عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2011, 11:38 PM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

سابعًا : تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق ، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن ، ونتيجة لموته إستقام الأمر لأخيه السلطان محمد ، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق ، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة .

ثامنًا : من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها ، وكانت النار قد إشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار ، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون ، فمات متأثرًا بجراحه , وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه ، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لإبن خالته وليم جوردان الذي إستأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس ، ومن ثَمَّ إستمر في حصارها ، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون .

تاسعًا : حدثت أزمة في إمارة الموصل نتيجة محاولة السلطان محمد السيطرة على مدينة الموصل ورفض جكرمش لهذه السيطرة لولائه لبركياروق ، مع أن الموصل كانت في الصلح الذي تمَّ بين بركياروق ومحمد من حق السلطان محمد ، إلا أن جكرمش كانت له ميول استقلالية جعلته يرفض تسليم المدينة ، غير أن أخبار وفاة بركياروق ما لبثت أن أتت ، ومن ثَمَّ إضطر جكرمش إلى التسليم للسلطان محمد ، وإن كان هذا التسليم مؤقتًا كما سيتبين لنا .

عاشرًا : فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين ، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا ، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا ، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا ، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها إبن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها ، وعلى الرغم من كون إبن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك ، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك ، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي ، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة ، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر) ، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث
إختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات ، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس) ، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا ؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة ، فقال كلمته الخالدة : "بل أسير ، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت ، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد" ، فساروا به صوب طرابلس ، ولكنه مات بعد يومين !!

إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .

وإستكمالاً لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات ، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا ، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير ، وعلم واسع ، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى إختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع .

كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق ، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد ؛ مما جعله يشكك في ولائه ، وراسله في ذلك ، فتعلَّل جكرمش ، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له ، فإضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لإسترداد الموصل لصالح السلطان ، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق ، وحشيًّا في تعاملاته ، مكروهًا من العامة ، وكان إسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك ، فسار جاولي إلى الموصل ، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م ، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا ، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو ، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش ، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي ، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد ، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف ، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة ، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !

رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لإمتلاك الموصل ، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته ، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب ، فدخل المدينة وملكها ، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو ، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان ، ثم إضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور ، ولم يستطع النجاة فغرق ، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !

وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه ، وتقوية سلطته ، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده ، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ..

وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة ، وجاء ليزيدها إتساعًا ، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة ، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !

وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها ، وعامل أهلها في منتهى الغلظة ، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م ، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فإضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان ، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين ، وهو من التركمان الأخيار ، وحاصر مودود مدينة الموصل ، وقاومه جاولي وجنوده ، وحذر جاولي العامة من الإقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له ، وشدَّد عليهم في ذلك ، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة ، فاجتمعت طائفة من الشعب ، وتعاهدوا على فتح الأبواب ، وإتفقوا على إستغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد ، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج ، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم ، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد ، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود ، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي ، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة ، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات ، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة ، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !

في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر ، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار ، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل .

لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!

مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .

في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي ، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير ، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار ، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك .

وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته ، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !

في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي ، والمال الوفير الذي توفر في يده ، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش .

وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة ، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته ، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم ، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!

أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !

ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات ، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي ، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان ، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر ، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها ، ويبقى تانكرد في أنطاكية ، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !

في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها ، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين ، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم ، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه ، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة ، ودخل المدينة حاكمًا ، وعلم بهذا الاجتماع ، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة ، وعزل كل الكبار من الأرمن ، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه ، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال ، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة ، واضطراب عام في الأوضاع ، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم إستقرار تلك الإمارة .

وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية ، بل إنه أفلح في إسترداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة ، أي في سنة (502هـ) 1108م ، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها ، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس ؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة .

لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وإبن خالته ، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة ، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها ، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر ، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة ، وكان أميرها هو فخر الملك إبن عمار .

لم يجد إبن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار ، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله ، والسلطان السلجوقي محمد للإستنجاد بهما وبجيوشهما ، لكن للإختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية ، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم ، وغياب في الرؤية ، فتقوية إبن عمار إضعاف للصليبيين ، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة ، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما ، أو يبدلا من مبادئهما ، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال ، والنجدة للأرواح التي تزهق ، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث ، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده ، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد إستنجد أهلها بهم في غياب إبن عمار ، فجاءوا بأساطيل من مصر ، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !

وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين ، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس ، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل ، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها .

ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس ، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية ، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !

ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان ، وأحيط بالشعب المسكين ، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام ، وفتح أبواب المدينة للصليبيين ، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين ، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس ، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !

وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان ، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !

غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة ، وأسر بقية الرجال ، وتم سبي كل النساء والأطفال ، ونهبت الأموال الغزيرة ؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية ، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة ، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !

وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة ، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته ، وإمتلك المدينة إبنه برترام بن ريمون ، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائة وثمانين سنة كاملة !!

ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !

وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا ، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا ، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !

أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل ، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر ؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية ، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار ، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد ، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ) ، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن ، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت ، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا ، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم ؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها ، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب ، بل إن تانكرد إحتل حصنًا آخر هو حصن زردنا ، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب ، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب .

ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد ، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !

وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين .

وعند هذا الحد تكون قد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية ، ونحتاج إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن تبلورت صورته إلى حد كبير ، ولنأخذ بعض العِبَر من الموقف ، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث .

أولاً : أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي :

وهكذا إستقرت هذه الكيانات الأربع في عمق العالم الإسلامي ، ودام هذا الاستقرار عشرات السنين كما سيتبين لنا من سياق القصة .

ثانيًا : الوضع الذي وصفناه الآن لا شك أنه أشد وطأة من الوضع الذي نعاني منه الآن في فلسطين ؛

1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية ، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون ؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية بإستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس ، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي ، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا ، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج ، وكلها تعني الفرنسيين ، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا ، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين ، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل : بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة ، وأهم من كل ذلك القدس الشريف ، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان ، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة .

2- الإمارة الثانية للصليبيين هي إمارة طرابلس التي تكونت حديثًا سنة (503هـ) 1109م ، وكان على رأسها الأمير برترام بن ريمون ، وكانت هذه الإمارة في بادئ الأمر منقسمة على نفسها كما بينا ، حيث كانت طرابلس والجبيل في يد برترام بن ريمون ، وعرقة وطرطوس في يد وليم جوردان ، غير أن وليم جوردان قُتل - كما يقولون - في ظروف غامضة ! ولا يستبعد أن الذي أوعز بقتله هو برترام بن ريمون ليخلو له الجو في الإمارة ، وبالفعل تكونت إمارة طرابلس الموحدة ، وكانت حدودها الشمالية تصل إلى طرطوس (في سوريا الآن) ، بينما تصل حدودها الجنوبية إلى مدينة جبيل في لبنان ، أما قاعدة الإمارة فهي مدينة طرابلس بالطبع .

3- الإمارة الثالثة هي أنطاكية ، وأميرها هو تانكرد النورماني، وقد توسعت جنوبًا حتى وصلت إلى بانياس ، وشمالاً إلى إقليم قليقية ، وتوسعت أيضًا شرقًا حتى وصلت إلى مشارف حلب، وكان غالب الجيش في هذه الإمارة من النورمان الإيطاليين .

4- الإمارة الرابعة هي إمارة الرها ، وهي أول الإمارات تأسيسًا ، ويقودها بلدوين دي بورج ، وتضم عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا حول نهر الفرات ، وأهم هذه المدن إلى جوار الرها مدينة سميساط وسروج والبيرة، إضافةً إلى مدينة تل باشر التي يقودها جوسلين دي كورتناي الشخصية الثانية في إمارة الرها .

ومع كون الوضع مترديًا على هذه الصورة فإنَّ المسلمين - كما سيتبين لنا - استطاعوا الخروج من الأزمة ولو بعد حين ، وعلى هذا فإذا كانت أزمتنا الآن أهون فخروجنا منها أسهل بإذن الله ، وحتمًا - كما يثبت لنا التاريخ - يظهر بعد الليل الطويل فجرٌ سعيد .

1- فالوضع أيام الحروب الصليبية لم يكن مقتصرًا على دولة واحدة ، بل تأسست أربع دول .

2- ولم يكن الاحتلال مقصورًا على فلسطين وحدها ، بل شمل فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا .

3- ولم يقبع الاحتلال هناك فترة قصيرة من الزمن إنما دام مائتي سنة .

4- كما أن المذابح التي رأيناها في إحتلال المدن الإسلامية أكثر بكثير من كل ما نشاهده الآن في المدن الفلسطينية .

5- كما أن حالة الفُرقة بين المسلمين أشد وأعتى مما نعانيه الآن؛ فلو نظرت إلى سوريا فقط فإننا سنجدها في زمان الحروب الصليبية مقسمة إلى عدة إمارات منفصلة ، منها حلب وحمص ودمشق وحماة وشيزر وبانياس وغيرها .

ثالثًا : رأينا الأخطاء المتتالية التي ارتكبها الجيل الذي عاصر الحروب الصليبية ، وهذه الأخطاء المركبَّة لم يقوموا هم وحدهم بدفع ثمنها بعد ذلك، بل دفعتها أجيال متعاقبة ، ولسنوات طويلة ؛ فقد شاهدوا على سبيل المثال تقاعسًا من المسلمين عن نصرة طرابلس المحاصرة ، وظل الحصار كما رأينا سبع سنوات متصلة ثم سقطت طرابلس ، واستمر هذا السقوط مائة وخمسًا وثمانين سنة !! أي دفع الثمن ستة أو سبعة أجيال متلاحقة ، مما يبين أن حجم الخطأ الذي يرتكبه المرء قد يكون له ذيول وعواقب تضاعف من أثره ونتائجه، وعليه فلا ينبغي أبدًا أن يستهين الإنسان بالذنب أو الخطأ ، ولعل المسلمين تخيلوا عند سقوط طرابلس أن هذا شيء عارض لن يستمر سوى عام أو عامين ، ثم كانت العواقب كما رأينا .

وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة ، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ" .

رابعًا : رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين ، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة ، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون ، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة ، ويبيعونهم بأبخس ثمن ، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة ، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان ، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب ، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !

إن هؤلاء الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) , وأقول لهم : إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها ، إنما هي السنة المطردة ، والواقع المتكرر !

خامسًا : إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد إختفى إلى حد كبير ، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!
أين العلماء ؟!

واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية ، وعلى رأسها حلب ودمشق ، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها ، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية ، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة ، فقد إشتهر الباطنية بحوادث الإغتيال والمؤامرات ؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة ، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية ، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !

ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم ، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد ، ولما إستفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق ، وإنتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول إبن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك : "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة ، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم" .


آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فإعتزل ! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !

لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية ، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء ، وهم قادة الأمة الحقيقيون ، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!


سادسًا : وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء ، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام ؟!


أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص ؟!


أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا ؟!


أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط ، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم ؟!

إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !

إن الحاكم لا شيء بغير شعبه ، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين ؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير ، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء ، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون ، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون ؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت ؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح ، أو على الأقل كلمة تعجب : لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!












آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس