه أيضًا عن سر هذين الموقفين، وبدا أنه يعللهما بنقص الخبرة فيما يتعلق باختيار اللحظة المناسبة لوقف القتال، وبممارسة سياسات ما بعد الحرب عمومًا – وبالنسبة لوقف التقدم نحو المضايق، كان التعليل بالحذر الزائد لدى القيادة العسكرية وقصور الخيال. وكان اللواء مصطفى الجمل (المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا) صريحًا جريئًا في نشر وجهة نظره بخصوص التوقيت في وقف إطلاق النار. كتب: إننا "نجد القيادة السياسية في تشرين أول/ أكتوبر 1973 تعطي القيادة العسكرية الفرصة كاملة دون تدخل، ولم تذعن للضغوط الدولية لوقف إطلاق النيران، إلى أن حققت القوات المسلحة أهدافها... ولو أنني في الوقت نفسه آخذ على القيادة السياسية أنها لم تقبلْ وقف إطلاق النار عندما عرض يوم 13 أكتوبر بعد أن حققت هدفها المرحلي من الحرب، وبعد أن أغدقت أمريكا أسلحتها المتطورة على إسرائيل بلا حساب. ولو كان قد حدث ذلك؛ لما حدثت الثغرة التي شوهت انتصارنا الكبير" ("رسالة إلى زكي نجيب محمود"، الأهرام، (17/2/1977).
(18) كرر الرئيس السادات في عديد من خطبه وأحاديثه أن الملك فيصل طلب منه أن يواصل القتال أطول مدة ممكنة؛ حتى يتهيأ له الإعداد لعمل مشترك من الدول النفطية.
(19) "من أوراق الرئيس السادات"، مجلة أكتوبر (30/1/1977)، العدد 14.
(20) M. Golan, The secret Conversations, op. cit., pp. 86-87.
(21) يقول كتاب الأخوين كالب: إن كيسنجر أبلغ دينتز (السفير الإسرائيلي) محرم صباح 24 تشرين أول/ أكتوبر (قبل إعلان رفع حالة التأهُّب) أن وقف إطلاق النار ينبغي أن يحترم، وطلب السماح بقوافل الطعام والماء والعلاج؛ لكي تصل إلى الجيش الثالث (p. 488) – وأشار هيكل إلى أن السادات تلقَّى رسالتين من نيكسون (في 24 تشرين أول/ أكتوبر)، ولكنه كشف فقط عن محتويات الرسالة التي نقلنا مضمونها (البند 8). ووفقًا لجولان، فإن نيكسون أرسل رسالة سريَّة إلى السادات (24 أكتوبر) قال فيها: إن الولايات المتحدة لن تسمح - تحت أي ظرف من الظروف - بتحطيم الجيش الثالث أو تجويعه. ويقول ماتي إن كيسنجر التزم بنفس الشيء أمام الاتحاد السوفيتي (p. 89 and 104(.
(22) جاء في الندوة السنوية السادسة عشرة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، التي عُقدت في 12/15 أيلول/ سبتمبر 1974: "لقد امتدت حرب أكتوبر رغم أنها من أقصر حروب القرن العشرين – إلى آفاق أبعدَ بكثير من مجالها وأبعادها ومدتها القصيرة نسبيًا. وفي حين أنه من السابق لأوانه التنبؤ بآثارها النهائية، إلا أنها قد أحدثت فعلا تحولات في توازن القوى بالمنطقة، وفي علاقتها ببقية العالم. ورغم أن الحرب قد أثرت بدرجة كبيرة على جميع الأطراف المتحاربة، إلا أن معظم نتائجها المباشرة كانت تلك التي أثَّرت على إسرائيل، والتي يبدو أن موقفها قد أصابه الضعف في ثلاث نواحٍ رئيسية: فعلى المستوى العسكري، فإن الصورة التي كانت تتمتع بها إسرائيل على مدى واسع في المجتمع الدولي، كقوة ذات استقلال ذاتي ونفوذ قد اهتزت بشدة؛ حيث أكدت الخسائر الأولية لإسرائيل في الجو، والهزائم التي مُنيت بها في معارك سيناء، مدى تعرضها عكسريًّا، بينما كشفت حاجتها إلى إمداد ضخم من الأسلحة والذخيرة والمعدات في أثناء سير القتال، عن مدَى اعتمادها على معاونة الولايات المتحدة. ولقد نتج عن ذلك مراجعة جادة لقيمة التفوق الإسرائيلي، وخاصة في الولايات المتحدة؛ حيث تغير العديد من المفاهيم الرسمية بالنسبة للدور الاستراتيجي الذي تستطيع إسرائيل أن تلعبه في الشرق الأوسط.
كما نتج عن حرب أكتوبر إمعان النظر جيدًا في سياسات إسرائيل السابقة تجاه العرب، مما نشأ عنه عزلة دبلوماسية دلت على خطر المبالغة والتهويل في تقدير قوتها. وحتى الولايات المتحدة – السند والحليف الرئيسي لإسرائيل – انتهزت الفرصة التي قدمتها الحرب لتحسين مركزها في العالم العربي واتخاذ دور أكثر انصافًا وعدلاً كوسيط وصانع سلام.
ومن الناحية النفسية، انعكست آثار الحرب داخل إسرائيل في ضعف الثقة بالقيادة السياسية، وفي فقد الجيش. ولقد وصف المعلِّقون الإسرائيليون الحربَ بزلزال هزَّ إسرائيل من جذورها، واوجب البحث عن منافذَ جديدة للتخلص من هذا الموقف الصعب، وزادت الخلافات في الرأي مع سياسة الحكومة؛ سواء من ناحية اليمين أو اليسار، فعلى المستوى القومي قويت أحزاب اليمين، بينما بلغ الأمر في بعض الدوائر العسكرية، إلى حد التشكك في قدرة الصهيونية نفسها على البقاء. ولقد أظهرت الانتخابات التي أُجريت بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر تزايدًا في عدد الشبان الإسرائيليون الذين تبخرت أحلامهم في الحياة في إسرائيل، والذين يرغبون في الهجرة منها إذا أُتيحت لهم الفرصة، كما أعادت الصحافة اليومية إلى الأذهان أصداء عقدة مسعدة"، (نقلاً عن: اللواء مصطفى الجمل، استراتيجية إسرائيل بعد حرب أكتوبر (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية – مؤسسة الأهرام، أكتوبر 1976)، ص14 – 15، التشديد في النص السابق من المؤلِّف ع. ح.
(23) Heikal, The Ropad to Ramadan, op. cit., p. 232 and p. 247.
(24) Ibid., p. 231.
(25) Kalb, Kissinger, op. cit., p. 507.
(26) M. Golan, The Secret Conversations, op. cit., p. 108.
(27) نقلاً عن جولان، المصدر السابق، فإن كيسنجر قال لمساعديه أن منهجه في مفاوضات الشرق الأوسط، كان وفقًا لنموذج المفاوضات في فيتنام. وقد أوضح الارتباط بين الحالتين على النحو التالي: "إن التشابه بين المفاوضات في فيتنام والشرق الأوسط، يتمثل في أن الولايات المتحدة ساعتها كانت كإسرائيل في نهاية 1973 أي كانت في وضع أدنى. كان كل شيء ضد الإدارة في واشنطن: الرأي العام، ومجلسا الكونجرس. كان واضحًا أن الولايات المتحدة ستُضطر إلى الخروج من فيتنام عاجلاً أو آجلاً. وكانت المشكلة هي كسب الوقت، وكان علينا – إذن - إنهاك الجانب الآخر للحصول على اتفاق أفضل. والاستراتيجية كانت بسيطة: اسبق خصمك دائمًا (في المفاوضات) باقتراح، وعند أي اقتراح مضاد، كن مستعدًا باقتراح جديد. وبهذه الطريقة يمكنك أن تتأكد دائمًا، من أن اقتراحَك أنت، سيكون موضع المناقشة. وبموازاة ذلك، وقعت هانوي فيما تمنته واشنطن حين شرعت في هجوم مكَّن الولايات المتحدة من العودة إلى قصف الشمال، فازداد إنهاك هانوي" (p. 176).
وبغض النظر عن نتائج هذا التكنيك في مفاوضات فيتنام، فإن الملاحظ أن هذا التكنيك استخدم فعلاً مع الجانب العربي، ومع مصر بشكل خاص، ونجح عندنا فيما فشل فيه هناك. وأعتقد أن كيسنجر لم يكن في هذا الكلام يقترح منهجًا مناسبًا للإسرائيليين فقط؛ إذ كان يحدد أيضًا منهجًا للدبلوماسية الأمريكية. وقد استخدمه الاثنان على أية حال، فساعد في إحكام السيطرة الأمريكية، وفي تحسين الموقف التفاوضي الإسرائيلي.
(28) انظر في هذه النقطة: عادل حسين، "الموقف الأمريكي من الصراع العربي الإسرائيلي"، الطليعة، عدد (يناير 1974).
(29) محمد حسنين هيكل، حديث خاص مع كيسنجر، مقال "بصراحة" الأهرام، (16/11/1973).
(30) Golan, The Secret Conversations, op. cit, p. 153.
(31) Ibid, p. 14.
(32) Kalb, Kissinger, op. cit., p. 541.
(33) "لأمر ما، لسنا نفهمه، تأخر الفصل بين القوات المتحاربة على جبهة الجولان طويلاً، ولم تبدأ المحادثات الجديدة حوله بالكاد، بينما قد تم تنفيذ الفصل على جبهة سيناء نهائيًا منذ بضعة أشهر، بل وتم رفع الحظر عن البترول إلى أمريكا، وعن خفضه بالنسبة للدول الأخرى. وكان الظن أن يترابط الفصل على الجبهتين في اقتران وتزامن شرطي، وأن ينتظر رفع الحظر كلتيهما" هكذا كتب د. جمال حمدان (6 أكتوبر، مرجع سابق)، ص319. وأعتقد أن أسباب التأخر أصبحت مفهومة الآن تمامًا. وعلى رأس الأسباب تمزيق الصف العربي – سألت محطة التلفزيون الأمريكية في تلك الفترة – على سبيل المثال – "يتصور البعض أنكم قد تخليتم عن سوريا بعض الشيء؛ لقبولكم الفصل بين القوات في سيناء، وأن ذلك خفف من الضغط على الإسرائيليين، وأن السوريين يشعرون بأنهم قد تُركوا وحيدين هنا دون أن تمارسوا أنتم ضغطًا على الإسرائيليين. فهل هذا صحيح؟ - وأجاب الرئيس السادات: "لا يدور ذلك في بعض الدوائر في سوريا فقط، بل إنه ليدور أيضًا في بعض الدوائر العربية، ولكن هذا ليس صحيحًا".
(34) يُذكر أن الملك فيصل - رحمه الله - كان لا يخفي مخاوفه من هنري كيسنجر؛ بسبب أصوله اليهودية، وصارحه تقريبًا بذلك. فقد نقلت كافة المراجع عن كيسنجر أن الملك فيصل أوضح له أن اليهود سبب "مصائب الدنيا" جميعًا؛ بدءًا من البلشفية، وانتهاء بربيبتها الصهيونية. وقال إن اليهود يلعبون في الغرب دورًا خطيرًا لمصلحة إسرائيل.
(35) صرح هنري كيسنجر في 26 يونيو 1970 (سانت كليمنت): نحن نحاول تحقيق تسوية في الشرق الأوسط على النحو الذي يدعم الأنظمة المعتدلة، وليس الأنظمة الراديكالية. نحن نحاول طرد الوجود العسكري السوفيتي "نقلاً عن:
J. Waterbury. Egypt 1976, North East Africa Series, Africa, Vol. XX, N". 3 Field Staff Reports, p. 4.
(36) يختلف موقفنا هذا عن تصوّر د. فؤاد مرسي الذي بالغ في دور القوى الاجتماعية المحلية في إحداث الردة "إن مشكلة المشاكل، هي أن هناك وضعًا اجتماعيًا معيَّنًا (...) يتمثل في أن هناك طبقة عليا جديدة قد نمت، وصار لها وجودها المحسوس، بل صارت لها تطلعاتها لفرض سيادتها على المجتمع بأسره"، (هذا الانفتاح، مرجع سابق، ص132/ 133) ويعود المؤلف بهذه الظاهرة إلى الستينيات، وخاصة بعد الهزيمة؛ حيث "تبلورت في قمة المجتمع من جديد فئات وأقسام عليا تشكل رأسمالية كبيرة، ذات كيان طبقي مستقل عن الرأسمالية الوطنية، وذات اتجاهات مختلفة عنها، وفي أحيان كثيرة متعارضة معها" (ص136). والمؤلف لا يربط تطورات الانفتاح بالمخطط الأمريكي، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، واختيارات القيادة السياسية، وارتبط بهذا– كما سبق أن لاحظنا – عدم تنبه البحث إلى خطورة الدين الخارجي؛ كأداة أساسية لفرض التبعية.
(37) Document of the World Bank, Arab Republic of Egypt, Economic Report, Report N. 870 a-EGT, (Not for Public Use), January 1976, pp. 4 – 5.
(38) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity of Egyptian Economy, (Paris: OECD, Development Centre, Restricted 30 th May 1975) CD/-AG (75) 1117-1, p. 45
(39) إدوار ر. ف. شيهان، العرب والإسرائيليون وكيسنجر، (القاهرة: وزارة الإعلام، الهيئة العامة للاستعلامات، 1976)، ص66 وص113، كتب مترجمة (722).
(40) Yusuf Ahmed, Absorptive Cop., op. cit., p. 47
(41) قانون استثمارات المال العربي والأجنبي والمناطق الحرَّة – مجموعة الأعمال التحضيرية، (مجلس الشعب – اللجنة التشريعية)، ص ص 104 – 105.
(42) المرجع السابق، ص118.
(43) المرجع السابق، ص386.
(44) راجع مداخلات عبد العزيز حجازي في مناقشات مجلس الشعب، مضبطة الجلسة 35، الفصل التشريعي الأول، المرجع السابق.
(45) حديث للرئيس السادات إلى مجلة نيوزويك، نقلاً عن الأهرام، (10/3/1974).
(46) الأهرام، (19/3/1974).
(47) الأهرام، (13/4/1974).
(48) نقل علي أمين هذا الحديث على لسان الرئيس، "أخبار الغد"، الأهرام، (8/2 سنة 1974).
(49) صرح نيكسون بأنه "تأثر جدًا، ليس فقط بعدد الجماهير التي استقبلتنا، فالأهم من ذلك الحماسة التي أبدتها هذه الجماهير (...) ومن جانب آخر، فإن الشيء الذي يدعو إلى التأثر، أن هذه الجماهير تبدي شعورًا عميقًا بالمودة والصداقة لأمريكا". وحين سأله بعض مرافقيه: ألا تعتقد أن وجودك هنا قد يزيد من آمال الجماهير، وأن هذه الآمال قد يصعب تحقيقها؟ قال نيكسون: إن الرئيس السادات، وأنَّا قد أجرينا محادثاتٍ مكثفة جدًا، تناولت مطالب مصر وكيف نواجه هذه الجماهير بطريقة فعالة، ودون أن نبالغ في الوعود. وفي نفس الوقت دون أن نخيب آمالهم؛ كنتيجة طبيعية لعدم الاستجابة للتطلعات التي أثرناها فيهم. إن المشكلة أعقد من أن يُتصوَّر معها، أن زيارة رئيس أمريكي تعني بالضرورة حلاً سريعًا وفوريًّا للمشاكل. إن الرئيس السادات أراد مني مثلاً أن أزور ما يسميه بأحياء القاهرة الفقيرة، وأراد مني أيضًا أن أرى الدلتا أخصب أراضي مصر، وإن كان الفلاحون من الفقراء، وكان من المهم أن نلاحظ أن الشعب في أحياء القاهرة الفقيرة، وفي أخصب أراضي مصر على السواء، يظهرون الصداقة كما كانوا يظهرونها حول قصرَي القبة والطاهرة. ولقد كنا حريصين في خطبنا العلنية، على أن نتكلم فقط عمَّا يمكن تحقيقه".
مؤتمر صحفي للرئيس نيكسون في القطار إلى الإسكندرية– الأهرام، (14/6/74).
(50) نصوص البيان المشترك، نُقِل عن:
Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit, Annex 5 (Text of the Joint Statement).
(51) كان رأي عدد من الفنيين الوطنيين كالتالي:
أ- إنتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربائية، يمكن أن يتحقق عبر بدائلَ مختلفة: 5 محطات حرارية (تستخدم المازوت أو الغاز الطبيعي) مخطات غازية (تستخدم السولار أو النافتا) – محطات نووية – محطات كهروماتية. وفي اختيار البديل الأمثل لا بد من دراسة مدى جدوى المشروعات الجديدة، ودراسة الآثار الجانبية المُحتملة.
ب- بالنسبة للمحطات النووية بالذات، تدل تجربة الدول المتقدمة صناعيًّا على أنها مُكبَّلة بالمشاكل؛ لذا تباطأت الإنشاءات في مواقع محطات القوى عبر الولايات المتحدة؛ بسبب تضاعف تكلفة الإنشاءات بالإضافة إلى انخفاض كفاءة أداء هذه المحطات (طبقًا لبيانات هيئة الطاقة النووية بأمريكا عام 1975، فإن محطات القوى النووية، اشتغلت في الولايات المتحدة بنصف طاقتها في المتوسط، كما أن الزيادة في تكلفة تشغيل هذه المحطات 30.2 مليون دولار، في عام 1974). وكذلك ثبت ارتفاع نسبة الحوادث في كثير من المحطات، وارتفعت أسعار الوقود النووي من 17 دولار للكيلوجرام من أكسيد اليورانيوم عام 1973 إلى 66.57 دولار للكيلوجرام عام 1975.
جـ- ولا تقتصر المشاكل على اقتصاديات العملية؛ فأهم من ذلك أخطار التلوث الكبيرة بالنفايات الذرية (تصادف الدول المتقدمة صناعيًّا – رغم إمكانياتها – مشاكلُ كبيرة غير محلولة في هذا المجال).
د- إقامة المحطات النووية له مخاطرُ استراتيجية تهدد السيادة؛ لأن الدول العظمَى تحتكر بيع الوقود النووي، وهي تملك رفع الأسعار، أو الامتناع عن البيع لأسباب سياسية.
هـ- ويبين من كل هذه المحاذير الاقتصادية والفنية والسياسية، أن بديل المحطات النووية ليس أفضل المتاح لإنتاج الطاقة الكهربائية.
(انظر: د. راجية عابدين خير الله، "مستقبل الطاقة الكهربائية في مصر حتى عام 2000"، سيمينار معهد التخطيط القومي، (القاهرة: 21 مارس سنة 1978).
ويروي ماتي جولان رواية ذات دلالة عن هذه المفاعلات؛ ففكرة منشآت نووية في يد العرب، كانت كافية لإثارة الانزعاج لدى القيادة الإسرائيلية؛ إذ يدرك الأخصائيون إمكانيةَ تحويل مثل هذا المفاعل إلى أغراض عسكرية. ولكن الأمر الأكثر إزعاجًا، هو أن الإسرائيليين
لم يعلموا عن هذا الموضوع إلا من الصحف؛ إذ يعني ذلك (وهو ما لم يذكره جولان صراحة) إصرار الولايات المتحدة على أسلوب جديد في التعامل مع إسرائيل بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر.

ويضيف المؤلف الإسرائيلي، أن القادة الإسرائيليين سألوا كيسنجر عن طريقة التثبت من أن المفاعل لن يُستخدم لأغراض عسكرية. فرد كيسنجر بهدوء: "إنه حقيقة لا يعلم ماذا يقترح الإسرائيليون؟" وتلقَّى كيسنجر الرد الذي كان يتوقعه وهو "الإشراف الأمريكي"، فكان تعليقه أن هذه فكرة تبدو معقولة، ولكنها قد تعني إشرافًا أمريكيا مقابلاً على القدرات النووية الإسرائيلية. ويقول جولان: إن تعليق كيسنجر كان كافيًا لإغلاق الموضوع (ص ص215/ 216). ولكن هذه الرواية تجعلنا نفترض أن الموضوع لم يغلق عند هذا الحد، فمن المُؤكَّد أن التحكم في مستقبل الحرب والسلام، وإخضاع الأطراف المحلية للسيطرة الأمريكية، يعارضه استحواذ إسرائيل على قوة نووية مستقلة، بعيدة عن الإشراف الأمريكي. وكان طبَعيًّا في مرحلة إعادة إسرائيل إلى حجم مقبول أمريكيًّا، أن تسعى الولايات المتحدة إلى الحد من الاستقلال النووي لإسرائيل. فهل كان التلويح بحكاية المفاعلات المصرية – في تلك الفترة – ضمن أدوات الضغط لتحقيق هذا الهدف؟ إن إخراج السوفييت من المنطقة كان يتطلب التزامًا أمريكيًّا بتحييد القوة النووية الإسرائيلية المهددة لمصر. ويتحقق ذلك عبْر ثلاثة بدائلَ:-
وضع مصر مباشرة تحت المظلة النووية الأمريكية في مواجهة إسرائيل – إقامة مفاعلات نووية في مصر – ضمان من الولايات المتحدة بألا تستخدم إسرائيل قوتها النووية ضد مصر من خلال إشراف أمريكي على استخدامات هذه القوة وتطورها. ولا شك أن البديل الثالث، هو الأنسب والأكثر فائدة بالنسبة للولايات المتحدة، والملاحظ – كما قلنا – أن الحديث عن المفاعلات النووية لمصر توقفت فترة طويلة – فهل حدث ذلك مقابل بسط إشراف أمريكي على القوة النووية الإسرائيلية؟
(52) د. عبد العزيز حجازي (حين كان رئيسًا لمجلس الوزراء)، حديث للصحافة المصرية نشر في (24 أكتوبر 1974)، وأعيد نشره في جريدة الأنوار اللبنانية في (26 تشرين أول/ أكتوبر 1974).
(53) د. وحيد رأفت، "من أين نبدأ وإلى أين؟" مجلة مصر المعاصرة، (يوليو 1975)، العدد 361، ص85 – 86.
(54) د. عبد المنعم القيسوني، "التطورات العالمية الاقتصادية الأخيرة مع الإشارة بصفة خاصة للعالم العربي ولمصر"، مجلة مصر المعاصرة، (أبريل 1974)، عدد 365.
(55) يقال إن أحمد بهاء الدين وإسماعيل صبري وكمال أبو المجد، كانوا مسئولين عن صياغَة ورقة أكتوبر.
(56) World Bank, Report No 870 a-EGT, op. cit., pp. 1 – 2 وقد أعيد نشر نفس التلخيص بنفس الكلمات في التقرير الشامل الذي أعدَّه البنك الدولي عن الاقتصاد المصري (ستة أجزاء):
Arab Republic of Egypt, Economic Management In a Period of Transition, Report No= 1815 EGT. Novermber 1977; Vol. 1, pp. 13 – 15. Document of the World Bank, for Official Use Only. CONFIDENTIAL.
(57) World Bank, Report No 870 a-EGT, op. cit., p. 3.
(58) Ibid, p. I.
(59) Ibid., p. IV.
(60) عادل حُسَين "ورقة أكتوبر: وجهة نظر في التطبيق"، الطليعة، (يونيو 1974).
(61) بعض الدارسين الجادِّين يهاجم ورقة أكتوبر باعتبارها الإطار النظري لما تمت ممارسته باسم الانفتاح. وأعتقد أن هذا تقويم غير صحيح. انظر مثلاً "بحث د. جودة عبد الخالق حول سياسة الانفتاح"، مرجع سابق.
(62) البيانات التالية عن صندوق النقد مصدرها:
Document of International Monetary Fund and Not For Public Use, SM-74-172, July 1974.
To: Members of the Executive Board.
From: The Acting Secretery.
Subject: Arab Republic of Egypt. Staff Report and Proposed Decision For the Article XIV Consultation. CONTAINS CONFIDENTIAL INFORMATION.
(63) World Bank, Report No. 840 a-EGT, cit., p.I.
(64) Ibid, pp. 22 – 23.
(65) Ibid, pp. 23 – 24.
(66) الخطة الانتقالية يوليو 1974/ ديسمبر 1975، (القاهرة: وزارة التخطيط – جمهورية مصر العربية، أكتوبر 1974)، ص143 و124.
(67) عادل حسين، الطليعة، (أبريل 1974)، مرجع سابق.
(68) د. أحمد أبو إسماعيل: "كيف دخلت حكومة حجازي الثالوث المخيف"؟ جريدة الأخبار، (21/8/1977).
(69) د. أحمد أبو إسماعيل: "حجازي بين خيارين"، جريدة الأخبار، (22/8/77).
(70) World Bank, Report No. 1815 EGT, op. cit., p. 38.
(71) دراسات تلك الفترة حول أسباب التأميمات أشارت إلى التالي:
أ- في غياب سيطرة وتخطيط مركزي يؤدي طلب عروض من الموردين في وقت واحد لنوع معين من السلع إلى رفع هؤلاء الموردين لسعرها، فيتم الاستيراد بسعر يزيد عن السعر الحقيقي، وعن السعر الذي كان ممكنًا الشراء به لو لم يتم الطلب بكميات كبيرة وفي وقت واحد. ويعني ذلك تبديد للنقد الأجنبي، وعبئًا على المستهلك.
ب- تعدد المستوردين للسلعة الواحدة من مصادر مختلفة أدى إلى وجود ماركات مختلفة، دون ضرورة تدعو لذلك، وقد استتبع هذا، توفيرَ قطع الغيار اللازمة بهذه النوعيات المتباينة، وبالاستيراد من أسواق متباعدة (السيارات نموذج يقرب الصورة) ويعني ذلك استيراد قطع غيار بكميات قليلة من كل سوق؛ مما يرفع من تكلفة الاستيراد؛ إذ لو تم الاستيراد بكميات كبيرة؛ لأمكن الحصول على خصم من الموردين.
جـ- رفع المستوردين لأسعار السلع التي كانوا يستوردونها عن الأسعار الحقيقية؛ بقصْد تهريب أموالهم للخارج، أو لبيع الهامش المُضاف بالعملة المحلية (بأسعار مبالغ فيها). كذلك لجأ المستوردون (لنفس الأغراض) إلى التهرب من تحويل النسبة الحقيقية للعمولات التي كان المستوردون يتقاضونها من المُصدِّرين والموكِّلين بالخارج.
د- عدم اهتمام المستورد بالحصول على أقل الأسعار (بل قد يحرص على ارتفاع السعر) حتى يزيد ما يتقاضاه من ربح عند تصريفه للسلع التي يستوردها، فإذا كان المستورد يتقاضى 5% عند تصريفه لهذه السلع بالسوق الداخلي، سيزيد ربحه إذا استورد نفس السلع بمليون جنيه مثلاً بدلاً من 800 ألف جنيه (وهي القيمة الحقيقية لها)، ويقدم المصدرون للمستورد حوافزَ مجزية؛ ليفعل ذلك.
هـ- في حالة استخدام تراخيص الاستيراد كأداة تنظيمية، يحدث أن يبيع بعض المستوردين تراخيص الاستيراد التي يحصلون عليها، و/ أو يتنازلون عنها إلى آخرين، ويؤدي هذا إلى زيادة أسعار السلع على المستهلك النهائي، بالإضافة إلى ظهور فئة من أصحاب الدخول الطفيلية.
و- تخصيص الموارد المحدودة للنقد الأجنبي وفق أولويات ملزمة يتطلب إدارة مركزية تنظيم الاستيراد في الوقت المناسب، وبالأسعار المناسبة (والمستقرِّة قدر الإمكان)؛ وفقًا لخطة التنمية ولاحتياجات القطاع العام، ولضمان توفير سلع الاستهلاك الضروري لمحدودي الدخل.
ز- قيام التكتلات الاقتصادية بين الدول المتقدمة صناعيًا والشركات التجارية والصناعية الكبرى، لغرض سيطرتها على الدول الصغرَى والدول "النامية"، يستلزم تمركز عمليات التجارة الخارجية في مؤسسة تملك القوة والمرونة في مواجهة هذه التكتلات.
انظر: قدرِي الشرقاوي، التجارة الخارجية – الاستيراد والتصدير الأصول العلمية والعملية، (القاهرة: مكتبة التجارة والتعاون، 1976)، ص146 – 148.
* ويلاحظ أن كل الأغراض، والنواقص التي تحدثت عنها هذه الدراسات عادت على نطاق واسع مع الانفتاح.
(72) كان الرئيس الراحل عبد الناصر مُتنبِّهًا إلى هذا الذي أثبتناه. في جلسة مجلس الوزراء (فبراير 1969) وجه حديثه إلى حسن عباس زكي، وقال "في البلد إشاعات عن تصرفات لبعض المسئولين في قطاعَي التجارة والاقتصاد. الإشاعات تقول: إن هناك عمولات ضخمة تُدفع لبعض الموظفين الكبار في هذين القطاعين.
وأنا أرى عدم ترك القيادات في مثل هذه القطاعات لفترات طويلة، ولا بد من تغيرها من آنٍ لآخر. علينا أن نراجع الصفقات والعمليات مراجعة دقيقة ومستمرة؛ لأنه
لا ينبغي أن نفتح للناس سككًا وطرقًا تؤدي بهم إلى الفساد والانحراف. المال السايب يعلم السرقة" – من محاضر اجتماعات عبد الناصر، مرجع سابق، ص161 – 162 – ولكن لم تتخذ إجراءات حازمة في هذا الاتجاه رغم هذا التوجيه المحدد.

(73) ممارسة تعدد أسعار الصرف لها تاريخ طويل في مصر، (فمنذ 1958 نشأت "حسابات التصدير"، و"حسابات حق الاستيراد"، ثم صدر القرار 364 لسنة 1968 الذي منح تيسيرات نقدية للمواطنين العاملين في الخارج أو من يؤدون خدمات للخارج، وفي عام 1971 قرر نظام للعلاوة على الخدمات الفندقية بنسبة 35%، وفي أوائل 1972 عممت العلاوة على حصيلة السياحة، وعلى أساس نسبة الـ 35% وفي عام 1972 تقرر العمل بأسعار صرف تشجيعية أخرى بالنسبة للمدخرات والسياحة تضمنت علاوة نسبتها 50% من السعر الرسمي، ووجهت الحصيلة الناشئة عن ذلك إلى استخدامات منظورة وغير منظورة. وحين أنشئت السوق الموازية بالقرار الوزاري رقم 477 لسنة 1973 قيل إن الهدف إنشاء نظام متكامل لممارسة تعدد سعر الصرف، وقد أوجب القرار أن يتم التعامل في السوق الموازية للنقد عن طريق البنوك التجارية التي يحددها البنك المركزي المصري (وكانت كلها بنوكًا مصرية مؤممة).
وفي الحقيقة ظلت هذه السوق سوقًا شبه رسمية؛ سواء لعدم تلاقي العرض والطلب في السوق، أو بسبب تحديد أسعار الصرف بقرار إداري عن طريق البنك المركزي. والتطوير الحادث عام 74 استحدث نبودًا هامة زادت من حصيلة السوق (الصادرات غير التقليدية وتحويلات مواطني الدول العربية لغير أغراض الاستثمار) كذلك أجاز القرار للأشخاص الطبيعيين والمعنويين المحليين في مجالات السياحة والتصدير - الاحتفاظَ بمتحصلاتهم من النقد الأجنبي ضمن موارد السوق الموازية للنقد، في حساب لدى أحد البنوك التجارية، ويحق لهم استخدام هذه المتحصلات خلال ستة شهور في تمويل الواردات التي يحتاجون إليها،
أو المدفوعات غير منظورة لأزمة لنشاطهم. كما يحق لهؤلاء الأشخاص بيع هذه الحصيلة بالسعر التشجيعي. ولكن التوسع والتطوير في هذا الاتجاه لم يكن ليحول السوق إلى سوق فعليّ، فقط تحقق ذلك في إطار السماح بتحويل الموارد النقدية التي تدخل بطبيعتها ضمن موارد السوق إلى سلع، فقد نصت المادة الخامسة (القرار الوزاري رقم 64 لسنة 1974) على أنه "يجوز للمصريين الحائزين على موارد بالنقد الأجنبي – تدخل بطبيعتها ضمن موارد السوق الموازية، أن يقوموا بتحويلها إلى البلاد في شكل عيني من السلع الواردة بالقائمة بتوريد سلع من تلك الواردة بالقائمة آنفة الذكر إلى البلاد، ويتم قيد المقابل لقيمة هذه السلع بالجنيه المصري على أساس الأسعار التشجيعية". هذه المادة كانت تقنن سوقًا ثالثة وفعلية للنقد الأجنبي، تموّل ما يسمى بالاستيراد دون تحويل عملة.

(74) I.M.F. SM- 74 – 172, op. cit, p. 18.
(75) في عام 1969، سُمح رسميًّا باستخدام أسلوب الاستيراد الممول ذاتيًا لاستيراد السيارات، أو السلع للاستعمال الشخصي، أو السلع الإنتاجية المملوكة لهيئات مصرية، أو لمصريين في الخارج (قرار وزاري 543 – 1968 وقرار وزاري 1009 – 1969). ولكن الممارسة العملية كانت تملأ الأسواق بكميات وأنماط تتجاوز تمامًا ما سمحت به هذه القرارات. وتفسير ذلك أن القيادة السياسية استجابت أيامها – لتطلعات أصحاب الدخول العليا في استيراد أنماط استهلاك كمالية، وكان مفيدًا سياسيًّا أن تتم هذه العملية عبر قنوات منفصلة عن شركات الاستيراد الرسمية الحكومية، فهذا يتيح للقيادة أن تعلن أمام الجماهير المحرومة أنها غير مسئولة عن هذا "العبث والإجرام"، بل وتتخذ بعض إجراءات الزجر والمصادرة من وقت لآخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن عمليات "الاستيراد دون تحويل عملة" اتسعت بسرعة وأصبحت نشاطًا يتطلب "إدارات سرية" ذات كفاءة، لها مكاتب في مصر وفي الخارج؛ لتشرف على تهريب النقد وحسابات المقاصة، وتنظيم شبكة آلاف العاملين من جملة البضائع جوًا وبحرًا، ومن القائمين بالتوزيع. ولكن هذا السوق، الذي كان يتعامل بعشرات الملايين من الجنيهات سنويًا، ظل مستقبله محفوفًا بالمخاطر، وتطلب هذا أن القائمين على هذه العمليات كانوا من العناصر المغامرة، وكانوا مضطرين إلى مشاركة عديد من العناصر ذات النفوذ في مستويات السلطة المختلفة، وهذه البؤرة الفاسدة التي لم تتوقف عن التوسع، لم تلبث أن أصبحت قوة لا تسهل تصفيتها لو أرادت السلطات السياسية.
كان يستحيل طبعًا معرفة الحجم الصحيح لهذه السوق في تلك الأيام أو الآن، ولكن قدرت الغرفة التجارية لمحافظة القاهرة (مارس 1971) أن حجم هذه التجارة في القاهرة وحدها كان 10 مليون جنيه سنويًّا، ولكن بعض المسئولين المصريين في بيروت قدر أن الواردات المهربة من لبنان كان 18 مليون جنيه سنويًّا منها 3 ملايين عن طريق الجو، 15 مليونًا عن طريق البحر. ولا تدخل في هذا الحساب الواردات المهربة من عمان ودمشق وليبيا والكويت وأوروبا الغربية. انظر عادل حسين، جريدة الأخبار، (5/2/1972). وقد حاول د. فؤاد مرسي - حين كان وزيرًا للتموين- محاصرة هذه التجارة؛ فكانت محاولته سببًا أساسيًّا لإقصائه.
(76) في 10 مايو 1974 أصدر مجلس الوزراء قرارات تحدثت عن الاستيراد، دون تحويل عملة بلا قيود، وكالعادة هاجم عبد العزيز حجازي بهذه المناسبة الانحراف بهذا النظام، وأكد أنه لن يسخر لاستيراد الفُستُق واللوز، ولكن لاستيراد السلع التموينية ومستلزمات لإنتاج. وتساءلنا يومها في الطليعة: كيف تتفق هذه التصريحات مع قرار تيسير استيراد سيارات الركوب الخاصة، بل وتيسير استيرادها بهدف البيع (تحت اسم الإهداء) ومهما كان نوعها وحجمها. لقد بلغ عدد سيارات الركوب المستوردة في عام 1972 حوالي 16 ألف سيارة، ومع التيسيرات الجديدة يتوقع أن يرتفع الرقم إلى 20.000 سنويًّا، ويقدر إجمالي الإنفاق المتوقع لإحضار حوالي 60 مليون دولار، ولو أنفق هذا المبلغ في استيراد قطع غيار ومستلزمات إنتاج لزاد إنتاجنا الصناعي حوالي 120 مليون جنيه! والسؤال الآن هو: هل الكماليات التي نقيد استيرادها تقتصر على الفستق واللوز؟ أليست السيارات الخاصة – وبالذات السيارات الفارِهة – من السلع الكمالية التي تستحق فرض أقصى القيود في ظروف اقتصاد الحرب التي تعاني فيها جماهير الشعب؟! بل وبالنسبة للتفاح والفستق.. إن الدولة تمنع استيرادها (في قائمة السلع المسموح بها) ولكننا نلاحظ في نفس الوقت، أن كل أنواع السلع الكمالية تملأ الأسواق بلا أي رقيب، وهذا يعني تبديد جزء كبير من النقد الأجنبي بشكل أو آخر، ويعني أرباحًا خرافية للوكلاء والمهربين لا يدفعون عنها أية ضريبة.
إن السياسة المتبعة لا تريد أن تزعج أصحاب الدخول العالية، وتسمح بوجود السلع الكمالية، وفي نفس الوقت تبدو– مع افتراض حسن النية – كما لو كانت تعاني من إحساس بالذنب، فتمتنع عن السماح رسميًّا باستيراد هذه السلع،

نور 06-07-2011 02:18 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(82) وجه هذا السؤال إلى الحكومة في بداية مناقشة مشروع الخطة والموازنة العامة، ولكن رئيس مجلس الوزراء، والوزراء، تجاهلوا الأمر تمامًا، فأعاد عضو مجلس الشعب المحاولة في اليوم التالي: "لم يجب السيد رئيس مجلس الوزراء عن هذا السؤال، وأرجو من الحكومة أن تجيب على سؤالي قبل الانتهاء من مناقشة الخطة والموازنة. والسؤال هو: ما هي أسماء المكاتب التي تقوم بعمليات التوريدات أو الاستيراد والتصدير والتي يديرها أو يشترك في إدارتها، أو يعمل فيها بعض الشباب من أبناء أو أصهار بعض القيادات التنفيذية والسياسية وقيادات القطاع العام؟ وما هو حجم العمليات؟ إلخ".
وقد حاول رئيس الجلسة صرفَ السؤال عن مقصده، فقال: إنه يذكر "أن السيد رئيس مجلس الوزراء، أشار في تعقيبه بالأمس إلى أنه سوف يُحيل كل ما يصل إلى علمه عن تقاضي أيَّة عمولات غير مشروعة إلى النيابة العامة". وكان طَبَعيًّا أن يوضح السائل أن هذا الكلام بعيدٌ عن موضوعه. "إن سؤالي لم يتطرق إلى موضوع العمولات وإنما يختص السؤال بتحديد أسماء أصحاب المكاتب التي تقوم بعمليات التوريدات، أو الاستيراد والتصدير التي يشترك فيها الشباب من أبناء بعض القيادات"، فاضطر وزير الدولة لشئون مجلس الشعب، أن يتدخل أمام هذا الإلحاح، فقال: "إثبات السؤال في مضبطة الجلسة الآن يعتبر كافيًا، وسوف يبلغ الموضوع إلى السيد رئيس مجلس الوزراء؛ لكي يرى رأيه في الإجابة عنه". ولكن وزير المالية أدرك أن زميله تورط فيما يشبه الوعد بالإجابة، فقال إنه يود أن يوضح "أن قيام الحكومة بالتحري عن المكاتب التي تم افتتاحها للاستيراد والتصدير، والعمليات التي قامت بها منذ 1967 حتى الآن، وكذلك الأمر بالنسبة لأسماء القائمين على هذه المكاتب، يحتاج إلى عملية حصر طويلة مما يتطلب جهدًا ووقتًا كبيرين".
واضطر رئيسُ الجلسة إلى التدخل؛ ليخفف من منظر الفزع الذي بدت به الحكومة، والذي فضح إدراكها لخطورة كشف الأسماء، فقال رئيس الجلسة: إنه يرى "أن المسألة في غاية البساطة، وليست على النحو الذي يتصوره السيد الدكتور وزير المالية، فلا بد أن هناك سجِلاً أُنشِئ طبقًا للقانون، اسمه: سجل الوكلاء التجاريين، تُقيِّد فيه جميعُ أسماء الوكلاء التجاريين، وأعتقد أن هذا المقصود من السؤال".
ولكن وزير المالية عاد للتعقيب (على طريق الدُّب الذي قتل صاحبه، وهو يتصوَّر أن يحميه)، فاعترف بأن "التعرف على الأسماء سهل وميسور، ولكنني أتساءل عما ردده السيد العضو في شأن الشباب الذين يديرون هذه المكاتب، فهل هناك تحريم معين على الشباب الذين ينتمون إلى فئات معينة أن يشتغلوا بهذه الأعمال؟" وبالقطع كان التعقيب غاية في الخطورة؛ فهو يكاد يعترف بواقعة أن أبناء المتصلين بفئات الحكام وأصحاب النفوذ، يلعبون دورًا بارزًا في تعاملات الدولة، في التجارة الخارجية وفي غيرها. وأصبحت المسألة: هل هذا مشروع أو غير مشروع؟ وهي طبعًا مسألة غير مشروعة عرفًا وقانونًا، بل هي فضيحة لو حدثت (مع كل ما يُشاع عن الفساد المحيط بهذه العمليات)؛ ولذا بادر رئيس الجلسة إلى التدخل مرة أخرى لاحتواء الموقف، فنصح الحكومة بعدم التعجل في الرد، "وليس هناك ما يلزم الحكومة بالرد، ولكنْ ربما ترى الحكومة من تلقاء نفسها أن من المصلحة العامة، أن ترد على ما يثار من أسئلة أثناء المناقشات".
وتدخل عضوٌ آخر شبه مسئول (محمود أبو وافية) لنفي الشبهات التي ترسبت، فقال: إن سؤال القاضي "في منتهى الأهمية، فإذا كانت هناك انحرافات، فمن الواجب، بل إنه من أوجب الواجبات أن نقضي على تلك الانحرافات؛ ونظرًا لأهمية هذا السؤال، وحيث إن السيد رئيس مجلس الوزراء
لا يحضر جلسة اليوم، فإنني أقترح تأجيل الإجابة عن هذا السؤال إلى جلسة الغد، حتى يحضر السيد رئيس مجلس الوزراء، ويتولى الإجابة بنفسه". ورد محمود القاضي "على أية حال، فقد توجهت بسؤالي طبقًا للائحة، وللحكومة أن تجيب عنه وقتما تشاء".

انظر: "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة عن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعن السياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة لسنة 1976"، مضبطة الجلسة 16 (28/12/1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
ولكن حدث أن مرَّ أسبوعان، ومناقشات الخطة والموازنة كادت تُختَتم، والحكومة لا تجيب، فأثير الموضوع للمرة الثالثة – ولجأت الحكومة بإصرار للمراوغة، فقال وزير الدولة لشئون مجلس الشعب إنه "نظرًا لأن هذه السجلات كثيرة جدًا، فإن الحكومة مستعدة لاطلاع السيد العضو - ومن يشاء من السادة الأعضاء - عليها في الوزارة؛ نظرًا لضخامة هذه السجلات من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن العمل اليومي في حاجة إليها".
وكان تعليق القاضي أن سؤاله محدد، "وليس مجرد طلب سجلات أو أشياء أخرى. لقد طلبت موافاتي ببيانات محددة، بناء على سؤال محدد بالكلمة، وإنني في انتظار هذه البيانات"، وقال رئيس الجلسة: "إن العبرة بما هو ثابت في المضبطة، فنرجو من الحكومة أن تنفذ ما جاء بها". ولكن الفصل التشريعي الأول انفض قبل أن يتلقى صاحب السؤال إجابة. انظر: مضبطة الجلسة الصباحية (10/1/1976) الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(83) دراسة للدكتوراه عن فئة أصحاب التوكيلات في البنية الاقتصادية والاجتماعية المصرية. الأطروحة مقدمة لجامعة خارجية، وطلب صاحبها عدم نشر اسمه أو تفاصيل دراسته في الوقت الحالي.
(84) الطيِّب علي (رجل أعمال) تصريح للأهرام، (7/8/1976).
(85) عباس المصري: "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة".... مضبطة الجلسة 17 (28/12/1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(86) "سؤالان لوزير التموين والتجارة"، الأهرام الاقتصادي عدد (أول آب/ أغسطس 1977).
(87) تعاقدت شركة "مالتي تريد" على توريد لحوم ضأن مجمدة إلى سوريا، إلا أن السلطة السورية رفضت إحدى رسائل اللحوم، وتزن 564 طنًا؛ لمخالفتها للمواصفات، بالإضافة إلى أن الذبائح كانت كبيرة السن مع عدم وجود شهادات صحية أو شهادات تقيد المنشأة أو طريقة الذبح، فقامت شركة مالتي تريد بتحويل الرسالة إلى ميناء بورسعيد في أكتوبر 1976 وعرضها على هيئة السلع التموينية بأسعار مغالَى فيها، مستغلة في ذلك ضيق الوقت لحاجة الهيئة إلى استيراد لحوم لتغطية احتياجات البلاد منها في عيد الأضحى المبارك، وقد تم التعاقد على هذه الرسالة بفارق سعر تحملته هيئة السلع التموينية بلغ حوالي 200 ألف دولار تقريبًا بالزيادة عن الأسعار الحقيقية – انظر مذكرة الرقابة الإدارية عن الموضوع بتاريخ (30/11/1976) (غير منشورة بطبيعة الحال).
أيضًا قامت شركة مالتي تريد باستيراد رسالتين من الجبن لحساب هيئة السلع التموينية تزنان حوالي 127 طنًا، وقد تبين أن الجبن مصاب بعفن، وغير صالح للاستخدام الآدمي، فاضطرت الهيئة إلى رفض استلام الجبن؛ حيث تقرر إعدامه رغم المساعي والضغوط التي مارستها الشركة المستوردة (مالتي تريد) لإقناع الهيئة باستلام الجبن" – مذكرة الرقابة الإدارية عن الموضوع بتاريخ (16/12/1976) (غير منشورة).
وقد تعاقدت الشركة الأهلية للصناعات المعدنية مع أحد الموردين عن طريق شركة مالتي تريد على توريد 13 ألف طن حديد خُردة – وقد قام المدير التجاري في الشركة الأهلية بإجراء تعديلات على نسخة العقد التي بحوزته لصالح المورد والشركة الوسيطة، دون إجراء التعديل في العقود الأخرى – خاطبت مالتي تريد منفردة البنك لتعديل شروط فتح الاعتماد؛ بأن سمحت بتوريد حديد خُدرة نمرة 1 وكذلك بآلات من خلطة مكونات الحديد، تقل في الجودة عمَّا هو مُتفَق عليه بالمواصفات – اعترضت الشركة الأهلية، وقبلت التساهل أمام تدخُّل مالتي تريد، وتبلغ مُستحقات الشركة الأهلية 354.6 ألف دولار عن العجز وفرْق النوعيَّة، بالإضافة إلى 130 ألف دولار الخسائر غير المباشرة الناتجة عن استخدام البالات على المنتج النهائي، وعلى عمرات الأفران – مذكرة الرقابة الإدارية عن الموضوع بتاريخ (7/5/1977) (غير منشورة).
(88) ماجدة عطيَّة، "رسالة باريس" المصوَّر، (1/7/1977).
(89) د. محمود القاضي: لقد تقدَّمتُ بسؤال للسيد وزير التجارة والتموين عن شركة "مالتي تريد" لعله أول سؤال قدم في هذا البرلمان الجديد... وللأسف لم يدرَج حتى الآن، علمًا بأن المجلس سبق له أن أدرج في جدول أعمال إحدى الجلسات، جملة أسئلة وطلبات إحاطة للسيد وزير التجارة والتموين، ولم يندرج سؤالي، ولقد سبق أن أشرت لهذا السؤال في تلك الجلسة، والتي كان يرأسها السيد الدكتور السيد علي السيد؛ نظرًا لأهميته.
رئيس المجلس: سوف يدرج هذا السؤال في جدول أعمال أو جلسة يعقدها المجلس.
د. محمود القاضي: شكرًا – مضبطة الجلسة 44 (21/3/1978)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب..
ولكن لم يحدث طبعًا أن أدرج السؤال، فاضطر العضو إلى إثارة الموضوع مرة أخرى:
"د. محمود القاضي: لقد أُدرِج في المناقشة كثيرٌ من الأسئلة وطلبات الإحاطة، وأنا شخصيًّا كان لي سؤال موجه إلى السيد وزير التجارة والتموين، لكن كلام سيادته
لم يتضمن الإجابة عن سؤالي، لا من قريب، ولا من بعيد، إذن فما الحكاية؟ ولماذا لم يدرج السؤال في هذه المناقشة؟ لست أدري، إن عمر هذا السؤال يزيد على سنة ونصف
يا سيادة الرئيس، ولا أحد يريد أن يجيب عنه، وهو متعلق بموضوع خطير، هو موضوع شركة مالتي تريد" – وقد وعد رئيس الجلسة بأن الحكومة لن تتجاهل السؤال. (انظر، مضبطة الجلسة 53 (11/4/1978)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب – ولكن مرَّ عام بعد ذلك، وحتى حل المجلس، دون أن يتلقى السؤال إجابة.

(90) راجع هنا: "لجان البت.. هل تتعرض للضغوط؟ (إبراهيم نافع، باب: أسرار اقتصادية) الأهرام، (9/5/1975). والمعلومات الواردة في هذا الموضوع تتفق مع معلومات المؤلف عمَّا تم في هذه الاجتماعات نقلاً عن بعض المسئولين في مؤسسة التجارة في ذلك الوقت، وأيضًا عن بعض المسئولين في الرقابة الإدارية.
(91) مذكرة الرقابة الإدارية بتاريخ 29/3/1977 (غير منشورة).
(92) Robert Engler, The Brotherhood of Oil, (Chicago and London: The University of Chicago Press, 1977), p. 12.
(93) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., p. 66.
(94) World Bank, Report No 1815 EGT, op. cit., p. 34.
(95) G. Myrdal, The Challenge, op. cit, p. 227 – 252 ميردال رغم الوقائع التي أوردها، لا يربط في تحليله ظاهرة الفساد بقضية التبعية على النحو الذي نتبناه هنا.
(96) د. أحمد أبو إسماعيل، الأخبار (21/8/1977)، مرجع سابق.
(97) نقلاً عن د. سعد الدين إبراهيم، الانتخابات الأمريكية وأزمة الشرق الأوسط، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام، ديسمبر 1976)، ص121.
(98) World Bank, Report No 840 a-EGT, op. cit., p. 15.
(99) World Bank, Report No 1815 EGT, Volume Four, Annex 4-3, op. cit, table 16-3.
وكافة بيانات هذا الجزء مصدرها هذا المرجع ما لم يذكر غير ذلك.
(100) البيانات الرسمية للبنك المركزي المصري.
(101) World Bank, Report No 1815 EGT, op. cit., p.16
(102) انظر: لستربيرسون، شركاء في التنمية، مرجع سابق، ص29 وص 131، ص 132.
(103) د. أحمد أبو إسماعيل، الأخبار، (21/8/1977)، مرجع سابق.
(104) انظر الأهرام، أعداد (20 يونيو 1974 – 7 نوفمبر 1974 – 15 ديسمبر 1974) ووفقًا للجهاز المركزي للمحاسبات، تطورت غرامات التأخير على النحو التالي:

السنة مجموع غرامات التأخير بالقطاع العام أو الحكومة
11.6
6.3
16.5
وهي الغرامات التي تمت تسويتها فقط. وهذه المبالغ هي غرامات التأخير المسوَّاة عن طريق التوكيلات الملاحية فقط؛ لذلك فإن المبالغ المُشار إليها تتم زيادتها بمقدار الغرامات التي يتم تسويتها بمعرفة الجهات المستوردة، ومُلاك البواخر مباشرة عن طريق التوكيلات، فالجدير بالذكر أن الانتظارات على الخطاف بميناء الإسكندرية عام 1977 بلغت 22262 يومًا، تقدَّر غرامات التأخير أو كسب الوقت الضائع خلالها بحوالي 67 مليون دولار (محسوبة على أساس متوسط 3000 يوميًا). انظر: الجهاز المركزي للمحاسبات، تقرير عن تكدس المواني المصرية في عام 1977 والنصف الأول من عام 1978 وما تحملته الدولة من غرامات التأخير، (القاهرة: الجهاز المركزي للمحاسبات، الإدارة المركزية للرقابة على الهيئات وشركات القطاع العام – قطاع المال والتجارة والتموين والسياحة والنقل، 19)، ص1، ص2.
سبق للجهاز أن أعدَّ تقريرًا مشابهًا عن تكدس ميناء الإسكندرية في عامي 1974، 1975، ولم تنفذ أغلب توصياته. (تقارير الجهاز سريَّة).
(105) الرقابة الإدارية، تقرير عن ظاهرة الانحراف والتلاعب، خاصة السرقة والاختلاس في الموارد الواردة للبلاد، أثناء مراحل نقلها من مصادر تصنيعها أو توريدها، وحتى وصولها لمخازن الجهة المستوردة (تقرير سري).
(106) تقدَّمت الرقابة الإدارية بتقريرها الخطير في 5/8/1975 إلى الجهات المعينة متضمنًا دور كل جهة في التنفيذ ودور الجهات المسئولة عن التنسيق بين الجهات المنفذة – وفي 15/4/1976 ورد لهيئة الرقابة الإدارية كتابُ مكتب وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء والمتابعة والرقابة، مُرفقًا به ردود الجهات المعنية، ولاحظت الرقابة الإدارية من هذه الردود ما يلي: "1- إن الجهات المعنية
لم تقمْ بتنفيذ توصيات اللجنة المشكلة، بمعرفة هيئة الرقابة الإدارية بالرغم من أن ممثلي هذه الجهات – وأغلبهم من رؤسائها، أو من كبار المسئولين بها – قد اشتركوا في الدراسة، وفي وضع التوصيات بصفتهم مندوبين عن هذه الجهات، ورغم أنهم يمثلون رأي الجهات التي ينتمون إليها. 2- إن الطابع الغالب في ردود الجهات المختلفة، هو تشكيل لجان لبحث وسائل تنفيذ التوصيات، دون أن يستتبع ذلك اتخاذ إجراء إيجابي" – وقد عمدت الرقابة الإدارية - على سبيل الضغط - إلى تسريب التقرير إلى الصحف، فنُشِر عرض جيد ومفصل له في الأهرام الاقتصادي.

(107) "الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين"، نشرات جهاز التعبئة والإحصاء، (القاهرة: جهاز التعبئة والإحصاء، 1974).
(108) World Bank, Report No 840 a-EGT, op. cit., p. 11.
(109) د. كريمة كريم، "أثر العوامل الخارجية على ارتفاع الأسعار في مصر"؛ بحث مقدم إلى مؤتمر الاقتصاديين المصريين (1976)، مجموعة البحوث والمناقشات، مرجع سابق، ص671.
(110) د. كريم، المرجع السابق، استعرضَت الدراسة حجم الإسهام المباشر والمحتمل لكل عامل من العوامل الخارجية (حسب المصطلح الذي استخدمته) في إحداث التضخم: فلم تكن الزيادة في الطلب الخارجي على المُنتجات المصرية، من العوامل الفعالة في ارتفاع الأسعار، (إذا كانت نسبة التحويلات من الخارج إلى إجمالي الناتج القومي، قد ارتفعت نسبيًّا في السبعينيات، فإنها ظلت عند مستوى منخفض، فلم تتجاوز 4.4 أو 6.8% في عامي 1973، و74 على التوالي. ومعنى ذلك أن نسبة التحويلات إلى مصر من الخارج، لا تمثل سوى نسبة محدودة من إجمالي الطلب الكلي على السلع والخدمات المتاحة في الأسواق المحلية، وبناء عليه، لا نستطيع أن نرجع جزءًا يُعتد به من ارتفاع الأسعار في السبعينيات في مصر، إلى هذا العامل الخارجي" وقد نشير تحفظًا في هذه النقطة؛ حيث إن التحويلات الخارجية (فوائد وأرباح، وإيرادات أخرى كالسياحة، ومتحصلات أخرى، تتضمن الدخول المحوَّلة من الخارج) تستخدم جزئيًّا في زيادة المعروض من السلع والخدمات؛ عن طريق الاستيراد، وبالتالي لا يحسب صافي التأثير التضخمي لهذه التحويلات بمقدار حجمها المُطلَق. ولكن يبقى صحيحًا على أيَّة حال استنتاج البحث بأن هذه التحويلات لا يمكن أن تكون سببًا أساسيًّا في زيادة المعدل العام لارتفاع الأسعار. وبالنسبة لأثر ارتفاع الواردات، ميز البحث بين أثر ارتفاع أسعار الواردات الاستهلاكية ذات الأثر المباشر على الرقم القياسي لنفقات المعيشة، وبين أثر ارتفاع أسعار الواردات الاستهلاكية ذات الأثر المباشر على الرقم القياسي لنفقات المعيشة، وبين أثر ارتفاع أسعار الواردات من السلع الإنتاجية والوسيطة ذات الأثر غير المباشر والمتفاوت على أسعار سلع الاستهلاك النهائي المُنتجة محليًّا، وخلص إلى أن "الوزن النسبي السلع الاستهلاكية) أو الإنفاق الإنتاجي (في حالة واردات السلع الاستثمارية والوسيطة) وزن صغير، وبالتالي يمكن القول - بدرجة كبيرة من الثقة - إن ارتفاع أسعار الواردات ليس هو المصدر الرئيسي لارتفاع الأسعار" وقد نفضل لو استُخدِم في البحث مصطلح مثل "المكون الداخلي لمعدل التضخم" و"المكون الخارجي لمعدل التضخم" بدلاً من "العوامل الداخلية للتضخم" و"العوامل الخارجية".
(111) انظر دراسات: د. فؤاد مرسي "الغلاء المستورد" د. إبراهيم العيسوي "الأسباب الحقيقية للغلاء في مصر"،
د. محمود عبد الرءوف "السياسة الزراعية ومسئوليتها عن الغلاء" – د. رضا العدل "على الموازنة العامة، أن تضبط الأسعار" – محمد حامد الزهَّار "السياسة النقدية والغلاء في مصر" – د. محمد أبو مندور "مواجهة الغلاء: كيف؟ وإلى أين؟" مجلة الطليعة، (ديسمبر 1974).

(112) "نص القانون" الجريدة الرسمية، (27/6/1974)، العدد 26.
(113) عادل حسين، مجلة الطليعة، عدد (يونيو 1974). مرجع سابق/ انظر أيضًا مساهمات د. رضا العدل، د. أحمد المرشدي – د. أبو زيد رضوان – عادل حسين في ندوة: "الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع لمناقشة مشروع قانون استثمار المال العربي والأجنبي"، مجلة الطليعة عدد (يوليو 1974).
(114) د. علي الجريتلي، 25 عامًا، مرجع سابق، ص 270 – ونشر هنا إلى دراسة د. إبراهيم العيسوي، "مدى واقعية الآمال، المعقودة على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومساهمتها في التنمية في مصر"، مجموعة بحوث مؤتمر الاقتصاديين المصريين بالقاهرة مارس 1976، مرجع سابق.
(115) د. فؤاد مرسي، هذا الانفتاح، مرجع سابق ص ص113 – 114.
(116) عادل حسين، الطليعة، (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(117) د. علي الجريتلي، 25 عامًا، مرجع سابق، ص280.
(118) عادل حسين، الطليعة، (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(119) بنك مصر، تقرير مجلس الإدارة المقدم للجمعية العمومية، عن أعمال السنة المالية المنتهية في 31/12/1920.
(120) بنك مصر، تقرير مجلس الإدارة المقدَّم للجمعية من أعمال السنة المالية المنتهية في 31/12/1922.
(121) النشرة الاقتصادية للبنك الأهلي المصري – المجلد العاشر، 1975، ص46.
(122) بيان وزير المالية والاقتصاد في مجلس الأمة (27/8/1957)، ص43.
(123) بيان وزير المالية، المرجع السابق، ص ص54–55.
(124) د. عبد المنعم القيسوني، مصر المعاصرة، (أبريل 1974)، مرجع سابق.
(125) موقف محافظ البنك المركزي: انظر قانون الاستثمار – مجموعة الأعمال التحضيرية، مرجع سابق، ص214.
"موقف د. حامد السايح": ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي، مرجع سابق، ص44.
"موقف حسن زكي أحمد": قانون الاستثمار – محضر الاجتماع الثالث/ ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد.
(126) كل الهوامش التي تحمل هذا الرقم مرجعها: قانون الاستثمار الأعمال التحضيرية، مرجع سابق، محضر الاجتماع الثالث.
(127) د. علي الجريتلي، 25 عامًا، مرجع سابق، ص275.
(128) ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي، مرجع سابق، ص43.
(129) قانون الاستثمار، مرجع سابق، ص ص375 – 378.
(130) المرجع السابق ص496 و500.
(131) تقرير اللجنة المشتركة عن الانفتاح (أبو وافية)، مرجع سابق.
(132) انظر مثلاً مصطفى مراد، مضبطة الجلسة 18 (29/12/1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(133) حسن زكي أحمد، ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد، مرجع سابق ص42.
وقد أوضح "سيهانوك" نفس المعنى – على ضوء تجربته فحذر في 27 – 29 ديسمبر 1969 (قبل إقصائه) من عودة البنوك الأجنبية إلى بلاده، "من أجل إفساد النخبة، وإعاقة اقتصادنا، ومحاولة تغيير النظام، لقد حذرت من دور البنوك الأجنبية التي تخدم مصالح غير مصالح كمبوديا، وتحول إلى الخارج كميات هائلة من النقد، تاركة كمية بالغة الضآلة للدولة".
My War with the CIA, op. cit., p. 41.
(134) انظر مثلاً: Michael Field, A Hundred Million Dollars A Day, (London: Sidgwick and Jackson; 1975), chs. 13, 14 and Conclusion.
(135) حول قضية السوق المالي العربي بشكل عام، انظر الدراسة الهامة لجورج كرم "الأسواق المالية العربية بين الوهم والحقيقة"، منشورة في الاقتصاد العربي أمام التحدي، مرجع سابق.
(136) "هل ستتدفق الأموال العربية والأجنبية أساسًا من خلال قوانين السوق؟ هل إزاحة المخاطر غير الاقتصادية، وتقديم الحوافز والتسهيلات والإعفاءات، قادرةٌ وحدها على جذب فيض من الاستثمارات، وفي المجالات التي نحتاجها بالذات؟ أعتقد أن هذا هو التصور الذي صيغ مشروع قانون 43 وفقًا له، وهذا هو السبب في عدم التفرقة في هذا القانون بين إمكانيات واحتمالات رأس المال العربي، ورأس المال الأجنبي.. فما دامت القوانين "الموضوعية"، للسوق هي أساس انسياب رءوس الأموال، فإن هذه القوانين لا تفرق بين عربي وغير عربي... وكل هذا التصور وما يترتب عليه غير صحيح، إننا وفقًا لهذا التصور نكرر تجارب سبقتنا إليها دول نامية كثيرة. وقد ثبت أن هذه التجارب لم تكن ناجحة" و"التصور المقابل لهذا، هو التصور الذي بلورته حرب أكتوبر. فنتائج هذه الحرب تمثلت في مضاعفة فائض أموال الحكومات العربية المصدرة للبترول من ناحية.. وفي خطورة التحرك العربي الموحد والضغط بالبترول من ناحية ثانية. هذه النتائج تفتح مجالاً واسعًا لاستيراد التكنولوجيا الغربية، ولمشاركة رءوس الأموال الغربية. رغم أنف القوانين (الموضوعية)، للسوق الرأسمالية، والتي لا تشجع على التدفق التلقائي الكبير لرءوس الأموال الأجنبية إلى مصر والدول العربية؛ وفقًا لهذا التصور، فإن الاستعانة برءوس الأموال غير المصرية، يخضع لنوع من الترتيب المنظم، وفي هذا الترتيب نفرِّق – على عكس مشروع القانون – بين موقف رأس المال العربي، وموقف رأس المال الأجنبي. بل إن سعينا يجب أن يبدأ بمحاولة اجتذاب الفوائض الحكومية العربية بالذات (وهي الجزء الأكبر من الفوائض المالية العربية) وذلك بهدف إقامة مشروعات مشتركة عملاقة (...) ولا شك أن نجاحنا في هذه المشروعات، هو أنسب السبل إلى تشجيع القطاع الخاص العربي والأجنبي. ففي ظل المشروعات المشتركة الجبارة سيزداد جو الاطمئنان أمام المستثمر العربي الذي يسعى إلى الاستثمار في مشروعات صغيرة أو متوسطة. وكذلك فإنه في ظل هذه المشروعات المشتركة مع الحكومات العربية سنجبر قدرًا متزايدًا من رءوس الأموال الغربية على المساهمة في مشروعات إنتاجية جادة (...) يعني هذا أن التعاون مع الدول العربية ذات الفائض – على مستوى الحكومات – هو العامل الحاسم في سياسة واقعية لاستخدام رءوس الأموال العربية والأجنبية الخاصة؛ وفقًا لخطة التنمية المصرية".
انظر: عادل حسين، الطليعة عدد (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(137) انظر حول المؤسسات العربية القائمة والمقترحة: د. إبراهيم شحاتة، "الثراء البترولي في مواجهة مشاكل التنمية العربية"، مجلة السياسة الدولية، (أبريل/ نيسان 1974)، الاقتباس ص47.
(138) الأهرام، (3/2/1974).
(139) الأهرام، (17/7/1974).
(140) مجلة الطليعة، عدد (نيسان/ أبريل 1975)، ص18.
(141) د. طاهر أمين: "محاضر لجنة الاستماع في مجلس الشعب لمناقشة الانفتاح الاقتصادي"، جلسة 12 آذار/ مارس 1974.
(142) د. إسماعيل صبري عبد الله: تنظيم القطاع العام، (القاهرة: دار المعارف، 1969)، ص ص460 – 461.
(143) قانون الاستثمار، مرجع سابق، ص ص129 – 132.
(144) البيانات عن الخطة الانتقالية مرجعها: الخطة الانتقالية يوليو 1974 – ديسمبر 1975، مرجع سابق.
(145) د. أحمد أبو إسماعيل، البيانان؛ الاقتصادي والمالي – 1976.
(146)World Bank, Report No 840 a-EGT, op. cit., p. 18.
(147) "خطاب الرئيس السادات أمام طلبة جامعة الإسكندرية"، الأهرام، (نيسان/ أبريل 1974).
(148) نقلاً عن عثمان أحمد عثمان:
"Man of the Year", Times, (2-1-1978).
(149)Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., p. 65.
(150) Ibid., pp. 55 – 61.
(151) وقعت اتفاقية القرض مع اليابان في 16/4/1975 – ونشرت في الجريدة الرسمية، (21/8/1975)، العدد 344.
(152) تقرير لجنة الخطة والموازنة عن مشروع خطة 1975، والسياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1975، ديسمبر 1974، مجلس الشعب (القسم الثاني من التقرير).
(153) قال أحمد حلمي بدر (عضو مجلس الشعب) "إنه عندما نقوم بعملية ترميم على هذا النطاق الواسع الذي قد يشمل نحو 10 آلاف منزل (في السويس) لا بد من أن تكون هناك تكليف محددة مقدَّمًا، وأن تكون هناك مقايسات وأن يكون هناك حصر وبرامج للتنفيذ يجب اتباعها. في الترميم يقدر المسئولين عن التعمير قيمة إصلاح ما بنحو 200 جنيه، فإذا ما طلب منهم صاحب العقار القيام بعملية الإصلاح قاموا بإصلاحه بمبلغ 2000 جنيه، فأي الرقمين هو الصحيح؟ إنني أودّ أن أعرف – والكلام لا زال لعضو مجلس الشعب – ما هي التكاليف التي ستنفق على مدن القناة؟ عند بناء حي الملك فيصل تقرر أن يكون البناء بالحجر، ولم يجدوا العامل الذي يقوم بالبناء، ولو بأجر ستة جنيهات في اليوم، أي ما يعادل مرتب رئيس مجلس إدارة! وكان الغرض من البناء بالحجر خفض التكاليف، ومع ذلك قورنت هذه التكلفة بتكلفة البناء بالطوب الأحمر والحديد المسلح لوجدنا أن تكاليف البناء بالحجارة، تفوق تكاليف البناء بالطوب الأحمر".
انظر: أحمد حلمي بدر: "مناقشة بيان رئيس مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة"، مضبطة الجلسة 14 (11/12/1974)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(154) وقد أكد د. ميلاد حنا نفس الحقائق حول الإسراف وانعدام التخطيط، فعمليات الحفر كانت تصل إلى أعماق لا تحتاجها ضرورات العمل، واللواري تنقل الأتربة وتلقي بها في هذه الأماكن في مرحلة تالية. وتعجب الرجل من كميات الخرسانة التي كانت تُلقَى في جوف الأرض، ومن المباني التي تُقام فوق أساسات بعرض 50 سم وهو سُمك لم يألفه، أو نسيه المهندسون المعاصرون، وكل هذا من أجل إقامة مساكن اقتصادية، لا يزيد ارتفاعها عن طابق أرضي وثلاثة أدوار فوقه (المساكن المقصودة هنا هي نفس المساكن التي تحدث عنها عضو مجلس الشعب، والتي بُنيت بالحجر الجيري). وسجل ميلاد حنا أنه سأل المسئولين التنفيذين – على اختلاف مستوياتهم عن سر هذا الإسراف، فقالوا: إنهم بدورهم لا يعرفون السبب، وإنهم يتصورون أن هذه سياسة عليا! ففي مكاتب هؤلاء المسئولين رسومات كاملة لنماذج من المباني من الطراز الهيكلي العادي، أي على نمط المساكن الاقتصادية التي نعرفها في القاهرة، وتكلفة الوحدة السكنية المقامة بالحجر الجيري فوق جبل من الخرسانة، كانت تزيد على تكلفة الوحدة السكنية الأخرى التي نعرفها بما لا يقل عن 1000 جنيه، ويعني هذا أننا خسرنا في بناء 4000 وحدة فقط، (كان مقدرًا أن تتم قبل نهاية 1974) ما يقرب من أربعة ملايين جنيه، وسنخسر عشرات الملايين إذا استمر إنشاء السويس كلها بنفس الطريقة".. وقد استمر التعمير فعلاً بنفس الطريقة. عن مقال للدكتور ميلاد حنا، رفضت نشره جريدة الأخبار، وقيل له بصراحة: إنه يعرِّض نفسه للتهلُكة.
(155) محمود أبو وافية: "مناقشة بيان رئيس مجلس الوزراء". مضبطة الجلسة 14. مرجع سابق.
(156) الرئيس أنور السادات، "خطاب أمام جامعة الإسكندرية"، صحف (27 يوليو 1974).
(157) إسماعيل صبري صرَّح في هذه الفترة ليوسف أحمد، بأن الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية وعدوا بتقديم قروض تبلغ 151.04 مليون دولار، والدول الغربية 563.2 مليون دولار، والدول العربية وإيران 990.76 مليون دولار:
Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., p. 5.
(158) عادل حسين: "نقد للخطة والانفتاح الاقتصادي"، مجلة الطليعة، (أبريل 1975).
(159) د. عبد العزيز حجازي: "مناقشة بيان رئيس الوزراء"، الجلسة 14، مرجع سابق.
(160) تقرير لجنة الخطة والموازنة عن مشروع خطة 1974 والسياسة المالية لمشروع الموازنة العاملة للدولة للسنة المالية 1974، (مجلس الشعب، القسم الثاني من التقرير، 1973).
(161) عثمان أحمد عثمان: قانون الاستثمار، مرجع سابق، ص ص122 – 123.
(162) د. عبد العزيز حجازي: "حديث إلى موسى صبري"، جريدة الأخبار، (25/3/74).
(163) عادل حسين، الطليعة، (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(164) انظر مثلاً:
"Address to United Nations General Assembly, September 18, 1974", also, to "World Energy Conference, Detroit, September 23, 1974". New York Times, (September 19 and 24, 1974).
(165) الرئيس أنور السادات: حديث إلى مجلة الأسبوع العربي – نقلاً عن الأهرام، (9/10/1974).
(166) الرئيس أنور السادات: "حديث إلى تليفزيون A.B.C (الأمريكي)"، نقلاً عن الأهرام، (8/10/1974).
(167) أ. شيهان، مرجع سابق، ص127.
(168) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., pp. 62 – 63.
(169) الأهرام (والصحف المصرية الأخرى)، (18/12/1974).


نور 06-07-2011 02:20 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
أولاً – الإطار السياسيّ العام:
(1) هكذا بدأ العام الجديد (العام الثاني من الانفتاح) بجو سياسي يقوم على:
معارضة شعبية متسعة ومتصاعدة، تتضمَّن بوادر رفض لنتائج التدخل الأمريكي، في الناحية الاقتصادية بالتحديد، وقلقًا لدى الإدارة الأمريكية من هذه النُذُر للمعارضة، ومن توتر العلاقات مع دول المنطقة العربية، وخاصة مع محور القاهرة – الرياض. وقد عبرت الولايات المتحدة عن هذا القلق بمواصلة حملة التهديد؛ فأذاع كيسنجر تصريحه المشهور، بأن إجراء عسكريًّا سيكون محتملاً إذا هدد العالم الصناعي بالحنق الفعلي من خلال النفط (1). وأيَّد الرئيس الأمريكي هذا التصريح (2). وتوالت الأنباء المسربة إلى المجلات الأمريكية عن المناورات العسكرية، والخطط المُعدة لغزو الأقطار النفطية (3).
ومن ناحية أخرى، وعدت الحكومة الأمريكية بمواصلة "قوة الدفع"، أو "الخطوة خطوة". وفي أول يناير وقع الرئيس الأمريكي على قرار يسمح بإنفاق جزء من اعتمادات القروض والمنح المخصصة لمصر، وكان هذا يعني أنه أصدر أخيرًا قرارًا بتقديم الدفعة الأولى (150 مليون دولار) كما نذكر، فإن الاعتماد الكلي كان لا يتجاوز 250 مليون دولار. وكان الهدف الأساسي دعم عمليات التعمير.
(2) وقد واجهت القيادة السياسية المصرية هذا الموقف على النحو التالي: في مواجهة الضغوط الاقتصادية والمعارضة الداخلية، بعث السادات برسالة إلى مجلس الشعب ومجلس الوزراء، مثلت نقدًا حادًّا لمفاهيم وممارسات الانفتاح السائدة. وكانت الرسالة تعبِّر عن شعور عميق بالأزمة، فبدأت بهذه الكلمات: "لقد عودتكم – حتى في أصعب الساعات – على مواجهة التحديات التي أمامنا بصدق وصراحة". وبدلاً من أحاديث التفاؤل السابقة، اعترف الرئيس بأن مصر تجتاز "مرحلة صعبة"، وأن الاستقرار الاقتصادي لا ينفصل عن الاستقرار السياسي؛ إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان إذا كان قلقًا على رزقه، قلقًا على مستقبله، قلقًا على إمكانياته المادية، أو ما يُتاح له من سلع وخدمات (...) إن شعبنا قادر على مواجهة المرحلة الصعبة التي يمر بها وهي مرحلة التحرير والتنمية، على أساس المساواة في التضحيات. وتقع على الحكومة المسئولية الأولى في توفير السلع الضرورية للاستهلاك الشعبي في حدود الإمكانيات المتاحة. وليكن معروفًا تمامًا أنه ليس متاحًا لنا أن نُغرق الأسواق بالسلع. وفي هذا الشأن يجب عدم التردد في توزيع أية سلعة ضرورية بالبطاقات؛ لضمان عدالة التوزيع في حدود الكمية المُتاحة". وأضاف السادات أنه يعتقد "أن النظام الضرائبي يحتاج إلى نظرة جديدة لتصبح الضريبة هي الأداة الرئيسية السليمة؛ لتحقيق أهدافنا الاجتماعية من تذويب الفوارق بين طبقات، ومن توفير متطلبات الحياة الكريمة لأوسع جماهير شعبنا" (4).
كان اتجاه الرسالة إحياء لمنطق ورقة أكتوبر، ومخالفًا لتطلعات من انتفخوا بالانفتاح، ولكل ما درجت أجهزة الإعلام على إشاعته طوال عام 1974. ولكن هذه الفئات المروجة والمستفيدة بالانفتاح نمت أظافرها وأنيابها؛ ولذا تعرض اتجاه الرسالة، ومطلبها بسياسة ضريبيّة جديدة؛ لمعارضة واضحة من مجلس الشعب، واضطر سيد مرعي (رئيس المجلس آنذاك) إلى التصريح "بأن الرسالة ليست توجيهًا ملزمًا، وإنما تعطي خطوطًا عريضة لتوجيه سياسة يناقشها المجلس والحكومة"، وأكد عبد العزيز حجازي (رئيس مجلس الوزراء في تلك الفترة) نفس المعنى، وقال "إن الموضوعات مطروحة كلها للمناقشة، ولم يؤخذ فيها قرار قط". وفي أول مواجهة لمناقشة الرسالة بدا رئيس مجلس الوزراء مذعورًا ومتراجعًا أمام معارضيه، فقال إنه يخشى أن تنشر الصحف مانشيتات حول إجراءات ضريبيَّة جديدة "فالرسالة لا تثير ضرائب جديدة". بل وقال "إن العطاء هو عطاء الله"!(5) لكن الرسالة لم تقتلها فقط أصوات المعارضين، فقد صدرت تعليمات من القيادة السياسية بتأجيل نشرها (نشر نص الرسالة في 4 فبراير)، ويمكن أن نفترض هنا – للتفسير – حدوث تدخل سياسي من الحكومة الأمريكية.
وبالنسبة للتهديدات الأمريكية، معروف أنها أثارت ردود فعل متباينة في المنطقة العربية. وفي القاهرة كانت الأوضاع لا زالت تسمح بأن يصرح السادات بأن كيسنجر أخطأ حين تحدث بهذا الأسلوب "لتتذكروا في هذا الصدد الفشل المؤسف الذي مني به العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. فهل يعتقدون أننا سنقف مكتوفي الأيدي، أمام تدخل عسكري أمريكي؟ لقد أنذرت الولايات المتحدة في هذا الشأن، بأن العرب سيشعلون النيران في آبار البترول، إذا ما تعرَّضوا لعدوان مُسلَّح" (6).
وفي انتظار الوعد الأمريكي بمواصلة "قوة الدفع"، حاول السادات أن يحافظ على ما أقامه من جسور مع السوفييت في أواخر عام 1974، فصرح بضرورة "تفادي أية مواجهة مع أيٍّ من الكبار". وقال "إنني مقتنع تمامًا بالأسباب التي أدت إلى عدم إتمام زيارة الزعيم السوفيتي بريجنيف في موعدها المحدد من قبلُ، وإنني واثقٌ من أننا سوف نصفِّي نهائيًّا ما قد يكون باقيًا من رواسبَ قديمة، عندما تتم زيارة بريجنيف في المنطقة، وستفتح صفحة جديدة" (7). ولكن حدث أن تغير هذا الموقف بعد أيام، فعاد إلى إعلان الموافقة الصريحة على وجهة النظر الأمريكية "فمن هنا إلى جنيف إذا استطاعت أمريكا أن تحقق شيئًا ما خطوة بخطوة، فأنا أرحِّب به" (8). ولكنْ مع طول الانتظار صرَّح "بأن الموقف بالغ الخطورة، ومصدر الخطر أن عملية السعي لإقرار السلام لا تتقدم بالسرعة الكافية، أو أنها على وشْك أن تتوقف نهائيًّا" (9).
بل وصل الحال إلى التلويح بتركِه الرئاسة: "إن مدة رئاستي تنتهي في عام 1976، وإنني لا أسعى إلى تجديد هذه الفترة ليوم آخر" (10)، وكان يعتقد – بحق – أن هذا الاحتمال يمكن أن يقلق الولايات المتحدة التي لم تكن قد تمكنت بعد من الإمساك بأعنَّة الموقف.
(3) وقد لجأت القيادة المصرية في هذه الفترة لأوروبا الغربية محاولة أيضًا لتحريك الموقف. وفي هذا الإطار كانت زيارة الرئيس السادات إلى فرنسا (27/ 29 يناير). وقبل الزيارة ركَّزت التصريحات على إمكانية الحصول على محطات نووية فرنسية للأغراض السلمية، وعلى أسلحة ومعدات حربية. وجاء في البيان المشترك أن الرئيس الفرنسي وافق على تلبية طلب الرئيس السادات تزويدَ مصر بمُعدات عسكرية لتعويض بعض ما فقدته، واشتراك المؤسسات الفرنسية في برامج التنمية في مصر، وخاصة في مجالات الكهرباء والطاقة النووية وميادين النقل والمواصلات والتنقيب عن النفط والصناعات البتروكيمائية، والصناعات الزراعية والغذائية، بالإضافة إلى ميادين الصناعة الخفيفة والسياحة، وقيل إن هذه المشروعات تتطلب استثمار 3000 مليون دولار، تسهم فرنسا بـ 280 مليون دولار، وتقدم الدول النفطية باقي التمويل المطلوب (11).
وقد يعكِس هذا تنسيقًا بين التحرك المصري، والسعودي بقيادة فيصل؛ لإغراء فرنسا، ولكن ورقة المحطات النووية الفرنسية، قد تكون أيضًا على علاقة بمحاولات الولايات المتحدة لاحتواء القوى النووية الإسرائيلية المستقلة، فسيطرة الولايات المتحدة على أطراف الصراع في المنطقة، وعلى قرار الحرب والسلام، تتلاشى عمليًا مع احتكام إسرائيل على قوة نووية مستقلة، ولا تقتصر خطورة ذلك – في الحسابات الاستراتيجية – على اتساع هامش الاستقلال السياسي الإسرائيلي، فإلى جانب هذا تمثل القوة النووية الإسرائيلية سببًا قائمًا أو محتملاً لدعوة الاتحاد السوفيتي إلى تغطية الجانب العربي بمظلته النووية، إذا عجزت الولايات المتحدة، أو أحجمت، عن تقديم البديل. ويبدو أن المحاولات الأمريكية في هذا الاتجاه تعثرت خلال عام 1974، ومنها الوعد بتقديم محطات نووية أمريكية إلى مصر (12).
(4) ولا نعتقد أن تلاحُق المواقف المصرية التي بدت متعارضة، كان مُجرَّد تخبط سياسي؛ فالمواقف كانت تعكس– إلى حد كبير – تلاحق الآمال والإحباطات – من يوم لآخر – أثناء المباحثات والاتصالات السريَّة.
بعد الموقف المعتدل من السوفييت في أواخر 1974، وفي بداية العام الجديد، انتقد الرئيس قبل زيارته لفرنسا الاتحاد السوفيتي بشدة، وقال إن الخلافات تشمل المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، وأشاد بالولايات المتحدة ووزير خارجيتها. وبعد زيارة فرنسا بخمسة أيام (3 فبراير) جرت محادثات مع جروميكو (وزير الخارجية السوفيتي) في القاهرة، وصرَّح السادات بعدها بأن العلاقات مع السوفييت تحسنت كثيرًا، وأن بريجنيف سيزور القاهرة (10)، وتضمَّن البيان المشترك الدعوةَ إلى استئناف أعمال مؤتمر جنيف فورًا، وباشتراك كافة الأطراف المعنية، بما فيها ممثلو منظمة التحرير الفلسطينية، ونص البيان على "رأي القيادة المصرية حول أهمية وضرورة اشتراك الاتحاد السوفيتي في تسوية الأزمة في جميع مراحلها، وفي كافة نواحيها، بما في ذلك اشتراكه في لجان العمل التي يمكن أن تتكون في مؤتمر جنيف" (13).
ولكن في 13 فبراير وصل كيسنجر فيما وُصِف بأنه زيارة بحث عن الحقائق؛ أي: في زيارة للتهدئة وكسب الوقت. وصرح كيسنجر بعدها، بأن فكرة تقطيع أوصال إسرائيل خلال المفاوضات الرامية للتوصل إلى اتفاقية سلام شامل أو مؤقت، دون مقابل معقول، هي فكرة لا معنى لها، بل ولا جدوى من مناقشتها. وردت القاهرة بأن مؤتمر جنيف هو أكثر الأماكن ملاءمة من أجل تحقيق السلام.
ثم بدأت الجولة التاسعة لكيسنجر في 7 مارس للتوصل إلى اتفاق فصل ثان للقوات على الجبهة المصرية: وهي الجولة التي أعلن وزير الخارجية الأمريكي فشلها (بعد 15 يومًا). لا شك أن إسرائيل بالغت في التشدد. والقيادة الإسرائيلية لم تكن بمستوى حرص الولايات المتحدة على توقيع الاتفاق الثاني (أو التكميلي) لفصل القوات، ولكن يتعذر مع ذلك أن نحدد رأيًا قاطعًا (مع غياب المعلومات الحقيقة) حول مدى ومسئولية الإدارة الأمريكية عن فشل "المكوك" في هذه الجولة. فالولايات المتحدة كانت حريصة على التوصل إلى اتفاقية تبدو معقولة (تتضمن انسحابًا من مناطق البترول والمضايق) ضمانًا لاستمرار خطتها في السيطرة من خلال الخطوة خطوة.
وبالتأكيد اضطرت الولايات المتحدة – بعد فشل مباحثات كيسنجر – إلى الضغط على إسرائيل؛ كي تلزمها باتباع سياستها، وتمنعها من تقويض ما حققته منذ حرب أكتوبر(14)، واستطاعت الإدارة الأمريكية – أثناء ما أسمته "إعادة تقييم سياستها في الشرق الأوسط" – أن تُفهم القيادة الإسرائيلية أن "قول "لا" للولايات المتحدة شيء، والارتفاع إلى مستوى النتائج المترتبة على قول "لا" شيء آخر تمامًا" (15). ولكن ألم يكن ممكنًا أن يتحقق كل هذا في زمن أقصرَ، إذا لم تكن الولايات المتحدة عازمة على استخدام العناد الإسرائيلي في كسب الوقت؟
المهم، كان رد الفعل الأول لفشل كيسنجر، أن أعلن إسماعيل فهمي (وزير الخارجية آنذاك) أن أسلوب كيسنجر لحل المشكلة خطوة خطوة قد مات، وعاد للمطالبة بعقد مؤتمر جنيف، وطلب وزير الخارجية المصري من سفيري الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بدءَ الاتصالات اللازمة لعقد المؤتمر. ولكن حدث بعد مغادرة كيسنجر للمنطقة بثلاثة أيام، أن اغتِيل الملك فيصل. ويؤكد بعض "من يعلمون" أن المخابرات المركزية كانت خلف الجريمة. ويبدو هذا الاتهام منطقيًا؛ فالملك فيصل – رحمه الله – كانت تدفعه عقيدته الإسلامية العميقة إلى احتمالات التمرد. وكان استمراره على رأس السعودية يثير قلقًا شديدًا للسياسة الأمريكية.
توالت الاتصالات مع الاتحاد السوفيتي باتجاه مؤتمر جنيف، وأعلن السادات أن مصر لن تقبل أية مفاوضات جديدة بشأن الانسحاب على الجبهة المصرية قبل انعقاد مؤتمر جنيف (16) ولكنه أهدى إلى الولايات المتحدة – في نفس المناسبة (10 أبريل) – قرار عودة الملاحة في قناة السويس بعد الانتهاء من عمليات التطهير؛ تنفيذًا للالتزامات السابقة أمام الحكومة الأمريكية؛ تعبيرًا عن "حسن النية".
وحدث في أوائل أبريل، أن تجددت المظاهرات الشعبية على نطاق أوسع، متمثلة في إضراب عُمَّال النسيج في المحلة الكبرى. كان الإضراب من أخطر الإضرابات في تاريخ الحركة العمالية المصرية، وعلى درجة رفيعة من التنظيم، فأعلن السادات حديثًا مباشرًا إلى الأمة، كان أكثر حدة من رسالة يناير، وكان أكثر استشعارًا للخطر على الجبهة الداخلية قال "لقد اخترت أن يكون حديثي إليكم عن الشئون الداخلية لقاء مباشرًا معكم، أتوجه به إلى قلوبكم وعقولكم، راجيًا أن تكونوا جميعًا معي في هذه اللحظات؛ ذلك لأن المسئولية ليست لفرد مهما أحسنتم الظن به، ولا هي لجماعة من الناس مهما حسنت نواياها. إن المسئولية الآن لشعب بأكمله.. وأريد أن ألفت النظر بوضوح، إلى أننا لسنا مجتمعًا لأصحاب الملايين، وإنما نحن مجتمع للعاملين المنتجين. إن هذا المُجتمع لن يعود - مهما حدث - إلى حالة كان فيها قبل الثورة، يوم أن كان نصف في المائة فقط من السكان يحصلون وحدهم على نصف الدخل القومي. ذلك فساد لا أقبل به، وذلك إفساد لا يقبل الشعب به. وسوف أقاومه، وسوف يقاومه الشعب معي". وفي ختام الحديث أعلن السادات "أننا على بداية مرحلة جديدة، وقد اكتملت لدَيَّ خطةٌ لمواجهة متطلبات هذه المرحلة، وسوف أبدأ - بإذن الله، وعلى الفور - في إجراءات تغييرات أساسية شاملة، وجدتُها لازمةً لكي نستطيع مواجهة هذه المرحلة" (17). وكانت البداية المعلنة لهذه التغييرات استقالة عبد العزيز حجازي (14 أبريل)، وقيام تشكيل وزاري جديد برئاسة ممدوح سالم.
(5) وينقلنا هذا إلى إشارة سرية عن نتائج ومتطلبات الخطوة خطوة في الجبهة الاقتصادية، فنذكر عرض صندوق النقد الدولي لحالة الاقتصاد المصري عام 1974 (الصادر قبيل استقالة حجازي) ويقول تقرير الصندوق: "لقد زاد عجز ميزان الحساب التجاري زيادة كبيرة في عام 1974، وتم تمويل هذا العجز عن طريق تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل، وتدهور الموقف تدهورًا كبيرًا؛ ابتداء من سبتمبر 1974، وكان من مظاهر هذا التدهور:
أ- زيادة كبيرة في الائتمان والتوسع النقدي.
ب- الزيادة في استخدام الطاقة الصناعية والحصول على مستلزمات الإنتاج الصناعية، وكذلك السلع التموينية، ثم الاستعانة في تمويلها بتسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل.
ج- ابتدأت في تلك الفترة تظهر زيادات حادة في التأخير في دفع الديون الخارجية، ومثل هذا التأخير لو سمح له بالاستمرار، فإنه سيؤثر على سُمعة مصر المالية، وإذا ربطنا ذلك مع العجز في الحصول على تسهيلات مصرفية تجارية جديدة، ومع ما هو مستحق حاليًّا من أقساط وفوائدَ، وهو يمثِّل قدرًا كبيرًا في المدفوعات، فإن هذا قد يؤدي إلى عجز في السداد على نطاق كبير من جانب مصر إلى دائنيها، ويؤدي إلى عدم تدفق السلع المستوردة، التي لا تستطيع البلاد الاستغناء عنها، كما أنه يجعل من الصعوبة بمكان الحصول على المعونة الخارجية، للوفاء باحتياجات البلاد.
د- عدم وجود سياسة اقتصادية واضحة ومعلنة أدى إلى زيادة الشكوك في أذهان المستثمرين الأجانب والمصريين"(18).
هذا التقرير – ببساطة – يشرح في البندين (أ)، (ب) حقيقة الانهيار الذي أحدثه العام الأول من الانفتاح، وهو يلوح بالعصا الغليظة في البندين (حـ)، (د) إذا لم تعلن سياسة واضحة (يضعها ويعتمدها صندوق النقد)، أي لا بد من تراجع رسمي عمّا كان يسمى بضوابط الانفتاح. وإذا
لم تفعل الحكومة ذلك ستمنع القروض، ويجوع الشعب، ولن تفِدَ "المعونات" الخارجية لإنقاذ الموقف، ولن يقدم المستثمرون. وهكذا كانت "المعونات" والاستثمارات يلوح بها (في العام الأول من الانفتاح) للإغراق في الديون، وعادت تستخدم (في العام الثاني) كأمل في طوق نجاة، وقد جرت مباحثات مارس مع "كيسنجر" تحت هذه الضغوط،
ولم يكن كيسنجر يحمل معه - فقط - أملَ إعادة نفط سيناء (بآثاره الإيجابية على ميزان المدفوعات)؛ إذ كان يقدِّم أيضًا تعهدًا بأن تسعَى الولايات المتحدة لتشكيل كونسورتيوم غربي (يضم دول الخليج المرتبطة بالغرب) "لانتشال" الاقتصادي المصري، ولكن مع فشل كيسنجر، وضوابط "الانفتاح"، تبخر كل ذلك(19)، رغم مضيّ القيادة المصرية في قرار إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية؛ تنفيذًا لالتزامها السابق أمام الولايات المتحدة، وبالتالي أمام إسرائيل.

(6) حين تشكَّلت حكومة ممدوح سالم "كانت هناك تسهيلات مصرفية متأخرة بلغ رقمها 44 مليون جنيه (110 مليون دولار). أمَّا التسهيلات للموردين، فقد كانت قيمة المتأخر منها في 27/4/1975 مبلغ 11.3 مليون جنيه (28.3 مليون دولار) وكانت قيمة التأخير تسعة شهور" (20). ولكن لم يكن مطروحًا من الناحية العملية أن يواجه هذا المأزق بمراجعة سياسة الانفتاح مراجعة جذرية (على النحو الذي أشار إليه بيان السادات). كان المطروح بقوة وإلحاح من جانب الحكومة الأمريكية وصندوق النقد، ومن جانب الفئات المحلية العميلة، تقويضًا كاملاً لمفاهيم ونظام المرحلة الناصرية، أي إزالة الضوابط التي تحمي الاستقلال. والتقرير الذي نشره محمود أبو وافية (وهو من المقربين إلى الرئيس السادات) عن الانفتاح (قبل استقالة الوزارة بيومين) كان مبلورًا لرأي هذا الاتجاه، فقال: إنه "من الطبيعي أن يسبق الانفتاح الخارجي انفتاح داخلي يؤمن النشاط الخاص، ويحفزه على القيام بدوره الضخم الفعال في خدمة الاقتصاد الوطني، ولا يتصور إمكان نجاح انفتاح خارجي، إذا لم يكن الانفتاح الداخلي ناجحًا". وهذه الفقرة كانت تدافع عمّا بدأت ممارسته عملاً، وإن أنكرته التصريحات الرسمية. كان يقال إن الانفتاح مجرد أسلوب يدعِّم قدراتنا المالية والتكنولوجية؛ لكي تندفع بمعدل أعلى، وكفاءة أكبر في التنمية المستقلة المخططة، ولكنَّ أبا وافية اعترف في تقريره، بأن الانفتاح المقصود هو دعوة لنظام اقتصادي واجتماعي جديد. وتأكيدًا لهذا الاتجاه؛ أضاف "أن القطاعين (العام والخاص) يعملان في خدمة البلاد، ولكل مجاله ونشاطه واستعداده وصلاحيته. ولا ينبغي أن يطغى قطاع على قطاع، أو يجور قطاع على ما ينبغي أن يكون للآخر، بما يخلّ بالموازنة بينهما في المعاملة كشقيقين، أو كابنين لأم واحدة هي مصر". وحين شرح التقرير مقصده، اقترح حل المؤسسات العامة، واستبعاد القطاع العام من كثير من المجالات الحاكمة وتسليمها للرأسماليين، وعاد إلى قضية طرح جزء من أسهم رءوس أموال شركات القطاع العام على القطاع الخاص والأفراد. وتصفية "السيطرة الرهيبة" للدولة (حسب تعبير التقرير) على التصدير والاستيراد، وفتح سوق البضاعة الحاضرة للأقطان... إلخ (21).
وفيما يتعلق بتصورات التنمية والنظام الاقتصادي في الأجل المتوسط، كان البنك الدولي يبيع – في نفس الفترة – أفكارًا تتفق تمامًا مع أبي وافية، والوزير القوي في الوزارة القديمة والجديدة، عثمان أحمد عثمان، (وهو من المقربين أيضًا إلى الرئيس) كانت تصريحاته في نفس الاتجاه، فقبل حلفه اليمين في الوزارة الجديدة، صرَّح بأن "سبب هذه الأزمة هو استيراد نظم من الخارج وتطبيقها في مصر.. وآن الأوان للتخلص من النظام المستورد الخاطئ، وخلق المنافسة والحريات أمام المواطن المصري.... يجب أن يعرف الشباب أننا نعاني من رواسبَ 20 سنة" (22).
كانت القوى الاستعمارية الخارجيّة، وكان حلفاؤها في الداخل، في مرحلة تصعيد الهجوم على الجبهة الاقتصادية (والجبهات الأخرى) لإكمال فرض التبعية، وكانت محاولات المقاومة أثناء حكومة حجازي؛ مما ينبغي تجاوزه؛ ولذا رحبت هذه القوى بتنحيته، وبادرت إلى تحية ممدوح سالم (بصفته عدو الانغلاق)، فكتب أحمد أبو الفتوح (الذي أعلن موافقته الكاملة على تقرير أبي وافية) أنه "قابل السيد ممدوح سالم أكثر من مرة، وهو يتمتع بخبرات كثيرة (!)؛ فهو يتحدث أكثر من أربع لغات أجنبية، وقد زار الكثير من دول العالم، وله آراء في الحريات وفي الاقتصاد والسياحة، تتمتع بالفهم الصحيح للأمور" (23)، وكتب مصطفى أمين أنه يعتقد أن الوزارة الجديدة ستتبنى سياسة اقتصادية مختلفة عن السياسة السابقة (24).
وحاول ممدوح سالم في البداية، أن يركب هذه الموجة، فاستخدم في مؤتمره الصحفي الأول نفس مفهوم أبي وافية "فالانفتاح فلسفة متكاملة بالنسبة لنظام اقتصادي وسياسي وإداري وثقافي". وفي بيانه أمام مجلس الشعب، أعلن الربط بين الانفتاح الداخلي والخارجي – تطبيق سياسة الانفتاح على القطاعين العام والخاص – الارتباط الوثيق بين الانفتاح السياسي وغيره من صور الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي (25). وكما تحدث أبو وافية عن القطاع الخاص كشقيق للقطاع العام، هضمنا حقه في الماضي. قال ممدوح سالم في بيان حكومته "أننا عملنا في المرحلة الماضية برِئَة واحدة في مجال الإنتاج، هي القطاع العام "ولذلك" فإن المرحلة المقبلة سوف تشاهد انطلاقة جديدة، يتكامل فيها

نور 06-07-2011 02:21 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
البنك الدولي إن "الحكومة تَعتبر المحافظة على ثبات أسعار سلع الاستهلاك الأساسية - أمرًا حيويًا في سياستها الاقتصادية والاجتماعية. وهي تشير إلى الاضطرابات التي فجرتها الظروف الاقتصادية المتدهورة التي سبقت تغيير الحكومة (في أبريل 1975) وهي غير مستعدة (وهذا أمر مفهوم) للمخاطرة بحدوث اضطرابات اجتماعية بقيامها بتخفيض الإعانات الخاصة بتكاليف المعيشة" (26).
وترتب على هذا الالتزام، أن ارتفع صافي الخسارة لهيئة السلع التموينية في ميزانية 1975 إلى 418 مليون جنيه (وكان 330 مليونًا عام 1974). وقد أُنشئ في وزارة الخزانة في موازنة 1975، صندوق يجمع اعتمادات الدعم التي كان بعضها يتناثر في أقسام أخرى من الموازنة، بعيدًا عن هيئة السلع التموينية، ووفقًا لأرقام هذا الصندوق كان الاتفاق الفعلي لهذا الغرض 622.1 مليون جنيه (موازنة 1975) وقدر أن الإنفاق المقابل (في موازنة 1974) كان هو 355.5 مليون جنيه(27)، وإذا أضيف إلى هذا الدعم المباشر الذي تتحمله الدولة في القطاع الاقتصادي يصبح الرقم 188 مليون جنيه 1973 (حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي)، ويقفز إلى 715 مليون جنيه عام 1975 (حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي) (28).
وكان على الميزانية العامة، أن تتحمل في نفس الفترة إنفاقًا عسكريًا مرتفعًا؛ فاستهلكت نفقات الدفاع نسبة كبيرة عام 1974 من إجمالي الإنفاق الحكومي المركزي الجاري (39%). وصحيح أن الزيادة في ميزانية 1975 قدرت بحوالي 20 مليون جنيه فقط (وكان هذا يعني خفض اعتمادات الدفاع بالقيمة الحقيقية)، وصحيح أيضًا أن نسبة الدفاع من إجمالي الإنفاق الحكومي المركزي الجاري انخفضت إلى 35% (29)، ولكنها ظلت تمثل عبئًا شديدًا على الإيرادات. ومع المنطق السائد والمتنامي للسياسة الانفتاحية، امتنع على الحكومة – كما في عام 1974 – تحقيق زيادة حقيقة ومناسبة في الإيرادات المحلية، وفي نفس الوقت
لم تتدفق "المعونات" – الخارجية بالحجم المُتمنَّى، وبالتالي كانت الزيادة في الاستهلاك الحكومي (بما في ذلك نفقات الدفاع) خلال 1975 بنحو 7%، وبإضافة نفقات خفض تكاليف المعيشة إلى الاستهلاك الحكومي قفزت الزيادة إلى حوالي 23% فوق مستوى العام السابق. ويعني هذا أن اعتمادات الدعم كانت من الأسباب الهامة للعجز الجاري المتزايد للميزانية العامة (من 500 مليون جنيه/ 1974 – إلى 1094 مليون جنيه/ 1975 – أرقام حقيقية)، وواصلت الحكومة لجوءها إلى الجهاز المصرفي لسد العجز؛ خروجًا على الخطة الائتمانية الموضوعة.

كان حجم الاقتراض من الجهاز المصرفي مُقدَّرًا – وفق كتاب وزارة المالية إلى البنك المركزي – بنحو 125 مليون جنيهًا في كل من السنة المالية 1974 والسنة المالية 1975، إلا أن التطورات الفعلية أفصحت عن تجاوز تلك الحدود بدرجة كبيرة، ولا سيما خلال عام 1975؛ حيث حقق صافي مطلوبات الجهاز المصرفي من القطاع الحكومي طفرة كبيرة، وبلغ في آخر ديسمبر 1975 ما مجموعه 2691 مليون جنيه مقابل 1706 مليون جنيه في نهاية ديسمبر 1974، أي بزيادة بلغت 985 مليون جنيه خلال 1975. كذلك استحوذت شركات القطاع العام على نصيب هام ومتزايد من إجمالي التسهيلات الائتمانية التي يمنحُها الجهاز المصرفي، وبما يجاوز الحدود المرغوبة للتوسع الائتماني، ولا شك أن اختلال الموازنة العامة كان سببًا رئيسيًا لتزايد اعتماد الكثير من شركات القطاع العام على الائتمان المصرفي في مجال تمويل نشاطها (سواء لنقص رأس المال المعتمد لبعض الشركات عند إنشائها، أو بسبب قصور الاعتمادات المقررة بموازنات الجهات الحكومية عن الوفاء بقيمة الالتزامات المستحقة عليها لشركات القطاع العام، مما يسبب مشكلة سيولة لدى هذه الشركات).
ب- إن مواصلة التمويل بالعجز، وعلى هذا النطاق الرهيب، كانت سياسة عابثة أو حمقاءَ؛ فمحاولات الحكومة للتحكم في الأسعار (المُتَمثلة في اعتمادات الدعم) ينفيها هذا الاقتراض الحكومي الواسع من الجهاز المصرفي، وما نتج عنه من آثار تضخيمية. وتحليل الزيادة في مطلوب الجهاز المصرفي من الحكومة، كان يثبت دور الرصيد المكشوف في حسابات وزارة المالية لدى البنك المركزي. وقد سجل البنك المركزي – بحق – أن "هذه التطورات تُشير إلى مدَى أهمية الحاجة إلى ترشيد أسس وضع الموازنة العامة للدولة، وإحكام الضوابط على الإنفاق الحكومية بصفة عامة. كل ذلك مع تنمية الموارد السياديَّة؛ حتى يجيء العجز الممول عن طريق الجهاز المصرفي متسقًا مع تقديرات التوسع الائتماني الآمن التي تستهدف المحافظة على قدر مناسب من الاستقرار النقدي بالبلاد".
وقد كان طبيعيًّا أن تتأثر كمية وسائل الدفع (أي: البنكنوت المتداوَل خارج البنوك)، والعملة المعاونة، والودائع الجارية) بما طرأ على حجم الائتمان المصرفي كان إجراء تضخُميًّا
لا يقل في أثره عن طبع المزيد من أوراق البنكنوت، ولكن يلاحظ مع ذلك أن الجانب الأكبر من الزيادة في وسائل الدفع الجارية تمثل في تصاعد البنكنوت المتداول خارج الجهاز المصرفي بنحو 195.4 مليون جنيه. "وهو ما يعكس أحد مظاهرات التيارات الضخمة"(30) (زادت كمية البنكنوت المتداول بنسبة 20.9%، والإنتاج القومي الحقيقي زاد بحوالي 9% - إذا صدقت البيانات الرسميَّة بخصوص الإنتاج والناتج).

ج- هذه السياسة كانت استمرارًا لموقف الحكومة في العام الأول من الانفتاح – وأدَّت إلى مزيد من ضعف الموقف المصري في مواجهة مطالبة صندوق النقد الدولي بإلغاء الدعم، فموقف السلطات لم يكن متسقًا، والدعم ظل محاصرًا بجملة السياسات الانفتاحية المقوّضة – عمليًا – لهدف حماية هيكل الأسعار المحلي. وبالتالي تداعت في عام 1975 – كما تداعت في العام السابق – محاولات السيطرة على ارتفاع الأسعار، رغم الدعم، ورغم مصيبة التوسع في الاستيراد لتوفير قدر من المقابل السلعي للسيولة المحلية.
وهذا التوسع كان مصيبة؛ لأنه تحقق – إلى حد كبير وكما نعلم – من خلال التوسع في الاقتراض، ومن الجهاز المصرفي بالذات، وإلى الحد الذي زاد فيه العجز في صافي الأصول الأجنبية لدى البنك المركزي والبنوك التجارية مُجتمعة، من 165 مليون جنيه (1973) إلى 219 مليون جنيه (1974) إلى 1043 مليون جنيه خلال عام 1975. ولأول مرة في تاريخ مصر الاقتصادي، زاد العجز في صافي الأصول الأجنبية عن حجم الصادرات السنوية، وكانت وزارة التخطيط محقة حين علقت بأنه "من الواضح أن مثل هذا الاتجاه لا يمكن أن يستمر" (31). لنا عودة على أية حال إلى هذه القضية. والمهم الآن هو أنه حسب الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين (في الحضر) كانت الزيادة في عام 1975 عن العام السابق بنسبة 9.9%، وكانت الزيادة في بند الطعام والشراب (وزنه في ميزانية الأسرة 52.5%) تصل إلى 12.0% (32).
ورغم ارتفاع المعدلات الرسمية، فإن كافة المسئولين في القطاع الاقتصادي، كانوا يسخرون صراحة من هذه المعدلات، وفي تقدير شبه رسمي لوزارة الاقتصاد، كانت الزيادة في الأسعار خلال السنوات 1971/ 1975 أكثر من 120%، إذا أخذنا في الاعتبار أن الزيادة الأساسية حدثت في عامي 1974، 1975، يمكن أن نقول حسب هذا التقدير: إن المعدل كان في كل من هذين العامين أكثر من 30%، مع ملاحظة أن انفجار التضخم أدى إلى سيولة عالية جدًا لدى الفئات الطفيلية؛ بحيث تسارعت إعادة توزيع الناتج المحلي بين الطبقات المختلفة على نحو أكثر تشوهًا، وبالتالي كان عبء ارتفاع الأسعار قاسيًا على الفئات التي تدهور نصيبها النسبي من الناتج.
(2) جبهة سعر الصرف:
أ- أصر صندوق النقد الدولي في مشاورات 1975 على التحرك السريع باتجاه خفض قيمة الجنيه المصري، وأصرَّت الحكومة من جانبها طوال العام، على أنها لا تهدف ولا توافق على المطالبة بخفض سعر الصرف الرسمي، وبالإسراع في إطلاق حرية التحويل، وأكدت موقفها بإبطاء التوسع في التعامل من خلال السوق الموازية عن المدى الذي طالب به صندوق النقد. وقد صرح وزير المالية (أحمد أبو إسماعيل) بأن صندوق النقد طالب فعلاً بخفض سعر الصرف، "وكان رأينا أننا إذا خفضنا قيمة العملة حاليًا فهذا معناه أننا نرفع أسعار السلع جميعًا، والحكومة الحالية جاءت من أجل المحافظة على الأسعار وتخفيضها" (33).
ووصف وزير الاقتصاد (زكي شافعي) الحديث عن إطلاق التعامل في الجنيه المصري قائلاً: "هذه جريمة"!.. "هذا يحدث عندما يكون الاقتصاد في حالته الطبيعية. أما الآن فهو جسم مريض، فكيف أحكم عليه؟" (34) ورئيس الحكومة أعلن نفس الموقف حين طلب عضو في مجلس الشعب بتحويل السوق الموازية إلى سوق حرة. يومها رد ممدوح سالم بأن "السيد العضو تحدث بأسلوب اقتصاد حر في موضوع سعر الجنيه المصري. ويتم التعامل به على أساس سعره الحقيقي في السوق الحرة. وسوف ينتج عن هذا أن يصل سعر الجنيه إلى 60 أو 65 قرشًا، في حين أن الجنيه المصري ما زالت قوته الشرائية في مصر الآن، ورغم انخفاض سعره، تزيد على جنيهين أو ثلاثة جنيهات إسترلينية في بريطانيا، وتزيد على خمسة دولارات في الولايات المتحدة الأمريكية. إن التعامل بالسعر الحقيقي سوف يترتب عليه ارتفاع سريع جدًا في الأسعار، والمرحلة غير مواتية لتقويم الجنيه المصري، حتى يصل إلى سعره الحقيقي، ويجب التدرج في ذلك. إن الجنيه المصري سوف يعود إلى قوته الحقيقية في التعامل الخارجي، إذا توازن في ميزان مدفوعاتنا، وما زال هناك خلل في ميزان المدفوعات يبلغ 1400 مليون جنيه" (35).
إلا أن هذا الموقف عارضه خلال 1975، كما عارضه في العام السابق، مجمل السياسات و"المؤامرات" التي أدت إلى تفاقم العجز القومي قبل العالم الغربي.
ب- ميزان السلع والخدمات: كانت خطة 1975 – بالنسبة للصادرات السلعيَّة – تستهدف تصدير ما مقداره 683.6 مليون جنيه (دون حصة الشريك)، وكانت التقديرات الأولى أن المنفذ لم يتجاوز 493 مليونًا، بنقص 27.9% عن المستهدف. وتركز التخلف في صادرات السلع الزراعية، وكان القطن من أبرز الأمثلة (ولنقص الكميات أكثر منه بسبب السعر). وقد انخفضت الواردات السلعيَّة في المقابل، فحيث كان المستهدف حوالي 2130 مليون جنيه، بلغت تقديرات الموازنة النقدية للمنفذ حوالي 1791 مليون جنيه، بنقص 16% (36)، ولكن هذه التقديرات تعدلت كثيرًا في الأرقام الفعليَّة المعلنة. والتعديلات أمرها مفهوم إذا كانت لتدقيق حسابات المنفذ، ولكن من الغريب أن الأرقام المستهدفة، هي التي أصابها التعديلُ الأكبر في البيانات النهائية لوزارة المالية، فقيل: إن المستهدف للصادرات السلعية كان 466 مليون جنيهًا فقط (وليس 684 مليون جنيه)، والرقم الفعلي 492 مليون جنيه، وبالتالي لم يحدث قصور، وإنما تجاوز لأهداف الخطة. وبالنسبة للوارِدات السلعية، تعدلت الأرقام كذلك، فقيل إن المستهدَف استيرادُه كان 3363 مليون جنيه، والمنفذ فعلاً كان 1825، وبالتالي نقصت الوارِدات الفعلية عن هذا المستهدف "الجديد" بنسبة 19.3%.
* على أيَّة حال، إذا اعتمدنا ما أعلنته الموازنات النقدية كأرقام فعلية، تكون قيمة الصادرات السلعية (عام 1975) قد هبطت إلى 466 مليون جنيه (حوالي 1260 مليون دولار) عام 1974. وفي نفس الفترة قفزت قيمة الوارِدات السلعية إلى 1825 مليون جنيه مقابل 1579.6 في عام 1974. ولكن قد يحسن أن نعتمد في المقارنة بين الأداء الفعلي للسنوات المختلفة على مصادر البنك المركزي (راجع هامش رقم 36). وفي هذه الحالة تتعدَّل الأرقام على النحو التالي – جدول (1):


جدول (1)
الميزان السلعي لعامَي 1974 و1975
بملايين الجنيهات
1974
1975
صادرات سلعية f.o.b
وارِدات سلعية c.i.f.
العجز
653.9
1357.5
-703.6
612.8
1691.1
-1078.3

وفقًا لجدول (1) تكون الصادرات قد نقصت عن العام السابق بنسبة 6.3% والواردات زادت 24.6%، واتسع العجز بنسبة 53.3%. لقد تجاوزت قيمة العجز في الميزان السلعي (في عامي 1974، 1975) إجمالي الحصيلة من صادرات مصر السلعية، ولكن كان التجاوز في السنة الأولى بنسبة 7.6%، وفي السنة التالية 76%. وكان واردًا في مشروع الموازنة النقدية (لعام 1975) أن تتجاوز قيمة الواردات الاستهلاكية وحدها )594 مليون جنيه) كل حصيلة الصادرات السلعية (466 مليون جنيه)، وتم هذا فعلاً حسب بيانات المتابعة للموازنة النقديَّة، ومع هذا لم يتخذ أي إجراء لمواجهة هذا الوضع الشاذ والخطير، وكان يتعذر في الحقيقة عمل شيء جاد؛ لأن المسألة لا تواجه بإجراء واحد سحري، وإما ترتبط بحزمة سياسات مستقلة رشيدة، تتناول الإنتاج والاستهلاك والتجارة الخارجية (من العوامل التي حدَّت من زيادة الصادرات السلعية – على سبيل المثال – أن الاستهلاك ابتلع قدرًا من الفائض المحتمل تصديره). كل الحزمة من السياسات المُتبعة (الانفتاح) كانت تؤدي إلى حتمية الانهيار.
وكان طبيعيًّا أن تتجدد مع "هوجة" التوسع في الاستيراد أزمات التكدُّس المتزايد في ميناء الإسكندرية، بل ما ترتب على ذلك من ارتباكات في حركة السحب، وفي عمل الوحدات الاقتصادية، وأيضًا بكل ما ترتب على ذلك من أعباء تحمَّلتها أسعار الاستيراد (37)، ونمت من خلال كل هذا شبكةُ النهب والفساد المنظم (كما أوضحنا في الفصل السادس).
* لقد اتخذ البعض من ارتفاع أسعار الواردات عام 1974 سببًا لقفزة الاستيراد في تلك السنة. وسبق أن رفضنا ذلك. ولكننا على أية حال – في العام الثاني من الانفتاح – أمام حقيقة أن أسعار الواردات في عام 1975 كانت أقل – بوجه عام – عنها في العام السابق، فيما عدا الواردات الاستهلاكية التي ارتفعت أسعارها ارتفاعًا طفيفًا (حوالي 3%)، وإجمالاً كان الرقم القياسي لأسعار الواردات ثابتًا في العامين، وتحسن معامل التبادل (ولو بدرجة طفيفة) على النحو التالي – جدول (2).
جدول (2)
شروط التجارة 1973 – 1975 (38)
1969/ 1970 = 100
1973
1974
1975
الرقم القياسي لسعر الصادرات
الرقم القياسي لسعر الواردات
معامل التجارة
الرقم القياسي لحجم الصادرات
الرقم القياسي لحجم الواردات
120
121
100
95
108
213
239
89
73
140
216
239
90
66
235

ومع ذلك استمر التوسُّع في الاستيراد، بنفس الإصرار، وبمعدل بالغ الارتفاع، رغم النقص في حصيلة وكم الصادرات. لقد أصبح التوسع في الاستيراد - إذن - متغيرًا "مفلوت العيار"، يمضي في طريقه لا يلوي على شيء: ارتفعت الأسعار، ثبتت الأسعار، زادت الصادرات، قلت الصادرات، وصلت "المعونات"، وقفت "المعونات".. في كل الأحوال لا بد أن تتسع الوارِدات! ويقول تقرير المتابعة لوزارة التخطيط: إن الواردات خلال عام 1975 "تزايدت بوجه عام تزايدًا ليس من اليسير تفسيره مع ما تحقق في عام 1974، ولا مع تحقق من الأهداف الإنتاجية والاستهلاكية وأهداف التنمية". فالواردات الاستهلاكية زادت عن عام 1974 – وفْقًا للتقرير – بنسبة 23%، والوارِدات من السلع الوسيطة زادت بنسبة 38% "ومعنى ذلك أن هناك اتجاهًا توسُّعيًّا واضحًا في الواردات الاستهلاكية، يتعدَّى الزيادة الكلية في الاستهلاك، وأن هناك زيادة في الواردات الوسيطة لا تتمشى مع الزيادة المتحققة في الإنتاج القومي، والتي
لا تتعدى 10% على أقصى تقدير.

"ولا يجد التخطيط تفسيرًا لذلك، سوى تراكم المخزون من السلع المستوردة. وهناك أمثلة واضحة على ذلك – كما هو الحال بالنسبة للقمح والدقيق والأخشاب والورق، إلى غير ذلك" (39). وهذا ليس تفسيرًا. إنه نتيجة تتطلب التفسير؛
إذ كيف يتم التوسع في الاستيراد بهدف تراكم المخزون في دولة تقترض من المصارف الأجنبية بفوائدَ باهظة؛ لكي تقتات؟ كيف نفسر تدفق الواردات التي تستوعبها، والتي
لا تستوعبها، بلا توقف، بل بتسارع، وأيًّا كانت الظروف، إلا بأن هناك من يخطط لإغراق مصر في الديون، ويستخدم في هذا كل الأدوات المحققة للهدف؟

* وكان مفهومًا أن التوزيع الجغرافيّ (أو السياسيّ) لتجارة مصر الدولية، يخضع أيضًا للمخطط (أو المؤامرة). وفي هذا النطاق، أحدث مزيدًا من الاختلال حسب الجدول (3) – (المصدر: الموازنة النقدية).
جدول (3)
توزيع التجارة الخارجية عام 1975
بين دول العملات الحرة ودول الاتفاقات بملايين الدولارات
مستهدف
مُحقَّق
عملات حرة
اتفاقات
إجمالي
عملات حرة
اتفاقات
إجمالي
1- الموارد
* زراعة
* صناعة
* غير منظورة
2- الاستخدامات
* وارِدات سلعيّة
* غير منظورة
682.8
108
226.8
308
4841.8
4734
107.8
859.2
455.9
362.3
41
1104.6
1058
46.6
1542
563.9
629.1
349
5946.4
5792
154.4
595
81.7
213.8
299.5
4178.4
4075
103.4
995.6
508.6
455.7
31
619.5
598
21.5
1590.6
590.6
669.5
330.5
4797.9
4673
124.9

ويتضح أنه حدث فائض في ميزان العمليات الجارية مع دول الاتفاقيات (الدول الاشتراكية أساسًا) بلغ 376 مليون دولار، بدلاً من العجز المستهدَف وقدرُه 246 مليون دولار. وحدث هذا بسبب الزيادة في الصادرات مع نقص الواردات عمَّا كان مستهدفًا. ولم تستخدم الزيادة في الصادرات لاستيراد احتياجات سلعية، ولكنَّ استخدمَ الفائض الكبير في الميزان لسداد الديون لدول الاتفاقيات، بمعدل أعلى من توقعات هذه الدول الدائنة (في فترة يطالبها فيها المسئولون المصريون، بإعادة جدوَلة الديون!). وفي نفس الوقت توسع الاستيراد من الدول الغربية، دون زيادة في التصدير إلى أسواقها، وأدى هذا إلى مزيد من تدهور الميزان بالعملات الحرة، فبينما كان إجمالي الموارد بالعملات الحرة يغطي 22.5% فقط من المدفوعات عن الواردات السلعيَّة بذات العملات (عام 1974) تدنَّت النسبة (المنخفضة أصلاً) إلى 14.6% (عام 1975) بكل ما ترتب على ذلك من تراكم الديون والالتزامات المستحقة للدول الغربية. ويصف تقريرُ وزارة التخطيط، الإسراعَ في تحسين ميزان المدفوعات مع دول الاتفاقيات - بأنه "الإسراع غير المخطط". من قال إنه غير مُخَطط؟!
ج- عجز العمليات الجارية والرأسمالية وتراكم الديون: نبدأ بالتقييم العام، والتحذير الأمين الذي قدَّمه البنكُ المركزي المصري؛ فقد أثبت أنه "إذا كانت الحاجة تدعو إلى تدبير التمويل الخارجي اللازم لمقابلة هذا العجز الجاري؛ فقد كان يتعين على البلاد في الوقت ذاته الوفاء بقيمة التزامات متعلقة بأقساط قروض وفئات استحقّت خلال العام لمصالح الحكومات الأجنبية، والهيئات والمؤسسات الدولية وغيرها. هذا إلى جانب تسديد المستحق من التسهيلات المصرفية التي حصلت عليها البنوك التجارية المصرية من البنوك الأجنبية، والتي بلغت قيمتها 780 مليون جنيه، بِخلاف قيمة الفوائد المستحقة وعليها وقدرها 75 مليون جنيه، وكذلك تسديد مبلغ 132 مليون جنيه من مُستحقَّات المورِّدين في الخارج"... "ويتضح من هذا العرض لمركز المعاملات مع الخارج خلال 1975، مدى العجز الكبير الذي نجم عن العمليات التي تم إجراؤها بالعملات الحرة؛ ذلك أن حصيلة الصادرات السلعية والخدمية بهذه العملات، إلى جانب تحويلات الدعم العربي، تقصيرًا كثيرًا عن مواجهة المدفوعات بالعملات لاستيراد السلع الاستهلاكية والاستثمارية اللازمة للبلاد وأداء الخدمات، بالإضافة إلى الوفاء بالالتزامات العديدة الناشئة عن استخدام القروض والتسهيلات المصرفية وتسهيلات الموردين" (40)، وطالب البنك المركزي بضرورة "الحد من الاعتمادات على التسهيلات المصرفية التي جاوز المُستخدَم منها حدود الأمان بما لا يتناسب مع الموارد المتاحة للبلاد من النقد الأجنبي، وما قد يترتب عليه من صعوبات في الوفاء بها في مواعيد استحقاقها؛ مما يضر بسمعة الجهاز المصرفي، ويسيء إلى الثقة الواجب السعي إلى دعمها في اقتصاد البلاد" (41). وكانت هذه الصيحة من المحاولات اليائسة للتكنوقراط الوطنيين لوقف الانهيار.
* ندخل بعد هذا في تفاصيل وأزمات مواجهة الالتزامات. في سنة الانفتاح الأولى تمخَّضت الوعود الأمريكيَّة والغربيَّة حول تدفق المعونات والقروض الميسرة عن لا شيء. وفي عام 1975 بدأت "البشائر"، فتضاعفت ارتباطات الحكومات الغربية والهيئات الدولية، كانت 294.8 مليون دولار عام 1974، فقفزت إلى 897 مليون دولار عام 1975. وارتفع نصيب الولايات المتحدَّة من صفر إلى 401 مليون، ولكن كما كانت هذه الالتزامات مجرَّد أرقام في العام الأول من الانفتاح ظلَّت كذلك مجرد أرقام في العام الثاني؛ إذ كان السحب على هذه القروض بالغ البطء، وبالتالي لم تسهم في تخفيف أعباء التمويل الخارجي، بل استمرت حسابات القروض المتوسطة والطويلة الأجل مع الدول الغربية والشرقية تظهر نتيجة سالبة، أي كان التدفُّق العكسي (من مصر إلى الخارج) سدادًا لأعباء الديون القديمة، أعلى من تدفقات القروض الجديدة إلى مصر (إذا استبعدنا القرض الإيراني وودائع الدول العربية)، تمامًا كما كان الحال في عامي 1973 و1974.
وبالنسبة لحصيلة الدعم العربي (منح نقدية لا ترد) انخفضت في عام 1975 إلى 988 مليون دولار (مقابل 1264 مليونًا في العام السابق)، وهذه الحصيلة غطَّت 40% فقط من العجز في ميزان السلع والخدمات (مقابل 78% في العام السابق)، وإذا أضيفت التسديدات الرأسمالية، يكون الدعم العربي قد واجه 28% من التزامات مصر المالية الخارجية (مقابل 55% عام 1974). ولكن قد تُضاف إلى هذا الدعم الودائع العربية في البنك المركزي (1400 مليون دولار) وضمان قرض نقدي مقدم للبنك المركزي (180 مليون دولار)، ونضيف هنا أيضًا القرض النقدي الإيراني (320 مليون دولار)، وينتج عن إضافة هذه القروض إلى تحويلات الدعم، أن إجمالي السيولة الموفَّرة – بشروط يقال إنها ميسرة – زاد كثيرًا عن إجمالي العام السابق، ولكن هيكل هذه الموارد أصبح يتألف من قروض إلى جانب المنح، والمنح بالتحديد أصبحت أقل، حتى من حيث الحجم المُطلق. وصحيح أن هذه الموارد لم تواجه كل العجز، ولكنها غطت جزءًا هامًا منه، فقررت الحكومة – بناء على طلب صندوق النقد – أن تضبط الكمية الجديدة من التسهيلات المصرفية المفتوحة؛ بحيث لا تتجاوز في أيَّة فترة 75% من الكميات التي تقع إجالها وتستحق السداد في الفترة (42). وبالتالي هبطت الالتزامات الجديدة خلال عام 1975 إلى 1789 مليون دولار، مقابل 2327 مليون دولار في عام 1974 وهبط صافي استخدام التسهيلات المصرفية (الصافي – الاستخدام – تسديدات أساس الدين) من 585 مليون دولار إلى 129 مليون دولار عام 1975 (وفي قول آخر 88.7 مليون دولار) (43). ولكن ينبغي أَلا نُخدَعَ في مصطلح "صافي الاستخدام" الذي قد يضللنا عن الحجم الحقيقي للكارثة، فانخفاض صافي التسهيلات المصرفية، قد يؤدِّي إلى تخفيف العبء المورث لعام 1976 (وقد تحقق هذا بفضل القروض النقدية الكبيرة من الدول الخليجية العربية وإيران خلال عام 1975) ولكن وصل مع ذلك استخدام التسهيلات المصرفية إلى 2225 مليون دولار أثناء عام 1975 مقابل 1545 مليونًا في العام السابق بزيادة 47%؛ لسداد الالتزامات التي حلت آجالها خلال العام (996 مليون دولار كأساس + 193 مليون دولار فوائد – والرقمان المقابلان في العام السابق 960 و113) (44). ولكن رغم هذا التفسير هللت السلطات المحلية والهيئات الدوليَّة لخفض صافي التسهيلات.
* وكان أحمد أبو إسماعيل (وزير المالية) يفاخرُ في نهاية العام بأنه "مع الاستعانة بالقروض الطويلة الأجل، المُقدَّمة من الحكومات والمؤسسات الدولية بشروط ميسرة، أمكن تقليل الاعتماد على استخدام التسهيلات قصيرة الأجل لتمويل الواردات؛ بحيث لا يتجاوز ما يعادل استخدامه منها 75% من المسدد؛ مما يؤدي إلى تخفيف أعباء الالتزامات تدريجيًا خلال السنوات القادمة، وتخفيف أعباء الفوائد المرتفعة التي يتم تحملها؛ نتيجة استخدام هذا النوع من الائتمان".
إلا أن واقع الحال كان بعيدًا جدًا عن هذه الصورة الورديَّة الزائفة؛ فعبْر السياسات الرسمية، أو الممارسة كأمر واقع، شُلَّت سيطرة الدولة على إدارة الاقتصاد، وإدارة التجارة الخارجية، ومع "تحرير" الاستيراد، أو مع فوضى التوسع في الاستيراد غربًا (رغم قصور الموارد من العملات الحرة) انهار ميزان المدفوعات في العام الأول من الانفتاح. وصاحب هذا امتناعُ القروض الميسرة، فلم يبقَ لمواجهة الانهيار غير الدعم العربي، والغرق في الديون المصرفية، وفي عام 1975 نجح "المخطط" في تحقيق مزيد من التوسع في الاستيراد، وبالتالي في إحداث مزيد من العجز في ميزان السلع والخدمات، وأصبح على السلطات مواجهة هذا الانهيار الجديد، بالإضافة إلى الالتزامات الأجنبية التي حلت آجالها خلال العام، وقد عبْر تقرير لوزارة التخطيط (حول متابعة النصف الأول من عام 1975) عن فزع الوزارة من هذه التطورات، فنبَّه إلى أن هناك اختلالاً أساسيًّا وخطيرًا في التوازن الاقتصادي العام؛ حيث تتعدَّى الأعباء القومية الموارد الذاتية بنسب قدرها بنحو 50% (45)، وقد عدلت هذه النسبة في تقرير "تال" إلى 39.3%، ولكنْ تظل هذه النسبة "تعطي دلالة واضحة عن تطور خطير في الثغرة الاقتصادية التي تواجهها مصر قبل العالم الخارجي" (46)، فقد اتسعت الثغرة، أو العجز القومي (العجز القومي = عجز الميزان الجاري للسلع والخدمات + الالتزامات الأجنبية المستحقَّة خلال العام) حسب تقرير الوزارة على النحو التالي:
(بالمليون جنيه)
1972
1973
1974
1975
العجز القومي
نسبته إلى الناتج القومي %
545
15.8
662
17.7
1214
27.3
2061
39.3

ولم يكن ممكنًا مواجهة كل هذا بالاغتراف من مَعين البنوك الأجنبية إلى ما لا نهاية. لقد نقل الرئيس السادات عن وزير الاقتصاد المصري (في أواخر 1970) أنه شبَّه حاله في مواجهة سداد الالتزامات المتلاحقة والمتنافسة، بأنه "كمِن يلبس طاقية هذا لذاك"، وكان الوزير – حسب رواية الرئيس– يقصد أنه يُضطر إلى الاقتراض من جهة ليسدد لجهة أخرى. وهذه العملية المتصورة تسارعت جدًا في عامي 1974، 1975 وأصبح الوزير المسئول، في حاجة إلى مهارة لاعب السيرك الذي يحرك "الطواقي" بسرعة مجنونة؛ بحيث لا تكاد - من السرعة - ترى يديه
أو الطواقي. مع ذلك، فإنه حتى بالنسبة للاعب السيرك،
لا يمكن تجاوز سرعة معينة، وإلا ارتبكت الحركة، ووقعت الطواقي، وكان هذا هو حال الحكومة عام 1975. ولم يصل الأمر إلى مجرد انكشاف الحال أمام البنوك الخارجية، وتراكم المتأخِّرات، وتوقف البنوك بالتالي عن تقديم تسهيلات جديدة، ولكن وصل الارتباك إلى حد أن البنك المركزي
لم يتمكن من تقديم بيانات معتمدة عن تطور حركة التسهيلات المصرفية المسحوبة، والمسددة خلال الفترات المختلفة أثناء عام 1975(47)، وفي غير هذا من أمور الديون المصرفية تضاربت بيانات البنك المركزي بشكل مذهل. لقد أدت البنوك الخارجية دورها المرسوم خلال العام الأول من الانفتاح
(أو الغزو الاقتصادي)، ومطالبتها بمُستحقاتها في العام الثاني– فضلاً عن أنها إجراء طَبَعيٌّ من مؤسسات مالية – يخدم هدف الضغط على المَدين. وطالما أن المطلوب هو ترويض المدين وليس إزهاق روحه، أو إجباره على التمرد، كان طَبَعيًّا أن تصدر الإشارة للموارد النفطية؛ كي تتدخل للإنقاذ، ولتخفيف العبء. وهذه الموارد كانت تفِد في التوقيت، وبالقدر، الذي يحدده صندوق النقد الدولي ومَن خلفه، حسب الاعتبارات السياسية وقبول الشروط الاقتصادية. ولا ننسى أن مكون المنح داخل الأموال النفطية قد انخفض، وبالتالي كان الجزء الأكبر من هذه الأموال مجرد استبدال لجزء من الدين المصرفي، بدين آخر ذي فائدة أقل، ولا نقول ذي مدة أطول؛ لأن الودائع مثلت 100% من التدفقات "المنفذة" لدول الخليج العربية، و74% من إجمالي تدفقات هذه الدول وإيران معًا، والودائع نوع من القروض يحدد الدائن أجله باختياره، فهي ودائع تحت الطلب (انظر الفصل الثالث).

* والخلاصة؛ أن حصاد العملية عام 1975 كان تمكين التوسع المجنون في الاستيراد من التواصل، واستفادة الجهات الأجنبية المهاجمة من لحظات الأزمات الحادَّة مع البنوك الأجنبية من أجل فرض الشروط، والمعونات العربية التي ذهبت لسداد التزامات البنوك؛ لتفرض الإفلاس والخراب... وبمعنى آخر، أنقذ المدين من الغرق، ولكن لم ينتشل، وأفهم أن الحبل الممدود إليه، يمكن أن يُسحب عند أيَّة بادرة تمرُّد. وينبغي أن نعي - في هذا الإطار - مقولة البنك الدولي عن المعونات النفطية بأن "هذه الأموال تساعد في تيسير تحول مصر إلى الاقتصاد المفتوح" (48).


نور 06-07-2011 02:23 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(3) سيناريو استخدام الديون:
أ- وقد يحسُن هنا أن نعود فنسترجع تطور الأحداث وسيناريو استخدام الديون خلال العام – وفْق القدر القليل المُتاح من المعلومات – فنذكر أن أحمد أبا إسماعيل أعلن أن حكومة ممدوح سالم "حين تولَّت الحكم في 16 أبريل، وجدت أن الاقتصاد المصري في حالة اختناق" (20)؛ بسبب التوسع في الاقتراض المصرفي القصير الأجل. وأشار السادات إلى هذه القضية في خطاب أول مايو، وأوضح أنه لم يكن يعلم المدَى الذي وصلت إليه الكارثة، وأنه أفهم خطأ أن أرقام الديون محسوبة بالدولار، ثم ثبت أنها بالإسترليني.. ورغم غرابة التصريح، فإن الكارثة تظل كارثة، والمسئول الأول كان مفروضًا أن يُروَّع، حتى لو كانت الأرقام بالدولار، إلا أن هذا الاستشعار المتأخر للخطر، جاء في جو تنذر فيه الولايات المتحدة، بوقف تدخلها في الصراع العربي الإسرائيلي (بهدف الضغط)؛ ولذا أكَّد الرئيس - في نفس الخطاب - استمرار سياسته التي عبر عنها منذ فشل مباحثات كيسنجر، فحدد أبعاد التحرك المصري في معالجة الموقف المتجمد على النحو التالي:
1. توجيه الدعوة لعقد مؤتمر جنيف؛ للتوصل إلى تسوية شاملة يشارك فيها الفلسطينيون، ولكن المؤتمر لن يكون الإطار الوحيد لتحقيق المطالب المصرية.
2. إعطاء أولوية لمسألة الحفاظ على التضامن وتنسيق المواقف بين الدول العربية؛ حتى تكوِّن هذه الدولُ جبهةً عربية واحدة، في مؤتمر جنيف.
3. إدارة العلاقات مع الدولتين الأعظم من موقع استقلال الإرادة الوطنية وتجنب حدوث قطيعة مع أي منها. وعلاقات مصر مع الاتحاد السوفيتي مبدئية وليست صداقة ظروف. وإذا كانت مصر تقدر للاتحاد السوفيتي مواقفه الإيجابية في لحظات صعبة، فإن مصر تطالبه الآن بتفهُّم ظروفها الاقتصادية، واستعواض الأسلحة التي فقدتها في حرب أكتوبر. وفي نفس الوقت، فإن مصر ستُحاول الاحتفاظ بأفضل علاقات ممكنة مع الولايات المتحدة، مع دعوتها لتحديد موقفها بوضوح من حقيقة التوسع الإسرائيلي، واحتلال إسرائيل للأراضي العربية؛ لأن الولايات المتحدة تملك لو أرادت أن تمارس ضغطًا على إسرائيل، وهي تحتفظ بأغلب خيوط هذه المسألة.
4. الحفاظ على الرصيد الدولي الذي اكتسبته القضية العربية في العالم بما يدعم من عُزلة إسرائيل السياسية، وفي هذا الإطار كان القرار المصري بإعادة فتح قناة السويس، ومند فترة عمل قوات الطوارئ الدولية لمدة ثلاثة شهور حتى لا يوضع العالم أمام موقف مفاجئ، وحتى تتاح لقواه المؤثرة فرصة لبذل جهودها للتحرك نحو السلام.
ويبدو من هذا الحديث أن الرئِيْس قدم دعوة للولايات المتحدة لمعاودة دورها في الخطوة خطوة حين سجل أن مؤتمر جنيف ليس "الإطار الوحيد لتحقيق المطالب المصرية" (ولاحظ المصرية هذه)، وأشهر دليلاً على حسن النية بتأكيد قرار قناة السويس، وبقرار مدّ فترة عمل قوات الطوارئ، ولكنه – في المقابل – هدد بتنسيق المواقف مع الدول العربية، وبتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي (عسكريًا واقتصاديًّا)، ونذكر في هذا البند (3) قبل الولايات المتحدة، وبلهجة أكثر حرارة. والإدارة الأمريكية التي تدرك أنها
لم تكن قد سيطرت بعد على الموقف سيطرة كاملة، أدركت احتمالات الموقف، وبادرت إلى الرد السريع؛ ففي اليوم التالي للخطاب، وبناء على طلب الولايات المتحدة؛ أُذيع في كل من القاهرة وواشنطن أنه "تم الاتفاق بين الرئيس جيرالد فورد، والرئيس أنور السادات على أن يجتمعا في سالزبورج بالنمسا يومي 1، 2 يونيو". وبدأت الاتصالات التحضيرية للاجتماع. وقبل التوجه إلى سالزبورج قام السادات بسلسلة من الزيارات للدول العربية، وكان معروفًا أن مباحثات السعودية والخليج، ركزت على طلب الحصول على اعتمادات عاجلة لمقابلة التزامات مصر الكبيرة والقصيرة الأجل. ويلاحظ أن مباحثات سالزبورج تمت في جو من الاختناق الحاد، فالمتأخرات على تسهيلات الموردين، كانت ستة أشهر، وعلى التسهيلات المصرفية حوالي شهر. ويقول وزير المالية آنذاك: "إن الرئيس السادات استطاع كقيادة سياسية واعية أن يعمل بالتعاون مع أشقائنا العرب، ومع الدول الغربية، ودولة إيران الصديقة، فحصلنا على قروض طويلة الأجل كلها أعطت فترة سماح لا تقل عن خمس سنوات، وكان سعر الفائدة بالنسبة لبعض هذه القروض 2%، وأغلبها يتراوح بين 3% و5%، أما مُدة التقسيط؛ فقد تراوحت ما بين خمسة أعوام وثلاثين عامًا" (20). وبغضّ النظر عن الخطأ في ذكر الوقائع (حيث إن التحديدات المذكورة لا تنطبق على الودائع مثلاً) فإن ما يهمنا بمناسبة هذا الكلام هو مجرد الإشارة إلى أنه يبدو أن تعاون الرئيس مع الأشقاء العرب "تصادف" أنه أثمر أول ودائع مُنفَّذة فقط بعد نجاح محادثات سالزبورج، فبعد المحادثات، وفي نفس الشهر (حسب التصريحات الرسمية) وصلت دفعة من وديعة الكويت (إجمالي الوديعة 500 مليون دولار) ثم دفعة السعودية (إجمالي الوديعة 600 مليون دولار) (49).

* وكان السادات قد صرَّح بعد اجتماعه مع فورد، بأنه "يجب عدم استبعاد أي تحرك يدفع بعملية السلام إلى الأمام؛ لكي نحفظ للمساعي استمرارها" (50)، واحتفل في 5 يونيو بعودة الملاحة في قناة السويس، وشاركت في الاحتفال (بدعوة من الحكومة المصرية) سفينة قيادة الأسطول السادس الأمريكيّ، (ولم توجه الدعوة طبعًا إلى أساطيل الدول الأخرى التي شاركت في تطهير القناة).
وبعد الاحتفال بأيام، كان الرئيس المصري يصرح بأنه "شعر بعد محادثاته في سالزبورج، أن أمريكا حريصة على التوصل إلى اتفاق مرحلي" (51)، وكان الرئيس الأمريكي يعبر في نفس الوقت، عن اعتقاده أيضًا بضرورة التحرُّك؛
"إذ لا يمكن السماح بحالة الركود أو الجمود"، وتوالت الاتصالات (السريَّة المُعلنة) بين مصر وإسرائيل، عبْر الإدارة الأمريكية؛ تمهيدًا لجولة كيسنجر العاشرة.

وفي لُعبة كسب الوقت، كان لا بد من التباطؤ، وذاع على ألسنة المسئولين الأمريكيين، أن التوصل إلى اتفاق جديد بين مصر وإسرائيلَ أمر بالغ الصعوبة، وأن شقة الخلاف واسعة، وحتى 7 أغسطس كان فورد يعبر عن تشاؤمه الشديد (52). ولكن في 20 أغسطس وصل كيسنجر ليبدأ جولته الحاسمة، "وتصادف" أيضًا أن تتم هذه الجولة أثناء فترة شهد الاقتصاد المصري فيها أخطر مراحل الاختناق. كان معروفًا أن التدفقات الخليجية – في يونيو – لم تكن كافية لمنع الكارثة، "ولولا لطف الله بهذا البلد الأمين؛ لحلَّت به في صيف هذا العام أسوأُ كارثة تعرضت لها البلاد في تاريخها" (أبو إسماعيل) (20).
ولكن حدث أن نجح المكوك بعد 11 يومًا في التوصل إلى الاتفاق الثاني للفصل بين القوات على الجبهة المصرية (في أول سبتمبر)، واستقبلت على الأثر ودائع من قطر (50 مليون دولار – الدفعة الأولى 25 مليون دولار في سبتمبر) ومن اتحاد الإمارات العربية (150 مليون دولار – الدفعة الأولى 50 مليون دولار في أكتوبر) (53).
* وقد صرَّح السادات عقب توقيع الاتفاق مباشرة، بأنه يمثل نقطة تحول في تاريخ النزاع العربي الإسرائيلي. وهذا وصف صحيح بالقطع، ويؤكِّد الصفة السياسية للاتفاقية. وقد أوضح كيسنجر للزعماء الديمقراطيين والجمهوريين في الكونجرس، أنه كان قد بذل الجهد "للحصول على اتفاق جزئي بين مصر وإسرائيل؛ فلأني أردت أن أكسب الوقت، وأن أسحب من النزاع العربي الإسرائيلي العنصر الأكثر نفوذًا، فسوريا ولبنان والأردن وحتى العراق، غير قادرين عسكريًّا على شنّ حرب ناجحة ضد إسرائيل، دون مشاركة فعلية من مصر" (54).
وبالفعل كانت الاتفاقية – بعيدًا عن تفاصيل الانسحاب واسترداد آبار البترول، ومرور الشحنات الإسرائيلية غير العسكرية من القناة – كانت الاتفاقية تعني قبولاً مصريًّا رسميًّا باستبعاد تجدد القتال، وبتجميد الموقف لمدة سنتين، وتحقق في هاتين السنتين البرنامج الموضوع (ونفترض أن أقسامًا هامة منه كانت محلاً لاتفاق سري صريح):
1. ترسيخ العداء، وتأكيد القطيعة مع الاتحاد السوفيتي، وهذه النتيجة – فضلاً عن خطورتها السياسية والاقتصادية بشكل عام – تنعكس في موازين القوة العسكرية بشكل خاص، فمع وقْف تدفُّق السلاح السوفيتي على مصر، ومع تدفق السلاح الأمريكي – في المقابل – على إسرائيل، ومع الوجود الأمريكي المباشر في سيناء، أصبح مفتاح الأمن الوطني المصري في يد الولايات المتحدة تمامًا، فبإمكانها وحدها – وبلا أي رادع – أن تسمح باجتياح الأراضي المصرية، أو تمنع العدوان عليها، بإشارة تُطلقها.
2. ربط سياسة مصر بالمخططات الأمريكية، والتي تتضمَّن تمزيق أوصال الوطن العربي بالمعنى الحرفي. أي بإسالة الدماء في نزاعات عربية. والمتابع للمسرح العربي (منذ توقيع هذه الاتفاقية) يلحظ النجاح الكبير الذي تحقق في هذه المهمة، والتي بدأت في لبنان، ولم تتوقف حتى كتابة هذه السطور. وكان طَبَعيًّا أن ينعكس كل ذلك في تعميق عزل مصر من التطلعات القومية للجماهير العربية، وتعميق الصراع المصري/ السوري. ويُلاحظ أن الولايات المتحدة التي خططت وضغطت لتوقيع الاتفاقية، هي نفس الولايات المتحدة التي لم تضغط على أنصارِها الأقوياء في المنطقة لمباركة الاتفاقية (55).
3. هذا الإطار السياسي العام كان على القيادة المصرية أن تتمثل له، إذا كان لها أن تأْمُلَ في تحرك أمريكي جديد بعد عامين من الاتفاقية. والامتثال لهذا الإطار يقدم الشرط المناسب لمواصلة الهجوم داخل أقطار عربية مختلفة، وفي الجبهة الداخلية المصرية؛ بهدف إعادة تشكيل وترتيب أوضاعها على النحو الذي يضمن استقرار السيطرة الأمريكية.
وباختصار، أطلقت الاتفاقية يد الولايات المتحدة؛ لكي تعمل في هدوء، وبالتزام مصري بعد الاعتراض، من أجل استكمال الوقائع المادية والمؤسسات المناسبة التي تفرض السلام الأمريكي والهيمنة الأمريكية؛ بحيث يصعب جدًا على أيَّة قيادة مصرية – بعد العامين – أن تعود إلى التمرد على سياسة التبعية. ومعنى هذا في الجانب الاقتصادي: مزيد من الانفتاح الاقتصادي؛ ولذا كان طبعيًّا أن يسأل الرئيس من مراسل أجنبي في المؤتمر الصحفي بعد توقيع اتفاقية الفصل الثاني للقوات: هل ستتجه مصر الآن إلى مزيد من الانفتاح الاقتصادي؟ وكانت الإجابة بأن مصر "اتجهت فعلاً إلى الانفتاح منذ إتمام فض الاشتباك الأول، اتجهت إلى الانفتاح، وإلى بناء الأسس الجديدة للمجتمع الذي نريده (...) وبالتأكيد سيضيف هذا الاتفاق قوة دفع جديدة لهذا الأمر في المرحلة المُقبلة".
* قلنا: إن جولة كيسنجر الحاسمة، تَمَّت في ظروف اختناق حاد للاقتصادي المصري. في 30 أغسطس 1975 (أي: قُبَيل توقيع الاتفاقية)، كان الموقف كالتالي:

(بالمليون جنيه)
تسهيلات حالَّة
تسهيلات تُستحَق خلال 180 يومًا أو أكثر
59.6
912.6

972.2

ومن هذا الرقم الإجمالي، كانت المبالغ المطلوبة خلال ستة أشهر تصل إلى 308 مليون جنيه تفصيلها كالتالي (56):
إجمالي المبالغ المستحقة خلال ستة أشهر
مبالغ مستحقة في سبتمبر
مبالغ مُستحقة في أكتوبر
مبالغ مستحقة في نوفمبر
مبالغ مستحقة في ديسمبر
مبالغ مستحقة في يناير
مبالغ مستحقة في فبراير
307.853
60.606
57.322
60.679
71.510
32.952
24.784

ورغم تلاحق الالتزامات الفادحة، أمكن الإفلاتُ من إشهار الإفلاس بواسطة القروض النفطية. ويبدو أن الوعود التي تلقاها المسئولون مع توقيع الاتفاقية، كانت مسئولة عن ذيوع التفاؤل؛ فقد أعلن رسميًّا أنه تم تدبير المبالغ اللازمة لسداد التسهيلات المصرفية، وتسهيلات الموردين التي تُستحق من أكتوبر حتى آخر السنة (أكثر من 150 مليون جنيه = 375 مليون دولار) بحيث تسدد في مواعيدها استحقاقها. "وبهذا سندخل عام 1976 ووضعنا - من ناحية التسهيلات المصرفية القصيرة الأجل - أحسنُ بكثير من ذي قبلُ" (أبو إسماعيل).
وبالفعل حصلت الحكومة على القرض الإيراني (في أكتوبر)، وحصل أن تمَّ التخلصُ من متأخرات التسهيلات المصرفيّة (وكانت حوالي شهر في يونيو 1975)، وحصل كما ذكرنا أن خُفض صافي استخدام هذه التسهيلات، وكذلك انخفضت المتأخرات على تسهيلات الموردين إلى حوالي شهرين، (وكانت ستة أشهر). ولكن معروفًا – بطبيعة الحال– أن الموارد الاستثنائية من دول النفط، ليست
إلا إسعافات مؤقتة (بل ألغامًا موقوتة)، "وكان معروفًا في صيف 1975 أن مصر ستكون أمام مصاعب مدفوعات خطيرة مرة أخرى خلال ستة أشهر، وثبت أن هذا التقدير كان دقيقًا تمامًا" (كما يقول ووتر بيري).

ولكن أيامها كان التفاؤل لا يتيح مجالاً للتفكير في مثل هذا الكابوس، والحديث الصريح وبالإشارة حول مشروع مارشال العربي، كان عودة لمخطط التخدير بالآمال، وفي خطاب 19 أكتوبر أمام مجلس الشعب قال الرئيس: "عبرنا مرحلة الظلام والألم، وندخل اليوم مرحلة النور والأمل"، ويقول تقرير البنك الدولي إن الحكومة المصرية، وجهت نداء إلى الدول الغربية لتقديم مساعدات متوسطة وطويلة الأجل، في شكل يمكِّن من سرعة السحب؛ لتمويل واردات مصر الأساسية. وبالفعل كان يُنشَر في ذلك الوقت عن محاولة تشكيل كونسورتيوم، فأوضح أنها "لم تتجاوز ما قدمته الدول الخليجية خلال العام المنصرم، (أي: عام 1975).. ولكن بالنسبة لأمريكا وألمانيا الغربية واليابان، "فلسه إحنا ما أخدناش حاجة" (57).
صحيحٌ أن الرئيس فورد كان قد طلب في رسالة إلى الكونجرس - الموافقةَ على تقديم 750 مليون دولار "مساعدات" اقتصادية لمصر (ضمن مقترحاته بشأن المعونة الأمريكية الخارجية). وتعمد أن يكون التوقيت أثناء زيارة السادات (31 أكتوبر)، ولكن كان هذا وعدًا بالنسبة لعام 1976، وكذلك كان مفهومًا أن "مكون" القروض السلعية في هذا المبلغ محدود، والقروض السلعية هي التي يسهُل السحب السريع عليها، فتخفف (مؤقتًا) حدَّة الأزمة في ميزان المدفوعات. وعليه كانت وزارة التخطيط تعلن "أنه من الواضح اليوم، أنه في بداية ديسمبر 1976. تواجه مصر موقفًا شبيهًا ببداية 1975". وقدرت وزارة الاقتصاد أن صافي الالتزامات المطلوب سدادها خلال عام 1976 نحو 1003 مليون جنيه (حسب الصياغة الساخرة لإبراهيم حلمي عبد الرحمن في تقرير التخطيط) وتبلغ 333 مليون جنيه (حوالي 830 مليون دولار).
وفي النهاية، كان طبعيًّا أن يرتفع حجم الدَّين الخارجي لمصر – عام 1975 – إلى درجة كبيرة، فبعد أن كان الكمية المسحوبة والقائمة بالكاد فوق 4 بليون دولار في نهاية 1974، وصلت إلى 6.3 بليون دولار في 31 ديسمبر 1975. وإذا أضفنا 2.9 بليونًا (لم تُستخدَم بعدُ) يكون المجموع في حساب الدَّين المدني أكثر من 9 بليون دولار. وتشمل هذه الأرقام 1.2 بليونًا و1.4 بليونًا (مستخدمة وغير مستخدمة على التوالي) كستهيلات مصرفية، فإذا استبعدناها يصبح مجموع الدين القائم (شاملاً غير المستخدم) حوالي 7.6 بليون دولار.
* بقي أن نوضح نقطتين في سيناريو استخدام الديون؛ فأولاً: لم يكن المَقصِد في العرض السابق إثباتَ أن الديون، ولحظاتها الحرجة، كانت أداة القهر الأساسية لفرض الاتفاقيات السياسية؛ فهذا غير صحيح. والصحيحُ أن السياسة الأمريكية، استخدمت حُزمة من الأدوات، وحاولنا أن نشير إلى أن الديون كانت أداة هامة ضمْن هذه الحزمة، دون أن تكون الأهم. لقد دعمت الديون موقف كيسنجر وإسرائيلَ في المباحثات السياسية، ولكن لولا الالتزامُ بالسلام الأمريكي– أصلاً – وما ترتَّب عليه من اختلال في توازن القوَى، وقبول بفتح الاقتصاد الوطني أمام الغُزاة؛ لكان ممكنًا كسرُ قبضة الديون الخانقة؛ بالعودة إلى سياسات مستقلة، في الداخل وفي العلاقات العربية والدوليَّة. وبصيغة أخرى، تمكَّنت الديون من الضغط على رقبة الاقتصاد المصري؛ لأن الاستراتيجية العليا للدولة، حتمت إغراق اقتصادنا في الديون الخارجية، وحتمت أن يكون الطريقُ الوحيد للخلاص من الاختناق استجداء القروض الأمريكية، وقروض ومنح الدول النفطية (في الجزيرة العربية وإيران بالتحديد) ورضاء صندوق النقد الدولي كان شرطًا مُسبقًا لهذه التدفُّقات.
والنقطة الثانية في الموضوع أن: استخدام الديون في الجبهة الرئِيسَة والحاكمة (أي: في الجبهة السياسية) كان يتكامل مع استخدامها في إطار المسئوليات الخاصة بصندوق النقد الدولي؛ ففي هذا الإطار المحدد استخدمت أيضًا لعبة الديون الصعبة والميسرة، أو العصا والجزرة؛ لانتزاع التنازلات في الجبهة الاقتصادية.
ثالثًا – بلورة نتائج الغزو في أوضاع مؤسسية مستقرة:
في العام الثاني – كما في العام الأول – استهدف الهجوم المتعدد الاتجاهات، محاصرةَ - أو احتواء - أثر رفض الحكومة المصرية للتنفيذ الفوري لتعليمات الصندوق؛ سواء فيما يتعلق بتحطيم استقلالية جهاز الأسعار، أو بخفض سعر الصرف؛ فانفجر التضخم مجددًا، وانهار ميزان المدفوعات، وتراكمت الديون، وبالتالي تحقق الإرباك المقصود من خلف تعليمات الصندوق، وتشكلَّت أدوات الضغط المطلوبة لإعادة تشكيل البنية الاقتصادية على نحو ملائم.
ولكن القوَى المهاجمة لم تكن لتَقْنَع بخلق هذا الجو المواتي، وبانتشار قواتها وتأثيراتها إلى كل أنحاء الاقتصاد القومي، كان مطلوبًا من خلال ذلك، أن يتم الاستيلاء على مواقعَ محددة، أو كان مطلوبًا من صندوق النقد الدولي (ومن معه) أن يُبلوِروا مزيدًا من الأوضاع المؤسسية المستقرة. وكما في العام الأول، تمكَّن الصندوق (ومن معه) في العام الثاني من تحقيق خطوات واسعة في هذا الاتجاه؛ مستفيدًا من لحظات الاختناق الحاد.
(1) في 7 يونيو ( مع الودائع السعودية والكويتية) اجتمع مجلس الوزراء، ووافق على السياسات والإجراءات التي تقدم بها ممدوح سالم ضمن "تقرير بشأن الانطلاق في تنفيذ الانفتاح الاقتصادي"، وجاء هذا التقرير بعد شهر من إلقاء بيان رئيس مجلس الوزراء أمام مجلس الشعب، ولكنه مثل تنازلات كثيرة لم يتناولها البيان، ولم يجدّ جديدٌ خلال هذه الفترة، يستدعي تعديل السياسة، إلا أزمة الديون ومباحثات الصندوق، والاتصالات مع دول الخليج؛ ونظرًا لأن التقرير غير منشور(58)، نورد هنا عرض سريعًا لأهم النقاط:
أ- في مجال القطاع العام: إطلاق حريَّة الاستيراد والتصدير لوحدات القطاع العام الصناعي – إطلاق حرية الإدارة في الاقتراض وتدبير مصادر التمويل لأغراض الاستثمار – إعفاء وحدات القطاع العام من القيود البيروقراطية المتمثلة في التراخيص والتصاريح والإجراءات المكتبية المختلفة في تعاملها مع أجهزة الدولة – إطلاق حرية وحدات القطاع العام في تحريك مواردها المالية. وتعديل أسس الإنفاق في موازناتها المُعتمَدة، بما تقضي به ظروف العمل، دون الرجوع إلى وزارات المالية والاقتصاد والتجارة. وفي هذا الصدد، يجب اعتماد موازنة كل شركة عامة في صورة أرقام إجمالية لأبواب الإنفاق الرئيسَةِ، مع ترك الحرية للإدارة في: تفصيل مكونات هذا الإنفاق – دعوة المصريين المقيمين في الخارج لتمويل شراء مستلزمات الإنتاج، وقطع الغيار اللازمة لتشغيل الطاقات المعطلة في قطاع الصناعة، على أن يعتبر تمويلهم بمثابة مشاركة في رأس مال هذه الشركات – اعتبار الشركة العامة وحدة الإنتاج الرَّئِيسَة، ونقطة الارتكاز في تنظيم القطاع العام، وتغيير نمط العلاقة التنظيمية بين الشركة العامة، وبين جهة الإشراف عليها؛ بحيث تختص الأخيرة بالتخطيط العام وتحديد الأهداف العريضة، والمتابعة والتقييم على أساس النتائج، دون دخول في التفاصيل والإجراءات والأساليب التنفيذيَّة.
ب- في مجال القطاع الخاص: منح القطاع الخاص المصري جميع المزايا الممنوحة لرأس المال العربي والأجنبي – تشجيع تكوين شركات مختلطة (رأس مال عام وخاص – مصري وأجنبي) في مجالات السياحة والفنادق والصناعات الاستهلاكية الخفيفة، وشركات الدواجن واللحوم والثروة المائية وصناعة الألبان ومنتجاتها؛ حتى لا يقتصر العمل في المجالات على القطاع الخاص. وبنجاح هذا النمط، يمكن النظر في تعميمه؛ ليشمل مرافق الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها المواصلات والنقل داخل المدن، والإنارة والمياه.
ج- البنوك وسوق النقد: إلغاء نظام التخصص في البنوك المصرية – مراجعة أسعار الفائدة للودائع بما يتمشَّى مع أسعار الفائدة العالمية – تمكين البنوك المحلية من المساهمة في تأسيس بعض المشروعات المشتركة. تطوير السوق الموازية للنقد وتبسيط إجراءاتها، ويمكن في المرحلة الحالية تنشيط اللجنة المشكلة لهذا الغرض في البنك المركزي؛ بحيث تجتمع أسبوعيًا لتحديد أسعار صرف الجنيه أسبوعيًا في السوق الموازية، بما يتمشَّى مع تغيرات العرض والطلب، ويتم في مرحلة تالية خلق سوق مالية منظمة تمارس وظائف سوق الأوراق المالية التقليدية – تحرير سوق النقد الأجنبي تدريجيًّا، إلى أن نصل لاندماج السوق الرسمية والسوق الموازية للنقد، في سوق حرة واحدة، تحتوي العملة المصرية وغيرها من العملات الأجنبية على السواء.
د- وأكد رئيس مجلس الوزراء في ختام مذكرته، أن الانفتاح تعبيرٌ عن فلسفة قومية متكاملة، تشتمل مختلف مجالات العمل الوطني، ولكنْ حدث أن فكرة الانفتاح ظلت متأثرة بالمنطق البيروقراطي التقليدي؛ إذ يصاحبها تفكير مضاد، يتحدث عن الضمانات والضوابط، مما يقود في النهاية إلى شكل آخر من الانغلاق، قد يكون أكثر مرونة مما سبقه، لكنه بالقطع ليس بالانفتاح المنشود.
إن التفكير في الانفتاح، ظل يتسم بالتجزئة، فهناك من يتحدث عن الانفتاح في صورة استقطاب رءوس الأموال العربية والأجنبية للاستثمار داخل البلاد، في نفس الوقت الذي يرفض فيه فكرة الانفتاح في صورة استقطاب رءوس الأموال العربية والأجنبية للاستثمار داخل البلاد، في نفس الوقت الذي يرفض فيه فكرة الانفتاح الداخلي والإداري في نمط، وتشغيل القطاع العام، وتطوير نظم وأساليب العمل".
وكلُّ هذه الإجراءات المقترحة والصياغات، منقولة بالنص عن "توصيات" الجهات الخارجية.
(2) وفي 11 يونيو، وافقت اللجنة العليا للتخطيط السياسي والاقتصادي برئاسة ممدوح سالم، على مُذكرة أخرى لرئيس مجلس الوزراء عن التنظيمات القطاعية الجديدة (59)، وأشارت المذكرة بصراحة إلى الاتجاه نحو استبدال المؤسسات العامة المنظمة للقطاع العام بمجالس القطاعات، التي تقتصر مهمتها على تقرير الأهداف العامة لكل قطاع، ولكل وحدة من وحداته، وكذلك رسم السياسات العامة التي تسترشد بها مجالسُ الإدارات المُختصة في تسيير وحداتها، وقالت المذكرة: إن التطوير المُقترَح يتيح الظروف الملائمة للانطلاق في أسلوب التخطيط المتكامل؛ حيث يتركب من الخطط القطاعية هيكلُ يتكامل في خطة قومية. وهذا المفهوم يعني بالدقة نهاية التخطيط المركزي، فالخطة القومية حسب كلام المذكرة مُجرَّد تجميع لبرامج الاستثمار التي تضعها القطاعات المختلفة، دون أداة مركزية تتولى تركيب الخطة وتحدد أولوية المشروعات وفق نظرة قومية، وبحسابات تضمن الاتساق والتوازن في عملية التنمية. على أيَّة حال – لم تكن المذكرة صريحة إلى النهاية، ولم تكن مُتعجِّلة، فهي لم تطلب إلغاء المؤسسات العامة – ولكن أوضحت أن "تشكيل المجالس العليا المقترحة، وطبيعة اختصاصاتها تتعارض مع شكل المؤسسات العامة القائمة الآن في قطاع الصناعة والتجارة والتأمين؛ ولذلك لا بد من تطويرها إلى شكل المجالس العليا المقترحة".
وعملية التطوير المقترحة، كانت تستغرق فترة زمنية طويلة نسبيًّا، حسبما جاء في المذكرة "فتحديد الوحدات التي يطبق عليها هذا النظام، يتم نتيجة لدراسة ميدانية شاملة، يقوم بها الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ويقدم تقاريرَ متابعة لرئيس الوزراء بشكل دوري عن تقدم التطبيق، وما قد يعترضه من مشكلات".
(3) إلا أن الجهات الأجنبية، لم تعجبها حكاية المذكرات والتقارير هذه، فالجهة الأجنبية لا تطلب إقرار الحكومة لتعليماتها في مذكرات، أو فيما يشبه المقالات المَمهورة بتوقيع ممدوح سالم. إنها تطلب من الحكومة تنفيذًا فعليًّا لإجراءات محددة، وفْق جدول زمني يُتفق عليه، وتطلب أن يتم بعض هذه الإجراءات فورًا؛ ولذا حدث في 5 يوليو أن دعا رئيس مجلس الشعب، لجانَ المجلس إلى عقد اجتماعات متوالية؛ لدراسة المشروعات التي أُحيلت إليها من الحكومة، وطلب رئيس المجلس، أن تتم الدراسة على وجه السرعة(60). وحدث فعلاً أن قامت اللجان بالمهمة، واستطال دور انعقاد المجلس إلى 29 يوليو، حتى انتهى – بغير رَويَّة أو مناقشة جادة – من إقرار مجموعة من أهم التشريعات، كان من ضمنها القوانين المتعلقة بالاستيراد والتصدير، والوكالة التجارية، وشركات التأمين، والبنك المركزي والجهاز المصرفي، ثم قانون تعديل بعض الأحكام الخاصة بشركات القطاع العام، الذي قرر حلَّ المؤسسات العامة.
وقد اضطرَّ وكيل مجلس الشعب - بعد شهرين من ارتكاب هذا العمل – إلى الاعتراف بأنه "راعَى البعضُ السرعة التي صدرت بها هذه القوانين". وحاول بعد الاعتراف أن يحتفظ بهيبة مجلس الشعب، أو بماء وجهه، فقال: "إن معظم هذه المشروعات التي نظرها المجلس على وجه الاستعجال، كانت موضع دراسة من قبل" (61). وهذا تبرير غير صحيح؛ لأن السبب الحقيقي في التعجُّل الشديد، كان ضغط صندوق النقد المسيطر على حركة "المعونات المنفَّذة" ولاحظ أن تاريخ إقرار المجلس للقوانين، كان في عز الصيف، الذي كاد أنْ يشهد أكبر كارثة في تاريخنا الاقتصادي (حسب كلام أبي إسماعيل). ومن القوانين والقرارات التي صدرت على وجه السرعة في تلك الأيام، وما حولها، نشير إلى الآتي:
بالنسبة للقانون 118 لسنة 1975 في شأن الاستيراد والتصدير، فقد تضمن إلغاء القوانين "الاشتراكية" السابقة في مجال التجارة الخارجية. وقد ذكرنا أن رئيس الجمهورية، كان قد أصدر قرارًا بالقانون 137 لسنة 1974 الذي أجاز للقطاع الخاص أن يستورد عبر السوق الموازية،
أو دون تحويل عملة "بالتمويل الذاتي". ولكنَّ هذه القنوات كان مفهومًا أنها ثانوية بالنسبة لحركة الاستيراد الرئيسي، وظلَّت المادةُ الأولى من القانون نصها كالتالي: يكون استيراد السلع من خارج مصر، بقصد الاتِّجار أو التصنيع عن طريق الهيئات العامة والمؤسسات والوحدات الاقتصادية التابعة لها، أو الشركات التي يساهم فيها القطاع العام". أمَّا في القانون الجديد، فكانت المادة الأولى: يكون استيراد احتياجات البلاد السلعيّة عن طريق القطاعين العام والخاص، وذلك وفْق أحكام الخطة العامة للدولة، وفي حدود الموازنة النقدية السارية. وللأفراد حقُ استيراد احتياجاتهم للاستعمال الشخصي أو الخاص من مواردهم الخاصة؛ وذلك مباشرة، أو عن طريق الغير" (62). وكذا اكتسب انهيار احتكار الدولة للاستيراد اعترافًا قانونيًّا، وكان تقرير البنك الدولي محقًّا؛ إذ اعتبر القانون "تغييرًا أساسيًا لتنظيم قطاع التجارة الخارجية؛ حيث سمح للمشروعات الخاصة بالعمل في التجارة الخارجية مباشرة، وكانت مُستبعدة من هذا المجال منذ 1961"(63). وقد استثنى القانون بعضَ دول الاتفاقيات، التي قصر حق الاستيراد منها على القطاع العام. والتبرير المُعْلَن لهذا الاستثناء، هو ضرورة مواجهة البائع الواحد في دول الاتفاقيات بمشترٍ واحد. ولكنَّ هذا التبرير المعقول، كان هو نفس التبرير الذي أُمِّمَت بمقتضاه تجارةُ الاستيراد عام 1961؛ سواء لمواجهة احتكار البائع الواحد في الشرق، أو احتكار القِلَّة في الغرب المُدعَّم بتوجيه الدولة (الذي لا تختلف قدراتُه التعسُّفيَّة كثيرًا، عن الاحتكار الكامل في الدوَل الاشتراكية)؛ فلماذا ينطبق الآن هذا الحرص على الشرق، دون الغرب؟!

المسألة لا علاقة لها هنا بمحاولة تحسين موقف المشتري (الذي هو الاقتصاد الوطني)؛ فلم يَعُد هناك مَن يفكر في هذا، ولكن الهيئات الدُّوَليَّة حريصةٌ على
ألا تتشكل فئاتٌ اجتماعية ترتبط مصالحُها بالدول الاشتراكية. والمخابرات المركزية الأمريكية لها رأيٌ تقليديّ، حول أن الشركات الخاصة المتعامِلة مع الدول الاشتراكية، يمكن أن تكون من قنوات تمويل الأنظمة السياسية المناهضة للغرب، وهي تريد أن تظل هذه "الميزة" احتكارًا للغرب؛ ولذا أُطلِق تعامل الأفراد مع الغرب، ومُنِع مع الشرق، والموقف المستقل يقضي ـ كما كان حالنا في السابق ـ بمنع التعامل الخاص مع الجهتين.

دخل القطاع الخاص رسميًّا في قطاع الاستيراد، وكان قد اكتسب حق تمثيل الشركات الأجنبية، ثم دُعِّمت الضربةُ ضد القطاع العام؛ بحل المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، التي كانت بمثابة شركة قابضة تنظم العمل لستِّ شركات قطاع عام. (نُفِّذ ابتداء من أول يناير 1976).
ب - الإجراء الآخر كان القانون 111 لسنة 1975 الذي صُفِّيت بمقتضاه المؤسسات العامة، ووُسعت حقوق ممثلي رأس المال الخاص في الشركات المشتركة، وزيدت صلاحيات الإدارة في شركات القطاع العام،
بلا ضوابطَ مناسبة (وكذا حُلَّت المشكلة في ضربة واحدة، وانتهت محاولات التسويف التي كانت الحكومة قد أعلنتها باسم التدرج والتطوير منذ أقل من شهر).

لقد قضَى القانونُ بتشكيل مجلس أعلى لكل قطاع، يتكوَّن من مجموعة متشابهة ومتكاملة، من شركات القطاع العام،
أو من الشركات العاملة في مجالات متصلة، ولكن تشكيل المجلس وصلاحياته وقدراته العملية المحدودة؛ (نظرًا لغياب أجهزة معاونة) كانت تؤكد أنه ليس مطلوبًا من مثل هذا المجلس أداء وظيفة، حتى في نطاق التنسيق، بدلاً من الإشراف (كما قيل) (64).

وكان طَبَعيًّا أن يعترِضَ كثيرٌ من التكنوقراط الوطنيين في القطاع العام، على إلغاء المؤسسات العامة، وعبَّروا عن اعتراضِهم رسميًّا أثناء مناقشة مشروع القانون في لجان مجلس الشعب المُختصة، كان رأي كافة رؤساء المؤسسات. ومعهم عدد من مسئولي وزارة الصناعة ورؤساء الشركات، أن المؤسسة العامة لم تكنْ جِهازًا مُعوِّقًا، وإنما ضرورة كشركة قابضة بالنسبة للوحدات الاقتصادية أو الشركات التابعة لها؛ إذ كانت المؤسسات ـ طبقًا لأحكام القانون ـ مسئوليتها مطلقة عن نتائج جميع الشركات التابعة لها؛
إذ كانت المؤسسات ـ طبقًا لأحكام القانون ـ مسئوليتها مُطلقة عن نتائج جميع الشركات التابعة لها، وبالتالي كانت لها السلطة التي تتناسب مع هذه المسئولية. وقال المعترضون بحق: إنهم لا يتصوَّرون كيف يمكن أن يعمل القطاع العام دون مؤسسات: من الذي سيضع الخطة العامة للوحدات الاقتصادية، ومن الذي سيتولَّى المتابعة؟ هل سيستطيع الوزير المختَص أن يباشر ويتابع أعمال جميع الشركات التابعة له؟ كيف يمكن في قطاع الصناعة مثلاً ـ متابعة 128 شركة صناعية متابعةً شاملة، دون أجهزة المؤسسات، التي كانت تستطيع الإلمام بكل التفاصيل الخاصة بالشركات؟ "إن إلغاء المؤسسات يعني إهدارًا لخبرةٍ تمَّ اكتسابُها على مدى عشرين عامًا" (كما قال كمال الزيادي، وكان رئيسًا لمؤسسة الصناعات الهندسية).

وبالتأكيد، لم يخفِ المعترضون انتقاداتِهم لبعض أساليب العمل في المؤسسات العامة، وانزلاق المؤسسات إلى التدخل في الأعمال التنفيذية للشركة، على نحو قد يحدّ من المبادرة المحلية، ومن فاعلية إدارة الشركة في مواجهة المشاكل اليومية، "ولكن إذا كان في قانون المؤسسات، ما يشير إلى أن المؤسسة جهاز تتركز في يده السلطة المطلقة بالصورة التي تحدّ من انطلاق الوحدات الاقتصادية، فيمكن العمل على الحد من هذه السلطة، مع إبقاء المؤسسة كما هي؛ للإفادة من دورها في التنسيق والإشراف بالصورة الفعالة؛ وكي نستفيد من الخبرة التي اكتسبتها على مدى عشرين عامًا" (كما قال محمد أحمد اليسقي ـ كان رئيس الشركة العامة للبطاريات). ولكن حامد حبيب (وكان وكيل أول وزارة الصناعة) وضع إصبعه على جوهر الموضوع حين قال: إن "إلغاء المؤسسة لا يرجع إلى نقص كفاءتها.. وإنما يرجع إلى أن طبيعة المؤسسة لا يمكن أن تساير النظام الاقتصادي الذي تسلكه الدولة الآن (...) فبعد تغير السياسة الاقتصادية للدولة، واتجاهها للانفتاح؛ غدا من الضرورة تغييرُ المناخ "(65).. إلى ما يرضي الجهات الخارجية (وهذه إضافة مني).
هذه هي القضية، ولم تكن المسألة رغبة في زيادة الناتج 15 أو 30 % في الوحدات الاقتصادية، بعد تحريرها من كابوس المؤسسات، كما كان يصرِّح المكلَّفون بالدفاع عن قانون الإلغاء. والأمر الواضح الآن ـ وبعد سنوات من التجربة العملية ـ أن هذا القانون، كان ضربة موجعة للقطاع العام وللتنمية الآن ـ وبعد سنوات من التجربة العملية ـ أن هذا القانون كان ضربة موجعة للقطاع العام وللتنمية المخططة، وترتفع الأصوات من جديد (1979) مطالبة بالعودة إلى نوع من المؤسسات العامة المركزية، ولكن الجهات الخارجية (المشرفة حاليًا على الاقتصاد المصري) ترفض طبعًا بعناد.
لقد احتفت تقارير صندوق النقد والبنك الدولي (الصادرة في تلك الفترة) بهذا القانون، وإن ظلت تعيب عليه أنه
لم يصل إلى المدى المطلوب "في تحرير سياسات التسعير وبرامج الإنتاج، ومبيعات التصدير من الإشراف المركزي"(66). وقالت: إن هناك إجراءات أخرى في الطريق. وحين صدر القرار الجمهوري رقم 1167 لسنة 1975 بإنشاء المجالس العُليا للقطاعات (25 قطاعًا)، اعتبرت التقارير الدولية هذا القرار خطوة أخرى "لتحرير" القطاع العام، ولكنها (والشهادة لله) تحفظت على خروج بعض المشروعات الصناعية من دائرة وزارة الصناعة؛
إذ أصبحت صناعة الأسمنت ومواد البناء، تحت وزارة الإسكان والتعمير، وصناعة الورق تحت وزارة الثقافة. ويقول البنك الدولي: إن "حكمة هذا القرار ليست واضحة"(66).

في سياق الحديث عن خلخلة البناء المؤسَّسي للقطاع العام ـ قد نشير أيضًا إلى قرار الجمهورية رقم 262 (الصادر في مايو 1975) بتعديل بعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون المؤسسات العامة وشركات القطاع العام؛ حيث أضاف مادة جديدة إلى قانون المؤسسات العامة وشركات القطاع العام (1971) تنصُّ على أنه ".. يجوز أن يُحدِّد القرار الصادر بزيادة رأس مال الشركة - نصيبَ كلٍّ من القطاعين العام والخاص في الأسهم الجديدة، وفي هذه الحالة تكون أولوية الاكتتاب في الأسهم المخصصة للقطاع الخاص للعاملين في الشركة، فإذا لم تتم تغطيتها خلال شهر؛ طُرِح ما تبقَّى منها للاكتتاب العام". وقد عبرت (الطليعة) عن معارضة هذا القرار فور صدوره، فأوضحت "أن الأولوية في شراء الأسهم للعاملين في أيَّة شركة، هي مجرد مسألة شكلية؛ فالأغلبية الساحقة من العاملين، لا تجد فائضًا تشتري به حذاء وليس سهمًا، وحتى بالنسبة للإدارات العليا، فإن الشرفاء منهم الذين يعيشون على مرتباتهم، لن يجدوا فائضًا كبيرًا في حوزتهم. وعلى ذلك، فإن الاكتتاب الحقيقي، سيكون لأُناس من غير هؤلاء العاملين الكادحين". وكانت القواعد التنفيذية للقرار قد تضمنت أن الحد الأقصى للأسهم التي سيسمح للشخص الطبيعي بشرائها، لا يزيد عن 10 آلاف جنيه، "ولكن لم يوضح إذا ما كان هذا هو الحد الأقصى لقيمة الأسهم التي يجوز للفرد أن يملكها في كل الشركات، أو أن هذا هو الحد الأقصى الذي يجوز امتلاكه في شركة واحدة. كذلك فإن الحد الأقصى المسموح به للشخص، يَعني أن بوسع الأسرة أن تحوز أضعاف هذه الكمية. ثم ما هو الضمان أصلاً في ظل التسبب الحالي، أن يلتزم أصحاب الملايين بهذا السقف؟ وكيف سنتدخَّل (تدخلاً مشينًا) في محاسبة الناس في ظل (الانفتاح)؟ إن هذا الحد الأقصى الذي يتحدث عنه، لن يراعَى في الواقع، وبعد فترة، سيقال لنا: لنكن واقعيين،
ولا داعي لمثل هذه القيود السخيفة، وستكون فعلاً سخيفة؛ لأنها غير واقعية".

وقد توقعنا أن يؤدي منطق الأمور إلى إعطاء أولوية خاصة لمن يكتتبون بالنقد الأجنبي "فالقرار يقوم على أن هذه الشركات، تحتاج إلى تمويل توسعاتها، وتحتاج إلى سيولة تستخدمها في استيراد مستلزمات إنتاج.. إلخ، فإذا أعلن بالفعل أن الأولوية في الاكتتاب ستكون للمواطنين الذين يكتتبون بالنقد الأجنبي، فإن الخطوة الطبيعية التالية ستكون: وماذا إذا لم تكفِ مدخرات المصريين بالنقد الأجنبي؟ لا بد - إذن - من السماح للإخوة العرب والمستثمرين الأجانب بالمشاركة، هذا هو معنى (الانفتاح الاقتصادي)، وهذا هو مصير القرار في التطبيق، ودعونا من حكاية أولوية الاكتتاب للعاملين في شركة"(67).
وقد بادر الاتحادُ العام للعمال أيامها، إلى تشكيل لجنة خاصة لدراسة الموضوع (بناء على قرار من المجلس التنفيذي للاتحاد) وأعدت اللجنة مذكرة حول هذا الموضوع تضمنت عدَّة تحفُّظات؛ فقد طلبت المذكرة:
أن تقتصر المساهمة على الشركات المشتركة، التي يسهم فيها القطاع الخاص والأفراد؛ بمعنى: ألا يمتد هذا الإسهام إلى الشركات التي ينفرد القطاع العام وحده بتملكها، وأكدت المذكرة على ضرورة الالتزام الدقيق بأولويات بيع الأسهم التي نصّ عليها القرار الجمهوري؛ أي: للعاملين في الشركة أولاً؛ لأن "شركات القطاع العام ليست للبيع، وليست معروضةً لمشاركة القطاع الخاص فيها".
لا يترتب على زيادة رأس مال شركات القطاع العام التي يساهم فيها القطاع الخاص - خفضُ الحصة النسبية لمساهمة القطاع العام في رأس المال؛ كحد أدنى بالإضافة إلى ما يساهم به العمال في الاكتتاب في زيادة رأس المال.
أن يكون للمصريين - وحْدَهم - حقُّ الاكتتاب في الأسهم التي يتعذَّر تغطيتها باكتتاب العاملين.
ألا يكون للاكتتاب في زيادة رأس المال أيُّ مساس بمبدأ المشاركة في الإدارة، أو في قواعد تمثيل العاملين في مجالس إدارات هذه الشركات (68).
ويبدو من اتجاهات المذكرة، أنها كانت تحارب من خط الدفاع الثاني؛ فهي لم تطلب إلغاء القرار، ولكن حاولت أن تمنع توالي النتائج التي حذرت منها "الطليعة". ومعروفٌ الآن أن الهيئات الدولية ضغطت لاستصدار هذا القرار (في لحظة من لحظات الاختناق)؛ بحيث "يبدو أن بعض الوزراء كانوا مثلنا لا يدرون بأمر هذا القرار قبل أيام من إصداره. فتصريحات زكريا توفيق ـ وزير التجارة ـ وعيسى شاهين ـ وزير الصناعة ـ كانت في خط بعيد تمامًا عن اتجاه القرار الجديد، وهذا يفرض التساؤل الطبيعي: ما هو أسلوب العمل الذي تتبعه الحكومة، وكيف تتسلسل الدراسات؛ حتى تصل إلى قرارات داخل جهاز الحكومة الحالية؟" (67).
إلا أن الهيئات الدولية لم تكنْ راضية عن الصيغة التي صدر بها القرار؛ فأهدافها الحقيقية المتعجلة في إقرارها، كانت ـ بالتحديد ـ النقاط التي تحدثت عنها الطليعة، وحذر منها اتحاد العمال. والناطقون باسم هذه الهيئات في وسائل الإعلام المصرية، عبروا تمامًا عن هذه النية، وأهابوا "بإخواننا العمال مناقشةَ هذه النقاط مناقشة موضوعية، بعيدًا عن التعصب العَقَدِيّ، أو الشعور العاطفي" (69).
ولكن كيف برَّر المسئولون القرار؟ كانت هناك ثلاث حُجج تقدَّم:
"الحجة الأولى كانت تلحُّ على مسألة توفير السيولة. وبدلاً من تحمل الدولة لهذا العبء، يمكن للأفراد المقتدرين أن يساهموا في تقديم الأموال المطلوبة. "ولو كان هذا هو الهدف الحقيقي، وليس تغيير نوع ملكية الأنشطة الاقتصادية،
أو تصفية الدور المتميز للقطاع العام في إدارة الاقتصاد القومي، لو أن المسألة مجرد حل مشكلة مالية؛ لكان ممكنًا أن تلجأ الدولة، أو حتى شركات القطاع العام مباشرة، إلى الاقتراض الخارجي والداخلي، وطرح سندات عند الحاجة بدلاً من الأسهم، وفي هذه الحالة تحصل شركات القطاع العام على التمويل المطلوب، دون إرهاق الميزانية العامة،
أو الميزانية النقدية، وأيضًا دون تغيير في النظام الاقتصادي والاجتماعي، الذي يمثل القطاع العامُ محورَه الرئيسي.

حُجة ثانية تقول: ولكن أليس مناسبًا أن تُفتح بعضُ القنوات أمام مدخرات الأفراد؛ كي تخرج من تحت البلاطة، أو كي نحد من تبديدها في الاستهلاك التَّرَفي؟ وهذه حجة معقولة؛ خاصة وأن هناك طائفة من المصريين، تملك فعلاً مدخرات، ولكنها لا تعرف عالم الأعمال، ولا تعرف بالتالي كيف تستخدم هذه المدخرات استخدامًا استثماريًّا مُنتجًا؛ (المصريون العاملون في الخارج مثلاً).. الحجة – إذن - لها أساس، ولكن لمَ تكون هذه القنوات داخل القطاع العام القائم بالفعل؟! لماذا لا نشجِّع أصحاب المدخرات هذه، على الاكتتاب ـ أساسًا ـ في شركة جديدة؛ خاصة أو عامة؟ فهذا التوسع هو المطلوب والمفيد، لقد رحبنا دائمًا بمثل هذا التوسع؛ فنحن نؤمن بدور أصحاب الأعمال والأموال الوطنيين، الذين يعملون في مجالات الإنتاج، بنفس القدر الذي نحارب به الأنشطة الطفيلية، ولكن المسألة الأساسية هي: هل نحن نهدف إلى استمرار قيادة القطاع العام أو لا؟ إذا قلنا إننا نهدف إلى هذا؛ فإن قيادة القطاع العام تتطلب أن يكون ذا حجم مؤثر، وأن يسيطر على مفاتيح الاقتصاد القومي، ولا تكفي هنا النسب المئوية، فلا بد أن يكون قلب القطاع العام بعيدًا عن أحْصِنة طُروادة، التي تتمثل في مصالح المساهمين المتضاربة؛ فهذه الأحصنة ستشل من قدرة القطاع العام مهما عظم حجمه، ستحد من التزامه بقرارات وتوجيهات التخطيط المركزي.
الحُجَّة الثالثة تقول: إدخال المساهمين في ملكية شركات القطاع العام سيرفع من كفاءتها الإدارية والإنتاجية.. كيف؟ في البداية نذكِّر بحقيقة تقول - رغم كل تهويلات الدوائر الرجعية -: إن عدد الشركات الخاسرة في القطاع العام،
لا يتجاوز 10 شركات من بين 400 شركة قطاع عام. وأسباب الخسائر ـ في معظم الحالات ـ أسباب قهرية (منها شركات كانت تعمل في سيناء أو في مناطق التدمير والعدوان). ومع هذا يظل السؤال: كيف سيؤدي اشتراك المساهمين الأفراد في ملكية شركات القطاع العام، إلى رفع كفاءتها الإدارية الإنتاجية؟ ألا يقال إن حصة كل مساهم ستكون محدودة؟ ألا يُقال إن القطاع العام سيظلّ مالكًا لأغلبية الأسهم في كل شركة؟ إذن، سيظل القطاع العام - أو ستظل الدولة - صاحبة الكلمة الأولى في تعيين الإدارات، ولكن يبدو أن المقصود هو أن هذه الشركات، بعد طرح أسهمها للبيع والتداول في بورصة الأوراق المالية، ستتغير حوافزها على العمل، وستكون أسعار أسهمها في البورصة­­­- وبالتالي معدلات الربح المُحققة - مقياسًا مرئيًّا لنجاح الإدارة، وهذا صحيح؛ فلا شك أن استخدام سوق الأوراق المالية، واستخدام مقياس الربح كمقياس وحيد؛ إرضاءً للمساهمين الأفراد، سيغير كل المفاهيم عند الإدارات العليا، وعند المجتمع كله، نعم ستتنافس الإدارات في هذه الحالة تنافسًا مجنونًا؛ من أجل زيادة الأرباح بأي سبيل.

وأسهل السبل، هو الحدّ من المكاسب التي حصل عليها العاملون في شركات القطاع العام، خاصة وأن هذه الشركات لا بد ستطالب بأن يطبَّق عليها ما هو مُطبَّق بالفعل على الشركات المشتركة المُشكَّلة؛ وفْق قانون استثمار المال العربي والأجنبي. فهذه الشركات - حتى لو كان القطاع العام مشاركًا فيها - لا تخضع للوائح القطاع العام. والسبيل الثاني السهل هو زيادة الأسعار (وكثير من شركات القطاع العام كانت تحقق معدلات منخفضة من الربح؛ بسبب تحديد الدولة لأسعار منتجاتها).
ثم ماذا عن عبء العمالة الزائدة؟ إن التخلص منها سبيل ثالث لإثبات نجاح الإدارة في زيادة الأرباح (...) ولكن قد يقال إن السعار حول تحقيق الربح بأية وسيلة، لن يتم فقط وفق هذه التنبؤات المشئومة، فقد يتحقق أيضًا عبر زيادة الإنتاجية، والحد من الإسراف بكافة صوره، ولقد طالبنا دائمًا بزيادة فائض القطاع العام عبر هذا الأسلوب، هذا هو نوع التطوير الذي طالبنا دائمًا ونحن ندافع عن القطاع العام، فنحن ندرك أن إمكانيات القطاع العام لا تُستثمر إلى الحد الأقصى، ولكن إذا أردنا زيادة الأرباح في وحدات القطاع العام زيادة حقيقية من خلال الارتفاع بالإنتاجية، ومن خلال الحد من الإسراف والانحراف (وليس بأساليب القفز على مشاكل العمالة والأجور والأسعار) فإن الوسيلة المُثلَى تتحقق عن طريق إحكام التخطيط الشامل والمتابعة، فهذا التخطيط الشامل ومؤسساته المختلفة (وليس آليات السوق وسوق الأوراق المالية) هو الذي يخْلُق الظروف الخارجية الصحية لنمو الوحدة الإنتاجية. أمَّا بالنسبة للرقابة الذاتية داخل الوحدة الإنتاجية، فإن الوسيلة المُثلى، هي تعميق الديمُقراطية في الإدارة، وإتاحة الفرصة أمام العاملين للمشاركة في وضع البرامج ومتابعتها عن طريق لجان إنتاج حقيقية (وليس على أيَّة حال؛ بوساطة رقابة المليونيرات الجدد في الجمعيات العمومية التقليدية).
ومع ذلك، فإن الدعوة لمشاركة المساهمين في شركات القطاع العام لا تتجه إلى الشركات التي تشكو من سوء الإدارة، وهبوط معدل الأرباح؛ فهذه لن يُقبِل أصحاب المدخرات على الاكتتاب فيها، إن الدعوة إلى المساهمين ستوجه إلى الشركات التي تحقق أرباحًا مرتفعة، أي: التي
لا تشكو من سوء الإدارة. وقد سبق للدكتور أحمد
أبو إسماعيل أن أوضح هذا في جلسة مجلس الشعب (30 ديسمبر 1973) فقال: إن اللجنة (أي: لجنة الخطوة والموازنة) تقترح أخذ أسهم الشركات الرابحة، وعرضها للبيع؛ فنحصل بذلك على عملة أجنبية لتشغيل الطاقة العاطلة في القطاع العام، وذلك بدلاً من اللجوء إلى الاقتراض المصرفي، (ولا ندري لماذا بدلاً من اللجوء إلى الاقتراض غير المصرفي؟).

ليس الهدف – إذًا - إسهامَ أصحاب المدخرات في رفع الكفاءة الإدارية والإنتاجية لشركات القطاع العام. الهدف هو مجرد إشراكهم ـ دون مجهود، ودون مخاطرة ـ في الحصول على البيض الذهبي للدجاجة التي ربَّاها الشعب بكدح ونضال طويلين. وغدًا سيدعوهم الجشعُ إلى المطالبة بذبح الدجاجة نفسها. وساعتها.. أي: حين يُذبح القطاعُ العام تمامًا، فلن تكون الجماهير العاملة، وحدها هي الخاسرة؛ فأصحاب الآمال الرأسمالية أيضًا سيخسرون، ما داموا وطنيين، وإذا كانوا يهدفون إلى الإسهام في تنمية مستقلة وازدهار اقتصادي، فهؤلاء الرأسماليون الوطنيون يرتبط نماؤهم ومستقبلهم، كما يرتبط الاستقلال الاقتصادي، بنمو القطاع العام ودوره القائد" (67).
آثرت في الحقيقة أن أنقل قسمًا كبيرًا من مقال الاعتراض على القرار الجمهوري، والذي يسجل انفعال لحظة ساخنة من لحظات الصراع، ويبدو أنني أشرت في الفقرة الأخيرة إلى الدوافع الحقيقية للقرار؛ إذ كان المطلوب إصابة القطاع العام في القلب، وبالذات لأن القطاع العام ضرورة وطنية، بالإضافة إلى الاعتبارات الأخرى.
على أية حال اتسم موقف الحكومة في تلك الفترة بالتردد، سواء في صياغة القرار ـ كما أوضحنا ـ أو في إجراءات تنفيذه، فرغم تصريحات المسئولين عن قرب طرح أسهم للاكتتاب في زيادة رأسمال 26 شركة (16 شركة مشتركة + 10 يملكها القطاع العام بالكامل) لم تتخذ خطوة فعلية واحدة في هذا الاتجاه خلال 1975. ولكن كان مجرد صدور التعديل التشريعي، بالشكل المباغت الذي تحقق به، يعكس ثِقل الضغوط الخارجية، ولم تكن هذه الضغوط لتسمح بمواصلة تجميد القرار فترة طويلة.
د ـ نتناول بعد هذا القانون 120 لسنة 1975 في شأن البنك المركزي والجهاز المصرفي (70) وهذا القانون تعرض لقسم من القطاع العام، كان قد شهد هجومًا مركزًا ومباشرًا من المستثمرين الأجانب. وأحاط بمشروع القانون حوار حاد خلف الكواليس، قبل عرض المشروع على مجلس الشعب (خاصة في اجتماعات اللجنة الاقتصادية للمجلس)، وأعلن أحمد فؤاد (رئيس مجلس إدارة بنك مصر): أننا قد فوجئنا جميعًا بهذا القانون، فلا البنك المركزي لديه علم به،
ولا البنوك أيضًا لديها علم بهذا القانون (71)، ويبدو أن زكي شافعي (وزير الاقتصاد آنذاك) تعمد هذه المفاجأة؛ لأنه كان يخشى في هذه المواجهة من مظاهري البنوك الأجنبية (والهيئات الدولية) الذين تدعَّمت مراكزهم في القطاع المصرفي بعد صدور قانون 43 لاستثمار المال العربي والأجنبي؛ سواء لإقصاء العناصر الوطنية، أو لتغيير البعض لمواقفهم استجلابًا للمنافع والغنائم، أحمد فؤاد مثلاً (وكان محسوبًا في السابق كعنصر وطني تقدمي) طالب في المناقشات بإنهاء العلاقة الخاصة بين بنوك القطاع العام وشركاته، وطالب أيضًا بتسليم 20 % من حصة الحكومة في البنوك المشتركة إلى القطاع الخاص. المهم، يشهد لوزير الاقتصاد في تلك الفترة أن مشروع القانون الذي تقدَّم به (تحت الضغوط الخارجية) كان استمرارًا لمحاولة "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، وكان لا يخرج عن الإطار العام الذي أعلن أيام حكومة عبد العزيز حجازي (72)، وحين أجبرت حكومة ممدوح سالم للتقدم رسميًّا بمشروع القانون، كان التشبث بهذا الإطار معركة، رغم أن المشروع سلم بالكامل في بعض النقاط التي يطلبها صندوق النقد (ومن معه)، وسلم جزئيًّا في البعض الآخر.

أطلق القانون يدَ البنك المركزي في تحديد أسعار الخصم وأسعار الفائدة الدائنة والمدينة، على العمليات المصرفية "دون التقيد بالحدود المنصوص عليها في أي تشريع آخر"
(م 7 ـ د)، وبالتالي تم إلغاء الحد الأعلى لأسعار الفائدة (المفروض في القانون المدني ـ 7 %)، وهذا الإجراء سبقته إجراءات متفرقة (73)، وليس مطلوبًا فرض سقف أبدي على أسعار الخصم والفائدة، ولا مانع طبعًا من المرونة في استخدام الأدوات النقدية، ولكنْ فارقٌ كبيرٌ بين أن يتم هذا الاستخدام في نطاق سياسة متكاملة تهدف إلى إنهاء سيطرة الدولة على الأسعار، وبين أن يكون الاستخدام في نطاق سياسة عامة تهدف أيضًا إلى اجتذاب المدخرات، وترشيد الائتمان، ولكن في نطاق تخطيط مركزي مستقل للأسعار، وفي نطاق الاعتماد على القطاع العام بشكل أساسي في عملية التنمية. وفي ظل الاختيار الثاني تظل أدوات سعر الخصم وسعر الفائدة ذات أهمية ثانوية، على عكس الحال في ظل الاختيار الأول، الذي يسعى صندوق النقد إلى فرضه الذي يركز على هذه الأدوات باعتبارها وسيلة هامة لفرض التبعية، والتعديلات المتتالية التي أدخلتها السلطات النقدية المصرية على أسعار الخصم والفائدة كانت - بهذا المقياس- تراجعًا غير منتظم أمام الضغوط، وكانت بالتالي جزءًا من نجاح الهيئات الدولية في فرض سياستها العامة.

والنقطة الثانية التي سلم فيها القانون تمثلت في تقنين إلغاء التخصص بين بنوك القطاع العام (القرار 2422)، وإطلاق حريتها في العمل كبنوك تجارية تتنافس مع البنوك المشتركة وفروع البنوك الأجنبية، وبالتالي إلغاء أي تنسيق أو تكتل بين بنوك القطاع العام، يحسن موقفها أمام البنوك الأجنبية، ويمكن من التخطيط المالي المركزي، وقد ارتبط بهذا إعفاء إدارات البنوك من الالتزام بالنظم والقواعد الخاصة بالعاملين المدنيين بالدولة، والخاصة بنظام العاملين بالقطاع العام. وهذه "المرونة" قيل أنها لتمكين البنوك المصرية من مواجهة المنافسة، ولكن منافسة البنوك الأجنبية في مجال المرتبات والمزايا مستحيلة عمليًا (في الظروف العامة التي كانت قائمة؛ ولذا كان "المكسب" الأساسي من هذا النص هو مجرد إحداث ثغرة جديدة في البناء التنظيمي للقطاع العام، وقد جاء في هذا الشأن أيضًا استثناء رؤساء وأعضاء مجالس إدارة بنوك القطاع العام من الخضوع لأحكام المادة 59 من قانون الشركات المساهمة لسنة 1954 (وكانت هذه المادة تمنع هؤلاء الأعضاء من عضوية مجلس إدارة بنوك أخرى)، فأصبح من حقهم الاشتراك في عضوية مجالس إدارة البنوك المشتركة، وهذا التعديل كان يحقق إخلالاً بولاء الإدارات العُليا في بنوك القطاع العام لهذه البنوك، لصالح البنوك المشتركة (مانحة المزايا الأعلى).
أما النقاط التي كان التسليم فيها جزئيًّا، فهي المتعلقة بتأكيد استقلالية البنك المركزي قبل الجهاز التنفيذي المصري، وهي مسألة محورية في تحرك الهيئات الدولية، وقد أوضح زكي شافعي (في مناقشات الكواليس) أن حرية البنك المركزي لا بد أن تكون مقيدة "فالبنك المركزي لا يمكن أن يكون دولة داخل الدولة، ولا معنى لما يقال حول أن تكون للبنك المركزي سلطةٌ مطلقةٌ، وطالب في المناقشة أن يؤكد القانون سرية الودائع والعملاء في البنك المركزي والبنوك التجارية. وكانت لجنة السياسات المالية والاقتصادية قد أوصت بأن لا يتبع البنك المركزي أيَّة وزارة، وأن يكون جهة الاختصاص في تحديد سعر الصرف الخارجي للعملة، وإذا كان القانون لم يأخذ بهذا الكلام، فإنه أكد العودة إلى أحكام قانون البنوك والائتمان (163 لسنة 1957) الذي صدر قبل تطورات الستينيات، ودعم هذه الأحكام بإضافات تضفي مزيدًا من الاستقلال الذاتي على البنك المركزي، وكان طبيعيًا مع نهج إلغاء المؤسسات العامة أن ينتهي العمل بالقانون الصادر عام 1964، والذي نص على قيام محافظ البنك المركزي بمهمة المؤسسة بالنسبة للبنوك التجارية.
إلا أن تخلص البنك المركزي من هذه الوظيفة، لم يكن مجرد جزء من عملية الإلغاء الكاسحة لكل المؤسسات؛ فالنية كانت تتجه إلى "تحرير" البنك المركزي، و"تحرير" بنوك القطاع العام من هذه الرابطة التنظيمية الخاصة، حتى لو لم تلغَ باقي المؤسسات العامة. أيضًا نص القانون على إسباغ قدْر من الحصانة على محافظ البنك المركزي، لم يكن يتمتع بها في السابق؛ حيث أصبح المحافظ يُعيَّن بقرار جمهوري لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد، ولا يكون قابلاً للعزل طوال مدة تعيينه الأصلية والمجددة. كذلك ألزم البنك المركزي بتقديم تقرير سنوي عن نشاطه، وعن ميزانيته خلال ثلاثة أشهر من انتهاء السنة المالية، إلى مجلس الشعب.

ولكن ظلت الهيئات الدولية تعتبر أنها لم تحقق النجاح المطلوب في موضوع البنك المركزي؛ ولذا لم تحظَ مواد القانون هذا بتقدير التقارير الصادرة عن صندوق النقد والبنك الدولي، كما حصلت "الإصلاحات" الأخرى في القطاع المصرفي.
هـ ـ إلا أن الحكومة واصلت، كما ذكرنا، وحتى آخر العام، رفض التخلي رسميًا عن سياستها من نسق الأسعار، بما في ذلك سعر الصرف، وقد أوضحنا - في العرض السابق - أن هذا القرار كان خلال عامي 1974، 1975، يفقد باطراد منطق أو إمكانية استمراره، فنتائج الممارسات الانفتاحية، قوضت فعليًا نسق الأسعار الرسمي، وأدوات الغزو والضغط التي امتلكتها الجهات الخارجية جعلت نجاح الصندوق تحويل "اعتراف الأمر الواقع" إلى "اعتراف قانوني" مسألة وقت. إلا أن الحكومة لم تقتصر مسئوليتها على الاستمرار في خلق الوقائع المُفضية إلى النتيجة المطلوبة، فقد اضطرت أيضًا إلى أن تخطو خطوة عملية مباشرة نحو الخفض الرسمي لسعر الصرف، حين توسعت في السوق الموازية حسب تصور صندوق النقد لاستخدام هذه السوق كمؤسسة رسمية تمارس التعامل على نطاق متزايد بسعر مخفض للجنيه.
كانت الحكومة قد وافقت في فبراير 1975 (في عهد حجازي) على إجراء خفض ثان في سعر الصرف داخل السوق الموازية، فأصبح الجنيه = 1.55 دولارًا، بعد أن كان منذ سبتمبر 1973 = 1.70 دولارًا (مقابل السعر الرسمي: جنيه = 2.56 دولارًا). ثم حدث خلال 1975، أن تحقق عبر السوق الموازية حوالي 45 % من صادرات العملات القابلة للتحويل من السلع والخدمات (التي تبلغ 1083 مليون دولار)، وكانت النسبة المقابلة عام 1974 لا تتجاوز 28.5 %، ولكن ظلت الواردات بالعملات الحرة من سلع وخدمات في حدود 8.5 % من إجمالي الواردات (التي تبلغ 4564 مليون دولار) (74)، ويكشف تقرير البنك الدولي أن الحكومة التزمت بتوسيع نطاق السوق الموازية بحيث تشمل استيراد كافة السلع، باستثناء سلع الاستهلاك الأساسية حتى عام 1977.
إلا أن رقم الاستيراد بأسعار ترتفع عن سعر الصرف الرسمي، ينبغي أن يضاف إليه ما يستورد من خلال الاستيراد بالتمويل الذاتي، وقد استمر هذا السوق (الثالث) في التوسع خلال 1975. كان هذا المجال يتسع في البداية 380 سلعة، ولا يحتاج المستورد إلى تراخيص إذا كانت قيمة الواردات أقل من 12800 دولار، ولكن في نوفمبر زادت التيسيرات، فأصبح ممكنًا استيراد أية سلعة، باستثناء قائمة من 28 سلعة (18 سلعة تمويلية + 10 سلع أرادت الحكومة توفير حماية لها). وقد قدرت قيمة السلع التي استوردت عن هذا الطريق في عام 1975 بحوالي 180 مليون دولار (مع احتساب الدولار بالسعر الرسمي)، ونعتقد أن هذا التقدير الرسمي، يقل كثيرًا عن الرقم الفعلي، ولكن ما يهمنا هنا هو أن هذا السوق كان ممارسة فعلية إضافية ومشروعة، للاستيراد بسعر مخفض للجنيه، بل كان سعر الجنيه في هذا السوق أكثر انخفاضًا من سعر السوق الموازية (وهذا طبيعي؛ لأنه يتضمن سوقًا سوداء للنقد تنافس السوق الموازية في الاستحواذ على موارد النقد الأجنبي)، وقدر سعر الجنيه في هذه السوق بأنه = 1.25 أو 1.42 دولارًا (مقابل 1.55 في السوق الموازية).
ولم يعد متصورًا خلال سنة 1975 وما بعدها أن استمرار هذه القناة الشاذة من قنوات الاستيراد نوع من التكتيك (إذا جاز وصدقنا أن هذا الاعتبار كان ضمن أسباب الإباحة في البداية)، فالصحيح أن هذه الممارسة للاستيراد المليئة بالفساد والمحققة للثراء الواسع السريع، اكتسب أصحابها ـ من ذوي النفوذ ـ تماسكًا يصعب اختراقه، وأصبحوا فئة يصعب التصدي لمصالحها، ويصعب في نفس الوقت الدفاع العلني عن استمرارها، الهيئات الدولية ـ بحساباتها الخاصة كما أوضحنا ـ كانت تعارض استمرار سوق الاستيراد بالتمويل الذاتي، وداخل الجهاز المصري كان مثيرًا للسخرية أن كافة المسئولين هاجموا هذا النوع من الاستيراد، فتقرير البنك المركزي طالب بصراحة بإعادة النظر في هذا النظام؛ لأنه يحجب جانبًا لا يُستهان به من التدفقات النقدية إلى السوق الموازية، التي كان يمكن أن تتم نتيجة تحويل مزيد من مدخرات المصريين في الخارج؛ ولذلك فإنه من المستصوب بحثُ أوضاع هذه السوق ابتغاء تنمية حصيلة السوق الموازية بطريقة فعالة (75)، نفس هذا الكلام، بنفس الحجج، كرره ـ في مناسبات مختلفة ـ وزير الاقتصاد (زكي شافعي) ووزير التخطيط (إبراهيم حلمي
عبد الرحمن) ووزير المالية (أحمد أبو إسماعيل)، بل ورئيس مجلس الوزراء (76)!

ولكن كان مع هذا النظام وزير التجارة (زكريا توفيق). وهذا الرجل كانت له تصريحات "طريفة" كلما جاءت سيرة الاستيراد دون تحويل عمله، فيوم أصدر قراره بإطلاق حرية هذا الاستيراد (باستثناء 28 سلعة) بشر المواطنين بأنه "سيسمح لأي مواطن بشراء سيارة من الخارج كل سنة ميلادية بعد أن كان مرور عام كامل على شراء السيارة الأولى شرطًا لاستيراد سيارة جديدة. يعني أن هناك فرصة أمام المصريين لشراء سيارة في ديسمبر مثلاً، وسيارة أخرى في يناير الذي يليه. ويمكن للمواطن الحصول على السيارة الآن دون السفر للخارج".. وبشكل عام "سيرى المواطن ويقتني ما كان محظورًا عليه من قبلُ، ويتمتع بما يتمتع به جيرانه في البلاد العربية. وسوف يقتني - وهو في بلده - ما كان يحرص على أن يشتريه من الخارج" (77).
وصرح في مناسبة أخرى "أن القاهرة قبل 20 عامًا كانت زاخرة بكل شيء، مدينة الذوق والموضات وملتقى الطبقات الراقية. أريدها مدينة مزدهرة، أسواقها مليئة بكل ما هو موجود في عواصم العالم المتحضرة" (78). و... في الحقيقية كنا نظنها نكتة أن ماري أنطوانيت تساءلت ببراءة لماذا لا يأكل الناس الجاتوه إذا تعذَّر وجود الخبز.
و ـ في ختام العرض للتغيرات المؤسسية التي أسهمت الجهات الأجنبية إسهامًا أساسيًا في إقرارها، نشير

نور 06-07-2011 02:26 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
رابعًا ـ التنمية الاقتصادية:
(1) الاستثمار الأجنبي المباشر:
أ- في تناول ما تحقق في التنمية، نبدأ بالإشارة إلى نتائج الاستثمار الأجنبي، باعتباره حلقة الاتصال مع الحديث السابق، فهو يتقدم في ظل التمهيد الذي تحققه الضغوط السياسية و"توصيات" صندوق النقد الدولي، وهو في نفس الوقت أداة أساسية لإعادة صياغة البنية الاقتصادية والاجتماعية على النحو المستهدف. وقد واصلت الحكومة في هذا القطاع نفس محاولاتها في الجهات الأخرى للمحافظة على سعر الصرف الرسمي، فرفضت مطالبات المستثمرين الأجانب لحساب قيمة المال المستثمر (دخولاً وخروجًا) بسعر السوق الموازية، وكان القانون 43 ينص بوضوح على احتساب النقد الأجنبي الحر الممول لجمهورية مصر العربية بالسعر الرسمي عن طريق أحد البنوك الأجنبية المسجلة لدى البنك المركزي المصري؛ لاستخدامه في تنفيذ أحد المشروعات أو التوسع فيها (م ـ 2). ولكن نفس القانون لجأ إلى صياغة أخرى أقلَّ وضوحًا، عند الحديث عن تحويل المال المستثمر إلى الخارج، فنص على أن يكون التحويل بذات العملة الوارد بها، وسعر الصرف المعمول به وقت التحويل (م ـ 21). وحاول المستثمرون الأجانب النفاذ من هذه الثغرة، على أساس أن نص "سعر الصرف المعمول به وقت التحويل "لا يلزم بالسعر الرسمي (في حالة تعدد أسعار الصرف)، أي: يمكن أن يكون سعر التحويل سعر السوق الموازية مثلاً؛ ولذا أكدت الحكومة موقفها في أواخر العام حين أعلن ممدوح سالم أن الحكومة "أعدت مشروعًا بقانون، ستقدمه إلى مجلس الشعب قريبًا، بتحديد سعر التحويل الخاص بالمال المستثمر الوافد إلى مصر؛ بحيث يكون السعر الرسمي، دخولاً وخروجًا؛ وذلك لتحقيق وضوح الرؤية، بالنسبة لشروط الاستثمار أمام المستثمرين الأجانب" (79).
ب ـ وهذا الموقف ـ مع أسباب أخرى أهم ـ جعل النتائج في العام الثاني من الانفتاح ـ كما في العام السابق ـ بعيدة جدًا عن الأحلام الرائجة في بداية 1974. في 31 مارس 1975 كان إجمالي المشروعات الموافق عليها (داخل البلاد) 189.2 مليون جنيه (منها 118 مليونًا بالنقد الأجنبي) وكان عدد المشروعات 178 مشروعًا. وفي 31 ديسمبر تغيرت الأرقام إلى 364 مليون جنيه (منها 207.2 بالنقد الأجنبي) في 290 مشروعًا. وبالنسبة للمشروعات الموافق عليها (بنظام المناطق الحرة) كان إجمالي رأس مال المشروعات الموافق عليها (حتى 31 مارس) 735 مليون جنيه (منها 727.9 مليونًا بالنقد الأجنبي). والعدد 32 مشروعًا. وفي 31 ديسمبر ارتفعت الأرقام إلى 856.4 مليون جنيه (منها 843.9 مليونًا نقد أجنبي) في 78 مشروعًا.
إلا أن هذه الموافقات تمخضت في واقع الحال عن استثمار فعلي داخل القطر، لا يتجاوز 5.5 مليون جنيه في 22 مشروعًا، وفي المناطق الحرة كان رأس المال المستثمر فعلاً 5.6 مليون جنيه في مشروعين اثنين. وباختصار، كانت نسبة الاستثمار الفعلي إلى الكلام المدون على الورق 0.9 % (80).
وكَما نذكر، حاول ممدوح سالم في بداية عهده أن يكسب من سخط الدوائر الخارجية، والمنتفعين من التعامل معها، على سياسة الضوابط التي انتهجت أثناء حكومة عبد العزيز حجازي، وانعكس هذا في إبداء مزيد من التنازلات، في أول مؤتمر صحفي، أعلن الرئيس الجديد لمجلس الوزراء "أن الأصل هو إباحة الاستثمار؛ ليتجه إلى مواضعه الطبيعية حسب حريته في السوق المصرية واحتياجاتها. وكل شرط هو قيد. وكل قيد هو انغلاق، وهو استثناء (....) يجب أن نرحب بكل مال عربي أجنبي، يجد سبيله إلى الاستثمار في البلاد" (81).
ج ـ إلا أن الحكومة عادت في بيانها الرسمي أمام مجلس الشعب (13 مايو) إلى مفهوم الضوابط، فقالت: "إننا نقبل في إطار خطط التنمية القومية الشاملة كل استثمار يضيف إلى ثروة المجتمع، ويفتح أبوابًا جديدة لتشغيل الأيدي العاملة المصرية". وعلى نهاية السنة، كان ممدوح سالم مُضطرًا إلى التعبير عن خيبة أمله بانفعال، وبنقد شديد للمستثمرين الأجانب، مع دفاع عن موقف الإدارة المصرية (لم يتمكن من مواصلته في السنوات التالية)، فأوضح "أن كل مشروع يعرض علينا ليس بالضرورة مشروعًا جادًا، أو يحقق مصلحة مشتركة بين المستثمر وبين مصر (...) وقد رأيت بعض المشروعات الصغيرة التي لا يتحقق فيها التكافؤ بين مصلحة المستثمر ومصلحة مصر، وفي رأيي أن المشروع الذي يستطيع أي مصري القيام به، فليس هناك ما يدعو لأنْ يقوم به أجنبي، وهناك مشروعات لا تزيد قيمتها على بضعة آلاف من الجنيهات؛ ولذلك تم رفضها، ولكن أصوات أصحابها مرتفعة، فيخرجون ليعلنوا أنهم أتوا لاستثمار أموالهم، ولكن مصر ترفض مشروعاتهم (....).
وما يقال عن البيروقراطية كمسئولة عن توقف كل المشروعات غير صحيح، فلقد درست كل مشروع من المشروعات التي رفضت، وإنني على استعداد لمناقشة أي مشروع، وأن أوضح أسباب رفضه (...) وهناك على سبيل المثال بعض المشروعات التي يشترط أصحابها الحصول على عمولة قيمتها 5 دولارات عن كل طن ينتج، وذلك بخلاف اشتراكنا في رأس المال، وبعد دراسة الموضوع تبين لنا أن المستثمر سوف يحصل على 80 مليون دولار خلال 10 سنوات دون أن يعمل شيئًا، بينما نقوم نحن بعمل كل شيء. إن الاستثمار ليس معناه أن يأتي المستثمرون للحصول على الأموال من مصر، ولكننا نريد أن نستفيد بالاستثمارات وعائد الاستثمارات ونشغل العمالة، ونطوّر صناعاتنا ونكتسب خبرة، وإلا فإن عملية الانفتاح لا تكون قد سارت في الطريق الصحيح".
وأعلن رئيس مجلس الوزراء بعد هذا "أنه في الحقيقة من كثرة استعمال كلمة الانفتاح؛ فإنني أستثقِلُها"، وكان ذلك أبلغ تعبير عن شعور مسئول كبير بالإحباط في أواخر 1975، إلا أنه قدم عزاء للنفس وللمستمعين (79)، فأدخل في حساب ما حول في عمليات استثمار رأس المال العربي والأجنبي خط أنابيب البترول (برأسمال 400 مليون دولار) والتوسع في الاتفاقيات مع شركات البترول (بلغت 27 اتفاقية تغطي مساحة 160.000 كم 2 وأنفقت الشركات في البحث والتنقيب حتى ذلك التاريخ حوالي 82 مليون دولار). وكان هذا الاستطراد من جانب ممدوح سالم ـ مغالطة؛ لأن خط الأنابيب شركة مشتركة بين الحكومة المصرية وحكومات عربية خليجية، والشركة - بهذه الصفة - قناة مستقلة لتحويل الموارد العربية (وكنا نرجو أن يتم التوسع في اجتذاب الأموال العربية عبر هذا المنهج)، وهي تختلف عن قناة قانون الاستثمار الذي يعتمد على مبادرات القطاع الخاص العربي والأجنبي، أما الاتفاقيات مع شركات البترول، فإنها فعلاً مما استخدم في استثارة الآمال الكاذبة (82)، ولكنها أيضًا عملية لها حساباتها ودوافعها الخاصة لدى الشركات الأجنبية، وتخرج أيضًا عن دائرة القانون 43.
ولكن يقع في دائرة القانون ـ وهذا ما لم يذكره ممدوح سالم أن هيئة الاستثمار أعطت موافقاتها لـ 25 بنكًا كي تبدأ العمل.
(2) الخطة الانتقالية في التنفيذ:
أ ـ تهليل البنك الدولي للنتائج:
ورثت حكومة ممدوح سالم تعهدًا من الحكومة السابقة بوضع خطة خمسية (1976 ـ 1980) خلال عام 1975، وورثت الخطة الانتقالية التي كانت قد اعتُمِدت وبُوشر تنفيذها. وقد أسقطت الحكومة التزامها بالتعهد الأول (وضع خطة خمسية)، بل بدا في بيانها أنها لا تفكر في الموضوع، مركزة اهتمامها على التخطيط القصير الأجل. وفي هذا النطاق تظاهرت الحكومة بأنها بصدد إدخال تعديلات أساسية على خطة (أو برنامج عام 1975) (83). ولكن ثبت أن الحكومة أرادت ـ بالكلمات فقط ـ أن ترسخ الإيحاء بأنها تمثل شيئًا إيجابيًا جديدًا. وعلى ذلك، شهد عام 1975 تنفيذًا لنفس الخطة، مع مزيد من النشوة؛ نتيجة الانتصارات التي حققها أصحاب الانفتاح.
ماذا كانت نتائج التنفيذ؟ نبدأ بتقييم البنك الدولي: سجل البنك أن الخطة أسفرت عن معدل نمو حقيقي للناتج المحلي الإجمالي يصل إلى 9.8 % (نقلاً عن تقديرات وزارة التخطيط، وهذا المعدل الواضح الارتفاع يرجع جزئيًا إلى عامل خارجي طارئ هو إعادة فتح قناة السويس (يونيو)، واسترداد حقول البترول في سيناء (نوفمبر). ويقول تقدير البنك الدولي: إنه باستبعاد أثر هذا العامل، يهبط معدل النمو إلى 8 %. ولا شك أن المعدل (بعد خفضه) يظل شكله مفرحًا ومحترمًا؛ ولذلك لم يحاول البنك أن يثير حوله أي شك، واستطرد إلى المقارنة مع معدلات النمو التي أعلنها التخطيط للعام 1973 (وكانت 2.7 %) والعام 1974 (وكانت 3.2 %)؛ إذ إن القفزة إلى معدل 9.8 %، أو حتى إلى 8 %، أجازت للبنك أن يقول "إن السياسات الاقتصادية الجديدة التي اتخذتها الحكومة تسببت في أن النشاط الاقتصادي تسارع عام 1975 (...) وقد جاءت الدفعة الأساسية لهذا النمو التوفر المتعاظم للمعونة الأجنبية التي سمحت لمصر أن تزيد وارداتها من السلع الوسيطة عام 1975، وأدت إلى استخدام أكبر للطاقة الإنتاجية. كذلك مكنت مصر من الاحتفاظ بمستوى أعلى جدًا من الاستثمار (شاملاً الإنفاق على تعمير مدن قناة السويس). وفي نفس الوقت، فإن استعادة حقول سيناء، وإعادة فتح قناة السويس، واستعادة النشاط السياحي، أدَّت إلى زيادة كبيرة في موارد النقد الأجنبي" (84).
البنك الدولي أراد أن يقنعنا – إذًا - بأن السياسة التي ساهم في فرضها، أنجبت نتائج سعيدة في مجال التنمية،
أو "معجزة اقتصادية مصرية"، وهذا حقه. ولكن جرت العادة في الهيئات العلمية، أن تستر العواطف والتحيزات بشيء من التدقيق والتحليل، والتظاهر بذلك ـ في حالة سوء النية ـ أفعل في تسريب النتائج التي يُراد تسويقها، ولكن البنك الدولي تكاسل عن مجرد القيام بهذا الجهد. لقد سبق أن أوضحنا رأينا حول معيار معدل النمو، وأوضحنا أنه
لا يمكن أن يكون معيارًا منعزلاً عن الهدف (الاستقلال بمفهومه المركب)، وهو في كل الأحوال لا يمكن أن يكون معيارًا منعزلاً عن الهدف (الاستقلال بمفهومه المركب)، وهو في كل الأحوال لا يمكن أن يكون المعيار الوحيد
أو الأساسي لنجاح التنمية، وبعض الكتابات النظرية لمسئولين في البنك الدولي قد تقترب الآن مما نقول، ولكن في السياسات العملية (كما تنعكس في تقاريره عن مصر)، اعتمد معيار معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي باعتباره المرجع الأساسي أو الوحيد لقياس النجاح الذي حققته التنمية. وأسوأ من ذلك أن تقارير البنك اعتبرت أن ارتفاع معدل النمو - كنتيجة للانفتاح - مسألة لا تستحق عناء الإثبات.

صحيح أن معرفة النتائج الفعلية للخطة الانتقالية (1975) مسألة بالغة الصعوبة (بالنسبة للباحث المصري)؛ لأن التقارير الرسمية تضاربت كثيرًا في الأرقام المُعلَنة (وسنعرض حالاً جولة حول المتغيرات الأساسية كما وردت في بعض التقارير التي أُتِيح لنا أن نطلع عليها) ولكن هذا التضارب لا يفسر تقاعس خبراء البنك الدولي عن التمحيص، وتعجلهم في إصدار الأحكام، ولا شك أن حقوقهم في الاطلاع، وصلاحياتهم في المساءلة، كانت تسمح لهم بأكبر اقتراب ممكن من الحقيقة.. لو كانوا يريدون.
ب ـ الاستثمار:
أعلن وزير المالية في بيانه (ديسمبر 1975) أنه كان قد تقرر خفض إجمالي الاستثمار الثابت (أو العيني) إلى 890 مليون جنيه (بدلاً من 1154.4 مليونًا كما كان مستهدفًا في مشروع الخطة الانتقالية)، وأعلن نفس البيان أيضًا أن متابعة الإنجازات المالية (عن الفترة المالية من 1/ 1/ 1975 إلى 30/ 9/ 1975) دلت على أن الاستخدامات الاستثمارية للقطاع العام بعد ثلاثة أرباع العام لم تتجاوز 287.3 مليون جنيه فقط، أي لم تتجاوز 36 % من الرقم المستهدف لعام 1975 (بعد خفضه). ويعني هذا ـ من ناحية ـ أن الإنفاق الاستثماري الحكومي المستهدف لعام 1975 كان 798 مليون جنيه. ولكن نلحظ هنا أن تقرير البنك الدولي نقل عن مصادر وزارة المالية، أن الإنفاق الاستثماري للحكومة كان 757.3 مليون جنيه فقط (85) ـ ولكن ما يعنينا أكثر ـ من ناحية أخرى ـ هو ما قيل حول أن المحقق من الاستخدامات الاستثمارية الحكومية طوال تسعة شهور لم يتجاوز 36 % من الإجمالي المستهدف، فقد جاء بعد ذلك في تقديرات المتابعة المالية للباب الثالث، أن ما تم الخصم به على هذا الباب حتى 31/ 12 قفز إلى 856.5 مليون جنيه (بعد أن كان 287.3 مليونًا فقط في آخر سبتمبر!). ونذكر أن عضوًا في مجلس الشعب قدم سؤالاً إلى وزير المالية تضمن (ضمن علامات استفهام عديدة) طلب تفسير لهذه القفزة الغربية في الإنفاق الاستثماري الحكومي، وقد لزِمت وزارة المالية الصمت في هذه النقطة أثناء جلسة المواجهة مع العضو صاحب السؤال (86).
على أية حال. القفزة إلى رقم 856.5 مليون جنيه، اقتربت بنا مما أوضحته بيانات وزارة المالية الخاصة بمتابعة الموازنة النقدية لعام 1975. فقد أثبتت الأخيرة أن إجمالي قيمة الواردات من السلع الاستثمارية في تلك السنة بلغ نحو 255 مليون جنيه، وهذا الرقم قد يكون مؤشرًا لاستثمارات تبلغ 827 مليونَ جنيه (بافتراض مكون أجنبي 35 % ـ رغم أن المكون الأجنبي المُستهدَف في الخطة كان 40 %).
أيضًا اقتربت تقديرات وزارة التخطيط مع رقمَي المتابعة المالية، والموازنة النقدية. فالوزارة قدرت حجم المباني والتشييدات بنحو 420 مليون جنيه، على أساس الكميات المُتاحة للاستخدام المحلي من الأسمنت وحديد التسليح (الإنتاج ـ الصادرات + الواردات) وهي السِّلَع الاستراتيجية في تقدير قيمة التشييد، ومع افتراض أن المباني والتشييدات تمثل 50 % من إجمالي الاستثمار، خلصت وزارة التخطيط إلى تقديرات الاستثمار المنفذ في عام 1975 بحوالي 840 مليون جنيه.
إلا أن هذه التقديرات التي تراوحت بين 830 و 860 مليون جنيه تعارضت تعارضًا واضحًا مع قيمة الاستثمارات المنفذة؛ وفقًا لبيانات الوزارات، وجهات التنفيذ الأخرى. فوفقًا لهذا المصدر بلغ الإجمالي 1210.4 مليون جنيه، فإذا أبعدنا نصيب القطاع الخاص ونصيب الشريك العربي والأجنبي في قطاع البترول، أصبح إجمالي الاستثمارات نحو 1031.3 مليون جنيه، هذا الرقم الأخير يزيد حوالي 17
أو 24 % عن التقديرات المتقاربة السابقة. أيضًا كان المكون الأجنبي للاستثمارات ـ وفقًا لجهات التنفيذ ـ نحو 367.2 مليون جنيه (بنسبة 35.6 %)، وهذا الرقم يزيد عن نظيره في الموازنة النقدية حوالي 44 %، وقد أبدت وزارة التخطيط دهشتها من هذه المفارقة، فطلبت قيام الوزارات وجهات التنفيذ بمراجعة تقديراتها للاستثمار المحقق في تلك السنة؛ لأن عدم دقة التقديرات كان سببًا محتملاً للتضارب، أو تكون الوزارات قد أدخلت في حساب الاستثمارات الدفعات المقدمة لشركات المقاولات (هذه المبالغ لا تمثل استثمارًا حقيقيًا بمفهوم التنمية، وهي بالتالي نوع من التقديرات الخاطئة)... أو يكون سبب التضارب أن حجم الاستثمار المنفذ قد تضخم فعلاً بهذا القدر. (وهو الاحتمال الأبعد في تقديرنا).

على أيَّة حال، مضت الأمور بغير تصويب، وحين أعلنت أرقام نهائية عن حجم الاستثمار المنفذ عام 1975، كانت متضاربة تمامًا، فقد اعتمدت وزارة التخطيط على البيانات الواردة من جهات التنفيذ، وبعد كل المراجعات والتدقيقات، نشر تقرير واحد للبنك الدولي رقمين متباينين (كأرقام نهائية) عن إجمالي الاستثمار الثابت (بالأسعار الجارية)، فذكر مرة أنه 940 مليون جنيه، وذكر في الصفحة التالية مباشرة أنه 1194 مليون جنيه (بزيادة 27 % عن الرقم السابق) (87)، ولم تتوقف بعثة البنك لحظة للمراجعة أو التفسير. نفس الشيء فعله صندوق النقد الدولي، فنشر في تقرير واحد أن إجمالي الاستثمار الفعلي (الاستثمار الثابت + التغير في المخزون) كان ـ نقلاً عن نفس وزارة التخطيط ـ 1328 مليون جنيه، والاستثمار الثابت وحده 1227.9 مليون جنيه (وهو رقم مخالف للرقمين السابقين). وكان نصيب القطاع العام من هذا الاستثمار الثابت 1047.9 مليونًا. ثم نَشر التقرير بعد صفحات من الجدول الأول، أرقامًا أخرى عن الإنفاق الاستثماري الفعلي للقطاع العام - عن وزارة المالية- فإذا بالرقم لا يتجاوز 863 مليون جنيه، ومفروض أيضًا أن هذا الرقم، يتضمن إنفاقًا استثماريًّا، لا يدخل في حسابات الاستثمار الثابت (88). ومع ذلك لم تتوقف بعثة الصندوق بدورها لكي تراجَع أو تفسر.
ليس أمامنا - إذًا - إلا أن نتابع الدلالاتِ الأساسية للأرقام، وليس الأرقام ذاتها، ونبدأ بتسجيل أن الأرقام المختلفة عن حجم الاستثمار تعكس في جزء كبير منها ارتفاعًا في التكلفة، وقد أثبت تقرير المتابعة الأولى للتخطيط "أنه يخشى أن يتحول الأمر إلى مجرد تنفيذ مالي، يؤدي إلى ارتفاع أسعار التشييد والبناء، دون أن يتحقق المستهدف من استثمار حقيقي ملموس، يعطي الثمار المنشودة". وأكد التخطيط - في تقرير المتابعة الثاني - أن الأرقام المعتمدة "مقدرة بالأسعار الجارية، وبالتالي فإن الزيادات الموضحة (عن العام السابق) لا تعني بالضرورة زيادة في كثافة الجهد الاستثماري بنفس القدر، بل تعكس أيضًا الزيادات الكبيرة في أسعار التشييد والسلع الرأسمالية المستوردة وتكلفة تمويلها".
اتجاه آخر نستنتجه من الأرقام، فقد التزم هيكل الاستثمار المنفذ بنفس التشوهات الواردة في مشروع الخطة، فكان هيكل الاستثمارات المحققة عام 1975 لصلاح مجموعتي التوزيع والخدمات، على حساب مجموعة القطاعات السلعية؛ إذ هبطت نسبة الاستثمارات المحققة في مجموعة القطاعات السلعية إلى إجمالي الاستثمارات من 51 % عام 1974 على 44.8 % عام 1975. بينما ارتفعت النسبة في قطاعات التوزيع والخدمات من 29.8 % و19.2 % (1974) إلى 31.9 % و23.3 % (1975)، وغني عن البيان أن هذه النسب تختلف من تقرير إلى آخر، ولكنها تشير إلى اتجاه ثابت في كل التقديرات، والاتجاه هو الذي يعنينا. وتفسير الاتجاه (في الخطة وفي التنفيذ) كان في الأولويَّات التي حكمت الخطة، أو بالتحديد: التعمير (يقال إن استثماراته كانت حوالي 200 مليون جنيه) وقناة السويس.
ج ـ الإنتاج والناتج:
هنا أيضًا يمكننا القيام بجولة "طريفة" حول تضارب البيانات، ويكفي أن نشير إلى أن الشذوذ يكون أحيانًا صارخًا، فقد سجل تقرير المتابعة الأولى (التخطيط) أن الخطة تؤدي ـ حسب بيانات جهات التنفيذ ـ إلى الوصول برقم الإنتاج المحلي لعام 1975 إلى 8392 مليون جنيه بدلاً من 7915.6 مليون جنيه كما كان مستهدفًا. ونفس التقرير كان يقول إن الأرقام الأولية الخاصة بالنصف الأول من عام 1975 تشير إلى أن الاستثمار خلال العام قد لا يتجاوز 75 أو 80 % من المعدل المخطط. وصحيح أن التقرير مبدئي، وعن النصف الأول من السنة، ولكن يظل مثيرًا للدهشة أن الخطة الانتقالية كانت تهدف إلى زيادة الإنتاج (بالأسعار الجارية) بنسبة 12.6 %، وحين لم تتحقق الاستثمارات المطلوبة ـ كمًا وكيفًا ـ يتوقع زيادة الإنتاج بنسبة 20.8 %، وهذه النتيجة الشاذة لم تتغير تغيرًا أساسيًا - على أيَّة حال- في التصويبات المتتالية، فقد ظل المعدل في حدود 16%.
والناتج المحلي الإجمالي (بتكلفة العوامل) تفاوتت تقديراته (بالأسعار الجارية) بين 4008 مليون جنيه و4070 (في مصدر واحد: تقرير خطة 1976)، ثم ارتفعت إلى 4401.7 وإلى 4653.4 مليون جنيه (كأرقام فعلية)، وفي كل الأحوال تجاوز المعدل المحقق وفق هذه البيانات ما كان مستهدفًا، حتى في الأرقام المقومة بالأسعار الثابتة، وقد يصعب تصديق هذا، ولكن لا بأس من إضافة التالي:
تعديل أرقام الأسعار الجارية إلى الأسعار الثابتة يتحقق على أساس الأرقام القياسية الرسميَّة للأسعار، ومعروف أن هذه الأرقام غير واقعية، ومجرد استخدام المعدل الحقيقي لارتفاع الأسعار، يهبط بالمعدل الحقيقي لنمو الدخل هبوطًا شديدًا عن المعدل المذاع المزعوم، ويضاف إلى ذلك أن التغيرات التنظيمية التي أحدثت عام 1975، جعلت المقارنة بين هذا العام والأعوام السابقة ـ على أساس واحد ـ مسألة في غاية الصعوبة. ونذكر على سبيل المثال أن ناتج قطاع الكهرباء الذي ارتفع بنسبة 49.8 % عن عام 1974 (بالأسعار الجارية) كان يرجع إلى أن المؤسسة حسبت قيمة إنتاج الطاقة الكهربائية المُباعة، اعتبارًا من أول يناير 1975 (واستجابة لتوصية البنك الدولي)، بأسعار جديدة فارتفع متوسط السعر لجميع أوجه الاستخدام (عدا الاستخدام المنزلي) (89).
ومن ناحية أخرى، أبدت وزارة التخطيط ارتيابًا صريحًا حول كل المعدلات المعلنة (ومن بينها معدلات الإنتاج والناتج) من زاوية أنها لا تتسق مع بعضها البعض، فقد لاحظت أن الواردات من السلع الاستهلاكية زادت بأكثر من 20 % من عام 1974، ودلت تقارير المتابعة على أن الاستهلاك الفردي، تزايد بوجه عام بنحو 8.6 %، وإذا عدلت أرقام الاستهلاك الفردي باستبعاد أثر الدعم، يكون إجمالي الاستهلاك الفردي قد ارتفع بنسبة 15.9 %، ولكن يبدو باستقراء المؤشرات السعرية أن هذه النسبة الأخيرة مبالَغٌ فيها، ويرجع هذا إلى أن نسبة الاستهلاك الفردي إلى الناتج المحلي بسعر السوق، انخفضت في 1975 إلى 64.3 % مقابل 67 % في 1974، إذا كان هذا الانخفاض غير صحيح؛ بسبب أن "أرقام الإنتاج والدخل المتولِّد في القطاعات الواردة من الوزارات والقطاعات مبالغ فيها" (90).
وقد انحرفَ هيكل الزيادة المحققة في الناتج عن الهيكل المستهدَف؛ فمعدل النمو المحقق في القطاعات السلعية (وهي القطاعات الفائدة والضامنة لاستمرار نمو اقتصادي حقيقي) كان نحو 8 % مقابل 12.8 معدل مستهدف (الزراعة 1.7 % بدلاً من 3.5 % مستهدف ـ الصناعة والتعدين 9.7 % بدلاً من 16.3 %)، ولكن في قطاعات التوزيع بلغ معدل النمو المحقق 20.2 % مقابل معدل مستهدف 10.6 %، وفي قطاع الخدمات كان معدل النمو المحقق 20.2 % مقابل معدل مستهدف 10.6 %، وفي قطاع الخدمات كان معدل النمو المحقق 11.8 % مقابل معدل مستهدف 6.3 %، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك، أنْ تغيَّر هيكلُ الناتج المحلي الإجمالي في غير صالح القطاعات السلعية، على عكس ما استهدفت الخطة الانتقالية. فنصيب القطاعات السلعية كان 59.8 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1974، وكان مُستهدفًا أن تزيد النسبة إلى 60.5 % فهبطت إلى 58.3%.
مرة أخرى.. لم تعد تهمنا النسب في حد ذاتها، ولكن تهمنا الدلالة العامة أو الاتجاه، وهذا الاتجاه نحو نقص الأهمية النسبية للقطاعات السلعية في الإنتاج، والناتج المحلي لصالح قطاعات التوزيع والخدمات لا يتمشى مع هدف إحداث تنمية حقيقية ذات قدرة على التواصل الذاتي، ويعني هذا اختلالاً متزايدًا بين الدخول، وبين حجم ونوع المُتاح من السلع والخدمات، وفي الظروف المحددة لهذا الاتجاه، فإنه يشير أيضًا (كما قالت بحق لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب) على "أن العمليات التجارية أصبحت أكثر ربحية وإغراء من العمليات الإنتاجية، كما يشير إلى عمليات المضاربة في أسعار العقارات والأراضي" (91). وقد نشير أيضًا إلى أن الزيادة في الخدمات (وهي تستأثر وحدها بأكثر من ربع الزيادة الإجمالية في الناتجة المحلي بتكلفة العوامل) كانت في الأساس تعبيرًا عن الزيادة في أجور موظفي الحكومة في 1975 عنه في 1974 نتيجة تنفيذ قانون الإصلاح الوظيفي، ولا يمثل هذا أي نمو حقيقي، بقدر ما يمثل زيادة في الإصدار النقدي، دون مقابل مناسب ومطلوب من توسيع أو تحسين الخدمات. نشير كذلك إلى أن الزيادة الكبيرة في قطاع التوزيع، لم تكن فقط بسبب زيادة الهامش التجاري لارتفاع حجم الواردات السلعية بمعدل 29 % تقريبًا، ولكن أيضًا بسبب إيرادات قناة السويس (38.8 مليون جنيه)، وهذا مصدر خارجي لا يعكس جهدًا تنمويًا حقيقيًا، ونفس الأمر يقال عن إنتاج النفط، الذي حقق معدلاً في نمو الناتج 29.8 % بدلاً من 15.9 كما كان مُستهدفًا. والقطاع السلعي الذي أسهم النفط في رفع أرقامه، تضمَّن أيضًا القيمة المضافة المتولدة في قطاع التشييد (أجور + عوائد المقاولين) التي زادت بمعدل 45.3 %، وقد استأثر التعمير (وهو قطاع غير إنتاجي) بنصيب كبير منها (ومع ذلك لم يحقق القطاع السلعي ـ كما أشرنا ـ أرقامه المستهدفة).
د ـ قطاع التعمير:
ولكنَّ الحديثَ عن قطاع التعمير لا يمكن أن يمر بهذه السرعة، وبالأرقام الجافة، لقد تناولنا أشكال التبديد في الموارد المخصصة لهذا القطاع عام 1974، واستمر العمل في هذا القطاع بنفس الأسلوب خلال الخطة الانتقالية. وأُثير الأمر في تقارير رسمية ومناقشات حامية بلا نتيجة. كشف رئيس لجنة الإسكان في مجلس الشعب (أحمد حلمي بدر) أن اللجنة قامت "بزيارة ميدانية للسويس خلال شهر فبراير وأعدت تقريرًا مهمًا، ولكنه مرَّ في هذا المجلس مر الكِرام" (العضو كان يتحدث في 28 ديسمبر) وللأسف لم نحصل على هذا التقرير الهام، ولم يفصح عضو المجلس عن محتوياته، واكتفى بأن أضاف أنه "ورد على رد على ما تضمنه التقرير من نقاط، من مكتب السيد رئيس مجلس الوزراء، ولن أناقش الموضوع؛ لأنني لا أريد الدخول في حديث وكلام، ولكنني رجوت السيدين؛ رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشعب، أن يقوما بزيارة للسويس، وبعد ذلك يمكن أن نتكلم في الموضوع (...) إن ما ورد في بداية خطة 74/ 1975 هو متابعة نقدية (للمنفذ في قطاع التعمير) ولكنني أريد متابعة عينية، عندئذ يمكننا التعرف على الانحرافات وأسبابها (...) أمَّا أن تكون هناك خطة دون متابعة فعلية خلال السنة أو بعدها، فإنه غير سليم، ويكون دور هذا المجلس في الرقابة غير موجود، أو أن المجلس
لا يمارس حقه في الرقابة بجدية" (92).

إلا أن الموضوع انفجر بعد ذلك بشكل أخطرَ، حين عرضت أشكال التبديد والانحراف بلا مواربة، على لسان محمود القاضي في مجلس الشعب (93)، فأثبت أن وزير الإسكان والتعمير (عثمان أحمد عثمان) عرض تكوين جهاز التعمير على اللجنة الوزارية المختصة فرفضت اللجنة مشروعه، فما كان من الوزير إلا أن أصدر قرارًا بتشكيل الجهاز الخاص بالتعمير، وتعيين رئيسه، وقد انتفخ الجهاز وانتفخت الوزارة بعدد كبير من المستشارين والخبراء أصحاب الامتيازات الهائلة. "ووجه الخطورة ليس فقط في تعيين هؤلاء المستشارين بمخصصات ضخمة، ولكن في قيام هؤلاء المستشارين بالبت في أضخم العمليات، بينما يجب أن يقوم بها موظفون مسئولون ثابتون، يمكن محاسبتهم عند اللزوم، لا أن يقوم بها مستشارون يُعيَّنون بعقود سنوية يجددها أو يلغيها الوزير حسب رغبته". لقد بت هؤلاء المستشارون في عملية أنفاق القناة، وتتكلف 200 مليون جنيه، وعطاءات المساكن الجاهزة وتتكلف 40 مليون جنيه، وغير ذلك من العطاءات الهامة التي يجب أن تخضع للقواعد والأصول.
وثبت أيضًا أمر خطير، فالعمليات التي يتولاها القطاع الخاص لم تعد تخضع في قطاع التعمير عادة لنظام المناقصات، وإنما تعطي عمليات يقوم بتنفيذها، ثم تشكل لجنة تقدر تكاليف العمل الذي تم، وتضيف على التكلفة 10 % "إن هذا الأمر غريب حقًا. إننا بهذا نلغي أساس المقاولات، وهو المنافسة والمظاريف المغلَقة، فكيف يحدث هذا في الوقت الذي نتكلم فيه عن الفساد والانحراف (...) إنني أرجو أن يوقف هذا فورًا؛ لأنه يمثل قمة الفساد،
ولا يمكن لأي شخص أن يوافق على هذا التصرف بأي شكل من الأشكال" (94).

وقد حاول المسئولون في جهاز التعمير أن ينفوا أولاً صحة ما قيل حول أسلوب التعامل مع القطاع الخاص، فاتضح أن بياناتهم مزيفة (انظر الهامش)، ثم ادعوا ثانيًا أن نصيب مقاولي القطاع الخاص في عمليات التعمير (والذي يتصور أنه مجال التلاعب الأساسي) هو نصيب محدود جدًا، ففي عام 1974 كانت نسبة أعمال البناء والتشييد المسندة للقطاع الخاص ـ حسب زعمهم ـ 1.9 % (954 ألف جنيه) مقابل 93 % للقطاع العام و5.1 % لجمعيات الإنشاء والتعمير. والنسب المقابلة في عام 1975 كانت 0.4 % (336 ألف جنيه) و94.7 % ـ على التوالي، وهذا الكلام بين الكذب، إذا معروف تمامًا أن عقود التوريد والمقاولات التي تكلف بها شركات القطاع العام، تحول أغلبها من الباطن إلى موردي ومقاولي القطاع الخاص، دون عقود حكومية. وتجري المحاسبة عليها بعد التوريد أو التشطيب، بأسعار تزيد كثيرًا عمّا كان ممكنًا الإنفاق عليه وقت التعاقد، بحجة أن الأسعار في ارتفاع مستمر (ومقاولو الباطن يتسببون ويبالغون في ارتفاع الأسعار هذا طبعًا).
وكما أوضح عبد السلام الزيات في مجلس الشعب، كان سعر المتر المسطح من الخرسانة عشرةَ جنيهات حتى سنة 1965، ووصل إلى 35 جنيهًا في بداية 1974، وعند التشطيب وصلت المحاسبة عليه إلى 50 جنيهًا، ومن المنتظر أن يصل إلى 60 جنيهًا (95). ولعل هذا يفسر مطالبة أحمد حلمي بدر أن تكون المتابعة في قطاع التعمير عينيه وليس نقدية؛ حتى ينكشف الانحراف.
وكان طَبَعيًّا أن ينتقل الحديث عن انحرافات قطاع التعمير إلى شركة المقاولون العرب (عثمان أحمد عثمان) التي استحوذت على نصيب الأسد من هذه العملية، ودخلت في علاقات متشابكة مع الشركات الأجنبية التي أسهمت بالخبرة والتصميمات أو التنفيذ، ودخلت في الشركة المصرية الإيرانية المشتركة التي كان مفروضًا أن تتولى تنفيذ أعمال ضمن القرض الإيراني قيمتها حوالي 250 مليون جنيه، لقد هُوجم أخطبوط المقاولون العرب وسُئل عن طبيعة العلاقة بين وزير الإسكان والتعمير وأعمال هذه الشركة خارج القطر (شركة المقاولون السعوديون، عثمان أحمد عثمان، وغيرها) ولم تحدث إجابة عن هذا السؤال رغم خطورته السياسية ومخالفته الدستورية، وكشف أن مجلس إدارة "المقاولون العرب" يتألف بالكامل من أسرة وأصدقاء الوزير المشرف على قطاع التعمير والمقاولات. وردَّ عثمان على ذلك ردًا فريدًا لا يُنسَى؛ حيث قال - لا فُضَّ فوه -: "لي الشرف؛ فإن لم يكن لي خير في أقاربي، فمن يكون لي خير فيه؟ إن هؤلاء الناس أحق بشركتهم التي أممت 100 %" (96).
بكل هذه الخلفية، ندرك حقيقية إسهام القيمة المضافة في قطاع التشييد في زيادة الناتج المحلي.
بقي أن نشير إلى قطاع الصناعة والتعدين، وكنا قد ذكرنا في الفصل السابق، أن التركيز على توفير المستلزمات، وعلى مشروعات الإحلال والتجديد في القطاع العام، يبدو كما لو كان إنجازًا إيجابيًا وحيدًا في الخطة الانتقالية، وتدل الأرقام النهائية أن الخطة قد اقتربت من أهدافها في هذه الناحية، ويمنعنا من الإشادة الحارة بهذا الإنجاز، أنه تم في غيبة سياسات صحيحة متكاملة، فتحقق بالتالي في ظل فوضَى الاستيراد والديون، وتحقق بمنطق أن المشكلة الوحيدة المسببة للطاقات العاطلة كانت نقص النقد الأجنبي، وليس أيضًا: الصيانة، أو التنظيم، ونظم الإدارة، والجو السياسي العام. وفي هذا الإطار كانت إنجازات قطاع الصناعة في تلك السنة انتعاشًا مؤقتًا يحمل عوامل هزيمته في السنوات التالية. ويقودنا هذا إلى بحث المتغير الأخير في بحثنا حول مصير الخطة الانتقالية.
هـ ـ تمويل الخطة الانتقالية:
سبق أن أوضحنا التشوُّه البشع في هيكل تمويل الخطة.
إلا أن المسألة أصبحت أكثر بشاعة في التطبيق. ونذكر أن أبا إسماعيل ـ قبل أن يصبح وزيرًا ـ كان يقدم بعض الاقتراحات؛ ليحد من مخاطر الاعتماد المبالَغ فيه جدًا على التمويل الخارجي، فاقترح مصدرين لزيادة الموارد المصرية: المصدر الأول محاولة تأجيل سداد ديون الحرب، أو تقسيطها على آجال طويلة جدًا، مع تخفيض الفوائد المقررة، والمصدر الثاني مطالبة الدولة العربية بزيادة الدعم المقدم لمصر، وقدر الدعم الإضافي المطلوب بـ 1000 مليون جنيه، وقد علقنا يومها على هذه الاقتراحات بأنها جميلة، ولكن تخرج عن يدنا وتتعلق بإرادة الآخرين، وقلنا: إن "الدكتور بحث عن حل في العالم العربي، بل وفي كل أنحاء الأرض، ولكن لم يخطر على باله الحل الذي يبدو أنه في أرضنا، وفي متناول يدنا، ألا وهو أن نزيد حجم الفائض الاقتصادي المحلي الموجه للتنمية" (97). وطبعًا كان مستحيلاً أن يبحث مثل هذا التوجه؛ لأنه يعني معارضة اتجاهات الغزو الخارجي المسمى بالانفتاح، وهو غزو مدعوم بالطبقة الصاعدة التي تلتهم بشراهة (مع حلفائها الخارجيين) فائضنا الاقتصادي.

ولكن حدث على أيَّة حال خلال 1975 أن تبين أمام أي اقتصادي وطني إفلاس الحلول التي قدمها أبو إسماعيل. فقد وصلت بالفعل تدفقات نقدية خارجية تزيد عمّا تمناه أبو إسماعيل، فتضاعف حجم الكارثة، وثبت من جديد أن التدفقات الإضافية ليست حلاً سحريًّا، وليست حلاً محايدًا له أثر إيجابي بالضرورة وفي كل الظروف. ثبت من جديد أن الأساس في مواجهة المصاعب الاقتصادية، يكمن في مجموعة سياسات متكاملة، تكون قادرة على الاعتماد على النفس، واستخدام القروض والمنح الخارجية (إذا كانت ضرورية) من موقع الاستقلال والتصرف الرشيد. وبغير ذلك، كان حتمًا أن تصبح التدفقات الخارجية أداة في يد القوى الخارجية لإحداث مزيد من الاختلال في الأجل القصير، والسيطرة على اتجاه التنمية في الأجلين المتوسط والطويل. إن الاندفاع في تنفيذ الخطة لتحقيق "معجزة" النمو الاقتصادي، بهيكل تمويلها المستهدف، كان كارثة، وتضاعفت الكارثة مع استمرار التزاوج بين "الانفتاح الخارجي والانفتاح الداخلي" الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها في الخارج والداخل، وانعكس هذا في زيادة معدلات الاستهلاك، فانحط معدل الادخار المحلي إلى أقل مما كان مقدرًا، بل هبط الحجم المطلق للادخار المحلي إلى درجة مفزعة ـ في تقدير وزارة التخطيط.
فتقرير وزارة المالية قرر أن الادخار المحلي، هبط إلى 201 مليون جنيه (ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي 5 %)، ولكن وزارة التخطيط سجلت أنه بينما كان المستهدف للادخار المحلي 116 مليون جنيه في الخطة الانتقالية (وهو قدر زهيد جدًا)، حدث أثناء العام أن الادخار المحلي كان تحت الصفر بكثير (الاستثمار ـ العجز الجاري = الادخار المحلي/ أي/ 1150 ـ 1404 = ـ 254 مليون جنيه). وبصورة أخرى، تم إنفاق كل الناتج المحلي على أوجه الاستهلاك النهائي (استهلاك أفراد أو عائلي + استهلاك جماعي أو حكومي)، ولم يكفِ أيضًا الناتج المحلي الإجمالي، فأنفقنا أكثر من دخلنا (بالاستدانة) لتلبية حاجات الاستهلاك وحدَه، الناتج المحلي الإجمالي، فأنفقنا أكثر من دخلنا (بالاستدانة) لتلبية حاجات الاستهلاك وحده. الناتج المحلي الإجمالي (بسعر السوق) كان 4403 مليون جنيه، والاستهلاك النهائي كان 4500 مليون جنيه (أي 102.2 % من الناتج المحلي الإجمالي). وإذا استبعدنا إسهام القناة
وأبو رديس في الناتج المحلي الإجمالي (49 مليون جنيه)، تصبح نسبة الاستهلاك النهائي إلى الناتج المحلي الإجمالي المعدل 103.5 %. إلا أن هناك تقديرًا ثالثًا يقول: إن الادخار المحلي وصل إلى 29 مليون جنيه (أي إلى 0.6 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بـ 4653 مليون جنيه) (98). وقد ألفنا مثل هذا التضارب، وما يهمنا هو الإشارة إلى أن فجوة الادخار ازدادت اتساعًا. والتمويل الخارجي ـ كما أوضحنا ـ كان تحت أسوأ الشروط الاقتصادية والسياسية.

و... هكذا كانت "معجزة" النمو الاقتصادي في أول خطة انفتاحية؛ ولذا ساد المناقشات حول السياسة الاقتصادية في آخر العام، جوٌ من التشاؤم العام، والمعارضة، وضُح هذا في مناقشة بيان رئيس الحكومة أمام مجلس الشعب (أواخر أكتوبر)، ثم في مناقشة مشروع خطة 1976 أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي (أواخر نوفمبر)، ثم في مناقشات خطة وموازنة 1976 أمام مجلس الشعب (أواخر ديسمبر). بات الكل يستشعر الخطر، ويستشعر السخط الجماهيري الشائع، وذوت أحلام الأموال والمساعدات المنهمرة. فوكيل مجلس الشعب (السيد علي السيد) الذي عوَّدنا على البِشر والتفاؤل بهذه الأموال، كان مضطرًا في آخر 1975 إلى أن يبدأ كلمته بالآية الكريمة: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{. وقال "إن هذه الآية الكريمة تذكرتها، وأنا أستمع إلى بيانَي السيدين؛ وزير التخطيط، ووزير المالية" (99). وبالفعل كانت البيانات والتصريحات الرسمية قاسية في صراحتها وعبارتها. وزير المالية كان يستخدم وصف الكارثة للتعبير عن الموقف الاقتصادي، ووزير التخطيط كان يقول: "إننا في مأزق حرج (...) وإن عجزًا كبيرًا قدره 1800 مليون جنيه بالنسبة لدخل يبلغ 4000 مليون جنيه أو يزيد قليلاً لا أسميه عجزًا، وإنما أسميه: انهيارًا لميزان المدفوعات" (100). والوكيل الآخر لمجلس الشعب (جمال العطيفي) كان يحذر من أن مشاكل الغلاء والإسكان تمتد إلى الطبقات المتوسطة ذات الصوت الأكثر ارتفاعًا من الطبقات المكدودة الفقيرة" (أي: أن القلاقل السياسية ستصبح أكثر اتساعًا وأعظم خطرًا) وأضاف: "كيف تتوقع أن تحتفظ بالسيارة التي تركبها أو بالمسكن الأنيق وبالسيجار، بينما الملايين لا تستطيع مواجهة الحد الأدنى للمعيشة" (101).
(3) مشروع خطة 1976 وإطار خطة خمسيَّة:
أ ـ مشروع خطة 1976 كان مجرد امتداد لخطة 1975 التي أسميت خطة انتقالية. نفس التشوهات والنواقص كانت في مشروع الخطة الجديدة. نفس الأولويات تحكمت: الاستكمال ـ والإحلال والتجديد ـ والتعمير. وحجم الاستثمارات الموجهة إلى المشروعات الجديدة كان أيضًا ضئيلاً. الاختلال في هيكل التمويل لم يختلف؛ فالاستثمار المستهدف كان 1350 مليون جنيه (مقابل 1150 مليون جنيه استثمار مقدر في خطة 1975). وابتدع مشروع الخطة- أمام مصاعب التمويل - فكرة تقسيم الاستثمارات إلى شريحتين؛ لأن "مجموع النقد الأجنبي المطلوب لعام 1976 نحو 2400 مليون جنيه، وقد تم (تقدير) توافر نحو 1600 مليون جنيه من مصادر مختلفة، ويؤكد (الترجيح السياسي) إمكانية استكمال الـ 800 مليون جنيه الباقية خلال الأشهر القادمة، وفي ظل هذا التفاوت بين اليقين والترجيح، رُئِيَ توزيع الاستثمارات إلى الشريحتين" (102)، الأولى تبلغ نحو 780 مليون جنيه، وقد خصصت بالفعل لمشروعات محددة، ولجهات الإسناد المنفذة، والشريحة الثانية مؤجلة لحين التأكد من توفر الموارد، وقيمتها 570 مليون جنيه.
واضح - إذًا - من فكرة الشريحتين، وحيثيات وزير التخطيط، أن مشروع خطة 1976 أُعد في ظروف اختناق شديد في التمويل، وفي النقد الأجنبي، وقد قدم مشروع خطة 1976 على أنه برنامج السنة الأولى من الخطة الخمسية (76 ـ 1980)، رغم أن هذه الخطة الخمسية لم تكن قد أُعِدَّت بعدُ، ولكن حرصت وزارة التخطيط على الإشارة إلى الإطار العام المرشَّح لها، فقبل أن الخطة الخمسية ترمي إلى زيادة الدخل القومي بحوالي 60 % (أي: بمعدل نمو سنوي 10 %)، ويتم تحقيق هذا الهدف في إطار تخفيض العجز في ميزان المدفوعات من 33 % من الناتج المحلي الإجمالي إلى 7 % سنة 1980. ولتحقيق هذا، تتطلب الخطة حجمًا من الاستثمارات خلال السنوات الخمس يبلغ 8 بليون جنيه (يأتي 70 % من هذا المبلغ من الخارج)، ويمكن ذلك من رفع معدل الاستثمار إلى 30 % من الناتج عام 1980. وينخفض الاستهلاك (العام والخاص) كنسبة من الناتج من 102 % سنة 1975 إلى 76 % من الناتج المحلي سنة 1980 (أي يرتفع معدل الادخار بالتالي إلى 24 %). والحقيقة أن هذا الإطار بدا كما لو كان يعبر عن تمنيات وزير التخطيط لما ينبغي أن يكون عليه الوضع، أكثر منه كلامًا جادًا حول أهداف واقعية، فالاقتراب من هذه المعدلات كان يفترض استراتيجية للتصنيع، ونمطًا في الاستهلاك وتوزيع الناتج، وسياسات اقتصادية بعيدة تمامًا عن الحاصل. وخاصة فيما يتعلق بإمكانيات رفع الميل الحدي للادخار بالمعدلات المقترحة. وهي مسألة محورية بالنسبة لكل المتغيرات الأخرى.
وبالتأكيد كان وزير التخطيط يدرك إن إطاره المقترح يتطلب سياسات جريئة؛ ولذا تجنب تمامًا أن يحدد السياسات التي يقترحها، كان مكتفيًا بشرح خطورة الاختلالات القائمة، وبضرورة الاتفاق حول هدف إصلاح الاختلالات بمعدلات قريبة من المقترح، "فإذا وافقتم حضراتكم على هذه الأهداف؛ فسوف يكون تحديد السياسة أمرًا سهلاً؛ لأننا في هذه الحالة سنكون على علم بما نريد عمله". وكانت قضية العجز
(أو الانهيار) في ميزان المدفوعات (حسب تعبيره) شاغلاً أساسيًا. "فوفقًا لاستراتيجية التنمية طويلة المدى التي أقرَّ مجلس الوزراء معالمها الرئيسية؛ أمامنا مراحلُ ثلاث متتابعة: الأولى تسمى (اختصارًا): مرحلة إصلاح ميزان المدفوعات، والثانية: (اصطلاحًا أيضًا) مرحلة جذب رءوس الأموال والوصول إلى الإنتاجية الكاملة للقوى البشرية، والثالثة الانطلاق إلى الوصول إلى الأهداف التي تقرر للسنوات الخمس والعشرين القادمة. والمرجو أن تتم المرحلة الأولى (مرحلة إصلاح عجز المدفوعات) قبل نهاية السبعينيات، أي: في خلال سني الخطة الخمسية 1976/ 1980" (102). وزعم تقرير الخطة "أن خطة 1976 تحاول بوصفها السنة الأولى من الخطة الخمسية 76/ 1980، ومن مرحلة إصلاح ميزان المدفوعات ـ الحد من الزيادة في العجز الجاري (...) ولذا فهي تولي اهتمامًا بالمشروعات التي تؤدي إلى علاج العجز في ميزان المدفوعات، وهذه الأولوية هي التي تتميز بها خطة 1976 عن أولويات 1975 (103)، وأكد وزير التخطيط هذه النقطة في بيانه فقال: "إنه أخذ في الاعتبار أثر كل مشروع على العجز الجاري في ميزان المدفوعات الذي يعتبر إصلاحه السمة الأولى من سمات خطة عام 1976". وتحدث تقرير الخطة بما يشبه النقد عن الخطة الانتقالية 74/ 1975 فقال إنها "اعتمدت على الجهود السياسية لمقابلة هذا العجز وتوفير ما يلزم لمواجهته، ورغم فائدة هذه الجهود، ونجاحها حتى الآن في مواجهة الموقف المتفجر، وضرورة استمرارها مستقبلاً دون هوادة أو تراخ، إلا أنه كان واضحًا للخبراء والمختصين أن هذا حل مرحلي لا يمكن الاستمرار فيه إلى الأبد، وأنه من الضروري الانتقال بأسلوب معالجة المشكلة من مرحلة الجري وراء الأزمات لحصرها، وإزالة آثارها، إلى مرحلة البحث المنظم عن مخرج واضح المعالم ذي أبعاد زمنية ومراحلَ تنفيذيَّة".

ج ـ إلا أن هذا الكلام الفخم، كان لا يزيد بدوره عن تمنيات لما يجب أن يكون، فتنفيذه يحتاج إلى مجموعة من السياسات تختلف عن السياسات التي أوصلتنا إلى الانهيار، ووزير التخطيط رفض اقتراح أية سياسات لتحسين الموقف خلال 1976، كما سبق أن رفض اقتراح سياسات لمدى سنوات خطته الخمسية، وقد ألحف الأعضاء (في اللجنة المركزية ومجلس الشعب) في الاستفسار عن هذه السياسات؛ حتى اضطر رئيس الجلسة في مجلس الشعب، إلى توجيه السؤال بنفسه: "إنني أودّ أن أستفسر من السيد الدكتور وزير التخطيط، عن السياسات التي تقترحها الحكومة، فلقد حددت الخطة أهدافًا معينة، نبغي الوصول إليها، والمجلس يهمه أن يعرف السياسات التي يمكن أن تساعد على تحقيق هذه الأهداف؛ حتى يقوم المجلس بمناقشتها".
وقد غمغم الوزير بكلمات غير محددة ولا مفهومة في مجال الرد، فتصور رئيس الجلسة أن الوزير لم يفهم السؤال، فأعاده عليه: "لقد أشار السيد الوزير إلى أن الخطة تهدف إلى الحد من الاستهلاك، والسؤال هنا هو: ما السياسة المحددة التي تؤدي إلى تحقيق ذلك؟ كما أشار سيادته أيضًا إلى أن الخطة تهدف إلى زيادة المدَّخرات، والسؤال هو ما السياسة التي وضعتها الحكومة لتحقيق هذا الهدف؟ إذ من المفروض أن تتقدم الحكومة بالوسائل التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف التي رسمتها في الخطة". ولكن مع هذا الإحكام في الصياغة، والذي لا يقبل إجابات عائمة، قرر الوزير ـ ومعه الحكومة- أن يتجاهل الموضوع صراحة، ويمتنع تمامًا عن أية إجابة أو تعليق (100)!
هذا الموقف من الحكومة، كان يكشف حالة العجز والارتباك التي وصلت إليها، وهو يكشف - في نفس الوقت- أن تحديد السياسات واتخاذ القرارات، لم يعد من صلاحيات الحكومة المصرية وحدها، فصندوق النقد والبنك الدولي جهتان تشاركان مشاركة متزايدة في صياغة السياسات والقرارات، ولم تكن المباحثات معهما قد وصلت إلى نتائجَ مبلوَرة بعد. ويبدو أن السلطات المصرية كانت تأمُل في تلك الفترة في مواقفَ ومعوناتٍ من دول الخليج، تساعد في الحد من شروط الهيئات الدولية.
د ـ وفي غيبة أية تعديلات في السياسة الاقتصادية، كان تقرير خطة 1976 يفخر بأن "الخطة استهدفت ليس فقط وقف التزايد في العجز، وإنما خفضه بنحو 200 مليون جنيه، أي: من حوالي 1400 مليون جنيه متوقعة في سنة 1975 (ومتجاوزة ما كان مستهدفًا في خطة 1975 بنحو 50 مليون جنيه) إلى نحو 1200 مليون جنيه في سنة 1976". ولكن هذا التحسن المستهدف لم يكن نتيجة أي ترشيد للاستيراد (الذي شكت تقارير التخطيط عن المتابعة من انفلات أمره)، ولم يكن لإعادة ضبط أنماط ومعدلات الاستهلاك، أو بسبب مراعاة "أثر كل مشروع (في الخطة) على العجز الجاري في ميزان المدفوعات" ـ كما قيل. باختصار لم يكن التحسن بسبب تعظيم القدرات الذاتية للاقتصاد المصري، أو تغيير السياسات، ولكن كان التحسن المستهدف مستندًا إلى نفس ما تعرض للنقد خلال الخطة الانتقالية، أي: الاعتماد "على الجهود السياسة لمقابلة هذا العجز، وتوفير ما يلزم لمواجهته".
وبشكل أعمَّ، نقول: إن التحسن المستهدف كان بسبب عوامل لا دخل للمخطط المصري في تحققها، فقد استهدفت الخطة زيادة إجمالي الموارد من النقد الأجنبي بمبلغ 355 مليون جنيه (أي: زيادة نحو 46 % عن المستوى الذي كان متوقعًا لسنة 1975). ولكن هذه الزيادة كانت ترجع إلى زيادة الصادرات السلعية من حقول بترول سيناء (بعد عودة أبو رديس) وإلى زيادة الصادات غير المنظورة، المتمثلة في زيادة إيرادات قناة السويس، وقدرت بنحو 140 مليون جنيه. ويقابل هذا أن الخطة استهدفت أن تكون الزيادة في الواردات أقل من هذه الزيادة المقدرة للمتحصلات، فالزيادة المستهدفة في إجمالي الاستخدامات (أي: الواردات، 155 مليون جنيه فقط) كانت تشكل نحو 70 % بالنسبة للاستخدامات المتوقعة عام 1975 إلا أن هذا التحكم في معدل الزيادة للاستخدامات (أو للواردات) لم يكن أيضًا بسبب جهد خاص للسياسات الاقتصادية؛ فهو نتيجة انخفاض الحجم المطلق للواردات الوسيطة، وبالتحديد من البترول والأسمدة (الأول بسبب
أبي رديس، والبند الثاني بسبب الانتهاء من مشروعات الإحلال والتوسع في الإنتاج المحلي). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كان متوقعًا اتجاه الأسعار العالمية إلى الانخفاض في كثير من المستوردات.

وعلى ذلك لم يكن في احتمال خفض العجز الجاري بحوالي 200 مليون جنيه، ما تستحق الحكومة ثناءً من أجله. ونفس الشيء يقال عن حجم ومعدل الادخار المحلي، ونسبة إجمالي الاستهلاك النهائي إلى الناتج المحلي بسعر السوق، فالادخار المحلي كان مستهدفًا في خطة 1975 ألا يتجاوز 116 مليون جنيه، وأصبح مستهدفًا في خطة 1976 أن يكون 196 مليون جنيه، وإذا أزحنا عن الأخير أثر زيادة دخل القناة وأبي رديس؛ نجد أن الادخار المحلي كان في نفس المستوى المنحط، أيضًا كان مستهدفًا أن يستوعب الاستهلاك النهائي 93.9 % من الناتج المحلي الإجمالي، ولكنْ صار المتوقع على آخر السنة، أن يكون الاستهلاك النهائي الفعلي قد ابتلع كل الناتج وتجاوزه، أو لم يعد الناتج يسمح بتغطية الاستهلاك، وغنيٌّ عن البيان، أننا نهتم هنا كالعادة بالاستنتاج العام، وليس بتفاصيل الأرقام والنسب، خاصة وأن المفارقات بلغت مستوى لا يُصدق.. فوفقًا لصورة الموازنة القومية عن عام 1976 بالمقارنة بالمتوقع عام 1975، كان المستهدف كناتج محلي إجمالي (بتكلفة العوامل) يبلغ 4778 مليون جنيه بعد تنفيذ مشروع خطة 1976، وفي تقرير متابعة هذه الخطة، أصبح نفس الرقم ـ بقدرة قادر ـ ممثلاً للناتج المحلي الإجمالي لعام 1975!(104).
المهم - إذًا - هو الاتجاه أو الدلالة العامة، وهي في هذا السياق تؤكد أن كافة الاختلالات الهيكلية التي أصابت خطة 1975 (وعلى رأسها الاختلال البشع في هيكل التمويل) ظلت من المكونات الأصلية لمشروع خطة 1976ـ على عكس ما زعم تقرير الخطة ـ ففي ظل ادخار محلي ضئيل، كان ضروريًّا أن تعتمد الخطة ـ حتى في نطاق الشريحة الأولى ـ على التمويل الخارجي كأساس. ولم يكن ممكنًا أن يختلف الحال، طالما أن السياسات والاعتبارات التي حكمت الخطتين واحدة، بل كان متوقعًا أن تؤدي مواصلة هذه السياسات، إلى مزيد من التدهور في بناء خطة 1976. وحدث هذا فعلاً، في الاتجاهين التاليين:
"ارتكزت الخطة في إعدادها على بعض التعديلات في مفهوم ومسئوليات التخطيط، تكمُن أساسًا في أن التخطيط في المرحلة السابقة، كان يتسم بأنه تخطيط ملزم قانونًا (...) ولا يعني هذا أن يكون التخطيط في ظل الانفتاح الاقتصادي تخطيطًا تأشيريًّا، بل ينبغي أن يكون أداة ضبط وتنسيق بين القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والخدميَّة" (103). وهذا التغير في مفهوم ومسئوليات التخطيط عبر عن استجابة لتدخل البنك الدولي الذي بدأ نشاطه الواسع في عام 1975، على مستوى اتفاقيات القروض الجزئية، وعلى مستوى الاقتصاد الكلي واستراتيجيات النمو، وهو تغير يرتبط أيضًا بما آل إليه القطاع العام (بعد البنوك الأجنبية وإلغاء المؤسسات.. إلخ)، وبما يستهدف من تحول إلى ما يُسمَّى باقتصاد مختلط بدلاً من النظام الاقتصادي الذي يقوده القطاع العام، وقد أدخل الوزير هذا التعديل المخفف لسلطة التخطيط، رغم أنه القائل في مناقشات المجلس أنه "قد يقول البعض إنه لا داعي لوضع خطة مع وجود هذه الصعوبات، فهل هذا أمر معقول، إنني أنادي بالعكس؛ ففي وقت الشدة يجب وضع خطة تسير على أساسها، والمعروف أن كل شخص يدبر أموره وأمواله بدقة وقت الشدة. أما وقت الرخاء، فالأمر يختلِف".
وبعد أن أصبح الاعتماد على التمويل الخارجي؛ كأساس، تقليدًا متكررًا للعام الثاني، كان طبَعيًّا أن يثبت في نص مشروع خطة 1976 أن "المشروعات المرتبط على تمويلها مع جهات أجنبية ويجري تنفيذها خلال 1976 تعطي أولوية خاصة"، ويعني هذا النص ـ في ظل سيادة التمويل الأجنبي ـ أن تحديد أولوية المشروعات انتقل رسميًا إلى الجهات الخارجية المقرضة، وكذلك إلى المستثمرين الأجانب، فقد أكد التقرير في موضع آخر أن استخدام رءوس الأموال العربية والأجنبية على النحو الذي تستهدفه سياسة الانفتاح يفرض "ضرورة التنسيق بين الأولويات الداخلية والمعبر عنها بالخطة القومية، وبين الأولويات التي قد تتطلبها مصادر التمويل الخارجي". وانكشاف هذه الحقيقة آثار الاعتراض المشروع، فقال إبراهيم حلمي عبد الرحمن "أذكر أنني قلت: إن الأولويات قد تعدل نتيجة لحصولنا على أموال من الخارج، ولقد قلت هذا فعلاً، فهل في قول الصراحة خطأ؟!" لم يقل أحد إن الصراحة - أو كشف الحقيقة- خطأ.. موضوع هذه الحقيقة هو الخطأ؛ إذ ماذا بقِي بعد ذلك من الاستقلال الاقتصادي، والتخطيط المركزي، خاصة إذا كان أغلب التمويل يأتي من الخارج؟!
(4) مُناقشات آخر العام:
أ ـ في الواقع كانت مناقشات آخر العام (بيان رئيس الحكومة ومشروعا الخطة والموازنة) حامية ومرة. خطورة العجز وتراكم الديون الخارجية، صارت همًا ثقيلاً جاثمًا على الصدور (رغم أن إبعاد المصيبة على النحو الذي سجلناه في هذا الكتاب لم تكن مُتبيَّنة). ونذكر أن اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، سجلت أن التساؤل يثور عن مدى ملاءمة سياسة الخروج من المأزق، بمزيد من المديونية الخارجية، في وقت بلغت فيه هذه المديونية حجمًا كبيرًا"(105). أيضًا سجل تقرير اللجنة المركزية وتقرير لجنة الخطة في مجلس الشعب، وسجلت المناقشات، كشفًا واضحًا لارتباك الحكومة وعجزها عن وضع وإعلان سياسات محددة. والحقيقة أن كافة المناقشات حول خطة العام التالي، كانت جذورها ممتدة في أرض الواقع الممثل في ممارسات عامين من الانفتاح الاقتصادي، وكانت المناقشات بهذا المعنى تعكس جو المعارضة النامي بين عديد من الأوساط، فالمنتسبون إلى الحكومة، والمنتفعون منها، لم تكن مداخلاتهم أقل حدة أو مرارة من موقف القوَى التي تتحدث باعتبارها معارضة. وقد علقت "الطليعة" أيامها على المناقشات، فتحدثت "عن الفساد الذي استشرى وفاح، وماذا فعلت الحكومة في هذا المجال؟ لقد أعلن السيد رئيس مجلس الوزراء في بيان حكومته أمام مجلس الشعب أن الحكومة ستلتزم (بمواصلة) اتخاذ الإجراءات لمكافحة التسيب والانحراف، وضرب أمثلة بالمضاربة والمغامرة والتهريب والاتجار في السوق السوداء والتلاعب في أقوات الجماهير والتهرب من الضرائب وتكوين ثرواتٍ لا تقوم على الجهد المشروع، وتُبنَى على الفساد. ونحن نسأل بمنتهى الجدية عن المقصود بكلمة (مواصلة). هل يعني هذا أن الحكومة قد اتخذت بالفعل خلال توليها المسئولية عام 1975 إجراءات مشددة ضد كل هذه الأنواع من التسيب والانحراف التي عددها البيان، دون أن يلحظ الشعب شيئًا من هذا؟ (...) لقد أصبحت العمولات مثار الشكوى والتهكُّم من كل المُستثمرين الأجانب والعرب وكل الصحفيين والمراسلين الأجانب، بل إنها أيضًا حديث الشارع في مصر، ومع ذلك فإن ممدوح سالم يقول: (أما بالنسبة للعمولات وما قيل عنها، فأودُّ أن أقول إن الحكومة ليست لديها أية معلومات عن أن شخصًا تقاضَى عمولة، ولم يُتخَذ إجراءٌ ضده)، ثم يضيف: (وإذا كان لدى الصحف أو لدى من نشروا عن موضوع الـ 2000 مليون جنيه عمولات أيُّ دليل، فيمكنهم تقديم هذا الدليل). هل يُعقل مثل هذا الكلام؟! إن الحكومة إذا كانت فعلاً لا تعلم فإنها مصيبة، وإذا كانت تعلم؛ فإن المصيبة أعظم، وللأسف فإننا في الحالة الثانية، أي أن المصيبة أعظم" (106).
كان هذا ما كتبتْه الطليعةُ، وأعتقد أن كافة القوى الوطنية كانت تردد مثل هذا الكلام، وتسخر من ادعاء رئيس الحكومة بأن أنفَه لا تشم كل هذا العفن؛ ولذا شملت مناقشات تلك الفترة هجومًا بالغ العنف على ظاهرة المليونيرات الجدد. نقل عبد السلام الزيات في مناقشته لبيان ممدوح سالم ما نشرته فاينا نشيال تايمز، ونوفيل أوبزرفاتير، وتايم، حول أعداد المليونيرات في مصر، وأنه وصل إلى 500 مليونيرًا. فكان الرقم مفجرًا للهجوم العام، وشاع في مناقشات مجلس الشعب وفي الصحافة تعبير "القطط السِّمان"، وطور التعبير رفعت المحجوب، (وكان الأمين الأول للجنة المركزية) إلى "البقرات السمان" أثناء مناقشات اللجنة للخطة.
ب ـ والحقيقة أن بعض التأمل في دلالة هذا الرقم كان يكشف عمق الانتكاسة في هيكل توزيع الثروة والناتج (رغم أن الرقم في تقديرنا أقل من الواقع). إن كلمة مليونير تعني الرجل الذي يملك ثروة (وليس دخلاً) تزيد قيمتها عن مليون جنيه. فإذا تصورنا أن متوسط ما يملكه الفرد الواحد من هؤلاء الخمسمائة هو مليونان من الجنيهات (وهو فرض متواضع جدًا؛ لأن بعضهم كما نسمع يملك عشرات الملايين) أصبح مجموع الثروة التي يستحوذ عليها هؤلاء 1000 مليون جنيه، وإذا تصورنا أيضًا أنه توجد إلى جوار هؤلاء الخمسمائة ـ بالضرورة ـ شريحةٌ أخرى من أنصاف المليونيرات، وفرضنا فرضًا جُزافيًا (ولكن منطقيًّا)، أن عددهم 1000، وثروة الواحد منهم في المتوسط 500 ألف جنيه فقط، صار حجم ثروة هذه الشريحة الأخرى 500 مليون جنيه، وأمكننا بالتالي أن نقول إن 1500 أسرة تملك ما يناهز 1500 مليون جنيه.. إن الـ 1500 أسرة لا تمثل 0.5 % (كما كان يقال عن مجتمع ما قبل الستينيات)، وإنما أقل من 0.005 %!
وللعلم، فإن حجم الثروات التي استولت عليها الدولة في ظل ثورة 23 يوليو (منذ الإصلاح الزراعي الأول إلى تأميمات الستينيات إلى الحراسات) كان ـ وفق إحدى الدراسات العلمية حول الموضوع ـ كالتالي: الإصلاح الزراعي (203.8 مليون جنيه) + نقل ملكية بعض العقارات للقطاع العام (51.5 مليون جنيه) + الحراسة والمصادرة (25 مليون جنيه)، ومجموع كل هذا 453.9 مليون جنيه فقط لا غير! وقد أوضح صاحب الدراسة "أن هذه التقديرات تمثل الحد الأدنى، إلا أنها على درجة كافية من الضخامة لإيضاح مدى عمق التغير الاجتماعي الذي أحدثته القوانين الاشتراكية؛ سواء في مراكز الثروة في المجتمع المصري، أو في توزيع الدخل القومي بين مختلف طبقات الشعب (107). ولكننا مع ذلك لن نأخذ بهذه التقديرات المتواضعة للدراسة، والتي تمثل الحد الأدنى، فهناك تقدير آخر كان الرئيس جمال عبد الناصر، قد أعلنه عام 1964، هذا التقدير يقول إن الثروات المُؤمَّمَة بلغت قيمتها 1000 مليون جنيه، وقد عقب على هذا عبد الناصر بأنه "لا يتصور، ولا يظن أن أحدًا يتصور، أن المجتمع كان يمكن أن يحتمل ذلك" (108).
ليس مقصودًا من هذا الكلام عرض دراسة عن إعادة توزيع الثروات والدخول، ولكنه مجرد شرح دلالة أن يكون في مصر 500 مليونير (وتؤكد ثانية تصورنا بأن هذا الرقم أقل من الحقيقة، حتى في عام 1975)، ويزيد من خطورة الرقم، أن هذه الطبقة الصاعدة تدين بالولاء لقوَى الغزو الخارجي التي نفختها (بشكل مباشر وغير مباشر) ووفرت لها الحماية.
وقد تساءلت الطليعة أيامها "عما فعلت الحكومة، وعمّا تنوي أن تفعل في مواجهة هذا التمركز المتنامي للثروة في يد حفنة صغيرة، والذي يخلق تناقضًا طبقيًا حادًا؟ إن طبقة المليونيرات الجدد لا تستثمر في الإنتاج، ومع ذلك فكلما تحدثت الحكومة عن الاختلال بين الاستهلاك والإنتاج؛ اتجهت إلى الأجور، وأشارت إلى ارتفاع معدل الزيادة فيها، ولم تشِر بكلمة إلى دخول هؤلاء المليونيرات ومَن يحيط بهم (...). إن السياسة الحازمة، والرشيدة من وجهة نظر المصالح القومية العليا، في مواجهة هؤلاء المليونيرات مسألة لا تمليها فقط الاعتبارات الاجتماعية، ولكن أيضًا الاعتبارات الوطنية والاقتصادية والتنموية" (106).
ويبدو أن الطليعة كانت فاترة في هذا التعليق، فعضو مجلس الشعب (القمص بولس باسيلي ـ وكان مؤيدًا دائمًا للحكومة) قال: إن "الحديث يدور حول الخمسمائة مليونير، الذين نريد ـ وهذا رأيي ـ أن نقيم لهم المشانق في الميادين العامة" (109) وكان طبعيًّا أن يرتبط كل ذلك في النهاية بقضية الغلاء غير المحتمل، وكان ممدوح سالم مصيبًا حين لاحظ بعد مناقشات اللجنة المركزية أن مشكلة الغلاء تقف على قمة اهتمامات أعضاء اللجنة (110)، ولكنه زعم أن هذا الموضوع قمة اهتمامات الحكومة أيضًا دون أن يحدد كالعادة ـ أي سياسات عملية تؤكد جدية الاتجاه (إذا كان قائمًا).
ج ـ وباختصار، كان الجو العام ـ بجملته ـ لا يعكس أبدًا تصديق الناس لمسألة أننا "عبرنا مرحلة الظلام والألم، وندخل اليوم مرحلة النور والأمل" كما قال الرئيس السادات (أكتوبر)، وقد علق رئيس مجلس الوزراء على عضو مجلس الشعب (محمود القاضي) الذي قرر أن الخطة لن تؤدي إلى تنمية الاقتصاد القومي، بل ستؤدي إلى تنمية ثروات بعض الأفراد على حساب غالبية الشعب، وقال: "إنني أعتبر هذا القول موجهًا في الحقيقة إلى الحكومة، وأقرر أن هذه الحكومة لا تخطط لفئة معينة، وإنما تخطط للقاعدة الشعبية الكبيرة والجماهير الكادحة".. وكتبت الطليعة "أن هذا التعليق يعتبر ردًا عليه أيضًا، فنحن نتفق تمامًا مع الدكتور محمود القاضي (....) ومن ناحية أن هذا الكلام موجه إلى الحكومة، فإنه بالقطع موجه إليها. ويعلم الله أننا نقول هذا، وعيننا على أرضنا التي لا زالت محتلة، وعلى محاولات الاحتواء التي تدبرها القوى الإمبريالية لإجهاض دورنا التحرري القيادي"(106).
بقي أن نُشير في ختام هذا الفصل ـ مجرد إشارة ـ إلى دور انتقال أعداد متزايدة من قوة العمل المصرية إلى الدول النفطية، فهذا الانتقال المتزايد (بالطريقة العشوائية التي تم بها، وفي إطار السياسات العامة الممارسة) لعب دورًا تخريبيًّا خطيرًا بالنسبة للاقتصاد المصري، وأسهم إسهامًا أساسيًا في تصفية التوجه الاستقلالي بأقل مقاومة ممكنة، أي أسهم في موازنة عوامل السخط المتصاعدة ضد الغلاء والمليونيرات، وضد تقويض البنية الاقتصادية المستقلة.

هوامش الفصل السابع
"Interview with Henry Kissinger". Business week, (13 – 1 – 1975).
"Interview with Gerald Ford". Time, (13, 1, 1975).
(1) انظر: عادل حسين: النفط من خلال الثورة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1977)، ص ص 47 ـ 48.
أنور السادات، نص الرسالة، مجلة الطليعة، عدد (آذار/ مارس 1975).
انظر: عادل حسين، "لا نطالب بالمساواة المُطلقة، بل بالمساواة في الأعباء"، الطليعة، (عدد آذار/ مارس 1975).
أنور السادات، حديث إلى لوموند، (28/ ظ/ 1975). نقلاً عن مصر وأمريكا، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، مؤسسة الأهرام، 1976)، ص 100.
(2) أنور السادات، لقاء مع العلماء المصريين"، الأهرام (والصحف القاهرية الأخرى)، (13/ 1/ 1975).
(3) أنور السادات، حديث إلى صحيفة البيرق، نقلاً عن الأهرام، (10/ 1/ 1975).
(4) أنور السادات، حديث إلى لوفيجارو، نقلاً عن الأهرام، (25/ 1/ 1975).
(5) أنور السادات، حديث إلى تايمز، نقلاً عن الأهرام، (11/ 2/ 1975).
(6) الأهرام، (30/ 1/ 1975).
(7) بعد تلميحات عديدة، حدث في 2/ 12/ 1974 أن فجر إفرايم كتسير (رئيس دولة إسرائيل) تصريحًا يعترف بأن "لدى إسرائيل طاقة نووية، كما أنها تملك مفاعلين نووين منذ أكثر من عشر سنوات؛ أحدهما في مكان سري قرب ديمونا، والآخر في ناحال سوريك قرب أشدود.. وأن لدى إسرائيل القدرةَ على إنتاج أسلحة نووية، وإذا احتجنا إلى ذلك فسننفذه (معاريف ـ نقلاً عن هيثم الأيوبي، اتفاق فصل القوات الثاني في سيناء 1975، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1975)، ص 209.
وكان السادات يحرك نفس الموضوع في عدة مناسبات، فصرح مثلاً: "إن تقارير المخابرات المصرية، أكدت إلى حد ما الأنباء التي ترددت عن امتلاك إسرائيل لأسلحة ذرية تكنيكية، وأن ذلك خلق موقفًا جديدًا تمامًا، يجب علينا مواجهته"، الأهرام، (8/ 10/ 1974).
وبالنسبة لما قيل حول مشروع بيع مفاعلات أمريكية، انظر الفصل السادس.
(8) الأهرام، (6/ 2/ 1975).
(9) للتفاصيل انظر: M. Golan, The secret conversations, op. cit., pp. 243 – 246، هيثم الأيوبي، مرجع سابق، ص ص 240 ـ 248.
(10) M. Golan, The secret conversations, op. cit., p. 242..
(11) أنور السادات، حديث إلى النهار، نقلاً عن الأهرام، (14/ 4/ 1975).
(12) أنور السادات، انظر نص الخطاب، الطليعة، عدد (أيار/ مايو 1975).
(13) نقلاً عن د. أحمد أبو إسماعيل، جريدة الأخبار، مرجع سابق.
(14) John Waterbury, Egypt 1976, Field staff Reports, Africa, North Africa Series, Vol. XXI, N". 3. p. 6.
(15) د. أحمد أبو إسماعيل، البيان المالي والاقتصادي، مرجع سابق.
(16) محمود أبو وافية، تقرير اللجنة المشتركة، مرجع سابق.
(17) عثمان أحمد عثمان، ندوة تليفزيونية نشر تسجيلها بالأهرام، (15/ 4/ 1975).
(18) أحمد أبو الفتح، جريدة الأخبار، (17/ 4/ 1975).
(19) مصطفى أمين، جريدة الأخبار، (19/ 4/ 1975).
(20) بيان السيد ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة أمام مجلس الشعب (12 مايو 1975).
(21) World Bank, Report N". 870 a – EGT, Op. cit., P. 28.
(22) مصدر الأرقام وزارة المالية؛ وفقًا لوزارة التخطيط كان الرقمان المقابلان 381، و640 مليون جنيه و30 مليونًا (1972) و82 مليونًا (1973).
(23) World Bank Arab Republic of Egypt (Economic Report N". 1624 – EGT, (March 22, 1977), For official use only (Its *******s may not be disclosed without world bank authorization), P. 4.
(24) Ibid p. 4.
(25) انظر: البنك المركزي المصري، تقرير مرفوع إلى مجلس الشعب عن الأوضاع النقدية والائتمانية، خلال العام المالي 1975 ـ مارس 1976، (تقرير محظور النشر)، ص 15.
(26) وزارة التخطيط، التقرير المبدئي لمتابعة الخطة العامة للدولة عن عام 1975 (17/ 3/ 1976). مُذكرة رقم 19، ص 5.
(27) نشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن الأسعار.
(28) حديث خطير لوزير المالية إلى إبراهيم نافع، الأهرام، (22/ 8/ 1975.
(29) د. زكي شافعي، حديث إلى محمود المراغي"، روز اليوسف (9فبراير 1976).
(30) ممدوح سالم: مضبطة الجلسة 5 (صباح 9/ 11/ 1975) الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(31) تختلف أرقام التجارة الخارجية بين مصدر الموازنة النقدية (وزارة المالية) ومصدر ميزان المدفوعات (البنك المركزي)، ويرجع الاختلاف إلى اختلاف العرض الذي تعمل له كل جهة، فعلى جانب التصدير ترسل كل جهة إلى البنوك استمارة خاصة بمتابعتها، ولا تلتزم بنفس التبويب أو درجة الشمول، ويجري البنك المركزي في نهاية الفترة على قيمة المتحصِّلات بعض التسويات، خاصة فيما يتعلَّق بالقطن والبترول الخام. ومن الأسباب الهامة في اختلاف أرقام الموازنة النقدية في المدفوعات عن أرقام الواردات ما تتضمنه الأولى من المُنفق على الطوارئ والمتنوعات بالكامل، بالرغم من أن هذا الإنفاق يشتمل على مصروفات غير منظورة بطبيعتها، وتدخل ضمن البنود غير المنظورة في إحصاءات ميزان المدفوعات، كما أن عملية الخصم من الحصص النقدية وإصدار الموافقات النقدية، وفتح الاعتمادات، ما هي إلا مجرد عمليات دفترية فقط ويمكن أن تتم دون أن يستتبع ذلك الاستيراد الفعلي، أو يستخدم جزء فقط من الاعتماد المفتوح وتحول دون تنفيذ الباقي عوائقُ أخرى، ويعني كل هذا أن أرقام الصادرات أقل في الموازنة النقدية، وأرقام الواردات أعلى ـ ونظرًا لأن تقديرات الموازنة النقدية هي التي سبق الأخذ بها عند إعداد خطة 1975؛ فقد استخدمنا ـ في هذا المقام ـ بيانها؛ لحساب مدى التباين في التنفيذ من المقدر ـ والمصدر هنا: وزارة المالية ـ تقرير متابعة تنفيذ الموازنة النقدية، حسب المركز في 21/ 12/ 1975، والصادر في (24/ 2/ 76).
(32) بمتابعة الصحف في هذا العام يلاحظ أن مشكلة التكدس أصبحت غريبة، في أوائل العام (30 يناير) بحث مجلس الوزراء المشكلة ـ (5 مارس) تابعت اللجنة الوزارية للنقل والمواصلات بحث الإجراءات المُتَّخذَة لإخلاء أرصفة الميناء وإزالة التكدس ـ (22 آذار/ مارس) زار عبد العزيز حجازي بنفسه ميناء الإسكندرية لمدة ساعتين؛ لبحث المشكلة على الطبيعة ـ (11 مايو) كثَّفت النيابة الإدارية جهودَها لبحث جميع البلاغات الخاصة بتكدُّس البضائع.. (في يونيو ويوليو) أُشيع أن المشكلة قد انتهت، والبحث يدور حول وضع خطة تمنع تكرار الظاهرة ـ (8 آب/ أغسطس) تم الاعتراف "بعودة" التكدس، وأُعلِن أن القوات المسلحة، تقرر إشراكها بقوات رمزية لعلاج المشكلة ـ وفي بداية 1976 نُشر أن ممدوح سالم يبحث تقريرًا عن التكدس بميناء الإسكندرية!
(33) Customs Data, Arab republic of Egypt, (Cairo: Ministry of Planning, February 1976), Memorandum N 112.
(34) وزارة التخطيط، مذكرة رقم 19، مرجع سابق، ص 8 ـ 9.
(35) تقرير البنك المركزي، مرجع سابق، هامش رقم (30)، ص 21 ـ 22.
(36) المرجع السابق، ص 30.
(37) وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري، كانت التسديدات والتفويضاتauthorization الجديدة لاستخدام قروض خارجية مصرفية (كانون ثان/ يناير ـ تشرين أول/ أكتوبر) بملايين الجنيهات كالتالي:
تسديدات
خطابات الاعتماد الجديدة المصرح بها
يناير
فبراير
مارس
أبريل
مايو
يونيو
يوليو
أغسطس
سبتمبر
أكتوبر
75
62
45.2
60.7
41.4
35.2
137.1
70.4
76.5
40.1
80.3
46.5
56.5
60
35
68
59.5
45.2
45.6
19.6
677
487.4


(38) المصدر في أرقام هذا الجزء ـ ما لم يذكر غير ذلك ـ البنك الدولي:
Report N". 1815 EGT., Vol. IV, Op. cit.,
والرقمان المتناقضان هنا عن نفس التقرير: الأول بند 16.28 والثاني بند 23.
(39) يمكن - على ضوء الأرقام السابقة - حساب صافي التسهيلات المصرفية لعام 1975 مثلاً كالتالي: 2125 ـ 1996 = 129 مليون دولار.
(40) وزارة التخطيط، التقرير الثاني عن متابعة الخطة والموقف العام، في منتصف 1975، (القاهرة: وزارة التخطيط، أغسطس 1975).
(41) وزارة التخطيط: مذكرة رقم 19، مرجع سابق، ص 2.
(42) انظر:
World Bank, Report N', 1624 – EGT, op. cit. Statistical Appendix, Table 4, 5..
(43) Ibid., P. 1. (48)
(44) تدل تصريحات وزير المالية في البيان المالي، أن ودِيعتَي السعودية والكويت، وصلتا في شهر يونيو. ولكن كان تاريخ مشروع القانون بالإذن لوزير المالية بافتراض قيمة وديعتي المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، لدى البنك المركزي المصري ـ محولاً على اللجنة الاقتصادية، ومكتب لجنة الخطة والموازنة بتاريخ 22 نوفمبر 1975. قد يفسر هذا بأن فترة زمنية انقضت بين الوعد بإيداع الودائع، وبين السماح الفعلي للحكومة باقتراضها في تشرين ثان/ نوفمبر. على أيَّة حال، تشير إلى أن استخدام الودائع، جاء بعد اتفاقية الفصل الثاني للقوات. أيضًا قد يُفَسَّر تضاربُ التواريخ، بأن استخدامًا جزئيًّا للودائع قد تم قبل استكمال الإجراءات القانونية (انظر الهامش رقم 53). والله أعلم!
(45) أنور السادات: حديث إلى النهار، نقلاً عن الأهرام، (18/ 6/ 1975).
(46) أنور السادات: حديث إلى صحف هيرست (الأمريكية)، نقلاً عن الأهرام، (10/ 7/ 1975).
(47) انظر حديث فورد في: New York Times, (8 – 8 – 1975).
(48) عن نص اتفاقية القرض مع إمارة "أبو ظبي"، ونص اتفاقية القرض مع قطر، الجريدة الرسمية، (25/ 3/ 1976) العدد 13، ويُلاحظ أن اتفاقية قطر (المُوقَّعة بتاريخ 23 أغسطس) كانت تقضي بأن يتم سحب الدفعة الأولى في أول سبتمبر، رغم أن القرار الجمهوري صادر برئاسة الجمهورية في 21 كانون أول/ ديسمبر 1975، والنشر في الجريدة الرسميَّة كان في (25 آذار/ مارس 76).
(49) نقلاً عن سليم اللوزي، في حديثه مع الرئيس أنور السادات، الحوادث، (2/ 2/ 1976).
(50) ننقل هنا تعليق ووتر بيري: "حتى ممولي مصر (مثل المملكة العربية السعودية) الذين قد يريدون حلاً للصراع بمساندة أمريكية، حرصوا - بكياسة - على عدم الالتزام بموقف في قضية الفصل الثاني للقوات؛ على أساس أنه لا داعي ـ في هذه اللحظة الحرجة ـ لإنهاء عزلة مصر في العالم العربي؛ حيث أن أهداف السعودية نحو مصر ـ كما أصبح واضحًا الآن إلى حد كبير ـ يتألف من الوصول بدورها في الشئون العربية إلى الحد الأدنى؛ (فالسعوديون لا يمكن أن ينسوا عُزلتهم الخاصة حين وضع عبد الناصر مصر في صدارة القومية العربية الراديكالية)، إنهم يساندون النظام المعتدل للرئيس السادات، ولكنهم لا يساعدون مصر للخروج من متاعبها الاقتصادية الأساسية، وهم يشجعون التغير في ارتباطات مصر، من الاعتماد على الاتحاد السوفيتي إلى الاعتماد على الولايات المتحدة وعلى العربية السعودية نفسها. وهذه الأهداف بالتأكيد ليست متعارضة مع أهداف السياسة الأمريكية".
Waterbury, Egypt 1976, op. cit., p. 6.
(51) المصدر: بيانات البنك المركزي المصري (بيانات غير منشورة).
(52) أنور السادات: حديث إلى السياسة (الكويتية)، نقلاً عن الأهرام، (8/ 1/ 1976).
(53) نص المذكرة كان محصورًا توزيعه بين كبار المسئولين ـ ولكن يمكن الرجوع إلى العرض الوافي لمضمون المذكرة الذي سربته السلطات للصحف، وأفضل عرض منشور في الأهرام، (9/ 6/ 1975).
(54) نص المذكرة كان محصورًا توزيعه بين كبار المسئولين ـ ولكن يمكن الرجوع إلى ما سربته السلطات من هذه المذكرة ونُشر في الجمهورية، (12/ 6/ 1975).
(55) سيد مرعي: مضبطة الجلسة 66 (5/ 7/ 1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(56) د. جمال العُطيفي: "الرد على بيان ممدوح سالم" (8/ 11/ 1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(57) نص القانون: الجريدة الرسمية، (25/ 9/ 1975)، العدد 39.
(58) World Bank, Report N", 1624 – EGT., Op. Cit., P. 14.
(59) نص القانون: الجريدة الرسميَّة (18/ 9/ 1975)، العدد 38.
(60) حضر المؤلف هذه المناقشات، ويمكن الرجوع إلى عرض جيد لها في الأهرام الاقتصادي عدد (أول أيلول/ سبتمبر 1975) بعنوان "حول إلغاء المؤسسات العامة".
(61) World Bank. Report N". 1624 – EGT.. Op. cit.. P. 14.
(62) عادل حسين، "لماذا نعارض بيع أسهم القطاع العام؟"، الطليعة عدد (يونيو 1975)، المقال مُوقَّع باسم الطليعة؛ باعتباره موقفًا مُعلنًا باسم أسرة التحرير.
(63) المذكرة نقلاً عن الأهرام الاقتصادي عدد (أول أيلول/ سبتمبر 1975)، بعنوان "بيع أسهم القطاع العام: تنمية أم تصفية؟"
(69) ننقل هنا على سبيل المثال عن نبيل الصباغ. والنقاط التي اقترح أن يناقشها اتحاد العمال هي:
1- رفض أولويات الاكتتاب التي حدَّدها القرار الجمهوري رقم 262 لسنة 1975؛ لأنه يسلب المساهمين القُدامَى في الشركات المشتركة حقًا من حقوقهم؛ حيث إنهم أولى بالاكتتاب في أية زيادة جديدة في رأس المال. كلٌّ بنسبة ملكيته السابقة، "فهذا أقرب إلى سياسة الانفتاح".
2- إذا اقتصرت زيادة رأس المال على العملة المحلية، فإنها لن تأتي بكل الفائدة المرجوة؛ لأن عملية التوسعات والإحلال والإبدال، تحتاج إلى نقد أجنبي، لماذا – إذًا - لا نكون أكثر مرونة، ونطرح حصة ولو 10 % أو 20 % من رأسمال الشركات العامة بالعُملة الصعبة؛ ليقتصر الاكتتاب على المواطنين المقيمين وغير المقيمين الذين يعملون في الخارج.
3- بالنسبة للشركات التي يمتلكها القطاع العام بمفرده، ما المانع
لو طُرحت حصةٌ من زيادة رأسمال هذه الشركات لاكتتاب العاملين فيها؟

4- وبخصوص حق الاكتتاب للمصريين، فلا مانع أيضًا من أن يمتد ليشمل المهاجرين؛ لكي نستفيد من مُدخراتهم بالعملات الأجنبية(68).
ويُلاحظ أن هذا الاتجاه، لا يمانع في مبدأ المراحل، والبرنامج المُقدَّم هنا، يسهل إدراك أنه خطوة نحو "الانفتاح الكامل". ولكنه يرفض مرحلة القرار 262 لأنه يريد أن تمتد مرحلة الهجوم الأولى على كل الجبهات: شركات القطاع العام تُفتح بلا حدود أمام القطاع الخاص ـ القطاع العام 100 % يُفتح للعاملين ـ الإلحاح على الإسهام بالنقد الأجنبي ـ وإذا سمح للمهاجر (وهو نصف أجنبي، أو أجنبي باسم مصري) أن يدخل اللعبة؛ فالباقي يصبح سهلاً. نبيل الصباغ، باب سوق المال، "شركات القطاع العام ليست للبيع.. ولكن للتطوير". الأهرام الاقتصادي، (أول أغسطس/ آب، 1975).
(70) نص القانون: الجريدة الرسمية، (25/ 9/ 1975)، العدد 39.
(71) حضر المؤلف جلسات اللجنة الاقتصادية، ويمكن الرجوع إلى بعض ما جاء بها كما نُشر في الأهرام الاقتصادي عدد (أول أغسطس 1975)، تحت عنوان "نقاش ساخن حول الجهاز المصرفي".
(72) راجع "البنوك" ملحق خاص بجريدة الأهرام، (21/ 12/ 1974).
(73) كان قد صدر قرارٌ برفع الحد الأقصى لودائع التوفير بالبنوك (28/ 3/ 1974)، كما تم رفع سعر الفائدة لشهادات الاستثمار ذات القيمة المتزايدة إلى 6 % سنويًا (1/ 1/ 1975) كما تقرر رفع سعر الفائدة على ودائع التوفير في البنوك ليصبح
4% (28/ 10/ 1974) ـ بدلاً من 2.5 %، وزيادة الحد الأقصى للودائع إلى 10 آلاف جنيه.

(74) وزارة المالية، متابعة الموازنة النقدية (1975). (غير منشورة).
(75) تقرير البنك المركزي، مرجع سابق، هامش (30)، ص 31.
(76) بالنسبة للسيد ممدوح سالم. انظر مثلاً مضبطة مجلس الشعب (9/ 11/ 1975) مرجع سابق؛ حيث قال: "إن أبسط شيء لتشجيع السوق الموازية هو وقف الاستيراد دون تحويل عملة، فالنقود والمدخرات التي يشترون بها الأشياء العينية من الخارج ستحول إلى هنا، وبالتالي ستزيد السوق الموازية".
(77) زكريا توفيق عبد الفتاح، مؤتمر صحفي، الأخبار، (24/ 10/ 1975).
(78) زكريا توفيق عبد الفتاح عن (عادل حسين: "الحكومة و... الديون ـ التنمية المليونيرات"، الطليعة عدد (شباط/ فبراير 1976).
(79) بيان السيد ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة أمام مجلس الشعب، (29/ 10/ 1975).
(80) البيانات الرسمية لوزارة الاقتصاد والتعاون الاقتصادي، (الهيئة العامة للاستثمار العربي والأجنبي والمناطق الحرة، 1976).
(81) عادل حسين، "رؤية نقدية لبيان الحكومة"، الطليعة عدد (حُزيران/ يونيو 1975).
بعد تبدد الأحلام التي رُوِّجت في بداية 1974 (انظر الفصل السادس) حول تدفُّق الأموال العربية والأمريكية، ظلَّ من لا يريدون أن يفيقوا متعلقين بمنظر النفط الذي سيتدفق من الصحارَى المصرية (على يد الشركات الأمريكية) وعلَّق رئيس تحرير الأهرام الاقتصادي على هذه الظاهرة المَرَضية على النحو التالي: "الواقع أن هذا التمني البترولي الذي لا يفترق في شيء عن أحلام اليقظة، قد أصبح مسيطرًا لدرجة كبيرة على فكر المسئولين، وكذلك على الطبقات العريضة من شعبنا، وهو ما نعتقد أنه يشكل خطورة على مسار التنمية في بلدنا.. ونحن لا نودُّ أن نسيطر على التنمية في بلادنا ما يمكن أن نسميَّه بعُقدة البترول، ونقول عقدة؛ لأنه يبدو أن القفزة الواسعة التي حققها الثراء العربي من حولنا نتيجة للبترول، قد أصابتنا بدرجة كبيرة من التعقيد، وأصبحنا نعتقد أن الأمل الأكبر في تحقيق الرخاء للشعب المصري وتعويضه عمَّا تحمله من تضحيات جِسام، وتحقيق مستوى من الرخاء له يماثل ما أصبح إخوته العرب يتمتعون به، كل ذلك رهنُ اكتشاف البترول" وقد اضطر الكاتب إلى تذكير المسئولين بالحقائق الأولية: "فإنتاج كل من ليبيا والكويت وقَطر من الزيت الخام يبلغ حوالي 90 مليون ـ 130 مليون ـ 25 مليونًا من الأطنان في السنة على التوالي. ومن المعروف أيضًا أن تعداد السكان في تلك الدول الثلاث على الترتيب، هو حوالي 1.750.000 ـ 750.000 ـ 250.000 نسمة، وكذلك المعروف أن تعداد مصر يبلغ حوالي 37 مليون نسمةـ وبعملية حسابية بسيطة، نتبيَّن أنه حتى تحقق مصر مستوى الثراء البترولي لليبيا؛ يجب أن نستخرج في السنة 1890 مليون طن، وحتى تحقق مستوى ثراء قطر؛ فيلزمها استخراج 3750 مليون طن في السنة، وحتى تحقق مستوى ثراء الكويت؛ يجب أن يصل إنتاج الزيت الخام إلى 6500 مليون طن في السنة. هذا مع ملاحظة أن الإنتاج العالمي من الزيت الخام يبلغ حوالي 2900 مليون طن في السنة، وأن إنتاج مصر من الزيت الخام قد بلغ - في النصف الأول من عام 1974 - حوالي 3.5 مليون طن، وأن أقصَى الآمال الواقعية أن تصل مصر إلى إنتاج 50 مليون طن من الزيت الخام في السنة" أ. د. لطفي عبد العظيم، "التنمية وعقدة البترول"، الأهرام الاقتصادي، عدد (كانون ثاني/ يناير 1975).
(82) في البيان الأول لممدوح سالم أمام مجلس الشعب، أسقط التزام حكومته بتعهد حكومة حجازي بوضع خطة خمسية، بل بدا في بيانها أنها لا تفكر في الموضوع، فجاء في إحدى الفقرات: "إنه نظرًا لأن التغييرات في الداخل في تطور مستمر وسريع؛ فسيعمل جهاز التخطيط بالتعاون مع الوزارات المعنية على إقامة نظم للتخطيط قصيرة المدى، قادرة على متابعة التنفيذ على فترات سريعة، مع إعادة تقدير الموقف والتنبؤ بالأحداث المتوقعة سلفًا، واتخاذ الإجراءات اللازمة في حدود السياسات العامة للدولة"، وهذا الكلام كان يعكس أن مجال التركيز في اهتمام الحكومة، هو التخطيط قصير الأمد والابتعاد من جديد عن فكرة التخطيط المتوسط والطويل الأمد. وبالنسبة لخطة 1975 الانتقالية، أعلن بيان الحكومة في هذا الشأن فقرة غير واضحة فقال: "إن الوزارة تضع بين يدي المجلس وهي تعرض سياستها عزمها على التقييم المستمر لعناصر الخطة الانتقالية وفروضها استجابة لكل هذه الظروف وأداء لمُهمتها الرئيسة في تصحيح المسار".. وقد أوحت هذه العبارة بأن الحكومة تنوي إدخال تعديلات أساسية، خاصة إذا كان البيان يقول إن التعديلات "استجابة لكل هذه الظروف"، وكان المقصود بكل هذه الظروف أن "العمل الوطني قد تعرض لصعوبات وتحديات والجماهير، قد بلغت شكواها من ارتفاع الأسعار وصعوبة الحصول على بعض الخدمات إلى الحد الذي نعرفه جميعًا". ولكن لم يحدث طبعًا أي تعديل، إلا في اتجاه مزيد من التدهور أو التراجع أمام قوَى الغزو الخارجي.
(83) World Bank. Report N" 1264 – EGT, op. Cit., pp. 1 – 2.
(84) World Bank, Report N". 870 a – EGT, op. cit., statistical appendix, Table 5.6.
(85) كان عضو مجْلس الشعب - أحمد منصور سليمان - قدَّم سؤالاً إلى وزير المالية، تضمَّن عرضًا لعديد من الأمثلة التي تصورها العضو؛ أرقامًا مُتضارِبة أو غير معقولة، وتلقَّى العضو إجاباتٍ على كل تساؤلاته (معقولة أو غير معقولة،
لا يهُم) إلا التساؤل الذي شاركناه فيه هنا، حول الإنفاق الاستثماري عام 1975. انظر: لجنة الخطوة والموازنة، التقرير 33، "بشأن السؤال الموجَّه إلى السيد الدكتور وزير المالية، من السيد العضو الدكتور أحمد منصور سليمان، مساعد، عن السنة المالية 1976 والإجابة عنه)"، الفصل التشريعي الأول، (17/ 6/ 1976) ص 13 ـ 14.

(86) World Bank. Report N". 1624 – EGT, Op. cit., statistical appendix., Table 2.3 and table 2.4.
وأشار التقرير إلى أن مرجع الجدول الأول: وزارة التخطيط والبنك المركزي، وتقديرات بعثة البنك الدولي، ومرجع الجدول الثاني: وزارة التخطيط والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
(87) تقرير بعثة الصندوق عام 1977.
Appenidx III, Table 22, 23 (Source: Ministry of planning) and 31 (Source: Ministry of finance).
(88) انظر: وزارة التخطيط، مذكرة 19، مرجع سابق، ص 25.
(89) المرجع السابق، ص 19.
(90) "تقرير لجنة الخطة والموازنة، عن مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة، للسنة المالية 1976، مضبطة الجلسة 13، (22/ 12/ 1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(91) أحمد حلمي بدر، "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة عن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1976"، مضبطة الجلسة 17، (28/ 12/ 1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(92) د. محمود القاضي، "بدء مناقشة تقرير اللجنة الخاصة لدراسة بيان السيد رئيس مجلس الوزراء"، مضبطة الجلسة 31 (10/ 2/ 1976)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب ـ انظر أيضًا مضبطة الجلسة 32 (11/ 2/ 1976)، وبها ردُّ وزير الإسكان والتعمير على ما جاء في كلمة محمود القاضي. تعقيب القاضي على الوزير مُثبَت في نفس المضبطة.
(93) تولت لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير، دراسة الموضوعات التي أثارها د. محمود القاضي، وردِّ عثمان أحمد عثمان عليها، واعتمدت اللجنة في ردها على المعلومات التي قدمها "المتهمون" في جهاز التعمير وشركة "المقاولون العرب"، فكانت في موقف المحامي وليس الحَكَم. لم تجرِ اللجنةُ أي بحث حول حقيقة واكتمال البيانات المُقدَّمة من المتهمين،
ولم تلجأ إلى المصادر الأخرى في الدولة، أو للزيارات الميدانية، فجاء تقرير اللجنة دفاعًا حارًا عن كل ما يتم في قطاع التعمير، رغم أن رئيس اللجنة أحمد حلمي بدر كان صاحب مواقفَ معلنة عن فضائح التعمير (كما أشرنا) وقدم تقريرًا عن هذا الموضوع في فبراير 1975، وطلب تدخل مجلس الشعب، ورئيس مجلس الشعب، ورئيس مجلس الوزراء، ولكنه غيَّر موقفَه كليةً، بعد أربعة أشهر، وسبحان مغيِّر الأحوال، ولكن الملاحظ أن المناصب توالت عليه منذ ذلك التاريخ. ورغم كل ذلك جاء في هذه النقطة حول إسناد عمليات للقطاع الخاص، على أساس محاسبة المقاول "بالتراضي" بعد انتهاء العملية، وسجَّل ما يلي: أثبتت اللجنة أنه جاء في أقوال رئيس مجلس الوزراء، أنه: "بالنسبة لموضوع المناقصات لمقاول القطاع الخاص، فنحن هنا نحتم تقديم العطاءات والمناقصات في جميع أعمالنا، ولم يصلْ إلى علمي وحتى تلك اللحظة، أن هناك شركاتٍ من القطاع الخاص، أخذت بعض العمليات بلا دخول في مناقصات" وكان هذا كلامًا مسئولاً من رئيس الحكومة، يدرك خطورة الاعتراف بأنّ أسلوب العمل كان على غير هذا النحو. وسار في نفس الاتجاه ممثلو الوزارة بعد ترتيب خطتهم في الدفاع، فأثبت تقرير اللجنة (الصادر بعد شهرين من إثارة الموضوع) أنه "جاء بالمذكرة والأوراق المقدمة من الوزارة، وفي المناقشات التي دارت في اللجنة، أن العمليات التي أُسندِت إلى القطاع الخاص كانت عن طريق مناقصات سنة 1974 وحتى 25/ 12/ 1975". وصدقت اللجنة ذلك، رغم أن المتهم الأول (العليم بحقيقة ما يجري) سبق أن اعترف بإسناد العمليات للقطاع الخاص، دون مناقصات! وقد تورَّط عثمان أحمد عثمان في هذه السقطة أثناء لحظة ارتباكه أمام الهجمة المفاجئة (11/ 2). اعترف الوزير بأنه "حدد أرباحًا للقطاع العام نسبتها
25% زيادة على المصاريف الفعلية، بينما حددنا نسبة 10% تزيد على المصاريف الفعلية للقطاع الخاص، ومعنى ذلك أن يعملَ القطاعان - العام والخاص - جنبًا إلى جنب بنفس المواصفات.. إن هذه النسبة التي تُمنح للقطاع الخاص والقطاع العام في مجال المقاولات وهي 10 و25 % معروفة، وإنني أدعو أي مقاول من القطاع الخاص للعمل معنا، وأمنحه هذا الامتياز والتشجيع، ولا شك أنه سوف يعمل (طبعًا) وهذا هو الحل الوحيد لبناء بلدنا؛ سواء بالنسبة لقطاع الإسكان،
أو بالنسبة لغيره". وقد اضطرت لجنة مجلس الشعب إلى الإشارة من بعيد، إلى أن اعتراف عثمان يبدو متعارضًا مع ما سجله ممدوح سالم، ومع ما قدمه مسئولو الوزارة، ولكن كان طبَعيًّا ـ بعد الإشارة ـ أن تمتنع عن أي تعليق؛ إذ ماذا يمكن أن يقول أي تعليق إلا الطعن ـ أو على الأقل الشك ـ في كافة بيانات الوزارة؟!

انظر: لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير ـ التقرير الثاني، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب (15/ 4/ 1976)، ص 28 ـ 32.
(94) عبد السلام الزيات، "بدء مناقشة بيان اللجنة".. مضبطة الجلسة 31، مرجع سابق.
(95) عثمان أحمد عثمان، "بيان السيد وزير الإسكان والتعمير"، مضبطة الجلسة 32 (11/ 2/ 1976) الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(96) عادل حسين، الطليعة عدد (نيسان/ أبريل 1975)، مرجع سابق.
(97) تقدير وزارة المالية: البيان المالي والاقتصادي، مرجع سابق: تقدير وزارة التخطيط، د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن: خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1976، (القاهرة: وزارة التخطيط 1975)، التقدير الثالث: تقرير البنك الدولي.
World Bank, Report N" 1624 – EGT, Op. cit., table 23.
ومصدره: وزارة التخطيط والبنك المركزي، وتقديرات بعثة البنك الدولي.
(98) د. السيد علي السيد: "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة لمشروع الموازنة العامة لميزانية 1976"، مضبطة الجلسة 20 (30/ 12/ 1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(99) د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن: "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة لمشروع الموازنة العامة لميزانية 1976"، مضبطة الجلسة 16 (28/ 12/ 1975) الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(100) د. جمال العطيفي: مضبطة الجلسة 20، الفصل التشريعي الأول (مرجع سابق).
(101) د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن: "بيان السيد الدكتور وزير التخطيط عن مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1976"، مضبطة الجلسة 10 (25/ 11/ 1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(102) وزارة التخطيط، خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1976، مرجع سابق.
(103) انظر خطة التنمية لعام 1976 المرجع السابق، جدول رقم 18، وقارنه بجدول تطور الدخل المحلي الإجمالي في عامَي 1975 و1976، وكذا كل أرقام المتابعة المتعلقة بالموضوع والواردة بالتقرير المبدئي، لمتابعة تنفيذ خطة عام 1976، (القاهرة. وزارة التخطيط، يوليو 1977).
(104) تقرير اللجنة المركزية عن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، (القاهرة: اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، 1975)، ص 8، جاء في التقرير أيضًا: "لا نريد بداهَةً أن نرفض الالتجاء إلى المديونية الخارجية، للمساهمة في تمويل التنمية الاقتصادية، وإنما يلزم أن نضع الضوابط الضرورية لترشيد هذه السياسة، ونخص منها بالذكر ما يلي:
1- مدى أعباء الديون الخارجية، بما في ذلك الفوائد ومواعيد سدادها أو شروط تحويل الأرباح إلى الخارج.
2- التدقيق في استخدام هذه الديون؛ بحيث لا تشارك في تمويل نفقات جارية، بل في تمويل الاستثمارات التي تسهم في رفع المقدرة الإنتاجية مع التركيز على الاستثمارات ذات العائد السريع.
3- قدرة الاقتصاد القومي على استيعاب الديون الخارجية.
4- العلاقة بين عجز ميزان المدفوعات وجذب رءوس الأموال الأجنبية؛ إذ يجب أن نلاحظ أن زيادة العجز في ميزان المدفوعات تؤدي بالضرورة إلى عدم إقبال رءوس الأموال الأجنبية على مصر.
ونص التقرير - في موضع آخر - على أن يكون الالتجاء إلى رءوس الأموال العربية والأجنبية اللازمة لتمويل هذه الخطة، طبقًا للأولويات التالية:
(*أ) القروض غير المشروطة من الحكومات الأجنبية.
(*ب) قروض المؤسسات الدولية لمشروعات التنمية.
(*ج) المشروعات الحكومية المشتركة.
(*د) قروض ومشروعات رأس المال الخاص؛ العربي والأجنبي (ص 24).
هذا الموقف كان يعكس تنبهًا إلى خطورة تطورات الدَّيْن الخارجي، وبالتالي كان يعكس نقدًا وقلقًا، ونعتقد أنه يعكس أيضًا نقص المعلومات.
(105) عادل حسين، "الحكومة و... الديون... إلخ"، الطليعة (فبراير 1976)، مرجع سابق.
(106) د. حسين إبراهيم الغمري، "دراسة الطلب وتقرير الاستهلاك خلال خطة التنمية والتحول الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة"، (رسالة مقدمة للحصول على درجة دكتوراه في الاقتصاد، كلية التجارة جامعة عين شمس، 1966)،
صـ 161. حاولت الرسالة محاولة مُستفيضة لحصر كمية الثروة التي نقلت ملكيتها من أصحابها الإقطاعيين والرأسماليين. والاقتباس المنقول عن المؤلف.

خطاب الرئيس جمال عبد الناصر، التحول العظيم، (القاهرة: دار المعارف، 1964)، ص 56.
(107) القمص بولس باسيلي: "بدء مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة"... مضبطة الجلسة 15/ (27/ 12/ 1975) الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(108) تقرير اللجنة المركزية.. مرجع سابق، صـ 50.


نور 06-07-2011 02:29 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 


الفصل الثامن


(1976)
هبَّةُ يناير تؤجِّل إعلانَ الاستسلام

مقدمة
في استقبال العام الجديد، كان كافة المسئولين في القطاع الاقتصادي ـ كما أوضحنا ـ يدركون خطورة التردي الحادث في جبهة الدَّيْن الخارجي، وخطورة النتائج التي تترتب على ذلك. وزير التخطيط سجل علنًا (25 نوفمبر) أن المركز النهائي المتوقَّع في نهاية 1975 (قبل العالم الخارجي)، وبعد استنفاذ كل إمكانيات المواجهة، يشير إلى فجوة تبلغ 545.9 مليون جنيه، ما زالت مكشوفة ويلزم تدبير موارد إضافية لمواجهتها، وقدر الوزير أن الفجوة المكشوفة خلال عام 1976 تتسع إلى نحو 790 مليون جنيه(1). صحيح أن وزير المالية حاول في نفس الفترة (11 ديسمبر)، وفي نفس المناسب (عرض الخطة والموازنة أمام مجلس الشعب) أنه يوحي بأننا كدنا أن نعبر نقطة الاختناق؛ إذ "راعينا تدبير المبالغ اللازمة لسداد التسهيلات المصرفية التي ستُستَحقُ حتى آخر ديسمبر 1975 في مواعيد استحقاقها" (2)، ولكن وزير المالية، كان يذكر هنا نصف الحقيقة، ويخفي نصفها الآخر؛ ففي تقديرات الموازنة النقدية (التي تصدر عن وزارة المالية، ولكن لا تنشرها). كان واضحًا أن متأخرات الديون المصرفية محدودة نسبيًا بالفعل (32.9 مليون دولار)؛ بسبب الإجراءات الخليجية، ولكن كان واضحًا أيضًا أن المتأخرات (التي تراكمت خلال شهرَي نوفمبر وديسمبر) بلغت في الالتزامات العامة والودائع وتسهيلات الموردين 497 مليون دولار، ويهبط الرقم إلى 318 مليون دولار في حالة إمكان الاتفاق على تأجيل سداد ودائع كويتية وعراقية وليبية (3). (والمتأخرات تعكس طبعًا الفجوة التمويلية).
المهم، أكَّد وزير التخطيط موقفَه التحذيريّ ـ والتحليلي أيضًا ـ حين سجَّل في تقرير آخر "أن الأزمة الاقتصادية ليست بطبيعتها أزمة يعالجها الحصول على مواردَ سائلة، تغطي ميزان المدفوعات، بل هي أزمة متعددة الجوانب؛ يُزيد تعقيدَها، أنَّ أبعادها سياسية واجتماعية واقتصادية، وأن جذورها تمتد إلى سياسات اتُّبِعت، وقرارات اتُّخِذت على مدى عدة سنوات، ومن ثم، فإن حلولها يتعين أن تكون حلولاً جذرية، ليست من قَبيل المسكِّنات، أو مجرد جرعات نقدية سائلة ترد إلينا من الخارج" (4). وقد نختلف مع وزير التخطيط في تصوره (الذي لم يعلِنه صراحة) للحلول المُرشَّحة، ولكن يظل المدخل الذي أشار إليه هامًا، فالمشكلة المركبة تتطلب حلاً مركبًا، ومجموعة من السياسات المتكاملة، إلا أن هذا التحليل ـ رغم صدوره عن وزير مسئول ـ لم يكن أكثر من كلام. وبالتالي تركزت الجهود العملية ـ خلال العام ـ على الاستمرار في محاولة الحصول على موارد سائلة لمواجهة العجز في الالتزامات الخارجية ـ ومن دول الخليج بالذات، ولكن في ذلك العام (1976) كان التحرك المصري الرسمي إلى دول الخليج يهدف إلى برنامج للمعونة لا يتحدد بطريقة "تبدو" عشوائية، ولا يرتبط بتقلصات وذبذبات حادة في التوقعات والتنفيذ خلال السنة الواحدة.
كان التحرك المصريُّ يهدِفُ إلى برنامج ذي أهداف والتزامات واضحة لعدد من السنوات، وقالت القيادة المصرية إنه يؤدي إلى خروج الاقتصاد المصري من عثرته تمامًا. وكان هذا البرنامج يستند إلى إطار الخطة الخمسيَّة (76 ـ 1980)، التي أُعلِن أن البنك الدولي وافق على واقعية تقديراتها. إلا أن الأطراف الخارجية (وتتبعها دول الخليج) كانت تهدف ـ خلال نفس العام ـ إلى شيء مختلف.
أولاً ـ الإطار السياسي العام:
قبل الاستطراد.. لا بد من وقفة لتذكر الإطار السياسي:
فقد شهدت الفترة التالية للاتفاقية الثانية لفصل القوات (أي: في الربع الأخير من عام 1975) أعنفَ هجوم شنَّه الساداتُ على الاتحاد السوفيتي، ونشير ـ بشكل خاص ـ إلى خطاب 29 سبتمبر (أي: في نفس الشهر الذي وُقِّعَت فيه الاتفاقيةُ). في هذا الخطاب عرض الرئيس - لأول مرة - عديدًا من القصص حول "مأساة" العلاقات المصرية السوفيتية منذ أيام عبد الناصر (وهي القصص التي عاد إليها وكررها طوال السنوات التالية في عديد من المناسبات).
وكانت الذُّروة في الخطاب، حين قال إنه كان في حرب أكتوبر يحارب الأمريكان من الإمام والروس من الخلف. شهدت هذه الفترةُ - أيضًا - بداية لدعم الموقف الأمريكي في أفريقيا (أنجولا) ـ وشهدت ابتعادًا مصريًّا عن التدخل المباشر والصريح في الأزمة اللبنانية ـ ومحاولات غير ناجحة لتوثيق العلاقات مع الرياض (مشروع مارشال العربي) ـ ويبدو أن الرئيس كان "يتوقع الكثير في تحريك القضية بعد زيارة الولايات المتحدة" (5)، وظلت التوقُّعات قائمة في أوائل 1976، ويبدو أنها اعتمدت على اتصالات ووعود تبددت بعد ذلك؛ حيث صرَّحَ كيسنجر بأن محاولات استكشاف إمكانيات التحرك لتسوية شاملة في الشرق الأوسط، توقفت تمامًا منذ أواخر مارس؛ بسبب الأزمة اللبنانية التي استنزفت كل الطاقات.
وقد شهد عام 1976 على مستوى المنطقة العربية كلها تقلُّصاتٍ سياسيةً عنيفة، من أول العام إلى نهايته، ولكن حكمها - بشكل عام - ترقب نتيجة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة. كان مفهومًا أن الدور الأمريكي سيُستَأنفُ بعد الانتخابات، وكان طَبَعيًّا أن تتحرك ـ خلال السنة ـ كلُّ الأطراف المعنية؛ لتحسين مواقفها النسبية، وبالفعل تحركت الأطراف العربية (كل طرف في اتجاه)، وتحرك الاتحاد السوفيتي، ولكن كان الرصيد الإيجابي ـ في الحساب الختامي ـ من نصيب الولايات المتحدة وإسرائيلَ.
إن عرضنا للتطورات السياسية يتركز على ما يرتبط مباشرة بالدور المصري خلال عام 76، ومن هنا نشير، بشكل خاص، وفي إطار الحديث عن تمزق العلاقات العربية، إلى التوتر الدائم والمتصاعد في العلاقات المصرية ـ الليبية، الذي انعكس في تهديدات متكررة من القيادة المصرية بضرب ليبيا. وتدهور العلاقات المصرية الليبية (كما هو الشأن في كل الصراعات الأخرى بين الأقطار العربية) له مبررات محلية (موضوعيَّة أو غير موضوعية)، ولكن من المؤكد أن القوَى الخارجية تسعى بدأب إلى تعميق الخلافات، وإلى توجيه الصراعات المحلية على النحو المحقق لمصالحها.
وفي حالة العلاقات المصرية ـ الليبية بالتحديد، فإن الولايات المتحدة صاحبة مصلحة استراتيجية في إضعاف النظام الليبي، وكانت تسعى باستمرار لتوصيل العلاقات السياسية بين مصر وليبيا إلى المستوى الذي يمتنع معه أن تكون ليبيا ضمن المصادر المُحتملة لإقراض الاقتصاد المصري بشروط ميسرة؛ حتى تحتكر العملية دولُ الخليج، وقد وضح أن الأمور تمضي في هذا الاتجاه بنجاح، حين نُشر في القاهرة عن قيام القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية بالتخطيط والإشراف على تنفيذ خطة دعم القوات الموجودة على الحدود الغربية، والشمالية الغربية لمصر (12 أغسطس)، وتأكدت المخاطر مع رفض كافة الوساطات، وكانت هذه التطورات نذيرًا لما تمّ في مرحلة لاحقة.
ولكن أهم التطوّرات في ساحة العلاقات العربية، تمثَّل في "لعبة لبنان" الدامية. ولسنا بصدد تحليل هذه الأزمة ومراحلها، ولكن نكتفي بتسجيل النتائج التي قد تكون موضع اتفاق عام (كما بدَت في ذلك العام، وكما تفاقمت في الأعوام التالية).
تحلُّل المجتمع اللبناني، وتحلُّل مؤسساته المركزية الموحَّدة، إضعاف الوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، كقوة ضغط على العدو الصهيوني، تحقق توسُّع إسرائيلي من نوع جديد؛ بالهيمنة الفعلية على مزيد من الأراضي، ثم بالمشاركة الصريحة - كقوة من قوى الصراع السياسي - داخل قطر عربي (من خلال الجيش الإسرائيلي، و"المعونات"، والمستشارين السياسيين والعسكريين) ـ استنزاف قوى وموارد سوريا ـ اشتعال الصراع السياسي الحاد بين دولتي المواجهة: مصر وسوريا من جهة، وبروز تناقض بين سوريا والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى. ولا شك أن المستفيد النهائي من هذه المأساة كان إسرائيل والولايات المتحدة؛ خاصة وأن الجهود الأمريكية أفلحت في منع الاتحاد السوفيتي من استعادة
أو توثيق علاقاته بالمنطقة، رغم تناقضات الأزمة التي كانت تساعد على ذلك.

وكان واضحًا أن اتفاقية الفصل الثاني للقوات، قد حققت هدفها تمامًا في شق الصف العربي، وخاصة في الجبهة المصرية ـ السورية. ولكن بعد الاتفاقية، وضُح أن الولايات المتحدة (وإسرائيل) نجحتا أيضًا في استخدام الأزمة اللبنانية؛ لكي تزيد الصراع المصري السوري اشتعالاً، كان السادات يعلم أن التحرك الأمريكي، من أجل خطوة جديدة في ساحة الصراع العربي (أو المصري) - الإسرائيلي، سيتوقف خلال 1976، ولكن تصرف حيال الأزمة اللبنانية ـ في تلك الفترة ـ منْ تصوَّر أن الموقف الأمريكي من الأزمة، يهدِف إلى إضعاف المركز النسبي للنظام المصري، في حسابات التسوية، عندما يحل موعد التحرك الجديد. وانعكس هذا التصور في هجوم حاد على القيادة السورية، وفي مزايدة على الموقف من القضية الفلسطينية، ومنظمة التحرير.
وبعيدًا عما لا نعرفه عن أنشطة المخابرات المركزية، فإنه يمكن بالعين المجردة ملاحظة أن دمشق أصبحت (طوال ما يقرب من ثلثي العام) مسرحًا لنشاط سياسي واسع، ومركزًا لاتصالات دولية نشطة مع السعودية والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وفي حدود ما نُشر، نلاحظ أنه كان هناك حرصٌ دائم على لفت نظر السادات إلى هذه الظاهرة.. في حديث معه، دار الحوار مثلاً على النحو التالي:
"س: ما لم تستطِعْ أن تحققه أنت، استطاع أن يحققه الرئيس الأسد، أو على الأصح هو في طريقه إلى تحقيقه، دولة كونفدرالية من السوريين والأردنيين والفلسطينيين، فإذا دخل اللبنانيون أيضًا..
(وهنا قاطعني السادات قائلاً): "هنا ندخل في المحاور: خصوصًا إذا كانت هذه الدولة الاتحادية ستحكم من حزب البعث. من الأفضل أن يبقى الرئيس الأسد في الإطار الثلاثي: السوري والأردني الفلسطيني؛ بذلك يستطيع حل مشكلة الفلسطينيين. أما التطلع إلى أبعد من ذلك، فهذا خطأ خطير، اللهم إلا إذا كانوا يريدون إقامة وحدة كالوحدة القائمة بيننا وبين سوريا وليبيا.
س: أنا شايف العملية ماشية بين سوريا والأردن.
جـ: أنا وحدوي بطَبعي، ولكنْ أنصح ألا يحاول أحدٌ أن يلبس ثوبًا أكبر منه؛ لأنه في النهاية سيفشل، وستزيد مصائبنا أكثر مما هي موجودة الآن في الأمة العربية"(6).
في حديث آخر، كان رئيس تحرير ريدروز دايجست يسأل: إن صحف الغرب تعطي انطباعًا عامًا عنك يا سيادة الرئيس، بأنك رجل الدولة والزعيم الحقيقي في الشرق الأوسط، وبعد تدخل سوريا في لبنان، بدا الرئيس السوري حافظ الأسد أنه أكثر نشاطًا في حل المشكلة اللبنانية، وقد يكون هذا وهمًا. ولكن ما رأي سيادتكم؟
جـ: حقًا إن هذا سوء تقدير مُحزن للغاية" (7).
وفي مناسبة ثالثة، صرح السادات، بأن ما يحدث في لبنان هو "على ما يبدو أن السوريين يريدون استغلال الفرصة ليظهروا بمظهر الزعماء في العالم العربي، ولكن ثبت فشل ذلك" (8).
وكان طَبَعيًّا أن يترتب على هذا التصور (كما أشرنا)، تحرك مصري نشِط في اتجاه دعم ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية، بكافة أشكال الدعم. بدأ التحرك السياسي في هذا الاتجاه منذ أواخر 1975، وتكررت التصريحات حول المنظمة باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وحول "اعتدال" عرفات، ردًا على التحرك السوريّ، وعلى التقارب السوري الأردني، وبعد أن كانت القاهرة المؤيد الأول لتمثيل الملك حسين للفلسطينيين، أصبح حسين موضعًا لهجومها. "إن نتائج انتخابات الضفة الغربية، تعني رسالة محددة إلى حسين وإسرائيلَ، برفض أي ممثل للشعب الفلسطيني سوى منظمة التحرير" (9).
وكان طَبَعيًّا أيضًا أن يواكب كل هذه المواقف تعبيرٌ من القيادة المصرية عن ضيقها بموقف الولايات المتحدة من الأزمة (كما تصورته)، وقد تكرر هذا فعلاً في مناسبات مختلفة خلال العام، فالشعار الذي ردده السادات كثيرًا: "ارفعوا أيديكم عن لبنان"، كان مشفوعًا في كل مرة بتوضيح أنه لا يقصد فقط سوريا. كذلك انعكس ضيق القيادة المصرية في التلويح بأنها ستتجه إلى جنيف بعد الانتخابات الأمريكية، ثم في التظاهر بمدّ حبال الود مع الاتحاد السوفيتي بين الحين والآخر. ولكن ظل التحرك المصري ـ بطبيعة الحال ـ أسيرًا ومراهنًا، طوال الوقت على منهج السلام الأمريكي المرتقب؛ ولذا أسفرت الالتزامات والاتصالات السرية، وأسفرت الضغوط والوعود، عن تخبط وتناقض في تصرفات القيادة المصرية. وكان سهلاً في النهاية على الإدارة الأمريكية احتواء القلق المصري، وإبطال أي مفعول له.
بالنسبة للعلاقات المصرية ـ السوفيتية، على سبيل المثال، أعلن السادات في استقبال عام 1976 بأنه مدّ فترة التسهيلات البحرية الممنوحة للسوفييت حتى عام 1978 "إعرابًا عن عرفاننا بالجميل، ولكن التوازن لا يعني منحَ الولايات المتحدة تسهيلاتٍ مشابهة؛ فليس لديّ نية الإقدام على هذه الخطوة"(10). وبعد شهر تقريبًا (من الإدلاء بهذا الحديث) أشار السادات إلى أن السوفييت يرفضون إجراء عَمرة لموتورات الطائرات، "إنهم يمارسون الضغط، وعملية الضغط تشتد أكثر وأكثر، وقد قررنا ألا نلجأ إلى أساليب التشهير والشتائم، وتعليماتي للجميع هي العمل على التفاهم وحفظ العلاقات" (11). ولكن بعد شهر آخر تقدَّم بمشروع قانون بإنهاء المعاهدة المصرية السوفيتية، وأعلن بعد هذا إلغاءَ التسهيلات الخاصة بالأسطول السوفيتي. وقد أثارت هذه القرارات المفاجئة ـ أيامها ـ تساؤلاتٍ كثيرة، ونعتقد الآن أن هذه القرارات كانت استجابة لمطالب سابقة ومباشرة، قدمتها الإدارة الأمريكية في إطار المفاهيم العامة للسلام الأمريكي، وموعد التنفيذ كان بعد الهزيمة الأمريكية في أنجولا؛ ولتحسين موقف فورد في المرحلة الأولى من معركة الانتخابات، ووسط السعي للحصول على قروض ميسرة.
ولكن حدث مع تطورات العام المتلاحِقة، أن عاد السادات (بعد شهر ونصف) إلى إعلان:
"إن مصر لا تريد لعلاقات الصادقة التاريخية أن تنقطع مع أي طرف، ولكنَّ مصر حريصة أيضًا على استقلالها وحريتها في اتخاذ القرار.
إن مصر لا تريد دخولاً في معركة أو تصعيدًا مع السوفييت، لن نرد إلا على نطاق توضيح الحقائق"(9).
واستمرت القيادة المصرية في هذا الموقف طويلاً (نقصد بضعة أشهر)، وربطت به العودة إلى الطرح السوفيتي حول مؤتمر جنيف باعتبار أنه "هو وحده الذي يمكن أن يؤدي إلى إيجاد حل سلمي لأزمة الشرق الأوسط" (12). وفي هذا الجو كانت توجَّه إلى السادات أسئلة من قبيل: "ألا يقلقك تغلغل السوفييت في البلاد حولك؟" وكانت إجابته: "حسنًا، لأسباب كثيرة؛ أحب ألا أجيبَ على هذا السؤال" (13).
ثم أعلن بعد ذلك في خطاب عام: "لقد استقبلتُ السفير المصري قبل سفره إلى موسكو، وحملته تعليماتي التي أعلنُها اليوم أمام جماهير الشعب المصري: إني حريص على أن تكون العلاقات مع الاتحاد السوفيتي كأحسن ما يكون" (14). واستمر نفس الخط في خطاب 23 يوليو، وسْط دفاع حار عن إنجازات الناصرية.
وقد تحرك الاتحاد السوفيتي في المقابل بتوقيع بروتوكول التجارة لعام 1976 بعد تأخر طويل (في 29 أبريل)، وأذاعت الحكومة السوفيتية بيانًا حول أزمة الشرق الأوسط، أكدت فيه من جديد مواقفها التقليدية. ولكن مع المحددات (التي ذكرناها) على الموقف المصري، ظلت العلاقات فاترةً، فلم يحدث حل لأيٍّ من المشاكل الأساسية، وحين زار كوسجين المنطقة، اقتصرت الزيارة على بغدادَ ودمشق.
يكمل الصورة أن نتابع التطورات داخل الولايات المتحدة في ذلك العام، هناك، كان المَزاد التقليدي على تأييد إسرائيل، متصاعدًا بين الجمهوريين والديمقراطيين. وحين أُعلِن برنامجا الحزبين، كان هناك اتفاق واضح حول الموقف في الشرق الأوسط على النحو التالي:
الالتزام بالدفاع عن إسرائيل وضمان بقائها ضمن حدود "آمنة" ويمكن الدفاع عنها.
تزويد إسرائيل بما تحتاجه من مساعدات اقتصادية.
تزويد إسرائيل بما تحتاجه من السلاح؛ ليس فقط لحماية نفسها، وإنما أيضًا ـ وهذا هو المهم ـ لتكون قوة رادعة في المنطقة ـ أي: لتأديب الدول العربية (وربما الأفريقية) كلما لزم الأمر.
الالتزام بتواجد عسكري أمريكيّ في شرق البحر الأبيض؛ لحماية إسرائيل، ومنع الاتحاد السوفيتي من التدخُّل لصالح العرب.
الضغط على العرب للدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.
تحذير العرب من أي حظر بترولي في المستقبل، وإلا اعتُبِر ذلك عملاً عدوانيًّا.
التصدِّي لإجراءات المقاومَة العربية ضد إسرائيل(15).
ويبدو من هذا، أنه لم يرد في أي من البرنامجين التزامٌ، أو حتى ذكر، عن المسائل الآتية: قرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967 ـ الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في 1967 ـ حقوق (أو حتى اسم) الشعب الفلسطيني. ولكن كانت لبرنامج الحزب الجمهوري ميزةُ أنه أشار إلى إنجازات محددة حققها في اتجاه الخط المعلن، فقد سجل "أن إسرائيل تسلمت تجهيزات عسكرية في السنتين الأخيرتين تمثل 40 % من مجموع ما حصلت عليه منذ نشأتها في عام 1948". وفي نفس الوقت نجحت إدارة الجمهوريين في إعادة الاتصال بالدول العربية، وقامت بتحقيق تقدم هائل في العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الدول العربية الأكثر اعتدالاً. وقد حرص فورد على التظاهر بأنه حريص على "توازن" علاقاته مع أطراف الصراع أثناء سنة الانتخابات، فأعلن كيسنجر (مارس) أن قرار بيع أسلحة إلى مصر يتمشى مع مصالح السياسية القومية الأمريكية، (وكان المقصود قرار بيع 6 طائرات نقل عسكرية هيروكليس إلى مصر). أصرّ فورد على القرار، وأوضح كيسنجر أن الأمر يتعلق بصفقة واحدة لا تلزم الولايات المتحدة ببرنامج طويل الأجل، لتزويد مصر بمعونات سلاح.
وفي يونيو بدأ تنفيذ العقد. ولكن في المقابل، أعلن فورد (أكتوبر) عن صفقة جديدة من الأسلحة المتطورة لإسرائيل (قبل الانتخابات بثلاثة أسابيع، وفي حضور إيجال ألون وزير الخارجية الإسرائيلي). ولم يكتفِ فورد بإعلان إرسال كميات جديدة، بل أيضًا نوعيات جديدة من الأسلحة لم يتسلح بها بعدُ الجيش الأمريكي، وتضمنت الصفقة الإسراع بتسليم كميات كبيرة من نوعيات أخرى، كانت إسرائيل قد حصلت على أصناف منها بالفعل في حرب أكتوبر وما بعدها، واتخذ فورد هذا القرار، رغم أن خبراء وزارتي الخارجية والدفاع (في الولايات المتحدة) كانوا يرون أن إعطاء إسرائيل هذه النوعيات النادرة من الأسلحة، سيزيدها تفوقًا بدرجة طاغية، ومن شأن هذا أن يخلخل التوازن الإقليمي رأسًا على عقب.
ولكنْ رغم كل ذلك كان الرئيس السادات، وكل المتطلعين إلى دور أمريكي نشِط، يصوتون في الانتخابات الأمريكية لصالح فورد (الجمهوريين) وليس كارتر (الديمقراطيين). من البداية كان موقف السادات واضحًا؛ فقد سبق أن وصف فورد بعد سالزبورج بأنه فلاح مستقيم الشخصية، وفي يناير كان يصرح بأنه "لا كيسنجر ولا الرئيس فورد بعد توليه، أخلف معي أي وعد" (16).

وفي آخر مارس "طلبتُ من الرئيس فورد أن يأتي قبل الانتخابات، وسنتعامل طبعًا مع أي رئيس مُنتخَب، ولكن فيما أراه، فإن الرئيس فورد لديه فرصة عظيمة لكي ينجح في الانتخابات" (17). وقُبيل الانتخابات، كان السادات أكثر صراحة: "إذا أعيد انتخابُ الرئيس فورد؛ سأكون – بجد- سعيدًا، أما انتخاب كارتر، فهذه إرادة الشعب الأمريكي، وعلينا أن نتعامل معه" (18). ولا شك أن الحزب الجمهوري أكثر تحررًا من النفوذ الصهيوني، ولكن يبدو أيضًا أن القيادة المصرية، ومن يعنيهم الأمر في العالم العربي، كانوا قد تلقوا وعودًا معينة من فورد.
و.. في أكتوبر، كانت الانتخابات الأمريكية تدخل مرحلتها الحاسمة، وكان الفُرقاء العرب قد أثخنتهم الجراح، وإسرائيل كانت فَرِحة بالنتائج التي حققتها وتُسرب أخبارًا كثيرة عن ترسانتها الذرية. وفي هذا الجو، نجحت الاتصالات في عقد مؤتمر قمة سداسي (بدلاً من رباعي) بناء على إصرار القاهرة على دعوة لبنان وفلسطين، بالإضافة إلى مصر وسوريا والسعودية والكويت، انعقد المؤتمر في الرياض (14 ـ 18 أكتوبر), أعقبه مؤتمر القمة الشامل في القاهرة (25 أكتوبر)، فتشكلت قوات الردع العربية لصون السلام في لبنان.. وعلى مستوى العلاقات الثنائية بين مصر وسوريا، عادت العلاقات الطبيعية، وتوقفت الحملات الإعلامية، وعُيِّن الفريقُ الجمسي قائدًا عامًا للجبهة المصرية السورية. ولكنَّ إجراءاتٍ من هذا النوع، كانت تعجز ـ بعد كل ما حدث ـ عن تدارُك الانهيار.
بقي أن نذكِّر في ختام هذه الجولة، بأن الموقف المصري كان طوال الوقت، وحتى آخر هذا العام، يؤكد على رفض المفاوضات المباشرة، كان السادات يقول مثلاً: "كيف يمكن أن أجتمع مع رئيس وزراء إسرائيل، في حين أنه يحتل جزءًا من أرضي؟ من يقول هذا؟! إن هذا يعني أنني سأجلس على مائدة المفاوضات، لمجرد التوقيع على الاستسلام؛ لأنه سيأتي ليقول: إذا لم تقبلوا هذا وذاك؛ فإننا سنظل في مواقعنا، وهذه طريقتهم معنا" (18).
أيضًا كان الموقف صريحًا من الاعتراف والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل، لا يمكن أن تتحقق مباشرة بعد كل هذه الحروب والمرارات ـ وبالنسبة للقضية الفلسطينية، ذكرنا أن موقف القيادة المصرية تحدد على نحو واضح في ظل الأزمة اللبنانية، ونذكر أن السادات أكد أن "القضية الفلسطينية في مصر في أيد أمينة، وستظل في أيد أمينة؛ لسبب بسيط، هو أننا نعلم أن إسرائيل قادرةٌ على أن تُصفِّى المنطقة كلها عندما تخرج مصر من المعركة. وعندما تصفى المنطقة، سترتد علينا لتصفيتنا في مصر؛ فالمصير العربي واحد، وهذا هو الحساب البسيط الذي يجعل خروجنا من المعركة كارثة علينا جميعًا؛ فبقدْر مسئوليتي عن الشعب المصري، أنا مسئول عن القضية القومية، ومسئوليتي نفسها هي التي تمنعني من التضليل والضحك على الناس، ولو أردنا أن نختار الطريق السهل غير المسئول، لكنا رضينا بإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، وأخذنا كل شيء" (9).

ثانيًا ـ المرحلة الأولى من الهجوم الاقتصادي تتعثر:
(1) أسطورة مشروع مارشال العربي:
من خلال هذه التطورات السياسية، ولدعمها، عملت الولايات المتحدة على تطوير هجومها الاقتصادي.
أ ـ في الفترة التالية لاتفاقية فصل القوات الثانية، وأثناء عام الترقُّب ـ 1976 ـ كان متوقعًا أن تمتد عمليات إعادة ترتيب الأوضاع وتوازنات القوى، إلى البناء المصري والبناء الاقتصادي. وبصيغة أخرى: كان متوقعًا أن يكثف الهجوم من القوى الخارجية بمشاركة القوى المحلية المنتفعة والعملية التي تضاعف وزنها الاجتماعي ونفوذها السياسي. وكان الهجوم يهدِف ـ في هذه السنة ـ إلى نتائجَ حاسمة. ويبدو في المقابل أن القيادة المصرية كانت تصدِّق حكاية مشروع مارشال، وأن دول الخليج ستساعد الاقتصاد المصري ـ أثناء فترة الانتظار ـ بتدفقات غزيرة ومنتظمة، ويبدو أن القيادة المصرية، كانت قد تلقت وعودًا أمريكية وسعودية محددة في هذا الاتجاه؛ لأنها تحركت في البداية بثقة شديدة، لم تلبث أن تهاوت أمام الحقائق المرة، والتي لم تكن جديدة في الواقع ـ بعد تجارب العامين السابقين، بل وبعد التعثر في اتصالات أواخر 1975 (بعد الاتفاقية)، ورغم رحلة السادات إلى الولايات المتحدة.
في يناير 1976، كان مقررًا أن يزور ممدوح سالم السعودية والكويت والإمارات، وصرح السادات بأنه "إلى هذه اللحظات، الأخوة العرب في كل مرة اتصلنا بهم قاموا بالواجب، لكن المشكلة أكثر شوية؛ ولهذا رئيس الوزراء سيضع الصورة الكاملة أمام الزعماء العرب"(19). إلا أن الزيارة تأجلت، وفي 28 يناير كان ممدوح سالم يعلن بيانًا مفاجئًا بمجلس الشعب، يحمل عددًا من الإجراءات الاقتصادية (20). والإجراءات كانت مباغتة، وإعلانها بدا شاذًا؛ لأن مجلس الشعب كان قد انتهى بالكاد من مناقشة ميزانية وخطة 1976؛ ولذا سجلت اللجنة الخاصة لدراسة البيان "أن اللجنة يحق لها أن تتساءل، وسوف يسألها الشعب الواعي، ما الذي طرأ جديدًا على الموقف المالي والاقتصادي، فحتّم إلقاء البيان الجديد، وما جاء به، وما سبقه مِن إجراءات وقرارات اقتصادية، ولم يكن قد مضَى على اعتماد الخطة والموازنة سوى أقل من شهر؟ وما الذي منع الحكومة من أخذ كل هذه الإجراءات عند إعداد الخطة والموازنة، وقد كانت أمامها كل ملاحظات لجان الرد على برامجها، وملاحظات وتوصيات الأعضاء التي قد أُبدِيت عند مناقشتها؟ ما الذي كان يمنعها من تعديل مشروع الموازنة الذي تقدمت به للمجلس، على ضوء ما كان واضحًا أمامها من رؤية حقيقية للمركز المالي والاقتصادي؟ (....) إن الحكومة فيما انتهت إليه من قرارات، ترمي إلى ضغط الإنفاق الحكومي الذي سيتوفر منه حوالي 100 مليون جنيه، كان المجال متسعًا لتقريرها وتقرير المزيد منها عند إعدادها لمشروع الموازنة العامة، وقد كان العجز المادي كان واضحًا كما جاء في البيان المالي الذي ألقاه السيد الدكتور وزير المالية عن السياسة المالية".
إن الإجراءات التي قررتها الحكومة، "وتلك التي تضمنها البيان الحالي، تُعتبر في الحقيقة تعديلاتٍ في أبواب الموازنة التي لم يكن قد جفَّ مدادُها بعدُ، والتي يجري حاليًا تبليغُها للقطاعات المختلفة بعد إقرارها من المجلس" (21).
ولا نعتقد أن اللجنة (ورئيسها أحمد فؤاد) كانت تجهل فعلاً سبب هذه الهرولة، التي يراها ـ من لا يعرف ـ حركة غريبة غير مبررة، فقد أصبح معروفًا ـ إلى حد ماـ للقريبين من الصورة، أن الضغوط الخارجية تُلجِئ الحكومةَ إلى مثل هذا الموقف، وسبق أن أشرنا إلى حالة مماثلة في صيف 1975 (في عز أزمة مع الدائنين).
وفي حالة يناير 1976 معروف أن دول الخليج أصرت على تسوية الموقف مع صندوق النقد، قبل زيارة رئيس مجلس الوزراء، وقبل أية محادثات؛ ولذا كان لا بد من موافقة سريعة على بعض توصيات الصندوق (22). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت الحكومة تدرك أن أسلوب استجابتها للتوصيات، يُحدث ردود فعل معارضة، وهذه قد
لا تعني فقط إطالة الوقت في المناقشة ـ بينما السرعة مطلوبة ـ ولكن قد تعني منع صدور القرارات أصلاً على النحو الذي تقدمت به الحكومة. والعناصرُ الوطنية والمستشعرة للمسئولية ـ داخل الجهاز التنفيذي ـ كانت تخشَى بشكل خاص من مزايدة أنصار الصندوق، المطالبين بالاستسلام دون قيد أو شروط. والمثال هنا هو تقرير اللجنة المكلفة بالرد على بيان الحكومة.

بيان الحكومة كان يبدو - من صياغته واستطراداته الطويلة - أنه يستشعر الحرج من منظره؛ سواء لأنه طرح بعد 25 يومًا فقط من موافقة مجلس الشعب على مشروع قانون خطة التنمية، وعلى مشروعات قوانين ربط قانون خطة التنمية العامة للدولة، وما تلا ذلك من الموافقة على التعديلات التي أدخلتها الحكومة على مشروع الموازنة، أو كان الحرج بسبب الإجراءات المقترحة نفسها؛ ولذا حرصت الحكومة ـ بالكلام ـ أن تكون الإجراءات متوازنة؛ أي: تصيب الفئات الداخلية المختلفة، فقد رفعت سعر البنزين قبل إلقاء البيان؛ تنفيذًا لشرط مباشر من صندوق النقد؛ حيث طلبت الحكومة تسهيلات ائتمانية (50 مليون دولار) من حساب التسهيلات الخاصة التي رتبها الصندوق للدول التي تضررت من ارتفاع أسعار النفط، واشترط رفع سعر البنزين أولاً، فتقرر هذا. وأعلنت الحكومة في المقابل زيادة الرسوم على الملاهي والخمور، وقبل إلقاء البيان المفاجئ، وإعلان إجراءات جديدة في جلسة علنية، وعقدت جلسة سرية لإعلان بيان رسمي (لأول مرة) عن حجم الديون الخارجية المصرية (شاملاً الديون العسكرية)، وكان الهدف إفهام أعضاء مجلس الشعب أن الموقف خطير، وفي الجلسة العلنية تناولت الإجراءات إحكام الحصار حول زيادة بند الأجور في الموازنة العامة ـ الالتزام بتحقيق وفْر مالي بنسبة 20 % من اعتمادات مجموعتي المستلزمات السلعية والخدمية ـ تخصيص 10 % من الموازنات النقدية للتمويل من خلال السوق الموازية باستثناء هيئة السلع التموينية ـ الحد من مشاركة القطاع العام في الإسكان ـ ولمعادلة هذه الإجراءات (شعبيًّا) وعدت الحكومة بأن توسيع السوق الموازية لن يؤثر في أسعار السلع الرئيسَةِ، وأعلنت رفع الأتاوة التي تفرض على كازينوهات القمار من 25 % إلى 50 %، وزيادة الرسوم المفروضة على المراهنات إلى الضعف، ووعدت بتقديم مشروعاتٍ جديدة لتطور النظام الضريبي قبل نهاية فبراير؛ بحيث تخضع الدخول الطُّفيلية للضريبة، ويخفف العبء على الطبقات غير القادرة ـ أيضًا تحدث البيان عن حظْر استيراد الدولة والقطاع العام لسيارات الركوب الفاخرة، ومحاربة الإسراف في الإنفاق المظهري، والعمل بحزم على مقاومة الانحراف، وتثبيت الأسعار.
أعلنت الحكومة بيانها المتعجل، وما تضمَّن من إجراءات. وبعد دهشة وسخرية لجنة الرد من منظر الهرولة والارتباك، تبنَّت اللجنةُ نفس رأي صندوق النقد الدولي ومن معه، فقالت: إن هذه الإجراءات غير كافية، "وقد آن الأوان لأنْ تتقدم الحكومة بسياسة اقتصادية متكاملة تتضمن مشروعات القوانين المالية والنقدية والاقتصادية التي تضع هذه السياسة موضع التنفيذ"، وتضمنت مقترحات اللجنة في هذا الاتجاه ما يلي:
2 ـ تطوير السوق الموازية:
بحيث تتطور إلى سوق عالمية للنقود، يتحدد فيها سعرُ الجنيه المصري؛ طبقًا لظروف العرض والطلب، على أن يُسمح للاستثمارات بالدخول بهذا السعر، وكذلك إعادة تحويل رأس المال وأرباح مشروعات الاستثمار، مع ما يقتضيه ذلك من إعادة النظر في سياسة دعم الأسعار، ووضع برنامج للتخلص منها تدريجيًّا؛ بحيث تتمشَّى الأجورُ مع الإنتاج.
التقدم بالتشريعات الخاصة بالرقابة على النقد بما يحقق سياسة الانفتاح وتحرير الجنيه المصري، والنظام المصرفي في قبول الودائع الأجنبية واستخدامها في التمويل الداخلي، وتمويل التجارة الخارجية؛ طبقًا للأسس المصرفية المتعارَف عليها.
طرح بعض أسهم شركات القطاع العام التي ترى الحكومة زيادة رءوس أموالها، أو مشاركة القطاع الخاص في نشاطها (وكانت الحكومة مجمدة عمليًّا للقرار الصادر في هذا الشأن).
إعداد قانون لسوق الأوراق المالية بما يمكنها من الارتباط بأسواق المال العالمية، وما يقتضيه ذلك من نشر موازنات شركات القطاع العام، وتوزيع أرباح أسهم القطاع الخاص فيها، فور اعتماد موازنتها، وإلغاء القرار الوزاري الخاص بتحديد نسب أرباح بعض شركات القطاع العام.
إعفاء أرباح أسهم الشركات الجديدة من ضريبة إيرادات القيم المنقولة لفترة ما؛ تشجيعًا للقطاع الخاص للاستثمار فيها.
تطوير القطاع العام، ورفع يد الوزارات عن إدارة قطاعاته عن طريق الأمانات الفنية (أي: حتى العلاقة الشكلية، بين الوزير والشركات من خلال مجالس القطاعات، مرفوضة).
إجراء دراسات تفصيلية عن سعر الفائدة ووسائل جذب المدخرات للمشاركة في مجالات الاستثمار المتاحَة.
في مجال الإصلاح المالي ترى اللجنة أن الإنفاق العسكري ليس كله إنفاقًا على التسليح والتدريب، وإنما هناك نفقات إدارية أخرى، ومن الواجب أنْ تعمل الحكومة على ترشيد الإنفاق في هذا المجال. (وهذا الكلام لا غُبار عليه لو أُخِذ ببراءة، ومنفصلاً عن سياق الأحداث. ولكن في الجو السائد من حيث الاعتماد على حل أمريكي سليم، وبعد اتفاقية فصل القوات، الترشيد هنا مقصود به الخفضُ الفعلي للإنفاق العسكري مع استخدام التعبيرات الدبلوماسية "والعلمية" لتمرير قرارات خطيرة، وفي القطاع الاقتصادي بالذات تستخدم كلمة "الترشيد" بمعنى الخفض الفعلي والشديد، كما هو الحال مع ترشيد اعتمادات الدعم).
هكذا زايدت اللجنةُ على الحكومة في تبني توصيات "صندوق النقد". ويلاحظ أننا لم نذكر البند رقم (1) في "توصيات" اللجنة وقد تعمدنا ذلك؛ لأنه في الحقيقة نتيجة للتوصيات السابقة، وهو منقول أيضًا عن "توصيات" الصندوق. بنص البند (1) على "إعادة جدولة الديون مع العالم العربي والشرقي؛ بحيث لا تتعدَّى أقساطُ هذه الديون 10 % من حجم الصادرات، مع إعطاء فترة سماح لا تقل عن خمس سنوات". واللجنة كانت تعلم أن إعادة الجدولة مع العالم الشرقي مسألة سياسية لا تقبل الحل في الظروف التي قِيل فيها هذا الكلام؛ ولذا كان المقصود إعادة جدولة الديون الغربية، وتحويل الديون المصرفية بالذات إلى ديون طويلة الأجل، وهو أمر يمكن حدوثه ـ كما يقول الصندوق ـ إذا نفذت الحكومة السياسات التي نصت عليها اللجنة بكل الوضوح.
واللجنة لم تخفِ من ناحيتها هذا المفهوم؛ فقد ذكر ممدوح سالم في بيانه أنه سيقوم "بمشيئة الله، بزيارة قريبة لبعض الدول العربية الشقيقة؛ للتباحث مع الإخوة المسئولين فيها، حول معاونتنا في تطبيق برنامج طويل الأجل، يسمح باستمرار معدلات التنمية، ومواجهة الأعباء والمتطلبات القومية"، وأضاف أن الأوضاع الاقتصادية تحظى بثقة الهيئات الدولية والدول الغربية، فكان رد حقيقة مؤكدة إذا ما تَمَّ الأخذ بالتوصيات والآراء التي أشرنا إليها" (أي: آراء اللجنة المنقولة عن توصيَّات الصندوق).
ب ـ على أية حال، حدث ـ بعد هذه الإجراءات ـ أن أُلغيت زيارة ممدوح سالم، واستبدلت بها زيارةٌ على مستوى أعلى، فسافر الرئيس السادات بنفسه إلى دول الخليج (20 فبراير)، وقيل إن هذا الاستبدال، تحقق بناء على طلب من السعودية. وقبل بدء المرحلة بفترة كافية، أُرسل إلى وزراء المالية في دول الخليج ملفٌ كامل عن برنامج إصلاح المسار الاقتصادي وخطة التنمية، وأحيطت الزيارة بضجة إعلامية كبيرة، وأُعلن أن المباحثات كانت مكثفة، وسادها الودُّ والتفاهم، ورقص الملك خالد والرئيس السادات معًا رقصة السيف، وجاء في البيان المشترك أن الملك خالد قرَّر تقديم عون مالي مباشر وفوري قدره 300 مليون دولار؛ لمواجهة المتطلبات العاجلة لمصر.
ومع عودة السادات من رحلة الخليج، أذاعت السعودية (29 فبراير) أنها وجهت الدعوة إلى وزراء مالية دول الخليج، لعقد اجتماع في الرياض؛ لدراسة برنامج تمويل صندوق دعم الاقتصاد المصري، وتوالت بعد هذا الاتصالاتُ؛ فسافر ممدوح سالم للاجتماع بوزراء مالية دول الخليج في الرياض، وبعد رئيس مجلس الوزراء، قاد المباحثاتِ وزيرُ المالية المصريُّ. كان اللقاء الأول (11 مارس) بمدينة الخبر (قرب الدَّمام بالمملكة السعودية)، وصرح السادات - بعد هذه الاتصالات - بأن الصندوق سينشأ فعلاً وفق الاتفاق الذي توصل إليه أثناء زيارته لدول الخليج، وقال: "إن البنك الدولي، سيقوم بدور استشاري من أجل تصحيح مسارنا الاقتصادي" (23).
كذلك نُقِل عن المصادر الرسمية، أنها تقبل مشاركة صندوق النقد والبنك الدولي في إدارة صندوق الدعم، وقيل إن الرئيس السادات اقترح أيضًا إضافة دافيد روكفلر ورجال البنوك الغربيين (24). وبالفعل وقعت اتفاقية هيئة الخليج للتنمية في جمهورية مصر العربية في الرياض في (أول أبريل) وهي الاتفاقية التي تنظم العمل وتحدد رأس المال. وحددت الاتفاقية رأسمال الهيئة بمبلغ 2000 مليون دولار (40 % قدَّمته السعوديةُ ـ 30 % الكويت ـ 15 % الإمارات العربية ـ 15 % قطر).
وجرت محادثات مع وزير المالية المصري عقب توقيع الاتفاقية، وعبَّر هذا عن خيبة الأمل في المولود الجديد، ودافع الوفدُ المصري ـ في الاجتماعات الرسمية المختلفة ـ عن وجهة نظر تبلورت على النحو التالي:
إن احتياجات الاقتصاد المصري من النقد الأجنبي خلال سنوات الخطة 76 ـ 1980 تُقدَّر بحوالي 20 بليون دولار، وسيمكن للحكومة المصريَّة تدبيرُ حوالي 8 بلايين من الدولارات من الدول الأجنبية والمؤسسات الدولية، أما المبالغ الباقية (12 ألف مليون دولار) فإن الحكومة المصرية ترى أن الدول العربية المشتركة في الهيئة، يمكنُها تغطية هذا التمويل على مدى السنوات الخمس، إذا كان المقصود مساندة جادة، ودفعة قوية تمكِّن من عبور الأزمة الاقتصادية.
وبالنسبة لمكونات المعونة طالبت الحكومة بزيادة المكون النقدي. وبشكل عاجل، طلبت أن تواجه دول الخليج مشكلة تغطية العجز في ميزان المدفوعات المصري في الفترة الباقية من عام 1976، والذي قدِّر بحوالي 506 مليون من الجنيهات (1290 مليون دولار) على أساس أن عام 1976 هو أول عام من الخطة الخمسيَّة التي توافق هيئة الخليج على تمويلها. وكانت الحكومة المصرية تلحّ على إيضاح موقف دول الهيئة من هذا المطلب بسرعة؛ حتى يمكن للسلطات المصرية أن تتصرف في ضوء ما تقرره هذه الدول.
وسواء بالنسبة للقروض النقدية أو لقروض المشروعات، طولِبت الهيئةُ بأن تتوسع في تقديم القروض بشروط أكثر يسرًا من قروض الدول الأجنبية الأخرى. وفي كل الأحوال، ينبغي أن تكون هيئة الخليج مصدر تمويل إضافي، وليس بديلاً لما تقدمه أية صناديقَ أو جهاتٍ عربية أخرى.
وأخيرًا طلبت الحكومة المصرية أن تمثل في اجتماعات الهيئة بشكل دائم؛ حتى يمكن عرض صور الموقف المصري كاملة؛ من حيث المشروعات، واحتياجات التمويل والمشاكل والصعوبات (25).
إلا أن هذه المطالبات كانت بعيدة تمامًا عن ذهن من صمموا الهيئة؛ ففي مقابل 12 بليون دولار طلبتها الحكومة المصرية، أصرت الهيئةُ على أن رأسمالها لن يتجاوز 2 بليون دولار. وفي مقابل المعونات النقدية والشروط الميسرة، جاءت هيئةُ الخليج كمجرد مؤسسة تجارية استثمارية، تعمل في أرض جمهورية مصر العربية. ولكننا نتوقف قليلاً عند المطلب الأخير، فأمر عجيبٌ حقيقة، أن يُستبعدَ ممثلُ مصر من عضوية هيئة دولية وظيفتها العمل داخل الاقتصاد المصري بهدف الدعم والتنمية، وقد جرى العمل في مختلف اللقاءات، على أن يُدعَى وزيرُ المالية المصري ليشرح رأي حكومته، ثم ينصرف ليُعقد مجلسُ المحافظين (الذي يتألف من وزراء مالية دول الخليج) اجتماعًا مغلقًا، وقد يدعو المجلسُ الوزيرَ المصري مرة أخرى، أو لا، حسب الحاجة لأي إيضاحات، ولكن في كل الأحوال، كان على الوزير أن ينتظر حتى يُعلن بالقرارات النهائية! (26) وقد ذكرنا أن الجانب المصري طلب مشاركة الهيئات الدولية ورجال البنوك الغربية في إدارة الهيئة (بالإضافة إلى عضوية مصر التي كان مفروضًا أنها بدَهيَّة).
ورغم خلافنا الجذريِّ مع الخط العام للسياسة الاقتصادية، فإننا نتفهم هذه الأطراف معًا في مؤسسة واحدة، وفي مواجهته؛ إذ كان أسلوب العمل الجاري يعطي الفرصة لكل طرف لكي يبدو كما لو كان يتصرَّف بمعزل عن الآخرين. وقد يلقي عليهم مسئولية التقصير، رغم توافر الأدلة على قيام شبكة من الاتصالات، ونوع من الإدارة الموحدة غير المعلنة، تحكم حركة كل الأطراف. والشيخ محمد أبو الخيل (وزير المالية والاقتصاد الوطني السعودي) اعترف منذ البداية بأن هيئة الخليج لن تعمل بشكل مستقل، فحين سُئل عن علاقة الهيئة بمنظمات التمويل الدولية، أجاب بأنه "ستكون هناك علاقة بالضرورة، على الأقل كدور خبرة وخبراء، ولكن نوع وطبيعة وحدود العلاقة، لم يتقرر بعدُ"(27)، ولكن أيًّا كان الشكل، فإن قيام علاقات وثيقة بين هيئة الخليج والهيئات الدولية، والمؤسسات الأجنبية الخاصة، أمرٌ مؤكد. وقد أراد الجانب المصري أن يكون طرفًا أصيلاً في هذه العلاقات أو في هذا الكونسورتيوم الدولي. ولكن اتفاقية إنشاء هيئة الخليج أصرت على إبعاده، ونصَّت في نفس الوقت على مشروعية التنسيق مع الهيئات الدولية. وهيئة الخليج ـ كما نعرف ـ تعبر عن دول معروفة ارتباطاتها السياسية، ومعروف مستوى كفاءتها الفنية والاقتصادية والإدارية، وكلمة التنسيق في هذه الحالة مجرد صيغة مهذبة، تعني قبول الهيئة فعليًّا لقيادة الهيئات الدولية؛ ولذا كان الاحتفاظ الشكلي باستقلال هيئة الخليج عن جهات أجنبية، واستبعاد أية أعضاء من خارج دول الخليج عن مجلس المحافظين "الرسمي"، مجرد ذريعة لإبعاد العضو المصري.
على أيَّة حال. كانت القضية العاجلة خلف زيارة السادات لدول الخليج (في فبراير) التوصل إلى اتفاق طويل
أو متوسط الأجل حول المعونات، وأيضًا برنامج واضح يحدد الالتزامات النقدية لعام 1976. ولكن الهيئة
لم تحقق طموحات "مشروع مارشال" بالنسبة للخطة الخمسية، والـ 300 مليون دولار التي أعلن عنها بعد زيارة السعودية؛ كمعونة نقدية عاجلة، كانت عودة لممارسات 1975: تقديم جرعات تمنع الموت ولا ترد العافية. وإضافة إلى ذلك، فإنها لم ترد أصلاً في انتظار تشكيل هيئة الخليج. والهيئة ـ بكل عيوبها ـ تباطأت إجراءات إنشائها (بعد توقيع اتفاقيتها)، ثم تباطأت في العمل واتخاذ القرارات (بعد قيامها). صرَّح الشيخُ محمد أبو الخيل بأنه "تم بحث كل شيء، وفي نهاية هذا الشهر (أي أبريل) تكون إجراءات قيام الصندوق قد انتهت"(26)، وصرَّح في حديث لاحق بأنه "لا بد من الإسراع؛ حتى يكون هناك وضوح أمام المخطط المصري عن مدى مساهمة الصندوق، كما يكون هناك وضوح أمام الدول المساهمة في الصندوق بما عليها خلال السنوات المقبلة (...) وقد تم التعرف بشكل مسهب على برنامج السنوات الخمس المصري. كما تناولت المناقشات الوضع الاقتصادي ومصادر التمويل الأخرى المتاحة لمصر، كما تعرفنا على الجدوَى الاقتصادية للمشروعات المصرية، والهدف كله تحديد خطوات إنعاش الاقتصاد المصري، وأشهد أن الوفد المصري كان جاهزًا، وعرض كل الأوضاع بعلمية شديدة، وكانت وجهة نظره موضع البحث الجاد أيضًا" (27).

ولكنْ مرَّ أبريل ومايو ويونيو ويوليو، وتعددت اللقاءات والاتصالات، قبل توقيع اتفاقية تنظيم التعامل بين جمهورية مصر العربية وهيئة الخليج (القاهرة ـ 21/ 8/ 1976) وكان لا بد من مرور أربعة أشهر أخرى، لتوقع الهيئة مع الحكومة المصرية أول اتفاقية قرض (250 مليون دولار ـ 17/ 12/ 1976). ولم يكن في الأمر لغز ـ لمن يريد أن يفهم ـ فالولايات المتحدة والهيئات الدولية، كانت تثبت من جديد أنها تملك مفتاح العملية، ولا يمكن "للمعونات" النفطية أن تتدفق إلا بأمرها، وكثمن لتنفيذ شروطها. إن متابعة التطورات في الاتصالات والمباحثات مع الولايات المتحدة وصندوق النقد ـ في نفس الفترة يكشف تمامًا أسباب مسلك دول الخليج طوال عام 1976، بل ويكشف دلالة كل خطوة اتخذتها هذه الدولُ.
(3) الوجه الآخر لموقف الخليج أو موقف أمريكا وصندوق النقد:
أ ـ تحرك القيادة العليا:
حصل السادات على وعود أثناء زيارته لدول الخليج، ولكن كان على الوعود (رغم هُزالها بالنسبة للآمال) أن تنتظر. فبعد أيام من إعلان "الرياض" عن فكرة صندوق الدعم، وصل إلى القاهرة جون جنتر (كان رئيس عمليات الشرق الأوسط في صندوق النقد)، واجتمع مع وزراء القطاع الاقتصادي والفنيين؛ تمهيدًا لزيارة ويتيفين (رئيس مجلس إدارة الصندوق آنذاك).
ووصل ـ في نفس الفترة ـ روبنسون (وكيل الخارجية الأمريكية للشئون الاقتصادية) على رأس وفد من الخبراء، واجتمع أيضًا مع رئيس مجلس الوزراء، والوزراء المعنيين؛ تمهيدًا لزيارة وليم سايمون (وزير المالية الأمريكي). وكذلك حضر رابين هانز (نائب رئيس البنك الدولي) وقابل نفس المسئولين؛ تمهيدًا لزيارة روبرت مكنمارا (رئيس البنك).
تحركت القيادات العليا للهجوم الاقتصادي (في شهر مارس) معًا، في ظل وعد خليجي غير محدد بإنشاء صندوق لدعم الاقتصاد المصري، وجاء قادة الهجوم يحددون الشروط سلفًا. وصل وليم سايمون في البداية، وقابل الرئيس السادات وكل المسئولين. ولا نعلم تفاصيل محادثاته مع أعلى المستويات، ولكن يقال (وهذا معقول) إنه أكد بوضوح ارتباط الدور الأمريكي المرتقب بعد الانتخابات؛ بإسراع الحكومة المصرية في إحدى التغييرات والسياسات الاقتصادية المُقترَحة، وانتقد بشدة تباطؤ الخطوات المنفذة في هذا الاتجاه، وكرر وعد الحكومة الأمريكية بالسعي بإنشاء كونسورتيوم من الدول الغربية والخليجية، ووعد "بالتوسط" لدى دول الخليج بالذات؛ للإسهام في حل سريع لمشكلة السيولة الخارجية، ولكن فقط في حالة "تعاون" السلطات المصرية مع صندوق النقد. أيضًا طلب سايمون إنهاء التزام مصر بأحكام المقاطعة العربية للشركات الأمريكية المتعاملة مع إسرائيل (وترددت في هذا المجال أسماءُ جنرال موتورز وجنرال إليكتريك وفورد وجوديير) (28).
ومعروفٌ أن فورد كان من المزايدين في الانتخابات الأمريكية، حول موضوع إنهاء المقاطعة العربية للشركات المتعاملة مع إسرائيل، وكان يفخر بأن إدارته قادت أول مبادراتٍ لتحطيم المقاطعة، (29) وكان طبَعيًّا بالتالي أن يطلب فورد من القيادة المصرية - باعتبارها الرائدة بين "المعتدلين" - أن تتعاون معه في إنهاء المقاطعة؛ لدعم موقفه الانتخابي، وكخطوة في اتجاه "العلاقات الطبيعية بين دول المنطقة"، تكمل الخطوات المُتخَذة وفق اتفاقية الفصل الثاني للقوات. وقد اتخذت الحكومة المصرية في هذا الأمر موقفًا وسطًا خلال 1976، فلم تسمح بإقامة مشروعات استثمارية للشركات المُدرَجة في قوائم المقاطعة، ولكن أبلغت الجهات التنفيذية سرًا بعدم التقيد بأحكام المقاطعة في العطاءات والتوريدات(30)، وكذلك قبلت في اتفاقياتها مع وكالة التنمية الدولية (جزئيًّا) هذا التسليم صراحة. وقد ذاعت أيام زيارة سايمون أنباءُ لقائه مع عدد من الاقتصاديين والفنيين المصريين؛ إذ روعتهم الطريقة الحادة التي تحدث بها، والنقد المرُّ (غير الدبلوماسي) لتجارب التنمية المصرية؛ ولِتردد الحكومة المصرية في التخلص الكامل من نتائج هذه الممارسات.
بعد عملية التحضير التي قام بها سايمون، وصل وينيفين (15 مارس) وأعاد نفس الاتصالات مع القمم المصرية المسئولَة، وانتهت إلى ضرورة التزام الحكومة ببرنامج زمني محدد "لإصلاح المسار الاقتصادي" بشكل جذري وفق "توصيات" الصندوق، واتفق بالفعل على المبادئ الأساسية لمشروع خطاب النوايا، الذي تتقدم به الحكومة المصرية إلى إدارة صندوق النقد. أمَّا بالنسبة لمكنمارا، فقد تأجلت زيارته؛ انتظارًا لنتائج صاحبيه.
هكذا كان شهر مارس مليئًا بالحركة (ولا ننسى أن إلغاء المعاهدة المصرية السوفيتية الذي بدا مفاجئًا، كان في 15 مارس). وكان طبَعيًّا أن ترافق هذا النشاط معاودةُ الاتصال بدول الخليج، فسافر ممدوح سالم، ثم وزير المالية (كما ذكرنا)، ولم تسفر هذه الزيارات عن أيَّة نتائجَ؛ لأن صندوق النقد لم يكن قد أطلق بعدُ الضوءَ الأخضر، وعبَّر السادات في هذه اللحظة عن حرج الموقف، فتخلى عن تفاؤله، وعن ذكر مشروع مارشال، وقال إن علينا أن نعمل ونشقى ونكد ونعرق؛ حتى نتخطى مشكلة العجز المالي، ونقيم الأساس لبناء جديد تمامًا. إن المرحلة القادمة، سوف تتطلب برنامجًا شاملاً للتقشف في كل مظاهر الحياة، وعلى الحكومة أن تقدم برنامجًا في هذا الاتجاه، ويناقشه كل الشعب (27 مارس)(31).
ونذكر أن اتصالات ومباحثات مارس، تمّت في ظروف أعلن فيها أن مصر متأخرة عن سداد التزاماتها لمدد تتراوح بين 32 و45 يومًا (32). وبعد إذعان السلطات المصرية (في مستوياتها الأعلى) للمطالب الأساسية لصندوق النقد ـ في مباحثات ويتيفين ـ وقعت اتفاقية إنشاء هيئة الخليج في أول أبريل. ثم وصلت ـ بعد أيام بعثة الصندوق (برئاسة جنتر)؛ لإجراء محادثاتها الدولية (أو مشاوراتها حسب تسمية الصندوق)، وصدر تصريح في الرياض بأن إجراءات إنشاء صندوق الدعم (أو هيئة الخليج) تنتهي في آخر أبريل (أي: بعد انتهاء الصندوق من مشاوراته بنجاح). كانت بعثة الصندوق تتوقع محادثات سهلة (بعد جولة مارس التمهيدية)، وشارك في المحادثات من الجانب المصري ـ كالعادة ـ رئيس الحكومة، وكافة الوزراء والفنيين المعنيين في القطاع الاقتصادي (33). ولكن ثبت للبعثة خطأ ما توقعت، وامتدت المحادثات حتى 16 مايو.. أن يدعم موقفه باللجوء إلى الرأي العام؛ إذ كشفت بعض الصحف اليومية في صفحاتها الأولى "التوصيات" التي يصر الصندوق على سرعة تنفيذها" (44). وكان النشر كافيًا بالفعل لإثارة قلق شديد في الأوساط الوطنية. ولكن ارتفعت المتأخرات في نهاية أبريل 359 مليون دولار (أي: أثناء المباحثات)، ووضح أن الضغوط الخارجية لم تعد تقبل إلا قرارًا صريحًا بالاستسلام، وعلى نحو يصعب الرجوع عنه، وحسب تعبير البعثة "كانت مناقشات ومشاورات عام 1976 موجهة على أساس الاتفاق المشترك بين ممثلي الجانب المصري والبعثة، على أن ما كان مطلوبًا هو عملية إعادة صياغة رئيسية للبنية الاقتصادية.
وقد اعترف ممثلو الجانب المصري والبعثة، بأن الإصلاحات الضرورية واسعة، وأنها ينبغي أن تنفذ عبر سنوات، ولكن قدرت البعثةُ أنه لا بد من إجراءاتٍ جوهرية تعطي قوة الدفع المطلوبة لعملية الإصلاح" (35).
ب ـ مباحثات الصندوق ومشروع خطاب النوايا:
اعتمادًا على تقرير البعثة، يتضح أن المناقشات تناولت التالي:
الخطة الخمسيَّة: المحادثات التفصيلية حول الخطة وتمويلها مهمة متروكة للبنك الدولي، ولكن التغييراتِ البنيويةَ، والأخذَ بالسياسات النقدية التي يطالب بها الصندوقُ - مدخلٌ ضروري. "أوضحت تقديرات بعثة الصندوق أنه ترتب على التزامات السداد الكبيرة الناشئة أساسًا من الاقتراض القصير الأجل الذي تم مؤخرًا، أنه أصبح ضروريًّا أن تتجاوز التدفقات الرأسمالية الإجمالية 7 بليون جنيه في الفترة 76 ـ 1980 كزيادة من المدخرات الأجنبية؛ بهدف الوصول إلى الخمسة بلايين جنيه المطلوبة. وفقط في حالة تغيير جوهري في الجو الاقتصادي في مصر، يصبح ممكنًا جذبُ التدفقات الرأسمالية بالحجم والنوع المطلوبين". وهذا الكلام كان حكمًا ثبت صدقه، بالنسبة لنتائج أيَّة اتصالات مع دول الخليج (وغيرها)". لا "مساعدات" قبل التغيير الجوهري في الجو الاقتصادي، أو قبل الحصول على "شهادة حسن السير والسلوك" من الصندوق.
وحتى بالنسبة لخطة عام 1976، أوضحت البعثة أنها يمكن أن تحقق أهدافها، إذا توفر نقد أجنبي كافٍ لمقابلة احتياجاتها من واردات من مدخلات الإنتاج. ويشير هذا ـ بمفهوم المخالفة ـ إلى أنه في حالة عصيان الصندوق؛ لن تتوفر موارد النقد الأجنبي، ولن تُنفَّذ الخطةُ.
سياسات الأسعار: أعادت البعثة مقولتها التقليدية، بأن هيكل الأسعار والأجور لا يقدم ـ في الوضع المصري ـ موجهًا مناسبًا لتخصيص الموارد على نحو كفء، ولا بد من إعادة ترتيب الأسعار النسبية؛ حتى توجه الموارد من القطاع الداخلي إلى القطاع الخارجي، ومن الاستهلاك إلى الاستثمار، ووافق الجانب المصري على ضرورة إحداث إصلاحات أساسية، ولكنْ رأى أنه "مع أخذ حجم المشكلة في الاعتبار، يصبح ضروريًّا أن تمتد العملية الإصلاحية عدة سنوات".
سياسات النقد الأجنبي: اتفق الجانب المصري مع بعثة الصندوق على ضرورة الإصلاح الشامل في الأنظمة النقدية والتجارية، وأكفأ الوسائل لتحقيق ذلك توحيدُ سعر الصرف عند مستوى مناسب، وإزالة القيود عن التجارة والمدفوعات الجارية، ولكن "بينما يعلن ممثلو الجانب المصري هذا باعتباره هدفًا نهائيًّا لهم، فإنهم يعتقدون أن التوحيد المبكر سيؤدي إلى زيادات غير مقبولة في الأسعار، و (أو) في اعتمادات الدعم". وقد ركزت المناقشات بعد ذلك على البديل الممكن لتوحيد سعر الصرف، وكان أهم الاقتراحات، استبدال السوق الموازية بسوق تجارية للنقد الأجنبي تكون أكثر شمولاً. وعبرت البعثة عن رأيها التقليدي العجيب في أن هبوط الصادرات المصرية إلى الغرب، يرجع إلى مجرد ارتفاع سعر الجنيه في السوق الموازية.
وفي اتجاه الضغط للخفض الفوري في سعر الصرف، دارت مناقشات طويلة حول سعر الصرف المطبق على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وقالت البعثة إنه لن تحدث تدفقات كافية، طالما أنها تقيّم بالسعر الرسمي، واعترف الجانب المصري بأن تدفقات الاستثمار المباشر
لم تكن كافية، ولكن بسبب التعقيدات الإدارية، وليس سعر الصرف، ومع ذلك؛ قال ممثلو الجانب المصري إن هذه المشكلة كانت موضع دراسة فعلاً في ذلك الوقت.

السياسات المالية والنقديَّة: اتفق ممثلو الجانب المصري مع بعثة الصندوق، على أن خفض قائمة الدعم مفتاح الإصلاح الجذري لعجز الموازنة، ولكنهم قرروا أن التعديلات في هذا المجال ينبغي أن تتم على أساس انتقائي وحذِر، وليس بإجراء شامل وسريع كما يرى الصندوق.
* * * * *
ولكن إلى جانب الخلافات البادية حول النقاط السابقة، سجل تقرير البعثة ارتياحه الجزئي للانتصارات التي أحرزت قبل المحادثات وأثناءها.
فرحبت البعثة بالتطورات الإدارية في القطاع العام، فقد أصبح إلغاء المؤسسات العامة نافذا في 31 مارس، وانتقلت السيطرة على أغلب القرارات الخاصة بالإنتاج وبعض القرارات الخاصة بالاستثمار إلى يد الشركات، ولكن ظلت أسعار المنتجات الرئيسية تحدد مركزيًا وظلت الشركات ممنوعة من التخلص ممن تعتبرهم عمالة زائدة. وبدءًا من ميزانيات 1977 كان مقررًا أن يزداد وزن معيار الربح في تقييم أداء الشركات.
وبالنسبة للأسعار، أشار ممثلو الجانب المصري إلى أن تعديلات سعر الصرف والتجارة التي تمت كانت بهدف تغيير هيكل الأسعار لصالح القطاع الخارجي، وكذلك تم إلغاء الدعم لعدد من المواد الأقل أهمية بهدف إصلاح الاختلالات السعرية. وكان الجانب المصري يشير في ذلك إلى الإجراءات المعلنة بغتة في 28 يناير. وقد شملت هذه الإجراءات (إلى جانب تعديلات الموازنة كما ذكرناها) تخفيضًا لسعر الجنيه في السوق الموازية، فأصبح منذ بداية فبراير يساوي 1.56 دولار، وصحب ذلك توسع في عمليات السوق الموازية، فحولت 275 مليون دولار من واردات القطاع العام السلعية إلى هذه السوق. وفي 21 مايو (بعد نهاية المباحثات بأيام) أعلنت الحكومة انصياعها لبعض المطالب الجديد للصندوق، فعدلت الموازنة للمرة الثانية، وشملت الإجراءات خفض سعر الجنيه في السوق الموازية للمرة الثالثة إلى جنيه = 1.46 دولارًا، وفي نفس الوقت حول ما قيمته 800 مليون دولار أخرى من واردات القطاع العام السلعية إلى هذه السوق. وبذلك أصبح متوقعًا أن يتم 37 % من كل مدفوعات العملات القابلة للتحويل بسعر السوق الموازية، والتي قُدرت بحوالي 4392 مليون دولار (مع استبعاد حوالي 255 مليون دولار من الاستيراد بالتمويل الذاتي). وكانت النسب المقابلة عام 1975 لا تتعدَّى
9% من قيمة واردات السلع والخدمات بالعملات القابلة للتحويل؛ إذ كانت السوق منحصرة - إلى حد كبير - في مدفوعات الخدمات، وبعض واردات السلع الوسيطة، وأساسًا لاستخدام القطاع الخاص، ومن ناحية أخرى، تحررت أيضًا ـ نتيجة إجراءات مايو ـ قائمة الصادرات التي تتم عبر السوق الموازية، والتي ظلت مجمدة إلى ما قبل الإجراءات.

ولكن ينقلنا هذا إلى القضية الأكثر سخونة: السوق التجارية؛ فبعثة الصندوق حددت ـ في المباحثات ـ ملامح هذه السوق كما يلي:
- سياسة مرنة لسعر الصرف؛ بحيث تحدد التغيرات الواسعة في هذا السعر وفق العرض والطلب.
- نظام تراخيص عامة ومفتوحة.
- تحرير التبادلات غير المنظورة من القيود.
- تحويل بعض الصادرات من السوق الرسمي إلى السوق التجاري، ويُستثنَى فقط القطنُ الخام، والأرز والبترول.
- كحد أدنَى، تحويل كل الواردات من سعر الصرف الرسمي إلى سعر السوق، باستثناء السلع التموينية الأساسية التي تستوردها الحكومة.
- تقييم تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بسعر السوق التجارية.
وسجل تقرير بعثة الصندوق أن موضوع السوق التجارية تحور، وتطورت تفاصيله، خلال نقاش طويل. وفي تلك الأيام كانت السلطات عاجزة عن إنشاء السوق التجارية على الفور. وكان هذا - إلى حد كبير - بسبب إدراكها أن الموارد المتاحة لدعم هذه السوق لا تكفِي. وقد عبرت البعثة عن تفهمها هذا الأمر. ولكنها أعلنت أن السوق ـ من وجهة نظرها ـ سيحسِّن وضع النقد الأجنبي حتى في المستقبل المباشر، وكان هذا التوقع يحتاج معتوهًا، أو مغلوبًا على أمره، لكي يصدقه.
وقد أثبت الصندوق أن الجانب المصري عبر عن نيته في إنشاء السوق التجارية حالما يمكن ذلك، وأنه سيتخذ في الأثناء عددًا من الإجراءات التي ينبغي أن تصاحب إنشاء هذه السوق. ولا شك أن هذه الموافقة المبدئية على إنشاء السوق التجارية كانت علامة انهيار خطير في الموقف الرسمي المصري في جبهة سعر الصرف، وقد فهمت بعثة الصندوق أن التنفيذ لا بد أن يكون خلال عام 1976، ولكن سجلت البعثة رأي الجانب المصري في أنه ينبغي مؤقتًا إبقاء بعض السلع الوسيطة والاستثمارية (المخصص لها في موازنة النقد الأجنبي حوالي 370 مليون جنيه) عند السعر الرسمي باعتبار أنها ذات وزن كبير في تكلفة المعيشة، ولكن "سمح لقطاعين فقط (البترول والنقل) أن يحتفظا بتسديد وإرادتهما من السلع الوسيطة والاستثمارية بالسعر الرسمي". وكانت هذه الموافقة المبدئية على السوق التجارية أهم نجاح حققه الصندوق في المُباحثات، وأهم ما تضمنه مشروع خطاب النوايا الذي وقعه ممدوح سالم بعد المشاورات.
ورحبت بعثة الصندوق بانصياع الحكومة ـ بشكل متزايد ـ لإنهاء اتفاقيات التجارة والدفع؛ كأداة لضبط تجارتها الخارجية. في بداية 1974 كان هناك ثلاثون اتفاقية (منها 18 اتفاقية مع دول أعضاء في الصندوق). تم إنهاء 6 اتفاقيات خلال عامي 1974، 1975، وحتى أغسطس 1976 كان قد تم إنهاء 6 اتفاقيات أخرى، وتم اتفاق على إنهاء 3 اتفاقيات إضافية، وكانت الحكومة تنوي إعلان عدد آخر من الحكومات برغبتها في إنهاء اتفاقياتها معها.
ونذكر هنا أن موضوع إنهاء الاتفاقيات بهذا المعدل، كان موضع مناقشات ودراسة داخل الجهاز التنفيذي المصري قبل مجيء بعثة الصندوق، وتلقى وزير التجارة (زكريا توفيق) تقريرًا هامًا في هذا الشأن أعدته وكالة الوزارة بالاشتراك مع وكالة وزارة المالية لشئون النقد الأجنبي، ومعروفٌ أن التقرير طالب بضرورة الحرص على نظام الاتفاقيات وخاصة مع الدول الاشتراكية (36).
ولم يشِر تقرير البعثة إلى قانون تنظيم عمليات النقد الأجنبي، ولكن ينبغي أن ـ نتناوله هنا ما دمنا بصدد إحصاء الانتصارات التي أحرزها صندوق النقد. ونذكر بالمناسبة أن القانون السابق للنقد، لم يكن قد صدر أثناء ثورة يوليو، وقوانينها الاشتراكية، بل كان قانونًا صادرًا أيام الملك فاروق وحكومة إسماعيل صدقي باشا (القانون 80 ـ يوليو 1947)، ورأى مشرع ذلك الزمان أن ظروف الاقتصاد المصري تقتضي ضرورة سيطرة الحكومة على استعمال الأرصدة الإسترلينية، التي تجمعت للبلاد خلال فترة الحرب، ووضع موارد البلاد من العملة الأجنبية - بصفة عامة - تحت تصرف السلطات النقدية في مصر (37). وحين واجه الاقتصاد المصري أخطرَ اختناق في موارد النقد الأجنبي، وتطلبت الحالة أقصى درجات التخطيط، ومنتهى الإحكام في تحديد أولويات الاستخدام، وفي الالتزام بهذه الأولويات، قِيل إنه "أصبح من الضروري تحريرُ المعاملات النقدية من القيود التي تغُلّ يدها، وأصبحت الحاجة مُلِحَّة إلى نظرة جديدة إلى النظام النقدي، بما يحقق المرونة الكافية"(38). فصدر القانون 97 لسنة 1976، الذي سمح للشخص الطبيعي أو المَعنِيّ من غير الجهات الحكومية ووحدات القطاع العام، بالاحتفاظ بكل ما يئول إليه أو يملكه من نقد أجنبي، من غير عمليات التصدير السلعي والسياحي، وأعطى له الحق في استخدام هذا النقد في أيَّة عملية من عمليات النقد الأجنبي، عن طريق المصارف المعتمدة، الجهات الأخرى المرخَّص لها بالتعامل، وأباحت اللائحة التنفيذية للقانون الاحتفاظ بهذا النقد الأجنبي بكافة أشكاله؛ خارج البلاد أو داخلها؛ سواء لدى المصارف أو كحيازة شخصية، وعدم قيام إلزام باستيراده إلى البلاد، أو عرضه على المصارف المعتمدة. وبملاحظة الخط الصاعد لحصيلة النقد الأجنبي المتولدة عن غير المصادر التقليدية؛ تتضح خطورة إطلاق التعامل العشوائي في الموارد الجديدة والمتنامية للنقد الأجنبي، وآثار ذلك على زيادة متاعب ميزان المدفوعات.
وبالنسبة لحصيلة التصدير السلعي، كانت المادة الرابعة من القانون 80 المعدَّل تنص على أن كل من يرخص له بتصدير بضاعة، تُسترَد قيمتُها في مدى ثلاثة أشهر من تاريخ الشحن، ويتم عرض هذه الحصيلة على وزارة المالية، إلا أن المادة الثالثة من القانون الجديد ألغت وجوبية هذا الإجراء، واكتفت بأن أجازت للوزير المختص تجنيب كل - أو جزء من - ما يتحقق من نقد أجنبي من عمليات التصدير السلعي والسياحي؛ وفقًا للشروط والأوضاع التي يصدر بها قرار من الوزير المختص، في إطار موازنة النقد الأجنبي. كذلك أجيز للبنوك فتح حسابات خاصة بالنقد الأجنبي، ومنح ائتمان بالنقد الأجنبي لصالح جهات ووحدات في مصر يتحقق عن نشاطها نقدٌ أجنبي، وأعطت اللائحة للبنك المركزي حق التعامل الآجِل في العملات الأجنبية، وأجازت للبنوك المعتمدة إبرام عقود شراء وبيع العملات الأجنبية بالأجل. كما سُمِح لهذه المصارف أيضًا بتصدير واستيراد أوراق النقد، بالإضافة إلى شراء وبيع الذهب والمعادن الأخرى الثمينة لصالح عملائها، وأصبح استيراد وتصدير الأوراق المالية المصرية والأجنبية والتعامل فيها الذي يرتب حقًا أو التزامًا بالعملة الأجنبية يتم مباشرة ـ دون موافقة مسبَّقة ـ عن طريق المصارف والجهات المعتمدة.. وفي ظل تحلل السيطرة المركزية على القطاع المصرفي (بما في ذلك البنوك المؤممة) يعني ذلك إطلاق يد البنوك في تلقِّي الودائع بالنقد الأجنبي، وعقد القروض، وتحديد استخدامات واستثمارات هذه الموارد وفْق المعايير التي يراها كل بنك، وكل هذا حدٌّ لمدى وفعالية الموازنة النقدية، كأداة هيمنة مركزيَّة.
والحقيقةُ، أن الحكومة ترددت كثيرًا في التقدم بقانون النقد الجديد، فمنذ أوائل 1975 كانت تدرس الموضوع (تحت إلحاح الجهات الخارجية ومعاونيها في الداخل) ثم سوفت، حتى تكثفت الضغوط، وكان لا بد من الإذعان.
وبالنسبة للقروض الخارجية، أبدت بعثة الصندوق شكها حول قدرة الحكومة المصرية على الالتزام بقاعدة
ألا يتجاوز الاستخدام من القروض المصرفية أكثر من 75 % من المسدد، ورحبت البعثة باستجابة الحكومة لتوصية إنشاء وحدة خاصة للإشراف على عمليات الدين الخارجي؛ بحيث يكون شرطًا من شروط التعاقدات المتوسطة
أو الطويلة الأجل التي تعقدها الحكومة، أو تعقد بضمان الحكومة، الحصول أولاً على موافقة هذه الوحدة. وفي الظروف القائمة، لم يكن ذلك مجرد عملية تنظيمية عاديَّة، فهو خطوة باتجاه تيسير إدارة صندوق النقد (أو من يُنيبه) للدَّين الخارجي المصري، وهو خطورة أيضًا باتجاه فك عرى المركزية في الجهاز التنفيذي، وتدعيم استقلالية البنك المركزي قبل الحكومة.

أيضًا رحَّبت البعثة بإجراءات مايو لتعديل الموازنة العامة للمرة الثانية، وقد أدخلت الموازنة المعدلة إجراءاتٍ ضريبية كان العاجل جدًا منها والأهم، احتساب التعريفة الجمركية على الواردات وفْق سعر الصرف الذي تم به الاستيراد. قبل ذلك كانت التعريفة الجمركية وفقًا للسعر الرسمي للجنيه. والإجراء الجديد كان يعني زيادة التعريفة بالنسبة لمعظم السلع المستوردة، عن طريق السوق الموازية بمعدل 75 % تقريبًا. قالت البعثة إن القرار يؤدي إلى الحد من الواردات الكمالية، ويحقق دخلاً إضافيًّا للحكومة (حوالي 60 مليون جنيه) وما لم تذكره البعثة، هو أن القرار كان كسبًا لنقطة هامة في جولات الصندوق؛ لانتزاع الاعتراف الرسمي بالسعر المُخفض للجنيه.
وشملت إجراءات تعديل الموازنة العامة، خفض اعتمادات الدعم في بعض المواد (بدءًا من أول مايو): دعم الدقيق ـ الذرة ـ السمسم ـ اللحم ـ البُن ـ الحلاوة الطحينية. وكان مقدرًا أن يؤدي هذا إلى خفض الإنفاق الحكومي بأكثر من 30 مليون جنيه سنويًا. وقد رحبت بعثة الصندوق بكل هذه الإجراءات (تنفيذًا لمطالبها) بدءًا من إجراءات يناير التي اعتبرتها ثانوية، إلى إجراءات مايو، ولكنها سجلت أنها جميعًا أقل مما كان متوقعًا، وقالت: إنه إذا أرادت الحكومة ـ في هذه الظروف ـ أن تحصر اقتراضها من الجهاز المصرفي المصري ضمن حدود معقولة، ستجد نفسها مُضطرة إلى زيادة الاعتماد على الاقتراض الخارجي بحوالي 50 % لتمويل الاستثمارات المستهدفة. ومع ذلك، أشادت البعثة بالتزام الحكومة ـ حتى كتابة التقرير ـ بالخطة الائتمانية (وأبدت شكها في استمرار ذلك) (39)، وحثت البعثة على سرعة إقرار قانون الضرائب المحول إلى مجلس الشعب، وسجلت أن الجانب المصري يدرس رفع معدلات الفائدة على الإيداع والإقراض؛ حسب "التوصيات". ومعروف أن البنك المركزي سبق أن قرر رفع أسعار الفائدة على الودائع الادّخارية (بشرائحها المختلفة) في حدود 1 % اعتبارًا من أول يناير 1976، ولكن الصندوق كان حانقًا على هذه الزيادة الضئيلة.
* * * * *
والحقيقة أن النجاحات التي حققها الصندوق في النقاط السابقة، وصفَّق لها، لم تُنتزع بسهولة؛ فقد فهمنا من تقرير البعثة أن رجال الصندوق كانوا مضطرين إلى التلويح "بالعصا الغليظة" عند كل نقطة. كانت البعثة تكرر باستمرار ما معناه: أنتم معرِضون للاختناق، ولن يُنقذَكم أحدٌ إلا إذا وافقتم على مطالبنا. أشرنا إلى هذا المعنى في الحديث عن الخطة الخمسيَّة، وخطة عام 1976. وعند الحديث عن السياسات المطلوبة لسعر الصرف والتجارة، أنهت البعثة عرض وجهة نظرها، بأن العجز في ميزان المدفوعات كبير جدًا "وبما أن التوقعات تشير إلى انخفاض حاد في المِنح والقروض المُقدَّمة للحكومة، فإن وضع ميزان المدفوعات حَرِجٌ، وأثناء الأشهر الأولى من العام، كان هناك تراكُم كبير من المُتأخِّرات في السداد".
وأضافت البعثةُ أن المتأخرات في المدفوعات الجارية كانت قد انخفضت خلال النصف الثاني من 1975، ولكنها بدأت ترتفع مرة أخرى في أوائل 1976، وكان في نية الحكومة أن ينخفض - إلى حد كبير - مستوى المتأخرات في المدفوعات الجارية، كانت قد انخفضت خلال النصف الثاني من 1975، ولكنها بدأت ترتفع مرة أخرى في أوائل 1976، وكان في نية الحكومة أن ينخفض إلى حد كبير مستوى المتأخرات خلال الـ 12 شهرًا القادمة، وأيضًا أن ينخفض الاقتراض المصرفي، "ولكن مثل هذا الخفض يعتمد على توافر تمويل خارجي مناسب ذي أجل أطول". وفي التقييم النهائي للموقف، قيل: "لا بد من الاعتراف بأن نجاح برنامج الإصلاح يعتمد على الحصول على مستوى مناسب من المساعدات بشروط ميسرة لميزان المدفوعات، وأن الكميات المطلوبة خلال السنوات العديدة المُقبلة، تتجاوز بدرجة كبيرة ما قد يُقدم وفقًا للترتيبات المالية مع الصندوق. ومثل هذه المساعدة، ستظل ضرورية، حتى مع افتراض تبني سياسات مُثلى، إذا أرادت مصر أن تتجنَّب النواقص المعوقة في المدخلات المستوردة، وتخفض المتأخرات على المدفوعات الجارية، وتقلل الاعتماد الحالي الثقيل على الاقتراض القصير الأجل من البنوك الأجنبية. وفي الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك وسائلَ لسد هذه الفجوة التمويلية".
الحكومة تحاول وقف تراجعها:
في الإطار السياسي العام، وبانصياع دول الخليج "لتوصيات" الصندوق لها بالانتظار، "والعصا والجزرة"، كان لا بد أن تتراجع الحكومة، وسافرت بعثة الصندوق في مايو ـ بعد المباحثات الطويلة ـ راضية عمّا أنجزت ـ ولكن حدث في الأشهر التالية أن عادت الحكومة المصرية تحاول التخلُّص من بعض ما التزمت به في المباحثات، وفي مشروع خطاب النوايا، فقد أسفرت المناقشات المغلقة والمفتوحة ـ أحيانًا ـ عن تحفظ كافة المسئولين من الإسراع في إنشاء السوق التجارية. نُوقشت القضية مثلاً في اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب، في جلسة استماع، فأعرب كل الفنيين والاقتصاديين الحاضرين عن معارضتهم، وكان وزير المالية حاضرًا، ولم يخفِ تضامنه، وكتب على لسان ممدوح سالم أنه يتحفَّظ أيضًا على تحديد موعد لقيام هذه السوق (40)، وكان يُشاع عن زكي شافعي وزير الاقتصاد، أنه موافق باعتباره مسئولاً عن المباحثات بشأنها مع جون جنتر، ولكنه صرَّح (يونيو) بوقوفه الصريح إلى جانب المعارضين وقال: "قيام السوق الآن خطر، ولم أحدد من قبل موعدًا لقيام السوق، ولست مسئولاً عن تحديد موعد، ونحن لم نرتبط أصلاً مع صندوق النقد الدولي على موعد لقيام هذه السوق، كل الذي وقعناه مع صندوق النقد اتفاق بضمان السعر في السوق التجارية"... "نحن لم نحدد موعدًا، ولا يمكن قيام السوق التجارية الآن إلا بضمان سعر الجنيه المصري. في الاقتصاد كل شيء محسوب، وقبل أن نكون قد استكملنا حساباتنا، فإنه لا توجد قوة تضغط علينا، ولن نخضع لسيطرة أحد، بل ستقوم السوق في الوقت الذي نراه مناسبًا لنا، وفي ضوء ما تسفر عنه حساباتنا نحن" (41).
إلا أن هذه اللهجة، لم تكن لِتُرضي الصندوق ومن خلفه، وكان لا بد أن يدفع الوزير ـ بعد فترة ـ ثمنَ هذا "التطاول"، ولكن لفت النظر بالمناسبة، أن زكي شافعي سُئل في حديثه السابق عن حقيقة ما أعلن عن لسانه عن زيادة المقررات للمصريين المسافرين للخارج، وكانت إجابته أنه
لم يعلن شيئًا، وأن عندنا مليون مسافر بين حج وسياحة ومهمة، ولو أخذ كلُّ مسافر 1000 أو 3000 جنيه إسترليني كما قيل، يكون المطلوب توفير بليون أو 3 بليون جنيه إسترليني لهذا الغرض.. ثم أضاف الوزير "كل الذي حدث في هذا الشأن، أن صندوق النقد الدولي أوصى بزيادة مقررات المصريين المسافرين للخارج، ولم تحدد أيّة أرقام".. إذن، انكشف على الملأ أن الصندوق أصبح يتدخل ويوصي في تفاصيل التفاصيل!

و.. كان على صندوق النقد (بعد هذا الموقف الجديد من الحكومة) أن يواصل قيادة الضغط الاقتصادي المنظم من خلال لعبة "المعونات". ونعود إلى حيث توقف بنا الحديث مع هيئة الخليج والمباحثات الدولية في النصف الأول من العام. ذكرنا أن بدء عمليات الهيئة ظل مؤجلاً في انتظار نتائج المباحثات الأمريكية ومباحثات الصندوق. ويحسن أن نضيف أن تحويلات الدعم العربي (المنح) خلال النصف الأول من عام 1976 لم تتجاوز 393 مليون دولار (مقابل 785 مليون دولار في الفترة المقابلة من عام 1975). وفي نفس الوقت كان إيداع الودائع (حوالي 150 مليون دولار) بمعدل لا يسد اتساع الفجوة التمويلية الناشئ عن الهبوط في حجم الدعم. وقد يبدو التنسيق بين مختلف التحركات النقدية من متابعة ترمومتر التسهيلات المصرفية، خلال الفترات المتتالية في عام 1976، على النحو التالي: (42).
جدول (1)
تطورات الديون المصرفية خلال 1976ـ بالمليون دولار
الفترة
المستخدَم
(1)
المدفوعات
صافي المستخدم (1) ـ (2)
(2) أساسي
فوائد
يناير/ مارس
أبريل/ يونيو
يوليو/ سبتمبر
أكتوبر/ ديسمبر
184.2
140.1
128.2
169.1
99.9
179.9
105.6
144.2
9.4
9.9
7.1
5.4
84.3
39.8
22.6
24.9


ويُلاحظ أن فترة أبريل/ يونيو هي وحدها التي شهدت هبوطًا في صافي المستخدم من التسهيلات المصرفية، ويلاحظ أن هذه الفترة كانت فترة كتابة مشروع خطاب النوايا، وفترة شروع الحكومة في التنفيذ الفعلي لبعض "التوصيات"، وحين وضح تباطؤ التنفيذ، وعدول الحكومة عن بعض ما التزمت به، وخاصة موضوع السوق التجارية، بات متوقعًا أن النصف الثاني من عام 1976 سيشهد محاولات ترويض عنيفة في المجال الاقتصادي. ولعبت هيئةُ الخليج في هذا المجال دورًا بالغ الأهمية؛ فقد انخفض الدعم، وانخفضت الودائع على أساس أن التدفقات الجديدة ستأخذ شكل قروض منتظمة من هذه الهيئة. وقد ذكرنا كيف بدأت الهيئة، وكيف تلكأت، وأوضح السادات (في 14 يونيو) أنه
لا يدري إذا كانت الأخبار من الهيئة مشجعة أو غير مشجعة، "وستتضح الصورة بعد زيارة رئيس الوزراء".

ورحلة ممدوح سالم جاءت بعد تأجيل موعد اجتماع وزير المالية المصري مع وزراء مالية الخليج في القاهرة. كان موعد الاجتماع يوليو، وطلب وزراء الخليج تأجيله دون تحديد لموعد آخر؛ ولذا كانت رحلة ممدوح سالم تهدف إلى معاودة المناقشة حول ترتيبات "المعونات" النفطية، ومن ناحية أخرى، كانت الرحلة تعبيرًا عن قبول القيادة المصرية لطلب السعودية والكويت، بأن تبتعد عن التدخل في المشكلة اللبنانية ومهاجمة سوريا. وعبَّرت القاهرة عن قبول هذا الشرط السياسي بفكرة عقد اجتماع لرؤساء وزراء الدول الأربع في الرياض؛ لبحث التطورات في الساحة العربية، ولكن يبدو أن السعودية ألحَّت على حضور السادات بنفسه لمناقشة هذه المواضيع، فصرح بأنه ذاهب ليتشاور مع زملائه في السعودية "قبل الاجتماع المقبل لرؤساء وزراء الدول الأربع، وهناك مسائل أخرى - لا بد أن أبحثها - خاصة بصندوق الدعم العربي، (43). وحدث بالفعل أن بُحِث في الرياض (21 يونيو) موضوعٌ الصندوق أو هيئة الخليج، ولكن حدث أيضًا أن تحولت المناقشات السياسية إلى قبول السادات للاجتماع المباشر مع حافظ الأسد، على عكس ما كان يرغب في تلك الفترة (وفقًا لحساباته في الأزمة اللبنانية كما ذكرناها).
فقط بعد نجاح هذا الضغط السياسي، وبعد الاتصالات على أعلى مستوى؛ حضر وزراء مالية الخليج، في الموعد الذي كان قد أُلغِي (17 يوليو)، ولكن لم يكن بيدهم ـ رغم ذلك ـ إلا الاتفاق الرباعي بإنشاء هيئة الخليج برأسمال لا يتعدى 2 بليون دولار، ودون التزامات محددة بالنسبة للقروض النقدية (تمامًا كما كان الأمر في البداية). فعاد السادات إلى لقاء الملك خالد في حدة لمناقشة الأمر، (وكان معه النُميري بعد مساعدته في إفشال محاولة الانقلاب ضده). وأرسل وزير المالية المصري مذكرة إلى وزراء مالية السعودية والكويت والإمارات العربية وقطر، وحددت المذكرة مطلبَ مصر العاجل في الحصول على 1000 مليون دولار (على أساس أن العجز في موازنة النقد الأجنبي عن النصف الثاني من عام 1976 يبلغ حوالي 1250 مليون دولار). ولكن لم تتلقَ الحكومةُ المصرية ردًّا على هذا المطلب العاجل، ولم تحدث أية اتصالات بشأنه؛ بحجة أن الإجابة ستعلَن في اجتماع وزراء المالية يوم 18 أغسطس (44). وهنا فَقَد الساداتُ أعصابه، فوجه ـ لأول مرة ـ نقدًا علنيًّا إلى دول الخليج، وقال إن الصندوق لا يكفي الاحتياجات ولا يوفر السيولة المطلوبة (45). ويبدو أن دول الخليج، اتخذت هذا الخطاب ذريعة لمزيد من المراوغة، فأفهموا الخبراء المصريين (خلال اجتماعات "الرياض" لوضع مسودة اتفاقية تنظيم التعامل بين الهيئة ومصر) أن لقاء وزراء المالية في 18 أغسطس قد يتأجَّل، وقيل إن دولتين من أعضاء الهيئة، لم تُصدِّقا بعدُ على قانون اتفاقية إنشاء الهيئة (الموقعة منذ أبريل). قطر اعتبرت المسألة شكلية، والكويت كانت تنتظر عرض الأمر على مجلس الأمة الكويتي. وقد اضطر السادات إلى الاعتذار المتلعثم علنًا عمّا بَدَر منه، فافتعل مناسبة ليتحدث حديثًا طويلاً في الموضوع: "السعودية، الله يرحمه فيصل، ثم من بعده الملك خالد، ما قصروا إلى هذه اللحظة أبدًا "...) لكني أقول إليهم: "إننا نمرُّ بأزمة، ونحن أيضًا حساسون ولنا كبرياء، وما نطلبُه هو قروض، ما بنطلبش معونة، ويمكن الحساسية الزايدة لموقفنا هي اللي خلتني أقول إنه الأسلوب اللي يسير عليه الصندوق العربي باثنين مليار دولار اللي قرره إخواننا كل ده غير كاف.. ليه؟ علشان إخواننا يعيدوا حساباتهم مرة أخرى، ويعيدوا حساباتهم على ضوء إن الكلمة الصغيرة اللي قد كده تجرحنا (....) عملية الصندوق "مع إنهم - مشكورين - بيقدموا 2 مليار النهاردة على 5 سنوات. أنا بأقول لهم: دا ما هواش كافي؛ لأن ظروفنا والناس المختصين عندنا مستعدين يضعوا كل شيء بوضوح للعالم كله؛ لأن لما دخلنا على الاقتصاد علشان نصلحه، ما بنخبيش حقائق أبدًا عن حد.. ليه؟ عشان يبقى العالم كله على قناعة من موقفنا.. وإذا كنت تحدثت عن الصندوق في جامعة الإسكندرية وقلت إنه ما يكفيش، ليس معنى هذا أبدًا أنني أطعن إطلاقًا فيما قدموه ويقدمونه، ولكن "إحنا لنا كرامة ولنا إباء، وده ما يزعلش؛ لأن ده إحنا منهم وهم منا" (46). وبعد هذا الكلام بأيام، قال صحفي كويتي للسادات إن الدول النفطية لديها التزامات تجاه لبنان وسوريا، فهل هذا التبرير، أو هذا الشرح، كافٍ تجاه طلب مصر؟ ورد السادات بأن رقم الـ 10 أو 12 بليون دولار "غير مُبالَغ فيه، فإذا وافقت الدول النفطية معنا فشكرًا لهم، وإذا كانوا لا يريدون ذلك؛ فلهم الخيار، لن نشكو شُحَّهم أبدًا (....) إنني لا أريد أن أفتح قضية جانبية، فالدول النفطية إذا كانت تريد الوقوف معنا فهذه احتياجاتنا، وإذا كانت لا تريد فذلك خيارها، ولن يحز في نفوسنا شيء" (47).
والحقيقة أن كل مُتابع لخلفيات الصورة، ولطبيعة لعبة المعونات المشروطة التي يقودها صندوق النقد، كان
لا بد يدرك أن موقف دول الخليج لن يتزحزح؛ فتقرير بعثة الصندوق عن مباحثاتها في القاهرة صدر في أوائل أغسطس، وقد جاء في ختام التقرير تقييم البعثة عن تطورات الموقف. جاء في هذا التقييم أنه "في أبريل وأوائل مايو 1976، اتخذت في الواقع بعض إجراءات هامة. وأثناء المناقشات حدد ممثلو الجانب المصري الإجراءات الأخرى التي تتخذ فورًا، وتلك التي يمكن تأجيلها حتى أواخر 1976. وفي تقدير أعضاء البعثة مثل هذا البرنامج مجموعة سليمة من الإجراءات حققت تقدمًا كبيرًا نحو إعادة صياغة البنية الاقتصادية، وقدمت إشارة واضحة إلى أن الحكومة المصرية كانت تنوي معالجة بعض الإجراءات المُشار إليها (السوق التجارية في المقام الأول ـ المؤلف)، وقررت أن تنقص - إلى حد ما - من مدى بعض الإجراءات المُتخذَة في أوائل مايو (المقصود أنه بعد التوسع في التعامل بسعر السوق الموازية، أُلزمت الوزاراتُ والهيئات الحكومية المختلفة، باستخدام الاعتمادات المخصصة لهذه الجهات في امتصاص أثر ارتفاع تكلفة الواردات بسعر السوق الموازية على الأسعار المحلية ـ المؤلف). وقد أشارت السلطات إلى أن نوايا سياستها تبقى بلا تغيير، ويتوقع خلال بضعة أشهر أن تُستأنف المناقشات؛ تطلعًا إلى صياغة برنامج يمكن أن يقدم الأساس لطلب اتفاق مساندة، يتضمن استخدام موارد الصندوق زيادة على تسهيلات شريحة الائتمان الأولى. وفي الأثناء تستمر الاتصالات الوثيقة بين السلطات المصرية وأفراد البعثة.

وقد انعكس هذا التقييم في قرار مجلس مديري الصندوق الذي بارك الخطواتِ المتخذة من الحكومة المصرية
بلا حماس، وقال إن المطلوب كثير. وكما نعلم من بروتوكولات العمل في الصندوق، كان تراجع السلطات المصرية عن بعض ما التزمت به، يعني تعديلاً أو خروجًا عن شروع خطاب النوايا الذي أملته بعثةُ الصندوق، ويترتب على ذلك (كما في التقييم) تأجيل مجلس المديرين لإصدار اتفاق مساندة، أي: تأجيل تقديم قروض من صندوق النقد، إلى أن تذعن الحكومة المصرية "للتوصيات" الكاملة في مفاوضات مقبلة.

ومعروفٌ أن تأجيل أو وقف اتفاق المساندة، هو إبلاغ رسمي لكل جهات التمويل المعنية، بأن تتوقف عن تقديم "المساعدات"، وبالتالي كان طبَعيًّا أن ترفض هيئةُ الخليج كل المقترحات المصرية. وقد نضيف أيضًا إلى ما سبق، أن العلاقات بين دول الخليج وصندوق النقد الدولي، أوثقُ من أن تُحرَّك بالإشارات، والتوجيهات غير المباشرة، فكل الدلائل تسيغ لنا أن نفرض أن الصندوق على صلة مؤسسية مستقرة مع دول الخليج، وتطور المباحثات المصرية مع صندوق النقد، كان يبلغ بانتظام إلى دول الخليج، والتصرُّف المطلوب كان يبلغ بانتظام أيضًا ووضوح.
المهم، رفضت هيئة الخليج كل المقترحات المصرية،
ولم يكن أمام الحكومة، إلا أن توقع على اتفاقية التعاون مع هيئة الخليج في 21 أغسطس، متضمنة كل النقاط الأساسية التي كانت تعترض عليها، ثم تقاعست الهيئة - رغم هذا - عن تقديم أيَّة قروض، وفي نهاية أغسطس كانت المتأخرات قد قفزت إلى 757 مليون دولار (بزيادة تقرب من 400 مليون دولار على مستوى نهاية أبريل)، ونشر في ذلك الوقت، أن وزير المالية أرسل تقريرًا خطيرًا عاجلاً إلى اللجنة العليا للتخطيط، أي: يرأسها رئيس مجلس الوزراء- حول الأزمة التي تواجه تمويل الموازنة العامة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من العام. ومنذ نهاية أغسطس حتى أوائل أكتوبر زادت المتأخرات 50 مليون دولار أخرى في حساب التسهيلات المصرفية وحده؛ وبذا أصبحت المتأخرات الجارية أكثر من 800 مليون دولار (منها 200 مليون دولار ودافع مع ليبيا والسعودية، و170 مليون دولار تسهيلات موردين و100 مليون دولار قروض حكومات، بالإضافة إلى التسهيلات المصرفية) وظلت الحكومة المصرية تنتظر ردًّا من هيئة الخليج ولا مجيب؛ لأن الصندوق لم يعد يقبل الحلول الوسط، وكان يهدف إلى إحداث التغيير الحاسم بلا إبطاء.

وكانت الضغوط الخارجية تتكامل مع نتائج الانفتاح الداخلي في ظل إدارة خرِبة؛ الفوارق الطبقية تتزايد باضطراد، معدلات ارتفاع الأسعار تسحق أصحاب الدخول الدُّنيا والمتوسطة (وخاصة أصحاب الأجور والمرتبات في الحكومة والقطاع العام). نقد السياسة الاقتصادية أصبح موقف كل القوَى والفئات الوطنية) ومن بينهم معظم المسئولين الشرفاء في القطاع الاقتصادي). القلاقل الاجتماعية توالت، وبلغت ذروة منذرة حين صحت القاهرة يوم إعلان نتيجة الاستفتاء على رئيس الجمهورية (17 أكتوبر) على إضراب شامل لعمال النقل شلّ العاصمة، والحكومة التي تعارض في الإذعان لتعليمات صندوق النقد؛ إذعانًا كاملا، لم تكن تعتمد على أي جهد محلي. بدت الحكومة وكأنها تعتمد في معارضة هذه التعليمات وما يترتب عليها من مصاعبَ، على مساعدة أخوة الخليج. وقد يكون هذا التصور فجًّا، ولكن بالفعل بدت الحكومة بهذا المنظر، فتحركها لتحسين الموقف الاقتصادي، ولرفع كفاءة الإدارة الاقتصادية ـ بأي شكل ـ كان مشلولاً تمامًا، رغم الإعلان الواسع ـ وبمبادرة الرئيس في أول مايو ـ عن بدء الثورة الإدارية (استجابة لمطلب الهيئات الدولية). كان التحرك الوحيد للمسئولين باتجاه التحالف مع دول (الخليج ضد مبالغة الحكومة الأمريكية في الشروط المقدَّمة، وباتجاه استخدام أموال الخليج في نوع من الهجمات المضادة التكتيكية؛ للحد من الغزو الإمبريالي، وكان لا بد لهذا التحرك أن يفشل، وثبت أن دول الخليج في هذه الظروف ترفض (أو لا تستطيع) الخروج على "توصيات" الحكومة الأمريكية والهيئات الدولية، بضرورة فرض تغييرات حاسمة وفورية على بنية الاقتصاد المصري. ولم تقبل هذه الجهات ما تذرعت به الحكومة المصرية لتأجيل الإجراءات المطلوبة إلى ما بعد انتخابات مجلس الشعب (في أواخر أكتوبر). كان المسئولون يقولون إن الإعداد لهذه الانتخابات يتطلب الابتعاد عن الهزات السياسية التي قد تؤثر على نتيجة الانتخابات. وانتخاب مجلس "متعاون" شرط لإصدار التشريعات المناسبة في السنوات القادمة. ولكن هذه الحُجة كانت أيضًا مرفوضة.
ثالثًا ـ المرحلة الثانية للهجوم من أجل الحسم:
"خطتي الجديدة: إن إحنا لا بد أن نستكفي بالطعام ما عدا القمح (....) وإن شاء الله أنا مدي تاريخ محدد: أكتوبر اللي جاي - إن شاء الله - بالنسبة للأكل، وسيظهر أثر هذا كله، بدءًا من أكتوبر وطالع إن شاء الله" (46)... كان هذا كلام الرئيس، ولكن ما حدث فعلاً "من أكتوبر وطالع" كان سلسلة من المتاعب والانهيارات.
في الخارج: كانت الانتخابات الأمريكية في مراحلها النهائية، وانتهت بفوز جيمي كارتر (3 نوفمبر). في العالم العربي: توقَّف الصراعُ المصري السوري الفلسطيني حول الأزمة اللبنانية (ولكن بعد خسائرَ جسيمة، وجراح لا تندمل). وفي الداخل: شهد أكتوبر تحركًا وتصاعدًا في العمل السياسي أثناء الحملات الانتخابية لمجلس الشعب، وكان السخط الشعبي على الأوضاع الاقتصادية يكشف عن أنيابه. والولايات المتحدة (والهيئات الدولية) التي دبرت عملية الإبطاء في تقديم قروض سهلة، ومنعت أيَّة ترتيبات عامة لإعادة جدولة الالتزامات، كانت ترقب التراكُم الناتج في الديوان الصعبة والمتأخرات، ويبدو أنها قررت أيضًا "بدءًا من أكتوبر وطالع" اقتحام المواجهة الحاسمة (استعدادًا لما بعد الانتخابات الأمريكية). ونلحظ التعبير عن هذا، في لإعطاء صورة مفجعة، ولكن من حقنا أن نفترض - مع ذلك - أن الاتصالات التي لا نعلمها، كانت تحمل ضغوطًا وإنذاراتٍ أشد خطرًا. ونفترض بالتحديد أن الاتصالات السريَّة مع الحكومة الأمريكية، كانت تؤكد بحسم (ضمن أمور أخرى) على الربط بين الانصياع لتعليمات "إصلاح المسار الاقتصادي"، وبين التحرك الأمريكي المرتقب.
(1) مع البنك الدولي (إهانة مكنمارا للمسئولين المصريين):
أ ـ يلزم في حالة البنك الدولي، أن نصل إلى صدام أكتوبر، بعد عرض سريع لتطورات العلاقة؛ فبعد زيارة روبرت مكنمارا للقاهرة في أوائل 1974، ظل البنك الدولي يرسل بعثاتِه لدراسة الموقف، وتقديم "التوصيات" المُتسقة مع "توصيات" صندوق النقد، ولكن تعاقداته مع الحكومة المصرية لم تتجاوز 85 مليون دولار (1874)، و77 مليون دولار (1975)، وقفزت إلى 157 مليون دولار (1976). ومع تزايد الاتفاقيات، كان نفوذ البنك في الوزارات المختلفة يتعاظم، وكانت سيطرته المباشرة تتأكد على الوحدات المستفيدة من المقروض، وعلى القطاعات المختلفة (راجع الفصلين الثاني والرابع).
ولكن مع القرار السياسي للبنك بإعطاء أولوية خاصة لمصر عام 1976 (كما يبدو في حجم القروض) كان لا بد من تدخل مباشر على مستوى الاقتصاد الكلي لصياغة سياسات التنمية والسياسات الاقتصادية للأجل الطويل والمتوسط. ولم يكن اختيار البنك لعام 1976 اختيارًا عشوائيًّا، فهو على صلة عضوية بخطة الهجوم الشامل، وبعد عمليات التحضير التي تمت خلال العامين السابقين.
ومهمة البنك الدولي ـ كمهمة الصندوق ـ على صلة بكافة الوزارات، ولكن يركز الصندوق على وزارتي المالية والاقتصاد، ويركز البنك على وزارة التخطيط. وحين وصلت بعثة الصندوق في أبريل، كانت هناك بعثة من البنك الدولي قد سبقتها بأيام برئاسة ووتر تيمز، ومهمتها القيام بمباحثات مُكثَّفة مع وزير التخطيط الجديد، ومع معاونيه في الوزارة، (ومع الفنيين في الوزارات الأخرى طبعًا). وزير التخطيط (محمد محمود الإمام) كان يتصوَّر أن الاستراتيجية العامة "تستمد من نصوص الدستور الدائم، ومن معالم الاستراتيجيَّة الحضاريَّة الشاملة التي أقرَّها الشعب عند استفتائه على ورقة أكتوبر"، ورتَّب على ذلك ضرورة التمسك بحتمية الحل الاشتراكي، وضرورة دعم القطاع العام والمحافظة على دوره القائد، مع إزالة القيود التي حدَّت من انطلاق القطاع الخاص نحو الاستثمار البناء، دون استغلال، أو جري وراء المجالات الطفيلية ـ كذلك أوضح الإمام ضرورة توفير متطلبات السلام الاجتماعي، مما يُحقق التوازن بين كافة فئات المجتمع؛ سواء في مراحل إنشاء الدخل أو توزيعه أو إعادة توزيعه ـ أيضًا مراعاة التوازن في العلاقات مع مختلف الدول والتكتلات الدولية، والتعامل مع الأشقاء العرب تعاملاً متكافئًا لا يخلق العلاقات مع مختلف الدول والتكتلات الدولية والتعامل مع الأشقاء العرب تعاملاً متكافئًات لا يخلق محاورَ أو تصنيفات، وبالتالي فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي، بما يتوافق مع أهداف الدولة من حيث سرعة استيعاب التكنولوجيا الحديثة، وإمكان الخروج إلى مختلف أسواق العالم بكفاءة تنافسية عالية ـ لقد أصبح من المتعذِّر علينا، أن نعيش في هذا العالم، ونحن نفكر من سنة إلى أخرى، وقد بدأ الاهتمام الجاد بالتخطيط الطويل الأجل عندنا مع ورقة أكتوبر، وتبنِّي الدولة لفكرة رسم خريطة مصر لسنة 2000، وأكدت ورقة أكتوبر على أنه إذا أريد حقًا أن تكون استراتيجيتنا الحضارية الشاملة للمستقبل، قائمة على أسس مدروسة، تربِط بين الأهداف المنشودة، وتجعل خطونا نحو التقدم متوازنًا؛ فإن حاجتنا سوف تكون أشد إلى الالتزام بمبدأ التخطيط. وفي مفهومه للتخطيط، أكدَّ الوزير أيضًا ما جاء في ورقة أكتوبر؛ ففي ظل سياسة الانفتاح، يظل القطاع العام هو الأداة الأساسية لتنفيذ أيَّة خطة للتنمية؛ ذلك أن القطاع العام هو وحده الذي يمكن أن تلزمه الخطة إلزامًا مباشرًا.
.. كان الرجل ـ بهذا الكلام ـ بعيدًا فعلاً عمَّا آل إليه الحال، فقد مرت مياه كثيرة منذ ورقة أكتوبر، والالتزام بما جاء بها، أصبح تمسكًا بماضٍ يورِد صاحبه التهلكة.
فلا حتمية التحول الاشتراكي أصبحت مقبولة، ولا التوازن في العلاقات الدولية أصبح محتملاً، والكلام عن الدور القيادي للقطاع العام في التنمية، وعن إلزامه بالخطة يتضمن أسلوبًا في تخصيص الموارد وفي تحديد الأسعار، يتعارض تمامًا مع توجيهات السادة الأجانب، وهو عودة لتأكيد استقلال القرار، ومحاولة لاستخدام الاستثمار الأجنبي وفق التخطيط الوطني.. وكل هذا انتهى عصرُه.

لقد كان من المهام الأساسيّة المُلقاة على عاتق وزارة التخطيط في رأي الوزير "استكمال الخطة الخمسية 76 ـ 1980 وفقًا للإطار المبدئي الذي سبق أن طرح في بداية هذا العام، ومع ربط الخطة بمراحل تنفيذ السياسات الاقتصادية اللازمة للإصلاح المالي والاقتصادي، وإعداد إطار هذه الخطة ومناقشته؛ تمهيدًا لعرضه في أوائل العام المقبل على مجموعة استشارية تضم الدول الراغبة في التعاون الاقتصادي مع مصر، والمؤسسات المالية والإقليمية والدولية، وفي مُقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ـ وسوف "يؤدي ربط الخطة الخمسية بالسياسات الإصلاحية، إلى مراعاة ما سبق أن أشرنا إليه، من ضرورة استخدام الأساليب غير المباشرة؛ لتوجيه القطاعات الاقتصادية العاملة خارج نطاق القطاع العام" (48). ولكن أصحاب المجموعة الاستشارية، يطلبون أن تسود الأساليب غير المباشرة في توجيه الاقتصاد القومي كله، وليس في توجيه "القطاعات الاقتصادية العاملة خارج نطاق القطاع العام" فقط، كما يقول الوزير". وكان لا بد أن يفرض هذا الموقف ـ حسب "توصيات" البنك الدولي ـ قبل اجتماعات المجموعة الاستشارية؛ لتنظيم تدفق رءوس الأموال الخارجية.
ب ـ كان وزير التخطيط على وشْك الانتهاء من صياغة الخطة الخمسية (وفق المفاهيم التي حددها) أثناء الاتصالات مع بعثة البنك الدولي، ولاحظت البعثة طبعًا أن الخطة تنشأ على أساس مخالفة تمامًا لما توصي به؛ ولذا أسرعت بكتابة تقريرها، وأرسلت نسخته الأولى إلى الوزير؛ لكي تتلقَّى تعليقاته عليه، "ولكي تكون آراء البعثة متاحة للوزارة أثناء الإعداد لمشروع إطار الخطة، الذي ندرك أنه مُحدَّدٌ له أن يكتمل في الأسبوع القادم" (49). وبمعرفتنا بأساليب هذه الجهات في التعبير، يبدو أن المقصود كان إعلام الوزير بأن الخلافات في وجهات النظر واسعة، ومطلوب من الوزير أن يكتب بوضوح أنه يختلف جذريًّا مع مفاهيم وسياسات البنك الدولي، وهذا أمر له حسابات سياسية معقدة. والمطالبة بأن تكون آراء البعثة موضع اعتبار خلال أسبوع واحد، رغم خلافها الواضح مع وجهة نظر المسئولين المصريين، يعني عملية المطالبة بإذعان الجانب المصري دون مناقشة،
أو تأجيل إعلان مشروع الخطة إلى حين بحت الخلافات، وقد أخذ بالاختيار الثاني فعلاً.

والتقرير الميداني لبعثة البنك الدولي يمثل في الواقع صياغة متكاملة لرؤية البنك الدولي المتطورة حول استراتيجية التنمية، فهو يصدر عن رؤية التنمية كعملية تغيير متكاملة، (سياسية/ اقتصادية/ اجتماعية، ثقافية) وليس كمجرد برنامج استثمار عيني ومالي، وهو يطالب الدولة بتدخل كفء ونشط في إدارة الاقتصاد القومي، "ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا تكاملت وزارة التخطيط داخل إطار مصمم جيدًا لتنسيق السياسات القومية". ولكن في تحديد الأهداف، وفي تحديد السياسات المطلوبة خلال الخطة الخمسية؛ لتحقيق هذه الأهداف، يتبلور طبعًا الخلاف بين مفهوم التنمية المستقلة، ومفهوم الإدارة الرشيدة لنمط التنمية التابعة، وقد أوضح التقرير ـ بصدق على ما أعتقد ـ أن استمرار وزارة التخطيط في عملها وفق المفاهيم القديمة، أصبح "يتم بشكل متزايد في فراغ؛ لأن أدوات السيطرة تضعف أو تتهاوَى، ومحاولاتها في الموازين السلعية، وفي تخصيص اعتمادات الموازنة والنقد الأجنبي، تقل جدواها. إن القرارات المطلوبة الآن ذات طبيعة مختلفة".
ج ـ وقد توالت المحادثات مع البنك الدولي حول "إعلان السياسة" الذي طلبه البنك من الحكومة المصرية؛ كشرط لإعداده للقاء المجموعة الاستشارية التي تبحث تمويل خطة التنمية الخمسية (16 دولة أوروبية غربية، والولايات المتحدة واليابان، وبعض الدول العربية). ذهب مسئولون مصريون إلى واشنطن، وعادت بعثة من البنك الدولي لزيارة القاهرة، وتقرر أن يقود وزير الاقتصاد (زكي شافعي) استكمال المباحثات في مانيلا أثناء اجتماعات محافظي البنك وصندوق النقد. وفي أكتوبر (شهر المواجهة الحاسمة) كشفت صحيفة مصرية أن "الاجتماعات بين مسئولي القطاع الاقتصادي في مصر، والمسئولين في البنك الدولي هذا العام، من النوع الساخن جدًا.. بل كان من الممكن أن تنقلب بالفعل إلى مشادة"... وحين "تم بعد ذلك الاجتماع بين مكنمارا والوفد المصري، يمكن القول بأن اللغة التي استخدمها (مكنمارا) كانت من النوع الحاد" (50). ومعروفٌ أن خبراء البنك الدولي يعقدون عادة اجتماعًا تمهيديًّا بين خبراء البنك الدولي وبين المسئولين عن السياسات الاقتصادية والمالية في الدول المختلفة، وذلك قبل الاجتماع مع رئيس البنك. وفي الاجتماع التمهيدي مع الجانب المصري، ذاع أن الحوار مع منير بنجنك (نائب رئيس البنك المسئول عن الشرق الأوسط) تناول قلق خبراء البنك من تأخر الجهات المصرية في سحب الأموال التي ارتبط البنك بتقديمها إلى المشروعات المصرية، وقال إن سحب هذه الأموال كان حوالي 10 ملايين دولار شهريًّا في العام السابق، ولكنه هبط في عام 1976 إلى حوالي 4 ملايين دولار شهريًّا. وفي اللقاء مع روبرت مكنمارا أثار هذا قضيةَ التعثر في إحداث التغيرات الاقتصادية المطلوبة، وبالنسبة للبطء في استخدام قروض البنك الدولي، هدد مكنمارا بأن هذا الاتجاه يؤثر على سياسة منح القروض لمصر، وقال إنه لا يجد سببًا مقنعًا للتأخير، وإذا كانت مصر لا تملك مشروعات جديدة، أو إذا كانت مشروعاتها ناقصة الدراسة، فإن جميع الدول النامية تحتاج إلى مثل هذه الأموال لتمويل بعض مشروعاتها. وتوسع مكنمارا في دائرة تهديده، فقال إن البنك الدولي إذا غير سياسته تجاه مصر، فإن جهات الإقراض الأُخرى (وضمنها الصناديق العربية طبعًا) ستتضامن معه.
وقد أوضح تقرير مصري رسمي حول هذا الموضوع(51)، أن المستخدم من قروض البنك الدولي من 1969 حتى أغسطس 1976، لم يتجاوز بالفعل نسبة 25 %، وإذا استُبعِدت القروض التي وقعت في النصف الأول من 1976 وقيمتها 152 مليون دولار، ولم تنتهِ الإجراءات الطبيعية واللازمة لبدء استخدامها، ترتفع نسبة لاستخدام إلى 30 %، ولكنها تظل مع ذلك منخفضة، وفسر الجانب المصري هذا الانخفاض بأسباب محلية، وأسباب يسأل عنها البنك الدولي. وبالتأكيد، فإن شروط الاتفاقيات مع البنك مركبة ومعطلة بتعقيداتها، فضلاً عنها البنك الدولي. وبالتأكيد، فإن شروط الاتفاقيات مع البنك مركبة ومعطلة بتعقيداتها، فضلاً عن أنها مهينة، وأهم من ذلك أنها موظفة لخدمة استراتيجية مضادة (راجع الفصلين الثاني والرابع). وكل هذه الاعتبارات، دفعت كثيرًا من الفنيين الوطنيين ـ في المستويات المختلفة ـ إلى الاعتراض والخلاف مع ممثلي البنك، فأضاف هذا تعقيدات أخرَى في مجال التنفيذ. ولكن من المؤكد كذلك أن كفاءة التنفيذ في مصر قد انحطت في السنوات الأخيرة، ومن المؤكد أيضًا أن تبخر المدخرات المحلية، والذي انعكس في معدل توافر المكون المحلي للاستثمارات المستهدفة (عادة نسبة المكون الأجنبي إلى المكون المحلي = 1: 1.5) كان عاملاً أساسيًّا لتخلف معدلات الاستخدام للقروض الخارجية، وضمنها قروض البنك الدولي، وأصبحت المنافسة حادة بين مشروعات هذه القروض، وأولويات الاستثمار الأخرى، على تخصيص موارد التمويل المحلي المحدودة. وقد تصورت القيادة المصرية أن تدفق القروض والمنح النقدية، يمكن أن يساعد في خلق المكون المحلي بالمعدلات المطلوبة، وهذا أسلوب خطر بطبيعة الحال، ولكن المهم الآن أن هذه القروض والتحويلات لم تتدفق على النحو المتوقع، وما وصل منها بدد بأشكال مختلفة، وكانت تعليمات الصندوق تضغط في اتجاه تغيير العلاقات السعرية، وتعلن أن الخطوات المطلوبة تستهدف ـ ضمن ما تستهدف ـ خفض الإنفاق الجاري العام، وزيادة المدخرات. وفي مرحلة المواجهة باتجاه الحسم، والتي بدأت في أكتوبر، أهان مكنمارا وزير الاقتصاد المصري، وهدد بخفض قروض البنك الدولي، بحجة تبدو أنها في دائرة المسئولية المباشرة للبنك عن تنفيذ المشروعات التي ارتبط بتمويلها، ولكنها في الحقيقة ترتبط من حيث الموضوع، بضغوط الصندوق "لإصلاح المسار الاقتصادي"، وترتبط - من حيث التوقيت - بساعة الصفر المشتركة للمرحلة الثانية من الهجوم.
على أيَّة حال، يبدو أن مكنمارا كان متجاوزًا لكل الحدود. وتقول جريدة الأهرام إنه أدرك ذلك. أدرك أنه كان حادًا جدًا. ولكنه لم يتمكن من الاعتذار؛ لأن الوزير المصري والوفد المرافق كانا قد عادا إلى القاهرة، بكل المرارة التي يمكن تصورها.

نور 06-07-2011 02:31 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
صندوق النقد الدولي (المذكرة الحادة والمنذرة لممثل الصندوق):
بعد العودة للقاهرة، كانت في انتظار الوزير وزملائه في القطاع الاقتصادي مواجهة أخرى ساخنة، ولحسن الحظ؛ فإن نص الوثيقة الذي يسجل هذه المواجهة تحت يدنا، وهو نص لا بد من اطلاع القارئ عليه كاملاً (انظر المُلحق في آخر الفصل)؛ ولذا نقتصر هنا على بعض الإشارات والملاحظات.
كان من مهمة الوفد المصري في مانيلا ـ بالإضافة إلى مباحثات البنك ـ استئناف المباحثات مع خبراء صندوق النقد الدولي حول المقترحات التي قدمها الصندوق حول الإصلاح الضريبي والأداء في الإنفاق الحكومي، وحول النظام النقدي والسياسة النقدية الخاصة بإصلاح العجز في ميزان المدفوعات المصري، وكانت هذه المباحثات حامية أيضًا ومثيرة، وبعد عودة الوفد بأيام تلقى وزير الاقتصاد مذكرة من بول ديكي، ممثل صندوق النقد الدولي في القاهرة (الذي يشغل مكتبًا مخصصا له في وزارة الاقتصاد)، وأرسل ديكي صورة من المذكرة إلى وزير المالية ووزير التخطيط.
أـ وأهمية النص الأولى، أنه صريح جدًا في أسلوبه؛ فهو مجرد من أيَّة تغليفات دبلوماسية يلجأ إليها في صياغة الوثائق العلنية، ومجرد من الصياغات شبه الدبلوماسية في الوثائق ذات المستوى المتوسط من السريَّة. هذه الوثيقة تمثل في الواقع أعلى مستوى من السرية وصلت يدنا إليه (ولكنها رغم هذا لا تمثل المستوى الأعلى)، ونستطيع أن نتأكد الآن أن ممثلي الولايات المتحدة والهيئات التابعة وشبه التابعة، أصبحوا في وضع من يخاطبون المسئولين المصريين كمستوى رئاسي يصدر التعليمات، ويقولون بصراحة إنه سيوقع العقاب في حالة المخالفة؛ فالمذكرة لا تستخدم التعبير الدبلوماسي الشهير: التوصيات؛ فبول ديكي لم يذكر في الرسالة السرية جدًا، أنه يوصي بكذا، إنه لا يستخدم إلا كلمات: يجب ـ يلزَم ـ لا بد ـ ومن الضروري.
ب ـ كذلك تؤكد الوثيقة ـ أكثر من غيرها ـ الاستنتاجات والانطباعات حول مدى تدخل الأجانب في أمور الإدارة الداخلية. نعلم أن المراكز الأجنبية لتجميع المعلومات، تعلم أكثر من أي مراكزَ مصرية مقابلة، ليس فقط بسبب تنظيم وتحليل أكفأ للبيانات، ولكن أيضًا لأن حجم البيانات المتاحة للجهات الأجنبية أكبر، ولكن كان البعض يتصور أن مهمة الأجانب قد تقتصر على تجميع المعلومات والبيانات والتقارير بعد حدوثها، أو يتصور ـ على الأكثر ـ أن العلاقات مع جهة؛ كالصندوق تأخذ شكل مواجهة دورية كل سنة، أو كل فترة، فيما يسمَّى مشاورات. ولكن مذكرة ديكي تثبت أنهم أصبحوا مشاركين في المطبخ اليومي نفسه، أي في المناقشات والأبحاث اليومية التي تتحول إلى أرقام وبيانات وقرارات وسياسات، فهم يشتركون مثلاً ومباشرة، في تحضير الموازنة العامة، وفي تعديلها قبل أن تعلن أمام مجلس الشعب، بل إن المناقشة الحقيقية والمؤثرة مع وزارة المالية، تصدر عن صندوق النقد وليس عن أيَّة جهة أخرى، وأقصد بالمناقشة الحقيقية المناقشة التي تسهم في مختلف مراحل صنع القرار، المناقشة التي يمكن أن تُحدث تغييرًا أساسيًا في هيكل الإيرادات المقترح أو هيكل الإنفاق، فالقانون يمنع هذا الحق عن مجلس الشعب، وينص على أن المجلس يجب أن يقبل الموازنة العامة، ككل أو يرفضها ككل، ومن الناحية العملية، لم يحدث أن أدخل مجلس الشعب تعديلاً أساسيًا واحدًا في الموازنة، ولكن الصندوق يمارس كل ذلك ومن موقع تأثير قوي. كذلك أقصد بالمناقشة الجادة للموازنة العامة أن وزارة المالية تتعمد تقديم الموازنة بصيغة يستحيل فهمها، وتستحيل بالتالي مناقشتها بجدية، إن الأرقام متداخلة ومليئة بالتكرار، إلى الحد الذي يصعب معه مجرد تحديد الحجم الإجمالي للإنفاق العام، أو الحجم الإجمالي للإيرادات العامة، وكانت هذه القضية مثارًا لتعليقات وشكاوَى عديدة من الاقتصاديين، والمتخصصين في المالية العامة، وأعضاء مجلس الشعب، ويثبت الآن (وهذا خروج مؤقت عن مذكرة ديكي) من تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إن هذه الجهات سلمت المفتاح السري للغز الموازنة العامة الذي احتكرته وزارة المالية في السابق، والمحظوظون الذين يطلعون على التقارير الخاصة بهذه الهيئات، هم الوحيدون القادرون على فهم الموازنة خارج أكليروس وزارة المالية.
على أيَّة حال، نقول إن مذكرة ديكي ألقت ضوءًا كافيًا على ما آلت إليه العلاقات بين الصندوق وأصحابه، وبين المسئولين المصريين. ولا ينتقص من القيمة التاريخية للمذكرة، قولُ ديكي: إن "هذه الأفكار تمثل فقط وجهات نظري الشخصية، ولا تحمل تفويضًا رسميًّا من صندوق النقد الدولي"؛ إذ أعتقد أن هذه العبارة هي الجملة الدبلوماسية الوحيدة في المذكرة، ويكشف زيفها أن كاتب المذكرة نسي (أثناء السرد) عبارته السابقة (أو لعله قصد هذا)، فسجل في مواضعَ أخرى، ما يشير إلى أنه يعبر مباشرة عن الرأي الرسمي للصندوق، ومثال ذلك ما جاء عند اقتراحه تسريع التوسع في السوق الموازية؛ فقد سجل أن هذا أمر هام جدًا من وجهة نظر الصندوق، وهذه الخطوة ينبغي أن تُتخذ في الحال.. ومع ذلك؛ فإننا لو افترضنا أن ديكي يتحدث باسمه الشخصي، ومع ذلك يقول: "يجب ولا بد"، وإذا كان ديكي
لا يزيد عن كونه مجرد ممثل للصندوق في القاهرة؛ فكيف يكتب ويتحادث – إذًا - مديرُ عمليات الشرق الأوسط،
أو رئيسُ مجلس مديري الصندوق؟

ج ـ المسألة الثالثة في المذكِّرة أنها أكدت حقيقة الاستنتاج بأن شهر أكتوبر شهد تصعيدًا خطيرًا في مواقف القوى الضاغطة الأجنبية، وأنها استهدفت تحقيق السيطرة الكاملة على صنع القرار الاقتصادي، وعلى تسليم الجانب المصري دون قيد أو شرط في كل القضايا الأساسية التي ظلت محل مفاوضة ونزاع:
بدأت المذكرة بأن الأحوال الاقتصادية تدهورت بشدة منذ مشروع خطاب النوايا (أي منذ مايو)، وعلى ذلك طلب ديكي بصراحة تجاوز ما قبلته الحكومة في مشروع الخطاب، وطلب إجراءات جديدة أشد، بحجة أن الحكومة امتصت سياستها لتثبيت الأسعار الارتفاع الطبيعي والمتوقع في الأسعار المحلية؛ نتيجة التوسع في السوق الموازية. والخطورة الأولى من هذا التصرف ـ من وجهة نظر الصندوق ـ الابتعاد عن مفهوم تحرير الأسعار الذي يطالب به، وبالتالي الحد من جدية التوجه نحو خفض سعر الجنيه، ويرتبط بهذا تردد الحكومة في تعديل قانون استثمار بالمال العربي والأجنبي فيما يتعلق بأن تتم تحويلات الأموال وفق هذا القانون (من وإلى مصر) بسعر السوق الموازية.
وعلى ذلك، طلبت المذكرة أو قررت، اتخاذ إجراءات مباشرة وجذرية: فلا بد من خفض فوري لسعر الصرف الرسمي، وقد سمح الصندوق للحكومة بتغطية موقفها شكليًا، ولكن على ألا يعني هذا تخليًا عن المضمون الحقيقي للخفض المستهدف في سعر الصرف، وإذا حاولت الحكومة مثل هذا التحايل؛ سيفرض الخفض الصريح في الحال. "وقد تضمن مشروع خطاب مايو، خطواتٍ معينة نحو هذا الهدف، ولكن المنهج الوارد في مشروع الخطاب ينبغي تطويره"؛ بحيث يصبح أكثر شمولاً وسرعة على النحو الذي حددته المذكرة بالتفصيل اللازم، وحددت موعدًا أقصى للتنفيذ هو أول يناير (أي: خلال شهرين تقريبًا من كتابة المذكرة). ولا بد أن تمتنع الحكومة عن الإجراءات التي تخول دون تأثير هذا الاستيراد بسعر السوق الموازي على الأسعار المحلية، بل ولا يحق لها أن تنقل هذا التأثير على مراحلَ.
قررت المذكرة أيضًا ـ تأكيدًا لمضمون الخفض الشامل لسعر الصرف ـ أن تحسب قروض المشروعات بسعر السوق الموازية، ويعدل قانون الاستثمار (خلال أسابيع) في نفس الاتجاه، "وإذا أثبت أن ذلك صعب، فإن هذا العامل وحده يقودني إلى استنتاج أن خفض (السعر الرسمي) جملة وفورًا أمرٌ حتمي".
سحبت المذكرة موافقة الصندوق السابقة على السوق التجارية، بعد قراره الجديد بالتوسع في السوق الموازية ونقل أغلب التعاملات إلى سعرها (شاملاً التحصيلات والمدفوعات غير المنظورة). ويجب إدخال مرونة متزايدة في سعر الصرف في السوق الموازية، وإنشاء قائمة مفتوحة للسلع التي يمكن استيرادها عن طريقها، ويحسن إدخال السلع الضرورية ضمن نظام الاستيراد المُقترَح.
وبالنسبة للميزانية العامة، رأى الصندوق أن القبول بالحد الأدنى من معونات دعم الأسعار (أي الإبقاء على إعانات الخبز والدقيق فقط) لا يؤدي إلى الاستقطاعات المطلوبة في الإنفاق الحكومي. ومطلوب بالتالي تحرير كامل للأسعار مقابل زيادة في الأجور 15 %، أي زيادة محسوسة يبدو منظرها مغريًا، ولكن لا تكفي طبعًا لمواجهة زيادة الأسعار المترتبة على إلغاء الدعم بشكل كامل، خاصة وتقديرات الصندوق في نفس المذكرة (حتى في وجود الدعم) إن الأسعار ترتفع بمعدل سنوي 20 %.
وعن السياسات النقدية والائتمانية كان القرار زيادة سعر الفائدة 4 % فورًا أو 2 % مع إلغاء الضريبة، ثم يضاف إليها 2 % أخرَى في يونيو 1977.
د ـ والآن ماذا لو رفضت الحكومة تنفيذ كل هذا؟ إن صندوق النقد كأيَّة سلطة لا بد أن يملك صلاحية الإلزام والعقاب، وإلا فقد وضعه كسلطة، وأصبح مطالبًا بتغيير لهجة يجب ولا بد؛ ولذلك كان طبَعيًّا أن تنتهي المذكرة بالتهديد الصريح.
فالمشكلة الرئيْسَةُ التي تواجه الاقتصاد المصري عام 1977، هي تمويل العجز الكبير في ميزان المدفوعات. والمتأخرات في هذا العجز (1976) تتزايد، ويستلزم الموقف قرضًا كبيرًا لإعادة التمويل.
وقد زادت المتاعب هذا العام؛ لأن حجم الدعم المالي من الخارج لم يكن مناسبًا، ويقول الصندوق بصراحة إن من أسباب نقض الدعم فشل الحكومة في تنفيذ تعليمات الصندوق، أي أنه كان عقابًا.
وبالنسبة للفترة المُقبلة (التي دبّر الصندوق وأعوانه أن تكون غاية في الحرج) فإن مهمة الحصول على القرض الكبير المطلوب تسلم فورًا لبيت أمريكي (مثل مورجان ستانلي) أو بنك دولي، ويتم التنسيق بين عملية إعادة التمويل، وبين التوصل إلى اتفاق المساندة مع الصندوق، ويعني هذا بوضوح أن عملية إعادة التمويل، مفتاحُها لدى الصندوق. والبيت الأمريكي أو البنك الأمريكي هو بيت خبرة، يستعين به صندوق النقد الدولي، ليس فقط في الاتصال بالممولين المحتملين، ولكن أيضًا للإشراف المباشر على قضايا الموازنة والدين الخارجي، وقبول مصر لدور هذه المؤسسة الأمريكية شرط الحصول على اتفاق المساندة. ورضاء المؤسسة الأمريكية عنا ورضاء الصندوق يحددان استجابة من يتوقع منهم تقديم معونات عندما يجتمعون في كونسرتيوم في يناير 1977. "ودون هذا المنهج؛ ستُسلمون أنفسكم - عمدًا وبلا شك - إلى الإفلاس عام 1977" (هكذا قالت المذكرة بالنص).
هـ ـ المسألة الأخيرة في المذكرة، أنها لم تكن مجرد كلام في الاقتصاد، فآراء الصندوق في السياسة الداخلية ظهرت في أكثر من موضع. وأهم المواضع ما جاء في الختام من "أن برنامجًا إصلاحيًا بالوصف السابق يتطلب قيادة سياسية قويَّة جدًا، وتنسيقًا يقظًا". وهذا المطلب قُبِل في ظرف يعلم فيه صندوق النقد أن القيادة السياسية مترددة في قبول إجراءات أقل من المقترحة في المذكرة؛ خوفًا من رد الفعل الشعبي، ويعلم أيضًا عن تناقضات بين المسئولين في القطاع الاقتصادي، وعن خلافات حول المقبول والمرفوض من المطالب المقدمة؛ ولذا كان المطلب الأخير ـ في هذا الجو ـ يعني نقدًا مباشرًا للقيادة، وأنها ليست قوية جدًا، وليست في مستوى الموقف، كما أن مطلب التنسيق اليقِظ يعني إقصاء المعارضين.. مُنتهى الوقاحة!
المستثمرون الأجانب (تقرير الشركات العابرة للجنسية):
أـ بعد هذه الوثيقة، نعرض وثيقة أخرى بالغة الأهمية تتعلق بالاستثمارات الأجنبية. ونسبق العرض بخلفية عن تطورات هذا القطاع. أوضحنا في الفصل السابق أن نتائج قانون 43 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة حتى آخر 1975 ـ كانت مثبطة للآمال، ولأقصى حد. ولذلك صرَّح وزير الاقتصاد أننا "يجب ألا نبالغ في الحديث عن الاستثمارات الأجنبية الخاصة، وأنه لا مفر من الاعتماد على أنفسنا، ولن تحل مشكلة الاستثمار إلا على حساب الشعب المصري"، وأضاف عن المناطق الحرة أن "البعض تصور خطأ أن أهم ما في المنطقة الحرة هو إنشاء مشروعات لتخزين البضائع الأجنبية، فاتجه الكثيرون في بورسعيد إلى تأجير الأرض كمخازن للسلع الأجنبية، وهذا سوف يشجع عمليات التهريب، ولكننا نهدف من إنشاء المناطق الحرة إلى إقامة مشروعات صناعية، وليس هدفها تخزين البضائع فقط". وتحدّث وزير المالية في نفس الاتجاه فقال: "إننا منذ 1971 ونحن نعلن عن تشجيع الاستثمار الأجنبي، ولكن الطلب كله على الأرض والعقارات وعمليات مضاربة لا حصر لها" (53).
وإحجام المستثمِرين الأجانب عن أيَّة مشروعات جادة حتى نهاية العام الثالث من الانفتاح، كان الوجه الآخر المكشوف لإفلاس الدعايات التي صاحبت هذه السياسة. فغالبية المواطنين لم تكن تعلم أو تتابع التدخلات الخطرة لصندوق النقد من خلال لعبة الديون، ولكن كان مكشوفًا لكل ذي عينين، انفجارُ الأسعار (من ناحية) وامتناع المشروعات الجديدة التي قيل إن المستثمرين الأجانب سيملئون الأرض بها (من ناحية ثانية)، وفي البداية، قيلت تبريرات للظاهرة الأخيرة غاية في السذاجة، من قبيل أننا لا نحسن التعامل مع المستثمرين، وفنادقنا لا توفر غرفًا خالية وإقامة مريحة، "والأهم من ذلك، أنهم بعد حضورهم لا يعرفون إلى أين يتجهون، ومن يقابلون؟ فلا مكان معلوم يتجه إليه المستثمرون، ولا أجهزة على مستوى عال تستقبلهم، وترشدهم إلى ما يطلبون، وإلى ما هو مطلوب للبلاد". وأغرب ما في هذا الكلام، أنه لم يكن يقال بغرض الضحك على ذقوننا، ولكن كان المسئولون يصدقون فعلاً أن هذا هو سبب إحجام المستثمرين، فتركز البحث ـ كما قال عبد العزيز حجازي ـ على إيجاد "عمارة نوفر فيها لهيئة الاستثمارات كل متطلباتها من أجهزة الاتصالات والجوازات وتراخيص العمل.. إلخ"(54). وتم العثور على العمارة المناسبة، وكلفت مؤسسة فورد بدراسة تأثيث مبنَى جهاز التعاون الاقتصادي العربي والدولي، وأسلوب تسكين الموظفين في الأدوار المختلفة؛ بحيث تعد في كل دور استراحة وغرف يتناقش فيها الموظفون مع المستثمرين منعًا لدخول المكاتب. وتقرر أن يخصص الدور الأول لممثلي الإسكان، والجوازات والجنسية، ومستشار للضرائب، وكل الأجهزة التي يرى أن لها اتصالاً بعمليات المستثمرين تسهيلاً لعملهم، وتقرر أيضًا تخصيصُ بعض الغرف لاجتماعات المستثمرين أنفسهم، ويساعدهم فيها موظفو الآلات الكاتبة، وأيضًا أعدت "تلكسات" للاتصال بالخارج.. إلخ" (55). ولكن مع كل هذه التجهيزات الفنية، والتطويرات الإدارية (التي استكملت في عهد ممدوح سالم) ظل المستثمرون الأجانب محجمين، فألقيت المسئولية في خيبة الآمال العريضة على عاتق البيروقراطية المصرية، وعقليتها "المنغلقة" والبيروقراطية المصرية كانت بريئة من ذنب هذه النتيجة، وسبق أن ذكرنا كيف دفع ممدوح سالم الاتهام عنها في آخر 1975 (الفصل السابق). ولكن ظل الاتهام قائمًا؛ لأنه "كان وسيلة من المستثمرين الأجانب لمحاولة الضغط على جهاز الاستثمار عند المفاوضة حول الشروط الموضوعية"، كما صرح نائب وزير الاقتصاد (56) أي أن الإلحاح على مسألة البيروقراطية، كان مجرد وسيلة للابتزاز، وإرهاب الفنيين المصريين الذين يحرصون على أفضل عائد للاقتصاد الوطني من الاستثمار الأجنبي. وللحقيقة، ظل هؤلاء الفنيون ـ بقيادة زكي شافعي ـ يدافعون عن موقفهم الوطني. وفي سبتمبر كان رئيس هيئة الاستثمار يوضح أن "رفض أي مشروع يتم بِناءً على قواعدَ ثابتة ترتبط بظروف الاقتصاد المصري واحتياجاته؛ لأن فتح الأبواب بغير قواعدَ، هو نظام غير معروف في أي مكان من العالم، وكل دولة تراعي ظروفها، واحتياجاتها الحقيقية، والمشاكل التي تعترضها، وإلا أدت سياسة الاستثمارات دون ضوابط، إلى الإضرار بالاقتصاد القومي"، وحدد عبد المنعم رشدي أسبابًا خمسة لرفض المشروعات:
طلب المشروع لحصة من النقد الأجنبي تلتزم بتوفيرها الدولة، في حين أن إحدى المشكلات الاقتصادية الحرجة التي يعاني منها الاقتصاد المصري هي ندرة النقد الأجنبي والاختلال في ميزان المدفوعات.
أسباب تتعلق بسمعة المستثمر الأجنبي؛ فبعض الشركات صاحبة العروض غير معروفة عالميًا، ومثلاً عندما تتقدم شركة لإقامة مشروع لتجميع الساعات في مصر، وتكون هذه الشركة غير معروفة على الإطلاق، وجب في تلك الحالة على الأقل حماية المستهلك المصري.
كما أنه من غير المعقول الموافقة (حاليًا على الأقل) على إقامة مشروعات تنافس الإنتاج المحلي المتوفر، والقادر على سد احتياجات الاستهلاك المحلي والتصدير للخارج.
عدم جدية الدراسات الاقتصادية التي يقدمها المستثمر حول مشروعه، وانخفاض حجم المشروع، وعدم تقديمه لخبرات تكنولوجية، تعوض النقض في رأس المال، وبالإضافة إلى أن بعض المشروعات المقدمة تستخدم آلات ومعدات قديمة لا تساعد على تطوير ودعم الصناعة المصرية.
ومن أهم الأسباب ما يتعلق بضرورة حماية الصناعة المحلية والمستثمر الوطني؛ ولذلك ترفض المشروعات التي يمكن أن يقوم بإنشائها رأس المال الوطني بكفاءة عالية.
وأشار عبد المنعم رشدي إلى أن سياسة تقييم المشروعات تتطور تبعًا للظروف الاقتصادية، فأوضح أن الهيئة كانت ترفض أيامها المشروعات التي يقل رأسمالها عن 200 ألف جنيه، وكان الحد الأدنى المقبول يرتفع على 500 ألف جنيه تبعًا لطبيعة نشاط المشروع، ويتم التجاوز عن شرط رأس المال إذا قدم المشروع تكنولوجيا متقدمة، أو خبرات فنية تستفيد منها الصناعة المصرية، وهيئة الاستثمار لم تكن تمارس الرفض بمفردها؛ إذ تشترك فيها هيئةُ التصنيع كجهة خبرة فنية، بالإضافة إلى الوزارات التي يدخل في اختصاصها نشاط المشروعات، وقد رفضت مثلاً وزارة الصحة في ذلك الوقت أي مزيد من الاقتحام لقطاع الصناعات الدوائية، ورفضت وزارة الصناعة أي اقتحام القطاع الغزل والنسيج، إلا بشروط حامية للإنتاج الوطني (راجع الهامش للتفاصيل) (57).
إلا أن هذا الموقف كان لا بد أن يتهاوَى تدريجيًا أمام الهجمات المنظمة. انهارت في فترة لاحقة كل الخطوط الدفاعية، فانفتحت كل القطاعات أمام المستثمرين الأجانب بلا ضوابطَ، وقطاعا الصناعات الدوائية، والغزل والنسيج (المذكوران في الفقرة السابقة) نموذجان مُحددان، وفي قطاع الغزل والنسيج بالذات لم تكن العملية مجرد اختراق، ولكن تهديدًا بتصفية الصناعة الوطنية العريقة (مشروع العامرية). ولكن في المرحلة التي نتناولها الآن كان الصمود تضعضعه الضغوط العامة للهيئات الدولية، وكان المستثمرون من ناحيتهم يلتفون حول معارضة هيئة الاستثمار، ووزير الاقتصاد، بالاتصال المباشر بالوزراء "المتفاهمين"، الذين فتحوا مكاتبهم وقلوبهم لمقابلة أي مستثمر أو آفاق؛ بحجة التغلب على الروتين والبيروقراطية، والقرارات السياسية وتدخلات أصحاب النفوذ كانت تضغط وتحسم في بعض الحالات، وأذكر في تلك الفترة، أنني سألت زكي شافعي كيف وافق ـ رغم مفاهيمه المعروفة حول الانفتاح المطلوبـ على مشروعات مثل ومبي، وسفن أب، فأجاب وزير الاقتصاد بصراحة كاملة، وللنشر على لسانه، أنه "لم يوافق على مثل هذه المشروعات، ولا يدري كيف وافق عليها، وأن الانفتاح - في عرفه - لا يعني أن أفتح الباب أمام المشروعات للمطاعم ولصناعة مياه غازية. لقد رفضنا نحو 20 مشروعًا بإنشاء مطاعم. ويُشاع أن شركة البيبسي كولا الأمريكية تطلب أخذ الشركة المصرية، وواقع الحال أننا
لم نتلقَّ طلبًا رسميًّا، وابتداء، فإنني أرفض إعطاء المصنع المصري للشركة الأمريكية" (58).

ب ـ لم تكنْ البيروقراطيَّة المصرية معطلة – إذًا - لمشروعات نافعة. ومع ذلك، فإن المشكلة المطروحة للبحث في أواخر العام الثالث من الانفتاح، لم تكن متمثِّلة في رءوس أموال أجنبية تنهمر، وبيروقراطية تعوق، المشكلة أن رءوس الأموال لم تقرر أن تفِد أصلاً.. وقبل أيَّة إعاقة.
عرضنا نتائج 1975، وأوضحنا أن العدد الإجمالي للمشروعات التي وافقت عليها الهيئة حتى 31 ديسمبر كان 368 مشروعًا يصل رأسمالها إلى 1220.4 مليون جنيه، ونضيفُ هنا أن البيانات عن الموافقات حتى آخر 1976 بلغت 534 مشروعًا رأسمالها 1629.6 مليون جنيه (59) وإذا جاز تأليف سلسلة من هذه الأرقام، تكون الموافقات الجديدة أقل عددًا وقيمة خلال عام 1976 عنها في 1975، فعدد الموافقات الجديدة 166 وإجمالي رأسمالها 409.2 مليون جنيه. ولكننا أشرنا في الفصل السابق، إلى أن معدل الاستثمار الفعلي، هو ما يعوَّل عليه؛ ولذا يمكن أن نسقط مثلاً من موافقات 1975 ـ عددًا من مشروعات المناطق الحرة (يبلغ عددها 28 مشروعًا ورءوس أموالها 701 مليون جنيه) باعتبارها مشروعات لم تتخذ أيَّة إجراءات تنفيذية طوال عامي 75 و1976. وإذا حذفنا هذا القدر؛ يهبط رقم موافقات عام 1975 إلى شيء حول 419 مليون جنيه فقط.
وحتى بالنسبة للمبلغ الأخير، أشرنا في الفصل السابق إلى أن الاستثمار الفعلي كان حوالي 11 مليون جنيه، ومن هذا المبلغ كان الاستثمار الفعلي داخل البلد 5.5 مليون جنيه في 22 مشروعًا. وقد عُدِّلت البياناتُ المُعلنة عام 1976 هذه الأرقام، فالاستثمار الفعلي داخل البلد، قيل إنه 7.9 مليون جنيه (وليس 5.5 مليونًا). والأفضل ـ حاليًا ـ أن نبتعد عن المُقارنات التفصيلية، ونكتفي بالصورة النهائية للمتابعة، والتي تُغطي كل الفترة من بداية تطبيق القانون 43 حتى آخر ديسمبر 1976، ووفقًا لذلك يكون إجمالي الإنفاق الاستثماري داخل البلد 86.9 مليون جنيه (منها 42.9 مليونًا نقد أجنبي) في عدد 149 مشروعًا، يبلغ إجمالي رأسمالها 254.7 مليون جنيه. وضمن هذه المشروعات كان 65 مشروعًا، قد بلغ فعلاً مرحلة الإنتاج، ورأسمالها الإجمالي 35.2 مليون جنيه (منه 25.3 مليون جنيه نقد أجنبي).
أمَّا عن الموافقات بنظام المناطق الحرة الخاصة، فإن عدد المشاريع 66، إجمالي رأسمالها 758.4 مليون جنيه (منه 740.5 مليونًا نقد أجنبي)، وذلك في مناطق القاهرة والإسكندرية والسويس، وأثبتت المتابعة أن البيانات الواردة عن الاتفاق الاستثماري الفعلي، اقتصرت على 30 مشروعًا، رأسمالها 34.8 مليون جنيه، والإنفاق الاستثماري الفعليّ في هذه المشروعات حتى آخر 1976 كان لا يتجاوز 7.3 مليون جنيه، أي: بنسبة أقل من 1 % من إجمالي رأس المال، ولو أن النسبة تتحسن طبعًا إذا استبعدنا مجموعات المشروعات التي لم تثبت أي قدر من الجدية، ولم تبدأ أيَّة خطوة تنفيذية.
وبالنسبة لمشروعات المناطق الحرة العامة، بلغ عدد المشروعات المُوافَق عليها 139 مشروعًا، رأسمالُها الاجتماعي حوالي 167.7 مليون جنيه (منه 153.6 مليون جنيه نقد أجنبي) موزعة ـ بالترتيب التنازلي لرأس المال ـ كالتالي:
المنطقة الحرة بالإسكندرية ـ المنطقة الحرة ببور سعيدـ المنطقة الحرة بالقاهرة ـ المنطقة الحرة بالسويس، وكشفت المتابعة أن 13 مشروعًا استثماريًّا في المنطقة الحرة ببور سعيد، ورأسمالها 11.1 مليون جنيه، بدأت الإنتاج، كذلك كان 81 مشروعًا في نفس المنطقة في مراحلَ مختلفة من التنفيذ (إجمالي رأسمالها 47.8 مليون جنيه) أمَّا في المناطق الحرة العامة الأخرى ـ وخاصة خارج القاهرة ـ فإنها
لم تكن قد بدأت تقريبًا أيَّة خطوة تنفيذية.

وإجمالاً، يكون الإنفاق الاستثماري (داخل البلد وبنظام المناطق الحرة) لا يتجاوز كثيرًا 100 مليون جنيه خلال عامين ونصف العام. وإذا كان هذا الرقم يشير إلى تحسن ملموس في معدلات التنفيذ المالي خلال 1976 (بعد الاتفاقية الثانية لفصل القوات، كما صرَّح زكي شافعي) (60). إلا أن المعدلات تظل واضحة الانخفاض بالنسبة للتوقعات الأولى، وتزداد قتامة الصورة إذا تابعنا التوزيع القطاعي للمشروعات، وإذا لاحظنا أيضًا متوسط الحجم للمشروع. فبالنسبة لمشروعات (داخل البلاد) التي وردت بيانات الإنفاق الاستثماري بها، نجد أن رأس المال الموجه لمشروعات الإسكان (الفاخر طبعًا) أو رأس المال الموجه لمشروعات السياحة، أكبر من إجمالي رأس مال المشروعات الصناعية. ونسبة رأس المال الموجه إلى الإسكان والسياحة والمقاولات والنقل والثروة الحيوانية (أي أن القطاعات التي لا تمثل بطبيعتها مهارات تكنولوجية رفيعة (كانت 71 % من الإجمالي، ومشروعات المناطق الحرة الخاصة لم تكن صورتها تختلف، فمن بين المشروعات تحت التنفيذ كانت مشروعات التخزين والخدمات 66.6 % والباقي للصناعة.
وكذلك يلاحظ أن متوسط رأسمال المشروع الصناعي داخل البلد كان 0.8 مليون جنيه (وهو يقل عن متوسط رأس مال المشروع الواحد في قطاع الخدمات). وفي مشروعات المناطق الحرة الخاصة، كان متوسط المشروع الصناعي حوالي 1.5 مليون جنيه، ويعكس هذا أن الاستثمار الأجنبي لم يتوجه على مشروعات صناعية أساسية.
ج ـ والآن.. ما هو السبب في هذه الخيبة؟ هيئة الاستثمار شرحت رأيها في المعوقات فقالت إنها:
صعوبة الحصول على الأراضي اللازمة لإقامة المشروعات.
غياب المرافق العامة أو صعوبة مدِّها إلى مناطق المشروعات الجديدة، وعدم ملاءمة المرافق العامة القائمة في بعض الأحيان لطبيعة بعض الصناعات، وقصور خدمات الاتصالات التليفونية والتلكس.
عدم توافر العمالة الفنية أحيانًا، أو عدم التحديد الكامل لشروط الاتفاق مع المستثمرين، الأمر الذي تترتب عليه مشاكلُ عند بدء التنفيذ الفعلي.
ارتفاع تكاليف إقامة المشروعات، وتكاليف الإنتاج؛ نظرًا لتغير بعض بنود التكاليف التقديرية للمشروعات.
سرعة التطور التكنولوجي، قد تستلزم إعادة الدراسة للمشروع وتأخير التنفيذ.
عدم توفر البيانات الكافية اللازمة لبعض المشروعات عن السوق المحلي أو الأسواق المجاورة، مما يصعب إعادة الدراسات والتنبؤات، وقد يتعذَّر الوصولُ إلى نتائجَ يُعتمد عليها.
هذه هي المعوقات التي تقول هيئة الاستثمار إن إدراكها، ودراسة أفضل الوسائل لتذليلها، أو التغلب على ما يمكن حله منها، يمثل دفعة طيِّبة لتنفيذ المشروعات القائمة، أو التوسع فيها، وتسهيل إقامة المشروعات الجديدة وجلب المزيد منها".
وهذه المعوقات صحيحة، وهي عقبات بوجه أي برنامج للنمو الاقتصادي، وليست في وجه المستثمرين الأجانب وحدهم، ولكن تضخيم وزن هذه المعوقات، هو الأمر غير الصحيح، إن البنود من (1) إلى (3) في مجموعة المعوِّقات المذكورة تقع – في قسم كبير منها - داخل مسئولية الحكومة المصرية، ولكنْ هل تمثِّل هذه المعوِّقات اعتبارًا مفاجئًا للمستثمرين الأجانب، ومانعًا لا يمكنهم اجتيازُه؟ وكيف تنهض الحكومة بنصيبها من المسئولية في حل هذه المشاكل؟! لقد تساءل اقتصاديّ مصريّ: "كيف أمكن إعادة بناء العواصم الأوروبية المُهدَمة بعد الحرب الكبرَى، وكيف تحولت لندن وبرلين وروما وغيرها إلى عواصمَ مزدهرة؟ ومع ذلك فلا مرافقُنا - والحمد لله - ولا مدننا الكبرى تعرضت لآثار الحروب الثلاثة التي خاضتها مصر خلال ربع قرن، اللهم إلا موانئ منطقة السويس التي تكفَّلنا وحدنا، وبمساعدة بعض أصدقائنا القادة العرب - بإعادتها كما كانت، بل إلى أفضلَ مما كانت. ومع ذلك، فإننا لا نفتأ نلوم أنفسنا، ويتملكنا الشعورُ بالذنب، ونعِد بإصلاح هذه المرافق بأسرع وقت (....) كيف لنا بإعداد ذلك كله، وهو يتطلب من الموارد المالية الوفيرة، ومن الوقت الطويل ما لا تستطيع أجهزة الدولة أن تنهضَ به. وفيم كانت – إذًا - فلسفةُ الانفتاح الاقتصادي؟ أليست هي دعوة إلى الممولين العرب، ثم إلى سائر المستثمرين الأجانب - أن يُقبلوا إلينا؛ لنبدأ معًا في إنشاء نهضة اقتصادية واسعة؟ (....) إن المرافق اللازمة للمشروعات نوعان: الأول يختص بالمشروع مباشرة؛ كإيواء العاملين ورعايتهم الصحية، وتدريبهم، وهذه يتحملها المشروع الكبير عادة، والمستثمرون في بلادهم يعرفون هذه الحقيقة. أما النوع الثاني، فهي شبكة الاتصال الخارجي؛ كالتليفونات وأجهزة التلكس وغيرها. وهي مرافق عامة تنهض بها الدولة عادة. وتدبر الأموال اللازمة لها من قروض تُطرح للاكتتاب العام في شكل سندات على الدولة، ويكتتب فيها إما أصحاب المشروعات، أو سائر الممولين (....) وإننا لا يجب أن نستمع إلى هذا النقد الجائر من المستثمرين على استحياء، كأننا المسئولون - وحدنا - عمَّا آلَت إليه حالتنا الاقتصادية" (حسن زكي أحمد) (61).
هذا عن البنود من (1) إلى (3) فهي ليست مانعًا، ويتصور أنه بالإمكان حلها بإجراءات مشتركة، وهي لا تقدم بالتالي تفسيرًا كافيًا لخيبة الأمل. أما البندان (4)، (5) فإنهما يمثلان مسئولية المستثمر، أي مستثمر: خاص أو عام، في بلده أو خارج بلده، أي أن هذا النوع من العوائق لا يفسر بطء معدل الاستثمار الأجنبي في مصر بالذات. وأعتقد أن هذا ينطبق أيضًا على البند الأخير رقم 6 ـ وباختصار، فإنني أود ألا أصدق أن المسئولين عن هيئة الاستثمار يتصورون فعلاً أن المعوقات التي ذكروها هي الصعوبات الأساسية، وقد يكون الغرض من ذكرها مجرد محاولة من جانبهم لدفع الاتهام الذائع بأن بيروقراطي الهيئة هم العائق الأساسي. وقد شاركنا من ناحيتنا في دفع هذا الاتهام عنهم. ولكننا نؤكد ـ في نفس الوقت ـ أن الأسباب الحقيقية لأحكام المستثمرين الأجانب لا تكمن أبدًا في العرض السابق، ودليلُنا في ذك هو رأي هؤلاء المستثمرين أنفسهم. وينقلنا ذلك إلى تناول الوثيقة الهامة في هذا الموضوع.
د ـ كانت قضية أحجام المستثمرين الأجانب، والأمريكيين بشكل خاص، قد نُوقشت في اجتماع مجلس رجال الأعمال المصريين والأمريكيين (أكتوبر 1975) (62)، وتقرر أن يشكل الجانب الأمريكي لجنة عمل تدرس المشاكل التي تعترض الاستثمار في مصر من وجهة نظر رجال الأعمال الأمريكيين، وبالفعل قامت اللجنة باتصالات مباشرة مع أكثر من 50 شركة أمريكية من الشركات ذات النشاط الحالي في مصر، أو من الشركات ذات النشاط المحتَمل.
واتصلت أيضًا بعدد محدود من الشركات في كندا وألمانيا الغربية والمملكة المتحدة، وكانت ملاحظات الأخيرين، كما سجلت اللجنة في تقريرها، متشابهة إلى حد كبير مع ملاحظات الأمريكيين.
وهذا التقرير صريح جدًا، وحين قدم في أكتوبر 1976، كان مظاهرة ضغط إضافية، في شهر المواجهة بهدف الحسم، وكان إثباتًا إضافيًّا على أن المستثمرين الأجانب يتحركون في إطار الاستراتيجية السياسية لدول الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وأنهم متحالفون تمامًا مع جهود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذا الكلام حين نستنتجُه من الأحداث (العالمية والمحلية) يختلف معنا البعضُ، ويتصور أن تحليلاتنا واستنتاجاتنا مُتحيَّزة. لقد ذكرنا أن البعض يتصور أحيانًا الشركات العابرة الجنسية العملاقة حسب خبرته بصاحب مخبز أو صاحب ورشة أحذية، مع أن المسألة تختلف تمامًا تمامًا؛ فهذه الشركات لها استراتيجيات على مستوى عالمي، ولا تحركها مجرد حوافز الربح السريع والعاجل، مثل هذه الحوافز قائمة وفعالة، ولكن بعد توفر شروط أخرى أهم. وكل هذا سنسمعه الآن من أصحاب الشأن، سنعرضه كما كتبوه بخط أيديهم.
ويمكن أن نبدأ عرضنا لتقرير المستثمرين الأمريكيين، بما سمي في التقرير: "نظرة أجنبيَّة إلى الاقتصاد المصري" (63)، هذه النظرة تعكس "كيف يمكن أن يرى اقتصادي في شركة أمريكية متعددة الجنسية ذلك الاقتصاد، وهذه النظرة العامة تُستخدم عمومًا في المرحلة المبدئية، التي يتقرر فيها ما إذا كانت (الشركة) تستثمر - أو لا - في بلد ما. إنها نظرة
لا تتوجه إلى مشاكلَ معينة، أو بياناتٍ عن الصناعة
أو الشركة أو تفاصيل المشروع؛ فكل هذه الأشياء ينبغي تقييمها أثناء مراحلَ تالية من عملية صنع القرار".

وتقول هذه النظرة بالنسبة لمصر إنه "بينما الإمكانيات الطويلة الأجل طيبة؛ فإن الاستحواذ عليها يتوقف بشكل حاسم على أربعة عواملَ أساسية:
- استقرار سياسي متواصل داخل مصر.
- سلام في الشرق الأوسط.
وبتحديد أكثر غياب الحرب بين مصر وخصومها المحتمَلين (مثل إسرائيل وعلاقات طيبة مستمرة مع دول الخليج، التي أصبحت مصر معتمدةً عليها بدرجة حيوية؛ من أجل مساعدات مالية بشروط ميسَّرة.
تغييرات أساسية في السياسات الاقتصادية، وتحسينات ملحوظة في الهياكل الارتكازية والمؤسسات الاقتصادية.
تدفُّق كبير لرأس مال خارجي".
وتؤكد هذه النظرة الاقتصادية العامة للشركة المتعددة الجنسية، أن المعوقات التي تصورتها هيئة الاستثمار مسألة ثانوية. قد يفيد أن نلقي مزيدًا من الضوء على النقطة الأولى الخاصة بالاستقرار السياسي، فالتقرير يسجل في موضع آخر أن من الأمور التي تُثير اهتمامًا مباشرًا ومنتشرًا في دوائر المستثمرين الأجانب المُحتملين مسألة "التوجَّه الغربي المستمر للحكومة المصرية، ومستقبل الرئيس أنور السادات، فهم يشعرون أن الرئيس السادات كان مسئولاً شخصيًّا عن توجه مصر نحو الغرب، وأنه يحصل على دعم لهذه السياسة من المستويات العُليا للحكومة المصرية. وتحت هذا المستوى، فإن التعاطف مع الأهداف الجديدة أقل جدًا رغم علامات تفهم جديدٍ من بعض قيادات الجهاز الإداري".
ويضيف التقرير أن كثيرًا من المستثمرين يشكون في احتمال التخلص سريعًا من المفاهيم والمؤسسات التي سادت خلال العشرين عامًا الماضية، ويشكون في أن يتمكَّن الرئيس السادات من حل المشاكل الحادة المباشرة، وهم "يهتمون بما إذا كان ممكنًا أن تواصل مصر توجهها الغربي، في حالة إذا لم يكن (السادات) قادرًا على ذلك، وهم يتساءلون أيضًا عما إذا كان باستطاعة مصر أن تواصل توجهها الغربي في حالة ترك الرئيس لمنصبه" (64).
ولإيضاح هذا الكلام؛ فإن المقصود بضمان الاستقرار السياسي هو أن تتحول السياسات القائمة "المرحِّب بها" من اختيارات شخصية للرئيس ومعاونيه المقربين، إلى مؤسسات راسخة لها قدرة ذاتية على الاستمرار، وإفراز وفرض نفس النوع من السياسات، في حالة أي تغيُّر في أشخاص القيادات الحاكمة أو ميولها، وهذه المؤسسات تتطلب تغييرًا شاملاً في الأوضاع الموروثة من مرحلة الاستقلال الاقتصادي
(أو الانغلاق)، وهي بالضرورة مؤسسات (شبكة من العلاقات) اجتماعية مناسبة، ومؤسسات سياسية تتعدد وتتنافس من خلالها مراكزُ إصدار القرارات، وهذه خلفيَّة أحاديث الرئيس الدائمة عن دولة المؤسسات. ويُباع هذا الحديث عن دولة المؤسسات ـ عادة ـ باعتباره ديمقراطية، ولكن لا ينبغي أن نخلط بين هدف القوَى الخارجية في تحويل الدولة المركزية القويَّة (التي أقامها محمد علي
وعبد الناصر) إلى مؤسسات ضعيفة متناثرة، وبين مفهوم الديمقراطية الممارسة في الغرب، والتي تطورت مع تكامل التنمية المتمركزة حول ذاتها. تعدد مراكز السلطة في مثل بلادنا آلية دائمة؛ لضمان السيطرة الخارجية من خلال "فرِّقْ تسُدْ"، وفي التاريخ المصري الحديث، كان هذا مطلبًا دائمًا أيام الخديو إسماعيل (راجع الفصل الأول). وبعد دستور 1923، كان هناك القصر، وعدد من الأحزاب "المعتدلة"، والصحف، والأزهر، وأجهزة الأمن المحلية، والمؤسسات الاقتصادية "الحرة".. إلخ، وكان المندوب السامي يلعب بالكل؛ لضمان الولاء وتعظيم السيطرة، دون التجاء ـ بقدر الإمكان ـ إلى الاستخدام المباشر للقوات العسكرية للاحتلال.

مطلب المستثمرين الأجانب إذن: إعادة صياغة الجهاز السياسي والتنفيذي، على نحو يحقق "الاستقرار السياسي" في التبعيَّة.
و... نعود بعد هذا التوضيح والاستطراد، إلى "نظرة أجنبية للاقتصاد المصري"، فبعد العوامل الأربعة المذكورة، ينتقل اقتصادي الشركة المتعددة الجنسية إلى اختلالات الاقتصاد المصري، ويشير إلى فجوة النقد الأجنبي وفجوة المدخرات المحلية، ويقول إنها عوارضُ للآتي:
اختلال هيكلي خطير.
سوء تخصيص للموارد، وقد نشأ الأخير - إلى حد بعيد - من الأسعار المحكومة إداريًّا، ولا تعكس على نحو صحيح عامل الندرة. والمثل الأساسي في ذلك هو سعر الصرف المحدد بأعلى من قيمته، ويسهم بالتالي في إساءة تخصيص موارد النقد الأجنبي، والمثل الآخر هيكل سعر الفائدة الذي
لا يعكس انخفاضُه الشديد التكلفةَ الحقيقية لرأس المال، ولا يشجع مستوى كافيًا من المدخرات الخاصة.

ينتقل اقتصادي الشركة المتعددة الجنسية بعد هذا إلى فجوة النقد الأجنبيّ التي ساءت بحِدة منذ 1974، ثم اختلال الميزانية وفجوة المدخرات. ويقول إن السبب هو زيادة الإنفاق العسكري وتزايد اعتمادات دعم الأسعار، كما أنه يرجع من ناحية أخرى إلى انخفاض الكفاءة والأرباح في المشروعات الصناعية العامة؛ بسبب تركيبة قوانين العمل وضوابط الأسعار، والإدارة المركزية الشديدة للاقتصاد، التي تحرم المديرين من المرونة اللازمة لاتخاذ القرارات.

نور 06-07-2011 02:35 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
ويتطلب تقليصُ هذه الفجوات:
بالنسبة للنقد الأجنبي: التوسُّع في السوق الموازية على النحو الوارد في توصيات صندوق النقد والبنك الدولي ـ كل التدفقات إلى الداخل أو إلى الخارج، المتعلقة بالاستثمار الأجنبي الخاص، ينبغي أن تتم بسعر السوق الموازية.
معدلات الفائدة المحلية والادخار الخاص: مطلوب زيادة معدلات الفائدة عن الزيادة التي قررت حديثًا، كذلك يمكن زيادة المدخرات المحلية إذا اتخذت إجراءات لإعادة فتح وتوسيع سوق الأوراق المالية.
ميزانية الحكومة والمدخرات العامة: مطلوبٌ زيادة الإيرادات، والنقص الأخير في الدخل الضريبي يرجع إلى حد كبير إلى المتأخرات في التحصيل، وإلى التهرُّب. "ونحن نعلم أن المتأخرات قد انخفضت، ولكن لم يُقضَ عليها بعدُ". وبالنسبة للإنفاق، فإننا لا نتوقع خفض الحجم المطلق للإنفاق العسكري، ولكن نأمل أن يسمح التحسن في الجو السياسي؛ بخفض في معدل نموه، أما الاتفاق على دعم الأسعار فيمكن خفضه. تمت خطوات، ولكن مطلوب بوضوح إجراءات إضافية، لا بد أيضًا من زيادة مدخرات القطاع العام. نحن نعلم أن المؤسسات العامة أُلغِيت ولكن مطلوب تحقيق مزيد من اللامركزية تمنح مديري الشركات حرية الحركة فيما يتعلق بالأسعار والعمالة، ومطلوب زيادة الإنتاجية من خلال الحوافز.
وبالنسبة للزراعة لا بد من إعطائها الأولوية؛ بهدف زيادة الإنتاج الزراعي، ولا ينبغي التركيز على التوسع الأفقي، ولكن على التوسع الرأسي، ويستلزم هذا حل عديد من المشاكل (ارتفاع منسوب المياه الجوفية وما يصاحبها من ملوحة ـ فقدان الطمي ـ نقص الحوافز السعرية وخاصة لمنتجي القطن ـ إدارة غير مناسبة للتربة ومياه الري ـ ائتمان غير كافٍ للمزارعين ـ وقد يكون مطلوب أيضًا زيادة استخدام الأسمدة وتحسين نوعية المدخلات وتحسين الخدمات والتسويق.
التحكم في السكان: الضغوط السكانية تعوق التنمية، الجهود السابقة لم تكن كافية، ولا بد من تكثيف الجهود.
طبعًا (النظر العامة لاقتصادي الشركة المتعددة الجنسية)، عالجت القضايا السابقة بالتفضيل، (وقد أغفلت التفاصيل، ولكن أصررتُ على تسجيل النقاط الأساسية كلها؛ حتى يتضح مفهوم الشركة المتعددة الجنسية) في التطبيق، وحتى ندرك أنهم يشترطون تنفيذ كل توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفقط بعد أن يتأكدوا (عبر تقارير وزارات الخارجية وتقارير الهيئات الدولية) أننا نفذنا.. فقط بعدها يمكن أن يفكروا في القدوم.
على أيَّة حال، كانت الفِقرة الأخيرة من التقرير، تحفِزُ السلطاتِ المصرية على الاستمرار في طريقها؛ فهي تسجل "أن السلطات المصرية اتخذت - حديثًا - عددًا من الإجراءات للتخفيف من المشاكل الاقتصادية، وهذه ـ بوضوح ـ خطوات في الاتجاه الصحيح، ولكن بعض الإجراءات مقصور بشكل ملحوظ، في المدى وفي التوقيت، عن تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي تبدو ضروريَّة".
العرض السابق، حدد نوع العلاقات الدولية المطلوب استمرارها بالنسبة لمصر، وحدد سياسة مصر في الشرق الأوسط، ومع أي أطراف عربية تتحالف، واشترط ضماناتٍ معينة في السياسة الداخلية.. ثم تناول السياسة الاقتصادية العامة، وأعلن وقوف المستثمرين بحزم إلى جانب كل تبليغات الهيئات الدولية. بقيت النقطة الخاصة بالمستثمرين مباشرة؛ وهي قانون رقم 43، وهي نقطة (عند الشركات العابرة للجنسيَّة) تلي ما تقدم من حيث ترتيب الأولوية؛ فبعد القرار الأولي بالاستثمار في بلد ما، يبدأ البحث فيما إذا كانت قوانين الاستثمار مناسبة أم لا، وهذه النقطة كانت الموضوع الأساسي للتشريح الدقيق في التقرير محل العرض، وتمت المعالجة طبعًا بما يتلاءم ويثري الإطار العام السابق. يطالب التقرير بالتالي:
لا بد من حسم كل المنازعات القائمة حول التأميمات السابقة بأقصى سرعة.
قائمة المقاطعة للشركات المتعاملة مع إسرائيل: مطلوب توضيح موقف الحكومة المصرية وإعلان المستثمرين المحتملين به. وإذا استمرت القائمة؛ فإن السلطات الحكومية ينبغي أن تدرس موقف كل شركة على حِدة، "ونحن نعتقد أن هناك بعض الشركات الأمريكية، تعتبر قائمة المقاطعة بالنسبة لها، العاملَ الأساسي خلف عدم استثمارها في مصر".
سعر النقد الأجنبي: تتفق لجنة العمل مع توصيات صندوق النقد في هذا الشأن، وتدعم موقفه، من زاوية أن تخفيض السعر الرسمي للجنيه أساسي جدًا لتشجيع الاستثمار الأجنبي؛ ولذا يوصي التقرير بتعويم الجنيه "ونحن ندرك أن التعويم يسبب مشاكلَ عديدة لمصر، ولكنه قد يكون الإجراء الأهم من بين كل ما يمكن أن تتخذه الحكومةُ لاجتذاب الاستثمار الأجنبي" (65).
وإذا قررت الحكومة غير ذلك، فإنه يجب تعديل قانون 43 بحيث ينص على توحيد سعر دخول، وخروج رأس المال، وكذلك السعر الذي يتم تحويل الأرباح. مع ملاحظة أن هذا التوحيد إذا تم عند السعر الرسمي لن يحل مشكلة المستثمر الأجنبي، الذي يرَى أن تحويلاته قد حُسِبت بأقل من قيمتها الحقيقية، وقد ثبت أن السعر الرسمي لم يجذب المستثمرين فعلاً، خاصة وهم يتوقعون - بعد فترة - خفض هذا السعر الرسمي؛ ولذا ينبغي أن يكون السعرُ الموحَّد عند مستوى السوق الموازية، أو السوق التجارية إذا أُنشِئَت.
لم يقتنع كثيرٌ من المستثمرين بتعليق لأحد المسئولين في الإدارة الأمريكية قال فيه: "إن معظم الشركات في الولايات المتحدة، تطالب الحكومة المصرية بالالتزام بتوفير كميات معينة من النقد الأجنبي الذي تحتاجه لاستيراد المواد الخام وقطع الغيار، وأيضًا لتحويل الأرباح، ولا يبدد أن الكثيرين يُدركون تمامًا المشاكل الاقتصادية القاسية في هذا البلد، واعتماده الكامل على المساعدة الخارجية، التي لا تُقَدَّم وفق التزام طويل الأجل".
(ويبدو لبعض حَسَني النية، أن موقف الشركات غريب، وأن عدم استعدادها لتفهم وضع الحكومة المصرية أمر شاذ؛ فقد تصور البعض أن الاستثمار الأجنبي يمثل إضافة لرصيدنا من النقد الأجنبي، لا أن يلزمنا بتوفير احتياجاته من النقد الأجنبي).
على أيَّة حال ـ يوصي التقرير بتعويم الجنيه؛ باعتباره الحل الأمثل، وفي هذه الحالة يتنافس المستثمرون على شراء كمية النقد الأجنبي المحدودة. ويصبح المستثمر هو صاحب القرار، فيما إذا كان يستطيع شراء النقد بالسعر الجاري والمحتمل أو لا.
والحل البديل لذلك، أن ترصدَ الحكومةُ كمية معينة من النقد الأجنبي للاستخدام في قطاعات معينة، يمكن أن تقوم بها مشروعات مشتركة، أو استثمارات أجنبية أخرَى، وقد تعاني بعض شركات القطاع العام بسبب هذا الإجراء (كما يعترف التقرير).
ويوصي التقرير أيضًا في هذا المجال بإقامة صندوق يضمن توفير النقد الأجنبي اللازم لاستيراد أي سِلَع تحتاجها العملية التمويلية، ويمكن للصندوق أن يسحب على النقد الأجنبي الذي توفره الحكومة المصرية أو قروض الولايات المتحدة والهيئات الدولية (وهي قروض تسددها في النهاية الحكومة المصرية بالنقد الأجنبي!)، فإذا كان المستثمر عاجزًا عن الحصول على النقد الأجنبي اللازم لشراء المواد الخام، أو تصدير أرباحه، أو سداد التزامات قروضه الخارجية، أو إذا كانت الحكومةُ المصرية غيرَ قادرة مؤقَّتًا على تزويد المستثمر باحتياجاته من النقد الأجنبي؛ فإن الصندوق يمكن أن يقوم بهذه المهمة.
ويوصي التقرير بالإضافة على ذلك بفتح الباب أمام المُستثمرين لإعادة استثمار أرباحهم كلها لو أرادوا،
بلا عقبات.

الإحلال محلّ الواردات: القانون 43 ولائحته التنفيذية، يركزان على صناعات التصدير، ويتطلبان من أي مشروع استثمار أجنبي ـ باستثناء الصناعات الأساسية ـ أن يغطي نفقاته الجارية من النقد الأجنبي، وهذا يعني استبعاد الصناعات التي لا تصدَّر. ولكن بالنسبة لمعظم الشركات، يبدو أن الحافز الأكبر للاستثمار في مصر هو السوق المحتمل لمصر نفسها. فهي تعرض سوقًا كبيرًا لمستهلكين أصحاب احتياجاتٍ مُركبة إلى حد ما. وهناك عديد من أنماط المنتجات الناقصة، وبعض صناعات القطاع العام مستهلكة ومنخفضة الكفاءة، وبالتالي يمكن منافستها، والقطاع الخاص غير متطور. كل هذه العوامل معًا، تمثل حافزًا هامًا لكثير من أنواع الاستثمار في مصر.
ومن ناحية أخرى، فإن الآفاق أمام المُصدِّرين ليست مشرقة تمامًا؛ إذ إن مصر ينقصها رأس المال والمعدات الرأسمالية (!) والمواد الخام، وسُمعَتُها سيئةٌ في الصادرات الصناعية؛ ولذا قال أحد المستثمرين المحتملين: إنه لا يمكن أن يخاطر بسمعة شركته وأسواقه في البلاد الأخرى، بتصدير بضائعَ مصنوعةٍ في مصرَ تحمل اسمه (66).. وبالتالي فإن إحلال الواردات يمكن أن يكون الحل.
ويوصي التقرير بأن تضع الحكومة خطة للتنمية الاقتصادية، تشمل مجموعة من السياسات والأهداف للقطاع الخاص "ونحن نعتقد أنه يكون مفيدًا للحكومة، أن تبحث عن مساعدة خارجية لتطوير خطتها".
ويوصِي أيضًا "بإنشاء مجموعة استشارية صغيرة، تساعد في تطوير وتنفيذ الخطوط الاقتصادية، والأولويات التي تنطبق على الاستثمار في القطاع الخاص في مصر، وينبغي أن تساعد المجموعة في ترجمة الأهداف الاقتصادية إلى برامجَ عملية لحفز الاستثمار الأجنبي، وينبغي أن تقدم النصح حول عملية الاستثمار، وينبغي أن تشتمل على أُناس أصحاب خلفية اقتصادية وخبرة أعمال، وقد تتألف من 3
أو 4 مصريين (اثنان على الأقل من القطاع الخاص) وعدد مماثل من الخارج، يشمل واحدًا أو اثنين من رجال المال
أو الأعمال الأمريكيين. ويجب أن ترفع المجموعة تقاريرها إلى أعلى مستوى مناسب ـ قد يكون مكتبُ رئيس مجلس الوزراء (67).

تعديل قانون 43 ـ حيث لا يعكس منهج غربلة واختيار المشروعات في نطاق المجالات المسموح بها، أو في إطار الخطة أو السياسة العامة. إن التقرير يوصي بأن "يسمح بالاستثمارات أوتوماتيكيًّا في أي مجال من مجالات الاقتصاد المصري، باستثناءات محددة لقطاعات؛ مثل الدفاع والمرافق العامة التي تمثل حقيقة ظروفًا خاصة. في كل المجالات الأخرى، يُرجح أن يكون الاستثمار الأجنبي حافزًا للعمالة, ومُدخلاً للخبرة التكنولوجية الأجنبية، وتكنيك الإدارة، ومؤديًّا إلى آثار مفيدة بالنسبة للاقتصاد المصري. وهذا المنهج (المقترح) سينهي عدم اليقين والارتباك الذين يواجههما كثير من المستثمرين المُحتملين إذا حاولوا أن يحددوا أي أنواع الاستثمار، سيوافَق عليها من هيئة الاستثمار، وسينهي التأخير الكبير الذي يواجهه المستثمرون؛ كنتيجة لمراجعة الهيئة لتفاصيل مقترحات الاستثمار"(68).
يرتبط بهذا طبعًا مُراجعة شاملة لوظائف وتنظيم وأعضاء هيئة الاستثمار؛ سواء لإحداث تغيُّيرات رئيسَة، أو لإنشاء منظمات جديدة تحل محلها.. وبشكل عام، فإن البيروقراطية المصرية عبءٌ ثقيل. وقد وصفها مسئول في الإدارة الأمريكية بهذه الطريقة "إذا طلب أن أصف حالة مصر في كلمة واحدة، فإن الكلمة ينبغي أن تكون انفصام الشخصية (شيزوفرانيا). فالرئيس السادات وبعض مَن في حكومته، يحاولون تحويل الاتجاه من الاشتراكية إلى نوع من الاقتصاد الحر، بينما البيروقراطية المُتحصنة في خنادقها، تحاول الإبقاء على الوضع الراهن" (69).
بعد كل هذا، جاءت التوصية بتوسيع وتطوير الهياكل الارتكازية التي يتصور البعض عندنا أنها المشكلة الأساسية (70).
إن الحكومة المصرية، لا تفهم تمامًا أن رجال الأعمال الأجنبي يتوقع في العادة عائدًا سنويًا يتراوح بين 10 و20 % سنويًا على استثماره داخل بلده، وإذا تحمَّل مشاق ومخاطر الاستثمار في مكان آخر، فإنه يتوقع بلا شك عائدًا أعلى، فإذا أخذنا في الاعتبار معوقات الاستثمار التي لا بد أن يتغلب عليها المستثمر المحتمل في مصر، وكذلك معدل العائد الذي يمكن أن يحصل عليه في مكان آخر، فإن مصر لا بد وأن تقدم مستوى من الربح يعتبره المستثمر مناسبًا، وإلا فإنه لن يستثمر (71).
صناعات القطاع العام: الشركات الأجنبية تنظر إلى القطاع العام باعتباره منافسًا، أو باعتباره شريكًا محتملاً ـ وبالنسبة لاعتباره منافسًا، فإن المستثمر الأجنبي يخشى أن تقدم الحكومة للقطاع العام مزايا لا يتمتع هو بها، وقد صرَّح أحدُهم لمجموعة العمل صاحبة التقرير، أن المزايا والحوافز التي تقدم إلى شركات القطاع العام، تعطيه ميزة ظالمة، تحرم منها شركات القطاع الخاص، إن هذا الجو من "الصناعات التي تديرها الدولة وتسعى إلى العمل جنبًا إلى جنب مع المشروعات الخاصة، هو أمر لا يرغب معظم رجال الأعمال الأمريكيين في مُسايرته" (72).
وبالنسبة لاعتبار القطاع العام شريكًا محتملاً، يقول التقرير إن أحد رجال الإدارة الأمريكيين (وله خبرة كبيرة بمصر) أعلن أنه مقتنع اقتناعًا جازمًا بأن صناعات القطاع العام ككل، قد تفضِّل إبعاد الاستثمار الأجنبي الخاص عن مصر، وهي تستخدم نفوذها لهذا الغرض، وفي رأيه أن مخاوفهم الرئيسَة تشمل أن المشروعات المشتركة، قد تكشف انخفاض الكفاءة في صناعات الدولة، وقد تنافسها حول المواد الخام النادرة والنقد الأجنبي، وقد تستنزف بعضًا من إداراتها العُليا.
ويشير التقرير من الناحية الأخرى ـ إلى أن كثيرين من المستثمرين المحتملين لا يفضلون أيضًا مشاركة القطاع العام، وكما صرح أحدهم، فإنه "يبدو أن هناك محاولة لتشجيعنا على الاشتراك في مشروعات مشتركة مع القطاع العام، حتى رغم علمهم - على ما يبدو - بأن القطاع العام له مشاكل مزمنة. إن القطاع العام هائل في حجمه، وله مشاكلُ رئيسَة بإعداد العمالة الزائدة، وبانعدام الأهلية في الإدارة، وانعدام الكفاءة بشكل عام، نحن لم نشهد أي دليل على توفر فنّ إدارة جيد بينهم، ونحن نعتبر أيَّة محاولة للعمل معهم مسألة لا يُرجَى منها أي خير" (73).
ولكن المستثمرين المحتملين يطلبون مع ذلك مشاركة الآخرين للحصول على تمويل لمشروعاتهم؛ ولذا يوصي التقرير بإنشاء مكتب موحد، يقدم المعلومات للمستثمرين عن مصادر رأس المال، وعن شروط الحصول عليها. والمكتب المقترح متفرع من وكالة تشجيع الاستثمار (التي يقترحها التقرير لتحل محل هيئة الاستثمار)، ولكن ينبغي أن يستخدم هذا المكتب المؤسساتِ الخاصة في مهمته، وينبغي أن يساعد على ترتيب استثمارات ثلاثية الأطراف (أي باشتراك العرب مع الأجانب والمصريين)، والجانب الأمريكي مستعد للمساعدة في إنشاء هذا المكتب.
وأيضًا لا بد من توسيع مشاركة القطاع الخاص، ولا بد أن تساعد الحكومة هذا الاتجاه، بتنمية المدخرات الفردية، وقد يتطلب هذا تعديل القوانين الضريبية، وقد يتطلب أيضًا استعانة الحكومة المصرية ببعض الاقتصاديين الأجانب، وكذلك لا بد من تشجيع بورصة الأوراق المالية.
تعديل القوانين: فلا يكفي تعديل قانون 43؛ إذ إن هناك قوانين أخرى، على رأسها قانون العمل (رغم أن قانون الاستثمار قلل من عبئِه على شركات الاستثمار إلى حد ما). فالمستثمرون يواجهون مشكلة كبرى؛ تتمثل في تقييد حريتهم في تسريح غير الأكفاء، أو تسريح العمال الزائدين في حالة خفض الإنتاج. كذلك يشكو المستثمرون من القيود المفروضة على الأجور والمكافآت، ولا بد من مراجعة القواعد المنظمة لهذه الأمور؛ حيث "إنها تنتمي إلى مناخ اشتراكي غير تنافسي" (74).
الضرائب: الإعفاء الضريبي المُقرَّر في القانون 43 غير كافٍ (من 5 إلى 8 سنوات) والمطلوب أن يحسب هذا الإعفاء منذ بداية تحقيق المشروع للأرباح، والضرائب المفروضة على تحويلات الخبراء لا بد من تخفيضها، وإذا تناقض ذلك مع المعدلات المفروضة على قرنائهم من المصريين، تعدل هذه المُعدلات أيضًا.
أخيرًا أشاد التقرير بالمادة 7 من القانون 43 التي تنص على أنه "لا يجوز تأميم المشروعات أو مصادرتها، ولا يجوز الحجز على أموال هذه المشروعات أو تجميدها، أو مصادرتها أو فرض الحراسة عليها من غير الطريق القضائي". ولكن التقرير كان واقعيًّا، فأثبت أن هذا النص غير دستوري، وبالتالي فإن هذه المادة "بلا معنَى، ويجب أن تعدل؛ بحيث نشير إلى ما تطلبه الدستور من تعويض عادل، وتنص على أن التعويض وفقًا لأهداف قانون 43 يعني تعويضًا ناجزًا وفعالاً ومناسبًا عن الملكية (....) ومن الطبَعيّ أن يؤدِّي التعارض بين أي صياغة للقانون 43، وبين المواقف التي تتخذها مصر في المحافل العامة الأخرى، سيؤدي إلى سوء فهم من قبل المستثمرين المتوقعين، وسيكون إخلاص مصر محل مساءلة" (75). ويعني هذا أنه مطلوب من الحكومة المصرية أن تتضامن مع الشركات المتعددة الجنسية في حالة أي صراع ينشب بين الشركات، وبين دولة تدافع عن حقوقها بالتأميم أو بالضرائب، أو حتى بمحاولة إخضاع الشركات للقانون والمراقبة. وقد يطلب ـ اتساقًا مع قانون 43 ـ أن تصوِّت الحكومة المصرية في الأمم المتحدة، ضد قرار مثل "ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية" الذي نص على أمور كثيرة لا ترضَى عنها الشركاتُ العابرة للجنسية (1974).
وخلاصة ما سبق، أن الشركات العابرة للجنسيَّة كشفت بجلاء كامل، أنها لا تُستثمَر إلا في دول مضمون خضوعها للدول الغربية، وللولايات المتحدة بشكل خاص (في حالة كالحالة المصرية). وكشف التقرير أيضًا محاولة بعض السياسيين والفنيين الوطنيين الدفاعَ عن حد أدنى من استقلال الإرادة، كان السبب الأساسي خلف الإحجام عن الاستثمار في مصر. وكانت الشركات صريحة إلى النهاية، ولم تترك شيئًا للخيال؛ فبعد استقرار التغيرات الجذرية في السياسة العامة، كان مطلوبًا في الجانب الاقتصادي: اتخاذ موقف واضح من المقاطعة العربية ـ الالتزام بالسياسات الاقتصادية التي يُمليها صندوق النقد، وعلى رأسها خفضُ سعر الصرف ـ إلغاء أيَّة ضوابطَ أو توجيه باسم الخطة أو السياسة العامة، أو حماية الصناعة الوطنية ـ مساعدة المستثمرين في تصفية القطاع العام، ودورُه القائد أو المتميز، وفي إطار المطلب الأخير، اشترط المستثمرون الأمريكيُّون: منع قصر بعض المجالات على القطاع العام أو القطاع الوطني، وفتح كل المجالات أمام المستثمِرين الأجانب بلا تخطيط أو أولويات من السلطة المركزية ـ إضعاف المركز التنافسي للقطاع العام بمزيد من فك الروابط التنظيمية باسم اللامركزية (مقابل احتفاظ الشركة العابرة للجنسية، بعلاقاتها التنظيمية على مستوى العالم، وبقيادتها المركزية) ـ تخلي الحكومة المصرية عن أيَّة رعاية خاصة لشركات القطاع العام؛ من خلال السياسة السعرية وما أشبه.
وفي مقابل ذلك، مطلوبٌ من الحكومة أن تحابيَ شركاتِ المُستثْمرين الأجانب، بضمان حصة من النقد الأجنبي، كافية لاحتياجاتها، على حساب القطاع العام وقدرته على الإحلال والتجديد والتوسع، وعلى توفير المُستَلزمات.
وإن قطاع الاستثمار الأجنبي يطلب من السياسة العامة تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية؛ بحيث يحل القطاع الأجنبي محل القطاع العام في قيادة الاقتصاد القومي. ولكن يبدو من الشروط السابقة، ومما جاء في التقرير، أنه
لا يحاول تحقيق ذلك من خلال تجاوز الوزن النسبي للقطاع العام القائم؛ كطاقة منتجة، أي لا يحاول أن يكون إضافة إلى الأصول التي راكمَها الاقتصاد المصري (أثناء الستينيات وأوائل السبعينيات). ولكن يسعى ـ كلما واتته الفرصة ـ أن يكون بديلاً، ويسعى إلى "تصفية جسدية" لأكبر عدد ممكن من وحدات القطاع العام المنتجة، يتحقق ذلك جزئيًّا عبر الشروط السابقة، وتتأكد النتيجة من خلال تركيز المستثمرين الأجانب على السوق المحلي، وعزوفِهم عن الصناعات التصديرية التي تتطلب مهارات فنية وتنظيمية عالية، وتتأكد نفس النتيجة من خلال تفضيل القطاع الخاص المحلي (بقدراته المحدودة) كشريك في المشروعات المنتفعة بالرعاية الخاصة، وبمزايا القانون 43. وكل هذا لا يتحقق دون التخلص من الأشخاص والمؤسسات المعارضة للغزو (في هيئة الاستثمار أو القطاع العام أو الحكومة) ـ وفي المقابل تنشأ إدارة أمريكية/مصرية لشئون القطاع الجديد القائد، إدارة سياسية تنظيمية في قلب الجهاز التنفيذي المصري، وتتبع مباشرة أعلى مستوياته ـ و... بعد كل هذا، لن تتدفق مواردُ مالية كبيرة؛ فالمستثمرون الأجانب، يعوِّلون على الممولين العرب، وعلى الموارد المحلية، وتتضمن الأخيرة إعادة استثمار جزء من أرباحهم المتحققة بالعمل المصري والسوق المحلي، والتي لا ينبغي أن تقل عن 25 ـ 30 %.

في الفترة الأولى من الانفتاح، كان كثيرٌ من الاقتصاديين الوطنيين يطرح أيضًا صيغة: المال العربي + التكنولوجيا الغربية + قوة العمل المصرية، ولكنْ لم يكن مقصدُهم من هذه الصياغة، أن قوة العمل المصرية مجرد يد منفذة؛ فقوة العمل المصرية تشمل بالضرورة الإدارة، وكان من المسلمات في ذهن كافة الوطنيين، أن عملية التنمية بعواملها الاقتصادية المرشحة، تتحقق تحت القيادة السياسية والاقتصادية المصرية، ولكن جاءت الشركات العابرة للجنسية، لتطلب احتكار دور المنظم والقائد لكل العملية؛ لقاء حِفنة من الدولارات، ولقاء بعض من التكنولوجيا التي تحدد في مدى ملاءمتها، فتشكل الاقتصاد المصري وفْق مصالحها ومصالح دولها. ووفق موقعنا من خريطتها لتقسيم العمل الدولي، ولتقسيم العمل داخل منطقة الشرق الأوسط (التي تشمل - طبعًا - مصر والعرب من جانب، وإسرائيل من الجانب الآخر).
رابعًا ـ التنمية أو تشوُّهات البنية الاقتصادية والاجتماعيَّة:
(1) قطاع البنوك:
أ ـ كافة المشاكل والشروط السابقة، لم تحُلْ دون اندفاع المستثمرين الأجانب نحو قطاع معين ووحيد، هو قطاع البنوك. منذ صدر القانون 43 والبنوك الأجنبية تتدافع بحمية عجيبة لانتزاع مواقعَ متتالية. في عام 1975، أي بعد أقل من عام، صرَّح عبد المنعم القيسوني بأنه "لا بد من وضع بعض الضوابط؛ بحيث لا نفتح الباب تمامًا... فليس معقولاً أن نعطي موافقات لإنشاء 100 بنك في مصر؛ لأن الاقتصاد المصري لا يحتمل هذا العدد، كما أن هذه البنوك سوف تتقاسم العمليات ثم تُفلس" (76). طبعًا لم يكن القيسوني يقصد الرقم 100 بالذات؛ فهو يتهكَّم على ظاهرة التزاحم التي بدت غريبة.
والنتيجة النهائية هذه الظاهرة (حتى آخر ديسمبر 1976) أن عدد البنوك، التي وافقت عليها هيئةُ الاستثمار، وصل إلى 25 بنكًا حسب بيانات البنك المركزي (77) (كان عدد البنوك الأجنبية قبل تأميمات 1956: 32 بنكًا) ومن بين البنوك الحاصلة على الموافقات، تم تسجيل 19 بنكًا لدى البنك المركزي، حتى آخر 1976 (مقابل 9 بنوك فقط حتى آخر ديسمبر 1975). وقد بدأ 13 بنكًا في مزاولة النشاط المصرفي بالفعل، والباقي كان يستكمل الترتيبات. والبنوك المسجلة تنقسم إلى بنوك تجارية ذات رأسمال مشترك، وكان عددها ثلاثة ـ وإلى بنوك استثمار وأعمال عددها 16 ـ و13 فرعًا لبنوك أجنبية. وقد عبَّر زكي شافعي (في بداية العام) عن أمل المسئولين الوطنيين وقلقهم، من نتائج هذه العملية، فصرح بأن "المفروض أن تعاون البنوك الأجنبية مصرَ في تمويل تجارتها الخارجية عن طريق تزويد البلاد بالتسهيلات المصرفية بالشروط المُيسَّرة، والمفروض أيضًا، وخاصة البنوك التي تتخذ شكل بنوك الاستثمار، أن تنشط في إنشاء الشركات المساهمة لإدارة المشروعات الواردة في الخطة، (وهذا لم يتحقق) أمَّا بالنسبة للبنوك المشتركة،
فلم يكن القصدُ منها أن تستحوذَ على جانب من العمليات المصرفية التي تقوم بها البنوك الوطنية، ولكن كان القصد أن تدخلَ في عمليات مصرفية جديدة، وبصفة خاصة التمويل المتوسط الأجل للمشروعات الصناعية والزراعية، وذلك بالإضافة إلى توسيع آفاق العمل المصرفي؛ بتعزيز العادة المصرفية، وتحقيق زيادة صافية بالودائع، وليس مجرد الاستحواذ على جانب من ودائع البنوك المصرية (78). هكذا تكلم الوزير في بداية 1976، ولكن، هل متصور أن تكون النصائح، والتذكير بالمصلحة الوطنية للدولة المُضيفة، محركًا وموجهًا للبنوك، بدلاً من متطلبات التخطيط الاستراتيجي لهذه المؤسسات، وبدلاً من حوافز الربح؟ إلى حوافز الربح الأعلى والأسهل، تطلب من هذه البنوك مثلاً
ألا تُضيعَ وقتها لنشر الوعي المصرفي، واكتساب زبائن جدد. إن توسيع دائرة المتعاملين مع المصارف يدعو ـ مثلاًـ إلى فتح أفرع للبنوك في المناطق النائية، وتحمل المخاطر والخسائر المحتملة لهذه الفروع لعدد من السنوات، فما هو الداعي "لوجع القلب" هذا؟ إن الربح الأعلى والمضمون يتحقق بجهد أقل، إذا استولت البنوك الأجنبية على الزبائن الجاهزين المُتعاملين مع البنوك الوطنية، إن البنوك الوطنية هي التي بذلت جهدًا طوال السنوات السابقة؛ لتوسيع دائرة التعامل المصرفي، فشقت الطريق إلى مواقعَ جديدة، ونشرت وعيًا مصرفيًّا، وتحملت متاعب الريادة وخسائرها، وربت أثناء ذلك كادرًا فنيًّا مؤهلاً، ثم أتت البنوك الأجنبية كي تتسلم كل هذا "على الجاهز"، وتستحوذ على العملاء والودائع والكادر الفني، ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك رغم كل النصائح؛ لأن الربح الأعلى والأسهل هدفٌ هام لمشروعات الاستثمار الخاص، ولكن أهم من اعتبارات الربح ـ كما قلنا ـ مجموعة الأهداف الاستراتيجية للبنوك الدولية؛ ففي نطاق المثال الذي أشرنا إليه عن تمركز البنوك الأجنبية في المواقع التقليدية للسوق النقدي والمالي، كان هذا التمركز يضمن فعلاً أرباحًا عالية ومضمونة، ولكن أهم من ذلك أنه يضمن تواجدًا في عاصمة النشاط الاقتصادي والسياسي (القاهرة).

على أيَّة حال، شهد عام 1976 النتائج العملية الأولى لنشاط البنوك الأجنبية، وكل ما حذر منه الاقتصاديون ورجال البنوك الوطنيون، بدأ يتجلى كأمر واقع وملموس، فتوالت صيحات الفزع، فصرح حامد السابح مثلاً (وكان رئيسًا للبنك الأهلي المصري) بأن "الظروف التي تواجهها البنوك المصرية، لا تمكنها في المدَى القصير المحدد من تطوير نفسها لتنافس البنوك الأجنبية" (79). وقد أعدَّ أستاذ مصري، يعمل بجامعة بيركلي الأمريكية - تقريرًا في هذا الشأن لحساب أحد البنوك الأجنبية (مارس 1976)، واشتملت الدراسة على مقارنة بين أساليب، ومعدلات الأداء في البنوك المصرية والبنوك الأجنبيَّة، وجاء في التقرير أن وقت صرف الشيك في البنوك المصرية والبنوك الأجنبية، وجاء في التقرير أن وقت صرف الشيك في البنوك المصرية يتراوح بين نصف ساعة و4 ساعات أحيانًا، وفي البنوك الأجنبية لا يزيد هذا الوقت عن نصف دقيقة ـ فتح الحساب في البنوك الوطنية، يستغرق يومًا أو أكثر، بينما لا يستغرق فتح الحساب في البنوك الأجنبية نصف دقيقة ـ صرف الشيك من بنك فرعي (خلاف المركز الرئيسي) يستغرق أحيانًا أكثر من شهر، بينما يصرف في البنوك الأجنبية في نفس اليوم ـ الدورة المُستندية والحسابية في البنوك المصرية معقدة، وتعتمد في خطواتها على الموظفين، بينما في البنوك الأجنبية الدورة سريعة، وتعتمد على الآلات (80). وقد نعتقد أن بالأرقام قدرًا من المبالغة، وأيضًا فإن الدراسة تعتمد في معدلاتها عن البنوك الأجنبية - على معدلات البنوك العاملة في الولايات المتحدة، وليس حتمًا أن تعمل فروعها في مصر بنفس الكفاءة، ولكن تبقَى هذه المؤشرات ـ رغم التحفظات السابقة ـ نذير شؤم بالنسبة لنتائج المنافسة المتوقعة بين بنوك القطاع العام من جهة، وبين البنوك المشتركة وفروع البنوك الأجنبية من جهة أخرى.
في فبراير سنة 1976، نشر أن البنك الأهلي فقد 100 من خِيرة العاملين، وبنك مصر فقد 50 من أكفأ كوادره.. استقالوا ليعمَلوا في البنوك الأمريكية.. وفي نهاية العام، سجل تقريرٌ رسميٌ (غير منشور) للبنك المركزي المصري تقييمًا عامًا لما تحقق، فقال: إن "هذه البنوك (الأجنبية) بدلاً من أن تصبح مركز (جذب) الأموال إلى مصر، تحولت إلى مراكز (طرد) إلى الخارج".
وأثبت التقريرُ مسألةَ أن هذه البنوك، عملت على استنزاف الخبرات المصرية، وأوضح أنه على الرغم من انقضاء ما يقرُب من عام ونصف على ممارسة بعض هذه البنوك لنشاطها في مصر، إلا أنها لم تحققْ نتائجَ لها وزنُها في مجال جذب رءوس الأموال من أسواق النقد العالمية. وإنما اعتمدت أساسًا على مواردها الذاتية، وعلى الموارد المتاحة من السوق المحلية، بل شاركت بنوك القطاع العام التجارية في الاحتفاظ بمدخرات المصريين، وودائع بضع شركات القطاع العام من العملات الأجنبية. ولم تأخذ هذه البنوك دورها بعد أن تمويل مشروعات التنمية الاقتصادية في البلاد، فباستثناء بعض عمليات محدودة لتمويل بعض وحدات القطاع العام أو الشركات المشتركة، وجهت تلك البنوك الجانب الأكبر من مواردها للإيداع لدى مراكزها الرئيسية وفروعها والمراسلين في الخارج، أو تقديم التسهيلات المصرفية قصيرة الأجل من 90 إلى 180 يومًا لبنوك القطاع العام لتمويل عمليات التجارة الخارجية (81). ويعني هذا التقييم أن العملية اتخذت – فعلاً - نفسَ المسار الذي توقعه الاقتصاديون الوطنيون، ويعني أن النتائج الفعلية في آخر العام، حققت كل ما حذر منه وزير الاقتصاد في أول العام.
ب ـ وقد جاء التعبير الرقمي عن هذا التقييم في تقرير علني للبنك المركزي (الجزء الثاني من التقرير السنوي). ورغم أن البنك تعمَّد في هذا التقرير تجنب أي تعليق صريح عن دلالة الأرقام، صدرت التعليمات بسحب هذا الجزء من التداول، على أثر احتجاجات وتدخلات من كل الجهات الخارجية التي يعنيها الأمرُ، وليس فقط من البنوك الأجنبية(82).
سجَّل التقريرُ السنوي ما يلي: (83).
البنوك التجاريَّة المشتركة (تتعامل بالجنيه المصري وهي: تشيس الأهلي ـ مصر الدولي ـ المصري الأمريكي) ـ بلغ مجموع المراكز المالية لهذه البنوك حوالي 103.3 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1976 مقابل 18 مليون جنيه فقط في آخر ديسمبر 1975، أي بزيادة قدرها 85.3 مليون جنيه، بنسبة 473.9 %. ويتضح من جدول المركز المالي المجمع للبنوك التجارية المشتركة، أن أرصدة الودائع كانت في آخر 1975 ـ 11.8 مليون جنيه، فوصلت في آخر 1976 إلى 80.6 مليونًا (بزيادة 583 %) وأصبحت الودائع تمثل 78 % من إجمالي الموارد المتاحة عام 1976 (مقابل 65.5 % في العام السابق). ويقول البنك المركزي أن حوالي 50% من أرصدة الودائع عام 1976 كان بعملات أجنبية (40.5 مليون جنيه). ويضيف البنك أن أرصدة ودائع القطاع الخاص مثلث 70.5 % من الإجمالي، تليها أرصدةُ الودائع المقابلة للمعونة الأمريكية (24.8 %) ثم قطاع الأعمال (4.7 %)، ويلاحظ أن أرصدة العالم الخارجي التي بلغت 2.1 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1975 سُحِبت بالكامل خلال العام الحالي.
وقد زاد رأس المال بمبلغ 3 ملايين من الجنيهات؛ إذ زاد رأس مال البنك المصري الأمريكي (2 مليون جنيه) وبنك مصر الدولي (مليون جنيه)، ورغم هذه الزيادة، هبطت الأهمية النسبية لرأس المال؛ كأحد مصادر التمويل من 13.9% إلى 5.3 % بين عامَي 1975 و1976، وذلك نتيجة مباشرة لنمو الودائع.
وتعني الأرقام السابقة أن أعمال البنوك المشتركة تتضاعف بمعدلات غير طبيعية. وللمقارنة، فإن نسبة الزيادة في الميزانية المُجمَّعة للبنوك التجارية التابعة للقطاع العام،
لم تتعد 21.8 %، ونسبة الزيادة في الودائع كانت 20.3 %، ونسبة الودائع الأجنبية (334.9 مليون جنيه) إلى مجموع الودائع 14.1 %، صحيح أن البنوك المشتركة في مراحلها الأولى، ومعدلات النمو في السنة الأولى لا يُقاس عليها؛ (لأن الزيادات تُنسب في هذه الحالة إلى أرقام البداية المحدودة)، ولكن حتى إذا أخذنا في الاعتبار، تظلُّ معدلات النمو في البنوك المشتركة خطيرةَ الدلالة، خاصة ومعدل النمو المقابل في البنوك التجارية التابعة للقطاع العام، يكاد يكون صفرًا؛ إذ إن النسب التي ذكرناها عن هذه البنوك محسوبة بالأسعار الجارية، والمُعدَّل السنوي للتضخم لا يقل عن 20 %، إن معدلات النمو البالغة الارتفاع في البنوك المشتركة، أثارت أشد القلق أيضًا؛ لأنها ترجِع في جانب الموارد إلى الودائع الخاصة بشكل أساسي، ونمو الودائع الخاصة في هذه البنوك بمعدلات تزيد عن معدل النمو العام في المدخرات الخاصة، لا بد يعني جذبًا لهذه الودائع على حساب بنوك القطاع العام، وهو ما عبَّر عنه التقريرُ السري للبنك المركزي، من أن هذه البنوك "شاركت (والصحيح أنها زاحمت) بنوكَ القطاع العام التجارية في الاحتفاظ بمدخرات المصريين". وهذا الاتجاه ليس مؤقتًا، وقد تصور البعض أن القرار الخاص بقصر تعامل القطاع العام على البنوك الوطنية، يكفي لصد الهجوم الأجنبي، وهذا تصور غير صحيح؛ فالبنوك الأجنبية والمؤسسات الدولية، تلِحُّ وتضغط من أجل إلغاء هذا القرار، وقد عودتنا هذه الجهات على النجاح فيما تسعى له، وبالفعل سجل تقرير البنك المركزي أن هذه البنوك تخطت فعلاً محاولة الحصار هذه، وحدث أن نقلت بعض شركات القطاع العام ودائعها من البنوك الوطنية إلى هذه البنوك.

ومع ذلك، فإن ودائع قطاع الخدمات العام، وقطاع الأعمال العام، في البنوك التجارية المؤمَّمة، كانت تمثل 403% من مجموع الودائع، بينما مثلت ودائعُ قطاع الأعمال الخاص 7.8 % والقطاع العائلي 36.7 %، ومجموعهما معًا 44.5 %، وهذا الرصيد السهل الحركة، تملك البنوك الأجنبية كل وسائل اجتذابه.
والصورة في بنوك الاستثمار والأعمال، لم تكن تختلفُ؛ فبالنسبة لبنوك الاستثمار والأعمال المشتركة (بنك مصر/ إيران للتنمية ـ بنك القاهرة/ باركليز الدولي) نجد أن إجمالي المركز المالي المجمع كان 27.1 مليون جنيه (آخر ديسمبر 1976) مقابل 13.8 مليون جنيه (آخر ديسمبر 1975)، بزيادة 96.4 % وقد زادت الودائع من 1.8 مليون جنيه إلى 13.6 مليونًا خلال نفس الفترة وأصبحت في عام 1976 تمثل حوالي 50 % من الموارد المتاحة. وتمثل وحدات القطاع الخاص حوالي 71 % من إجمالي هذه الودائع. كذلك شكلت الودائع الادخارية حوالي 71 % من إجمالي الودائع مقابل 29% ودائع تحت الطلب.
وبالنسبة لفروع البنوك الأجنبية (وعددها ثمانية؛ منها بنك واحد يعمل حاليًا بالمناطق الحرة) بلغ إجمالي المركز المالي المجمع لها حوالي 135.2 مليون جنيه في آخر 1976 مقابل 39.8 مليونًا في آخر 1975، بزيادة 240 %. وقد استبعد جدول البنك المركزي ميزانية بنك مانيوفاكتشرزها نوفر ـ ترست كومباني ـ 30 مليون جنيه ـ من الإجمالي السابق، وبالتالي كانت الزيادة وفقًا لبيانات الجدول بنسبة 250 %، وبالنسبة للودائع كانت أرصدتها 20.8 مليون جنيه، فوصلت في 1976 إلى 51.3 مليونًا بزيادة 146.6 %، وكانت الودائع موزعة بين الودائع الجارية (21.1 مليون جنيه) والودائع الادخارية (30.2 مليون جنيه) ورغم زيادة ودائع العالم الخارجي من 17.1 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1975 على 30.4 مليون جنيه في آخر 1976، هبطت نسبتها إلى إجمالي الودائع من 82.2 % إلى 59.3 %، بينما ارتفعت أرصدة ودائع القطاع الخاص من 3.7 مليون جنيه (بنسبة 17.8 %) إلى 19.9 مليون جنيه (بنسبة 38.8 %).
ج ـ إلا أن الصورة العامة لا تكتمل إلا بعرض استخدامات البنوك الأجنبية للموارد التي اعتصرتها أساسًا من السوق المصري. وقد حققت هذه البنوك أرباحًا طيبة من عملياتها خلال 1976. نذكر أن المستثمرين الأجانب طالبوا في التقرير الذي عرضناه (في الصفحات السابقة)، بأن يحققوا ربحًا حافزًا على المخاطرة. وبالتأكيد فإن قطاع البنوك الأجنبية نموذجي من هذه الزاوية؛ فإنشاء البنك لا يفرض على المستثمر الأجنبي مخاطرةَ القدوم برأس مال كبير، إن السلعة التي يتعامل فيها البنك هي المال، ولكنه لا يوفر المال عن طريق رأسماله، ولكن أساسًا من إيداعات الآخرين، وقد حصلت البنوك الأجنبية من خلال تعاملها في أموال المصريين أساسًا ـ كما أوضحنا ـ على معدلات ربح طيبة؛ فنسبة ربح البنوك التجارية إلى رأسمال هذه البنوك، وصلت في 1976 إلى 41.8 %، والنسبة في بنوك الاستثمار والأعمال المشتركة، وصلت - في نفس العام - إلى 7.6 وكانت في العام السابق 1.7 %، والنسبة في فروع البنوك الأجنبية كانت 13 %. ونحن نعلم أن البنوك الأجنبيةـ وفقًا لقانون 43 ـ مُعفاة من الضرائب لخمس سنوات، ولكن "لوحظ أنها لم تستغل الأرباح المرتفعة والإعفاءات، في دعم مركزها المالي وزيادة احتياطياتها؛ فقد لجأت إلى تحويل أرباحها أولاً بأول، كما لو كانت في مُهمة موقوتة، ولا تخطط للبقاء بعد فترة السنوات الخمس" كما قال أحد المسئولين في القطاع الاقتصادي، (ولكننا لا نعتقد طبعًا أن هذا هو التفسير الصحيح).
إلا أن الاستخدامات التي ولدت هذه المعدلات من الأرباح، بدت شاذة جدًا؛ فالبنوك الأجنبية لم تكتفِ بالإحجام عن فتح منافذَ ادخارية جديدة، أو عن تنشيط الجهد الاستثماري، ولم تقتصر المأساةُ أيضًا على اعتصار هذه المعدلات العالية من الأرباح، دون مخاطرة ولا تكنولوجيا ولا أي شيء؛ فأبعاد المأساة تتضح أكثر، حين نُشير إلى البيانات الواردة في التقرير السنوي للبنك المركزي، ورغم أن البيانات عامة جدًا وصماء، فإن دلالتها قاطعة:
ففي البُنوك المشتركة نجد أن مجموع التسهيلات الائتمانية التي قدَّمتها هذه البنوك كان في عام 1976 لا يتجاوز 31.1 مليون جنيه (وإذا استبعدْنا حساباتِ تمويل وزارة المالية التي بلغت حوالي 16 مليون جنيه، أو ما يعادل 80% من أرصدة الودائع المقابلة للمعونة الأمريكية)، فإن التسهيلات الائتمانية لقطاع الأعمال كانت 15.1 مليون جنيه، أي 14.6 % فقط من إجمالي ميزانيات هذه البنوك المُجمعة. وكانت التسهيلات موجهة أيضًا، فقد استأثر القطاع الخاص بحوالي 83 %، والأهم من كل ذلك، أنه بينما بلغت التسهيلات الائتمانية لكل قطاع الأعمال 15.1 مليون جنيه، نلحظ أن التوظيف الأساسي كان لدى البنوك في مصر والخارج؛ فالأرصدة لديها مثلت 54.3 مليون جنيه أو 52.6 % من إجمالي الأصول أو التوظيفات) ويستلفت الانتباهَ - بشكل خاص - أن أرصدة هذه البنوك في الخارج كانت 46.5 مليون جنيه أو 45 % من إجمالي الأصول، وكانت 9.7 ملايين عام 1975.
وفي بنوك الاستثمار والأعمال المشتركة لم تتجاوز قيمة الاستخدامات في شكل قروض وسلفيات 1.1 مليون جنيه (أي 4.1 % فقط من إجمالي التوظيفات)، وكان التركيز على التوظيف لدى البنوك في مصر والخارج؛ حيث بلغت الأرصدةُ المُستَحقَّةُ على البنوك 22.8 مليونَ جنيه في آخر 1976 (أي 84.1 % من إجمالي الموارد، والأهم أن المراسلين (أي البنوك) في الخارج كانوا أصحاب النصيب الأعظم في هذا النوع من التوظيف، فنصيبهم كان 19.9 مليون جنيه (أو 73 % من إجمالي التوظيفات)، وذلك مقابل 9.8 ملايين عام 1975.
وفي فروع البنوك الأجنبية، كانت أرصدة القروض والسلفيات 6.6 ملايين جنيه بنسبة 6.3 % فقط من إجمالي الاستخدامات، منها 4 ملايين مُنحت إلى الأفراد و1.4 مليون جنيه إلى قطاع الأعمال غير المنظم (أي: إلى القطاع الخاص الصغير) وما تبقَّى (حوالي مليون جنيه) قدم إلى الشركات الأخرى. أمَّا الأرصدة المستحقة على البنوك في مصر والخارج، فكانت 82.4 مليون جنيه (78.3 % من إجمالي الاستخدامات، وكان نصيب البنوك في الخارج بالذات 70.4 مليون جنيه (66.9 % من الإجمالي) وكان الرقم المقابل عام 1975: 28.2 مليون جنيه.
إن هذه الأرقام العامة تجسد النتيجة التي سجلها التقرير السري والصريح للبنك المركزي المصري، حين قال: "تلك البنوك وجهت الجانب الأكبر من مواردها للإيداع لدى مراكزها الرئيسَة وفروعها، والمراسلين في الخارج، أو تقديم التسهيلات المصرفية قصيرة الأجل (من 90 إلى 180 يومًا) لبنوك القطاع العام لتمويل التجارة الخارجية". ولكن كيف نفسِّر هذا النشوء العجيب في أوجه الاستخدام، والذي بلغ الذورة في توظيف الموارد في الخارج، وليس في الداخل؟ كيف أصبحت مصر مركزًا لإعادة تدوير البترول ـ دولارات إلى أوروبا والولايات المتحدة؛ مثل السعودية والكويت؟! إننا نختلف مع تفسير البنك المركزي ـ في تقريره غير المنشور ـ حيث قال: إن إحجام البنوك عن العمل في الداخل لا بد يترتب عليه عمل في الخارج، فهذه توتولوجيا. والسؤال يبقى بالتالي معلقًا: لماذا الإحجامُ عن العمل في الداخل؟ يقول التقرير: "إن البنوك قدمت للعمل بالبلاد، قبل أن يكون المناخ الاقتصادي مُهيئًا بالدرجة الكافية للاستفادة من طاقتها، ومما يمكن أن تقدمه لدفع عجلة النمو"؛ سواء لانخفاض تدفق رأس المال الأجنبي للاستثمار في مصر عن المعدلات المتوقعة، أو لأحجام القطاع الخاص عن ارتياد مجال التصنيع تفضيلاً لأعمال الوساطة التجارية، ومُؤدَّى هذا الكلام للبنك المركزي، أن البنوك الأجنبية اندفعت إلى السوق المصري بهذا الحجم والحماس؛ نتيجة سوء التقدير، وهذا كلام قد تروِّجه البنوك الأجنبية؛ لتبرير اتجاهاتها الشاذة، ولكنْ عيبٌ جدًا أن يبتلع البنكُ المركزي هذا الطُّعم، وإذا صدقنا أن البنوك الأجنبية اندفعت في العام الأول نتيجة المبالغة الخاطئة في إمكانيات السوق المصريَّة، فكيف نفسر استمرارها في التدافع، بعد انكشاف الصورة، واتضاح الأحجام لدَى المستثمرين الأجانب وحالة القطاع الخاص المصري؟! ثم هل صحيح أن الاقتصاد المصري
لم يكنْ يُمثِّل طلبًا فعالاً كافيًا على موارد البنوك؛ بحيث اضطرت إلى توظيف أموالها في الخارج؟! أعتقد، بعد كل ما ذكرنا في الفصول والصفحات السابقة، أن الاتجاه الذي اتخذته البنوك الأجنبية، لم يكن مفاجأة غير منتظرَة، وتفسيرها الحقيقي كالتالي:

تدافعت البنوك، واستخدمت الضغوط السياسية وغير السياسية لسرعة الحصول على الموافقات من هيئة الاستثمار، ونشطت بشكل محموم، وبأيَّة تكلفة، لتدبير المقار، وتجهيزها، وللبدء فورًا في العمل. ومن السذاجة أن نتصور السذاجة في موقف وتقديرات البنوك الدولية، بل ونتصور أن الغفلة وسوء التقدير، لم يصيبا بنكًا أو بنكين، وإنما كلَّ البنوك في كل أنحاء العالم، وخاصة البنوك الأمريكية! لقد قرأنا "كيف يرى اقتصاديٌّ - في شركة متعددة الجنسية - اقتصادَ بلد ما؟". ووضُحَ أن قرار الاستثمار في بلد ما، هو قرار سياسي في الأساس. ووفق هذا المفهوم؛ كان التدافع نحو قطاع البنوك قرارًا سياسيًّا استراتيجيًّا، وأصحابه كانوا يذكرون تمامًا أن دورهم هو دور طليعة اقتحام، وليسوا جزءًا من تدفق عام للاستثمارات الأجنبية، لم تكن مفاجأة لشبكة البنوك الدولية أن زملاءهم في الشركات العابرة للجنسية، لن يتقدموا لإسهام واسع في المشروعات؛ فهذه المسألة كانت مفهومة تمامًا عند رجال البنوك، ومرتبة، وكان دورهم بالتحديد أن يساعدوا في تمهيد الأرض لمرحلة تالية، يتمكن فيها المستثمرون الأجانب من القدوم، وفق شروطهم الخاصة.
وفقًا لهذه المهمة؛ كان مطلوبًا أن تتقدم البنوك بأقصى سرعة - ومهما كان الثمن - نحو هدف السيطرة على قطاع التمويل، بقدراته الحاكمة في حركة الاقتصاد المصري؛ فكلما زادت حصتها من الودائع؛ زاد حجم القطاع الاقتصادي المعتمد على استخدامات الموارد في هذه البنوك، وكُلما زادت قدرة البنوك الأجنبية على إحداث ضغوط واختناقات وحوافزَ، تساعد الأدوات والمؤسسات الأخرى في جهودها لتشكيل الأوضاع.
وفي مرحلة الانتقال، كانت على البنوك الأجنبية مهام مباشرة؛ هي أن تُسهِم في لعبة الإغراق في الديون وزيادة متاعب ميزان المدفوعات، وكذلك في اكتساب العملاء، وليس تقديم تسهيلات مُيسَّرة للتجارة الخارجية، ومساعدة مشروعات التنمية (كما نصحها المسئولون الطيبون). وقد لعبت البنوك الأجنبية دورها المرسوم بكفاءة؛ فحرمت الاقتصاد الوطني من مدخرات بالنقد الأجنبي، ووظفتها في الخارج في لحظة معاناة من أزمة سيولة حادة في النقد الأجنبي، وحين أدَّى ذلك إلى تزايد الحاجة إلى مصيبة الاقتراض المصرفي؛ تقدمت هذه البنوك لتسهم في توفير هذا التمويل الخطر، أي أن البنوك الأجنبية استخدمت الموارد النقدية لمصر في تعميق أزمتها، وليس في التفريج عنها. وبالتأكيد أسهمت هذه البنوك (على الأقل من خلال توزيعها الانتقائي للائتمان) في فتح كثير من الأبواب المُغلَقة.
(2) برنامج التنمية في التنفيذ:
أ- بعد الحديث عن التغير البنيوي الذي مثله اختراق العدو لقطاع المصارف، نستطرد إلى باقي جوانب الصورة العامة؛ لتوضيح مدى نجاح الجهود الخارجية في تحقيق هدفها النهائي: التغيير الكامل لبنية الاقتصاد الوطني، وعلاقاته الاجتماعية. ويساعدنا في ذلك متابعة ما تحقق في برنامج التنمية لعام 1976، وقد عبَّرت وزارة التخطيط عن عدم رضائها؛ إذ خلُصت إلى "أنه - وإن كانت الإجراءات التي اتُّخِذَت بموافقة السلطات المحلية، ولقيت تقدير المنظمات الاقتصادية، قد ساعدت على إنهاء العام الماضي، بصورة مكَّنت الاقتصادَ من مواجهة احتياجاته الأساسية؛ الداخلية والخارجية، رغم تزايد أعباء الأخيرة ـ إلا أنه من المتوقَّع ألا تحقق خطة 1976 الأهداف الموضوعةَ لها بالكامل، الأمر الذي يعني أيضًا ضرورة دفع عملية التنمية في عام 1977 بما يعوض ما لم يتم تحقيقه في عام 1976؛ بحيث يمكن تحقيق أهداف الخطة الخمسية في السنة الأخيرة منها"(84). ويعترفُ تقريرٌ آخر بأن "الظروف التي أحاطت بتنفيذ خطة عام 1976 لم تساعدْ التخطيط على تحقيق أسلوب المتابعة العيني والمالي المستهدف (...) وفي ظل التطورات السريعة التي كانت تتوالَى خلال تلك الفترة؛ على الصعيدين المحلي والدولي" (85).
ويعني هذا الكلام، أن التوصل إلى معرفة نتائج الخطة - بقدر معقول من اليقين ـ أمرٌ متعذِّر، باعتراف التخطيط. والمقصود بالتطورات المتسببة في هذه النتيجة: تتابع التفاؤل والتشاؤم حول احتمالات التمويل الخارجي، وما صاحب هذا من تغيُّرات مطردة في السياسات الاقتصادية؛ إذعانًا للمقرضين ـ على نحو ما أوضحنا في هذا الفصل.
ونذكر أن الاستثمارات المستهدفة لذلك العام، كانت قد قسمت إلى شريحتين؛ كمحاولة لمواجهة الفجوة التمويلية الخارجية، وكانت تُقدَّر بحوالي 2400 مليون جنيه، و"كان الترجيح السياسي يؤكد إمكانية استكمال عناصر المواجهة لتلك الفجوة خلال الأشهر الأولى للعام" (86).
ومع فشل "مشروع مارشال"، ورغم الزيارات والمباحثات، تأكَّد أن تنفيذ الشريحتين مستحيل. كان مجلس الشعب قد وافق على استثمارات الشريحة الأولى، وأثناء العام أصدر قانونًا بالصرف على الشريحة الثانية في حدود 100 مليون جنيه تم توزيعها على جهات الإسناد، وبذا أصبح إجمالي الاستثمارات المستهدفة والمعتمدة نحو 880 مليونَ جنيه. "إلا أن البيانات الواردة من جهات الإسناد، أوضحت أنه تم تنفيذ استثمارات تُقدر بنحو 1251 مليون جنيه (1168 مليون جنيه في القطاع العام و83 مليونًا في القطاع الخاص) بخلاف استثمارات الشريك الأجنبي في البترول، وفي خط سوميد" (85).
واعتمدت تقارير المتابعة على هذا الرقم دون أي تبرير للتناقض الذي عبرت وزارة التخطيط عن تنبهها له. وبالمناسبة أيضًا، فإن بيانات الحساب الختامي لموازنة عام 1976 أظهرت حجم الاستخدامات الاستثمارية للجهاز الحكومي والقطاع العام بنحو 1358 مليون جنيه (مقابل 1168 مليون في متابعات التخطيط).
وكما كان الحال مع العام السابق، أشاد البنك الدولي بنتائج التنمية الانفتاحية خلال 1976، بلا مناقشة أو تحليل، فاعتمد على البيانات الأولية من وزارة التخطيط؛ ليكتب أنه برغم متاعب النقد الأجنبي في عام 1976، "تمكن الاقتصاد من مواصلة النمو بمعدل يبلغ نحو 6.5 % بالأسعار الثابتة". واضطر تقرير البنك على الاعتراف بحقيقة أن هذا النمو "يرجع - إلى حد كبير على أيَّة حال - إلى زيادة الإنتاج في قطاع البترول؛ بسبب تشغيل حقول البترول في سيناء لعام كامل، والتي تمت استعادتها في نوفمبر 1975 بالإضافة إلى زيادة الإنتاج من حقول البحر الأحمر)، وإلى استخدام القناة لعام كامل لأول مرة. وفي الحقيقة، يُقدر أن أكثر من 40 % من الزيادة في القيمة المضافة، يأتي من هذين القطاعين، ويتوقع أن يكون النمو في القطاعات الأخرى الرئيسَةِ أكثر تواضعًا، ولكن ينظر محترمًا، إذا كانت الزراعة تنمو بحوالي 3 %، والصناعة بحوالي 8 % (أي فوق المتوسط العام ـ المؤلف) والتجارة والخدمات الأخرى بحوالي 7 %" (87). والحقيقة أن معدل 6.5 % لا يبدو محترمًا على الإطلاق ـ حتى من ناحية المنظر الخارجي ـ إذا كان 40% من هذه الزيادة يرجع إلى القناة والبترول (أي إلى الاعتبارات السياسية التي أدت إلى اتفاقية الفصل الثاني للقوات)؛ ولذا أعلنت وزارة التخطيط في تقرير المتابعة المبدئي أن معدل الزيادة الحقيقية في الدخل المحلي الإجمالي بلغ 9.8 %. وهذا الكلام بالغ الشذوذ، وتكفي نظرة إلى جدول الموازنة القومية في مشروع الخطة وفي تقرير المتابعة؛ لتبين التضارب الذي لا يصدق بين الأرقام الواردة في الجدولين، والتي جرت على أساسها الحسابات والمقارنات لمختلف المتغيرات. ويكفي أن الناتج المحلي الإجمالي المثبت في مشروع الخطة كمستهدف لعام 1976 (= 4778 مليون جنيه) أصبح في تقرير المتابعة الناتج المحلي المحقق عام 1975 ـ في بعض المواضع ـ وظل في مناسبات أخرى (في نفس التقرير) رقمًا مستهدفًا لعام 1976 كما كان الحال في مشروع الخطة (88).
إن تضارب البيانات في بعض الحالات، نفهمه على أنه راجع إلى تعدد مراكز المعلومات، واختلاف الأساليب الإحصائية، والخلل التنظيمي... إلخ، ولكن في حالتنا هذه يصعب اعتماد شيء من قبيل ما ذكرنا، سببًا لتفسير التعارض.
على أيَّة حال، سنعتمد على الأرقام النهائية للمتابعة، وقد اعتمدت هذه - بشكل نهائي - أن الناتج المحلي الإجمالي المُقدَّر بـ 4778 مليون جنيه هو ناتج عام 1975، وارتفع عام 1976 إلى 5268 مليون جنيه، وبالتالي تحققت زيادة قُدرت بحوالي 489 مليون جنيه (بأسعار 1975 ـ أي بالأسعار الثابتة)، وكان معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي 10.2 %. وهذا المعدل منظره مفرح ولا شك، لولا أننا نلاحظ أنه يزيد عن المعدل الذي كان مستهدفًا في مشروع الخطة، والذي قُدِّر على أساس افتراض استثمار الشريحتين بالكامل، فبالأسعار الثابتة، كان مستهدفًا أن يكون المعدل في حدود 5 % (89)، فكيف يتضاعف المعدل باستثمار أقل؟ ورغم أن دخل القناة انخفض عمَّا كان مستهدفًا؟ ومع ذلك، حتى إذا اعتمدنا كل الأرقام والمعدلات النهائية لوزارة التخطيط، فإن إبعاد أثر القناة والبترول يهبط بالزيادة المتحققة في الناتج المحلي إلى حوالي 150 مليون جنيه (بأسعار 1975)، ويصبح المعدل الفعلي للنمو 3.1 % فقط لا غير، إذا وافقنا على أن معدل التضخم (الذي تحسب معدلات النمو بالأسعار الثابتة وفقًا له) هو 5 % وليس 20 % وإذا كان الأمر كذلك، يصبح لا مجال للفخر بأن معدل الزيادة الحقيقية في الإنتاج المحلي الإجمالي كان 9.1 % وأنَّ معدل الزيادة في الدخل المحلي الإجمالي 10.2 %، وبالمناسبة، لا مجال أيضًا للزعم والفخر بأن هذين المُعدَّلين يشيران إلى خفض نسبة المستلزمات المستخدمة في الإنتاج من 52.2 % عام 1975 إلى نحو 48 % خلال عام 1976 مما يعكس "رفع كفاءة تشغيل الوحدات الإنتاجية"، فهذا الانخفاض في نسبة المستلزمات المستخدمة إلى إجمالي الإنتاج، يرجع ببساطة إلى حقيقة أن حوالي 70 % من زيادة الناتج المحققة كان بسبب دخل القناة والبترول، والقطاعان ـ بطبيعتهما ـ
لا يحتاجان إلى نسبة مستلزمات مرتفعة.

وقد دلَّت بيانات المتابعة النهائية أن هيكل الدخل المحلي الإجمالي واصل - خلال عام 1976 - تغيَّره في صالح مجموعة قطاعات التوزيع، ويعلق التخطيط على ذلك بأن "هذا التغير ليس تغييرًا هامًا؛ بسبب ما تتميز به مجموعة القطاعات السلعية من وزن كبير في الأهمية النسبية في الاقتصاد القومي، وخاصة قطاعي الزراعة والصناعة". وهذا التعليق مضلل؛ لأن التغير حسب البيانات المعلنة كان محدودًا بالفعل إذا نظرنا إليه من زاوية المقارنة بين الأهمية النسبية لجملة القطاعات السلعية في الدخل المحلي الإجمالي بين عامي 1975 و1976 ولكن ينبغي أن نتذكر اختلال العلاقة بين القطاعات السلعية نفسها؛ بحيث زاد دخل البترول بمعدل 47.7 %، وزاد دخل الصناعة والتعدين بمعدل 8.1 % (أي أقل من معدل النمو الإجمالي للدخل ـ 10.2 % ـ) وزاد دخل الزراعة بمعدل 1.5 % فقط، وبالتالي لولا حقول أبي رديس؛ لكان انخفاض الأهمية النسبية للقطاعات السلعية محسوسًا ومكشوفًا.
ولكن يتطلب الأمر تجاوز هذه الوقفة عند المحيط الخارجي لبعض المتغيرات الاقتصادية، لا بد من نظرة أكثر نفاذًا إلى مكونات التغير في البيئة الاقتصادية، ونُشير إلى التالي:
ب ـ قضية الاستهلاك العائلي: ولا نعرض هنا للحسابات القومية، ونسبة الاستهلاك النهائي للناتج، فهذه مسألة منذرة قد أشرنا إليها، ومقصدنا هنا، الإشارة إلى التطورات الحادثة في الاستهلاك العائلي، وفي مكوناته بين الفئات الداخلية المختلفة. والدراسات الكمية المتكاملة في هذا الموضوع غير قائمة، وهي ترتبط بغياب الدراسات عن إعادة توزيع الدخل، ولكن أكَّد تقريرٌ مقدَّمٌ من محمد محمود الإمام (وزير التخطيط) للمناقشة في اللجنة العليا للتخطيط (أغسطس 1976) أنه حدث انكماش في متوسط استهلاك الفرد من السلع الضرورية، وعزا التقرير ذلك إلى أن فتح باب الاستيراد بلا ضوابط، أدَّى إلى تزايد الاستيراد من السلع الترفيهية، الأمر الذي قلل من المُخصص للاستهلاك الشعبي، رغم كل جهود الحكومة في الإعانات التي تتحملها السلع الشعبية؛ سواء المستورد منها أو المنتج محليًّا (90).
وأشار تقرير المتابعة أيضًا إلى قصور العرض من السلع الأساسية، وأكد جدول 13 في التقرير أن السلع غير المدعمة ساهمت بنصيب كبير في دفع معدلات الاستهلاك إلى درجاتها العليا، وظهر ذلك بوضوح في مجموعات الأقمشة والملابس، والأثاث والتجهيزات المنزلية، وسائر السلع والخدمات الترفيهية، وأوضح التقرير أن هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى ظهور طبقات جديدة من الأفراد ذات دخول عالية، وارتفاع مستوى معيشة بعض الطبقات الأخرى". وفي الواقع لا يمثل غياب الأرقام في هذا المجال مشكلة (ثم من قال إن الأرقام عندنا تعكس الحقيقة؟!) فما يهُمنا حاليًا، هو مجرد تسجيل حالة كيفية، حول التغير في نمط الاستهلاك؛ فمع انتشار المحاكاة لأنماط الاستهلاك الكمالية والشاذة في الدول النفطية المجاورة، ومع تساقط رذاذ هذا النمط من أصحاب الدخول العالية في الداخل، ومع موجة الإعلانات المكثفة من الشركات العابرة للجنسية عن كل "فنونها وإبداعاتها"، ابتلعت السوق فيض الاستيراد الاستهلاكي منذ بداية الانفتاح، والذي تحقق عبر الاستيراد الرسمي، والاستيراد الممول ذاتيًّا (دون تحويل عملة)، وعبر بور سعيد التي بدأت تمارس نشاطها رسميًّا ـ كمدينة حرة مع بداية 1976. إن سياسة التصنيع لإحلال الواردات في الستينيات انقلبت إلى سياسة الاستيراد لإحلال الصناعة الوطنية في سني الانفتاح.
وإعادة صياغة المستهلك المصري على هذا النحو اكتملت أبعادُها، والآثار المترتبة على ذلك آثار استراتيجية: إحكام علاقة الاعتماد على الدول الغربية، التي تزودنا وحدها بالسلع التي عوَّدونا إدمان استهلاكها ـ وحتى عند التفكير في مشاريعَ صناعية، أصبحت نفس هذه السلع، والطلب المشوه الذي خلقته - حافزًا موجهًا لتخصيص الموارد باسم إحلال الواردات ـ ارتفاع معدلات الاستهلاك بشكل عام، زاد التعرض للغرق في الديون لأغراض جارية ـ إعادة توزيع الدخل (عبر كل الآليات الملائمة) على نحو يتسق مع أنماط الاستهلاك المفروضة، مع كل التوترات الاجتماعية المترتبة على ذلك (91).
ج ـ أولوية المشروعات الممولة من الخارج: يقول تقرير المتابعة: إن عدم التزام القطاعات في تنفيذ الاستثمارات المعتمدة في الخطة؛ سواء بالتجاوز في بعض القطاعات، أو التقصير في البعض الآخر، أصبح أمرًا تقليديًّا، ومما لا شك فيه أن حفظ التناسق بين نمو القطاعات المختلفة، مطلوب لتوازن الخطة؛ حيث إن الخطة وحدةٌ مترابطة، لا يمكن تجزئتها، وإلا اختل التوازن بين القطاعات المختلفة". وهذا الكلام التبريري غير مقبول، فصحيحٌ أنه جرت العادة على خروج جهات الإسناد عن حدود المهام المقررة، وبدرجة تَزيد عن المسموح به باسم مرونة التنفيذ، وصحيح أن هذه الظاهرة استمرت وتزايدت قبل عصر الانفتاح، ومع منهج برامج الاستثمار السنوية الذي حل محل التخطيط المركزي الجاد بعد تجربة 60/ 1961 ـ 64/ 1965، ولكن هامش الخروج على البرامج المستهدفَة، ظل مع ذلك في حدود لا تقارَن بما وصلت إليه الحالُ بعد الانفتاح، وفي عام 1976 أصبح الخروج على البرامج، على نحوٍ يجعل الحديث عن وجود خطة تضبط حركة الاستثمار لغوًا لا معنى له، وقد نقلنا عن تقرير المتابعة، اعترافَه بأن المتابعة المالية والعينية لما تحقق خلال عام 1976 كانت أمرًا مُتعذرًا، واستحالة المتابعة هي الوجه الآخر لفقدان أيَّة سيطرة على إصدار القرارات، قبل الانفتاح، كان مدى الخروج على البرامج المستهدفة لا يقارن ـ كما قلنا ـ بما حدث عام 1976، ولكنَّ هذا الوجه من المقارنة يظل ـ رغم خطورته ـ فارقًا كميًّا، والوجه الأخطر في الموضوع أن الخروج على الالتزام، كان يمثل في المرحلة السابقة ـ وفي التحليل النهائي ـ اختلالات تنظيمية، والتغلب عليها كان في حدود القدرة المحتملة للمخطط المصري، ولكن الخروج الواسع على الالتزام بدءًا من عام 1976، كان معبرًا في المقام الأول عن خضوع الوحدات والقطاعات الاقتصادية لقرارات من خارج المؤسسة المصرية (قرارات الممولين الأجانب). وهذا الفارق النوعي بين حالتي الخروج على الالتزام، يجسد الفارق بين احتمال التنمية المستقلة، وبين السير باتجاه التنمية التابعة.
كان مشروع الخطة قد أشار إلى إعطاء أولوية للمشروعات الممولة ولو جزئيًّا من الخارج، والتمويل من الخارج شمل مشروعات الاستثمار المباشر، وقروض الحكومات والبنك الدولي، وأيضًا تسهيلات الموردين، وواضحٌ ذلك في عمليات تطوير القناة التي حَظيَت - منذ البداية - بالأولوية الأولى لدى جهات الإقراض الخارجي؛ فقد قفزت الاستثمارات المنفذة إلى 115 % مما كان مستهدفًا، ولكن يمكن أن يقال إن حالة القناة، ليست مجرد تدخل مقرضين؛ فهي تمثل أولوية سياسية خاصة، مُتفقًا عليها بين الحكومة الأمريكية والحكومة المصرية، وهذا صحيح، ولكن سنجد أن وزارة السياحة نفذت استثمارات تبلغ 197 % من الاستثمارات المقررة (والسياحة المجال الأول الذي تدفق إليه المستثمرون). ووزارة الري بلغت استثماراتها المنفذة 142 % من المقرر (بسبب قروض وكالة التنمية الدولية وهيئة التنمية الدولية لمشروعات الصرف في الوجهين البحري والقبلي) ـ وكان المستهدفَ زيادةُ فرص العمل في قطاع الزراعة بنحو 67 ألف مشتغل، ولكن التوسع في الميكنة الزراعية - نتيجة الاستيراد على القروض الأمريكية - أدى إلى توفير استخدام 214 ألف مشتغل، أي لم تمتنع الزيادة المستهدفة فقط، ولكن انخفض عدد المشتغلين أصلاً في قطاع الزراعة بنحو 150 ألف عامل. ومفهومٌ أن استخدام تكنولوجيا كثيفة رأس المال، بدل تكنولوجيا كثيفة العمالة - ليس أمرًا مطلوبًا
أو مرفوضًا في حد ذاته؛ فالأمر يتقرر وفق خصوصية كل حالة، ووفق تشابكاتها مع المتغيرات الاقتصادية المختلفة، وحين يتعلق الأمر بقطاع اقتصادي أساسي ـ كقطاع الزراعة ـ مفروض أن تخضع الدراسة والقرار لجهة التخطيط المركزي، وفي حالتنا هذه، لم يحدث
ما حدث؛ نتيجة حاجة القطاعات الاقتصادية الأخرى مثلاً على يد عاملة، بل أدَّى هذا النقص في عمالة القطاع الزراعي إلى زيادة البطالة الصريحة والمُقنعة في قطاعات أخرى، فيلاحظ مثلاً أن قطاع الخدمات انتفخ بحوالي 100 ألف، وقطاع التجارة بحوالي 100 ألف خلال 1976، أيضًا لم يحدث ما حدث نتيجة التقدُّم المحلي في تصنيع الآلات الزراعية؛ ولكن فقط لأن القروض الأمريكية لا بد أن تُستخْدَم؛ ولأن استخدام آلات أمريكية بالذات، من أدوات ربط قطاع الزراعة بالولايات المتحدة.

نفس الاتجاه نلحظُه في قطاع النقل، حدث انخفاض في نقل البضائع بالسكة الحديد بنسبة 10.2 % من حجمه في عام 1975، وفي المقابل زادت حركةُ نقل البضائع عبر الطرق (اللواري والمقطورات) بمعدل 8.7 % عن عام 1975، ومعروفٌ أن اقتصاديات النقل بالسكة الحديدية أفضل؛ ولذا يعكس هذا الاتجاه ـ إلى حد ما ـ فرضَ تفضيلات الموردين والمُقرضين الأجانب، لدعم أنشطة القطاع الخاص.
وقطاع التعمير شهد العجب. استثمارات وزارة الإسكان والتعمير زادت عن المُستهدف بنسبة 236 %، وفي قطاع التعمير، حدث أنْ قررت الحكومة ضغط استثمارات هذا القطاع إلى نحو 83.1 مليون جنيه (مقابل 243 مليونًا عام 1975)، ويبدو أن هذه العملية كانت محلاً لمعركة خلف الكواليس؛ فقد لوحظ أن مشروع خطة 1976 لم يضعْ التعمير بين الأولويات (كما كانت الحال في خطة 1975)، بل لم ترِد أيَّةُ إشارة صريحة للتعمير، وأثناء مناقشة مشروع الخطة قال وكيل مجلس الشعب (جمال العُطيفي) أنه حاول أن يستخلص نصيب منطقة القناة "من بين الاعتمادات المختلفة والمبعثرة أيضًا في شتَّى الأبواب"، وتصور أن المُخصص للتعمير يبلغ حوالي 300 مليون جنيه، وانتقد بشدة ارتفاع الرقم ـ إذا كان صحيحًا ـ "فلقد أمَّنا سكانَ منطقة القناة، وأعدنا توطينهم، وأقمنا لهم بعض المشروعات، ولكن يجب أن يكون هناك نموٌ متوازن في المجتمع كله" (92). وقد أعلنَ أيامها وزيرُ التخطيط أن الرقم الصحيح حوالي 80 مليون جنيه، وكان مفهومًا من السياق أن هذا المبلغ يدخل في إطار الشريحة الأولى، وبالفعل أوضحت هذه الحقيقة الموازنة النقدية، (وكان المكون الأجنبي 28 مليون جنيه). وأوضحت الموازنة النقدية أيضًا أنه مطلوب توفير 60.9 مليون جنيه كمكون أجنبي لاستيراد سلع وسيطة (خشب ـ حديد تسليح ـ أسمنت) للوصول باستثمارات قطاع الإسكان والتعمير ـ ضِمن الشريحة الثانية ـ إلى الهدف المقرر في الخطة(93). ويعني هذا أن القسم الأكبر من استثمارات التعمير أُجِّل إلى الشريحة الثانية (التي لا تتوفر موارد لتمويلها)، ويبدو أن السلطات لجأت إلى هذا الإجراء لاستخدام التعمير كقطب جاذب لتمويل أصحاب "المساعدات" الخارجية، للأولوية السياسية التي توليها الولايات المتحدة وتوابعها لهذا القطاع، وبالتالي تضمن السلطات مددًا خارجيًا يسد جزءًا من الفجوة التمويلية الممثلة في الشريحة الثانية. ولكن حدث أن الجهات الخارجية ظلت تغُلُّ يدها عن الإقراض، فأصرت السلطات المركزية على أن الإنفاق الاستثماري في قطاع التعمير منحصرٌ في نطاق ما تقرر للشريحة الأولى (83 مليون جنيه)، ولكن "ظل الأمر - طوال السنة - مثارًا للنقاش حول إمكانية زيادة هذا الحجم" (هذا ما سجله التقرير المبدئي للمتابعة، دون أن يشرح طبيعة النقاش أو الجهات المتناقشة). ولكنَّ "الشركاتِ المُسنَدَ إليها مشروعات التعمير، استمرت فعلاً في العمل بمعدلات تماثل معدلات 1975 (في بداية 1976) ثم أخذت تتناقض كرد فعل طبيعي لنقص التمويل، إلا أن المحصلة كانت في النهاية تجاوزًا للحجم المقرر في الخطة؛ حيث بلغ ما نُفِّذَ من استثمارات نحو 170 مليون جنيه، مؤدِّيًا إلى تجاوز في الخطة، ومستحقات للشركات تعوق حركتها" (94). ويعني هذا ـ في رأينا ـ أن شركات المقاولات كانت تتلقَّى تعليماتها من جهة أخرى غير الحكومة، والسلطات المركزية لم تكن تملك حيالها شيئًا، وفي قطاع ـ كالتعمير ـ ذي مدلول استراتيجي واضح، وذي أثر بيِّنٍ على التوازنات القومية!
قطاع الصناعة والتعدين: هذا القطاع يستحق وقفة خاصة باعتباره قلب القطاع العام، "وكان" قائدًا لعملية التنمية. ونبدأ بأن القطاع الصناعي خضع لنفس الاتجاه الذي تناولناه في القطاعات الأخرى. كانت الاستثمارات المقررة بالخطة 196.7 مليون جنيه، والمنفذ 352 مليون جنيه (نسبة التنفيذ 179 %)، و"ترجع الزيادات في الاستثمارات المنفذة عن المقرر، إلى الإسراع في تنفيذ بعض المشروعات؛ نتيجة لورود المعدات السابق التعاقد عليها، والتي ترد على تسهيلات، بأكثر مما كان مقررًا لها" (95). ويوضح الجدول (2) أهم المشروعات التي حدث فيها تجاوز، بناء على تعليمات الجهات الخارجية.
وعمومًا كانت نسبةُ التنفيذ إلى الاستثمارات المقدرة 174.9 % في الصناعات الغذائية، و477.3 % في الصناعات الكيماوية، و341.9 % في صناعة الغزل والنسيج، فهل يمكن مع هذا المدى من التجاوز أن نعتبر أنه لا زالت هناك خطة وأهداف مقررة؟ واللغز غير المُفسَّر، هو أن كل هذا التجاوز في إجمالي استثمارات الصناعة والتعدين (179 %)، والذي ارتفع بنسبة استثمارات هذا القطاع في الهيكل العام للاستثمار، من 24.3 % (مستهدَف) إلى 28.1%، ترتب عليه معدلُ نمو في دخل الصناعة يقل عن معدل النمو العام، وهبوط بالتالي في إسهام الصناعة والتعدين في الدخل المحلي الإجمالي من 17.8 % إلى 17.4 % (1976)، رغم أن الاستثمارات كانت موجهة أساسًا للاستكمال والإحلال والتجديد، وليس للبدء في مشروعات جديدة، ووفقًا لأرقام المتابعة الكمية (أي: بالوحدات المنتجة) حققت بعض الصناعات زيادات متفاوتة. وحقق البعض الآخر نقصًا في حجم الإنتاج عن عام 1975. ففي الخامات المنجمية، حقق الملح والفوسفات زيادة، وحقق خام الحديد نقصًا (ـ 10.7 %) ـ الصناعات الغذائية (سكر مكرر/ جبن أبيض/ مسلي صناعي/ علف حيوان/ مياه غازية/ بيرة/ سجاير) حققت كلها زيادات كمية ـ الغزل والنسيج حققَ زياداتٍ باستثناء غزل الحرير (ـ 10 %) ـ منتجات الصناعات المعدنية، تحقق نقصًا في التالي: زهر خام ( 16.9 %) قطاعات صلب ثقيلة (8.6 %)/ شرائط ألواح على البارد ( 16.8 %)/ حديد تسليح (ـ 25.5 %)/ مواسير صلب ملحومة طوليًّا (ـ 11.1 %)/ فيرسيليكون (ـ 6.4 %). وفي المقابل تحققت زيادات في بعض المنتجات الأخرى ـ المُنتجات المعدنية (أسطوانات بوتاجاز ـ ماكينات كهربائية) حققت زيادة والماكينات غير الكهربائية (عدادات مياه) نقص إنتاجها (ـ 7.9 %) ـ صناعة وسائل النقل: اللواري (ـ 2 %)/ سيارات ركوب نصر (ـ 9.5 %)/ كابلات وأسلاك كهربائيّة (ـ 21.7 %)، وفي المقابل زاد الإنتاج من الأوتوبيسات والتليفزيون والتليفونات والثلاجة الكهربائية ـ المنتجات الكيماوية: الأسمدة الأزوتية 15.5 % (ـ 87.3 %) وزاد إنتاج إطارات السيارات والجرارات ـ منتجات الفحم الكوك (ـ 2.4 %) ـ مُنتجات الأسمنت والزجاج المسطح زادت.
جدول (2)
المُقرَّر والمُنفَّذ في مشروعات الصناعة عام 1976 بالمليون جنيه

المقرر
المنفذ
نسبة المنفذ إلى المقرر
قطاع الصناعات الكيماوية
مشروع يوريا أبي قير
البطارية الثالثة
قطاع الغزل والنسيج
شركة الدقهلية للغزل
الشركة الشرقية للكتان
قطاع الصناعات الغذائية
مشروع الملح والصودا
مصنع قها الجديد
قطاع الصناعات المعدنية الأساسية
مشروع المواسير الملحومة حلزونيًّا
مشروع الفيروسيليكون
مشروع كابلات الضغط العالي
قطاع التعدين:
فوسفات الحمراوين
-
0.7
0.2
0.2
0.3
-
0.6
3.0
0.3
2.8
19.9
3.9
4.7
3.3
1.6
1.4
5.7
4.2
1.3
3.9
517.1 %
2127.9 %
1775.7 %
526.3 %
872.3 %
140.0 %
497.4 %
137.9 %


ولا شك أن أسباب الزيادة والنقص في كل حالة، تتطلب دراسة تفصيلية تخرج عن إطار بحثنا، ولكن يُلاحظ أن نقص الإنتاج شمل صناعات أساسية وثقيلة. وعمومًا كانت الأسباب متباينة لانخفاض الإنتاج في بعض الصناعات؛ فأحيانًا كان هناك نقص في المستلزمات وقطع الغيار؛ بسبب الخلاف مع السوفيت، وعزوف الغرب عن الإمداد (كان هذا شرطًا صريحًا كما بيّنا في الفصلين الثاني والرابع، ضمن شروط وكالة التنمية الأمريكية والبنك الدولي). وأحيانًا كان نقص الإنتاج لافتعال اختناقات يستفيد منها الموردون والمستوردون.
ولكن من المؤكد أيضًا ـ وفي المقابل ـ أن زيادة الإنتاج لم تكن في كل الأحوال مما يدعو للارتياح؛ فمع التوسع العشوائي أو "المخطط" في قطاع الاستيراد، كانت الزيادة في بعض المنتجات لا تمثل توسعًا مفرحًا، بقدر ما مثلت تعلية للمخزون الراكد؛ ولذا تجددت صيحات الاحتجاج والتحذير من قيادات القطاع العام الصناعي، واضطر وزير الصناعة في ذلك الوقت (عيسى شاهين ـ وهو انفتاحي مشهور ومن عائلة انفتاحية) إلى التصريح بأن "الحماية نظام مشروع لحماية الاقتصاد القومي ككل" (96).
د ـ و.. مسألة أخرى تتعلق أيضًا بمحنة قطاع الصناعة وانخفاض كفاءته؛ فالهيئات الدولية لا تمَلّ من الحديث والضغط "لتحرير" الأسعار من الضغوط المركزيَّة؛ باعتبار هذا الإجراء مبدأ مُقدسًا للنظام الاقتصادي الرشيد، والهيئات الدولية طالبت وضغطت؛ لكي يقترب هيكل الأسعار المحلية من هيكل الأسعار في أسواق الدول الغربية، وهذه الهيئات قررت في نفس الوقت، أنه يمكن الخروج على المبدأ المقدس في مجال وحيد: "إن الوضع الجديد سيتطلب تخلصًا من أغلب هذا الجهاز (جهاز الضوابط الإدارية والتوجيهات المختلفة الأنواع) واستبدال إجراءات أقل مباشرة وأكثر تعقيدًا به.
في هذا البناء المتحرر ستعتمدُ الحكومة أساسًا على سياسات مالية، نقدية، سعرية، وسعر صرف من أجل تحقيق أهدافها. وبعض الأهداف قد تظل على أيَّة حال محتاجة إلى وسائل مباشرة، فسياسة الأجور مثلاً يمكن أن تُدار بشكل مباشر" (97). وكان هذا يعني مطالبة الدولة باستخدام سُلطاتها القانونية والقمعيَّة لإبقاء سعر قوة العمل وحدها، وفي القطاع العام وحده، عند مستوى لا يتناسب مع ما يمكن أن يفرضه التعامل الحر في السوق، ورغم المطالبة باقتراب هيكل الأسعار للسلع المادية، والخدمات من هيكل الأسعار في أسواق الغرب، تبقى سلعةُ قوة العمل وحدها دون هذا المستوى بكثير، وتعترف الهيئاتُ الدوليةُ أن ناتج هذه السياسة "أدَّى إلى زيادة الأجور في القطاع الخاص؛ مما يتمشَّى تقريبًا مع مستوى الأسعار، بينما تحققت الأجور في القطاع العام" (رغم زيادتها بحوالي 4 % في أول مايو 1976) (98)، والأرقام الإجمالية اللازمة للمقارنة بين متوسط الأجر للعاملين في شركات الانفتاح وشركات القطاع العام غير متوافرة، أو لا يرتكن إلى دقتها (99)، ولكن من المؤكد أن مرتب الموظف حديث الخبرة في بنك من البنوك الأجنبية، كان يزيد عن مرتب المدير العام لشركة الحديد والصلب المصرية! وهذا التشوُّه الفظيع في هيكل الأجور والمرتبات - خدمَ المخططات الأجنبية في اتجاهات مُختلفة: فقد تسبب من ناحية في استنزاف الكوادر المدرَّبة والموهوبة في القطاع العام، والتي كان من الطبيعي أن تتجه إلى موطن الدخل الأعلى، والمرتبة الاجتماعية الأفضل، حتى لو كانت الوظيفة الفعلية أقل فائدة اجتماعية (من حيث القيمة الإنتاجية). والمقصود بالمرتبة الاجتماعية الأفضل ليس فقط ما يُسبغه الدخل الأعلى، ولكن أيضًا ما رسخته الحملة الإعلامية المركزة، من أن القطاع العام والصناعة الوطنية رمز الفشل وانحطاط الكفاءة، والعمل في المؤسسات الأجنبية رمز النجاح والتفوق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كانت الأجور المرتفعة في الشركات الانفتاحية، عاملاً لتوثيق الروابط مع أبناء المسئولين المهمين، فعائلات المسئولين كانت رافدًا هامًا للتعيين في هذه الشركات. ولكن حدث ـ في نفس الوقت ـ أن كان مستوى الأجور المنخفض في القطاع العام عاملاً ضاغطًا على مستوى الأجور في الشركات الانفتاحية نفسها، فرغم ارتفاع هذا المستوى ـ بالمعايير المصرية ـ يظل هناك حرص من هذه الشركات، على ألا يلتقي مستوى متوسط الأجر في المشروعات العاملة في مصر، مع مستوى العاملين في مشروعات بالخارج.
على أيَّة حال، يهمنا في السياق الحالي، الاتجاه الأول: اتجاه استنزاف الكفاءات الفنية من القطاع العام، والقطاع العام الصناعي بالذات. إن التكلفة الحقيقية لتكوين وتدريب قيادات القطاع العام الصناعي هي مئات الملايين من الجنيهات التي أنفقت في استثمارات، تربت هذه الكوادرُ في إنشائها وإدارتها، وقد أصبح عاديًّا أن تتخلَّى هذه القيادات عن مواقعها (لأسباب مختلفة) لكي تشاهَد بعد فترة في مكاتبَ استشارية، أو تجارية، أو في شركات استثمار تقتصر مهمتها على إقامة مبانيَ سكنية (وهي مهمة يحذقها أي مقاول)، وفي أحسن الحالات، كانت تهجر شركاتٍ عملاقة مُعقَّدة لتعمل فيما يشبه الوِرَش الصغيرة، لقاء أجر أكبر. إن هذا التبديد للثروة البشرية أصبح من أخطر معاول الهدم للصناعة الوطنية التي أقيمت خلال عقود من النضال، وخاصة خلال الستينيات.
إلا أن تبديد الثروة البشرية لم يتحقق فقط على يد الانفتاح في الداخل؛ فقد تضافر الانفتاحُ الخارجي لتأكيد النتيجة؛ سواء بتصدير رأس المال البشري ـ بلا تخطيط وطني
أو حساب ـ للدول العربية، أو بالهجرة إلى الدول الغربية، والعمل في الهيئات الدولية، كان عبد العزيز حجازي (الرئيس السابق لمجلس الوزراء) يتمنى على الله أن نسعى وننجح في تصدير البَشر كما نسعى في تصدير البطاطس، وممدوح سالم كان لا يترك مناسبة إلا ويفاخر بأنه يمضي على الدرب، ويشجع العملية.

ويبدو أن النجاح في هذا الجانب كان الإنجاز الأكبر للحكومات المتعاقبة، في عام 1973 كانت تحويلات المصريين العاملين في الخارج تبلغ 86 مليون دولار ـ في عام 1974 وصلت إلى 205 مليون دولار ـ في 1975 كانت 535 مليون دولار ـ في عام 1976 أصبح 761 مليون دولار.. تحققت – إذًا - نبوءة حجازي، ولم تناقش هذه التحويلاتُ متحصلاتِنا من تصدير البطاطس أو حتى الأرز، بل حلَّت (عام 1976) محل القطن (خامًا ومُصَنَّعًا) كمصدر أول للنقد الأجنبي.
هـ ـ التعامل مع العالم الخارجي:
استطرادًا للنقطة الأخيرة، نلقي نظرة إجمالية على تطور العلاقات الاقتصادية الدولية خلال عام 1976. ومع استبعاد تحويلات العاملين في الخارج، نلحظ في حساب تصدير الخدمات زيادة ملحوظة في متحصلات قناة السويس والسياحة، وكانت هذه الزيادة المتوقعة من العوامل التي استند إليها تفاؤل القيادة السياسية، عند استقبالها لعام 1976، واستخدمت هذه الزيادة المتوقَّعة (إعلاميًا وعلى نطاق واسع) لتسويق اتفاقية الفصل الثاني للقوات. ولكن حدث أن تضمنت النتائج النهائيةُ لميزان المدفوعات عددًا من "المُصادفات"، فقد انخفضت متحصلات قناة السويس عما كان مقدرًا في خطة 1976 (122 مليون جنيه بدلاً من 140)، وصحيح أن الزيادة المحققة في بند السياحة عوضت هذا النقص، ولكن واصلت المنح المقدمة للاقتصاد المصري هبوطها مع استلاك دخل القناة وبترول أبي رديس. هبطت المِنح (أساسًا من دول الخليج وحصة محدودة من الولايات المتحدة) من المستوى الذي بلغته عام 1974، إلى مستوى منخفض في عام 1976. كان النقص بحوالي 250 مليون جنيه (حوالي 640 مليون دولار)، وهذا النقص في الدعم (بالإضافة إلى النقص في دخل القناة عن المتوقع) كان متقاربًا (أو أكثر قليلاً) من مجمل الزيادة المحققة عام 1976 في الدخل السياحي وفي رسوم القناة وفي فائض الميزان النفطي ـ وبالتالي لم تؤد اتفاقية الفصل الثاني إلى النتائج الإيجابية (التي قيل عنها الكثير) في ميزان المدفوعات.
ونذكر أن عرضنا السابق أوضح انهيار الترجيحات السياسية حول مشروع مارشال العربي، وكانت الترجيحات تؤدي إلى تحقيق أهداف الاستثمار (بشريحتيه)، والتوصل إلى خفض العجز الجاري إلى 1200 مليون جنيه (مقابل 1400 مليون جنيه عام 1975)، ولكن الأوهام حول مشروع مارشال، لم تتبددْ في حدود أنها لم ترتفع بالتحويلات الخليجية عن المستوى المحقق عام 1975، أو بمعنى الفشل حول اتفاق طويل الأجل للمعونات، ولكن وصل انهيار الأحلام إلى حد انخفاض الحجم المطلق للتدفقات النقدية ـ بأشكالها المُختلفة ـ عام 1976، فالودائع التي بلغت 1400 مليون دولار (1975) لم تتجاوز 275 مليون دولار (1976)، (200 مليون الكويت + 50 مليون إمارات + 25 مليون قطر + لا شيء السعودية) ولم تتقدمْ دول الخليج لضمان الحكومة المصرية للاقتراض من الأسواق النقدية الدولية (كما حدث عام 1975)، وإيران عزفت خلال 1976 عن التقدم بأي قرض جديد، ومبالغ الدعم (الهبات) انخفضت كما أوضحنا بأكثر من مقدار الزيادة في القناة والسياحة والبترول، وعمومًا، فإن دولَ الخليج العربيَّةَ، بدلاً من الإسهام في مشروع مارشال، أحدثت خفضًا حادًا في مجمل إمدادها، تمامًا كما توعَّدت الهيئات الدوليةُ، فبدلاً من حوالي 2570 مليون دولار عام 1975، وصل المستوى إلى 840 مليون دولار فقط عام 1976 (أي إلى 32 % من حجم تدفقات العام السابق)، والقروض المتوسطة والطويلة الأجل من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية oecd ومن أوروبا الشرقية قدرت بحوالي 665 مليون دولار، أي كانت هذه التدفقات الرأسمالية، أقل أيضًا مما كانت تقدره السلطاتُ المصرية، وصافي التدفقات المستخدمة من هذا المصدر كان محدودًا؛ سواء بسبب ضخامة التدفُّقات العكسيَّة؛ سدادًا لأعباء الديون القديمة؛ أو لأن قسمًا كبيرًا من القروض كان مقيدًا بمشروعات، وبالتالي كان السحب على هذه التسهيلات بطيئًا. وحتى بالنسبة (للمعونة) الأمريكية التي كان مفروضًا أن تسهم إسهامًا محسوسًا في تمويل العجز الجاري، من خلال تمويل واردات استهلاكية ووسيطة في حدود 400 مليون دولار (وفقًا لاتفاقيات القروض السلعية مع وكالة التنمية)، حدث أن هذا التقدير لم يتحقق؛ حيث اتجهت اعتمادات المعونة بنسبة أكبر من المقرر إلى المشروعات الاستثمارية، وكانت النتيجة الحتمية لكل هذا (في ظل السياسات الانفتاحية الأخرى) أن ازدادت حدةُ الاختناق في العلاقات الخارجية للاقتصاد المصري، واستخدمت التقلُّصات والاختناقات في المراحل المختلفة من المفاوضات مع الجهات الدولية طوال العام، كما أشرنا.
وبالنسبة للصادرات السلعية، كانت الحصيلة بالعملات الحرة (حسب البنك المركزي نحو 308 مليون جنيه مقابل 168 مليون جنيه فقط عام 1975 (بزيادة 83.3 %)، ولكن ظلت هذه الحصيلة لا تغطي الواردات السلعية بالعملات الحرة (نحو 1239 مليون جنيه) رغم انخفاضها عن عام 1975 (كانت حوالي 1372 مليون جنيه)، وكانت كل التحويلات، وفائض العمليات غير المنظورة، أعجز من أن تسد هذه الفجوة الكبيرة والسفيهة. والحقيقة أن الصادرات إلى الأسواق الغربية ـ رغم زيادتها ـ كانت أقل من الأرقام المُستهدَفة، وبالتأكيد لم يكن متوقعًا - في كل الأحوال - أن تتوسَّع الصادرات إلى هذه الأسواق إلى حد يتناسب مع أهداف الاستيراد منها (والتي يقرر تقرير المتابعة المبدئي أنها كانت أهدافًا تزيد عن الحاجة)؛ فالأسواق الغربية لم تتخذ قرارًا بزيادة حصتها من القطن المصري. وهي ترفض منتجات الصناعة المصرية. والنفط الخام (ومشتقاته) كان السلعة الوحيدة التي تُباع بالكامل بالعملات الحرة (وخريطة تسويق الغربية)، ولكن حدث أن تضمن اتفاق التجارة بين مصر والهند تبادل منتجات الحديد والصلب الهندية والقمح، مقابل النفط الخام المصري (500 ألف طنًا سنويًّا) والفوسفات الخام والأرز (100). ويعكس هذا أن النفط المصري واجه أيضًا الموانع في الأسواق الغربية (هل يمكن أن يكون كل هذا مجرد صُدفة؟).
صاحب هذا الوضع أن استمر اتجاه عام 1975 حيث فاقت الصادرات إلى الدول الاشتراكية حاجتنا إلى الاستيراد منها، (فزيادة الاستيراد ممنوعة سياسيًّا)، واستُخدِم هذا الفائض ـ كما في العام السابق ـ "سدادًا للديون بمعدلات أسرع مما كانت تتوقعها هذه الدول نفسها" (101). ومن الطريف أن عام 1976 بالذات شهد مطالبات مجددة، ومحادثات رسمية طويلة، كان الجانب المصري يلح أثناءها على جدولة الديون، أي إبطاء معدلات السداد.
والخلاصة أن هذا الموقف في عام 1976 أدى إلى نفس نتيجة العامين السابقين: تدهور الميزان التجاري وميزان العمليات الجارية مع الدول التي تتوسع في الاستيراد منها، دون زيادة مكافئة أو مقاربة في التصدير، بالإضافة إلى تراكم الالتزامات الناشئة عن استخدام القروض والتسهيلات المصرفية، وتسهيلات الموردين. ولكن على عكس ما حدث عام 1974 شحت الموارد الإضافية السهلة، ولعبة استخدام التسهيلات المصرفية لسد الفجوة التمويلية، كانت قد استنفذت أغراضها في الإغراق والإرباك، فتوقفت البنوك الأجنبية عن سخائها الشاذ، وعادت إلى المستويات الطبيعية من الإقراض. وهذا الترتيب كانت البنوك قد بدأته عام 1975، ولكن تكفَّلت الموارد الاستثنائية (الودائع العربية والقرض الإيراني) بمواجهة الالتزامات، وخاصة في سداد الديون القصيرة الأجل لدى البنوك الغربية. ولكن حين انقطعت هذه الموارد عام 1976، اضطرت الحكومة إلى مد يدها للاقتراض المصرفي مرة أخرى، فزاد صافي الاقتراض بحوالي 250 % عن الرقم المقابل عام 1975. ولكن البنوك الأجنبية لم تكن لتسمح بعودة اللعبة، فنضبت موارد التسهيلات المصرفية مع التأخر في السداد الذي تواصل وتصاعد في النصف الثاني من العام، فبلغ في نوفمبر نحو 92 يومًا ـ ونضبت في نفس الوقت تسهيلات المورِّدين مع التأخير في السداد بنحو 6 شهور، وبالتالي فرض على السلطات المصرية فرضًا أن تخفض أهدافها الاستيرادية (من السلع الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية)، وخاصة في النصف الثاني من عام 1976. كان مستهدفًا أن يكون الاستيراد خلال العام 1488 مليون جنيه، فانخفض إلى 1016.5 مليون جنيه، وانخفض عجزُ العمليات الجارية من 1204.5 مليون جنيه (كما كان مستهدفًا) إلى 593 مليون جنيه، دون أن يمثل الخفض ظاهرة صحيحة، أو محاولة ترشيد. "إن هذا الموقف فرض على الاقتصاد المصري سنة 1976، وكان مرجعه عجز الموارد ومصادر الاقتراض أساسًا، وكان من نتائجه زيادة خطورة الموقف في عام 1977؛ نظرًا لضخامة التركة الاقتصادية التي ورثها هذا العام"(101).
ولكنْ رغم كل هذه المصاعب، لم يكن ممكنًا للحكومة ـ بالتعليمات الخارجية والضغوط الداخلية ـ أن تعود إلى التحكم في مجال التجارة الخارجية والاستيراد، بل زادت الفوضى، وخرجت العملية عن يد أيَّة إدارة (راجع التطورات الفعلية في مجال التجارة الخارجية ـ الفصل السادس). وانفتح باب آخر لاستنزاف النقد الأجنبي النادر من خلال المدينة الحرة: بورسعيد (102). وبالتالي تحقق خفض الواردات في ذلك العام بقرارات جُزافية، أو حسب وزن "مراكز القوى" التي يتم الاستيراد بواسطتها، فتضاعفت الاختناقات والارتباكات.



خامسًا ـ تأجيل موعد إعلان الاستسلام:
1- التطورات السياسية:
أ ـ في ختام هذا الفصل، نعرض التطوراتِ السياسية والاقتصادية المُكثَّفة في نهاية العام:
شهد شهر أكتوبر ـ كما ذكرنا ـ هجومًا عنيفًا على الجبهة الاقتصادية؛ بهدف انتزاع انتصار حاسم، ونفس الشهر شهد المعركة الانتخابية لمجلس الشعب، وكانت مسرحًا لتحرك دعائي سياسي نشِط من قوَى المعارضة, خاصة في المدن الرئيسَة، وعبَّر هذا التحرك عن سَخَط الجماهير والقوى الوطنية على سياسة الانفتاح (103). وظل أثر هذا النشاط باقيًا ومنذرًا في الشارع المصري.
وفي أواخر الشهر (28 أكتوبر) توجَّه الناخبون إلى صناديق الاقتراع للجولة الأولى من انتخابات مجلس الشعب. وحين أُعلِنت النتائجُ النهائية، كان حزب الحكومة (حرب مصر العربي الاشتراكي في ذلك الوقت) قد حصل على أكثر من 80 % من مقاعد المجلس. ولكن كان التنقيب خلف هذه الواجهة يكشف أن حزب الحكومة حصل في القاهرة والإسكندرية على 31 مقعدًا فقط من 58 (أي بالكاد على الأغلبية: 53 %). والقاهرة والإسكندرية هما المقياس الحقيقي للوزن السياسي المؤثر. وقد تحققت هذه النتيجة في المدينتين رغم تدخل الجهاز التنفيذي (بأشكال مختلفة) لإنجاح مرشحي الحكومة. ونُشير - في هذا السياق - إلى دلالة فوز أبي العز الحريري بمقعد العمال في نفس دائرة ممدوح سالم (دائرة كرموز ـ الإسكندرية). وأبو العز خاض معركة سياسية صريحة، ونجح على أساس أنه معارض عنيد لسياسة الحكومة (من موقع اليسار) (104). ونذكر أيضًا أن كل أعضاء الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي، سقطوا في الانتخابات.
ب ـ أثناء نفس الفترة (أوائل نوفمبر) كانت الأطراف المختلفة، تستعد لاحتمالات الفصل الجديد من التحرك السياسي، والتحرك في المجالات الأخرَى، بعد اكتساح الديمقراطيين للانتخابات في الولايات المتحدة، على مستوى الرئاسة (بفوز جيمي كارتر)، وعلى مستوى مجلس النواب والشيوخ في الكونجرس، وعبرت القيادة المصرية عن قلقها من نتائج الانتخابات الأمريكية، بمظاهر التقرب التقليدية من الاتحاد السوفيتي، فاجتمع وزيرُ الخارجية المصري (إسماعيل فهمي) مع أندريه جروميكو في صوفيا (أول اجتماع بينهما منذ أبريل 1975)، وكان طبَعيًّا أن يتشدد السوفيت - أثناء المحادثات - لتحديد شروطهم لتحسين العلاقات (105). ولكن أظهرت القيادة المصرية - رغم ذلك -اعتدالاً في ردود فعلها؛ ففي جلسة افتتاح مجلس الشعب (11 نوفمبر) قال السادات: "إننا لنقرر أن يدنا دائمًا ممدودةٌ إلى كل دولة صديقة، خصوصًا إذا كان بيننا تاريخ وتعاون وتفاهم طويل، طالما أن الطرف الآخر يحترم إرادتنا، ويقيم معنا علاقاتٍ صريحةً ومتوازنة" ـ في نفس الخطاب أرسل تحية مُتحفظة إلى كارتر بمناسبة انتخابه، "ونرجو أن يكون مُتفهِّمًا لعدالة القضية؛ حتى تتطور العلاقات مع أمريكا بالمنطقة إلى أحسن" ـ وبالنسبة للعالم العربي، قال السادات: إن المبادئ التي تحكُم سياسة مصر هي الإيمان، بأن التضامن العربي هو الأصل، وأشاد بعودة العلاقات بين "أصحاب قرار 6 أكتوبر التاريخي"، أي: بين مصر وسوريا.
(2) اشتداد الضغوط الاقتصادية:
ويبدو أن القيادة المصرية تصوَّرت أن دور "الرياض" ودول الخليج في التمهيد لمرحلة التحرك السياسي مع الولايات المتحدة، والذي انعكس في اتصالات ومؤتمرات جمع الشمل بين القاهرة ودمشق، يمكن أن يمتد إلى الدعم الاقتصادي؛ لتحسين الموقف السياسي للمفاوض المصري. وعبَّر الساداتُ عن هذا المعنى بصراحة (13 نوفمبر) فقال إن دول الخليج "أنشأت بالفعل صندوقًا لتزويدنا بمليارَي دولار خلال السنوات الخمس القادمة، وأنا في حاجة إلى 10 مليار؛ ولهذا السبب أقوم الآن ببحث الموضوع برُمَّته مرة أخرى معهم" (106).
وكما نعلم، كان الاقتصاد المصري في حالة إعمار شديدة خلال هذه الفترة، والجهات الأجنبية (وعلى رأسها صندوق النقد) تُستخدَم هذه الحالة لانتزاع الاستسلام، ولا تقبل أيَّة مساومة. وقد عبَّر التشكيل الوزاري الجديد (برئاسة ممدوح سالم) عن مدَى استجابته لهذه الضغوط، بالتغييرات التي أصابت المسئولين في القطاع الاقتصادي، (وهي تغييرات طالبت بها مذكرة بول ديكي ـ ونعلم أن المستويات الأعلى من ديكي حدَّثتْ المستوياتِ الأعلى من السلطة المصرية في هذا الأمر بصراحة أكبر).
وجاءت المجموعة الاقتصادية في التشكيل الوزاري الجديد، برئاسة عبد المنعم القيسوني، وهو رجلٌ اعتبرته الإدارة الأمريكية باستمرار مُتفاهمًا" (107)، وأوضح الرئيس في حديثه إلى وفد من أعضاء الكونجرس الأمريكي أن اختيار القيسوني وزملائه كان مقصودًا؛ باعتبار أنهم "من المعروفين باتجاهاتهم الاقتصادية الليبرالية" (106) وللحقيقة كان تركيب المجموعة متجانسًا، باستثناء وزير التخطيط (محمد محمود الإمام) الذي كان من عدم التوفيق أنهم احتفظوا له بموقعه؛ فهو ليس مجرد تكنوقراطي ذي كفاءة رفيعة، ولكنه صاحب نظرة وطنية شاملة لقضايا التنمية، وهو بحكم ذلك صاحب دراسات هامة تَدحض المفاهيم الانفتاحية، وكان شجاعًا في مواصلة الدفاع العلني عن تحليلاته واستنتاجاته بعد اختياره للوزارة.
على أيَّة حال، بعيدًا عن قضية وزير التخطيط (الذي تخلصوا منه بعد فترة) كان منظر المجموعة الاقتصادية، والصلاحيات التي خُوِّلت لها - نذيرًا بأن لحظة الاستسلام قد حانت. ولا ينفي هذا أن المجموعة الاقتصادية جددت الاتصال بهيئة الخليج؛ على أمل الحصول على أيَّة إمدادات لتحسين موقفها أمام الصندوق، وتدعمت الاتصالات بزيارة حسني مبارك (نائب رئيس الجمهورية) في أواخر نوفمبر إلى دول الخليج العربية وإيران، ولكنْ لم تسفر كل هذه المحاولات عن شيء.
في 11 ديسمبر ألقى ممدوح سالم بيانه عن برنامج الحكومة، فأكد في السياسة الخارجية التوازن بين الدولتين العُظمَيَين، وأنهما يَتحمَّلان معًا مسئولية العمل على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال صيغة مؤتمر جنيف، مع ضرورة حضور منظمة التحرير الفلسطينية. وكان الرئيس السادات قد أعلن في خطاب نوفمبر: "إننا نعرف جميعًا، ونحس جميعًا، بكل ما يشكو الشعب منه من مشكلات في حياته اليومية، وقد كلفت رئيس الحكومة الجديد، أن يقدم لكم بيانًا مُفصلاً لما لدى الحكومة من حلول واتجاهات حول هذه القضايا جميعًا".
وفي هذا المجال، لم يقصر فعلاً رئيس الحكومة، فقال أحلى الكلام والأماني حول الغذاء والإسكان والنقل والمواصلات ـ ترشيد الزيادة السكانية ـ خطة خمسية للتنمية ـ الإصلاح الإداري ـ العدل الاجتماعي ـ الحد من التضخم. واحتوى بيان الحكومة - كذلك - على عرض إنشائي عظيم لمشكلات ابتلاع الاستهلاك لمعظم الناتج ـ تعثر نشاط القطاع العام ـ ضعف مساهمة القطاع الخاص ـ ظواهر الاستغلال والمضاربة والتلاعب بقوت الشعب ـ التهرب من الضرائب ـ الإثراء غير المشروع ـ الانحراف بسياسة الانفتاح عن أهداف زيادة التنمية، وخلق فرص العمل واستجلاب التكنولوجيا الحديثة.. إلخ (108).
ولا شك أن الكلام كان ممجوجًا، وكان واضحًا أيضًا أنه غير جاد؛ فرئيس الحكومة، كان ينتقد السياسات الانفتاحية التي مُورست تحت رئاسته لأكثر من عام ونصف. وسيد مرعي (رئيس المجلس والمسئول الكبير) أدلى أيضًا بدلوه، فحين هاجم العضو اليساري أبو العز الحريري كلَّ نتائج سياسة الانفتاح، وطلب "إعادة النظر في هذه السياسة في مجالاتها المختلفة" علق سيد مرعي: "إنني للحقيقية أشارك السيد العضو أبا العز الحريري بالنسبة لنظرته في الانفتاح الاقتصادي (...) إن الانفتاح يجب أن يتم في إطار خطة التنمية من أجل المجتمع؛ ولذا فإن بعض المظاهر التي نراها اليوم، هي في حقيقتها مظاهر مؤقتة أرجو أن تزول قريبًا"(109).
من أخذ الموضوع على محمل الجد ـ من أعضاء مجلس الشعب ـ كان مشروعًا أن يناقش بيان الحكومة على أساس أن الحالة مزدهرة، وبالتالي لم يكتفِ هؤلاء بالوعود المسرفة التي قدمها رئيسُ مجلس الوزراء، ولكن طالبوا بالمزيد. قال بيان الحكومة: "إنها سوف تعمل - في إطار استراتيجية واضحة الأهداف والأولويات - على توزيع الأعباء بين الجيل الحاضر، الذي يجب ألا يتحمل وحده كل أعباء التحرير وإعادة البناء، وبين الأجيال القادمة التي سوف نضمن لها - عن طريق جهود التنمية - المستقبلَ الكريم". ويعني هذا التزامًا صريحًا من الحكومة، بأنها لن تعمد إلى إجراءات تقشفيَّة، ولكن لجنة الرد لم يعجبها هذا الكلام، فطالبت بمزيد من الوعود "فاللجنة تخشَى أن يغري التزام الحكومة بتوزيع الأعباء على الأجيال، فتترك هذا الجيل يعاني من المِحنة أكثر مما يُحتمل" (110).
إلا أن القيادات الواعية في مجلس الشعب، كشفت أنها بصدد وعود جوفاء، فأوضح خالد مُحيي الدين (مقرر حزب التجمع) أن "معظم الأهداف المحددة في البيان طموحة أكثر من اللازم، ولا تستندُ على إمكانيات فعلية للتنفيذ، وليس محددًا بالنسبة لكل منها الوسيلة أو الوسائل الكفيلة بتنفيذها". وتحدث أعضاء آخرون في نفس الاتجاه، وتساءلوا عن حقيقة الموارد التي تعتمد عليها الحكومة لتمويل مشروعاتِها (111).
ولكنْ حتى هذه القيادات السياسية، لم تكن تعلم أن كذب الحكومة ليس بمعنى المبالغة في الوعود، ولكن بمعنى أن الصورة معاكسة تمامًا لما أظهرته الحكومة؛ إذ لم يكن لدى الحكومة ما تقدِّمُه للناس، ولكن كانت تبحث في الحقيقة عمَّا ستأخذه. ولم يكن هناك من يعرف في تلك الأيام الوقائع التي كشفناها في هذا الفصل (خارج دائرة محدودة في قمة الجهاز السياسي والاقتصادي). لم يكن معروفًا أن حالة الإعسار (التي نشأت عن سياسة الانفتاح) كانت في أعلى ذروة، أثناء وعود ممدوح سالم الورديَّة، وأثناء مناقشات مجلس الشعب. وفقط بعد حوالي العام من هذه المناقشات، أعلنت الحكومة الصورة الحقيقة: "التأخير في السداد وصل في بعض الأحيان في أواخر 1976 وفي بداية 1977 إلى 120 يومًا في التسهيلات المصرفية، وإلى 180 يومًا في تسهيلات الموردين.. وقد بلغت المتأخرات المُستَحقة علينا في أواخر 1976 حوالي 185 مليون جنيه من التسهيلات المصرفية، وحوالي 37 مليون جنيه من تسهيلات الموردين وأكثر من 20 مليون جنيه من الالتزامات الأخرى، وعلاوة على هذه المتأخرات في التسهيلات المصرفية وتسهيلات الموردين، كانت هناك طلبات استيراد سلعي معلقة في البنوك التجارية وفي البنك المركزي بلغت نحو 141 مليون جنيه، رغم أن بعض الواردات المطلوبة، كانت وارداتٍ مهمة مثل واردات التموين والسلع الوسيطة.. إلخ، وإذا أضفنا رقم الواردات السلعية المعلقة إلى رقم الديون المستحقة والمتأخرة علينا في نهاية 1976 لتبين لنا أن حجم المتأخرات من الديون وحجم الموقوفات من طلبات الاستيراد، كان يقرب من 400 مليون جنيه (حوالي 1025 مليون دولار) اضطررنا إلى مواجهته سنة 1977 (112).
هذه الوقائع حَول الإعسار (أو الإفلاس) لم تكن معروفة، والفشل لدى دول الخليج في سد الفجوة التمويلية التي أعلن عنها في بداية العام (راجع بداية الفصل) لم يكن معروفًا. وحتى حين أعلنت الحكومة بيانها (الذي سجلناه) حول الموضوع في آخر 1977، لم يكنْ الإعلان كاملاً؛ إذ حرصْت الحكومة على إخفاء موضوع الودائع العربية، والتأخر في سداد التزاماتِنا منها.
المسألة الأخرى التي لم يعلمْها المتناقشون في حينها، هي أنه بينما كان مجلس الشعب يناقش كلام الحكومة كما
لو كان جدًا، كان البحث الفعلي (وفْق المعلومات الكاملة)، وكان تقرير السياسات، يتحقق سرًا - في خط مخالف، وفي موقع آخر - بين بعثة صندوق النقد الدولي برئاسة جون جنتر، وبين المجموعة الاقتصادية برئاسة نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية.

وقد استمرت المباحثات في شهر ديسمبر 12 يومًا. طلب الصندوقُ في المباحثات تسليمًا كاملاً بكل مطالبه الأساسية على الفور، وبدءًا من ميزانية أول يناير 1977، وأوضحت البعثة أن التسليم هو الثمن الوحيد المقبول لتقديم معونات نقدية عاجلة، تحل مصيبة متأخرات الديون، وبمعنى آخر كان المطروح هو التسليم أو الجوع والأزمات التموينية، فضلاً - طبعًا - عن وقف تحرك البنك الدولي لعقد اجتماع المجموعة الاستشارية، أي تأجيل الاتصالات الدولية حول تمويل الخطة الخمسيَّة (وقد تأجَّل الاجتماع بالفعل ـ كإجراء مؤقت ـ من يناير إلى مارس، في انتظار تصرُّف الحكومة)، ويبدو أن جنتر عاد إلى واشنطن، والجانب المصري لا زال يعارض في بعض الشروط؛ إذ ظلت هناك آمال حول مبادرة سعودية، تُتيح هامشًا للمناورة، فَجَرَت اتصالات عبْر قنوات رسمية وغير رسمية.
وفي 30 ديسمبر، كان السادات يربط خيوط الموقف معًا، (فدعمًا لموقفه مع سوريا) قال: "نحن كعرب جميعًا مسئولون عمَّا حدث في لبنان، وأنا منهم، وأنا لا أبرِئُ أحدًا منا.. نحن جميعًا خسرنا، والرابح الوحيدُ هو إسرائيل، ولكن الحمد لله بعد لقاء الرياض والقاهرة، عاد التضامن بأقوَى مما كان". (وللتفاهُم مع السعودية) حيَّا موقف الأمير فهد في قضية أسعار النفط؛ بمعنى أنه قرار سياسي لإعطاء الرئيس الأمريكي فرصة، وقال: "علينا - وفي مقدمتنا السعودية - أن نضع الصورة الحقيقية أمام جيمي كارتر (...) وفي تقديري أن الأمير فهد، كفيل بأن يقوم بهذا من أجل دخولنا كأمة عربية على سنة حافلة هي سنة 1977". وأضاف بعد هذا، أنه متفائل جدًا بكارتر "فحين أعرف أن لكارتر خلفيةً دينية، وأنه مؤمن، أسعد كل السعادة؛ لأن المؤمن يَحكمُه الخلق والمبادئ، والذي أخاف منه وأخشاه، ذلك الذي لا تحكمه الخلق والمبادئ. وبالعكس أنا أرحب جدًا بكارتر، وهذا جزء من حساباتي، وهناك حسابات أخرى كثيرة لم يحِن الوقت بعدُ للكلام عنها". وفي النهاية ربط السادات كل ذلك برسالة للعرب، يقول فيها ـ من جديد ـ إنه يريد "مشروعًا مثل مشروع مارشال. أنا لا أطلب معونات دون مقابل، أنا أطلب قروضًا فقط، وأدعو إخواننا العرب أن يأتوا ليشاركوني كما شاركتْ أمريكا أوروبا. أقول لهم تعالوا أحيوا كل شيء وأنتم شركائي" (113).
ولكن الدعوة لمشروع مارشال العربي في آخر العام، لم تكن أسعد حظًا من الدعوة لهذا المشروع في بداية العام. صحيح أن الاتفاقية الأولى مع هيئة الخليج وقعت في 25 ديسمبر، ولكن هذا التوقيع لم يكن بمثابة رد من الخليج على الاتصالات المصرية؛ فالرد الحقيقي جاء من ويتيفين رئيس صندوق النقد الدولي، الذي أرسل إلى ممدوح سالم وجهة نظر الصندوق النهائية فيما يجب اتخاذه من قرارات وإجراءات (بعد المشاورات مع جنتر في واشنطن)، وجاء في الرسالة أنه يقدر الصعوبات السياسية التي تُحيط ببعض الإجراءات الواجب اتخاذها، ولكنه يراها ضرورة تسبق انعقاد مجلس مديري الصندوق لتقرير مساعدة مصر خلال هذا العام، والعامين التاليين (114). وفي انتظار رد الحكومة، ظل استخدام القرض النقدي لهيئة الخليج معلقًا.
ولكن يحسُن أن نختم حديثنا عن هيئة الخليج (في هذا الفصل) بتسجيل ملاحظة هامة حول تطور الديون المصرفية والمتأخرات؛ فالتوقف عن سداد الالتزامات يخضع أيضًا لقواعد وبروتوكولات؛ ولذا يلاحظ في الموازنات النقدية أن ديون الولايات المتحدة والهيئات الدولية ـ مثلاً ـ لها أولوية في السداد، ولا تحدث فيها متأخرات. ولكن يحدث ذلك مع جهات أخرَى؛ ضمنها الجهات العربية. وفي قطاع الديون المصرفية (أصعب أنواع الديون والمرشح أكثر من غيره لتراكم المُتأخِّرات) وصلت مبالغ الديون القائمة في نهاية 1976 إلى 2297 مليون دولار (شاملاً المبالغ غير المُستخدَمة)، والمبالغ القائمة في نهاية 1976 إلى 2297

نور 06-07-2011 02:37 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
(2) قرار بالاستسلام.. تُفشله هَبَّةُ يناير:
أ- مع نهاية العام، كان الحصاد: فشلاً للقيادة المصرية في تحسين موقعها النسبي في إطار الحل الأمريكي المُرتقب. ومن الناحية الاقتصادية، كان على القيادة أيضًا أن ترضخ لصندوق النقد، الذي تدعم موقفه باستمرار الإدارة الأمريكية الجديدة في سياسة دعم مطالبه، فعاد جنتر إلى القاهرة؛ لوضع لمساته الأخيرة على مشروع الميزانية المصرية، التي كانت تمثِّل الأساس في خطاب النوايا. وبالفعل أُعلنت الميزانية الجديدة في 17 يناير مُحمَّلة بكل التعليمات. وكان تقدير السلطات المصرية والأجنبية، أنه يمكن رغم كل شيء استيعاب ردود الفعل الجماهيرية؛ فأجهزة القمع قائمة ومدربة، وحزب مصر صاحب الأغلبية الساحقة، والرئيس كان يشعر بثقة زائدة في النفس؛ فصرح قبل إعلان الميزانية بأيام، بأن المشاكل الاقتصادية "لا تعني على الإطلاق أنه ليس هناك استقرار كامل، وإلا لما كنا تمكَّنا من أن نبدأ نظام الأحزاب، وهذا النظام الديمقراطي وحرية الصحافة، وكل ما تراه الآن. ولو كان هناك أيَّة دلائل على عدم الاستقرار؛ لما أقدم أي قائد على مثل هذه الخطوات" (115).
وإلى جانب هذه الثقة بالنفس، تصوَّر ممدوح سالم، أن التكتيك الذي استخدمه في مرات سابقة، لتمرير تعليمات الصندوق عن طريق المباغتة، يمكن أن يُستخدم أيضًا بنفس الفاعلية هذه المرة ـ وثبت أن المباغتة لم تشمل فقط المعارضة، أو أعضاء مجلس الشعب من حزب الحكومة، وإنما كان بعض الوزراء بعيدين أيضًا عمَّا يتم مع صندوق النقد. وسيد مرعي لم يسمع بالقرارات التي شملتها الموازنة العامة، إلا في الجلسة العامة لمجلس الشعب.. ولكن ثبت أن القرارات كانت أكبر من أن تُبتَلع ببساطة، وخاصة بعد الأحلام الوردية التي روجتها الحكومة طوال الشهرين السابقين.
وكانت الأطراف الخارجية مطمئنة تمامًا إلى إمكان استيعاب ردود الفعل؛ ولذا كان مفروضًا أن تلحق ببعثة الصندوق بعثةٌ أخرى من البنك الدولي لدراسة خطة التنمية تحديد دور البنك التمويلي فيها، وكذا للإعداد لاجتماعات المجموعة الاستشارية في مارس على ضوء الإجراءات المتخذة. أيضًا كان مفروضًا أن تصل بعثة من مؤسسة التمويل الدولية (سبق أن زارت مصر مرتين خلال عام 1976)؛ لاستكمال الدراسات حول تحويل مصر إلى سوق مالية دولية.
ب ـ إلا أنَّ الجماهير الغاضبة أخلت بكل التقديرات في هبة 18 و19 يناير التي لا تنافسها ـ في الاتساع ـ إلا ثورةُ 1919، فاضطرت القيادةُ السياسية إلى التراجع عن قرارات إلغاء الدعم، وقدم عبد المنعم القيسوني استقالته تشبثًا بالقرارات. ولكن الجهات الخارجية قبلت أن تتراجع جزئيًا أمام خطورة الموقف، وعاد القيسوني بعد العاصفة، ولكن سحب بعدها ممثل صندوق النقد في القاهرة: بول ديكي.

هوامش الفصل الثامن
(1) وزارة التخطيط، مشروع خطة 1976، مرجع سابق.
(2) د. أحمد أبو إسماعيل، البيان المالي والاقتصادي، مرجع سابق.
(3) الموازنة النقدية لعام 1976، (جمهورية مصر العربية: وزارة المالية) (غير منشورة).
(4) وزارة التخطيط، تقرير المتابعة الثاني لخطة 1975، مرجع سابق.
(5) أنور السادات، حديث إلى السياسية الكويتية، نقلاً عن الأهرام، (9/ 9/ 1975).
(6) أنور السادات، حديث إلى مجلة الحوادث، نقلاً عن الأهرام، (2/ 2/ 1976).
(7) أنور السادات، نقلاً عن الأخبار القاهرية، (2/ 7/ 1976).
(8) أنور السادات، حديث إلى التليفزيون الأمريكي، نقلاً عن الأهرام، (1/ 10/ 1976).
(9) أنور السادات، خطاب أول مايو 1976.
(10) أنور السادات، حديث إلى لوموند، نقلاً عن الأهرام، (11/ 12/ 1975).
(11) أنور السادات، حديث إلى الحوادث، (2/ 2/ 1976)، مرجع سابق.
(12) أنور السادات، حديث إلى تايمز، نقلاً عن الأهرام، (5/ 6/ 1976).
(13) أنور السادات، حديث إلى مجموعة صحف "إطلاعات" الإيرانية، نقلاً عن الأهرام، (12/ 6/ 1976).
(14) أنور السادات، "تصريحات أثناء زيارته لمؤسسة الأهرام بمناسبة العيد المئوي لجريدة الأهرام" ـ نقلاً عن الأهرام، (14/ 6/ 1976).
(15) لمراجَعة تفاصيل ما جاء في برنامجَي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي أثناء الحملة الانتخابية، انظر: د. سعد الدين إبراهيم: الانتخابات الأمريكية، وأزمة الشرق الأوسط، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، مؤسسة الأهرام كانون أول/ ديسمبر 1976)، الفصل الرابع.
(16) أنور السادات، حديث إلى السياسة الكويتية، (8/ 1/ 1976).
(17) أنور السادات، حديث إلى فرانكفورت الجمانية تسايتونج/ د. زيد وتيشه تسايتونج (ألمانيا الاتحادية) ـ نقلاً عن الأهرام، (30/ 3/ 1976).
(18) مؤتمر صحفي بعد انتهاء زيارته لبريطانيا ـ نقلاً عن الأهرام، (9/ 11/ 1975).
(19) حديث إلى السياسة الكويتية ـ نقلاً عن الأهرام، (8/ 1/ 1976).
(20) "بيان السيد رئيس مجلس الوزراء عن الأوضاع الاقتصادية والمالية وبعض جوانب السياسة الداخلية"، مضبطة الجلسة 27 (28/ 1/ 1976)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(21) "تقرير اللجنة الخاصة لدراسة بيان السيد رئيس مجلس الوزراء"، مضبطة الجلسة 29 (8/ 2/ 1976)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
انظر: عادل حسين، "موجة الغلاء الجديدة.. توصيات صندوق النقد الدولي"، مجلة الطليعة، عدد (يونيو 1976)/ انظر أيضًا عادل حسين، "وزارة المالية هل قالت شيئًا؟" رد على الدكتور أحمد أبي إسماعيل، نفس العدد من الطليعة.
(22) أنور السادات، حديث إلى ديرشبيجل، نقلاً عن الأهرام، (28/ 3/ 1976).
(23) J. Waterbury, Egypt 1976, Op. cit. p. 7.
انظر أيضًا: استخدامات عوائد النفط العربي حتى نهاية السبعينيات (مرجع سابق)، وقت تأليف الكتاب، لم تكن قد استقرت بعدُ الصورة النهائية للهيئة، ولكن أشار إلى الشكلين المقترحَين أيامها:
*أ- إنشاء هيئة تُستخدم فيها الأموال من الدول العربية، والتكنولوجيا والخبرة الإدارية من الدول الصناعية، تكون بشكل كونسورتيوم دولي، أو ما يُسمَّى بالاستثمار ثلاثي الأطراف. بالمال من طرف والتكنولوجيا والخِبرة من طرف، ويؤلف القطر النامي الطرف الثالث.
*ب-أما الشكل الثاني، فيكون على أساس هيئة دولية تمولها الدولُ العربية، تُدار بمساعدة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وخبرة البنوك الخاصة". ص ص 112 ـ 113.
(24) تعمدت السلطاتُ المصرية تسريب أخبار متفرقة عن المباحثات مع الهيئة والعرض السابق بلورة لما نُشر عن صحف ومجلات هذه الفترة ـ بالإضافة إلى مصادرَ خاصة للمؤلف.
"بعد اجتماع الرياض (الذي تلي توقيع الاتفاقية بين دول الخليج) استمرت مناقشات الخبراء خمسة أيام كاملة، ووصلت المناقشات إلى حد تفاصيل التفاصيل حول الاقتصاد المصري واحتياجاته المرحلية طوال سنوات الخطة؛ سواء من السيولة النقدية أو تمويل مشروعات الخطة".. ورفع الخبراء تقاريرهم إلى وزراء المالية الذين عقدوا ثلاثة اجتماعًا، حضر الأول منها د. أحمد أبو إسماعيل ليعرض وجهة النظر المصرية ويناقش تفاصيلها. وكانت مناقشات وزراء مالية الخليج تتضمن الجدوَى الاقتصادية لمشروعات الخطة المصرية، وتتضمن أيضًا عدم إنفاق أية مبالغ من الصندوق، في غير ما يخصص لها من مشروعات إنتاجية، أو مشروعات خدمية إنتاجية. وبعد هذا الاجتماع، عقد وزراء مالية الخليج اجتماعًا مُغلقًا 4 ساعات، وبعد مقابلة مع الملك خالد بحضور د. أحمد أبو إسماعيل، عقدوا اجتماعًا مغلقًا آخر. انظر: ماجد عطية "رسالة الرياض"، المصور، (9/ 4/ 1976).
(25) ماجد عطية، "رسالة الرياض"، المصور، (16/ 4/ 1976).
(26) ماجد عطية، المصور، (12/ 3/ 1976).
(27) لإيضاح قضية المقاطعة، نذكر أن الحكومة الأمريكية كانت قد أرسلت إلى الكونجرس (20 يناير) مشروع قانون يحظر على جميع الشركات (التي تعمل في الولايات المتحدة) الاشتراك في مقاطعة إسرائيل؛ خوفًا على مصالحها مع الدول العربية. ورغم أن مبدأ المقاطعة العربية للشركات المتعاملة مع إسرائيل قائم منذ عام 1952، حدث أن أصبحت القضية مثارة لأول مرة في الولايات المتحدة وبشدة عام 1976؛ من ناحية بسبب الانتخابات، ومن ناحية أخرى (أهم) بسبب جو القبول لمفهوم السلام الأمريكي الذي ساد معظم المنطقة العربية. وكان فورد من المزايدين في الانتخابات حول هذا الموضوع.
بالنسبة للشق الأول نشرت مثلاً إحدى الجرائد العالمية (نوفمبر 1976) أن شركة فورد عرضت استثمار 50 مليون دولار لإنشاء مركز لتجميع منتجاتها، وتصنيع بعض الأجزاء، إلا أن استمرار فرض المقاطعة العربية على الشركة حال دون إتمام الصفقة (نقلاً عن الجريتلي: 25 عامًا، مرجع سابق ص 282)، وبالنسبة للشق الثاني: المرجع مصادر خاصة للمؤلف.
(28) "خطاب أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي"، الأهرام، (28/ 3/ 1976).
(29) Financial times, (1 – 3 – 1976).
(30) اشترك وزراء: المالية، الاقتصاد والتعاون الاقتصادي ـ الصناعة والبترول ـ الزراعة والري ـ الإصلاح الإداري ومحافظ البنك المركزي والفنيون المختصون في هذه الوزارات وغيرها.
(31) سربت الصحف (وخاصة الأهرام) أخبارًا متفرقة في بعض الأحيان، وعرضًا شبه متكامل في أحيان أخرى، عن مطالبات الصندوق (خلال شهر أبريل) بما يمكن تركيزه على النحو التالي:
*أ- تحويل السوق الموازية إلى سوق تجارية أي
لا تتحدد أسعار العملات الأجنبية من علاوة تشجيعية تحددها الحكومة، وتضاف إلى سعر التحويل الرسمي، ولكن يترك تحديد سعر العملات الأجنبية لعوامل العرض والطلب اليومية. وقيل إن ويتفين كان قد حصل على موافقة السلطات المصرية على هذا الطلب أثناء مباحثاته في القاهرة، وتعهد بأن يقدم الصندوق مبلغًا مناسبًا من العملات الأجنبية؛ ضمانًا لعدم انخفاض الجنيه إلى حد مزعج.

*ب- توسيع نطاق العمل في السوق التجارية؛ بحيث تستورد بعض السلع التي كانت تستورد بعض السلع التي كانت تستورد بالسعر الرسمي؛ وفقًا لأسعار العملات في هذا السوق.
*ج- إعادة النظر في سياسة الدعم الممنوح للسلع، وفقًا لبرنامج معين، في نطاق سياسة مالية عامة لضغط الإنفاق العام. ويعني ذلك، أن جوهر مطالبات الصندوق كانت فعلاً في الشارع.
(32) Document of I. M. F. and not for public Use, S M – 76 – 188 (August 1976), Contains confidential information.
To: Members of the executive board, staff report for the 1976, Article X IV consultation prepared by staff representatives for the 1976 consultation with the Arab republic of Egypt, (Reviewed) for the committee on Article XIV consultations. Approved by John W. Gunter and Timothy Sweeny, P. p. 12 – 13.
(33) ماجد عطية: باب "اقتصاديات"، المصور، (23/ 3/ 1976).
(34) نصت المادة الأولى من قانون 1947 على حظر التعامل في أوراق النقد الأجنبي، أو تحويله من مصر أو إليها بأية صورة من الصور؛ سواء أكان ذلك في شكل عملة مقومة بعملة أجنبية، أو مقاصة منطوية على تمويل، أو تسوية كاملة أو جزئية بنقد أجنبي، وأعطى القانون وزيرَ المالية الحقَ في إصدار القرارات المنظمة لهذه العمليات ـ كذلك حظر القانون استيراد وتصدير أوراق النقد على اختلاف أنواعها، وكذلك الأوراق المالية والكوبونات وغير ذلك من القيم المنقولة، أيًّا كانت العملة المقومة بها ـ وألزم القانون كل شخص (فردًا كان أو شخصية معنوية) بأن يعرض للبيع على وزارة المالية - وبسعر الصرف الرسمي - ما قد حصل عليه في مصر أو في الخارج، لحسابه أو لحساب غيره، من دخل مقوم بعملة أجنبية، وكذلك كل ما يدخل في ملكه
أو حيازته من أوراق النقد الأجنبي ـ ورتب القانون جزاء على كل من يخالف هذه الأحكام.

(35) "المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون تنظيم عمليات النقد الأجنبي"، انظر "القانون 97 لسنة 1976 بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي، الجريدة الرسمية، (28 أغسطس 1976)، العدد 35 مكرر.
(36) جدير بالذكر أن الخزانة العامة تمكنت فعلاً خلال 1976 من خفض حجم الزيادة في الاقتراض من الجهاز المصرفي؛ فالتزامات القطاع الحكومي - قبل الجهاز المصرفي - بلغت نحو 3030 مليون جنيه في نهاية ديسمبر 1976، مقابل 2691 مليون جنيه في نهاية ديسمبر 1975، أي: بزيادة قدرها 339 مليون جنيه، مقابل زيادة أكبر قدرُها نحو 985 مليون جنيه عام 1975. وعلَّق البنكُ المركزي على ذلك بأن الزيادة الكبيرة خلال 1975 كانت طفرة لا يجوز القياس عليها وحدها لتقييم الموقف خلال عام 1976. ومتوسط تزايد صافي المطلوبات من الحكومة خلال السنوات الخمس السابقة على 1975 اقتصر على نحو 167 مليون جنيه سنويًّا، وعلى ذلك، فإن الحاجة ما زالت قائمة للمزيد من الجهود في سبيل السيطرة على حجم التمويل بالعجز من جانب الخزانة.. وإذا كان العدول عن أسلوب التمويل بالعجز متعذرًا حاليًا، فإن من الواجب العدول عن "أسلوب التمويل المصرفي التلقائي لسد العجز في الخزانة، إلا في حدود ما يتفق عليه حسب الخطة الائتمانية، حسب حجم الثغرة المطلوب سدها من القطاع المصرفي، هذا إلى جانب ضرورة علاج العجز التراكمي المتمثل في الرصيد المكشوف في حساب وزارة المالية لدى البنك المركزي، بما يتسق مع الأوضاع المالية والتشريعية السليمة. انظر: البنك المركزي المصري، تقرير مرفوع إلى مجلس الشعب عن الأوضاع النقدية والائتمانية خلال السنة المالية 1976، ص 10، 22.
(37) حضر المؤلف هذه الجلسة، انظر أيضًا ماجد عطية، المصور عددًا (1/ 6، 4/ 6/ 1976).
(38) ماجد عطية، المصور، (4/ 6/ 1976).
(39) كافة أرقام الديون ـ ما لم يذكر غير هذا ـ عن البنك المركزي المصري "بيانات غير منشورة"، والمؤلف غير مسئول عن التضارب الذي يبدو أحيانًا بين الأرقام.
(40) الأهرام، (20/ 6/ 1976).
(41) ماجد عطية، أخبار متفرقة في "باب اقتصاديات"، المصور أعداد (9/ 7 ـ 23/ 7 ـ 6/ 8/ 1976).
(42) "خطاب السادات في جامعة الإسكندرية"، صحف (27/ 7/ 1976).
(43) "حديث السادات إلى المبعوثين المصريين في كندا والولايات المتحدة"، صحف (4/ 8/ 1976).
(44) أنور السادات، حديث إلى السياسة الكويتية، نقلاً عن الأهرام، (3/ 9/ 1976).
(45) د. محمد محمود الإمام، برنامج عمل وزارة التخطيط في المرحلة المقبلة، (آذار/ مارس 1976) مذكرة إلى المسئولين (غير منشورة).
(46) World Bank, Mission Report in the field to the minister of Planning Government of Egypt.
(تقرير سري)
(47) إبراهيم نافع من مانيلا، "باب أسرار اقتصادية"، الأهرام، (15/ 10/ 1976).
(48) د. عبد الرازق عبد المجيد (نائب وزير التخطيط حينذاك) تقرير عن قروض البنك الدولي وظروف استخدامها، (مقدم إلى السيد ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء).
(49) التقرير السابق، أيضًا تصريحات د. وجيه شندي. (وكيل وزارة الاقتصاد والتعاون الاقتصادي/ آنذاك، أخبار اليوم، (12/ 12/ 1976) ـ أيضًا "باب اقتصاديات" المصور، (26/ 11/ 1976).
(50) الأهرام، (3/ 12/ 1975).
(51) محمود أبو وافية: تقرير الانفتاح الاقتصادي، (12/ 4/ 1975)، مرجع سابق.
(52) انظر جريدة الأهرام (ملحق البنوك)، (21/ 12/ 1974).
(53) د. أحمد الغندور، الأهرام، (30/ 1/ 1976).
عبد المنعم رشدي، "لماذا ترفض هيئة الاستثمار بعض المشروعات؟ 5 أسباب وراء رفض المشروعات"، الأهرام، (24 سبتمبر 1976). ولا بأس أن نورد هنا بعض الأمثلة المحددة التي أوردها المقال، فقد تم مثلاً رفض مشروع لتصنيع مواد البناء لاحتياجه إلى 3 آلاف طن أسمنت، ويمكن توفيرها من الإنتاج المحلي، ورفض مشروع لاستصلاح وزراعة 4 آلاف فدان بالتل الكبير؛ بسبب عدم توفر مياه الري اللازم للمشروع، وهناك 11 مشروعًا تم رفضها خلال العام الحالي في قطاع الصناعات الكيماوية كلها مشروعات صغيرة مثل صناعة المواسير البلاستيك ونعال الأحذية والورق الصحي وأكياس الخيش؛ لأن المصانع القائمة حاليًا تقوم بتوفير الإنتاج المطلوب للاستهلاك، ولعدم قدرة مشروعات الاستثمار على التصدير للخارج.
لماذا رفض ليلاند؟ تقدمت شركةُ ليلاند لصناعة السيارات بالمملكة المتحدة - بعرض لإقامة مشروع لإنتاج السيارات اللاندروفر في مصر، واتضح من دراسات المشروع أن شركة ليلاند تعتمد في إنتاجها على شركات عالمية أخرى، تساعد في إنتاج مكونات السيارة بالاستفادة من مزايا الإنتاج الكبير والتخصص. وهذه الصناعات المساعدة لا توجد في مصر. واتضح من دراسات المشروع: (1) أنه يعتمد على مشروعات محلية عالية التكلفة. (2) إن كمية إنتاج المصنع سنويًا قليلة، وتتسبب في رفع تكلفة الإنتاج، والنتيجة النهائية للدراسات أن تكلفة إنتاج سيارة اللاندرفر في مصر تصل إلى ضعف استيرادها من الخارج؛ ولذلك كان لا بد من رفض للمشروع؛ حماية للسوق المحلية.
لماذا رفض جوديير؟ ثم أيضًا رُفضَ مشروعٌ تقدمت به شركة جوديير العالمية لإنتاج إطارات السيارات، والسبب الرئيسي أن
7 % من مستلزمات الإنتاج، يلزم استيرادها من الخارج، في حين أن إمكانيات المصنع للتصدير للخارج تغطي فقط نصف تكلفة الاستيراد من الخارج، ومطلوب تحمل الدولة للنصف الثاني؛ ولذلك كان عرض شركة ميشلان العالمية لإنتاج إطارات السيارات أكثر ملاءمة لظروف الاقتصاد المصري، فتمت الموافقة عليه من حيث المبدأ؛ لأنه يوفر العملات الصعبة المطلوبة لاستيراد مستلزمات الإنتاج؛ عن طريق تصدير جزء من إنتاجه للخارج.

وأوضح عوض عبد المنعم رشدي أن وزارة التموين كانت مترددة في الموافقة على مشروع لإنتاج الدجاج. ووزارة الصحة كانت ترفض فتح قطاعات الصناعات الدوائية أمام مزيد من الاستثمار الأجنبي. ووزارة الصناعة كانت ترفض المشروعات في قطاع الغزل والنسيج؛ لأن المغازل المحلية كانت تشتري القطن المصري بسعر يقل عن الأسعار العالمية للتصدير، والمشروعات الأجنبية لا يمكن أن تتمتع بنفس المَيْزة، وتتحمل الموازنة العامة عشرات الملايين من الجنيهات إعانة لها. والحل أن تقوم هذه المشروعات بشراء القطن المصري بالأسعار العالمية. وقد تم الاتفاق مع المشروع المصري الإيراني المشترك للغزل والنسيج، على شراء القطن بالأسعار العالمية، وبعض مشروعات الغزل والنسيج الأجنبية، تطلب السماح لها باستيراد أنواع خاصة من القطن من الخارج، في حين أن احتياجات تأمين زراعة القطن المصري، والحفاظ عليه من الآفات التي يعاني منها القطن في الدول الأجنبية تستدعي عدم السماح بمثل هذه المشروعات.
وقد أشار نائب رئيس الهيئة - في نفس الوقت - إلى أنه توجد مشروعات لا يجد ـ في تقديره ـ سببًا لرفضها، وكان يرى إعادة دراستها من مجلس إدارة هيئة الاستثمار والقطاعات المختصة، مثل مشروع فندق سياحي درجة أولى، برأسمال قدره 5 ملايين جنيه. ومشروع للقيام بعمليات النقل بالترانزيت بين موانئ البحرين الأبيض والأحمر، ورأسماله 28 مليون دولار.
وبالنسبة للمناطق الحرة، قال إن هناك قصورًا شديدًا في تجهيز وإعداد المناطق المختلفة؛ بسبب نقص الاعتمادات المالية، وعدم تخصيص النقد الأجنبي والمحلي اللازم. وعدد المشروعات التي رفضت بالمناطق الحرة كان 9 مشروعات فقط، فقد تم رفض مشروع لاستيراد وتخزين معدات الزراعة وتسويقها محليًّا (كمشروعات بنظام المناطق الحرة الخاصة)؛ لأن النشاط في هذا المجال كان مقصورًا على شركات القطاع العام، وقيل إنه يتم السماح به للاستثمارات العربية والأجنبية، بعد إقامة المناطق الحرة العامة ـ كما تم رفض مشروع بالمناطق الحرة ينافس شركتين آخرين تحصل الدولة على عمولة 15 % على نشاطهما في مصر، وكان التصريح بالمشروع الجديد يُضيِّع على الدولة قيمة العمولة.
... هذه الأمثلة من الضوابط التي تثبَّت بها الفنيون الوطنيون، تهاوت في المرحلة التالية.
(54) كان هذا في حوار أجراه فيليب جلاب وعادل حسين، مع الوزير في مشروع دراسة لجريدة الأخبار، حول الانفتاح الاقتصادي، قبل منعنا من الكتابة في الصحيفة. ولم يكن من حظ الدراسة أيضًا أن تُنشر. وتحدث د. زكي شافعي بلهجة مشابهة في حديث إلى محمود المراغي منشور تحت عنوان "وزير الاقتصاد يقول: لا حل إلا الاشتراكية"، روز اليوسف عدد (9/ 2/ 1976).
(55) الهيئة العامة لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة ـ الإدارة العامة للإحصاء والمعلومات، تقارير المتابعة عن الموقف الحالي في 31/ 12/ 1976 بالنسبة لكل من مشروعات الاستثمار الموافَق عليها بنظام المناطق الحرة الخاصة والعامة.
(56) د. زكي شافعي، "كشف الحساب لمشروعات الانفتاح الاقتصادي"، الأهرام، (6/ 2/ 1976).
(57) حسن زكي أحمد، "حوار أم حيرة حول: قضايا الانفتاح الاقتصادي بين احتياجات الدولة ورغبات المُستثمرين"، المصور، (13 فبراير 1976). وأعتقد أن هذا المقال كان آخر ما نشره الأستاذ حسن زكي أحمد في الصُّحف والمجلات المصرية. (وكان حريصًا على المتابعة المناضِلة للأحداث الاقتصادية) وقبل إقصائه من موقعه كرئيس لمجلس إدارة بنك القاهرة.
(58) تم تشكيل لجنة مصرية أمريكية لتنمية الاستثمار في مصر طبقًا للاتفاق الذي تم بين الرئيس السادات والرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون، وأُذيع بيان مشترك في كل من القاهرة وواشنطن بتشكيل هذه اللجنة (5/ 6/ 1975) وتتفرَّع من هذه اللجنة لجنة رجال الأعمال، وترتبط بغرفتَي التجارة المصرية والأمريكية. الأعضاء الأمريكيون في اللجنة الرئيسية. ميرفي (رئيس مجلس إدارة جنرال موتورز، وهي من الشركات المُقاطَعة عربيًّا) رئيسًا للجانب الأمريكي ـ ويلسون بينجر (شركة بارتنر رتبيتس رابيت وماكرانس وستراتون) - درامبرايت (رئيس بنك أمريكا) جيمسون (رئيس مجلس الإدارة والمدير التنفيذي) ـ جونس) رئيس ومدير شركة جنرال إليكتريك) ـ لويس (رئيس شركة مارسونز) ـ مالوت (رئيس هيئة إف. إم. سي) ـ ماكميلين (رئيس شركة ماكميلين وشركاه) ـ روكفيلر (رئيس بنك تشيزمانهاتن) ـ سانتري (رئيس شركة كومباستيون) ـ شميدت (رئيس بنك فيرت ناشيونال بشيكاجو) ـ سيفرد (رئيس شركة أمريكان سيانامين) ـ وارنر (رئيس شركة موبيل أويل) ـ ويلسون (رئيس شركة بونبون كاربيد).
وكان الجانب المصري يتألف من 15 عضوًا، برئاسة أحمد عفت وزير النقل البحري السابق، والمعين (أغسطس 1974) مشرفًا على تنفيذ اتفاقيات التعاون المالي والاقتصادي مع الولايات المتحدة.
(59) Report on Foreign Investment in Egypt, (Egypt – U. S. A Business Gouncil), Appendix 11.
(60) Ibid., pp. 5 – 6.
(61) Ibid., p.11
(62) Ibid., p. 23.
(63) Ibid., p. 25.
(64) Ibid., Appendix 1, pp. 11 – 111.
(65) Ibid., p. 47
(66) Ibid., p. 53
(67) Ibid., p. 61
(68) Ibid., p. 65
(69) Ibid., p. 66
(70) Ibid., p. 71.
(71) Ibid.,Appendix 1, p. XVI.
د. عبد المنعم القيسوني، "الانفتاح ظالم أو مظلوم"، الأهرام، (25 أبريل 1975).
(72) كان عدد البنوك التي وافقت عليها الهيئة العامة للاستثمار (حسب بيانات الهيئة) 24 بنكًا، ولا أدري سبب الاختلاف في البيانات في موضوع محدد كهذا ويسهل حصره.
(73) د. زكي شافعي، الأهرام، (27/ 6/ 1976).
(74) د. حامد السايح (وزير الاقتصاد الحالي) سمح للبنك المركزي وبنوك القطاع العام، أن تستورد بذاتها أو بالواسطة (دون ترخيص، ودون إجراءات العرض على لجان البت) الآلاتِ والأجهزة والمعدات، بما في ذلك الحاسبات الإلكترونية، ولكن كانت الحصة النقدية للبنك الأهلي لا تزيد عن 5000 جنيه ـ الفروع الجديدة لبنوك القطاع أصبحت تتطلب (في ظل الانفتاح) دفع خلو رِجل. حاول البنك الأهلي الحصول على مقر جديد وسط القاهرة، فطلب منه مبلغ 60 ألف جنيه خلو رجل، فلم يستطِعْ البنكُ اتخاذ القرار، فدفع بنك أبو ظبي 170 ألف جنيه وحصل على المكان. في نفس الوقت يتعذر إنشاء مبانٍ جديدة للفروع؛ لأن عمليات الإنشاء عبارة عن إنفاق استثماري، ولا بد أن يكون مُقيدًا بالخُطة ـ بالنسبة للمرتبات والحوافز: البنوك أدبيًّا لا تريد إحداث زيادات كبيرة تُخِل بهيكل الأجور العام في الدولة، خاصة وأن التنافس في هذا المجال مع البنوك الأجنبية بلا سقف، فإذا زاد بنك القطاع العام المرتبات للعاملين فيه بنسبة 25 % سيلجأ البنك الأجنبي إلى زيادة المرتبات عنده بنسبة 30 % ليحتفظ بموظفيه؛ وليظل مركز جذب ـ راجع إبراهيم نافع، الأهرام، (15/ 2/ 1976).
(75) د. مصطفى بدوي، تقرير غير منشور.
(76) كافة الاقتباسات من التقرير غير المنشور للبنك المركزي نقلاً عن عاصم حنفي، "كشف حساب البنوك الأجنبية في مصر"، روز اليوسف، عدد (17/ 10/ 1977).
(77) التقرير السنوي للبنك المركزي عن عام 1976 صدر في حزيران/ يونيو 1977). وفي ذلك التاريخ، وبعد اجتماع المجموعة الاستشارية في باريس، لم يعد مقبولاً مجرد التلميح لمثل هذه الأمور (انظر الفصل التالي). نذكر في هذا السياق أن موضوع عاصم حنفي في نقد البنوك الأجنبية، نُشِر في أكتوبر 1977 (انظر الهامش السابق). وقد هاجم الرئيس السادات هذا الموقف بشدة في اجتماع مغلق للمسئولين عن الصحافة والإعلام، وطلب عدم تكرار الخوض في مثل هذه المواضيع.
(78) البنك المركزي المصري، التقرير السنوي 1976، (القاهرة: البنك المركزي المصري، يونيه 1977) الجزء الثاني، ص ص 42 ـ 47.
(79) مشروع خطة التنمية الاقتصادي والاجتماعية عن عام 1977، (القاهرة: وزارة التخطيط، يناير 1977)، ص 8.
(80) تقرير متابعة خطة 1976، (القاهرة: وزارة التخطيط، 1977).
(81) التقرير المبدئي لمتابعة تنفيذ خطة عام 1976) (القاهرة: وزارة التخطيط، يوليو 1977)، ص 6.
(82) World Bank, Report No. 1624 – EGT. P. 32.
(83) انظر وزارة التخطيط، التقرير المبدئي، مرجع سابق، جدول الدخل المحقق (بأسعار 1975) بين القطاعات السلعية المختلفة، وفيه أن الدخل المُستهدَف لعام 1976 كان 4778 مليون جنيه (حسْب ما كان واردًا في مشروع الخطة)، وفي الصفحة التالية جدول تطور الدخل المحلي الإجمالي من عامي 1975 و 1976 موزَّعًا حسب الأنشطة الاقتصادية المختلفة (بأسعار 1975) وفي هذا الجدول احتسب الرقم 4778 مليون جنيه باعتباره الدخل المحلي الإجمالي المحقق عام 1975. واعتمد على الرقم الأخير بعد ذلك في كل حسابات المتابعة لزيادة الدخل ومعدلات الاستثمار وتطورات العجز القومي... إلخ. رغم أن حسابات مشروع الخطة كانت تعتبر هذا الرقم للناتج المحلي الإجمالي مستهدفًا ـ كما قلنا ـ وليس رقم سنة الأساس.
(84) أوضح مشروع الخطة أن الزيادة في القيمة المضافة تبلغ حوالي 770 مليون جنيه عن مشروع خطة سنة 1975 بمعدل زيادة قدرها 15 % بالأسعار الجارية، وينخفض هذا المعدل إلى 4.8 % إذا افترضْنا معدل تزايد في المستوى العام للأسعار يبلغ 10 % فقط.
(85) تقرير غير منشور ـ نقلاً عن "باب اقتصاديات"، المصور، (3 أيلول/ سبتمبر 1976).
أعتقد أن د. لطفي عبد العظيم (اقتصادي وطني ـ ورئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي) كان صاحب أروع عرض ساخر لهذا التغيير الغريب في نمط الحياة والاستهلاك
د. لطفي سبق أن كتب أنه "قبل كل شيء، أودُّ أن أؤكد حقيقة أني من أول دعاة الاقتصاد الحر، ومن أكبر أعداء الانغلاق والقيود"، الأهرام الاقتصادي، عدد (أول يناير 1976)، ولكنه كتب بعد ذلك "أنا سعيد بالانفتاح قطعًا. بل وسعادة بغير حدود؛ ففي كل خطوة أخطوها، يبهر عيني بريق الانفتاح، ويكفي أن أدخل أي محل بقالة حتى أتنفس الصعداء، وأحمد الله على أنه عوضنا خيرًا عن طول كبتنا وحرماننا. أصناف البيرة الهولندية والدانمركية والألمانية متوافرة في كل مكان.. أصناف الجبن لا تقل عن العشرين، تُسيل لعاب كل من أرغمته الظروف على الاكتفاء بالجبن القريش. معلبات الفاكهة والخضروات، والأسماك والكافيار، يصل عدد أنواعها إلى المئات، جميع أنواع السجائر الأجنبية تُباع على الأرصفة، تخرس لسان كل من يشكو من عدم وجود السجائر المحلية، مطاعم كنتاكي تشيكن وويمبي أخذت تزحف في كل مكان، لتنقل الشعب المصري من أكل الفول إلى أكل الهامبورجر والفراخ المحمرة بعشرين نوعًا من البهارات. وطوفان السيارات الفارهة أخذ في التدفق في شرايين القاهرة؛ لكي يخفف من أزمة المواصلات. والشقق متوافرة في كل مكان، صحيح أن الخلو أصبح ما بين خمسة آلاف ومائتي ألف جنيه، وأن ثمن شراء شقق التمليك يبدأ من خمسة عشر ألفًا ليصل إلى ثلاثمائة ألف جنيه، ولكن هذا الارتفاع البسيط في الأسعار، بعوضه توافر الشقق، وإمكانية الحصول عليها في أي وقت، وبالتليفون. والقاهرة كانت تتوارى خجلاً أمام العواصم الغربية؛ لكآبة لياليها، وضيق إمكانياتها، أصبحت الآن تُقدم لضيوفها إمكانياتٍ غير محدودة في المحلات العامة والمحلات الخاصة، والتي أصبح لا يوجد مبنى واحد يحلو من أمثالها.. ثم كيف لا أكون سعيدًا بالانفتاح، وقد تدفقت على مصر مئات من ملايين الدولارات البترولية، وسبائك الذهب اللبنانية، وكلها تحولت إلى عمليات للتجارة والمضاربة، وابتعدت - والحمد لله - عن إنشاء صناعات جديدة، وهو ما قد يؤدِّي إلى زيادة تلوث البيئة في مصر"، الأهرام الاقتصادي، عدد (15 شباط/ فبراير 1979).

(86) د. جمال العُطيفي، مضبطة الجلسة 20 (30/ 12/ 1975)، مرجع سابق.
(87) الموازنة النقدية لعام 1976، (جمهورية مصر العربية: وزارة المالية، 1975)
(88) وزارة التخطيط، التقرير المبدئي، مرجع سابق، ويلاحظ أن هذه الفقرة حذفت من التقرير النهائي المتداول.
(89) هذا النص ورد في المرجع السابق ـ وحذفت عبارة "والتي ترد على تسهيلات بأكثر مما كان مقررًا لها" في طبعة تالية من نفس التقرير المبدئي ـ وحذف الموضوع كله في تقرير المتابعة النهائي.
(90) انظر مُناقشات واحتجاجات رؤساء شركات القطاع العام الصناعي حول تهديد الانفتاح للإنتاج الوطني، وذلك في اجتماعاتهم مع وزير الصناعة. وقد ورد في هذا السياق تصريح الوزير الذي نقلناه في المتن. الأهرام، (18/ 6/ 1976).
(91) World Bank, Report No. 1815 EGT, Volume one, op. cit., p. 53.
(92) I. M. F., SM – 76 – 1976, op. cit., p. 6.
(93) جاء في أحد التقارير الرسمية أن متوسط الأجر حاليًا في الخطة 254 جنيهًا للمشتغل مقابل 391 جنيهًا للمشتغل في مشروعات الانفتاح، وعلَّق التقريرُ على هذا بأن "النظام الأجري الحالي المطبق في الحكومة وفي شركات القطاع العام عامل مساعد في تسرب الكفاءات من الخبرات المصرية من مواقع عملها الحالي إلى المشروعات الأجنبية العاملة في مصر. ولا جدال في أن هناك تسربًا كبيرًا من هذه الخبرات بشكل استنزاف خطير للقوى العاملة في القطاعات الحكومية بلوائح الأجور الحكومية". انظر "تقرير لجنة الخطة والموازنة عن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المالية لمشروع الموازنة العامة للسنة المالية 19877"، مضبطة الجلسة 26 (22/ 2/ 1977)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
ونحن مع التقرير أيضًا في التعليق، ولكن بالنسبة للأرقام
لا تعتقد في صحتها، والتقرير لم يكشفْ - على أيَّة حال - عن مصدره، ولكن بوسعنا ـ في حدود معلوماتنا ـ أن نقول إنه
لا توجد لدى أية جهة مصرية رسمية، أرقام يُعتمد عليها في هذا الموضوع، وحتى بالنسبة لهيئة الاستثمار المُكلفة بمتابعة مشروعات الاستثمار، فإن معلوماتها في موضوع الأجور تقتصر على البيانات التقديرية التي قدمتها المشروعات للحصول على الموافقات، ولم تتجدد البيانات بعد ذلك بمتابعات ميدانية،
ولم تتحول إلى أرقام فعلية.

(94) The Meed, (July 30, 1976).
(95) تقديم د. عبد الرازق عبد المجيد، التقرير المبدئي لمتابعة تنفيذ خطة عام 1976، مرجع سابق، ص ص 1 ـ 3.
(96) انظر "قانون 24 لسنة 1976"، الذي تنص مادته الأولى على تحويل مدينة بورسعيد بأكملها إلى منطقة حرة، وتتخذ الإجراءات اللازمة لهذا التحويل اعتبارًا من أول يناير 1976ـ الجريدة الرسمية، (أول نيسان/ أبريل 1976)، العدد 14.
(97) في الفترة السابقة على الانتخابات عبَّر عديدٌ من الشخصيات الوطنية عن سخطها، ونقدها الحاد لسياسة الانفتاح من مداخلَ متباينة، سجلت الانتقادات بقوة وصراحة في دراسات علمية (مثل أعمال المؤتمر الأول للاقتصاديين المصريين) وفي تقارير الفنيين في المواقع المختلفة، وأيضًا نشرت في الصحف، وأشرنا في مواضع متفرقة من الكتاب إلى أمثلة من هذا المواقف، ويمكن الرجوع كذلك إلى: عادل حُسين، بمناسبة الانتخابات العامة، "كشف الحساب لمنير الوسط"، الطليعة، عدد (سبتمبر 1976) قال الكاتب تقديمًا للموضوع التالي: "قد لا يكون هذا مقالاً، أو هو مقال بقلم آخرين، وهو نوع من الاستفتاء حول سياسة الانفتاح وعلاقتها بالغلاء، وبتهديد السلام الاجتماعي" ـ أيضًا عادل حسين "كشف حساب لمنبر الوسط ـ الكل يقول: "ارحمونا من هذا الانفتاح التجاري".. الطليعة، عدد (تشرين أول/ أكتوبر 1976). جاء في التقديم أن "هذه الدراسة تحاسب منبر الوسط بمناسبة الانتخابات ـ عن نتائج سياسته الانفتاحية.. دراسة هذا العدد ـ كدراسة العدد الماضي ـ لا تعتمد على تحليلات الكاتب؛ حتى لا يُتهم بالتحامل أو التطرف، والكاتب - على أيَّة حال - لم يعُدْ في حاجة إلى بذل جهد ذاتي في التحليل.. يكفي فقط أن ننقل آراء وتأوهات الوطنيين والفنيين في مختلف المجالات".
وقد تحول النقد الحاد أثناء الانتخابات، من المناقشات في غُرَف مغلقة، إلى الحوار الصاخب الصريح في الشارع، واضطرت الحكومة إلى استخدام المدفعية الثقيلة للإعلام المركزي، ونذكر - كنموذج بارز- الحديثَ الذي طلب من وزير المالية (أحمد أبو إسماعيل) توجيهه، ونُشر تحت العناوين التالية: "حديث صريح أكثر من اللازم ـ لا تبيعوا ميزانيةَ مصر في الانتخابات ـ الوعود بالبدلات ومزايدات المرشحين، كلها أكاذيب ـ العملة المحلية أصبحت أصعب من العملة الصعبة"، أخبار اليوم عدد (2/ 10/ 1976). إلا أن الحديث أثار ردود فعل سلبية ضد مرشحي الحكومة؛ إذ كيف ينتخب ناخب ذو حد أدنَى من الفهم، مرشحًا لحزب يُعلن عجزه الكامل عن أي إصلاح للأوضاع؟ ولذا اضطر كاتب الحديث (سعيد سنبل) أن ينشر في العدد التالي من الجريدة (9/ 10/ 1976) نصَّ رسالة مطولة، أرسلها عبد المنعم الشاكري، المديرُ العام بإدارة الميزانية، تحت عنوان: "هل هو إعلان بإفلاس مصر"؟ جاء في الرسالة: "أن من يستمع إلى بيانات الوزير المتكررة عن أحوالنا الاقتصادية؛ يخيل إليه أن مصر أفلست، ألم يرَ
أو يسمعْ الوزير عن الحشود التي تسارع لشراء الأراضي بأسعار خيالية، ألم يرَ السيارات الفارهة التي تجوب شوارع القاهرة، ألم يعرف أن الثلاجات والغسالات ومواقد البوتاجاز قد غزت بيوت الغالبية من المواطنين، وتلك البضائع المستوردة التي تكتظ بها المحلات والطرقات حتى أعماق الريف؟ ألم يرَ ويسمع عن أطنان المخدرات التي تتدفق علينا؟ أليس كل ذلك فائضًا اقتصاديًّا لا يعرف الشعب أين يوجهه؟... إن واحدًا يعمل ويكدحُ، وآخر يسرق وينهب، وثالثًا يختلسُ، ورابعًا يرتشي، وخامسًا محتال، وسادسًا يُهرِّب النقود، وسابعًا يتجر في المخدرات، وثامنًا يتجر في الأعراض، وتاسعًا يتجر في السوق السوداء.. إلى آخر قائمة لا تنتهي، وهي كل يوم في ازدياد، والنتيجة أن يحصل كل هؤلاء على كفايتهم وما يزيد، على حساب الدولة ومرافقها وأمنها، وتبقى طائفةٌ من الأشراف، أو الذين فُرِض عليهم الشرفُ لقلة حيلتهم، تعاني وتطحنها الحياةُ، حتى ينتهي بها المطاف إلى الكفر بكل المبادئ والقيم، فترتمي في إحدى الزُّمَر المتقدمة.. فهل بعد هذا الفائض الضال من إنتاجنا القومي، ندعي أن اقتصادنا منهار؟ وقد اكتشفت الحكومة ـ بعد ذلك ـ خطأ الخط الإعلامي الذي مثله حديث وزير المالية، فوجهت أجهزة إعلامها إلى التهجُّم السوقي على خصومها السياسيين، فاتهمتهم جميعًا بأنهم ملاحِدة.

(98) شهدت دائرة كرموز كل الحوافز الإيجابية والسلبية لإسقاط أبي العز الحريري ـ الحوافز الإيجابية (إنفاق الأموال، ومد الخدمات التي وصلت إلى الحد الذي أثار اعتراض بعض أعضاء مجلس الشعب (من حزب مصر) في المناقشات الرسمية داخل المجلس، على ما نالته هذه الدائرة المحظوظة. والحوافز السلبية الإرهابية وصلت ذروتها في محاولة اغتيال الحريري ـ الحريري عضو في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، وأسقطت عضويته أثناء الفصل التشريعي الثاني باتهامات سياسية مُلفَّقة ـ لتحليل النتائج الانتخابية وأسباب فوز حزب الوسط. انظر: عادل حسين، "انتخابات 76 في مصر ـ الوسط (مصر العربي الاشتراكي).. في المعركة"، الطليعة عدد (كانون أول/ ديسمبر 1976).
(99) كان معروفًا في تلك الفترة أن المفاوضات لم تحل أيَّة مشكلة أساسية (عسكرية أو اقتصادية) أصرَّ السوفييت على ضرورة أن تعدِل القيادة المصرية (بشكل أو آخر) عن قرارها بإلغاء المعاهدة.
(100) أنور السادات: "حديث مع وفد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي"، الأهرام، (14/ 11/ 1976).
(101) في المذكرات "الطريقة" لعلوي حافظ (والتي لا تخلو من أهمية) عن اتصالاته السياسية بالمخابرات المركزية في فترة عبد الناصر، جاء ذكر القيسوني على النحو التالي: أبلغ علوي "بعرض أمريكي حمله صديقي (الباكستاني الأصل، وممثل المخابرات المركزية) ليبلغ إلى الرئيس عبد الناصر على لسان جونسون" العرض يتضمن النقطتين التاليتين:
1- أن تتم فورًا مقابلات على مستوى عالِ جدًا، وفي سرية تامة لوضع مخطط عملي لتحسين العلاقات تدريجيًّا مع أمريكا؛ لكي توضع موضع التنفيذ فورًا. مع الاتفاق على كل المعونات التي يمكن أن تقدمها لمصر. وهم - من جانبهم - يُرشِّحون هيوبرت همفري، أو دين راسك، ويرجو أن تتمثل من جانبكم في زكريا محيي الدين، أو عبد المنعم القيسوني، ويودون أن يكون موقعها في باريس أو جنيف.
2- أن تعود العلاقات الدبلوماسية بين مصر وأمريكا".
انظر: علوي حافظ، "مهمتي السريَّة بين عبد الناصر وأمريكا"، الأخبار، (3/ 8/ 1976).
(102) "نص بيان السيد رئيس مجلس الوزراء، عن برنامج الحكومة"، مضبطة الجلسة 3 (12/ 12/ 1976)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(103) أبو العز الحريري ـ سيد مرعي: مضبطة الجلسة 10 (27/ 12/ 1976)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
(104) "تقرير اللجنة الخاصة بالرد على بيان السيد ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء، عن برنامج الحكومة"، مضبطة الجلسة 5 (25/ 12/ 1976)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب.
راجع الكتيب الصادر عن تنظيم التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، الاتحاد الاشتراكي العربي، يناير 1977، بعنوان ملاحظات نواب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، على بيان رئيس الوزراء وتصوراتهم للمشاكل ـ تضمَّنت الملاحظات ما جاء في البيان حول الاستثمارات والإنتاج والناتج والعمالة

نور 06-07-2011 02:39 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
مُلحَق الفصل الثامن
Confidential
16 أكتوبر 1976
إلى السيد: الدكتور زكي شافعي
من: بول. م. ديكي:
الموضوع: بعض الأفكار حول إصلاح الإصلاح
لقد ساءت الأحوال الاقتصادية بحِدة، منذ صياغة مشروع خطاب النوايا في مايو.. داخليًّا، الاقتصاد في الوقت الحالي أكثر سيولة جدًا بالنقود وأشباه النقود، والتي تتزايد بمعدل سنوي حوالي 26 في المائة، خلال الفترة يناير ـ أغسطس. وعلاوة على ذلك، فإن هذا النمو في النقود (يحدث) في غياب إعادة الترتيب المنظم للأسعار والمُتضَمنة في مقترحات مايو؛ ولذا فإن عجز الموازنة لا بد من خفضه بحدة تزيد عمَّا كان مستهدفًا في السابق، وسياسات التحكم في الائتمان وترشيده، لا بد من تدعيمها، وعلى الجانب الخارجي، أدَّى انعدامُ الإصلاح وغياب الدعم المناسب لميزان المدفوعات (جزئيًّا بسبب الفشل في إنجاز الإصلاحات) إلى خفض الصادرات واستنفاذ المخزون وتراكم كبير في المتأخِّرات. وبالنسبة للواردات التي حولت من سعر السوق الرسمي إلى سعر السوق الموازي في الفترة حتى أول مايو، لم يسمح - إلى حد كبير - بزيادة الأسعار المحلية؛ بحيث تم تحييد أثر هذا التحويل ([1])، وبالإضافة، فإن قوة الدفع المتولدة في مجال الاستثمار الأجنبي (الذي تزداد الحاجة إليه جدًا) تُفقَد بسرعة؛ بسبب توقف الإصلاح فيما يتعلق بقانون 43. مع هذه الأوضاع، يبدو ضروريًّا أن يتم التحرك بسرعة لإصلاح القطاع الخارجي، ولو بشكل معدّل.
وفيما يلي بعض الأفكار عن المجالات الأساسية للإصلاح، ولا بد من تسجيل أن هذه الأفكار تمثل فقط وجهات نظري الشخصية، ولا تحمل تفويضًا رسميًّا من صندوق النقد الدولي.
1 ـ مطلوب تحرك إيجابي في سياسة الصرف:
توجد مصاعبُ جَمَّة مرتبطة بالاحتفاظ بهيكل سعر مزدوج، والحل الرشيد الوحيد هو تخفيض فوري، وفي حالة النظر إلى هذا (الاقتراح) باعتباره مستحيلاً من الناحية السياسية في هذا الوقت، فإننا ينبغي أن نقبل في هذه الحالة صندوق موازنة الأسعار ([2]) الذي يقترحه الآن السيد أحمد سالم من وزارة المالية. ويمكن إنقاص اعتمادات هذا الصندوق للصناعات تدريجيًّا مع تعويض النقص في دخولها بواسطة زيادات السعر المحلي.
إن بديل التحويلات (في زيادة الأسعار ـ المؤلف) على مراحل له مثالب عديدة جدًا، فأولاً لست واثقًا على الإطلاق أنه سيكون مقبولاً من صندوق النقد الدولي، وثانيًا فإن كل تحويل إضافي يصبح ذا صعوبة سياسية متزايدة كلما دخلتم إلى دائرة السلع الأكثر حساسية.. وفي رأيي أن هذا المنهج مآله الفشلُ.
وبالإضافة إلى تحويل الصادرات والواردات إلى سعر السوق الموازية، فإن كل المتحصِّلات والمدفوعات غير المنظورة، يصبح مطلوبًا أيضًا أن تحول باستثناء قسم محدود (قد يتألف من عوائد قناة السويس ومدفوعات الحكومة للبعثات والتعليم في الخارج). ويتضمن هذا مثلاً تغيير أساس التسعير المحلي لتذاكر خطوط الطيران الدولية إلى سعر السوق الموازية، وكافة تدفقات رأس المال لتمويل السلع بسعر السوق الموازية، ستعد حساباتها طبعًا وفق هذا السعر، وبينما يستبعد هذا المنح الرسمية، والقروض النقدية، فإن تدفقات رأس المال مثل قروض المشروعات من الولايات المتحدة والبنك الدولي تكون بسعر السوق الموازية.
قانون 43 يجب أن يُعدَّل بسرعة، مسألة أسابيع؛ ليقدم في المقام الأول حافز سعر السوق الموازية، وإذا ثبت أن ذلك صعب، فإن هذا العامل وحده يقودني إلى استنتاج أن خفض (السعر الرسمي) جملة وفورًا أمر حتمي.
حقيقة أن السبب الوحيد لاستبقاء عدد محدود من المعاملات بالسعر الرسمي - هو تجنب مظهر الانخفاض الفوري ـ هذا هو السبب الوحيد المعقول. وإذا كان هذا المنهج الجزئي يسبب عديدًا من الصعاب (مثل صعاب تعديل القانون 43 ـ أو تحويل الواردات الفردية أو الصادرات) فحينئذ قد يكون التخفيض المباشر الطريق الوحيد المفتوح.
إن المنهج الجزئي ينبغي تطويره بالمقارنة مع مشروع خطاب النوايا، فعلى أول يناير 1977، يجب أن تُحوَّل كل الواردات، باستثناء القمح والدقيق وزيت الطعام والسكر والشاي الأسمدة والمبيدات والبترول الخام ومشتقاته، إلى السوق الموازية (انظر التفاصيل ملحق 1)، وبالمقارنة مع مشروع خطاب النوايا، فإن التحويلات الإضافية المقترحة الآن هي الأذرة واللحم والسمن المُجمدَين، والسلع الدوائية كمنتجات نهائية أو واردات مواد خام. ويؤدي هذا إلى وضع كل واردات الصناعة على مستوى سعر السوق الموازية، ويرشد - إلى حد ما - تسعير العلف المستورد، وأيضًا اللحم والسمك، وهي مواد تضارِب عادة الصناعة المحلية. وبالإضافة، فإن صادرات الغزل والنسيج والبصل الطازج والثوم والبطاطس تحول أيضًا إلى سعر السوق الموازية، وإنه لأمر هام جدًا، من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، التي تعكس إلى حد كبير موقف المجموعة الدولية، أن تتخذ هذه الخطوة في الحال. فهذا يمكن صندوق النقد الدولي من وصف سعر الصرف الرسمي بأنه لا يزيد عن سعر "محاسبي"، ويساعد كثيرًا جدًّا في تسويق البرنامج الشامل لدى المكتب التنفيذي Executive board لصندوق النقد الدولي، ويمكن – عندئذٍ - إدخال مرونة أكبر في نقل زيادات الأسعار المقابلة على مراحل.
ويبدو أنه لا يمكن الأخذ بمفهوم السوق التجاري في الوقت الحالي لعدد من الأسباب. وبديلاً عنه يجب أن (ننشئ نظام تراخيصَ عامة مفتوحة) في السوق الموازية، وندخل مرونة متزايدة على سعر الصرف، مع ضبطه إلى حد ما بأن نحدد السعر وفقًا لحقوق السحب الخاصة. وفي المقابل يجب إلغاء نظام الاستيراد بالتمويل الذاتي (الاستيراد دون تحويل عمله) أو ـ في حالة عدم الإلغاء ـ يحصر فقط في تلك الواردات التي تتم في القائمة المفتوحة.
والقائمة المفتوحة في السوق الموازية، يمكن أن تغطي الواردات الأساسية لصناعات القطاع الخاص، وكذلك معظم مواد الغذاء الأساسية (وليس المواد الغذائية الكمالية)، وكذلك السلع الضرورية الأخرى؛ مثل الأسمدة والمبيدات. ولا وجه للحذر من إدخال معظم الضروريات في القائمة المفتوحة (فارق السعر ـ 75 % ـ يمثل موانع إسمية) حيث إنها قد تخفف بعض عبء الحكومة لاستيراد أشياء؛ كالأسمدة المخصصة للخضروات والفواكه، كما أنها تضع سقفًا لأسعار السوق السوداء للواردات التي تنحصر الآن في الحكومة عند نقص العرض. وبالإضافة فإن (القائمة المفتوحة) ينبغي أن تغطي كل احتياجات الاستيراد الرئيسَةِ الموافَق عليها بقانون 43، كذلك أرباحها الموافق عليها، وتحويلات رأس المال. إن نظام الاستيراد بالتمويل الذاتي، مصيبةٌ غير مبررة بالمعايير الاقتصادية، وسياسيًّا فإن الحد منه قد يبدو لي أمرًا بالغ الأهمية، إذا أردنا تحقيق تقبل سياسي واسع للتقشف. واردات التمويل الذاتي لا يمكن السماح بها لسلع غير تلك المسموح بها في القائمة المفتوحة.
ولا بد من إعادة نظر رئيسية للتعريفة (الجُمركيَّة) من أجل ترشيد الجهد في الإيرادات، وفي الحماية المقدمة للصناعة المحلية. وفي المستقبل العاجل لا بد من إعادة فرض التعريفة على المواد الغذائية الكمالية (التي استُثنِيَت في نوفمبر 1975) هذا إذا جاز السماح (باستيراد) أي من هذه السلع.
في نهاية أبريل 1976 وقفت المتأخرات الخارجية عند 359 مليون دولار أمريكي، بينما وصلت في نهاية أغسطس إلى 757 مليون دولار، بزيادة تقرب من 400 مليون دولار. ومنذ نهاية أغسطس حتى اليوم، زادت 50 مليون دولار أخرى في حساب التسهيلات المصرفية وحده. وبذا أصبحت المتأخرات الجارية أكثر من 800 مليون دولار. إن اتفاق مساندة مع صندوق النقد الدولي، يتطلب تسوية المتأخرات القائمة (مثلاً من خلال اتفاقيات إعادة جدولة) عند تاريخ معين، والتزام بالمحافظة على الانتظام في المدفوعات أثناء فترة ترتيب المساندة، ويمكن إنجاز هذا جزئيًّا بتدوير الودائع الرسمية (تصل إلى 200 مليون دولار أمريكي مع ليبيا والعربية السعودية كمتأخرات). وباتفاقات إعادة جدولة فيما يتعلق بتسهيلات الموردين (تصل إلى 170 مليون دولار من المتأخرات) وربما بجزء من قروض الحكومات للحكومة (تصل إلى 100 مليون دولار من المتأخرات). وعلى أيَّة حال، يبدو لي أنه لا توجد طريقة للتخلص من متأخرات التسهيلات المصرفية (تصل الآن إلى حوالي 335 مليون دولار) ولتمويل مدفوعات السداد المستحقة في عام 1977 دون قرض إعادة تمويل كبير، قد ترتب مراحله في ارتباط مع ترتيب الدعم.. وينبغي تحويل بيت استثمار دولي (مثل مورجان ستانلي) أو بنك دولي مهمة إدارة مجهود إعادة التمويل، وأكاد أقول فورًا، حتى يمكن التنسيق بين اتفاق المساندة وإعادة التمويل.
2 ـ ميزانية الحكومة:
يجب أن يكون الهدف من السياسات التصحيحية للميزانية، تحقيق مُدخرات كافية لتمويل مستوى بالغ الارتفاع من الاستثمارات، دون العودة إلى التمويل التضخمي. وينبغي أن تشمل مثل هذه الإجراءات خفضًا كبيرًا في اعتمادات الدعم وكذلك في أوجه الإنفاق الجاري الأخرى، التي يكون الخفضُ فيها ممكنًا. ودرجة الاستقطاع من الإنفاق الحكومي لا تحدد- في رأيي - بمعاييرَ اقتصادية، بل الأوفق أن تحدد بمعايير القبول السياسي، وبهذا يمكن أن تمضي بثقة إلى حافة القبول السياسي. وكمبدأ عام، أعتقد أنه يمكن زيادة المدخرات الصافية إذا كانت استقطاعات الإنفاق مصحوبة بزيادة كبيرة في الأجور.
لقد اقترح قبل ذلك في وثيقة الحكومة عن التضخم، أن يتقرر اقتطاع 15 % أو 367 مليون جنيه من المصروفات الجارية في 1977، ومع نمو معقول في المُتحصلات، فإن مثل هذه الاستقطاعات من الإنفاق قد تسمح بزيادة المرتبات والأجور وبصعود مطلوب جدًا في التنمية، بينما يحد في نفس الوقت من العجز الممول، مصرفيًّا إلى مستوى معقول.
وإذا كان فهمي للمقترحات الجارية صحيحًا، فإن وزير المالية أمامه ثلاثة اختيارات عن استقطاعات الدعم التي تنتهي ـ في حدها الأدنَى ـ الدعم المباشر عن كل شيء باستثناء الخبز والدقيق. وبذلك يمكن خفض الدعم المباشر من المستوى المقدر بالميزانية في 1976 بحوالي 490 مليون جنيه إلى ما لا يزيد عن حوالي 250 مليون جنيه 1977، وبمُدخرات صافية حوالي 240 مليون جنيه. وعلى هذا، نظل نحتاج استقطاعات تصل إلى 130 مليون جنيه في مجالات أخرى من الإنفاق الجاري؛ لتحقيق الاستقطاع المستهدَف لحوالي 15 %.
ومن ناحية أخرى، فإن المُقترحات الجارية عن المرتبات والأجور، تبدو قريبة من زيادة 4 % بتكلفة كلية حوالي 30 مليون جنيه. وبينما يبدو محتملاً أن تؤدي التركيبة المؤلفة من هذا الدعم، ومن زيادة الأجور إلى المدخرات الصافية المطلوبة، فإنني لا أعتقد أنها ممكنة سياسيًّا، وقد تكون النتيجة النهائية، أن تُضطر الحكومة مرة أخرى للتخلي عن تنفيذ استقطاعات الدعم.
نحن نحتاج إلى حزمة جريئة من الإجراءات المالية التي تُدمَج مدخرات صافية كبيرة، مع زيادة أجور تقترب من شيء مثل 15 %.
3 ـ السياسات النقدية والائتمانية:
في برنامج 1977 نحتاج إلى توفير الاحتياجات الائتمانية الإنتاجية لصناعات القطاع العام والقطاع الخاص؛ لكي نحفز فُرَص النمو والعمالة، وينبغي أن يقع عبء خفض التوسع الائتماني التضخمي ـ إلى حد كبير ـ على الحكومة وللمساعدة في ترشيد الائتمان، وكذلك لحفظ وتخصيص مدخرات، يتطلب الأمر زيادات كبيرة في معدل الفائدة المحلي. فكيف نتوقع من الناس أن يدخروا إذا كان الحد الأقصى لعائد مدخراتهم 3 في المائة في البنوك التجارية في حسابات المدخرات الطويلة الأجل، ومع معدل للتضخم في مستوى 20 في المائة؟ وأكثر من هذا، فإن المعدلات المحليةـ وعلى أسس إسمية ـ تقل حاليًا عن المعدلات الدولية؛ ولذا لا يرغب أي إنسان في تحويل مدخراته من النقد الأجنبي إلى العملة المحلية. إنني أقترح زيادة 2 في المائة فورًا، تعقبها زيادة مماثلة في يونيو 1977 جنبًا إلى جنب مع إلغاء الـ 40 في المائة ضريبة حيازة Withholding على دخل الفوائد. وإذا لم يمكن إلغاء الضريبة بسرعة، فعندئذٍ يجب مضاعفة الزيادات المُقترَحة في معدل الفائدة. وهذا المنهج متدرج بالقدر الذي أظنه معقولاً.
4 ـ النتيجة:
إن المشكلة الرئيسَة التي تواجه الاقتصاد في 1977 هي تمويل العجز الكبير في ميزان المدفوعات. ومن الضروري أن يكون ترتيب المساندة ساريًا وقت اجتماع المجموعة الاستشارية في أواخر يناير؛ حتى يؤكد من جديد للأقطار المقدمة للمعونة، أن الإصلاح جارٍ تنفيذُه. وفي ذلك الوقت يجب أيضًا أن يكون لدينا فهمٌ مُتفَقٌ عليه عن العجز الكلي، وعن الإسهام المحتمل لاتفاق إعادة التمويل المتعلق بالتسهيلات المصرفية، وكذلك بمصادر التمويل الأخرى؛ حتى نعطي لمقدمي المعونة المحتملين، صورةً واضحة في فترة مبكرة من العام، عن صافي متطلبات المعونة في 1977. ودون هذا المنهج، سنُسلم أنفسنا عمدًا وبلا شك إلى الإفلاس في 1977.
إن برنامجًا إصلاحيًا بالوصف السابق، يتطلب قيادة سياسية قوية جدًا وتنسيقًا يقظًا Careful coordination إذا كان مقدرًا له أن ينجح. إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه مضت الأيام التي كان ممكنًا فيها أن نسعى إلى إصلاحات غير مباشرة صغيرة، وغير معلنة، بينما نمسك بزيادات الأجور في مستويات هزيلة.
وأخيرًا، وكما ذكر من قبل، إذا ظهرت صعاب فيما يتعلق بالتحويلات إلى السوق الموازية، أو تعديل القانون 43، أعتقد أن الطريق الوحيد المفتوح يكون التخفيض الفوري لسعر الصرف.
صور إلى:
السيد الدكتور أبو إسماعيل.
السيد محمد عبد الفتاح إبراهيم.
السيد الدكتور أ. ح. عبد الرحمن.

جدول أ
واردات يتم تحويلها حتى نهاية 1976 (بملايين الجُنيهات المصرية، مقوَّمة بسعر التحويل الرسمي).
57.4
13.2
13.2
23.5
41.2
41.5
14.7
4.2
15.3
16.5
10.0
3.7
11.2
26.3
3.3
7.8
4.2
12.5
18.1
2.0
2.2
4.5
10.0
3
2
3
3.8
3.2
58.1
416.3
السلع الاستثمارية للبترول
وزارات النقل والمواصلات
سِلَع وسيطة
سِلَع استثمارية
الأذرة
اللحم والسمك
العدس
البن
منتجات الألبان
الفول
سمن صناعي
مواد غذائية أخرَى؛ مثل الفلفل والزيتون.
سمسم
دهون وصابون
منظفات صناعية
دهون ومواد غذائية
لبن أطفال
أدوية: مُنتجات نهائية
مواد خام
غزل القطن
مواد صباغة
مولاس
دخان
خام صفيح
كبريت للمنتجات الكيماوية
ورق كرافت للأسمنت
كوك (لمصنع الصلب)
رشاشات للمبيدات
مواد أخرى (كل منها أقل من 2 مليون جنيه
المجموع


ملحق (1)
تحويلات إلى السوق الموازية
الواردات:
سلع التموين الأساسية المستوردة بالعملات الحرة، والتي تبقى بسعر الصرف الرسمي بعد نهاية 1976 تتألف من القمح والدقيق ـ زيت الطعام ـ سكر ـ شاي ـ أسمدة ـ مبيدات حشرية ـ البترول ومشتقاته، وإجمالي ذلك 464.4 مليون جنيه. وبالإضافة، كل الواردات من دول الاتفاقات تبقى بالسعر الرسمي. ولما كانت التحويلات من السعر الرسمي إلى سعر السوق الموازية خلال الفترة المبكرة من 1976 مجموعها 487.8 مليون جنيه بمعدل سنوي، يمثله أن إجمالي الواردات بالعُملة الحرة حوالي 1468.5 مليون جنيه. (مع استبعاد السوق الموازي القائم ووارِدات التمويل الذاتي) فإن التحويلات الإضافية مع نهاية 1976 سيصل مجموعها إلى 416.3 مليون جنيه (انظر جدول أ) وحيث إن 80.9 مليون جنيه من التحويلات الكلية تمثل سلعًا استثمارية لقطاعات البترول والنقل والمواصلات، فإن التأثيرات السعرية لهذه التحويلات لن يكون فوريًّا. وبالنسبة للتحويلات الباقية لحوالي 335.4 مليون جنيه، فإن زيادات السعر يمكن أن تنتشر عبْر عدد من الأشهر ينفذ أثناءها المخزون المستورد بالسعر الرسمي. وحيث إن معظم هذه السلع تتحمل تعريفات بالغة الانخفاض ـ إذا كانت تتحمل ـ فإن زيادات السعر ستنحصِر في 75 في المائة، والزيادة السعرية العامة للواردات ستكون 5.6 في المائة بالنسبة للناتج القومي الإجمالي في مستوَى 1975.
الصادرات:
الصادرات بالعُملات الحرة لغزل القطن والمنسوجات، والبطاطس، والبصل الطازج والثوم، تحول إلى السوق الموازية، وينتج عن ذلك أنه بعد نهاية 1976 ستبقى فقط صادرات العملات الحرة من القطن الخام والبترول بمستوى السعر الرسمي. وبالإضافة، فإن كل الصادرات إلى دول الاتفاقات، ستبقَى عند مستوى السعر الرسمي.
المُبادَلات الأخرى:
المتحصِّلات الأخرى المتبقية عند السعر الرسمي بعد نهاية 1976 تكون مِنحًا أجنبية وقروضًا للحكومة، بخلاف قروض المشروعات. وعلى جانب المدفوعات، يستمر تطبيقُ السعر الرسمي على مصروفات البعثات الدبلوماسية والتعليم الأجنبي الممول من الميزانية، والخدمات على الدين الخارج للحكومة.
وينطبق سعرُ السوق الموازية على كل المبادلات الأخرَى، ويشمل هذا تدفقات رأس المال بما في ذلك قروض المشروعات والاستثمارات وفق قانون 43، وبالإضافة، فإنه ينطبق على تذاكر السفر على الخطوط الجوية التي تُحسَب عادة بالسعر الرسمي، زائدًا 12 في المائة.



[1] - الإجراء كان له أيضًا تأثير جانبي هام جدًا؛ فالعجز الحكومي الممول من البنوك كان 282 مليون جنيه حتى أغسطس، وبالمقارنة كان حوالي 715 مليون جنيه في 1975 ككل، الموقف الحكومي المواتي المسجل عام 1976 يرجع - إلى حد كبير - إلى سياسة تحصيل الـ 75 في المائة (فارق سعر العملة) على فتح خطابات الاعتماد على الواردات التي تتم بسعر السوق الموازية، بوساطة صناعات القطاع العام (هذه الطريقة عارضها صندوق النقد عند ابتداعها). وينبغي أن تصل الدخول الإجمالية من هذا المصدر عام 1976 إلى 260 مليون جنيه، وحيث إن الحكومة لم تسمح بزيادات مقابلة في الأسعار المحلية، فإن تحويلات الأرباح ستنخفض، أو ستزداد الخسائر بكمية مساوية تقريبًا، ولكن بعد فترة. وعلى هذا يمكننا أن نتوقع تدهور موقف الحكومة بحدة في فترة سبتمبر ـ ديسمبر.
[2] - صندوق موازنة الأسعار يقوم بتعويض الصناعات بسبب الأسعار التي وجهتها الحكومة إلى ما دون التكلفة الكلية للإنتاج. ويقضي الاقتراح بتمويل هذا الصندوق بواسطة الدخل الناشئ عن فارق سعر العملة ومن الضرائب غير المباشرة التي تَئُول حاليًا إلى الخزانة مباشرة.

لنا عوووووودة لاكمال البحث
انتظروناااااااااااااااااا ااااا

طارق سرور 06-07-2011 03:27 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
طرح رائع ومعلومات قيمة ومفيدة

شكرى وتقديرى اختى نوووور

ملكة بإحساسي 06-07-2011 04:06 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
نور طرح اكثر من رااائع

سلمت اناملك وداما تألقك
الله يعطيك العافيه
دمت بخير وحفظ البارئ

marmer 06-08-2011 02:05 AM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
طرح رائع

حبيبتى

تسلمى

أحمد اسماعيل 06-08-2011 11:08 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
نوووور.. رائع الطرح



اسعدك الله وبارك فيك

دعواتى لك بالصحة والعافية

نور 06-08-2011 11:57 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
نورت ملكة
اسعدنى حضورك
كل الشكر لك

نور 06-09-2011 11:33 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
نورت مرمر
اسعدنى حضورك الرائع
دمت بخير

نور 06-17-2011 03:52 PM

رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة
 
نورت طارق
اسعدنى حضورك


الساعة الآن 05:53 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by