عرض مشاركة واحدة
قديم 12-20-2013, 09:46 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: إليك سيدتي من غربتي

ها أنا أجمع أفكاري كي يرسمها قلمي على تلك الوريقات المتناثرة في غرفتي ، فاليوم الجو رائق ونسمات الهواء مرطبة ببرودة شتوية معتادة ، والشمس جمعت بين الدفء الجميل والضياء المنير ، وأرى من شرفتي كيف ترسل خيوطها الذهبية إلى تلك الأرض المخضرة ، فيبرق لون الأشجار الخضراء يصاحبها لون الضياء الذهبي ، وتهب نسائم الصبح الفاترة ، وتترك في نفسي أثرا هادئا يحرك ما بداخلي من الأشجان ، وكل هذا لا قيمة له عندي سيدتي ، ولا أجد له مكانا في قلبي ، فإن الحياة هنا لا تروق لي ، كيف وقد شابها حزن وكآبة واغتراب ، وإن هذه اللوحة التي أناظرها كل صباح من شرفتي ، والتي تتوق لها أنفس الكثير لجمالها ونسائمها العليلة ، وتلك الأرض الفسيحة التي تطل من أقصاها جبال قد كُسيت بذلك اللون الأبيض فظهرت لوحة تعجب الشعراء والفنانين والأدباء، فتطربهم طربا يعشقونه،وتأخذ بلباب العقول ، وتأسر النفوس أسرا ، هي في عيني كسجن واسع تحيطه الأشجار ، وتزينه الأزهار ، وتغرد فيه كل الأطيار ، ولكنه في ذات الوقت لا يعدوا كونه سجنا كبيرا في غربتي ، ولا عهد لي بمثل هذا ، فأنا لم اعتد القيد ، ولكن أغلال الغربة قيد لا تكسره سواعدي .
هنا لا أجد ملجأ إلا أن آخذ ذلك القلم الذي يعاني كما أعاني ، فهو يبوح ما يعتلج في قلبي وينضح به فكري ، فأسرح بعيدا إلى ذلك الماضي البعيد لعلي أخفف من وطأة سجن غربتي الكبير ، وأغوص في أعماق فكري ، وأنظر في حديقة مخيلتي الصغيرة التي تكبر في عيني عندما أتذكرني وأتذكركِ ، وأتذكر عندما كنا نغترب معا فلا ينتابني هذا الشعور الذي يعتصرني ألما في كل ساعة وحين ، أتذكرين تلك الرحالات التي ما زالت صورها في دولاب البيت ونسخة أخرى في ذاكرتي ، أتذكرين ( فينيسا ) وصوت المراكب الصغيرة في تلك القنوات المائية وصوت حاديها ينشد عن بهجة الاشتياق ، أتذكرين تلك الأزهار في ريف مدينة العشاق ( أمستردام ) التي كم زانت في عينيك ، أتذكرين تلك الحدائق التي كنا نقطعها طولا وعرضا ونحن نقلب الأحاديث ونخرج ما تكنه قلوبنا ، أتذكرين تلك القرية الجميلة المسماة بـــ ( زيلا ) ، وذلك الكوخ الصغير الذي عاد بنا إلى عصر غابر ، وتلك الليلة المطيرة التي عشناها ، هي غربة ولكن ليست كغربتي ، فشتان بين الغربيتين يا رفيقة الدرب .
أحاول هنا أن أسير بين تلك الأشجار والأزهار ذاتها التي كنا نسير بينها ، وتلك الشجرة الكبيرة التي كنا نستريح بظلالها بين فينة وأخرى ، فأنا أسير وأنظر إلى تلك الأزهار وأنتقي ما كان يعجبك ، فتمدينها إلي وأستنشق عطرها وقد خالطه عطر يديك ، فها أنا أقتطفها وهي تحمل ذات العطر ولكن دون عطر يدك ، فأندم على قطفها لأنك لستِ هنا لن تعطيها من عطركِ كي تعيش حياة أطول ورائحة أجمل .
يراودني الشعور ذاته، فما إن قلبت ناظري عن يميني وشمالي حتى عدت لواقعي الحزين فأنا في هذه الجنة الأرضية أسير وحيد ، وأقلب ناظري في هذه اللوحة البديعة ، ولكن الفكر قد سرح في خياله تجاهكِ ، وتمر الساعات تلو الساعات ولا يعود فكري من خياله الواسع وبعده الشاسع ، ولا أشعر إلا وقد أجهدني السير ذهابا وإيابا في هذه الحديقة ، فإذا جلست أصوب نظري فيما حولي داهمتني الأفكار وعدتِ في غمار سُحب خيال وستمطرك أفكاري مرة أخرى، وهكذا أنا في كل وقت وحين .
كم سمعت أن جمال الطبيعة يخلق روعة الحب في القلب ، وأن الأشجار والأزهار ، وزرقة السماء ، أو عتمة السحاب ورذاذ المطر ، أو الشروق أو الغروب ، أو تغريد الطائر ، أو رؤية الفراشات تتنقل بين البساتين المزهرة ، أو رؤية الماء الساكن والبجع يسبح على سطحه كأنه يسير على مرآة جامدة ، كل هذا يجعل عواطفي تضطرم اضطراما ، فتأنس نفسي بتقلب مواجع الذكريات ، ويطير قلبي تجاهك بجناحي الشوق ، وأغمض عيني حتى أرى حين يحط قلبي بجانب قلبك ، فتمتلئ نفسي بتلك الذكرى الجميلة التي تحيطها الحدائق الخلابة التي ينعت ثمارها أزهارا لا تشابهها أزهار الدنيا ، فأزهار الدنيا تكبر ثم تُزهر ثم تذبل ، وأزهار قلبينا تكبر ثم تزهر ثم تُثمر حتى إن عبقها ليجري في أنفاسنا، وتغريد الأفئدة كجماعة الطيور حين تصدح ، ولكنها لا تعدو أن تكون أصواتا جميلة تُنعش العشاق ، وتشعل قلب المشتاق في حظيرة خيالي الواسع ، أما حين تغرد قلوبنا فإننا نعي ما تُريد فليست هي تغريدة شجية فحسب ، بل لغة لا معاني لها في جميع القواميس والمعاجم، ولا يفهم مفرداتها وترادفاتها إلا أنا وأنتِ .
إن كان لي راحة في غربتي فهي تلك الخيالات التي حدثتك عنها للتو ، فهي أجمل الساعات عندي وإن كانت لا تعدو كونها خيالا ليس إلا، فهذا وقت مناجاتي لقلبك رغم المسافات البعيدة ، فأشعر عندها أني قد أبردت حر قلبي وخففت من وهجه المُلتهب ، لهيبا يفور في صدري فأسمع صدى غليانه في جوانبي .
كم أعجب من نفسي أشد العجب ، عندما تتلاعب بعقلي وقلبي في آن واحد ، تبكيه من كل شيء ، وتخلق له حزنا بسبب ومن دون سبب ، ثم تفرحه بذكرى جميلة ، ثم تتركهما بين المنزلتين ، فهاهي الأحزان وهموم الأشجان ، وهاهي الأفراح تلوح كذكرى تؤرقني وتزيد من اشتياقي ، ولكنها تُفرح قلبي لبرهة من الزمن عندما يحط رحله بجوار قلبك .
إن كثير من الناس يعرفون أسباب أحزانهم ، فتتعلق قلوبهم بالرجاء ، رجاء يحمل في طياته آمالا بانكشاف الهم وتوديع الحزن ، وأنا واحد من هؤلاء ، ولكن طاقتي ليست كطاقتهم في التحمل ، فينقلب الرجاء إلى داء عندما يتضاءل أمام جيش الأحزان فكثرة الأحزان تغلب شجاعة الرجاء في نفسي .
كم حولي من أُناس تنغصت معيشتهم فأسباب العيش لديهم عصيبة ، فترهقهم في كل ساعة وحين ، أما أنا فلا ترهقني دنياهم بكثرة ما بها إلا من آلام البعد والاغتراب عنك .
إني لأذكر تلك الأيام التي رسمناها معا ، وتلك الحياة التي زرعنا أشجارها وأزهارها معا ، وغردت أنفسنا خلالها وكانت نسائمها أنفاسنا ، وكم جنينا من ثمارها اليانعة وآمالها وأحلامها الماتعة .
فعندما أتذكرها وأنا هنا يبكي قلبي من داخله عليها ، وتشتاق نفسي بلهفة إليها ، فأحن حنين الأرض الجدباء إلى قطر السماء ، وحنين الفجر إلى لهفة الشروق والضياء .






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس