بين الصَّبْـرِ والشُّكْــر
وعلى الزوجين أن يَعتصما بالله ، ويَلزما الصبرَ والشُّكرَ ، ويكون أمرُهما دائرًا بين هذين ، إمَّا صابِرَيْن ، وإمَّا شاكِرَيْن ، وقـد قال النبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلَّم : (( عجبًا لأمرِ المُؤمن ، إنَّ كُلَّه خير ، وليس ذلك إلَّا للمُؤمن ، إنْ أصابته ضرَّاءَ صَبَرَ فكان خيرًا له ، وإنْ أصابته سَرَّاءَ شَكَرَ فكان خيرًا له )) .
فعلى الزوجين أن يَعلما أنَّ الإنجابَ والعُقمَ مِن الله سُبحانه وتعالى ، فقد يَبتلي اللهُ - عز وجل - بعضَ الناس بالعُقم , وقـد يَبتلي آخرين بإنجابِ البنات ، وآخرين بإنجابِ البنين ، ويُزَوِّجُ آخرين ذُكرانًا وإناثًا ، وكُلُّ ذلك ابتلاءٌ مِن الله عز وجل ، ولا يَسَعُ المُؤمنَ إلَّا الرِّضَا بقَضاءِ الله في كُلِّ الأحوال ، فهو سُبحانه قـد قال عن نفسه : ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ الشورى/49-50 .
• فليس الإنجابُ باجتهادِ شخصٍ ، ولا مهارتِهِ ، ولا فُحولَتِهِ ، ولا قُوَّتِهِ ، ولا ذكائِهِ ، فكم مِن قَوِيٍّ لم يرزقه اللهُ ذُرِّيَّة ، وكم مِن ذَكِيٍّ حُرِمَها كذلك .
وها هُنَّ أزواجُ نبيِّنا محمدٍ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ورَضِيَ اللهُ عنهُنَّ ، لم يرزقهُنَّ اللهُ الولدَ مِن رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - اللهم إلَّا زوجته خديجة ، وسَرِيَّته مارية .
• وسُليمان عليه السلام - كما قدَّمنا - يقولُ : لأطوفن الليلةَ على سبعين امرأة ، تَلِدُ كُلُّ امرأةٍ مِنهُنَّ ولدًا يُجاهِدُ في سبيل الله ، فلم تلد امرأةٌ إلَّا امرأةٌ وَلَدَت نِصفَ إنسان (1) .
• ورَبُّ العِزَّةِ يَرْزُقُ زكريا الولدَ رغم كِبَرِهِ ، وبعد أنْ وَهنَ العَظمُ منه ، واشتعل رأسُهُ شيبًا ، وكانت امرأتُه عاقِرًا .
• وإبراهيم الخليل كذلك يرزقه اللهُ الولدَ ، وبعد الكِبر ، وكانت امرأتُه عاقِرًا كذلك ، وقد قالت لَمَّا بُشِّرَت بالولد : ﴿ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ هود/72 .
• ومريم تُرْزَقُ الوَلدَ بدُون زوجٍ ، آيةً مِن الله - عز وجل - للعالَمين .
فأمـرُ الإنجابِ والعُقمِ مَرَدُّهُ إلى اللهِ سُبحانه وتعالى .
• فإذا ابتلَى اللهُ - سُبحانه وتعالى - الزوجين بالعُقم ، فعليهما الرِّضَا بقضاءِ الله , فكم مِن ولدٍ أرهَقَ أَبَوَيْه طُغيانًا وكُفرًا ، والغُلامُ الذي قتله الخضر طُبِعَ كافرًا ، كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وقال الخضرُ في شأنه : ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ... ﴾ الكهف/ 80 .
وكم مِن غُلامٍ كُتِبَت له الشَّقَاوةُ وهو في بطن أمه .
وقـد قال اللهُ سُبحانه وتعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ التغابن/14 .
وقال تعالى : ﴿ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ... ﴾ النساء/11 .
• وقـد كان يَحي بن زكريا - عليهما السلام - سَيِّدًا وحَصورًا .
فالإنجابُ ليس خيرًا في كل الأوقات ، والأولادُ لا يُسعِدون آباءهم وأمهاتهم في كل الأحوال ، قال نُوحٌ لولده : ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ هود/42-43 ، إلى أن قال نوح : ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ هود/45-46 ، فإذا قُدِّرَ على زوجين بعدم الإنجاب ، فعليهما الصبر مع دعاء الله -عز وجل - وتوطين النفس على الرضا بقضاء اللهِ سُبحانه .
• وإذا رَزَقَ اللهُ الزوجين بالبنات ، فهو سُبحانه يَخلقُ ما يشاء ويختار ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ... ﴾ الشورى/49 . فعلى الزوجين أيضًا الرضا والشكر ، ولا يكونا كأهل الجاهلية الذين ذكر الله حالهم بقوله : ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ النحل/58-59 .
وقـد ورد عن رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - بيانُ عظيم الأجر لِمَن أحسن إلى البنات ، ففي (( صحيح مسلم )) (2) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( مَن عَالَ (3) جاريتين حتى تبلُغا ، جاء يومَ القيامةِ أنا وهو )) وضمَّ أصابَعَه .
• وأخرج البخاري ومسلم (4) من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : جاءتني امرأةٌ معها ابنتان تسألُني ، فلم تجد عندي غيرَ تمرةٍ واحدةٍ ، فأعطيتُها ، فقَسمتها بين ابنتيها ، ثم قامت فخرجت ، فدخل النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فحَدَّثتُه ، فقال : (( مَن بُلِيَ مِنَ هذه البناتِ شيئًا ، فأَحسنَ إليهِنَّ ، كُنَّ له سترًا مِن النار )) .
• وفي روايةٍ لمُسلم (5) من حديث عائشة ، قالت : جاءتني مِسكينةٌ تَحمِلُ ابنتين لها ، فأطعمتُها ثلاثَ تمراتٍ ، فأعطت كُلَّ واحدةٍ منهما تمرة , ورفعت إلى فِيها تمرةً لتأكلها ، فاستطعمتها ابنتاها فشَقَّت التمرةَ التي كانت تُريدُ أنْ تأكُلَها بينهما ، فأعجبني شأنُها ، فذكرتُ الذي صنعت لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فقال : (( إنَّ اللهَ قد أوجبَ لها بها الجنةَ ، أو أعتقها بها من النار )) .
______________________________
(1) تقدَّم ، وانظر أيضًا البخاري (5242) .
(2) أخرجه مسلم (5/ 486) .
(3) عالَهُمَا : أي قام عليهما بالإنفاق والمؤنة والتربية ونحوها .
(4) أخرجه البخاري مع ((الفتح)) (10/ 426) ، ومسلم (ص 2027) .
(5) مسلم (ص 2027) .