الموضوع: تاريخ القدس
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-05-2010, 01:37 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
ملكة بإحساسي

الصورة الرمزية ملكة بإحساسي

إحصائية العضو








ملكة بإحساسي غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: تاريخ القدس

القدس تحت سلطة الإخشيديين:
بعد ضعف أمر الطولونيين، عيَّنَ الخليفة العباسيُّ "القاهرُ بالله" فارسًا وقائدًا يدعى محمد بن طغج واليًا على مصر والشام سنة ثلثمائة وسبع وعشرين للهجرة، وتلقب بـ "الإخشيد"، لكنه استقل بالمنطقة تحت سلطانه، وكون دولة يتوارث أبناؤه الملك فيها.
وكانت لهذه الدولة علاقة قوية بالقدس، تدل على مكانتها الخاصة في نفوس أمرائها، فقد سيطر محمد بن طُغج الإخشيد عليها وعلى جميع الشام سنة ثلثمائة وثلاثين للهجرة، وبعدها بأربع سنوات حضرته الوفاة في دمشق، فأوصى بأن يدفن في القدس، وقيل إنه توفي في القدس ودفن فيها أيضا.
وتتابع أمراء الإخشيديين بعد مؤسس الدولة، وكلهم يعشق تراب القدس، ويوصي عند حضور أجله بأن يدفن فيها، حدث ذلك مع أنوجور بن محمد الإخشيد سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وتكرر مع أبي الحسن بن محمد الإخشيد سنة أربع وخمسين وثلثمائة للهجرة، حيث دفن إلى جوار أبيه وأخيه في تراب بيت المقدس.
وجاء كافور الإخشيدي، وكان من رجال الدولة من خارج البيت الحاكم، فسيطر على شئونها، وخُطب له فوق منابر القدس ومصر والحجاز والشام والثغور، لكنه لم يلبث أن توفي هو الآخر سنة خمس وخمسين وثلثمائة، ودفن في ثرى بيت المقدس.
ويسجل التاريخ أن والي بيت المقدس أيام كافور، ويسمى محمد بن إسماعيل الصُّنْهَاجِيّ، خالف سنة المسلمين في معاملة أهل الكتاب، فأحرق أتباعُه كنيسة القيامة، حتى سقطت قبتها، ونهبوا "كنيسة صهيون" وأحرقوها، وكانت لليهود في ذلك يَدٌ، حتى هدموا وخربوا من ممتلكات النصارى في القدس أكثر مما فعل الوالي وأتباعه.
وبوفاة كافور انهارت الدولة التي لم تجد رجلاً قويًا من البيت الإخشيدي يضبط شئونها، فحل الفاطميون محلهم، وسيطروا على مصر والشام والحجاز.
القدس تحت سيطرة الفاطميين:
أُتيح للعديد من الاتجاهات الشيعية أن تقيم لنفسها دولا في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، كالزيدية في اليمن، والصفوية في إيران، والفاطمية في القاهرة .. إلا أن الأخيرة هي أشهر هذه الدول، وقد قامت على أشد المذاهب الشيعية تطرفًا، وهو المذهب الإسماعيليّ، وبدأت مسيرتها من المغرب، ثم زحفت شرقا حتى دخلت مصر والشام، وجنوبا حتى استولت على الحجاز واليمن..
وأُتيح للدولة الفاطمية أن تكون إحدى الدول التي عاشت القدس في كنفها زمنا، فاستولوا على المدينة المقدسة سنة ثلثمائة وتسع وخمسين للهجرة، وخُطب من فوق منابر القدس للخليفة الفاطمي دون خلفاء بني العباس القابعين في بغداد، وسعى الفاطميون إلى نشر دعوتهم وبث دُعاتهم في القدس، وأنشأوا دارا علمية لهذا الغرض، على شاكلة دار الحكمة التي شيدوها في قلب القاهرة؛ لنشر مذهب الدولة وتأصيله في مصر.
واهتم خلفاء الفاطميين بمتابعة إعمار المسجد الأقصى عند تعرضه للزلازل وما شابهها، كما كانت لهم سياسات متضاربة تجاه نصارى بيت المقدس ومقدساتهم.
وقد حفظ لنا التاريخ أوصافا ذات قيمة كبيرة لمدينة القدس في ظلال الحكم الفاطمي.
وبعد أكثر من قرن من التواجُد الفاطمي في القدس، جاءت الدولة السُّلْجُوقِيّة الفَتِيَّة سنة أربعمائة وثلاث وستين لتزيح الفاطميين عن المدينة المقدسة، حيث أُعيدت الخطبة فيها باسم الخليفة العباسي.
ودخل الفاطميون والسلاجقة في نزاع ساخن على القدس والمنطقة، مما أدى إلى إضعاف قوى الطرفين، ومُنع الحج المسيحي إلى القدس زمنا وهو الأمر الذي استغلته الدعاية الصليبية لشن الحرب على المنطقة.
وإذا كان الخليفة الفاطمي المستعلي قد أفلح في استرداد القدس من يد السلاجقة سنة أربعمائة وتسع وثمانين للهجرة، فإنها لم تمكث في يده طويلا، حيث سقطت أمام الإعصار الصليبي في شعبان من سنة أربعمائة واثنتين وتسعين، وخرجت لأول مرة من يد المسلمين منذ الفتح العمريّ لها.
موقف الفاطميين من نصارى القدس:
لم تكن أفعال الحاكم بأمر الله مصدر معاناة للمسلمين وحدهم، بل ألحقت أضرارًا كثيرة بأهل الذمة أيضًا، فهذا الحاكم المتناقض كان يتخذ القرارات الغريبة، ثم يُتبعها بما يناقضها، حتى لم تعد الرعية تدري ساعاتِ رضاه من ساعات غضبه!
تجرأ الحاكم وزاد، لأول مرة، على الوثيقة العمرية التي تضمنت شروط الصلح مع أهل بيت المقدس، وتعسف في هذه الزيادة، فاشترط على النصارى "تعليق الصلبان على صدورهم، وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال. وفي الحمّام يكون في عنق الواحد منهم ـ من اليهود والنصارى ـ قِرْبةٌ زنة خمسة أرطال، بأجراس، وألا يركبوا الخيل".
ولم يقف الحاكم عند هذا الحد من الاشتداد في معاملة أهل الذمة، فأمر في سنة ثلثمائة وثمان وتسعين بتخريب كنيسة القيامة، "وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة"، و "أرغمهم على لبس السواد، ومنعهم من الاحتفال بعيد الشعانين".
واستغل الحاكم الشروط الصعبة التي زادها على النصارى، فنُودي في القدس وغيرها من أنحاء الدولة: "من أحب الدخول في دين الإسلام دخل، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما شُرط عليهم".
وفي انقلاب مفاجئ التزم الحاكم جانب الرفق والمسامحة في معاملة نصارى بيت المقدس وغيرهم، ورفع ما زاده عليهم من شروط، وسمح لهم بتعمير كنيسة القيامة، بل قيل: إنه عمرها على نفقته الخاصة، وأَذِنَ لمن أسلم منهم مُكْرَهًا أن يعود إلى دينه إن شاء.
وقيل إن الحاكم ظل على اضطهاده لأهل الذمة، لم يخفف عنهم إلا قليلاً حتى هلك، فلما تولى ابنه الظاهر سنة إحدى عشرة وأربعمائة، سمح للناس بأن يرجعوا إلى عقائدهم، ويبنوا كنائسهم التي هدّمت.
كانت هذه هي سيرة الحاكم بأمر الله في نصارى الذمة ببيت المقدس، في حين كانت لأبيه العزيز بالله معهم سيرة أخرى، فقد صاهر بطريرك بيت المقدس، وأقام على فلسطين والقدس واليًا نصرانيًا، هو: أبو اليمن قزمان بن مينا الكاتب، الذي انقلب على الدولة، وهرب بمال كثير حين وقع القتال بين الفاطميين وجنود الشام.
ومما أصاب المسلمين في عهد الحاكم بن العزيز من أفعال غريبة، أنه فرض على الناس إذا ذكر الخطيب اسم الحاكم يوم الجمعة على المنبر، أن يقوموا صفوفًا إعظامًا لاسمه، وعمَّمَ ذلك في مملكته، حتى في الحرمين الشريفين وبيت المقدس.
وصف القدس في زمن الفاطميين:
بدت القدس الفاطمية في أعين الرحالة مدينة كبيرة، معتدلة الجو: ليست شديدة البرد، ولا شديدة الحر.. بناياتها من الحجر الجيد، قد أُتقن تشييدها إتقانًا، وامتاز عيشها بالطيب، وأهلها بالعفاف. وأرضها مبلَّطة بالحجارة، وحين ينزل المطر يغسلها غسلاً.
وماء بيت المقدس أعذب وأنقى من أي ماء آخر، إذْ يأتي من المطر مباشرة ومن العيون، وعلى بعد ثلاثة فراسخ من المدينة وضع صهريج كبير ينحدر إليه ماء المطر من الجبل ويتجمع فيه، وأوصلوا هذا الماء إلى المسجد الأقصى في قناة، وجعل الناس في بيوتهم أحواضًا لجمع ماء المطر لحاجاتهم ومعايشهم، وحتى حمَّامات المدينة نفسها، اعتمدت في مائها على هذا الماء الذي ينزل من السماء.
ومن العيون المقدسيّة التي تجود بالماء العذب، عينُ سلوان التي تنبع من الصخر، وقد أقيمت عندها في هذا الزمن بنايات كثيرة.
وكما في كل زمان، شغل المسجد الأقصى قطب الرحَى الذي تدور المدينة حوله، وقد اعتنوا بأن يكون لكل مَحِلَّة باب يؤدي بها إلى المسجد المبارك، فبلغ عدد الأبواب تسعة، مثل: باب النبي بالجدار الجنوبي بجوار القبلة، والباب الشرقي المسمى "باب العين" الذي يؤدي إلى منحدر فيه عين سلوان...
وبدا المسجد الأقصى وسط بنايات المدينة كبيرًا، وكثرت مشاهد الصالحين وقبورهم في المدينة المباركة، كما بدت سوق القدس نظيفة منظمة، تزاول فيها أعمال البيع والشراء بصورة حسنة.
وكان "في بيت المقدس حينئذ - مستشفي عظيم، عليه أوقاف طائلة، ويصرف لمرضاه العديد من العلاج والدواء، وبه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف".
وبالرغم من كثرة سكان المدينة في هذا الوقت، أكثر من عشرين ألفًا، فقد كانت مقصودة للزيارة من غير أهلها، وفيها الحاذقون من الأطباء، والمهرة من الصناع، الذين انفردت كل طائفة منهم بسوق خاصة بها.
لكن المدينة كانت لا تخلو من عيوب في عيون من رآها في هذا الزمن (القرن الرابع الهجري) ـ على عكس حالها في أغلب تاريخها الإسلامي ـ فحماماتها قذرة، وعلماؤها قليلون، وفقهاؤها مهجورون، يقل قاصدوهم من طلبة العلم، وأدباؤها لا يجدون من يشهد إبداعهم، والسلع غالية لما يفرَض عليها من الضرائب. كما أنه "ليس للمظلوم فيها أنصار"!
الاحتلال الصليبي لبيت المقدس:
في الوقت الذي جاء فيه الصليبيون إلى القدس، لم يكن ممنوعًا على أي مسيحي من أنحاء الدنيا أن يأتي إلى المدينة المقدسة ليحج إلى المواضع التي يقدسها، ككنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وكنيسة ستنا مريم، بل كان الطريق دائما مفتوحًا وميسرًا أمامه، سواء أتى من صقيع أوروبا أو من البلاد القريبة المحيطة ببيت المقدس.
وقد أتى بطرس الناسك من جنوب القارة الباردة البائسة حينئذٍ أوروبا، في هيئةٍ رَثَّةٍ، يركب حمارًا، مخترقًا الطريق نحو بيت المقدس، وهناك قضى مناسكه وأدى طقوسه الدينية، وكانت كنيسة القيامة التي خربها الحاكم قد أعيد إعمارُها، فزارها، ولكن قلبه بدلاً من أن يرجع شاكرًا لهؤلاء الذين أتاحوا له فرصة الحج إلى المواضع التي يقدسها، رجع بشيء آخر.
اغتاظ بطرس الناسك ـ وهو رجل دين مسيحي غربي ـ من وقوع كنائس المسيحية وأماكنها المقدسة تحت سيطرة المسيحيين العرب الذين يخالفونه في المذهب والنظرة إلى المسيح، وزاد من غيظه وحقده أنْ تقع مدينة بيت المقدس، مدينة المسيح، تحت سيطرة المسلمين الكفار ـ في رأيه!
وفي طريق العودة راح بطرس الراهب في نوبة من التفكير العميق، حتى شُغل عن رفاقه من الحجيج، وتقلبت في رأسه أفكار وأفكار، حتى قرر أنه لابد من السيطرة على بلد المسيح، وأفضل طريق إلى ذلك تحريض الكنيسة لأوروبا وملوكها على غزو الشرق الإسلامي، وهو التحريض الذي قام به البابا أوربان الثاني منطلقًا من فرنسا.
واستمعت أوروبا إلى خطاب البابا، وتردد صداه في كل أنحاء القارة، واجتمع له الملوك وأصحاب النفوذ، وأعدوا جحافل من القوات والمقاتلين، حتى هبطوا على بلاد الإسلام في الحملة الصليبية الأولى، التي نجحت في الاستيلاء على بيت المقدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأقامت إمارة بيت المقدس الصليبية.
وفشل المسلمون في صد العدو الزاحف من الغرب لأسباب عديدة، وجاءت الهزيمة نذيرًا شديدًا لهم، ولم يَطُل الزمن حتى تنبه أُولُو الغيرة والدين من المسلمين إلى خطورة الوضع، وسعوا إلى دحر الصليبية، واستخلاص بلاد المسلمين من بين أيديها.
تحريض الكنيسة للأوروبيين:
لم يكن يخفَى أن هنالك مضايقات تعرض لها حجاج المسيحية إلى بيت المقدس أثناء الصراع الساخن بين السلاجقة والفاطميين للسيطرة على بلاد الشام، حتى منع الحج المسيحي وتوقفت الزيارات فترة من الزمن ـ إلا أن الكنيسة البابوية في فرنسا بالغت في تضخيم هذه الحوادث الطارئة، وقامت بحملة شعواء تحرض فيها أوروبا على حرب الكفار من المسلمين!
ففي نوفمبر عام ألف وخمسة وتسعين للميلاد، وقف البابا أوربان الثاني في كاتدرائية مدينة "كليرمونت" جنوب فرنسا يخطب في جموع النصارى، يحرض أوروبا كلها ضد المسلمين فقال: "لقد دخلت الكلاب إلى الأماكن المقدسة، وجرى تدنيس المقدسات، وإذلال الناس عبدة الرب.. كما أن كنيسة القيامة تتحمل حكمهم، وقد دنستها قذارة الذين ليس لهم نصيب في القيامة..".
وزاد في دَغْدَغَة العواطف الملتهبة للجموع من حوله، وقال: "سلِّحُوا، أيها الإخوة، أنفسَكم بغيرة الرب، وشُدُّوا أحزمة سيوفكم على أوساطكم، أيها الجبارون .. فمِن الأفضل أن نستشهد من أن نرى مصائب قومنا ومصائب أقداسنا...".
ودعا البابا الجموع المنصتة إليه، في لحظة تاريخية خطيرة وفاصلة، إلى غزو الأرض التي تفيض "لبنًا وعسلاً" حتى تقوى عزيمة الجميع في طلب الدنيا، إن لم تكن لديهم عزيمة لخدمة دينهم!
وقال بطرس الناسك: "إني نظرت قبر المسيح محتَقَرًا مُهانًا، وزوَّارُه مضطهدون"، فنادى الحاضرون بالحرب قائلين: "الله يريد ذلك"!
وراح أتباع البابا ينتشرون في الشارع الأوروبي، يدعون الناس في خطاب مثير إلى إنقاذ الأرض المقدسة، واسترجاعها من يد المسلمين الذين اغتصبوها، وأهانوا ما فيها من المقدسات ـ كما أشاعوا…
وسار هذا الخطاب الدعائي، الذي لم يهتم بالتزام الحقيقة، في أنحاء أوروبا، ووصلت مخاطبات البابا للملوك والأمراء في أوروبا تحرضهم على الخروج مع الجموع الذاهبة لتخليص "بلد المسيح" ! فقد كانت القدس ـ كما بدا ـ هي مقصدهم وهدفهم، لكن لعابهم سال للخيرات التي تمتلئ بها مدن الشام المحيطةُ ببيت المقدس، فاحتلوا العديد منها أيضًا، وبدا أن وراء الحرب أهدافا أخرى خفية.
دوافع الحروب الصليبية:
في دعوتها لشن الحروب الصليبية، نجحت البابوية في تصويرها على أنها حرب مقدسة، لتخليص بلد المسيح من يد "الهمج" المسلمين، وركَّز الخطاب البابوي على ذلك، مستغلاً العاطفة الدينية لدى نصارى الصقيع الأوروبي.
لقد بدا الدين دافعًا ظاهريًا لشن "حرب (أوروبية) مقدسة" ضد المسلمين، أخذت اسمها عند الأوروبيين أنفسهم من أحد الرموز الكبرى في العقيدة النصرانية في الشرق والغرب، وهو الصليب.
لكن كان هذا هو الدافع الظاهر فقط، وإن كان له تأثير ضخم في إشعال حماس العامة الذين دُعوا إلى الخروج للحرب في الشرق.
أما الدوافع الحقيقية والعميقة لشن الحروب الصليبية، فهي:
ـ توسيع سلطة البابا بالسيطرة على الأماكن المسيحية المقدسة في الشرق، وإلغاءِ السيطرة المسيحية الأرثوذكسية هناك، ونجدة البيزنطيين الذين تعرضوا لانكسارات وهزائم متعددة أمام السلاجقة، وهو أمر يتيح للبابا قيادة الكنيسة المسيحية في كل مكان، حتى في الدولة البيزنطية.
ـ شَغْلُ الأمراء والإقطاعيين الأوروبيين بالحرب في الشرق، بدلاً من التقاتل الداخلي فيما بينهم.
ـ الانتفاع بما في الشرق من ثراء لإنعاش الحياة الأوروبية، فالبلاد التي يتوجه إليها الغزاة الصليبيون تفيض "لبنًا وعسلاً"!
الحملة الصليبية الأولى:
ما لبثت الدعاية البابوية لشن حرب شرسة في الشرق، أن آتت أكلها، على مستوى الأمراء وعلى مستوى الجماهير، واتفقوا على الالتقاء والتجمع في نقطة من الشرق الأوروبي على شواطئ بحر مرمرة وهي القسطنطينية.
وخرجت الجموع عشرات الآلاف، من فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وبولنده، يقودهم الرهبان، وأمراء الإقطاعات والممالك الأوروبية، وتقدم الجميع وسبقهم في طريق البر الراهب بطرس الناسك، يلبس ثيابًا مهلهلة، ويسير حافي القدمين، ممسكًا بالإنجيل والصليب، وحوله حشود كبيرة من الناس، فيهم الرجال والنساء والأطفال ـ خرج بهم من ألمانيا في مايو عام ألف وستة وتسعين للميلاد (أربعمائة وتسعين للهجرة).
ولم يَبْدُ على بطرس ومن معه أنهم يصلحون لخوض حرب ضد المسلمين، فما هم إلا رعاع وغوغاء دفعتهم الحماسة الكاذبة إلى ما لا يطيقون، بل هم ـ على حد تعبير المؤرخين الغربيين: "جماعات من الأفاقين لا يَستحقون مشاهدةَ قبر المسيح"!
وعبروا المجر وبلاد البلقان صوب القسطنطينية، فنهبوا البلاد والقرى، ونال القسطنطينيةَ منهم شرٌّ كثير، "فأحرقوا القصور، ونهبوا الكنائس". فبعث الإمبراطور البيزنطي إلى البابا قائلاً: "إن كنتم تريدون حقًا الوصولَ إلى بيت المقدس، فابعثوا جيوشًا منظمة وفرسانًا مدربين".
ومن هنا بدأ الأمراء الأوروبيون يحشدون قواتهم وجيوشهم المنظمة للذهاب إلى الشرق، ودخول بيت المقدس. وتتابعت الحشود في هذه الحملة الصليبية الأولى، تسلك نحو بيت المقدس طريق البحر وطريق البر من وسط أوروبا وسهول إيطاليا الجنوبية، وأحلام النصر تداعب خيالات الجميع، والجنة التي حدثوهم عنها في بلد المسيح وما فيها من "العسل واللبن" تتراءى لخيالاتهم، وتختلف صورتها الخيالية من شخص إلى آخر!!
ومن أمراء أوروبا الذين شاركوا في هذه الحملة: الدوق جود فري دي بويُّون أمير اللورين السفلى، وأخوه اللورد بولدوين، واللورد بوهيمُوند أمير تورنتو في جنوب إيطاليا، وريموند أمير تولوز، وروبورت أمير نورماندي، وغيرهم.
وبدلاً من اللقاء في القسطنطينية، التقت الجيوش الصليبية عند نيقية، التي استولوا عليها في يونيه سنة ألف وسبع وتسعين للميلاد، بعد حصار دام شهرًا.
وتساقطت المدن في يد الحملة الصليبية الأولى الواحدة تلو الأخرى، حيث سيطروا على مدن كثيرة قبل احتلالهم القدس وبعده، وهي: الرها وأنطاكية (التي خرجت جماعات من مسلمي القدس ودمشق وحلب لإنقاذها) ومعرة النعمان وانطرطوس وطرابلس وبيروت وصيدا وعكا وحيفا وقيسارية والرملة. وفي السابع من يونيه سنة ألف وتسع وتسعين وصلوا إلى أسوار القدس، التي دخلوها بعد حوالي أربعين يومًا من الحصار.
سقوط القدس في يد الصليبيين:
"اللهُ يريد ذلك.. الله يريد ذلك"، هكذا انطلقت الصرخات من أفواه جموع كبيرة، شُقْرِ الشَّعْر زُرْقِ العيون، يضعون على الكتف الأيمن أو الكتفين صليبًا من قماش أحمر، وهم أهل الحملة الصليبية الأولى، ويقصدون بصُراخهم أن الله يريد حرب المسلمين!
وهاهم في شهر رجب الفرد من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة، يقفون عند أسوار مدينة القدس المباركة في حر يونيو المرتفع، ولُعابهم الجاف يسيل لدخولها! وعلى المدينة أمير من قِبَلِ الفاطميين (افتخار الدولة) في مدينة حصينة، بصحبته أربعون ألف مقاتل، توافد أكثرهم على المدينة من خارجها.
بدأ "افتخار الدولة" أعماله الدفاعية مع اقتراب الزحف الصليبي، فردم العيون والآبار الواقعة خارج المدينة، ليمنع الصليبيين من التزود من مائها، وحشد الجنود في مداخل المدينة الخطرة، ووضع الحراسة على الحصون والأبراج، ليراقبوا أعمال الصليبيين لمواجهتها بسرعة، كما أعد الكمائن التي تتصيد المنفردين من الصليبيين عن جماعتهم بحثًا عن الماء، أو بحثًا عن فرصة لاقتحام الحصون المقدسية.
ودعم افتخار الدولة أبراج المدينة بأكياس من القطن والخرق البالية، لتمتص عن الحصون صدمة الأحجار التي تقذفها المجانيق الصليبية.
وحولَ الأسوار وزّع الصليبيون قواتهم في الجهات التي يمكن اقتحام المدينة منها، خاصة في الشمال والشمال الغربي، لكن حرارة الصيف في عام تسعة وتسعين وألف كانت سيدة الموقف، وصاحبة التأثير الكبير في سير المعركة، حيث عجز الصليبيُّ الأوروبيُّ عن الصبر على حرارة الشمس التي لم يكن له بها عهد، والعطش الشديد المصاحب لها. "ومما زاد في قلق الصليبيين أن المُؤَنَ بدأت تنفد في المعسكرات، دون أن تتمكن قيادتهم من تأمين ما يمكن أن يسد حاجتهم لأمد طويل".
لم يكن أمام الصليبين حل إزاء هذا الوضع سوى المبادرة بالهجوم، فاندفعوا في ضراوة هائلة لاقتحام أسوار القدس المباركة، وبدأ القتال عند فجر اليوم السادس للحصار، والمسلمون صابرون يدفعون عدوهم بكل ما يملكون من القوة، ومع أن الصليبيين لم يستطيعوا اقتحام المدينة إلا أنهم سيطروا على سورها الشمالي من الخارج، وافتقروا إلى أدوات تسلق الأسوار فرجعوا إلى مواقعهم ليستعدوا لهجوم جديد.
قضى الصليبيون قرابة شهر في الاستعداد للهجوم الحاسم، ومقاومة الانخفاض في معنويات جنودهم، الذين أرهقهم القتال والحر الشديد، وقرروا الهجوم من نقطة صعبة من المدينة، إلا أنها أقل تحصينًا، وهو الجانب الشمالي الشرقي من سور القدس، من باب دمشق غرباً، حتى باب الساهرة، فباب يهوشافاط شرقًا.
وركّز المهاجمون القتال على محورَيْنِ: أحدهما من باب الساهرة باتجاه الحرم القدسي الشريف، والآخر من جبل صهيون باتجاه حصن داود. واستطاع المقاتلون على المحور الأول بقيادة جودفري دي بويون اقتحام سور القدس عن طريق برج متحرك، قربوه من السور، ثم قفزوا متتابعين من فوقه إلى داخل المدينة، وهناك ارتكبوا مذبحة رهيبة في المسجد الأقصى، ثم فتحوا باب العمود أمام بقية قواتهم، وواصلوا أعمالهم البشعة في المدينة.
وأما المحور الثاني، فقد لقي الصليبيون فيه مقاومة أشد بقيادة حاكم المدينة "افتخار الدولة"، لكن نجاح أعمال المحور الأول حطم هذه المقاومة، فسقطت المدينة المقدسة كلها في يد الصليبيين في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، الخامس عشر من يوليو سنة تسع وتسعين وألف. وعملوا منذ اللحظة الأولى للاحتلال على صبغ المدينة بصبغتهم.
وكان سقوط القدس صدمة كبيرة في العالم الإسلامي، ووقفت وراء الهزيمة أسباب عديدة.







آخر مواضيعي 0 برنامج DuDu Recorder v4.90 الافظل في تسجيل المكالمات والملاحظات
0 كن بشرا وليس اشباه بشر
0 كيف تجعل عطرك يدوم طوال السهرة
0 ازياء رائعه وانيقة للمحجبات
0 فساتين قصيرة وناعمة للسهرة
رد مع اقتباس