الموضوع: تاريخ القدس
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-05-2010, 01:40 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
ملكة بإحساسي

الصورة الرمزية ملكة بإحساسي

إحصائية العضو








ملكة بإحساسي غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: تاريخ القدس

تحصينات القدس قبل السقوط:
كانت القدس "من أضخم المعاقل والحصون في عالم العصور الوسطى"، وقد اهتم كل من ملكها منذ القدم بتحصينها وتقوية أسوارها، لحمايتها، ودفع طمع الطامعين عنها، وقد كان هذا سلاحًا مهمًا في يد المسلمين عند الزحف الصليبي على المدينة المقدسة.
ظهر أنه ليس في استطاعة الصليبيين حصار المدينة أو دخولها، إلا من جهتها الشمالية أو زاويتها الشمالية الغربية، وأما باقي الجهات فبها مجموعة من الأودية الصعبة التي تستعصي على العبور، إذ يلف القدس من الشرق والجنوب الشرقي وادي قدرون أو وادي جهنم، ومن الجنوب وادي الربابة، ومن الغرب يلفها وادي تيروبيون.
وإضافة إلى هذه التحصينات الطبيعية، فقد قام في منتصف السور الغربي من المدينة ـ الذي يسيطر على جزء كبير من محيط المدينة ـ حصنُ داود المنيع. وكذلك الخنادق المحفورة خارج سور المدينة في الشمال والشمالين الشرقي والغربي.
وأما ماء المدينة، فقد كان من المطر، لذا كثرت في القدس الصهاريج التي يُجمَع فيها هذا الماء، وخُزِّن الكثير منه عندما علم المسلمون بقدوم الصليبيين، استعدادًا لمقاومة حصار صليبي يُتوقع أن يطول.
التواجد البشري في القدس قبل سقوطها:
هبط الصليبيون على أسوار القدس، والمسلمون فيها ستون ألفًا، أبوا أن يتركوا المدينة فريسة بين يدي الصليبيين بالرغم مما بلغهم عن الفظائع التي ارتكبوها في زحفهم على الشرق الإسلامي.
بلغ تعداد سكان المدينة قبيل الاحتلال عشرين ألفًا، معهم حامية من الجنود تقدر بألف مقاتل، ويقودها الأمير الفاطمي "افتخار الدولة"، فلما أخذ الخطر يقترب من بيت المقدس، استيقظ الكثير من المسلمين في المدن والحصون القريبة منها، فتوافدوا نحو المدينة لحمايتها في أعداد كبيرة، حتى بلغوا أربعين ألفًا.
وقد كانت الروح المعنوية للمسلمين في المدينة يشوبها شيء من التوتر، خاصة مع الانتصارات والمذابح الصليبية المتكررة في مدن مجاورة. غير أن الجموع المسلمة في المدينة فضلت الصمود على النجاة الذليلة بالأرواح، بل وفد الكثير من المجاهدين إلى القدس ليقدموا بين يدي الله أعذارهم!
وأما المسيحيون من أهل القدس، فلم يفرض "افتخار الدولة" عليهم قتال أهل ملتهم، فخرجوا من المدينة، وجنوا هم أيضا من ثمار الاحتلال الصليبي المرة!
الاقتحام الوحشي للقدس:
"كان من المستحيل أن يطالع المرء كثرة القتلى دون أن يستولي عليه الفزع، فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطت الأرض دماء المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث ـ وقد فارقتها رءوسها ـ ورؤية الأعضاء المبتورة المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعب في نفوس جميع من شاهدوها، بل كان هناك ما هو أبعث على الفزع، ألا وهو منظر المنتصرين أنفسهم وقد تخضبوا بالدماء فغطتهم من رؤوسهم إلى أخْمَصِ أقدامهم، فكان منظرًا مروِّعًا بث الرعب في قلوب كل من قابلوهم، ويقال إنه قتل في داخل ساحة المسجد وحدها عشرة آلاف من المارقين (يقصد المسلمين!)، بالإضافة إلى أن القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل شوارع المدينة وميادينها لم يكونوا أقل عددًا ممن ذكرناهم".
"انطلق بقية العسكر يَجُوسُونَ خلالَ الديار بحثا عمن لازال حيًّا من التعساء الذين قد يكونون مختَفِينَ في الأزقّة والدروب الجانبية فرارًا من الموت، فكانوا إذا عثروا عليهم سحبوهم على مشهد من الناس، وذبحوهم ذبح الشياه. وجعل بعض العسكر من أنفسهم عصابات انطلقت تسطو على البيوت ممسكين بأصحابها ونسائهم وأطفالهم، وأخذوا كل ما عندهم ثم راحوا يقتلون البعض بالسيف، ويقذفون بالبعض الآخر من الأمكنة العالية إلى الأرض فتتهشم أعضاؤهم، ويهلكون هلاكًا مروعًا"!
هكذا وصف وليم الصوري ـ الأسقف والمؤرخ الصليبي ـ بعض آثار قومه في القدس أثناء اقتحامهم لها. . لم يكن هنالك فرق كبير بين اقتحام البابليين والرومان الوثنيين للقدس وبين اقتحام الصليبيين لها، سوى أن الأخيرين ينسبون أنفسهم إلى ديانة سماوية، وإلى رسول كريم عاش حياته رفيقًا رقيقًا زاهدًا، وهو عيسى ـ عليه السلام.
فبينما كان الصليب هو الرمز والخلفية التي تدير الحدث، كانت أرض القدس ملونة بحمرة الدم القانية، وأشلاءُ المسلمين وأعضاؤهم المقطعة في كل مكان تشبه لوحة سريالية رسمتها وحوش البرّية!
نجح الصليبيون في اقتحام أسوار المدينة قبل شهر رمضان من سنة اثنين وتسعين وأربعمائة بأسبوع واحد، وسقطت المقاومة الإسلامية أمامهم، وانتهى المسلمون عن القتال، بل فروا من أمام عدوهم فرارًا تعيسًا. ولم يكن نبل الخلق هو الذي يحرك المنتصر الجديد، ففعلوا في المدينة الأفاعيل، حتى قتلوا المسلمين في المسجد الأقصى، وأحْرَقُوا اليهود في داخل معبدهم.
ويكفي أن المدينة خلت تمامًا من المسلمين واليهود عقب دخول الصليبيين لها، ولم ينج من المسلمين سوى أمير القدس الفاطمي "افتخارالدولة" في بعض جنوده، حيث انضم بهم إلى جموع المسلمين المقاتلين في عسقلان.
وبكت المدينة المباركة دما لقسوة الغزاة، وشوقا إلى أيام عمر بن الخطاب فيها وفتح عمر لها!!
القوات الصليبية المهاجمة للقدس:
قبل حلول فصل الصيف من سنة ألف وتسع وتسعين كانت الحملة الصليبية الأولى قد حققت كثيرًا من أحلامها باستيلائها على نيقية وأنطاكية والرها وغيرها، إلا أنها لم تكن قد وصلت إلى هدفها الأول، وهو بيت المقدس، بالرغم من مرور أكثر من سنتين على بداية الحملة.
وقد شكل الصليبيون جيشًا قويًّا منهم، يتولى مهمة الاستيلاء على القدس، تعداده أربعون ألف مقاتل، من أعمار مختلفة ذكورًا وإناثًا، يقود جزءًا منه أمير النورماندي، ويقود الجزء الآخر أمير الفلاندر، ثم جودفري دي بويون أمير اللورين، ثم قوات تانكرد ابن أخت بوهيموند أمير تورنتو، وأخيرًا ريموند دي سان جيل أمير تولوز.
وكان هؤلاء القادة بقواتهم هم الذين نالوا شرف ذبح المدينة المباركة وأهلها!! فتوزعت القوات لتخنق المدينة من الجوانب الممكنة منها، وضربوا الحصار حولها، فتمركزت قوة في الجهة الشمالية ناحية باب الساهرة، وقوة في الشمال الغربي جهة باب العمود أو باب دمشق، وأخرى في الشمال الغربي أيضا عند زاوية المدينة الشمالية الغربية، وقوة رابعة في الغرب عند باب يافا أو باب الخليل، وفي الجنوب تمركزت قوة أخرى على جبل صهيون وتجاه باب النبي داود.
وقد كانت الروح المعنوية للقوات الصليبية عالية، فقد حققوا انتصارات متتالية، انتزعوا فيها من المسلمين مجموعة من المدن المهمة، كما قوَّى الروح المعنوية للحملة الصليبية أنهم على مقربة من بيت المقدس، المدينة التي أحبوها لدرجة الهوس.
أسباب هزيمة المسلمين أمام الصليبيين:
كان سقوط معرة النعمان وطرابلس وأنطاكية وغيرها في يد الصليبيين نذيرًا كافيًا للمسلمين ليقوموا من رقدتهم، ويَحْمُوا القدس بل يحموا ذاتهم من المَحْوِ والسقوط تحت أقدام الغزاة القادمين من الغرب، لكن يبدو أن النوم كان أثقل من ذلك!!
وسقطت القدس بعد أخواتها مباشرة، في شعبان من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، لتكشف عن الأدواء القاتلة التي أصابت الجسد المسلم، وأدت إلى الهزيمة المريرة!
لقد حكمت المطامع الشخصية كثيرًا من تصرفات المسلمين حينئذ، وبدا رباط العقيدة واهيًا ضعيفًا، ووهنت صلة الناس بربهم، فصارت الدنيا عندهم ـ إلا من رحم الله ـ هدفًا وغاية، يسعون للوصول إليه ولو ولغوا في دماء إخوانهم!
وبدت الفرقة والتنازع لونًا لأغلب جوانب حياة المسلمين في الجيل الذي تلقى الصدمة الصليبية الأولى، ليس على مستوى الحكام وحدهم، ولكن على مستوى الأمة أيضًا، فما أكثر ما قال المؤرخون عن سنوات هذه الفترة: "فيها وقعت فتنة بين السُّنَّة والروافض (الشيعة)، فأحرقت محالُّ كثيرة، وقتل ناس كثير، وإنا لله وإنا إليه راجعون"!!
وفي القدس نفسها ـ كما يقول ابن المدينة الرحالةُ المقدسيّ ـ لم يكن "للمظلوم أنصار، والمستورُ مهموم، والغني محسود، والفقيه مهجور، والأديب غير مشهود، لا مجلس نظر ولا تدريس، وقد غلب عليها النصارى واليهود، وخلا المسجد من الجماعات والمجالس".
هكذا بدت البنية العميقة للمجتمع المسلم قابلةً للهزيمة بسهولة، وساعدها على ذلك مناخ الفرقة والتنازع العام، فالخلافة العباسية عاجزة عن تجميع المسلمين تحت لوائها، والسلاجقة الذين حاولوا القيام بهذه المهمة انشغلوا بالصراع مع الفاطميين في الشام وحول القدس نفسها، دون أن يتمكن أي من الفريقين من تحقيق نصر حاسم. والخلافة الفاطمية كانت في مرحلة الاحتضار، خاصة بعد سلسلة المجاعات والكوارث التي حلت بمصر في عهد المستنصر بالله الفاطمي.
وحل بالمسلمين ارتباك وفقدان للأمن في أنحاء دولتهم الكبيرة بسبب النزاع المستشري بين ملوكهم، ووصل أثر ذلك إلى أقدس رحلة للمسلمين، وهي رحلة الحج، فقبل سقوط القدس في يد الصليبيين بخمس سنوات فقط "لم يحج أحد لاختلاف السلاطين"، وفي العام التالي "لم يحج أحد من أهل العراق"!!
القدس مدينة صليبية:
في نشوة الانتصار واحتلال القدس، شرب الصليبيون خمور النصر، وسط أشلاء القتلى المسلمين وفي برك الدماء القانية، وقد بدت هيئات الصليبيين مرعبة من دم الضحايا الذي أصاب ملابسهم وأسلحتهم. وكان ذلك ردا عجيبا على سماحة الفتح الإسلامي وإنسانية الفاتحين المسلمين!!
وبعد شيء من الاستراحة، بَدَا للصليبيين أنهم حققوا هدفَهم الأكبر بالاستيلاء على القدس، فأخذوا في التقسيم الإداري للأرض الإسلامية التي سيطروا عليها، وأنشأوا إمارة صليبية في الرُّها، وأخرى في أنطاكية، وثالثة في طرابلس. أما القدس فقد أقاموا فيها مملكة لاتينية تُحاكي الممالك القائمة على البر الأوروبي، امتدت من لبنان حتى صحراء النقب والبحر الأحمر، وأميرها هو جودفري دي بويون، الذي تَوَّجُوهُ في كنيسة القيامة، ولما توفي فيما بعد دفنوه فيها.
لقد مكث الصليبيون في بيت المقدس حوالي تسعين عامًا قبل تحرير صلاح الدين لها، فعملوا طوال هذه الفترة على صبغ المدينة بصبغتهم النصرانية اللاتينية، فقام النظام الإداري على الإقطاع الغربي، مختلطًا بمزيج من العسكرية والكنائسية، واتسع سلطان الإقطاعيين، حتى تجاوزت سلطاتهم واستقلاليتهم المَلِكَ المتوج منهم، ودخل بعض هؤلاء في حروب ضد بعضهم الآخر.
وكانت القوات الصليبية في القدس أثناء الاحتلال موزعة إلى فرقتين: إحداهما سماها المسلمون "بالداوية" ومهمتها قتال المسلمين، وأما الفرقة الأخرى فهي "الاسبتارية"، وكانت مهمتها في البدء هي العناية بالحجاج والمرضى المسيحيين، ثم تحولوا إلى القتال بجانب "الداوية" واتخذت الفرقتان من المسجد الأقصى مقرًا لأعمالهما ومستودعًا لأسلحتهما، وفقد صفته كمسجد.
وعمل الصليبيون طَوَال تواجدِهم في القدس على تنصيرها، فعمدوا إلى المسجد الأقصى وحولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، ووضعوا الصليب فوقها، كما أنشأوا كنيسة القديسة حنة بين باب الأسباط وباب حطة، وكنيسة القديسة مريم الكبرى، وكنيسة القديسة مريم اللاتينية عند مدخل سوق الدباغة، وكنيسة الداوية جنوب كنيسة القيامة، وجمعوا أجزاء كنيسة القيامة تحت سقف واحد، وبنوا الكنيسة المعروفة الآن بنصف الدنيا. ولا يزال أكثر هذه الكنائس قائمًا إلى الآن، شاهدًا على التسامح الإسلامي العظيم، ذلكم النهج الذي لا علاقة له بالهمجية، ولا صلة له بالسلب والنهب ولا التدمير والهدم!
وإمعانًا في تنصير الصليبيين للقدس، فإن البقية الباقية من المساجد التي لم تُحوَّل كنائس "هُدِّمت لتفسح مكانًا لأبنية مستحدثة حلت محلها" ـ كما يقول أحد الأساقفة.
كما وسع الصليبيون من المستشفى الذي شيده الفاطميون من قبل، وشيدوا نُزُلاً بجوار هذا المستشفى.
ردود الفعل الإسلامية على سقوط القدس في يد الصليبيين:
كأنهم كانوا في حلم، فإذا بهم في يقظة تامة، وأمام واقع مر تمامًا !! لقد سقطت القدس في يد الصليبيين، وأضحى المسلمون في دهشة عارمة، وحزن غامر، ماذا يصنعون، وقد تلطخت صفحتهم بعار تضييع القدس التي تسلمها عمر بن الخطاب من يد أهلها قبل ذلك بأكثر من ثلاثمائة وست وسبعين سنة؟!
أما الخليفة العباسي المستظهر بالله ـ ابن الحادية والعشرين ـ فرأى الناس يفرون مذعورين من الشام أمام الأعمال الوحشية للصليبيين، طالبين الغوث من الخليفة ومن الملك السلجوقي، فحاول المستظهر أن يفعل شيئًا، وشجع الفقهاء ليخرجوا محرِّضين لملوك المسلمين على الجهاد، فخرج أعيان الفقهاء في الناس، فلم يفد ذلك شيئًا"!
إلا أن أجواء الفشل في العالم الإسلامي لم تطل، إذ خرج الأمل من رحم الظلام الحالك، فجاءت جهود الزنكيين كالإعصار الذي لم يدع للصليبيين فرصة يهنأون فيها بانتصاراتهم.
جهود الأسرة الزنكية في مقاومة الصليبيين:
منذ وطئت أقدام الصليبيين أرض المسلمين والمقاومة لم تنقطع، حتى رحلوا عن بلاد الإسلام نهائيًا في عهد سلاطين المماليك، وقد اشتدت المقاومة خاصة عقب السيطرة الصليبية على القدس، حتى من جانب الفاطميين، الذين حشدوا جيوشهم عدة مرات، وهاجموا الصليبيين، إلا أن الجهود الفاطمية فشلت دائمًا.
أما السلاجقة فقد كان من نصيب بعض الأمراء الأتابكة التابعين لهم أن نظموا لأول مرة المواجهات الحربية مع الصليبيين، حتى كان ذلك انطلاقة حقيقية نحوالتحرير الإسلامي الذي لا يقف عند بيت المقدس، ولكن يشمل كل شبر محتل من الأرض الإسلامية.
بدأ الأتابك آق سنقر البرسقيُّ أمير الموصل العمل المنظم المثمر في مواجهة الصليبية في بلاد الإسلام، فاعتنى بتجميع القوى الإسلامية عند مواجهة العدو الشرس، واستطاع أن يوحد الموصل وحلب، وضمن ولاء أمير دمشق له، وقد كانت حلب محصورة قبل ذلك من الصليبيين ومهددة بالاجتياح، فخلصها الأمير المجاهد سنة تسع عشرة وخمسمائة، وعزز قوة المسلمين فيها.
كانت هذه خطوة مهمة مهَّدت الطريق أمام عماد الدين زنكي بن آقسنقر الحاجب، ليواصل طريق المواجهة على أساس واضح، وهو توحيد القوى الإسلامية، ومحاربة الشتات الداخلي قبل البروز للعدو، واستطاع بذلك أن يقطع شوطًا طويلاً في الطريق نحو بيت المقدس، حين أسقط الإمارة الصليبية العنيدة "الرها" سنة خمسمائة وتسع وثلاثين للهجرة، وأضعف كثيرًا من قوة الصليبيين التي كانت تزداد تضخمًا مع الزمن، كما قطع خطر هذه الإمارة القريبة من دار الخلافة بغداد، ومن أملاك عماد الدين في شمال الجزيرة وحلب.
وجاء نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي مواصلاً طريق والده الشهيد، وكان الهدف البعيد الذي يخطط للوصول إليه هو بيت المقدس، التي صمم لها منبرًا نادرًا من خشب الأبنوس، ليوضع في مسجدها عند التحرير. وكان "يرسل الفدائيين إلى بيت المقدس، ليجوسوا خلال الديار، ويأتوه بالأخبار".
وإذا كان أمل نور الدين في الوصول إلى القدس لم يتحقق، فإنه قطع شوطًا أطول من أبيه عماد الدين، في الطريق إلى بيت المقدس، وذلك أنه قوَّى الجبهة الإسلامية بضم دمشق إليه سنة خمسمائة وتسع وأربعين، ومصر سنة خمسمائة وأربع وستين، كما قضى على جزء كبير من الحملة الصليبية الثانية، واسترد الرها بعد أن استولى عليها الصليبيون عند وفاة أبيه، وكسر أمراؤه الصليبيين الفرنج في مصر، حتى يئسوا من الاستيلاء عليها، واستعاد من الفرنج أكثر من خمسين مدينة.
وظل نور الدين يجاهد العدو، ويقوي جبهة المسلمين، ويعالج الأدواء الداخلية، حتى توفي سنة تسع وستين وخمسمائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وكان صلاح الدين واحدًا من أمراء الدولة الزنكية قصيرة العمر، واصل الجهاد بعد نور الدين محمود، حتى التقط الدرة المقدسة، وحرر مدينة بيت المقدس من أنياب الصليبية.
صلاح الدين الأيوبي والقدس:
لم يكن صلاح الدين يوسف بن أيوب قد ولد حين وقعت المأساة، واحتل الصليبيون القدس، غير أنه فتح عينيه على الحياة سنة خمسمائة واثنتين وثلاثين، وهناك صراعٌ مريرٌ يدور بين المسلمين والصليبيين، وحين بلغ السابعة كان عماد الدين زنكي يدمر مملكة الرها، ويخرج الصليبيين منها، وحين بلغ السابعة عشرة، كان نور الدين محمود يسعى حثيثًا إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، ويضم إليه دمشق، بعد أن خيب أمل الصليبيين في الاستيلاء عليها.
بدأ صلاح الدين يظهر على ساحة الحياة الإسلامية شيئا فشيئا، في جو من التواجد الكثيف لأبيه أيوب وعمه أسد الدين شيركوه بالقرب من عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود المجاهدَيْن الكبيرين.
وفي حياة نور الدين وحكمه بدأ دور صلاح الدين، حيث صحب جيش عمه أسد الدين شيركوه لضم مصر إلى دولة نور الدين، وهي المهمة التي نجحت سنة خمسمائة وأربع وستين للهجرة، فأصبح للدولة الفتية جناحان من القوة: مصر والشام، استطاعت فيما بعد أن تطوق بهما الوجود الصليبي في الشام، حتى تلاشى تمامًا أيام المماليك.
وبوفاة نور الدين محمود سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة، أصبح صلاح الدين الأيوبي الأمير الأقوى في الدولة، فأخذ يطبق استراتيجيته لمواجهة الصليبيين، وعينُه على بيت المقدس، واصطدم بالصليبيين في معركة كبرى في حطين سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، فسهَّلت له بانتصارها الكبير الطريق إلى بيت المقدس، وسار صلاح الدين بقواته إلى المدينة المباركة، وافتتحها في السابع والعشرين من شهر رجب من نفس العام، بعد غربة دامت حوالي تسعين عامًا.
إعداد صلاح الدين للمواجهة مع الصليبيين:
كانت القدس عند صلاح الدين يوسف بن أيوب هي قلب المعركة في الصراع مع الصليبيين، وكان لابد من الإعداد والاستعداد الطويل لها، فالطريق إلى تحرير القدس ـ كما رآها ـ مملوءة بالصعوبات...
وإذا كان فتح القدس قد استغرق بضعة عشر يومًا، فإن الإعداد له استغرق حياة جيلين، منذ قام عماد الدين زنكي يقاتل الصليبيين وعينه على المدينة المقدسة.
وقد كان لازمًا لصلاح الدين، وهو يُعِدُّ أمته للمواجهة الشرسة مع الصليبية، أن يهتم بإصلاح جبهته الداخلية، لأن العدو إذا خرج من الداخل كان أشد خطورة، كما أن الجبهة المهلهلة المتفرقة لا تصبر في وجه عدو، فاتخذ ثلاثة إجراءات كبيرة هي:
ـ الإصلاح العقائدي بإلغاء الدولة الفاطمية ودعوتها.
ـ ثم مقاومة الفتن الداخلية.
ـ ثم توحيد ما استطاع توحيده من البلاد الإسلامية.
كما اتبع صلاح الدين سياسة عمرانية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى خدمة سعيه نحو تحرير العالم الإسلامي، وإخراجه من ورطته الحضارية، التي كانت الهزيمة والتراجع أمام الصليبيين نتيجة من نتائجها.
واحتاج تنفيذ هذا كله من صلاح الدين أن يخوض معارك شديدة الخطورة، فلقي مقاومات عنيفة، لكنها فشلت في أن تحول دون التغييرات التي سعى إليها.
الإصلاح العقائدي:
لكي يؤتي الإصلاح نتيجته المنتظرة منه، كان لابد أن يمس النفس من الداخل، وأن يُصْلِح العِوَج الذي أصابها، فالدولة الفاطمية الإسماعيلية التي مكثت تحكم من القاهرة جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي لأكثر من قرنين، رسَّخت بعض المبادئ التي لا تتفق ونقاءَ العقيدة الإسلامية، كالعصمة الممنوحة للخليفة ـ والتي تجعل قراراته بعيدة عن المناقشة أو المخالفة، مهما بدت منافيةً لنصوص الدين وروحه ـ والتأويلِ الباطني للقرآن.
وقد اهتم الفاطميون اهتمامًا بالغًا بتوصيل مبادئهم وأفكارهم وترسيخها في البيئة الإسلامية، فبثوا الدعاة، وبنوا المساجد، وأقاموا دور العلم ـ مثل دار الحكمة ـ من أجل تحقيق هذا الهدف.
وقد كان ترسيخ أفكارهم ونشرها في العالم الإسلامي يضمن لدولتهم البقاء الأطول، لذلك أشرف عليها الخليفة مباشرة. وبالرغم من ذلك لاقوا مقاومة كبيرة، ولم يجدوا عند الناس القبول التام لأفكارهم، وإن كان الأثر الشعبي للفاطميين ما زال موجودًا إلى الآن في العديد من البيئات الإسلامية، على هيئة احتفالات بالموالد وما شابهها.
كانت هناك خطوة مهمة أمام صلاح الدين وهو في القاهرة لابد أن يتخذها في سبيل الإصلاح العقائدي، وهو إلغاء الخلافة الفاطمية وجميع تقاليدها وأعمال دعاتها، وكانت مهمةً صعبة تحتاج إلى تمهل لامتصاص رد الفعل إذا كان أكثر غضبًا، فهناك مجموعة كبيرة من الأعيان يَهُمُّها أن يستمر المذهب الفاطمي والدولة الفاطمية، وكان الخليفة العباسي المستنجد بالله والأمير نور الدين محمود يحثّان صلاح الدين على إلغاء الفاطمية وإبطال الخطبة لها.
واستجمع صلاح الدين همته، وعزم على الأمر، فعزل "قضاة مصر الشيعة، وقطع أرزاقهم، وشرد الدعاة (الإسماعيلية)، وألغي مجالس دعوتهم، وأزال أصول المذهب الشيعي، مثل الأذان بحي على خير العمل بدلا من الأذان بحي على الفلاح.. بل حذف من النقش الديني على العملة المتداولة بين الناس صفة العقيدة الشيعية: عليٌّ ولي الله"، وأسقط الدعوة للخليفة الفاطمي العاضد، وجعل مكانها الدعوة للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله بن المستنجد، ولنور الدين بعده، وأزال اسم العاضد من العملة، ووضع اسم المستضيء ونور الدين أيضا، ومنع صلاة الجمعة في الجوامع الكبيرة التي كانت تبثّ الدعوة الفاطمية فى نشاط منذ زمن، كالجامع الأزهر وجامع الحاكم. وبذلك أصبحت الدولة الفاطمية في أول جمعة من سنة خمسمائة وسبع وستين تاريخًا مضى.
ولم يكن كل هذا كافيًا في الإصلاح العقائدي الذي سعى إليه صلاح الدين، إذ لابد من إعادة تسكين العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الأمة التي تُعَدُّ للجهاد في سبيل الله، فأقام صلاح الدين مجموعة من المدارس التي تعتني بنشر المذهب السني، كالمدرسة المنشأة بالقرب من قبر الإمام الشافعي بالقاهرة.








آخر مواضيعي 0 برنامج DuDu Recorder v4.90 الافظل في تسجيل المكالمات والملاحظات
0 كن بشرا وليس اشباه بشر
0 كيف تجعل عطرك يدوم طوال السهرة
0 ازياء رائعه وانيقة للمحجبات
0 فساتين قصيرة وناعمة للسهرة
رد مع اقتباس