عرض مشاركة واحدة
قديم 10-05-2010, 01:41 AM رقم المشاركة : 304
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: ابحاث ثورة يوليو

لا يُذْكَر اسم جمال عبد الناصر ـ حين يُذْكَر ـ إلا مقترناً بقيمٍ ومبادئ وإنجازات عند مَن شايَعُوهُ، وانتصروا لمشروعه السياسي، واعتنقوا خياراته، وقَرَّ في نفوسهم أنها وحدها الخيارات التي تفتح أمام مِصْرَ والعرب أفقاً، وتأخذهم إلى سبيل النهضة والتقدُّم. ولا يُذْكَر اسمه ـ عند من ناصبوهُ الخصومة وعالنُوا مشروعَهُ الاعتراض ـ إلاّ مقترناً بنعوت الذَّمِّ لعهده والقدْح فيه، وافتراض العهد ذاك مثالاً مرجعياً للتجارب التي تقيم الحكم على مقتضى التسلّط والشعبوية والبيروقراطية كالتي قامت في البلاد العربية أو التي قد تقوم فيها. عبد الناصر عند الأوّلين هو البطل القوميّ ذو الشخصية الكاريزمية الساحرة الذي يرمزُ اسمُه للكرامة ولمشروعٍ تاريخيّ مترامي الأطراف والأهداف (التنمية الوطنية المستقلة القائمة على التصنيع والإصلاح الزراعي والتأميمات وسياسات التخطيط المركزي، والعدالة الاجتماعية القائمة على إعادة تحديد الملكية العقارية وإعادة توزيع الثروة ومحاربة الفوارق الطبقية وإنصاف الكادحين في حقوقهم، ومواجهة المشروع الصهيوني ونصرة شعب فلسطين من أجل تحرير وطنه المغتصب، والاشتباك مع السياسات والأحلاف الامبريالية في البلاد العربية ودعم حركات التحرُّر الوطني الاستقلالية فيها، والنضال من أجل الوحدة العربية وخوض تجربتها جزئياً، والانتظام في خط حركة التحرّر العالمية من طريق المشاركة في تأسيس سياسة الحياد الإيجابي ومنظومتها العالمية...الخ). وهو عند المعارضين حاكمٌ متسلّط؛ انتهك الديموقراطية وحقوق الإنسان وزجَّ بمعارضيه (الإسلاميين والشيوعيين) في السجون، ومكَّنَ الدولة من السيطرة على الاقتصاد، وخسر الوحدة مع سورية، وقاد جيشه إلى الهزيمة في حرب 1967، وأطلق أيدي الأجهزة الأمنية في الحريات والمؤسسات.
صورتان للرجلِ على طرفَيْ نقيض، رافقتاه طيلة عهده في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، واستمرَّتا في الذيوع والتجاذب طيلة الأربعين عاماً الأخيرة بعد رحيله. لم يَنْسَهُ الذين ناصروهُ وكانوا في جملة حزبه وشيعته، ولم يبرحوا يعتقدون أن مشروعه معاصر ومستقبليّ.





هل هي ازدواجية في الوعي العربي القارئ في شخصية عبد الناصر ومشروعه أم إنها (= ازدواجية) في صلب مشروعه؛ ينطوي عليها وتتجاذبه؟

تنتمي هذه الازدواجية إلى مشروع عبد الناصر بمقدار ما تنتمي إلى الوعي العربي القارئ في مشروعه. ولكن بينما هي تذهب في الحدّة والتقاطب إلى حدّ التضادّ والتلاغي بين رؤيتين وقراءتين في الوعي العربي، لا تعرف في مشروع عبد الناصر وتجربته تلك الدرجة الحادة من التناقض الذي تنطوي عليه هاتان الرؤيتان. بين النظرة التبجيلية إليه عند بعضٍ وشَيْطَنَةِ صورته عند بعض آخر مساحةٌ من الحقائق لم يلتقطها هؤلاء وأولئك. لم يكن عبد الناصر ملاكاً ولا كائناً خارقاً لنواميس البشريّ معصوماً من ارتكاب الأخطاء. وهو ما كان ـ في المقابل ـ حاكماً سيئاً يستحق من خصومه كل ذلك السّيْل من عبارات الاتهام والقَدْح والتشنيع. كان قائداً سياسياً وتاريخياً يصيب ويُخْطئ، ينجح ويُخفق مثل الذين يشبهونه من القادة الكبار في التاريخ الإنساني. قد تكون مكتسباته أعظم من هناته، وهي قطعاً أعظم، لكن الأخطاء التي فرضَتْها عليه ظروفُ عصره وثقافةًُ ذلك العصر لم تكن نتائجُها محايدة على مشروعه ومستقبل ذلك المشروع بعد رحيله.
إنصاف عبد الناصر لا يكون بغير قراءة مشروعه في سياق الجدلية التاريخية التي حكَمَتْه: جدلية النجاح والإخفاق، وهي جدلية موضوعية في تاريخ السياسة وفي تاريخ الاجتماع الإنساني. لم يخطئ مناصروه حين ذكروا له فضْل ما فعل وأنجز في ميادين التنمية والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني والاستقلال القومي والتوحيد...الخ، لكنهم أخطأوا ـ قطعاً ـ حين جرّبوا السكوت عمّا كان في مشروعه التاريخي الكبير من وجوه القصور التي نالت كثيراً من بريقه، ومن فرص استمراره بعد رحيل القائد الذي أطلقه. ولم يخطئ معارضوه حين توقفوا طويلاً أمام أوضاع الحريات السياسية في عهده وشنعوا على سلطان الأجهزة الأمنية المطلق، لكنهم أخطأوا حين لم يروا من عهده سوى الصدام مع «الإخوان المسلمين» والشيوعيين وأعرضوا عن رؤية إنجازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة. وليس للمرء، في مثل هذه الحال من الانتقاء والاختزال، سوى أن يدعو إلى تحرير عبد الناصر من الحبّ الأعمى له ومن الحقد الأسود عليه، فَهُمَا ـ وإنِ اختلفا ـ سواءٌ في الإساءة له، طبعاً مع حفظ الفارق بينهما في درجة الإساءة المرتكبة: فليس من أحيا كمن قتل.
لسنا في معْرض التقديس أو التبجيل حين نقول إن عهد عبد الناصر عهدٌ استثنائيٌّ في تاريخ العرب الحديث استثنائيةَ الرجل الذي صنعه ورمز له، ولعله يكون آخر عهدٍ وفرصةٍ لهم ـ في هذا التاريخ ـ يكونون بهما على قَدْرِ ما أرادوا أن يكونوا. إن شئنا الاحتراس أكثر، قلنا: لعله آخر عهدٍ لهم قبل زمنٍ يطول قطعاً، قبل أن يأزف بعهد كرامةٍ شبيه. عبد الناصر، كشخص، من طينة القادة التاريخيين الكبار، وهؤلاء لا يولدون دائماً ولا يتوفرون في كل الظروف والأوقات. ولحظتُه التاريخية لحظةٌ خاصة: لحظة مدّ حركات التحرر الوطني في قارات العالم الثلاث، ولحظة التوازن الدولي بين قطبين ومعسكرين. وهذه لحظة لا تتكرر دائماً. وحين تجتمع مَلَكَاتُ الفرد وممكنات اللحظة التاريخية، كما اجتمعا في مشروع الناصرية وعهدها، فذلك من المغانم التي لا يغنمها البشر دائماً. لذلك استطاع عبد الناصر ـ في بحر عقد ونصف ـ ما لم يستطعه غيرُه في عقود في العالم المعاصر، والذين أدمنوا على القَدْح في مشروعه وعهده، باسم الحريات السياسية والاقتصادية، ينسون أن ما بعد الناصرية كان عصر تلك «الحريات»، التي أنتجت أشدّ أنواع العبث بالسياسة: من تفريخ برلمانات مزوّرة التمثيل حتى مأْسَسَة الاستبداد وتحويل الجمهوريات إلى ملكيات، والتي أنتجت أشدّ أنواع العدوان على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعب باسم «الاقتصاد الحر» أعلى أشكال الفساد الاقتصادي والمالي. دعْكَ من أن صاحب ذلك العهد المجنيّ عليه عاشَ في شقّة ومات في شقة، ولم يَرِث أهلُه من عهده غير الذكر الطيب لعهده.
لسنا أيضاً في معرض القدْح والتشنيع حين نقول إن نقطة ضعف مشروعه هي الديموقراطية، بل لعلّها مكان المقْتَل منه الذي أودَى به بعد رحيل قائده. لنا أن نقول هنا من باب الاستدراك ـ وهو قولٌ مشروع ـ إنّ ما يشفع للرجل قليلاً أن الديموقراطية حينها ما كانت ثقافة عصره، على الأقل في بيئة الحركات الوطنية والتقدمية في العالم، وأن مؤاخذته على ذلك أشبه بمؤاخذة قادةٍ كبار يشبهونه مثل لينين وماوتسي تونع وفيديل كاسترو والماريشال تيتو وهوشي منه، وأنها مؤاخذة لا تنال من عظمة مشروعه كما لم تنل من عظمة مشروع أيّ من هؤلاء. وفي الاستدراك ما يسمح بالقول ـ أيضاً ـ إن محاكمة مشروعه من مدخل الديموقراطية يشبه أن يكون إسقاطاً تاريخياً غيرَ مبرَّر نفكّر فيه في الماضي بأفكار الحاضر ومفاهيمه التي هي نتاج زمن مختلف.
نعرف أن عبد الناصر انتبه إلى فقْر مشروعه إلى هذه الفقرة المفصلية فيه (= الديموقراطية) على ما يفيدنا بذلك بيانه الشهير، بعد هزيمة 5 حزيران 67، الذي عُرف باسم «بيان مارس»، وأنه ـ من أسفٍ ـ ما تابع أمْرَ ذلك الانتباه فترجمه في إجراءات كانت ستُحصّن مكتسبات مشروعه في ما لو قيّض لها أن تشهد النور. والحاصل أن عدم إقامته مشروعَه على مقتضًى ديموقراطيٍّ ومؤسَّسي كان له الأثر الشديد في التمكين لخصومه من الإتيان على ذلك المشروع بمعاول الهدم من دون أن يجدوا أمامهم من يقيّد اندفاعاتهم من مؤسسات، فالرجل رَحَلَ ولم يترك خلفه مؤسسات تحمي ثورته ومكتسباتها، فبدا كما لو أن رحيله رحيلٌ للعهد كلِّهِ والمشروع. تلك مشكلة شخصنة السلطة والكاريزما السياسية: تكون ضمانةً للإنجاز في لحظة، وتصبح في أخرى عبئاً ثقيلاً.
أربعون عاماً مرّت على رحيل قائدٍ تاريخيّ استثنائي ظهر فجأةً على مسرح التاريخ ورحل فجأة منه، ولكنه لم يخْتَف لأننا نتذكره؛ نتذكره حين ننهزم، ونتذكره حين ننتصر، ونتذكره حين نعيش الزمن الفاصل بين اللحظتين.







آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس