![]() |
الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
للتعرُّف على المحتوى الفكري الذي ينطوي عليه مثل هذا العنوان يجب التعرُّف على مفهوم الشجاعة الأدبية، ما هو؟ أهو شيء زائدٌ عن الشجاعة بعامَّة، والذي هو شِدَّة القلب عند مواطن الخطر والبأْس، وهو ما نتصوَّره أكمل وأوضح تصوُّرٍ في ميادين القتال وأمثالها؟ فالشجاعة أبرز صفات الرجولة، وأعز مَلكاتها، وأكثرها أثرًا في تهذيب الأخلاق، وتنظيم الأعمال؛ لأن تهذيب الملكات جهاد، والمحافظة على الملكات المهذَّبة جهاد آخرُ، والمجاهد مَخذول إذا لم تناصرْه الشجاعة ولم يرافقْه الصبرُ، وبالثبات تنجحُ المساعي وتُبْلَغ المقاصد، وتتمُّ الأعمال، والشجاعة نفسها إحدى الملكات التي لا تحصل إلا بالمجاهدة؛ لأنها توازن في قوة الغضب، وكيف يتوازن الغضب من غير كفاح؟ وكيف ترد عاديته بغير جهاد؟ إذًا فلا بد للإنسان من قوَّة أخرى تضرِب الغضب بالغضب، وتمزج اللين بالقوَّة؛ لتركِّب من المجموع مزيجًا معتدلاً يُسمَّى بالشجاعة، وتلك القوَّة هي الْحِكمة، وجُنديها المكافح هو قوَّة الإرادة. والقرآن الكريم والسُّنة النبويَّة المطهَّرة تُجَلِّي للناس عمومًا والمؤمنين خصوصًا صفات تلك الشجاعة وخصائصها، وطبيعة تكوينها وملامح شخصيَّتها، كيف لا؟ والناس بحاجة إلى تجلِية حقيقة الصحيح من الدَّعِي، كيف لا؟ والمؤمنون مُطالبون بالالتِفاف حول تلك الصِّفة؛ لِيَقوموا بمهمتهم الشاقَّة. إنَّ أحاديثَ القُرآن الكريم والسُّنة المطهَّرة عنها لم تأتِ في سياق النظرية المجرَّدة أبدًا، بل هي مبثوثة في ثنايا الحديث عن القيادات البارزة في مَسيرة البشريَّة، تُجَلِّي لنا بيئتَهم، وظـروف معيشتهم، وأسلوب تفكيرهم وسلوكَهم، ومواقفهم الحيَّة والمباشرة، ونظرة الناس إليهم، والأدوار التي تُبرزهم، والمنعطفات التي تدفع بهم للتحَلِّي بتلك الصِّفة. كما أنها أول فضيلة للقوة الغضبيَّة، ولها مظهران: ثبات في مقام الدِّفاع، وإقدام في محل الجهاد. والشجاعة لا تتميَّز بلونٍ واحدٍ، ولا تختص بسِمة خاصَّة، فالغضبُ للحقِّ شجاعة؛ لأنه مما يأمرُ به العقل، والْحِلم عن جَهْل الجاهل شجاعة؛ لأنه مما يدعو إليه الرشد، والثورة على الباطل شجاعة؛ لأنها مما تقتضيها الْحِكمة، يتقدَّم الشجاع في موضع التقدُّم، ويتأخَّر في محل التأخُّر، وهو في كلتا الحالتين شجاعٌ؛ لأنه ثابتُ القلب أمام المخاطر، شجاع؛ لأنه يدبِّر حركاته بالْحِكمة، ويقسمها المتأخِّرون من الخلقيين إلى شجاعة بدنيَّة، وشجاعة أدبيَّة، وما يهمُّنا هنا في المقام الأول هو الشجاعة الأدبيَّة. إن ما يقصده القرآنُ والسُّنة من مفهوم الشجاعة الأدبيَّة هو معنى أخصُّ من مفهوم الشجاعة العامة؛ ذلك أن المتعارَف عليه بيننا في المفهوم العصري لها هو: خصوص شجاعة الإنسان في الْجَهْر بما يعتقده؛ قولاً أو عملاً، حتى لو كان ذلك على حِساب عواطفه، أو المنافع التي كان يمكن أن تعودَ عليه، أو اندفاع المضار التي يُمكن أن تلحقَ به بسبب شجاعته. وإنك لترى القرآن المجيد والسُّنة النبويَّة تحفلان بالحضِّ على هذا اللون من الشجاعة، ويَضْربان النماذج المثالية لها في العديد من الآيات والأحاديث؛ وذلك لأهميتها البالغة إلى حدِّ توقُّف الكثير من أصول العقائد والأخلاق وفروعها عليه . الشجاعة الأدبية في الاعتراف بالذنب : إن الشجاعة الأدبيَّة في الاعتراف بالذنب لها مَحكٌّ رُوحي، يقرِّبك من الله، ومن نور اليقين في حياة العارِفين، وقد ذَكَر القرآن موقفَ الرجولة الفارعة الصادقة صاحبة الشجاعة الأدبيَّة الأخلاقية التي لا تَخْشى إلا الله، تلك الرجولة المؤمنة بربِّها المتقية له، التي زَلَّتْ بها القَدَمُ، وتخلَّفَتْ عن أمر ربِّها ونُصرة رسوله في أحْلك الأوقات، ومع عظيم ذنبهم وخطورة جُرْمهم، فإن ذلك لم يمنعْهم من امتلاكهم الشجاعة الأدبيَّة في الاعتراف بذنبهم؛ لأن التقوى هي العاصم الذي عصَمَهم من الزَّلَل وقت البلاء، ونترك كعب بن مالك أحد أبطال قصة الثلاثة الذين تَخَلَّفوا عن غزوة "تبوك" يقصُّ بروايته تلك الشجاعة الأدبيَّة فيقول: قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغزوة، فبدأ بالمسجد، فركَعَ ركعتين ثم جلَس للناس، فلمَّا فَعَل ذلك، جاءه المخلَّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويَحلفون له، وكانوا بضعًا وثمانين رجلاً، فقَبِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم علانيتهم، وبايَعهم واستغفرَ لهم، ووَكَل سرائرَهم إلى الله، حتى جئتُ فلمَّا سلَّمتُ عليه، تبَسَّمَ تبسُّم المغضب، ثم قال لي: (( تعالَ، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ما خَلَّفك؟ ألَمْ تكنْ قد اشتريتَ ظهرك؟ )) فقلتُ: يا رسول الله، والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أني سأخرجُ من سَخطه بعذْرٍ، لقد أُعطيتُ جَدلاً، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثْتك اليوم حديثَ كَذبٍ ترضى عنِّي به، ليوشكنَّ الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدَّثْتك بحديثِ صِدقٍ تَجِدُ عليَّ فيه، وإني لأرجو فيه عُقْبَى من الله، والله ما كان لي عُذرٌ، والله ما كنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (( أمَّا هذا فقد صَدَق، فقُمْ حتى يقضي الله فيك ))، فقمتُ وبادَرَني رجالٌ من بَنِي سَلِمة فاتَّبعوني، فقالوا لي: والله ما عَلِمْناك كنتَ أذنبتَ ذنبًا قبل هذا، لقد عجزتَ ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر به المتخلِّفون، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردتُ أن أرجِعَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذِّب نفسي، ثم قلتُ لهم: هل لَقِي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، لَقِيه معك رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قِيل لك. فقلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع، وهلال بن أُميَّة الواقفي، فذكروا لي رجلين صالِحَين قد شَهِدا بدرًا، لي فيهما أُسوة، فمضيتُ حين ذكروهما لي، حتى حينما لاحَ لهم في الأُفق مَن يطلبهم؛ لإيوائهم والانضمام إليه بعيدًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه أبوا، فيقول كعب: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبطي من أنباط الشام ممن قَدِم بطعام يبيعه بالمدينة، يقول: مَن يدلُّني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليّّ، حتى جاء فدفَع إليَّ كتابًا من ملك غَسان، وكنتُ كاتبًا، فقرأتُه فإذا فيه: أمَّا بعد، فقد بلَغَنا أنَّ صاحبَك قد جَفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعة، فالْحَقْ بنا نواسك، فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أيضًا من البلاء، فتَيِامَمْتُ بها التَّنُّور فسجرْتُها[1]. فعلمتُ أن ذلك ابتلاء، وأنها سحابة لا بد أن تنقشع، وأنها ظُلمة آخر الليل التي تَسْبِق نور الفجر، فاستعصمتُ بحبل الله؛ لأنه الركن الركين، وقد كان هؤلاء الثلاثة بوسعهم أن يعتذروا كما اعتذر مَن جاء يَحلف ويتنصَّل مِن فَعْلته، ولَم يلبثْ أن أنزَلَ الله فيهم قوله - تعالى -: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 95]. ذلك لأن الله حاضرٌ في ضمير المؤمن المخْطِئ المعترف بذنبه، ومع حِرصهم على إرضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن مراقبة الله كانتْ أقوى، وتقوى الله كانتْ أعمقَ، وشجاعتهم الأدبية في الاعتراف بذنبهم كانتْ أجلَّ، وكان الرجاء في الله أوثق، ولذلك تاب الله عليهم؛ لأنهم من النادمين التائبين الصادقين، حتى إن سورة القرآن التي نزلتْ فيهم تقصُّ قصتهم وتُعلن سَريرتهم، وتُعلِم الجميع بتوبتهم، تسمَّتْ بصفتهم التوبة، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]. [1] رواه كعب بن مالك، المحدِّث البخاري، المصدر "صحيح البخاري"، رقم 4418، حديث صحيح. |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
جزاكَ الله خيراً أخى الكريم |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
كمال بدر...جزاك الله خير واثاابك الله بارك الله فيك واسعدك الله في الدارين جعله الله في موازين اعمالك دمت بحفظ الحافظ http://photos.azyya.com/store/up3/090220221302evvM.jpg |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
اقتباس:
حمداً لله على سلامتك ، أنا كنت فى غاية القلق لغيابكم الفترة السابقة ، لعلَّ المانع خير إن شاء الله . أخى الفاضل ... المجاهد القســـــــــامى جزاكَ الله خيراً أخى الكريم على مروركم الطيب المبارك إن شاء الله . |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
اقتباس:
الأخت الفاضله جزاكِ الله خيراً على مروركم الطيب المبارك إن شاء الله . |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
أخى كمال بدر
وفقك الله لما تحبه وترضاه اخى شكراااااااااا وبارك الله فيك |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
جزاك الله خيرا اخى احسن الله اليك وبارك فيك |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
اقتباس:
الأخت الفاضله جزاكِ الله خيراً على مروركم الطيب المبارك إن شاء الله . |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
السلام عليكم أخي الكريم كمال طرح رااائع وقيم جـزاك الله خيراً وبارك الله فيك دمت في حفظ الله ورعايته |
رد: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة .
اقتباس:
أخى الفاضل ... طارق ســـــــــــــرور جزاكَ الله خيراً أخى الكريم على مروركم الطيب المبارك إن شاء الله . |
الساعة الآن 11:14 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by