عرض مشاركة واحدة
قديم 09-23-2010, 12:41 AM رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: ابحاث ثورة يوليو



ثورة 23 يوليو وتجدد الفكر القومي*
*محاضرة في 23 تموز في منتدى القومي العربي في طرابلس
زياد حافظ**
**كاتب وباحث وأستاذ جامعي

أيها الإخوة والأخوات،

نحتفل اليوم بذكرى محطة فاصلة في تاريخ أمتنا العربية ألا وهي قيام ثورة 23 يوليو عام 1952. وتأخذ هذه الذكرى معنى خاصا وكنا احتفلنا منذ أيام قليلة بتحرير أسير عملية جمال عبد الناصر بطلها المناضل سمير القنطار. هذه الثورة، ولدت من رحم النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر ومن تجربة قائدها التاريخي جمال عبد الناصر في مقاومة العدو الصهيوني. فمنذ ستين سنة، أي عام 1948، كانت معركة الفالوجا جنوب فلسطين وبالأمس القريب أي عام 2004 كانت معركة الفالوجا في العراق. معركة واحدة وعنوان واحد لتكريس في الوجدان والوعي العربي ثقافة المقاومة. فمعركة الفالوجا الأولى خلقت في نفس القائد الراحل ضرورة المقاومة وضرورة التغيير. وهذا التغيير تجسّد بالثورة التي ما زالت عناوينها ومبادئها حيّة حتى الآن.
لن أكرّس هذه المحاضرة لاستعراض تقليدي لإنجازات ثورة 23 يوليو. فلست من دعاة الوقوف على الأطلال والبكاء على زمن عزّ قد يتخيّل البعض أنه قد ولى، علما أن اليوم نسترجع كرامة الأمة برمتها رغم تحالف العالم ضدّنا. أترك ذلك الاستذكار للشعراء وللأدباء لما لهم من موهبة في استرجاع الذاكرة والعاطفة التي ترافقها. أما أنا فمن الذين يعتبرون واجبهم استذكار الحاضر والمستقبل إذا جاز الكلام. نحن أمام مهام وتحديات ضخمة لبناء المستقبل على قاعدة ما ورثناه من ثقافة نهضوية وحدوية جسدتها ثورة 23 يوليو. إن ما أريد أن أبرزه اليوم هو العلاقة بين إنجازات الثورة والفكر القومي العربي الذي يتعرّض منذ ذلك الحين إلى أشرس الحملات والمؤامرات.
فهذه الثورة عبّرت عن فكر تجسّد بعمل. وهذا الفكر هو أساس مشروع نهضتنا الوحدوية العربية التي نناضل من أجلها اليوم. ومضامين هذا المشروع موجودة في إنجازات ثورة يوليو. فالإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي وإقامة القاعدة الصناعية جميعها عوامل لتحرير الإنسان من أغلال التخلّف والفقر. أما اليوم فنتكلم في مشروعنا العربي الوحدوي عن التنمية المستقلة وعن الانتقال من الاقتصاد الريعي الذي يكبّل طاقات هذه الأمة إلى اقتصاد إنتاجي يعبّء هذه الطاقات البشرية ويفرض ثقافة المسائلة والمحاسبة المغيبة في الاقتصاد الريعي.
من جهة أخرى إن تحرير الأرض ومقاومة الاحتلال تتطلّب خطة دفاعية وإستراتيجية للتحرير. فلما كانت أحد أهداف ثورة 23 يوليو، كما عبّر عنها القائد الراحل في "فلسفة الثورة" عام 1954، إعادة تأهيل الجيش المصري وجعل القرار العسكري خاضعا للقرار السياسي الوطني القومي المستقل عن إملاءات المستعمر القديم والقوى المهيمنة آنذاك، كان يمهّد لما نسمية اليوم بالخطة الدفاعية وإستراتيجية التحرير. وما كان العدوان الثلاثي عام 1956 ومن بعده حرب 1967 إلاّ محاولة لكسر إرادة الثورة وشعبها في رفض التحالفات التي لا تصبّ في مصلحة الشعوب. كما أن العدوان كان لمنع إقامة قواعد الاستقلال الحقيقي وقوة الجيش التي تحميه ولمنع أيضا أي محاولة من ممارسة السيادة الفعلية على مقدرات الوطن آنذاك كتأميم القناة وكسر احتكار الدول الغربية لبيع السلاح . بعد ذلك كان الشعار والموقف الإستراتيجي تلخّص في "محو آثار العدوان" بعد نكسة 1967 وحرب الاستنزاف ومن ثمة عبور القناة. وهو الدليل القاطع على استيعاب القائد الراحل للدروس الناتجة عن تحليل أسباب الهزيمة عبّر عنها في بيان 30 مارس 1968. ولولا القرارات والاجتهادات الملتبسة للقيادات السياسية خلال حرب أكتوبر 1973 لكان النصر كاملا بتحرير الأرض المحتلة دون الخضوع إلى إملاءات العدو وحليفه الإستراتيجي أي الولايات المتحدة. أما اليوم، فنقول أن المقاومة التي نحن أهلها هي الموقع المتقدم للمشروع العربي النهضوي الوريث الشرعي لنهج ثورة 23 يوليو. لذلك نرى مرة أخرى قوى تحالف الاستعمار الجديد القديم مع الصهيونية وأنظمة الاستبداد تتآمر لضرب المقاومة وما تأتي به من ثقافة الممانعة المبنية على قوى ذاتية وطنية تحمي السيادة الحقيقية.
هذه الثورة مهدّت لثقافة المقاومة فكان الدعم المطلق للثورة الفلسطينية التي وجدت لتبقى وستبقى بإذن الله حتى التحرير. والمقاومة الوطنية في لبنان ولدت من رحم هذه الثورتين كما أن المقاومة القائمة اليوم في العراق وفلسطين المحتلة تتكامل مع المقاومة في لبنان في محور ممانع للاحتلال ومشاريع الهيمنة والتفتيت.
فحرية الأرض والمواطن مشروع متكامل أسست له ثورة 23 يوليو. فالحرية المنبثقة من وجدان وتراث هذه الأمة تعني حرية الآرض من المحتل القديم الجديد وحرية الإنسان الذي يتحوّل إلى مواطن متحرر من أغلال الفقر والتخلّف. فإذا كانت التنمية المستقلة المستديمة الوسيلة لتحقيق ذلك فإن قاعدتها هي المعرفة الناتجة عن العلم. من هنا كانت إنجازات الثورة في فتح الجامعات والمدارس لأبناء الشعب الكادح. وهذه المعرفة تؤسس إلى فكر إنساني حيّ هو يقين فكرنا القومي.
في هذا السياق استوقفتني منذ بضعة أشهر استضافة دمشق لمؤتمر حول تجديد الفكر القومي. ولا بد من الترحيب بأي مبادرة تهدف إلى التجديد المنشود وإن كان لديّ اعتراض على عنوان المؤتمر. فالفكر القومي العربي لم يكن في يوم من الأيام متحجرا في الشكل أو المضمون بل كان ومازال وسيستمرّ في التطوّر لأنه فكر إنساني بامتياز نابع من وجدان الأمة ومن وقائعها الموضوعية والذاتية سواء على مستوى الجغرافيا والتاريخ أو على مستوى اللغة والدين والمصير المشترك ناهيك عن الإرادة والمصلحة المشتركتين في بناء مستقبل لأبناء هذه الأمة في الحرية والكرامة والاكتفاء والاعتزاز بالنفس.
ولمن يريد أن يتأكد من غزارة الفكر القومي بكافة نواحيه فهو مدعو لمراجعة مكتبة مركز دراسات الوحدة العربية الذي يشكّل الإطار المؤسسي لإنتاج وترويج ذلك الفكر عبر منشوراته وإصداراته الفكرية. فهناك أكثر من 800 عنوان لكتب عن كافة نواحي الفكر أصدرت خلال أكثر من ثلاثين سنة كما أن عنواين المقالات لمجلة الصادرة عن المركز أي "المستقبل العربي" تشير بوضوح إلى حيوية ذلك الفكر القومي. وألفت الإنتباه إلى أن المركز يصدر أيضا منشورات دورية عن العلوم السياسية والبحوث الاقتصادية والاجتماعية لتجعل من هذا المركز أكبر وأهم مخزن فكري لهذه الأمة. ومنشورات المركز متواجدة في كل مكتبات الجامعات العربية ولا يمكن أن يصدر بحث عن أي قضية عربية إلا وكانت معظم مراجعها إصدرات المركز.
أعتقد أنه من المفيد التأكيد على الثوابت الفكرية التي تغيظ أعداء هذه الأمة. فما زالت أهداف المؤامرات الخارجية الرامية إلى غزوها ثم احتلالها ثم تجزئتها بل تفتيتها إلى مناطق وإلى طوائف وإلى قبائل وإلى عشائر وإلى عرقيات واثنيات ليصبح الأخ عدوا لأخيه حتى في داخل البيت الواحد. و من هنا نفهم أيضا التعرض لكل من يقف ضد مشاريع الاحتلال والتقسيم والتفتيت. كل ذلك مع التناسي أو التجاهل للاحتلال سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان ناهيك عن الصومال أو ما يحاك للسودان. وإذا كنا اعترضنا في آماكن عديدة عن محاولات اغتيال الرأي في أي قطر عربي مهما كانت الظروف فإن لصق تهمة الفكر القومي بالشوفينية (وهذا مصطلح جديد غير موجود في اللسان العربي) واتهام ذلك الفكر القومي بتوليد الاستبداد والقمع- كل ذلك يدّل على التعصّب العنصري الموجود أساسا وأكثر حدة في الهويات الفئوية سواء كانت طائفية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية أو حتى قطاعية. كما أن مقاومة الاستبداد لن تكون بديلا عن تحرير الأرض المحتلة (فالاحتلال يطّول عمر الاستبداد) ولا مبررة للتغيير السياسي عبر الدبابات الغربية ولا منظرة لنكر الذات بحجة الاعتراف ب"الآخر"!
غير أن أنجازات المقاومة في كل من لبنان وفلسطين والعراق خلقت حالة من الإرباك عند النخب العربية التي تبنـّت "إستراتيجية السلام" و"ثقافة الحياة". هذا الإرباك في صفوف "النخبة" من المثقفين "العدميين" كما يصفهم الدكتور عزمي بشارة أتاح الفرصة لإعداد مجددا هجمة مركزة على القومية العربية والفكر القومي برمّته على صفحات الجرائد وعبر الفضائيات العربية. والهدف من تلك الهجمة المركّزة هو كسر الوعي القومي الذي ما زال راسخا في الوجدان العربي رغم كل الانتكاسات التي مرّت بها الأمة العربية على مدى الخمسين السنة الماضية. فالعلاقة واضحة بين الوعي والثقافة إذ أن الوعي يولد الفكر والفكر يولد الموقف السياسي (أي المواجهة والمقاومة مثلا) والموقف السياسي يولد الثقافة وخاصة ثقافة المواجهة وهذه الأخيرة تعزّز مجددا الوجدان. ذلك هو المعنى الحقيقي والفعلي للمطلب الأميركي لتغيير الثقافة والبرامج التعليمية بحجة إدخال "القيّم الديمقراطية الكابحة للنزعات الإرهابية" التي تولدها الثقافة العربية الحالية، على حد زعمهم. غير أن الواقع مخالف كلياّ لتوجهات المسئولين الأميركيين وحلفائهم في المنطقة كما جاء في استطلاع للرأي العام العربي أعدّته مؤسسة أميركية في خريف 2002 ليؤكد أن المقوّم الأساسي الأكثر ذكرا لهوية المواطن العربي في معظم الأقطار الممسوحة في ذلك الاستطلاع هو انتماؤه للعروبة وذلك قبل المقوّم أو الهوية الدينية أو القطرية. والجدير بالذكر أيضا ما أفاد به وزير الكيان الصهيوني شاوول موفاز عندما كان رئيسا للأركان في مقابلة ملفتة لإحدى الصحف الإسرائيلية أن هدف الهجوم عل مدن الضفة الغربية لم يكن لتدمير "البنية التحتية للإرهاب" كما كانوا يزعمون بل "لكسر وعي الإنسان الفلسطيني" الذي يجب عليه أن لا يفكّر في يوم من الأياّم أن بإمكانه قيام مواجهة ناجحة مع الكيان الصهيوني. فما رأيكم أيها الإخوة والأخوات بالنصر الذي تحقق في لبنان وفلسطين؟ تلك الإنجازات تدّل بوضوح أنه لا يمكن "كسر وعي الإنسان" سواء كان لبنانيا أو فلسطينيا أو من أي قطر عربي.
والملفت للنظر أن رغم الأموال الطائلة التي أنفقت في شراء الذمم والضمائر للنخب المثقفة لتروّج ثقافة الهزيمة و"الواقعية" ونبذ "اللغة الخشبية" أو "الظاهرة الصوتية" التي تشكلها القومية العربية غير أنها لم تستطع أن تغيّر أي شيء في نفوس الجماهير رغم القمع والاستبداد وملاحقة أصحاب الرأي الحر. هذه النتيجة تؤكد أن المقاومة والممانعة ما زالتا في صميم وجدان واهتمام الجماهير العربية.
و تتركز الهجمات على إعلان وفاة القومية العربية على صفحات الجرائد و على الفضائيات لتغييّب الخطاب القومي العربي من الوعي العربي. ويستثمر غلاة " الواقعية" أو " العقلانية" المرتبطة بالتياّر العولمة الليبرالي ودوائر القرار الأميركي سقوط بغداد واستمرار الاحتلال واضطهاد وقمع الشعب الفلسطيني ومحاصرة وتجويع غزّة من قبل قواّت الكيان الصهيوني وسط صمت عربي رسمي مدوّي، كبرهان ساطع عن وفاة القومية العربية و نهاية الفكر القومي. و هذه الطبقة من المثقفين العدميين كما يصفهم الدكتور عزمي بشارة هي، وفقا للكاتب الأردني إبراهيم غرابية "، من فلول اليسار والحركات والشخصيات المهزومة شعبيا وسياسيا وثقافيا، والتي تملك في الوقت نفسه مداخل العمل الثقافي والإعلامي وإمكانيات مالية كبيرة تواجه حقيقة أنها مرفوضة تماما". ويضيف الكاتب أن " فهم ثقافة السلام الجديدة قائم على ملاحظة صياغة العالم في ديمقراطية لا تتيح لغير النخبة الليبرالية الوصول إلى مواقع النفوذ، وبالمقابل حرمان وتجاهل ومطاردة وربما اغتيال وتصفية للآخرين الممانعين". فالمشروع القومي والفكر القومي على حد زعمهم ارتبط بالاستبداد وشخص الطاغي وبالتالي نهاية الاستبداد أو الطاغي تعني نهاية المشروع القومي الذي لم يوّلد إلاّ المآسي والويلات لشعوب المنطقة. ومن الطبيعي أنه لا يمكن اختزال المشروع القومي بنظام أو بمؤسسة و لا الفكر بشخص كما يحاولون تشخيص الواقع القومي.
أريد أن أقف بعض الشيء على هذه النقاط. إن ما حصل في العراق كان هجوما مركزا لتدمير هوية العراق العربية وتحويله إلى تجمعات طائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية تتقاتل مع بعضها بعض لمنع توحيدها في إطار وطن هويته عربية. وأذكر أن حلفاء أميركا في الوطن هي أنظمة استبدادية بامتياز ويتمّ السكوت عنها من قبل "العدميين" أو "الواقعيين" أو "الحداثويين" أو أخصام "اللغة الخشبية" أو أرباب "ثقافة الحياة"! لقد تبيّن أن الدولة القطرية، وإن رفعت يافطة القومية، لا تستطيع حماية حدودها، كما أنها لا تستطيع تأمين اقتصادها وتحقيق تنمية مجتمعها سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو الإنساني أو الثقافي. كما أن الدولة القطرية وفقا لتركيبتها السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ونهج سلوكها ونظام حكمها السائد لم تستطع إيجاد آلية للتحديث والتغيّير في مجتمعها رغم تجربة (أي الدولة القطرية) استمرّت أكثر من خمسين عام في معظم الأقطار. ألم يحن الآن إعطاء الفرصة لدولة الوحدة أو على الأقل إعادة صياغة الدولة القطرية بشكل يلغي أو يحيّد التناقض بين الكيان القطري والدولة القومية ؟ أليس إنشاء دولة الوحدة أو المباشرة الحقيقية لبنائها الرد الاستراتيجي عل جميع أشكال العدوان التي تتعرض إليها أمتنا العربية؟
وهل من الصحيح أن فقدان الديمقراطية في كافة الأقطار العربية كما يدّعى الليبراليون الجدد هو السبب الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، في إلحاق الهزيمة؟ السؤال لا يعني التشكيك في إقرار الإشكالية للمسألة الديمقراطية بل محاولة لوضعها في سياقها التاريخي وفقا للمعطيات السائدة في الحقبة الزمنية التي ارتبطت فكرة المشروع القومي بهذا النظام أو ذاك. ولا بد من تخصيص الحقبة الناصرية التي شكلّت المرتكز للمشروع القومي والتي تشكّل اليوم محور الهجوم عل كل من المشروع والفكر القومي. فالحقيقة أنه لم تغب عن بال عبد الناصر قضية الديمقراطية وقد حاول معالجتها وفقا للظروف التي كانت تحيط بثورة يوليو وعلى الأرضية المعرفية السائدة آنذاك. وكانت مشكلة عبد الناصر أنه لم يستطع تجاوز عقدة تعدد الأحزاب لما كانت عليها قبل الثورة (وربما كان محقا في ذلك) والتي لم تكن تمثل الشرائح الواسعة للمجتمع المصري والتي كان ينخرها الفساد. وبالتالي لم تستطع تلك الديمقراطية المزيّفة منع الهزيمة ونكبة فلسطين! إضافة إلى ذلك كان الاجتهاد آنذاك أن الأولوية للديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية كخطوة لا بد منها قبل بناء الديمقراطية السليمة كما أسهب شرحها في " الميثاق" فإن التطورات والأحداث وخاصة هزيمة 1967 أتت لتضرب الإنجازات التي حققتها الثورة . فلا يجب أن يغفل عن البال أن النمو الاقتصادي الذي تمّ تحقيقه في الجمهورية العربية المتحدة خلال فترة 1954-1966 وخاصة في القطاعات الإنتاجية الحقيقية (صناعة وكهرباء، وبناء و تشيّيد) تجاوز الستة بالمائة سنويا. بالمقابل يقوم أعداء الحقبة الناصرية بحملة ثقافية منظمة لإعادة تلميع صورة ما قبل الثورة عبر مسلسلات تلفزيونية كمسلسل "فاروق" الذي أطّل على المشاهدين العرب في رمضان 2007. وهذه الخطوة حلقة من حلقات عديدة تريد محو ذاكرة المواطن العربي من أي مفهوم مقاوم لسيطرة الاستعمار والقرار الخارجي عبر "إنصاف" من اتهمتهم الثورة الناصرية بمسببي النكبة في فلسطين الذي احتفل بها الرئيس بوش في مؤخرا وسط "ترحيب" و"استقبال" عربي معيب!
ليست مهمتي اليوم الغرق في الردّ على الهجوم المغرض على التياّر القومي العربي وفكره كما لست في إطار ممارسة المراجعة الفكرية التي بدأت بالفعل منذ الستينات مع عبد الناصر بالذات وما زالت مستمرة. إن المهمة التي تقع على عاتق المفكرين القوميين العرب هي استكمال العمل التجدّدي الذي بدأ في مؤتمر قبرص في أواخر شهر تشرين الثاني سنة 1983 تحت إشراف ومبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية والذي يسعى إلى استكماله مؤتمر دمشق الأخير. وبات واضحا من وثائق ووقائع المؤتمر آنذاك ومؤخرا أن الخطاب القومي أدخل بشكل مكثف مفهوم الديمقراطية في أدبياته وإن كان ذلك غير مستغربا لأن" لكل من مصطلحات الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية والوحدة والعقلانية واليقظة والنهضة البرلمانية جذورا راسخة في ذاكرة أبناء النصف الأول من القرن العشرين" . و بالتالي لا أساس لتهمة الفكر القومي بأنه يولد الاستبداد أو العنصرية أو حتى اللاسامية.
لا بد من أشددّ على أن طرح مسألة الديمقراطية هو كلام صحيح يراد به باطل. فالديمقراطية هي أداة وليست هدفا قائما بحد ذاته. فهي الوسيلة لتحقيق أهداف المشروع العربي الوحدوي النهضوي. وهذا المشروع هو الصيغة المتقدمة لتحرير الوطن والمواطن من وطأة الاستعمار وجحيم التخلف والفقر واللامساواة. إن هدف تحقيق العدالة الاجتماعية ومجتمع الكفاية والعدل (وهو من إنتاج ثورة 23 يوليو) هو جوهر المشروع العربي النهضوي. إن الكلام عن تسييس الهويات الطائفية كبديل للطرح القومي هو يقين العدمية المبنية على تجاهل الطرح القومي واستبداله بالهويات الفئوية سواء كانت طائفية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو عشائرية أو مناطقية أو قطاعية - مجتمعة أو منفردة- فهي الطريق الحتمي للهلاك وإلى العدم عبر الاقتتال الدائم الذي يستنزف الأجساد والأرواح ويكرّس هيمنة القرار الخارجي. هذا هو منطق "العدمية" العربية واللبنانية الذي نشهده عبر الفضاء الإعلامي المرئي والمكتوب وحتى في بعض المرافق الدينية – تلك العدمية التي يريدونها أن تسيطر على العقل والوجدان العربي وعلى ذاكرته وتراثه بشكل عام وفي لبنان وبيروت وطرابلس بشكل خاص. هذه هي الخدمة المجانية للمشروع الأميركي الصهيوني التي يقدمها أولئك الذين يخلطون النقد الذاتي بجلد الذات وبا"الحداثة" و"الانفتاح على الآخر" وسائر من المقولات التي أفرغت من أي مضمون بل "طنّتها ورنتّها" الصوتية تريد ان توحي ب"عمق" في الفكر و"عقلانية" وترويج ل"ثقافة" الحياة وإن كانت غائبة بالفعل عن عقل وسلوك مروّجي تلك اللغة الخشبية الجديدة.
وختاما أريد أن أحدثكم بعض الشيء عن آفاق هذا الفكر القومي الذي جسّدته ثورة 23 يوليو. السؤال الذي يمكن طرحه هو هل من مستقبل للفكر القومي العربي و لماذا؟ الإجابة هي نعم و ذلك لعدة أسباب.
أولا، إن الفكر القومي غنّي و قابل للتطوّر لأنه يسدّ حاجة في الوعي العربي كما تدّل مختلف الوثائق و النصوص الفكرية التي تمّ مراجعتها.
]فالمرحلة الأولى للفكر القومي و التي امتدت طيلة القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى كانت تهدف لمواجهة الاستبداد العثماني و الانفصال عن الدولة العثمانية كرد فعل على تتريك الدولة. أما في المرحلة الثانية التي امتدت من الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية فكانت لمكافحة الاستعمار و الحصول على الاستقلال و تميّزت ببلورة المضمون النظري للفكر القومي. أما المرحلة الثالثة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أواخر الستينات فكانت مرحلة التأييد الشعبي والالتزام بالبرامج الراديكالية. أما المرحلة الرابعة التي بدأت منذ أوائل السبعينات و ما زالت مستمرّة فهي مرحلة إدخال الديمقراطية إلى قاموس الخطاب القومي العربي و البحث عن المشروع السياسي للمرحلة الراهنة و المستقبلية لأن ذلك هو المطلب الذي يتجاوب مع منطق الضرورة وإلاّ لفقد الفكر القومي العربي دوره الوظيفي في تغذية الوعي العربي . و الجدير بالذكر أن تلك المرحلة شهدت ابتعاد القيادات و النخب القومية عن مفاصل الفكر القومي العربي و الانحراف في السلوك بسبب فقدان الآلية التي كان يمكن استخدامها في المشروع القومي العربي. هذه الآلية تمثّلت في الحزب و الجيش و الآفاق المسدودة التي آلت إليها.[
أما السبب الثاني الذي يدّل عن مستقبل مشرق للفكر القومي العربي فهو مناعة ذلك الفكر في مواجهة الاضمحلال بعد الهزائم و النكسات. لقد أشرت سابقا إلى إصرار أعداء الأمة على إعلان وفاة الفكر و المشروع القوميين بشكل دوري مما يدّل عن حيوية و ومناعة لا يتحملانها أعداء هذه الأمة.
لقد كانت المسألة المسيطرة على اهتمامات المثقفين القوميين العرب لفترة طويلة من الزمن البحث عن النظرية التي" تمنح الحركة القومية شخصيتها المميّزة وتضمن تقدمّها المطرد نحو تحقيق الغايات الكبرى". وبات واضحا من بعد مراجعة النصوص الأساسية للفكر القومي العربي أن التركيز كان على مسألتين أساسيتين في الفكر ألا وهما قضية الوحدة وكيفية تحقيقها وقضية الديمقراطية وأهمية توفرها كمبدأ أساسي في النهضة العربية الحديثة. والظروف الراهنة تفرض إضافة محور ثالث وهو استعادة التراث في الفكر القومي الذي تمّ التخلّي عنه بعض الشيء ويشكّل ذلك محورا أساسيا في حوارات التيار القومي مع التيار الديني. وهنا لا بد من لفت الانتباه أن التياّر القومي ليس حكرا على فئة بل يشمل كافة التيارات السياسية والدينية التي تعمل من أجل الأمة. فالمؤتمر القومي العربي الذي سيحتفل في السنة القادمة عامه العشرين يضّم روافد متعددة من القوميين التاريخيين كالناصريين والبعثييّن والحركييّن القومييّن العرب إضافة إلى التيار الديني والتيار الماركسي والتياّر الليبرالي. فكل ما يساهم في تنمية الفكر العربي هو قومي بالفعل. هذه هي قيمة المنبر الذي يشكّله المؤتمر القومي العربي.
ففي ذلك السياق أعتقد أن آفاق الفكر القومي العربي تكمن أولا في تطوّر الفكر العربي عامة؛ وثانيا في الارتباط بمشروع سياسي يؤدي إلى بناء دولة الوحدة في أحسن الأحوال أو الموقف المشترك في أسوأها على أسس توفّر الحرية للفرد وللمجتمع؛ وثانيا مشروع اقتصادي يمكّن التنمية والفرص للجميع؛ وثالثا رؤية اجتماعية تنصف كافة شرائح المجتمع وتمكّن المرأة؛ ورابعا منظومة ثقافية لا تمسخ التراث ولا تقف عائقا أمام التجدد الحضاري؛ أي مشروع واضح المعالم و المفاصل سمته المرونة ليشكل دليلا للعمل؛ وأخيرا، في إيجاد الآلية أو الآليات التي تكفل تنفيذ المشروع وتحوّله إلى واقع سياسي وثقافي يغذّي الوعي والمعرفة والوجدان العربي ولا تلغيه التطورات السياسية أو الأمنية الخارجية.
أيها الأخوة والأخوات، هكذا أستذكر ثورة 23 يوليو. فهي مستمرّة بفكرنا ومجهودنا وهي طريقنا لتحقيق التحرير أوّلا ثم الوحدة والحرية ومجتمع الكفاية والعدل.






آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس