الفن التشكيلي الإماراتي صورة المكان 2/2
الانسجام مع الذات وحرية التعبير
شكلت النهضة الاقتصادية أساساً ملحوظ المكانة لتأسيس المجتمع الحديث في دولة الامارات, ولعل التطور الاجتماعي
في مختلف اتجاهات حركة النمو الثقافي والفكري يعود لانتصار الانسان في مشروعه العقلاني وهو يلغي ويبني لتحرير الزمن من انتمائه لقوى الماضي, ويرافق هذا التوجه رغبة نقدية لبناء الافكار عبر الفعاليات واسعة الانتشار في مختلف التصورات والمشاريع التي لابد ان تنطلق أساساً من ايمانه او اعتقاد بضرورة الانسجام مع الذات التي يعلو شأنها بقدر ما يتحقق لها من حرية في التعبير والمبادرة والمجتمع الذي اقبل بكامل طاقته باتجاه الابداع والتأسيس له بعد الاستقلال والاتحاد وانتفاء الحاجة والفوز,
انما احتضن هذا الابداع عبر ايمان مطلق بضرورة احياء وسائل التقدم والتطور في الذات المبدعة, والاستجابة لخطابها الذي لم ينفصل عن الانتماء لشروط الحداثة التي اقتضت الانتماء للعصر وروحه والتعبير عن ذلك بصراحة ووضوح على قاعدة من الفهم عالي السوية لخصوصية الانسان وانتمائه بعيداً عن تقليدية التخلف وذلك بالفصل التام بين فهم معنى التراث وتمثله وبين انتاج الثقافة المعاصرة التي تؤطرها التقنية وصراعات السلطة العلمية والمتغيرات الفلسفية والاعلامية.
قد يبدو الكلام النظري اكثر دقة من الاحالات المباشرة على محمل تعبيري كالتشكيل في الامارات ـ مرمى الهدف ـ وما حققه في مجالات تمثل المتغيرات الاجتماعية والفكرية والنفسية وكل ما انجزه في هذا الاطار عن طريق العمل الفردي أو الجماعي, والتعديلات التي طرأت على جسمه بالانتقال في الزمان من مرحلة إلى أخرى.
لابد ان نتذكر منذ البداية ان غاية كل فنان, وكل مبدع تمثلت منذ البداية في الاستجابة للفرصة المتاحة للتعبير عن ذات الجماعة لاختراق المراحل وحرقها باتجاه بناء التكوينات الثقافية الأولى وقد تجلى ذلك في المسرح والفن التشكيلي والادب, بالمضي قدماً في الاستجابة لطبيعة الشعور والشخصية لاعادة انتاج الأنواع الابداعية التي تعارف عليها الانسان في تحوله الدائم, ولا نعني في هذا الخصوص بأن انسان المنطقة كان منقطعاً كلياً عن الحراك الابداعي العربي على اقل تقدير, انما ما نعنيه ان ابتعاداً عن هذا الحراك فرضته شروط مختلفة طالت المجتمع ما قبل الطفرة النفطية, وحالت بينه وبين بناء البنية الثقافية التحتية التي تؤهل المبدع ليعيش تحولات الابداع.
ولهذا فمن الطبيعي ان نشير هنا إلى ان ان العملية الابداعية كانت رهنا بالمتحولات العربية والدولية المرافقة أو المواكبة للتحولات المحلية, وقد تمكن المبدع المحلي من تمثل معاني التعبير عن الذات دون ان يتأثر مباشرة بما بدأت تحققه الثروة من تنمية عامة, وسعت مجالات الرخاء الاجتماعي ومنحت المجتمع اعترافاً بذاته, من نفسه أولاً, ومن الآخرين ثانياً..
دون ان تتحول هذه الذات إلى متحف يجمد صورة الانسان على هيئة معينة, وكما حقق المجتمع هذه المميزات فقد انعكست على المعاني العامة للمنتج الابداعي التشكيلي الذي بدأ بالتوجه إلى اكتساب المعارف البصرية المختلفة بدءاً من الجيل الأول الذي انطلق إلى مختلف العواصم والجامعات كي يتوافق والمعطيات العامة التي توصل اليها التشكيل العربي.
الشيء المهم هو ان روح المبدعين القلقة في تلك المرحلة كانت تخفق في حيرة شاملة تطال إلى جانب اكتساب الخبرات وهضمها بناء خطابها الخاص, ومشروعها الذي يميزها ببناء المؤسسات الثقافية والفنية, الجمعيات والدوائر, الصالات وقبل ذلك كله محاولة القبول الاجتماعي للأدوار التي تخرج كالشهب من جسد الثبات إلى مجالات الحياة لبناء معاني الاحتياج إلى الابداع, ولهذا يشار دائماً إلى قيمة التأسيس وارهاصات البناء وقلق المبدع في بحثه عن سبل لنشر الوعي لدى متلقي الفنون وتوحيد مبادىء ورؤى الاساليب الفنية لتتناسب مع الاندفاعة الاقتصادية, العمرانية والمدينية التي تتجاهل وظائف مجتمعية وتحل محلها وظائف اخرى تسمح بتغيير التصور والتخيل لتغير ركائزهما ومفرداتهما.
ان اعادة اكتشاف الذات, تقتضي معرفة تاريخها, بل استرجاع مفرداتها على نحو تكاملي مع وضع استراتيجيات قراءة المستقبل الجمالي لهذه الذات في ضوء الحداثة التي شكلت الرسالة الوحيدة لمنطلقات الابداع المحلي دون ان تفسح
مجالاً لنزعات تنحي شبكة الانتماء للمستقبل لاحساسها الفطري بمعاني التدمير التي تلحق بجماليات الانسان وهو يحاول ان يشد الحياة بعكس الزمان, ولعله مشهد طبيعي في حركة المتغيرات لدى مجتمعات اخرى, الا انه لم يمثل دعوة واضحة المعالم في الابداع الاماراتي الذي بشر رواده بالامكانيات الخلاقة لجوهر الخيال الشعبي الذي يمزج الرغبة بالتطور بالاجتهاد لتحقيق ذلك على شكل خاص لم يدخل في اطار الثورة أو الانقلاب, الكلمات التي تغري الباحثين برنينها والتي عزلت الكثير من المفاهيم عن الفضاء العام للمجتمعات العربية في تعبيرها عن ذاتها وعن حركاتها الابداعية الفنية.. بل وغالباً ما خففت من امكانيات تأمل هذه الذات تحت تأثير الوقع المتسارع للأحداث العامة الموازية.
توفرت للساحة الابداعية في الامارات ومنذ البداية مجموعة واسعة من المبدعين الذين انهوا تحضيراتهم الاكاديمية والابداعية وانجزوا بخبراتهم المكثفة نتاجاً يمكن ان نحدد نهوضه منذ الثمانينيات كتيار عام مع الاشارة إلى بعض المجهودات (آلات حادة لصنع الفن) ان المواجهة بين الجديد والقديم راوحت بين النضج والفجاجة, عاملها البعض بحميمية وعمق باعتبارها عافية حقيقية بالنسبة لواقع الامارات, بينما طرحها البعض كموضة وصرعة سرعان ما تزول وتتلاشى..
أهل الابداع انفسهم كانوا مثل هذه الزلزلة, بعضهم تسلح بثقافة وفكر وبعضهم ركب الموجة وذهب إلى الزبد متأثراً بالرياح التي تهب بكل صالح وطالح, بل ان بعض اهل الثقافة لم يفطن إلى الجوهري والاساسي في النهوض الجديد, فعامله بفوقية لا تليق بالابداع وحرية التعبير والتأسيس لكيان ثقافي جديد... لقد كان اختراق اللوحة التقليدية عملاً جارحاً عنيفاً وغير مقبول لانه غير مسبوق وغير متوقع.. عقد من الزمان ونيف على تجربة (المريجة) في الشارقة.
العلاقة بين الالتزام بالتغيير ومحاور النهوض المجتمعي كانت متساوقة اذن في عمق محددات الابداع, وهذه الرؤية المعبأة اساساً من طبيعة التحولات العامة التي كانت تقود معاني انسنة الصورة بنفي الوهم عنها ومنح المبدع امكانية التعبير عن المجتمع الجديد باعادة صياغة وتأليف الغاية من البحث عن الحكمة والعدالة ومنح الذاكرة ضفافاً فسيحة لاعلاء مكانة التجارب الفنية الفردية وهي تسعى إلى التميز في مواضيعها, ورغم ما يميز السبعينيات والثمانينيات في السعي إلى فروع البحث واتجاهاته للقلق الذي اعترى التجارب التي تراها الكاتبة نجوم الغانم غير مستقرة على أسلوب عندما تتعرض لتاريخ الحركة التشكيلية في دولة الامارات: (العديد من الفنانين قد حاولوا ايجاد ارضية عمل لهم منذ اواخر الستينيات وانتهاء بالتسعينيات ولحداثة التجربة الفنية في الدولة فان معظم تلك الاسماء قدمت اكثر من اسلوب,
فترى الفنان في احد معارضه على سبيل المثال يقدم اسلوباً فنياً معيناً, بينما نراه في المعرض الذي يليه يطرح اسلوباً مناقضاً, بل ان البعض وحتى يومنا هذا يقدم عدة اساليب متباينة في العمل الفني الواحد, وقد يبدأ الفنان تجربته باتجاه حداثي, وينتهي بأن يقدم اعمالاً كلاسيكية والعكس صحيح... هذا الارتباك يعود إلى قصر عمر تجربة الفنان الابداعية والمعرفية وثانياً إلى الافتقار للتراكم التاريخي في الحركة التشكيلية المحلية عموماً).
الفنان حسن شريف يصرح بشكل مباشر حين كتب (احسست ابتداء من عام 1982 ان الكثير من اللوحات التشكيلية, سواء الانطباعية أو التجريدية التعبيرية في كل مكان بدأت تفقد أهميتها لدي, اذ لم اعد احس بأي متعة بصرية عند مشاهدتها, وشعرت ان هناك فجوة بين اللوحة وبين النحت التقليدي. ويجب البحث عن العمل الفني في هذه الفجوة, ومنذ ذلك الحين بدأ لي ان العمل الفني ليس هو اللوحة ولا النحت بل هو (شيء آخر), هكذا حاولت ملء هذه الفجوة. كل تجربة قادتني إلى تجربة اخرى, واعتقد ان جميع الاعمال التي انتجتها منذ عام 1982 وحتى الان هي تجربة واحدة مستمرة.. واحياناً اعود إلى بعض الاعمال القديمة التي كنت عرضتها سابقاً واستمر في استكمالها بعد توقفي عن انتاجها لسنوات طويلة).
انها روح كلية منقسمة في مفردات كل فنان يسعى إلى الاختلاف مع الجماليات المسيطرة, متحولاً بنصوصه إلى وجود يطال الدور الاجتماعي للابداع والوعي به, اذ كلما تعمق الوعي بضرورة التغيير كلما كانت المقاربة قائمة بين الاندفاع لصياغة جدية جديدة والخروج من تقليدية العلاقة بالفنون, فالمجتمع الذي ينتقل بكليته, المكانية والفكرية والزمانية والاقتصادية, هو الذي يضفي الشرعية على التغيير الابداعي وان بدا في الظاهر ان خلافا قائماً بين النزوع إلى الحداثة أو ما بعدها وبين التصرفات التقليدية التي تعيش على حلم استعادة الماضي والتماهي به, للكشف عن صلة قيمية تسهل الاجابة التي كانت مطروحة بشكل عام عن الهوية في الفن العربي بشكل عام.
العالم الذي كان يتغير ويتقلب وتتهاوى افكاره وفلسفاته بمواجهة اقتصاد السوق كان قاسياً بانتقالاته السريعة, ولقد هزت هذه الاحداث اهتمامات المبدعين اينما كانوا ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ فما كان ظاهراً في الانتماء لتاريخ الحركات الفنية عالمياً بات محط انتقاد وتحليل للتوجه إلى مفاهيم الاختلاف بدل الالتقاء, وما كان يؤدي إلى وحدة التجربة والاسلوب لم يعد مهماً في ظل الافكار الجديدة التجارية والصناعية والتكنولوجية, وما كان يشكل دعوة لتوحيد الذات وبناء تماسكها اضحى سجين التفكيك, وكما حلت (الكوكا كولا) محل الذات في اعمال (وارهول) اندفعت الموضوعات إلى الأعمال الفنية في التسعينيات لتفرق التشكيل المحلي في لجة الصراعات الثقافية والفنية بين اجيال لم يتحقق لها الاستمرار في تلقي الاطلاع والدراسة, بل بين الجيل الوحيد الذي انتج كل الاتجاهات التي تحيا اليوم في ساحة الفعل الفني التشكيلي في الامارات منذ عقدين على أقل تقدير رغم اعتراف الجميع بضرورة التعبير عن العصر
في اطار التعبير عن الهوية الذاتية والهوية الوطنية والقومية.
وبعد ان شكل البحث والاستقصاء سلوكاً عاماً للمبدعين التشكيليين في الامارات على اختلاف اتجاهاتهم ومواقعهم فان الحدود الفاصلة بين المستويات لم تقع في اطار التقييم والحكم عليها لضرورة الاعتراف بكينونة المبدعين والتي نشأت بعيداً عن الاشكال الايديولوجية التي تعرضت لها محامل عربية موازية في اطار الطروحات الفلسفية التبريرية التي جعلتها منفصمة عن السياق الاجتماعي.. فمعظم النجاحات التي تحققت للفنانين في الامارات تعود اما إلى التكيف مع قواعد التلقي أو مناهضتها بالانفصال عن الادوار التقليدية للعمل الفني التي كان يلعبها تاريخياً.
ومنذ جماعة (اقواس) التي تشكلت وغابت منتصف الثمانينيات وحتى روح الطبيعة التي يعمل عليها اليوم الفنان محمد يوسف ومروراً بمرسم (المريجة) ومعرض السالب والموجب والمعرض الأول الذي اقيم العام 1972 في دار الاذاعة بالشارقة للفنان احمد الانصاري ومعرض عبدالقادر الريس العام 1973 في دبي ومئات المعارض المحلية والعربية والدولية.
وما تسعى اليه نجاة مكي من تحصيل اكاديمي عال إلى جانب مسعى محمد يوسف علي.. كل ذلك يؤكد اندماج شخصيته وذات المبدع الاماراتي بالسعي إلى التميز والتفوق ونزع الاعتراف من الآخر بالدور الذي يحققه الفن التشكيلي في مجتمع الامارات والاشارة إلى الفهم العميق للتحولات التقنية والمعلوماتية التي تطال الفنون الانسانية.