الموضوع: تاريخ القدس
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-05-2010, 01:32 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
ملكة بإحساسي

الصورة الرمزية ملكة بإحساسي

إحصائية العضو








ملكة بإحساسي غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: تاريخ القدس

تَنَصّر الدولة الرومانية وتأثيره في بيت المقدس:
لم يُتَحْ لدعوة المسيح ـ عليه السلام ـ أنصار كثيرون في الفترة التي قضاها على الأرض قبل سعي اليهود والرومان إلى قتله، وإنْجاء الله ـ تعالى ـ له. إلا أنه بعد هذا الحادث بما يزيد على قرنين ونصف من الزمان، قامت دولة كبرى بإعلان اتباعها لدين المسيح، وإن كان ذلك بتفسير خاص لرسالة المسيح ـ عليه السلام ـ وتلك هي الدولة الرومانية نفسها، التي أعلن إمبراطورها قسطنطين عام ثلاثة عشر وثلاثمائة من الميلاد أن المسيحية هي الديانة الرسمية لدولته، حسب التفسير الذي جاء به شاول المشهور ببولس الرسول.
وقد كان لهذا الحدث تأثير كبير في مجرى تاريخ مدينة القدس، فلأول مرة أصبحت تحت سلطة تعلن إيمانها بصدق المسيح ـ حسب الصورة التي يعتقدونها ـ وقد كان وجود هذه السلطة إذنًا بعقاب أصحاب الأديان والعقائد التي اضطهدت المسيحيين الأوائل، فتتابع طرد اليهود من بيت المقدس.
كما زارت الإمبراطورة "هيلانة" والدة قسطنطين، بيت المقدس، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من إعلانه الديانة الجديدة لدولته، وتفقدت المواضع التي شهدت دعوة المسيح ـ عليه السلام ـ وأقامت كنيسة القيامة الشهيرة في الموضع الذي يعتقدون أن المسيح دُفن فيه.
البناء الروماني لبيت المقدس:
"إيليوس أدريانوس" أو "هادريانوس".. هذا هو الإمبراطور الروماني الكبير ـ ويُوصف بأنه "كان من أقدر الرجال الذين شغلوا منصب الإمبراطور على مر التاريخ" ـ الذي ارتبط اسمه ببناء مدينة بيت المقدس، وتشييدها على الطراز الروماني، ففي عام اثنين وثلاثين ومائة للميلاد ضيق الإمبراطور على اليهود، ومنعهم من تأدية بعض طقوسهم العبادية في بيت المقدس، فثاروا ضده، ونجحوا في السيطرة على المدينة المقدسة ثلاث سنوات، إلا أن الإمبراطور جرد حملة قوية لإخضاع المدينة، فاستولى الرومان على خمسين قلعة، ودمروا قرابة ألف قرية، وقتلوا عددًا كبيرًا من اليهود، "أما مَنْ لاقَوْا حَتْفَهُمْ جوعًا، أو بالطاعون، أو في الحدائق، فلا يستطيع أحد أن يُحْصِيَهُمْ ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ وهكذا خُرِّبت يهوذا تقريبًا"، وصارت قرية مدمرة.
وأصبحت القدس محظورة "الدخول على مَنْ بقي من اليهود بعد الحرب، وشتت الرومان من بقي منهم فوق جبل صهيون، ولم تعد هناك جماعات يهودية في ضواحي المدينة".
لقد كان اعتزام أدريانوس عام مائة وثلاثين إنشاء مدينة جديدة فوق أطلال القدس، هو السبب الرئيسي الذي دعا اليهود إلى الثورة عليه، إذ كان إنشاء هذه المدينة يعني إنشاء معابد وثنية، وتمجيد معتقدات الإمبراطور في المدينة المقدسة.
وبعد أن تخلص أدريانوس من المعارضة اليهودية لمشروع مدينته، عهد إلى روفوس تيمايوس بإنشاء مدينته الجديدة، التي أسماها إيليا كابيتولينا، لتحمل اسمه، وتكرم معبوداته الوثنية في الكابيتول في روما، اعتقادًا منه أنهم سيَرْعَوْنَها له.
وعند التنفيذ قام العاملون بفلح أرض المدينة وإعدادها للبناء، وأقيمت مدينة حديثة، فيها معابد ومسرح، وتجمعات سكنية، وبِركة مياه، وسوقان.
القدس في صدر الإسلام:
ما من صفحات في تاريخ القدس الشريف أنصع ولا أبهى من تلك التي كانت في عهد الرسالة المحمدية؛ إذْ جاء الارتباط فيها بين خاتم رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين واحدة من البقاع الطاهرة التي باركها الله وبارك ما حولها..
وأُولى الصفحات المحمدية للقدس تمثلت في معجزة الإسراء والمعراج، والثانية في توجهه ومن معه من المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس..
ومنذ البدء لم يكن المسلمون يبحثون عن حرب تراق فيها الدماء، بل كانوا يفتشون عن قلوب تستجيب للنداء الرفيق الرحيم الذي يقودها إلى الله، لذا حزن المؤمنون في مكة لِمَا أصاب الروم من هزيمة مؤلمة أمام الفرس، ضاع فيها بيت المقدس من يد الروم وسقط في يد المجوس، وتفاعل أتباع النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع القرآن وهو يبشر بانتصار الروم من جديد، مما يعني استرجاع الرومان بيت المقدس..
وتطلع رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن تصير القدس وغيرها في حوزة أهل الإيمان، مهما تكن جنسيتهم وألوانهم، فكتب إلى هرقل "عظيم الروم" يدعوه وقومه إلى الإسلام، لا لينزع منهم ملكهم، ولكن ليدلهم على ما يجمع لهم خير الدنيا والآخرة..
وشاءت المقادير الإلهية أن تكون الحماقة سببا لإثارة الحرب بين المسلمين والروم، فقد قتل أتباع أمير غسان المُوَالي للروم حاملَ كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، فوقعت الحرب في مؤتة وتبوك حيث بشر النبي بفتح بيت المقدس. وفي آخر عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدنيا أمر بتجهيز جيش كبير جعل القيادة فيه لأسامة بن زيد ليغزو أطراف الشام، وحين دنا الرحيل النبويّ عن الدنيا لم يكن الجيش قد خرج لمهمته، فأوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنفاذ بعث أسامة.
وكان أول أعمال الصديق أبي بكر في خلافته إنفاذ هذا البعث، على الرغم من فتنة المرتدّين الخطيرة التي هددت المدينةَ نفسَها، بل هددت كيان الإسلام كلَّه.
وبعد إخماد نار الردة تفرغ المسلمون للفتح، وإفساح الطريق أمام الإسلام ومبادئه، لتسمع الدنيا صوته، وليعرف الخلق سموه وعلوّه، فأرسل أبو بكر جيوش الفتح والغزو..
ولم يكن المسلمون أبدا بادئين بالاعتداء، بل سبقهم الفرس إلى ذلك بتأييد حركات الردة والتمرد في جزيرة العرب، وسبقهم الروم حينما قتلوا السفير الذي بعثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حاكم بُصرى التابع لهم.. ودخل المسلمون في جولات حربية حاسمة مع الفرس والروم، على رأسها اليرموك وأجْنَادِين والقادسية ونهاوند..
واختُصَّت أجنادين كفاتح للطريق إلى بيت المقدس، حيث انهارت الدفاعات الرومانية أمام بسالة المسلمين، وصارت لآلئ فلسطين في أيديهم، وتيسَّر حصار الروم في إيلياء أو بيت المقدس، وتلا ذلك الصلح التاريخي الذي أجراه عمر بن الخطاب مع سكان المدينة سنة ست عشرة من الهجرة، وجاءت الوثيقة العُمَريّة لأهل بيت المقدس مجسِّدةً لمبدأ الرحمة والوفاء، ومُقِرَّة بمبدأ حرية الاعتقاد.
وكان الفاروق عمر، وهو يسير نحو بيت المقدس ويتسلم مفاتيحها، كعادته نموذجًا للزهد والتواضع والسماحة والرحمة..
الإسراء والارتباط ببيت المقدس:
بينما تُظِلُّ الناسَ السنةُ العاشرة لبعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي رحلة ليلية غيرِ متقيدة بقوانين الزمان والمكان، أسرى الله سبحانه بخاتم رسله، من البقاع الطاهرة إلى الأرض المباركة، من مكة إلى بيت المقدس، لتتحدد هُويّة هذا الدين بصورة كاملة قبل أن تصبح للإسلام دولة، وليتحدد أيضا نوع الارتباط بين المسلمين وبين بيت المقدس:
أما هوية هذا الدين، فقد تحددت أهم ملامحها وأعمها حين وقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أيام دعوته الأولى، يدعو إلى ملة إبراهيم حنيفا، ويتمسك باحترام البيت الحرام وإجلاله، وإبراهيمية الرسالة المحمدية دعوة إلى التجمع حول الراية التي رفعها الخليل إبراهيم قبل الميلاد بحوالي ألفي سنة، وتابعه عليها الأنبياء من بعده، خاصة موسى وعيسى ومحمدا ـ عليهم الصلاة والسلام.
واكتمل تحديد هذه الهُوِيَّة بصورة عملية في رحلة الإسراء والمعراج، حين ظهر الولاء بين الأنبياء، وتصديق كلٍّ بصدق الآخر، وتسليمهم بتقديم خاتم الرسل على أنفسهم، وأنه مواصل لطريق الدعوة الذي سلكوه. لقد أعلنت الرحلة أنه مسلم وأنهم مسلمون، لتُجسِّد ذلك المعنى القرآني العام، الذي يؤكد أن الرسول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلة لمن سبقه من الأنبياء، وشبيه بهم فيما يعتقد ويؤمن به، وإن كان لا نبي بعده.
وأما نوع الارتباط بين المسلمين وبين القدس، فقد حددت الرحلة أنه ارتباط عقيدة، إذ جمع الواحد الأحد بين الصفوة المختارة من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليُصَلُّوا خلف خاتمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يعني وراثته لعقيدة التوحيد السماوية، مرتبطة بالموطن الذي شهد أكبر حشد من رسل الله السابقين عليه.
وأعلنت هذه الوراثة المباركة عن إحدى خصائص الرسالة المحمدية، وهو شمولها للزمان كله، وعمومها للأمم كلها، فكل الرسل صلوا خلفه، إعلانا منهم عن إيمانهم برسالته وصدق نبوّته، وأن أتباعهم تشملهم رسالته إلى يوم الدين، كما شملت الأنبياء صلاته وإمامته.
القدس والمعراج:
رحلة المعراج كانت سفرا إلى عوالم تَلْبس الطُّهْرَ، وترتدي أثواب القداسة، وجرت فيها لقاءات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملائكة والأنبياء، بل كلم النبيُّ الكريم ربَّه، وتلقَّى منه فرض الصلاة مباشرة، وانتهى المقام برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند سدرة المنتهى، وهو موضع أرفع من السماء السابعة...
ورحلة بهذا المقام لابد أن تكون البدايةُ الأرضية لها كريمة شريفة، وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون مدينة بيت المقدس هي موضع هذه البداية، حيث عُرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فوق صخرة المعراج إلى السموات العلا..
إن الفترة التي يقضيها الإنسان فوق هذه الأرض، أشبه ما تكون برحلة الإسراء في اشتمالها على عمل واختيار بين اللبن والخمر؛ (أو الهداية والضلالة). وأما المعراج، فقد مثل بيانا للطريقة التي بها تكون المسيرة الفردية والجماعية صحيحة، وهي الارتفاع فوق طين الأرض، والترفُّع عن المعصية، وعدم الانقطاع عن هَدْي السماء.
وعلاقة بيت المقدس بذلك، أن أهل المسجد الحرام أتباعَ نبي الإسراء، هم أيضا أهل المسجد الأقصى وبيت المقدس، وسبيلهم إلى الفلاح في دار الدنيا ودار الآخرة، هو ألا ينقطعوا عن هَدْي السماء الذي أرسل الله به رسوله.
كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل:
من خصائص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُرسل إلى الناس كافة، وقد مثلت الكتب التي بعث بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والقادة في عصره، تجليا واضحا لهذه الخصيصة؛ فقد تخطى الجغرافيا بكل أنواعها، وكتب إلى كسرى وقيصر وملوك اليمن وعمان ومصر وغيرها، يدعوهم إلى الإسلام..
وقد أقبل دِحْيةُ بنُ خليفةَ من المدينة نحو الشام، يحمل كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل قيصر الروم، في وقت كان فيه الرومان في قمة النشوة لانتصارهم الكبير على الفرس، واستعادتهم الممتلكات الاستعماريةَ التي سلبها منهم عدوهم المجوسي، وعلى رأسها بيت المقدس، الذي نذر هرقل أن يسير إليه من حمص سيرا على قدميه، حيث أقام احتفالاتٍ صاخبةً بالنصر الكبير.
وشق الصحراءَ نفسَها الحارث بن عمير الأزْدِيّ، يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير بُصْرَى ؛ حليف الروم وخادمهم.
أما هرقل، فمع تأثره بالكتاب، فإنه كان يجيد أعمال السياسة، فرد على كتاب رسول الله ردًا ليّنا، في حين غَلبت الجلافة الآخرين، فقَتل أعرابيٌّ من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى، قتله باسم هرقلَ.
وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس أمير بُصْرَى، فبعث إلى هرقلَ يستأذنه في غَزْوِ المدينة المنوَّرة، إلا أن هرقلَ رغب في ألا يعكِّر كؤوس احتفاله بالانتصار على الفرس أيُّ شيء، وفضَّل أن يكون أمير بصرى من الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم في بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من الفرس.
استبشار المسلمين بانتصار الروم على الفرس:
كان الصراع الدموي بين الفرس والروم أهم معلم دُوَليٍّ يميز دنيا الناس إبان البعثة النبوية الشريفة، فقد نشأ بينهما صراعٌ مميتٌ وتنافسٌ مهلكٌ، كانت الضحايا فيه تُعَدُّ بمئات الآلاف من البشر لا بعشرات الآلاف، هذا غير المدن التي خُرِّبَتْ والقصور والقلاع والحصون التي هُدِّمَتْ..
وقد علت يد الفرس على الروم في بدايات بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحققوا انتصارات متتالية عليهم: عند أَنْطَاكية سنة ستمائة وثلاث عشرة من الميلاد، وسيطروا على فِلَسْطِين، وبيت المقدس سنة ستمائة وست عشرة من الميلاد، وامتد جبروتهم حتى خضعت لهم الإسكندرية سنة ستمائة وسبع عشرة من الميلاد. وتجاوب مشركو مكة مع الأحداث، وفرحوا لانتصار الوثنية على أهل الكتاب، ورأوا في ذلك صورة مبكرةً للصراع بينهم وبين الإسلام، وأن النهاية في الحالين ستكون واحدة: انتصار الوثنية وارتفاع شأن الأصنام، وخمود صوتِ الرسل...!
وخرج هرقلُ القيصرُ الرومي الجديدُ ليكافح في سبيل إعادة المجد البيزنطب من جديد، فظل ينظِّم دولته ويقوي جيشه المنهار، ويكافح الفرس حتى ألحق بهم هزيمة ساحقة قرب نينوى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فقصم ظهورَهم، واسترد منهم أرض الدولة البيزنطية في أرْمينِيَّة والشام وفلسطين ومصر، واستعاد منهم بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة من الميلاد. وقد فرح المسلمون لهذا النصر الذي وافق انتصارهم على كفار قريش يوم بدر.
وكان ذلك تحقيقا لما نزل به القرآن، قبل أن يتحقق بسبع سنين، في قول الله ـ تعالى: (الم. غُلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
غزوة مؤتة:
تقع مؤتة الآن داخل حدود المملكة الأردنية الهاشمية، مما يعني أن الغزوة التي دارت فيها بين المسلمين وبين الروم وحلفائهم من القبائل العربية، كانت على مقربة من بيت المقدس.
‏اتجهت جموع جيش المسلمين في غزوة مؤتة إلى الجزء الملاصق للجزيرة العربية من أرض الشام، أي إلى الطريق الممتد إلى فلسطين التي فيها بيت المقدس. وتعداد المسلمين المتجهزين للقتال يومئذ ثلاثة آلاف، يقودهم زيد بن حارثة، وخليفته إن قتل جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل تلى على المسلمين عبد الله بن رواحة، فإن قُتل عبد الله اختار المسلمون قائدا منهم.
‏وكانت دماء زيد بن حارثة حِبِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعفر بن أبي طالب ابن عمه، وعبد الله بن رواحة أحد شعرائه وأنصاره ـ كانت أولَ دماء طاهرة روت الأرض في الطريق إلى القدس، في مواجهة مع الروم غير متكافئة في العدد ولا العُدة، إذ حشدوا من مقاتليهمعشرات الآلاف من الجنود والمرتزقة العرب في مواجهة ثلاثة آلاف من المسلمين.
ثم أخذ الراية سيف الله خالد بن الوليد، الذي سيواصل فيما بعد المشاركة الإيجابية في سبيل بسط سلطان الإسلام على الشام والقدس.. ظهرت مهارة خالد في مؤتة في المناورة وحسن تحريك الجيش وتحويل الدفّة؛ فقد أحدث ضجيجًا وصخبًا وهو يحرك قطع جيشه، ويبادل بين مواضعها، فتوهم الروم أن إمدادات كبيرة قد جاءت أرض المعركة، فراحوا يعيدون توزيع جيشهم. وبينما هم مشغولون في ذلك رجع خالد بجيشه إلى المدينة..
ومع أن المسلمين في المدينة صاحوا في وجه خالد وجنوده: يا فُرّار .. فررتم من أعداء الله. إلا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفى عنهم التهمة، وطيب خاطرهم وقال: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار بإذن الله" ـ أي أنهم عائدون إلى الجهاد من جديد.
وهي كلمة تُنْبِئ عن أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيستأنف الجهاد في هذه النواحي عما قليل. و
غزوة تبوك:
في العام التاسع للهجرة سعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى إعداد جيش يتجه به إلى الشام، وندب المسلمين للمشاركة فيه بالنفس والمال، فتطوع عدد كبير منهم، خاصة أنه أعلن أنه سيخرج بنفسه. وكان تعدادهم ثلاثين ألفا، أي عشرة أضعاف من حاربوا في مؤتة.
كان ذلك يعني للمسلمين سفرا بعيدا، في ظروف الحر الشديد، ووقت انتظار الثمار، وفي مواجهة عدو ذي بأس شديد.
وبعد وصولهم إلى تبوك عسكر المسلمون هناك عشرين يومًا، لم يخرج خلالها جيش الروم لمواجهتهم أو صدهم، ويبدو أنهم أرادوا استدراجهم إلى الداخل.. غير أن المسلمين لم يتوغلوا إلى الداخل، وتركوا الروم يحسبون حساباتهم الخاطئة. واستشعرت القبائل العربية المحالفة للروم أنها تقف في المواجهة بمفردها، فأسرع يوحنة بن رؤبة أمير أيلة، فوفد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصالحه وأعطى الجزية للمسلمين، وكتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتاب أمان له ولقومه. وكذلك فعل أهل جرباء وأهل أذرح، وانتظر أكيدر دُومة الجندل حتى جاء به خالد بن الوليد أسيرا بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحقن دمه وصالحه.
وأهم ما تبينه المسلمون في هذه الغزوة هو أن بلاد الشام ينبغي ألا تغيب عن أنظارهم، كما تبينوا أن نصارى الشام من العرب في حاجة إلى من يخلصهم من حكم الرومان، وأن المسلمين لو جاءوا يومًا يفتحون الشام فسيجدون ترحيبًا من أهلها، وهذا ما بدا واضحًا بصورة جلية عند الفتح العمري للقدس في غضون سنوات معدودة، وهو الفتح الذي بشر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة المباركة.
إنفاذُ بعثِ أسامةَ بنِ زيدٍ:
‏ رأى رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زيد بنِ حارثةَ وابنِه أسامةَ إيمانا وفروسية وحبا لله ورسوله، يجعلهما جديرَيْنِ بالقيادة، ولو كان أسامةُ شابا صغيرا لم يجاوز سبع عشرة سنة، وفي جيشه مَنْ هو أسَنُّ منه.. وقد نال زيد الشهادة عند مواجهة الروم في مُؤْتَةَ، وها هو ابنه أسامة يواصل مسيرة والده، في غير جبن ولا تردد، ويستعد ليواجه الروم وحلفاءهم من جديد على أعتاب السنة الحادية عشرة للهجرة.
أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتجهيز جيش أسامة أن يؤمّن المسلمين من أي عدوان يأتيهم من الشمال، وأن يُلْقِي الهيبة منه ومن المسلمين في قلوب القبائل العربية المتاخمة لحدود الدولة الرومانية.
لكن المرض أصاب الجسد النبوي الطاهر، وراح يشتد به، فتوقف الجيش المجاهد خارج المدينة انتظارا للإذن بالانطلاق، إلا أن مشيئة الله أرادت غير ذلك، فصَعِدَتْ روح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بارئها في ربيع الأول من العام الهجري الحادي عشر، لكن بقيت وصيته لمَن بعده أن يُنْفِذ جيش أسامة.
وكان تنفيذ هذه الوصية أول ما شغل أبا بكر بعد توليه الخلافة، بالرغم من الأخطار الهائلة التي واجهها بسبب الردة.
خرج الخليفة أبو بكر يودع القائد الشاب أسامة بن زيد وجندَه، وزوَّده بوصاياه، وأمره بأن ينفّذ أوامر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا له: "ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ائت آبل، ولا تقصّر في شيء من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تعجلن…".
فسار الجيش متجهًا إلى المنطقة التي حددها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرين يومًا، يقطع الصحراء الملتهبة بحرارة الشمس في يونيو، حتى بلغوا مؤتة حيث استشهد زيد بن حارثة وأصحابه.. وهناك صلى أسامة، ثم دعا لوالده الشهيد ومن استشهد معه، ثم بث خيوله في صفوفٍ مُواجِهةٍ للأعداء، ومضى هو وجنده إلى الأمام حتى بلغوا الهدف الذي حدده لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكده لهم خليفتُه، فوطئت خيولهم البلقاء والداروم، فلما تمَّ له ما أراد لم يتجاوز الهدف المحدد، ولم يفتنه الغرور أو يستدرجه إلى ملاقاة جيش الروم، وإنما عاد بجيشه سالمًا مظفرًا إلى المدينة المنورة حيث تلقاه الخليفة بالتحية والإكبار.
وكانت هذه ثالث حملة بعد مؤتة وتبوك في الطريق إلى القدس الشريف، فعَرف المسلمون الطريق جيدًا، وعَرفوا مَنْ فيه من الأعداء ومدى قوتِهم.. وهكذا وصل الإسلام قريبًا من فلسطين دينًا حيويًا في زهرة حماسه الأول. وفي المقابل كان الإمبراطور البيزنطي هرقل قد تسبب في اغتراب كثير من رعاياه في فلسطين، وكان مكتئبًا يعاني أزمةً روحية، ومن ثم فقد خَشِيَ أن يكون الفتحُ الإسلامي علامةً على غضب الله عليه!!
جيش أبي بكر لفتح فلسطين:
لما أقبلت العرب على أبي بكر من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ تريد الخروج للجهاد في الشام، جمعهم تحت قيادة ذوي الدين والكفاية، ووزعهم على أربعة جيوش، على كل واحد منها أميرٌ قوي أمينٌ، فأبو عبيدةَ أمينُ الأمةِ على جيش، وعمرو بن العاص القائدُ العبقري على جيش، وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنةَ الأميرُ التَّقِي على جيش، ويزيدُ بنُ أبي سفيانَ القائدُ الصُّلْبُ على جيش...
وأراد أبو بكر بهذا التقسيم أن ينفرد كل واحد من هؤلاء الأمراء بفتح ناحية من نواحي الشام، فكان فتح فلسطين والقدس من نصيب عمرو بن العاص وجيشه..
وزود الخليفةُ عَمْرًا بوصاياه، قال له: "إذا سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وشرحبيل، بل اسلك طريق إيلياء (القدس)، حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة، فإن كان ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال مَن في فلسطين، وإن كان يريد عسكرا فأنفذ إليه جيشا في أثر جيش..".
ولأداء هذا المهمة الصعبة، خرج عمرو من المدينة ومعه ثلاثة آلاف جندي، فيهم كثير من المهاجرين والأنصار، وظل أبو بكر يُتْبِعُه بالأمداد حتى بلغوا سبعة آلاف وخَمْسَمائة جندي. كما أمَّره الخليفة على من يتطوع معه من قبائل بَلِيّ وعُذرة وسائر قُضاعةَ وما جاورها. وسلك عمرو بجيشه طريق الساحل، مارا على أيْلةَ (أو العقبة)، فالبحر الميت.
والحقيقة أن استراتيجية القتال في الشام فرضت على المسلمين أن يجتمعوا لعدوهم عند حاجتهم إلى الاجتماع، كما جرى في اليرموك وفِحل وفتح دمشق، وانفرد كل قائد بالمهمة الخاصة به حين استغنى عن قوات زائدة على ما معه.








آخر مواضيعي 0 برنامج DuDu Recorder v4.90 الافظل في تسجيل المكالمات والملاحظات
0 كن بشرا وليس اشباه بشر
0 كيف تجعل عطرك يدوم طوال السهرة
0 ازياء رائعه وانيقة للمحجبات
0 فساتين قصيرة وناعمة للسهرة
رد مع اقتباس