درجات الحج
في يوم عرفة تجتمع من كل بقاع الأرض في حرم الله وفي بيت الله وفي أرض الله أفواج الحجيج يرجون غفران الله ورحمة الله ذهبوا وقد أعطوا أعز ما يملكون فجمعوا أموالهم للنفقات وتركوا أعز ما يخلفون وهم الأهل والأولاد لماذا ذهبوا إلى هناك؟إن هذا أمر يطول شرحه وسنتكلم فيه باختصار شديد على حسب المناسبة إن شاء الله فإن هذا البيت لبناءه غاية من أجلها أمر الله الملائكة ببنائه ثم أمر بعد ذلك الخليل إبراهيم بتجديد بنائه وهي أن الله أوحى إلى الملائكة بعد أن تقبل توبتهم وغفر لهم زلتهم أن اهبطوا إلى الأرض فابنوا لعبادي هناك بيتاً إذا أخطأوا كما أخطأتم يذهبون إليه فيطوفون حوله كما طفتم فاغفر لهم كما غفرت لكم فإذا أراد الله أن يكرم قوماً بالغفران أظهر لهم التبيان ووفقهم للعمل بأركان الحج التي يحبها الديان وإذا غضب الله على قوم أخفاه عنهم أو أخفى عنهم تعاليم الحج وشعائر الحج حتى يفعلونها على وفق أهوائهم فلا تنالهم الرحمة ولا التوبة من ربهم ولذلك عندما جاء طوفان نوح أغرق الله هذا البيت وحملت الملائكة منه الحجر الأسعد وجعلوه أمانة ووديعة عند جبل أبي قبيس المطل على الكعبة حتى لا يعرف الناس مكانه ولا يذهب الناس إليه طلباً للغفران فلما جاءت إرادة السماء أن يعلن الله برفع هذا البناء أذهب إليه إبراهيم وإسماعيل فجاء جبريل ومعه البراق وقال يا إبراهيم: إن الله يأمرك أن تذهب إلى مكة لأنه سيخرج من صلب هذا الولد نبي يدعو الناس جميعاً إلى الله فأركبه البراق وأخذ إسماعيل بين يديه وأركب هاجر خلفه وكلما مر بأرض بها زرع وماء قال: أننزل هنا يا جبريل؟ يقول: لا. حتى وصل إلى مكان البيت فقال: انزل ها هنا فوجدها كما قال الله:{بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}أي لا زرع ولا ضرع فيها فقال: يا جبريل لا زرع هنا ولا ماء قال: هكذا أمر الله وذلك حتى يكون الذاهب إلى هذا المكان لا طالباً للمجد أو للمال أو للجاه أو للكساء ولا طالباً للشهرة أو المنزلة بين الناس وإنما يذهب وهمه الخالص رضاء الله{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}فيكون هدفه رضاء الله وسفره طلباً لغفران الله وهمه كله الإقبال على الله فلو جعله في مكان هواؤه نظيف وماؤه عذب غدير وزرعه نضير لكان الناس يذهبون إليه للسياحة وبجانبها زيارة البيت لكن الله جعل البيت في مكان قفر لا زرع فيه ولا ماء فيه ولا جو تستحسنه الأجسام فيه لكي يتحمل الناس كل هذه المشقات فينالوا الغفران وارتفاع الدرجات عند الله فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت ثم أمره الله أن ينادي على الناس بالحج للبيت فقال: يا ربَّ وما يبلغ صوتي قال: عليك الآذان وعلينا البلاغ{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}فوقف سيدنا إبراهيم على جبل أبي قبيس وأمر الله الأرواح أن تخرج من مستقرها وأمر الجبال أن تهبط والوديان أن ترتفع وأمر الهواء أن يوصل صوته إلى الناس جميعاً فنادى إبراهيم مرة جهة المشرق ومرة جهة المغرب ومرة جهة الشمال ومرة جهة الجنوب وفي كل مرة يقول: أيها الناس إن الله قد بنى لكم بيتاً وأمركم بالحج فحجوا فلبى الناس في زمانه ولبت الأرواح من عصره إلى يوم الدين وقالوا جميعاً :لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك منهم من رددها مرة ومنهم من رددها مرتين ومنهم من زاد على مرتين والملائكة يسجلون قال النبى{فمن لبى مرة حج مرة ومن لبى مرتين حج مرتين ومن زاد على ذلك فبحساب ذلك}[1]فإذا كانت ليلة النصف من شعبان يظهر في اللوح المحفوظ أسماء حجاج بيت الرحمن في هذا العام فتحمل الملائكة النبأ إلى قلوبهم وإلى أرواحهم فيحسون بالشوق إلى بيت الله وبالحنين إلى حج بيت الله ويهيئ الله الأسباب وهو يرزق من يشاء بغير حساب منهم من يوفقه الله ويأتيه ملك في المنام يبشره بحج بيت الله الحرام ومنهم من يوفقه الموفق فيأتيه الحبيب المختار فيدعوه بذاته الشريفة للحج وللزيارة وناهيك بهذا الشرف العظيم فعندما جاء النبى إلى هارون الرشيد يدعوه قام من نومه مستبشراً وأقسم أن يحج ماشياً على قدميه من بغداد حتى يؤدي المناسك لماذا؟ لأن الذي بشره ودعاه هو حبيب الله ومصطفاه وهذه امرأة من الجزائر جاءها النبى فدعاها للحج وللزيارة فقامت من نومها فرحة مستبشرة وأقسمت أن تذهب إلى البيت على عينيها وبعد القسم احتارت في كيفية التنفيذ فذهبت وأرسلت إلى العلماء لتستفتيهم فأفتوها أن تصلي ركعتين عند كل خطوة تخطوها في طريقها إلى بيت الله فذهبت بهذه الطريقة في ثلاث سنوات حتى وصلت إلى بيت الله الحرام لتوفي بالوعد الذي أقسمت عليه لله ومنهم من يرى في منامه أنه يطوف مع الطائفين ومنهم من يرى نفسه واقفاً على عرفات مع الحجيج ومنهم من يرى أنه يسعى بين الصفا والمروة ومنهم من يرى أنه في الروضة النبوية الشريفة تأتيهم الدعوات بأي كيفية من الله ومنهم من يخبره ملك الإلهام الموجود على قلبه فيهيئ له الشوق الحار لزيارة الله في بيته والظمأ الشديد لأداء المناسك فيعلن إلى من حوله أنه ذاهب إلى بيت الله فلا يذهب إلى هناك على الحقيقة رجل ماله حلال إلا إذا سبق له التوفيق من الموفق أما الذي يذهب وماله حرام فليس لنا شأن به ومثلما راح سيعود ولن يناله إلا التعب والمشقة وقد قال النبى في مثله: {مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ اللَّهُ uلَهُ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ }[2]أما لماذا يذهبون؟بعضهم ينال النصيب الأوفر فيأخذ حظه من حديث رسول الله{مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجَعَ كما ولَدَتْهُ أمُّه}[3]وبعضهم ينال نصيب أكبر من هذا ويكون داخلاً في قوله النبى{الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةِ}[4] فالذي عليه ذنوب يرجع وقد طهره الله من الذنوب والعيوب والذي يحج وليس عليه ذنوب ولا له ذنوب يأخذ كارت ضمان من علام الغيوب بدخوله الجنة والأمان يوم الموقف العظيم ويدخل في قول الرحمن الرحيم{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}آمناً من عذاب الله وآمناً من غضب الجبار وآمناً من شرار الناس في هذه الحياة الدنيا وآمناً من فزع يوم القيامة لأنه يدخل في قول الله{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}ودرجات لانستطيع عدها في هذا الوقت قال النبى{إن الله وعد من حج البيت أن يرده إلى بيته غانماً سالماً مغفوراً له ذنبه وإن توفاه عنده أن يقيض له ملكاً يحج عنه ويلبي عنه إلى يوم القيامة }[5] وقال{ التائب حبيب الرحمن والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[6]ما هذه المغفرة التي ينالها حجاج بيت الله؟ ومن ينالونها هل يتبقى عليهم شئ بعدها أم يغفر الله لهم جميع ذلك؟ إن الله يغفر لهم مغفرة عامة شاملة لكل ما قالوه أو فعلوه أو اقترفوه أو جنوه يقول فيها النبى{إِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ مِنْ عَرَفَاتٍ أَتَوْا جَمْعاً فَوَقَفُوا قَالَ اللهُ تعالى:انْظُرُوا يَا مَلاَئِكَتِي إِلَى عِبَادِي عَاوَدُونِي فِي الْمَسْأَلَةِ أُشْهِدُكُمْ أَني قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَهُمْ وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيع مَا سَأَلَ وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ} [7]
[1] أخرجه ابن اسحاق في سيرته والأرزقي في أخبار مكة.
[2] رواه الطبراني في الأوسط والأصبهاني والبزار عن أبي هريرة.
[3] رواه الدار قطنى في سننه وأحمد في مسنده والبخاري في صحيحه عن أبي هريرة.
[4] رواه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه ومسلم في صحيحه والطبراني والحاكم عن جابر.
[5] رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
[6] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[7] الْخطيب في المتفق والمفترق عن أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ.