عرض مشاركة واحدة
قديم 09-23-2010, 12:28 AM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: ابحاث ثورة يوليو

الجوانب التنظيمية والمؤسسية

يحتدم النقاش حاليا حول دور الدولة ، الذى يتهم توسعه بأنه السبب فى المشاكل التى يعانى منها الاقتصاد ، ويقترح فى المقابل تخلى الدولة عن الدخول فى مجالات الإنتاج والانكفاء على وظائفها التقليدية والاكتفاء بالدخول فى المجالات التى يعزف عنها القطاع الخاص 0 كذلك تعتبر السوق بديلا للتخطيط المركزى، الذى يذهب البعض إلى إلغائه كلية ، ويدعو آخرون لتحويله إلى ما يسمى بالتخطيط التأشيرى 0 وبادئ ذى بدء نؤكد على ما سبق ذكره من أن التخطيط على المستوى القومى هو بالضرورة مركزى ، غير أن هناك فرق جوهرى بين التخطيط المركزى الذى كانت تتبعه الكتلة الشرقية والذى كان ينقل الإدارة إلى المركز كبديل للقرارات على مستوى منشآت الإنتاج ( العامة ) والتخطيط المركزى التنموى الذى يهتم بالتنسيق والتطوير ويدعو إلى لا مركزية التنفيذ أى بقاء وظيفة الإدارة بيد الوحدات الإنتاجية عامة أو خاصة ، ومن ثم لم يكن التخطيط يدعو إلى تغييب السوق ، بل كان يسعى إلى تلافى ما قد تتعرض له من خلل 0 وما حدث من تدخلات فى الأسعار تم خارج نطاق التخطيط ومن أجل أهداف محددة ، وقد حدث تخلى عن أساليب التخطيط السليمة بينما فتح الاقتصاد أمام قوى السوق دون أن نأخذ بأدوات السياسة الاقتصادية التى تتعامل مع هذه القوى أى أن الذى أدى إلى انهيار الاقتصاد ليس هو كبر دور الدولة بل تراجع هذا الدور بينما ازداد حجمها وهو ما أفسح مجالا أمام ممارسات لسلطات توصف بالبيروقراطية والروتينية بينما واقع هذه الصفات أن تضع نظاما دقيقا للعمل يتبعه الموظفون العموميين يستفيد منه أصحاب المصالح وليس العكس 0 ولذلك عنيت ثورة يوليو52 بوضع نظم للعمل وإنشاء مراكز وأنشطة تدريبية بما فى ذلك التدريب على الوظائف الجديدة مثل الرقابة والتخطيط للتعرف على الأهداف وأسلوب العمل فى ظل خطة للتنمية تسعى إلى تغيير بنيان الدولة وجهازها الإنتاجى فى إطار اعتماد على النفس لا التبعية . ويحتاج الجهاز الإدارى الحالى إلى إعادة تأهيل لكى يكون قادرا على التعامل مع الأساليب الحديثة فى الإدارة والتخطيط ورسم السياسات والتوجيه المباشر وغير المباشر ، والقضاء على أسباب الانحراف .
ويجب أن يكون واضحا أن الحوار القائم حول المفاضلة بين القطاع العام والقطاع الخاص هو حوار مضلل 0 فقد آمنت الثورة منذ البداية بدور هام للقطاع الخاص كما أنها عندما أقامت القطاع العام لأسباب موضوعية سبق بيانها ، عهدت إليه بقيادة التنمية لا الانفراد بها . المعيار الأساسى الذى يضع حدا لنشاط القطاع الخاص أن يتجاوزه هو معيار الاستغلال سواء للعاملين أو المستهلكين وبالتالى فإن السماح بقوى السوق لا يجب أن يتيح له الفرصة لممارسة الاحتكار والاستغلال وكما أشرنا من قبل فإن هناك قاعدتين لابد من الالتزام بهما :
  • أن القطاع العام ملك للشعب لا الحكومة ، وإدارته يجب أن ترعى قواعد الكفاءة التى تلتزم إدارته المكونة من موظفين عموميين لهم معايير اختيار وأداء تختلف عما يسود فى الجهاز الإدارى الحكومى ، مما يعنى أن تنظيم القطاع العام يجب أن ينظم على نحو يراعى تمكين الشعب لا موظفين عموميين ليس الإنتاج من بين كفاءاتهم من التخطيط والرقابة .
  • أن السوق موجودة فى كل الأحوال ، ولا يعنى كونها تتعرض لانحرافات أن يلغى دورها ، بل لابد من السيطرة عليها وتوجيهها الوجهة السليمة 0 فإذا تعرضت إلى إختلالات تنحرف بالأسعار عن المستويات المرغوبة ، فإن التصحيحات التى تتم بالتدخل فيها ، بتحديد السعر كالإيجارات أو أسعار بعض المحاصيل أو دعم أسعار المستهلك ، يجب أن يكون حلا مؤقتا مصحوبا بإجراءات تزيل الحاجة إليه فى وقت منظور عن طريق اتخاذ ما يلزم لتصحيح جانبى الطلب والعرض بما فى ذلك تصحيح مستويات الدخول النقدية حتى تزول الحاجة إلى افتعال تخفيض فى الأسعار بواسطة الدعم أو غيره . كذلك فإن حماية الصناعة المحلية للسماح بارتفاع أسعارها عن المستورد لتغطى تكاليفها ، يجب أن يكون أمرا مؤقتا لفترة تسمح باتخاذ إجراءات تحقق تخفيضا حقيقيا فى تكاليف الإنتاج وليس على حساب تخفيض الأجور . وفى كل الأحوال لا يكون تصحيح الفجوة بين العرض والطلب بتحميل أحد الطرفين عدم تمشى الآخر معه بل لابد أن يتم ذلك بموارد حقيقية يقدمها المجتمع ، ليكون له أن يتساءل عن سلامة استخدامها .
وكما علّمنا عبد الناصر فإن الحل ليس فى إعلاء النزعة الفردية التى يجعل منها أنصار الليبرالية المرشد المقدس للحركة ويغذيها أنصار السلفية بدفع الفرد لضرب الدولة والمجتمع بزعم النجاة من عذاب الآخرة ، بل إن الأساس هو بناء المجتمع الذى تذوب فيه الفوارق بين الطبقات وتستقيم فيه التجمعات الشعبية التى نعبر عن المصالح الفئوية من منظور قومى تنموى ـ وتعمل على تجميع القدرات الذاتية ووضعها فى خدمة التنمية . ولعل هذا التوجه هو ما ميز الاتحاد الاشتراكى فى الماضى وما يميز التيار الناصرى الذى يعنى فى تكوينه بالتعبير عن تطلعات فئات الشعب العاملة 0 وتبدو أهمية التكوينات الشعبية بالنسبة لقيام الأجهزة المحلية من أداء دور رافد لعمل السلطة المركزية فى الامتداد بالتنمية إلى المستويات الإقليمية المختلفة ، حيث تأخذ خصوصيتها فى الاعتبار ، وتمكنها من تعبئة الإمكانيات الشعبية من أجل أداء الوظائف التنموية المختلفة سواء بالإسهام المباشر أو التخطيط أو الرقابة أو التوعية بالقضايا القومية والمحلية ، وتكتسب الجهود الشعبية أهمية خاصة للنهوض بالتكامل العربى الذى ظل حتى الآن حبيس عمل رسمى تحرص أنظمة غير شعبية على ألا يرقى للمستوى الذى يخرج شعوبها عن قبضتها ، كما حدث وقت أن كانت الجماهير العربية تستجيب للمشروع القومى .
وأرجو أن أنهى كلامى حول هذه القضية بالاستشهاد بما كتبه جون بادو سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى القاهرة خلال فترة إصدار القرارات الاشتراكية فقد ذكر فى كتابه " ذكريات الشرق الأوسط " “ The middle East Remembered” ، ما نصه :

"وحينما صدرت القوانين الاشتراكية وكنت سفيرا للولايات المتحدة الأمريكية فى القاهرة ، ثارت ضجة حولها فقررت تكوين فريق عمل من رجال السفارة لدراستها بدقة وانتهينا إلى أن حجم القطاع العام الجديد فى مصر أقل منه فى إسرائيل وفى الهند وفى فرنسا وفى بريطانيا بل وفى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ، وانه لا يصادر القطاع الخاص أو يغلق الطريق أمامه بل على العكس سوف يحفزه ويدفعه للمنافسة فى ظل اقتصاد مختلط كما حدث فى هذه الدول .
* ويقول جون بادو أن سياسة كينيدى كانت تلقى معارضة من القوى المؤيدة لإسرائيل داخل دوائر الإدارة الأمريكية ويضرب المثل على ذلك بقوله إن إيفاد المبعوث الشخصى حول موضوع صفقة الصواريخ الهوك لم يقرأ عنها شىء فى واحدة من الصحف الأمريكية . كما ظل الكثيرين من العاملين فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يتعاملون مع عبد الناصر باعتباره شيوعيا أو أداة للشيوعية ، وهكذا فإن برنامج معونة القمح لمصر والذى زاد بشكل كبير فى عهد كينيدى حتى أصبحت هى أكبر صفقة قمح أمريكية بعد صفقة الهند وجدت معارضة داخل الكونجرس والمخابرات المركزية خاصة بعد عمليات التأميم التى حدثت فى مصر فى ذلك الوقت ودعت بعض رجال الكونجرس إلى انتقاد تقديم المساعدات " للاشتراكيين والشيوعيين ـ هكذا ـ وذلك بالرغم من أن هذه الصفقة لم تكن تكلف الولايات المتحدة شيئا حيث كانت كلها مواد غذائية زائدة عن الحاجة 0 وقد أجرى بادو فى تلك الفترة دراسة دقيقة عن الاقتصاد المصرى وكانت نتيجة ما وصل إليه هو أن 18% من القوى الإنتاجية المصرية هى التى تم تأميمها ، ثم قارنت الدراسة هذه النسبة مع مثيلاتها فى بعض الدول الأخرى من حلفاء واشنطن فوجد مثلا أن القوى الإنتاجية فى إسرائيل تبلغ نحو 30% وفى الصين الوطنية نحو 25% ، ويقول السفير بادو : "على أن أفضل ما وقعت عليه أعيننا كان مثال الولايات المتحدة نفسها حيث 29% من القوى الإنتاجية تخضع للإشراف الحكومى بشكل أو بآخر " .
وانتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر أعتبره على جانب كبير من الأهمية فى مجال رؤية الرئيس جمال عبد الناصر للتنمية ألا وهو ثورة 23يوليو وبناء الصناعة المستقلة .
إن الحديث عن بناء الصناعة المستقلة لا يمكن أن يتم كموضوع خاص ومنفصل دون أن نتحدث عن أهداف ثورة يوليو والأهداف التى سعت إلى تحقيقها بتفعيل إرادة التغيير للوصول إلى مجتمع الكفاية والعدل بعدما يتم القضاء على الاستعمار وسيطرة رأس المال على الحكم والتخلص من التبعية السياسية والاقتصادية وصولا إلى القضاء على التخلف الذى فرضه الاستعمار وإقامة جيش وطنى .
وبقرار دفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لإحداث التغيير المطلوب ولذلك كان القرار بإنشاء مجلس أعلى للتخطيط ثم إنشاء مجلس الإنتاج القومى ومجلس الخدمات .
كان تعداد مصر فى سنة 1952 حوالى العشرين مليونا وكانت نسبة الزيادة السكانية تتم بمعدل 8ر2% سنويا وكان الاقتصاد القومى يعتمد أساسا على الزراعة وكان الإنتاج الزراعى يكفى معظم احتياجات الغذاء اللازم فى إطار أنماط استهلاك سادت تلك الفترة والتى كانت تعكس انخفاض مستوى دخل الفرد وكذلك انخفاض مستوى المعيشة للغالبية العظمى من الشعب المصرى .
وكما هو معلوم كان المحصول الرئيسى هو القطن الذى يصدر منه أكثر من 80 % إلى بريطانيا بالذات والباقى يستخدم فى صناعات مبتدئة تنتج أجزاء من المنسوجات التى تستهلك محليا . وكانت المشكلة الزراعية ، وما زالت ، هى أن المساحة التى يمكن زراعتها محدودة بكميات المياه التى يوفرها نهر النيل وهى حوالى ستة ملايين فدان ، وبالتالى لم يكن هناك مجالات للتوسع عن طريق استصلاح أراض جديدة إلا فى أضيق الحدود ، نظرا لأن السد العالى لم يكن قد أقيم بعد .
أما بالنسبة للصناعة فقد كان هناك عدد محدود من المصانع ، بعض مصانع للغزل والنسيج ، وبعض مصانع للسكر وعدد من معاصر الزيوت ومصنعان للأسمنت فى حلوان وطره ومصنع لسماد الفوسفات وآخر للسماد الآزوتى ، ومصانع صغيرة لإنتاج الحديد للتسليح من الخردة ثم بعض المصانع اليدوية والحرفية الصغيرة .
عندما قامت ثورة يوليو كانت نسبة الإنتاج الصناعى إلى الإنتاج القومى أقل من 10% . وكانت مصر تعتمد على الاستيراد من الخارج لمعظم احتياجاتها من السلع المصنوعة . كانت مصر تستورد منتجات الألبان وزيت الطعام و القلم الذى نكتب به والورق الذى نستخدمه والسماد اللازم للزراعة والسيارات والدراجات والموتوسيكلات والبطاريات والإطارات والأفران والثلاجات ـ ولم يكن هناك ثلاجات كهربائية بل صندوق من الخشب يوضع به ألواح من الثلج وكان طول لوح الثلج حوالى متر يقسم إلى قطع ويوضع على مواسير متعرجة من الزنك تسمى " السرابانتينة " وهكذا كان يتم التبريد ـ أجهزة الراديو وحتى المنسوجات سواء كانت قطنية أو صوفية وغيرها ، كل هذا يستورد من الخارج .
وإذا كانت ثورة يوليو قد نجحت فى إنتاج معظم هذه السلع فإن هذا كان يبدو بعيدا عن قدراتنا ، بل قد يكون مستحيلا ، وهى صورة حرص الاستعمار ، وما زال ، على تثبيتها فى أذهان وتصور كل الدول النامية لكن كانت مصر من أولى الدول النامية التى نجحت فى إقامة صناعة متقدمة .
هذا هو باختصار صورة الوضع الاقتصادى الذى كانت تعيشه مصر حتى سنة 1952 وانعكس هذا بالطبع على مستوى المعيشة للغالبية العظمى من الشعب برغم أنه عدد السكان كان محدود نسبيا ، لكن نظرا لعدم وجود تنمية حقيقية فقد كانت فرص العمل محدودة للغاية وكان متوسط الأجور فى الصناعة لا يزيد عن قروش معدودة ، ولم تكن هناك قوانين تحمى العامل أو تؤمنه بل أن الكثيرين من خريجى الجامعة كانوا لا يجدون وظيفة إلا بصعوبة وبمرتب حوالى العشرة جنيهات شهريا ـ لقد تقاضيت أنا شخصيا أول مرتب لى عندما تخرجت من الكلية الحربية كملازم ثان فى شهر فبراير 1949عشرة جنيهات وعشرة قروش وسبعة مليمات ـ ويمكن على ضوء هذا تصور مستوى المعيشة للغالبية العظمى للشعب فى هذه الظروف .
وكانت ثورة يوليو فقرارها بإحداث التغيير الشامل للمجتمع وكان الطريق الوحيد هو التنمية الشاملة ودفع عجلة الإنتاج لأقصى ما تسمح به الإمكانيات المتاحة . ولذلك كان التركيز منذ البداية فى خطط التنمية التى وضعتها الثورة لى الزراعة والصناعة .
أما الزراعة فإنها تعتمد اعتمادا يكاد يكون كليا على ما نحصل عليه من مياه النيل ، وهو ما يكفى لزراعة حوالى ستة ملايين من الأفدنة ، ومع ذلك فقد كانت هناك باستمرار تكليفات بدراسات فنية وعلمية فى محاولة من الثورة لزيادة الإنتاج الزراعى بزيادة الرقعة المزروعة عن طريق توفير كميات إضافية من المياه عن طريق بناء السد العالى وهو ما سمح باستصلاح مليون فدان جديدة وفى نفس الوقت محولات لزيادة الإنتاج بزيادة إنتاجية الفدان أى بزيادة رأسية وذلك عن طريق رفع إنتاجية الأرض بوسائل مختلفة مثل تحسين الصرف وبالبذور المحسنة والتسميد وزيادة كفاءة المقاومة للآفات الزراعية .
ونظرا للزيادة المضطردة للسكان ولصعوبة التوسع فى مجال الزراعة لأكثر مما وصلنا إليه أصبح أمام صانع القرار وضع يحتم عليه اتخاذ قرارات فى مجالات أخرى لتحقيق أهداف الثورة من أجل رفع مستوى المعيشة فى مصر وعلى ضوء هذه الاعتبارات كان الاتجاه نحو التصنيع الوطنى باعتباره الوجه الآخر للتنمية فهو المجال الذى يمكن أن يفتح آفاقا للنمو تعوض الإمكانيات المحدودة للنمو الزراعى من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادى الذى يمكن للثورة من السير فى طريقها لتحقيق الاستقلال السياسى وبالتالى استقلال الإرادة المصرية ، إلى جانب ما يحققه التصنيع من رفع مستوى الدخل وتوفير فر للعمل ويدعم الاقتصاد الوطنى وموازنة المدفوعات الخارجية .
فى أول يوليو1956 أنشئت وزارة الصناعة وعين الدكتور عزيز صدقى كأول وزير للصناعة . وبهذه المناسبة فقد حدثت واقعة طريفة تتعلق بهذا التعيين ومن المؤكد أن أحدا لا يعرفها . فقد سلمنى الرئيس جمال عبد الناصر بحث تفصيلى عن ثلاثة أشخاص هم عزيز صدقى و مصطفى خليل وسيد مرعى على أساس أنهم مرشحين لتولى مسئوليات هامة وطلب استيفاء بعض النقاط فلما أتممت البحث وعندما كنت أعرض النتيجة على الرئيس عبد الناصر قال لى :
" يا سامى أنا عايزك تروح لهم فى منازلهم لإبلاغهم بالموعد المحدد لكل منهم لمقابلتى ( الرئيس طبعا ) وعايزك فى نفس الوقت تبلغهم رسالة منى ، وهى أنه عند حلف اليمين ما حدش فيهم ينحنى أمامى . "
وأول ما توجهت كان إلى منزل الدكتور عزيز صدقى حسبما كان مدون فى دليل التليفونات ووجدت نفسى أمام فيلا و على بابها يافطة نحاسية مكتوب عليها " عزيز إسماعيل صدقى " فتوقفت أمام هذا الخطأ فالعنوان الذى كان قد يترتب عليه مشكلة سياسية وتنبهت لأن معلوماتى أن الدكتور عزيز محمد صدقى لا يمت بصلة لإسماعيل صدقى وأنه لا يقيم فى فيلا ، فـأكملت باقى الزيارات وعدت إلى المكتب لأستيقن من عنوان د. عزيز صدقى وفعلا صوبت العنوان وتوجهت إليه حيث أبلغته بالموعد وبالرسالة وتم تعيين الثلاثة كوزراء فى التعديل الوزارى رقم 76 بتاريخ 28 يونيو1956 .
كان الدكتور عزيز صدقى هو أول وزير للصناعة فى مصر الثورة وقد كلف بتحديد الدور الذى يجب أن تقوم به الدولة وبالتالى وزارة الصناعة فى تحقيق هدف دفع التنمية الصناعية .
كانت رؤية وزارة الصناعة تتمثل فى وجوب أن يكون هناك خطة تحدد نواحى التنمية الصناعية فى شكل برنامج يتضمن المشروعات المحددة التى يجب تنفيذها زانه يجب أن يكون للدولة الصلاحية لتوجيه الاستثمار فى الصناعة بحيث تسير عملية التنمية فى حدود خطة واضحة . وبناء على ذلك فقد وضعت خطة تقوم على العناصر التالية :
أولا : برنامج للصناعة على مدى سنوات خمسة مقبلة .
ثانيا : إعداد قانون التنظيم الصناعى .
لم يوافق الرئيس جمال عبد الناصر على المشروعين مباشرة وكانت معظم الأجهزة العاملة فى قطاع الصناعة كالشركات واتحاد الصناعات وغيرها كانت كلها تعمل فى ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة حتى ذلك الوقت حيث أن اتجاهات وإنجازات الثورة نحو تحقيق أوضاع جديدة تستهدف مزيد من العدالة الاجتماعية وإبراز مسئولية الدولة فى تحقيق ذلك لم تكن قد تبلورت بعد ، وبطبيعة الحال فإن كثيرا من الآراء كانت متأثرة بالفكر السائد فى ذلك الوقت ـ من أن مصر بلد زراعى ـ وأن الصناعة هدف يصعب تحقيقه إلا فى أضيق الحدود . وكان واضحا أن الخلاف هو فى التفكير ذاته . فهل نحن نقيم مصنعا يربح فحسب ، أم نقيم قاعدة صناعية تكون منطلقا لتفعيل إرادة التغيير وننطلق إلى التقدم ؟ وهل نحن نقيم صناعة لإنتاج سلعة معينة فحسب ، أم أن ذلك يتم فى إطار أن التصنيع عامل أساسى فى إقامة مجتمع متقدم يتحقق فيه للفرد فرص للعمل ومستو للدخل والمعيشة لا تتيحه الزراعة وحدها ؟
وكان الخلاف أيضا بين أسلوب سابق يترك لصاحب رأس المال الحرية الكاملة ليحقق ما يمكنه من ربح وليس للدولة الحق فى وضع قواعد وقوانين تحكم ذلك ، سواء بالنسبة للإنتاج ، نوعه ، قيمته ، مواصفاته ، بل وحقها فى أن تحدد سعره ، وتحديد حقوق العاملين .
وكان واضحا أن الثورة قد اختارت طريقها ومنذ البداية وانحازت إلى جانب الشعب والقوى العاملة . وكان يحكم هذه السياسة منذ البداية إقامة قاعدة صناعية حقيقية تفتح آفاق التنمية والإنتاج وتحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى وضعتها الثورة من البداية .
شكلت لجان مختلفة ضمت أكثر من مائة وعشرون خبيرا فى الصناعة ومن رجال الأعمال والشركات الصناعية وأساتذة الجامعات وذلك من أجل المساهمة فى إعداد برنامج السنوات الخمس الأول للصناعة . وبنفس الأسلوب تم وضع مشروع قانون التنظيم الصناعى . وبعد مناقشة مستفيضة فى مجلس الوزراء تم إقرار هذين المشروعين وتحدد بذلك المسار الذى اختارته الثورة طريقا للتقدم والتنمية .
وتصادف أن حدث فى تلك الفترة تطورات سياسية أثرت على مسار الأحداث فى مصر . فقد سحبت الولايات المتحدة وبريطانيا عرض تمويل مشروع السد العالى . فصدر قانون تأميم شركة قناة السويس الذى أعقبه العدوان الثلاثى على مصر وانسحبت القوات المعتدية بعد فشلها فى تحقيق أهدافها فى ديسمبر 1956 وتلى ذلك تقدم الاتحاد السوفيتى بقرض لتمويل السد العالى ، كما آلت قناة السويس إلى مصر وبدأت مرحلة جديدة فى مسيرة الثورة . . مرحلة بناء شاملة . . بناء جيش وطنى ، ثم بدئ فى تنفيذ مشروع السد العالى وتنفيذ تنمية اقتصادية شاملة تضمنت البدء باستصلاح الأراضى للاستفادة من مشروع السد العالى وكذلك بدأ تنفيذ برنامج الصناعة الأول ، فقدم الاتحاد السوفيتى قرضا قيمته 700 مليون روبل أى ما يساوى 5ر62 مليون جنيه إسترلينى كما عقدت اتفاقيات لتمويل المشروعات الصناعية مع عدد من الدول التى قبلت التعاون مع وبشروط مصر كاليابان وإيطاليا وألمانيا الغربية ورومانيا وغيرها . كما تم وضع الشركات والمنشآت الفرنسية والبريطانية تحت الحراسة .
كان أول اعتماد مالى فى تاريخ مصر للاستثمار فى الصناعة هو 12 مليون جنيه اعتمدت فى ميزانية الصناعة عام 1958 وسارت عجلة التنمية بقوة وتم تنفيذ مشروع السنوات الخمس الأول فى ثلاث سنوات وعلى ضوء النجاح الذى تحقق تقرر وضع الخطة الخمسية الأولى شاملة للتنمية 59 ـ 1964 .
أنشئت وزارة التخطيط واعتمدت الدولة مبدأ التخطيط الشامل أسلوبا للتنمية والتقدم .
كان أساس التخطيط لكل خطة هو حساب الموارد الممكن تدبيرها وتخصيصها للاستثمار فى التنمية الشاملة ، وعلى أساس برامج متكاملة لجميع القطاعات وتحديد أهداف محددة فى الخطة يجب تحقيقها فى كل قطاع . ووزعت استمارات على كل قطاع بما حققه فى الخطة وعلى مدى سنوات الخطة كان يدرج فى ميزانية الدولة ـ موزعة على الوزارات المختلفة ـ ما يخص كل منها لتنفيذ مشروعاتها سنة بعد سنة حتى يتم تنفيذ الخطة فى المدة المحددة لها . وكانت المتابعة الدورية والسنوية تتم لتحديد النتائج سواء من ناحية التنفيذ أو النتائج المحققة بالنسبة للخطة ككل لكل قطاع على حدة .
لقد كانت مصر هى أول دولة فى منطقة الشرق الأوسط تبنت هذا الأسلوب ونجحت فيه وبدأت الدول الأخرى بعد ذلك تحذو حذوها .
بدأت المشروعات الصناعية المدرجة فى الخطة تنفذ على أتساع الجمهورية . . فى طنطا والإسكندرية ودمنهور وميت غمر وشبين الكوم وبور سعيد وقنا وأسيوط ودمياط وغيرها .
وبدأ يظهر فى ميزانية الدولة باب الاستثمارات لتنفيذ مشروعات الخطة وتزايدت أرقامها بحيث أصبحت أهم باب فى الميزانية بما تمثله من استثمارات فى تنفيذ السد العالى واستصلاح الأراضى ومشروعات الطرق والمواصلات والكهرباء وإقامة المصانع . وأصبحت الدولة الممول الأكبر لمشروعات التنمية وبالتالى المالكة لهذه المشروعات وأصبح عليها مسئولية إدارة هذه المشروعات فأنشأت المؤسسات العامة وتبعت لها الشركات الداخلة فى نوعية عملها ثم صدرت قرارات التأميم لبعض الشركات والمنشآت القائمة استكمالا لسيطرة الدولة على الإنتاج ، وهكذا ولد القطاع العام .
لم تكن ثورة يوليو فى اتخاذها لهذا المسار تقليدا لنظام آخر أو تنفيذا لنظرية بذاتها بل كانت خطوات تتطور بشكل طبيعى وكل خطوة استجابة لمراحل التطور الذى استهدفته الثورة من البداية تحقيقا للمبادئ التى قامت من أجلها . ولقد حققت عملية التنمية هذه فى جميع المجالات نموا لم تشهده البلاد فى تاريخها الحديث وبرغم العدوان الثلاثى وبرغم الانفصال بين سوريا ومصر وبرغم نكسة 1967 فلم تتوقف عملية التنمية أبدا .
لقد استصلحت الثورة مليون فدان فى خلال 12 عاما ، وكان معدل استصلاح الأراضى قبل الثورة أقل من 5000 فدان سنويا ، أقيم السد العالى ، أقيمت آلاف المدارس ، كما أقيمت أكبر قاعدة صناعية فى منطقة الشرق الأوسط و إفريقيا كلها . وبعد أن كنا نستورد تقريبا كل شىء أصبحنا نعتمد على أنفسنا وننتج معظم ما نحتاجه . أقمنا مصانع الحديد والصلب والألومنيوم والترسانات البحرية والسيارات واللوارى والإطارات والأسمنت والأسمدة والغزل والنسيج والورق وغيرها . ولولا هذه القاعدة الإنتاجية ما كان ممكنا أن ندخل حرب أكتوبر معتمدين على أنفسنا وإنتاجنا فلم تحدث أزمات ولم تصدر بطاقات ولم يحس الشعب بأى نقص نتيجة للحرب ، ونفس الشىء حدث فى أعقاب نكسة 67 التى ترتب عليها أن زاد التصميم على السير فى خطين متوازيين فى وقت واحد و هما إعادة بناء القوات المسلحة والاستمرار فى التنمية الشاملة . وإذا كانت الكوارث التى لا تقتل تصنع ، فإن نكسة 1967 صنعتنا مرة أخرى تماما كما فعلت دنكرك ببريطانيا وبيرل هاربور بأمريكا ووصول الألمان لضواحى موسكو بالروس ، صمدنا وكان القطاع العام هو الأرض الصلبة التى واصلنا بها السير إلى حرب الاستنزاف فنصر أكتوبر .
إن الأراضى التى استصلحت وزعت على الفلاحين والمصانع التى أقيمت يملكها الشعب ولولا وجود هذه القاعدة الإنتاجية الضخمة التى أقامتها الثورة وإتاحة فرص العمل للملايين من أبناء هذا الشعب والتشريعات العمالية التى صدرت لتعيد للعامل حقوقه بتحديد ساعات العمل وحد أدنى للأجور والتأمين الصحى والتأمين الاجتماعى وإتاحة الفرصة للتعليم للغالبية العظمى من الشعب الذين كانوا محرومين منه قبل الثورة حيث كان هناك مشروعات تسمى مشروع الحفاء وغيرها من المشاريع الوهمية ، لما أمكن تحقيق العدالة الاجتماعية .
ومن ثم فلا أحد يمكن أن يدعى أنه لم تكن هناك أخطاء فى كل هذه المنظومة الضخمة التى تمت ولكنها طبيعة الأشياء ـ وفى النهاية فإن الأعمال تقاس بنتائجها :
أولا : أن مصر بـأبنائها وحدهم وإرادتها الحرة هى التى وضعت سياسة التصنيع وبرامجها ومشروعاتها ولم يشارك أجنبى واحد فى ذلك ، كما أن تنفيذ هذه السياسة ومشروعاتها تم بأيدى الفنيين والعمال المصريون ، ثم هم الذين تولوا إدارة هذا الإنتاج الضخم .
ثانيا : أن الدولة عندما خصصت الاعتمادات الضخمة فى ميزانياتها سنة بعد سنة لتنفيذ هدف التنمية ـ برغم الظروف الصعبة التى اجتازتها البلاد اقتصاديا وسياسيا وعسكريا فإنها كانت تفعل ذلك إيمانا منها بأهمية عملية التنمية لتحقيق أهداف الثورة الكبرى .
وإذا كانت إمكانيات القطاع الخاص قاصرة على الاستثمار المطلوب فى حدود ما جاء فى خطة التنمية ـ ومع السماح له بالمساهمة بكل إمكانياته فى عملية التنمية ـ فإن الدولة كان عليها أن تتولى هى مسئولية تنفيذ خطة التنمية . إن استثمارات القطاع الخاص تمت فى قطاع الصناعة طبقا لما جاء فى كتاب اتحاد الصناعات لعام 1951 ( أى قبل قيام الثورة ) وفى ظل حرية كاملة للاستثمار بلغت 1ر2 مليون جنيه . فإذا قررت الدولة تنفيذ خطة تنمية تحتاج لاستثمارات بلغت مئات الملايين من الجنيهات كل سنة ـ فقد كان واجب الدولة واضحا .
ثالثا : إن التخطيط لعملية التنمية كان يستهدف إلى جانب تحقيق أهداف إنتاجية محددة ، إلا أنه استهدف والتزم بتحقيق الهداف الاجتماعية للثورة . لم يكن الربح هو العامل الوحيد فى اختيار المشروعات، بل إقامة قاعدة صناعية متكاملة تحقق الإنتاج للمجتمع وتساهم فى رفع مستواه وخفض تكاليف معيشته ، ثم المساهمة فى تحقيق مبدأ الاعتماد على الذات ، ولذلك فإن الدولة كان يمكنها أن تحقق أرباحا أكبر عن طريق رفع الأسعار وخاصة أن أسعار الإنتاج المحلى كانت دائما أرخص بكثير من السلع المستوردة ، ومع ذلك كان الاتجاه دائما إلى خفض الأسعار وخاصة بالنسبة للسلع الرئيسية والشعبية .
رابعا : تأكيدا لأهداف الاستقلال الاقتصادى فقد حققنا فى آخر عام 1970 ما كنا نحاول الوصول إليه دائما وهو أن يقوم قطاع الصناعة بإحداث كل هذا الإنتاج الصناعى بحيث نكتفى ذاتيا فى الجزء الأعظم من احتياجاتنا ، وأن نصدّر فائض الإنتاج فى السلع التى يمكننا تصديرها ، وبحيث يكفى عائد التصدير كل احتياجات الصناعة من النقد الأجنبى ، وبذلك يساهم قطاع الصناعة مساهمة كاملة و فعالة فى تحقيق مبدأ الاستقلال الاقتصادى الذى استهدفته الثورة .
وللأسف فإنه فى فترة ما سمى بالانفتاح ، توقفت بالكامل تقريبا عملية التنمية الصناعية وقيل أن الاستثمار الأجنبى سيحل المشكلة وهو ما لم يحدث طبعا . وعدنا من جديد إلى أن أنتجنا فى كثير من السلع أصبح لا يكفى وبالتالى عادت عملية الاستيراد من الخارج مرة أخرى .
خامسا : كان التعاقد على تنفيذ المشروعات مع كل دولة قدمت لمصر التسهيلات والقروض وبالشروط التى وضعتها مصر وقبلتها وقد أدى هذا الأسلوب إلى نجاح فى الحصول على قروض واتفاقيات مع الاتحاد السوفيتى وألمانيا الشرقية وبولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا واليابان وإيطاليا وألمانيا الغربية وإنجلترا وفرنسا والدانمرك والولايات المتحدة الأمريكية .






آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس