عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 01:59 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

أولاً – الإطار العام للتغيرات:
(1) لا نهدف في هذا الكتاب إلى تقديم تاريخ متكامل لهذه الفترة، فمن الناحية العملية يتعذر تحقيق ذلك؛ حيث إننا بصدد فترة نعيشها، وهي فترة من الحرب الممتدة (ساخنة وباردة) بكل ما يعني ذلك من تلاحق للأحداث. والمصادمات والتغيرات المفاجئة للدارس، ترجع في قسم منها إلى أن التطورات في مثل هذه اللحظة التاريخية غير العادية لا تخضع دائمًا للحسابات الكمية الباردة؛ ولذا يصعب التنبؤ بهذه التطورات – قبل حدوثها – ويصعب أيضًا تحليلها – بعد أن تحدث، خاصة وأنت لا تملك فرصة للتأمل الطويل؛ لأن تدفق التغيرات والقفزات لا يتوقف ولا يهدأ. إلا أن بعض التغييرات تبدو للباحث أيضًا كمفاجأة؛ لأن كثيرًا من الأسئلة الجوهرية، تحتاج إجاباتها إلى معلومات كثيرة غير متوافرة. ويبدو أحيانًا أن المعلومات المتوافرة الآن لأهل عالمنا، ومعايشي عصرنا، أكثر من المعلومات التي كانت متوافرة لأجدادنا عن عالمهم وعصرهم. ويبدو بالتالي أن قدرتها على فهم ومتابعة ما يحدث حولنا أصبحت أفعلَ. ولكنني أعتقد أن هذا التصور غير صحيح، وخاصة بالنسبة للباحث؛ فكل ما يقال عن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات، أدى إلى زيادة كمية هائلة في المعلومات المتاحة، وأدى إلى سرعة خرافية في تداولها بين دائرة واسعة من المواطنين، ولكن ظل تجدد الأحداث الفعلية، واتساع نطاقها، أعلى من إنجازات ثورة المعلومات والاتصالات. وأهم من ذلك أن نوع المعلومات لم يتغير كثيرًا، أي أن ما يسمح بإلقاء الضوء عليه – رغم كل ما يقال عن تعمق الممارسات الديمقراطية– لا زال بعيدًا عن دائرة مهمة من القرارات، ولا زالت قنوات الاتصال السرية تحتجز المعلومات المعاصرة الأكثر أهمية وتأثيرًا في تفسير ما يحدث حولنا.
إن الدارس للسياسات الدولية، يرتكب حماقة بالغة، ويصل إلى استنتاجات في منتهى السذاجة؛ إذ اعتمد على ما ينشر باعتباره حقيقة قابلة للاستخدام المباشر، فهو مضطر – صراحة أو ضمنًا – إلى استخدام فروض كثيرة لسد الفجوات الكبيرة في معلوماته. وتساعده في ذلك المفاهيم النظرية التي توصل إليها البحث العلمي في مجال العلاقات الدولية. والمجاهيل لا تقتصر على محتوى السياسات الدولية، ولكن على وسائل الحوار، وأساليب اتخاذ القرارات وأساليب تنفيذها. أي على قواعد اللعبة كلها. إن الإدارة الفعلية للعلاقات الدولية إدارة سريَّة. وقد كشفت هذه الحقيقة تحقيقات الكونجرس الأمريكي حول أنشطة المخابرات المركزية، وكذلك ما نشرته الصحافة الغربية. ولا نقصد أنه تم الكشف عن بعض الجرائم الوحشية التي ارتكبت سرًّا في الدول التابعة والاشتراكية، فالجرائم والتدخلات العنيفة تظل حالات خاصة، وهذا الإطار من الممارسات كان - على أية حال - سرًّا معلنًا، ولم يضِفْ ما نُشر بشأنه أخيرًا إلا بعض التفاصيل. فتدخل المخابرات المركزية في أحداث جواتيمالا، وإيران (مصدق) والكونغو (لومومبا) وكوبا، وشيلي.. إلخ، كان معلومًا (1). ولكننا نقصد أنه بات مكشوفًا الآن، أن الإدارة الفعلية اليومية لمجمل العلاقات الدولية إدارة سريَّة، والمخابرات هي مجرد مؤسسة مهمة ضمن المؤسسات العامة في هذه الإدارة أو هي المؤسسة الأشهر في هذا المجال.
(2) أشرنا إلى أسلوب صندوق النقد والبنك الدولي ووكالة التنمية، في الإدارة السرية للسياسات الاقتصادية في الدول التابعة، وكشف فيليب أجي مدى الصلاحيات الواسعة للمخابرات المركزية، وأساليب عملها المتنوعة ضمن استراتيجية الإدارة الأمريكية للتحكم في التطورات السياسية اليومية لهذه الدول؛ بحيث تظل في موقع الخضوع والتبعيَّة. وتكلفت كتابات أخرى بكشف طرف من الدور السري للشركات العابرة للجنسية في التخطيط والتنفيذ للسياسات الفعلية، بالتعاون مع الحكومات المعنية (2). وقد نسجل هنا أن كل ما كُشف من وثائق ومعلومات تجنب كشف الدور الأمريكي السري في المنطقة العربية، وتجنب بالتحديد دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي (3). وبشكل عام، فإن معلومات أجي المهمة، وكذلك ما جاء في الكتابات الأخرى، لم تصل إلى كشف أسلوب إدارة العلاقات في المستوى الأعلى، على مستوى كبار المسئولين، ويبدو أن المصادر المصرية ألقت ضوءًا خاصًا على هذا الجانب، ونشير هنا إلى ما كتبه علوي حافظ وحسنين هيكل، فالأول استُخِدم كقناة موصلة إلى الرئيس الراحل عبد الناصر بعد 1967. وشهادته تكشف عينة من أدوات وآليات إدارة حوار سري بين الإدارة الأمريكية وعبد الناصر (4). استخدم في التمويه باكستانيون (أحدهم أصبح رئيسًا لبنجلاديش بعد الانقلاب ضد مجيب الرحمن) على هيئة مستثمرين ورجال أعمال، واشتملت المحاولة على انتقاء شخصية مناسبة موالية للغرب وقريبة من عبد الناصر (علوي)، واستخدمت الشفرة والأسفار السرية إلى اليونان وجنيف ولندن، ومن خلال الدور المسنود إلى الوسيط كان مقصودًا دعم مركزه عند
عبد الناصر، وكان مستهدفًا في الوقت نفسه تجنيده للمخابرات المركزية؛ بإغراءات مالية وسياسية؛ حيث لوَّح له بأنه يمكن أن يكون رئيسًا للجمهورية (إذا لم يقبل – وقد زعم أنه فعل ذلك – فإن مجرد التلويح بالمنصب يحدث أثرًا مهمًا عند الرجل، وإذا قبل أصبح هذا ورقة تهديد يمكن أن تستخدم ضده عند عبد الناصر، وبالتالي ورقة ابتزاز مناسبة لاستخدامه كعميل). ولكن ما يعنينا على أية حال، هو أسلوب الاتصالات السرية، لإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأخرى على أعلى المستويات. ويفهم من كتابات علوي أنه لم يكن القناة السرية الوحيدة.

إلا أن شهادة هيكل (الأقرب من مركز الأحداث والقرارات) أكثر أهمية وتحديدًا، عن فترة أخرى من الأحداث (5)، وهو يقرر أنه خلال عام 1972 بأكمله، كان يجري استخدام قناتين للاتصال بين مصر والولايات المتحدة، كانت القناة الأولى هي قناة الاتصال العادي بين وزارتي الخارجية هنا وهناك، وكانت القناة الثانية السرية؛ من خلال المخابرات المصرية والمخابرات المركزية الأمريكية. وفي العام نفسه جرت محاولات عديدة لإقامة اتصالات سرية متنوعة مع المستويات المصرية العليا، ويروي حسنين هيكل مثلاً أن رئيس شركة البيبسي كولا (دونالد كندال) وهو صديق شخصي لنيكسون، جاء إلى القاهرة، واتصل به (وعلاقاته بالسادات في ذلك الوقت كانت وثيقة) عن طريق زكي هاشم (محامي مصري له علاقات وثيقة بدوائر الأعمال الأجنبية وأصبح وزيرًا للسياحة بعد ذلك)، وكان اقتراحه أن يتم ترتيب اجتماع سري بين هيكل وكيسنجر في منزل كندال. ولكن لم يحدث هذا الاجتماع (حسب رواية هيكل). وفقط في شباط/ فبراير 1973 تم لقاء سريّ على مستوى عالٍ، بين كيسنجر وحافظ إسماعيل (وكان مستشار الأمن القومي آنذاك). كان مقترحًا في البداية أن يكون اللقاء في قاعة أمريكية قرب برشلونة، ثم تعدلت الترتيبات بأن ذهب حافظ إسماعيل في زيارة رسمية إلى واشنطن؛ حيث تقابل معه الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون (23 شباط/ فبراير) ولم يظهر كيسنجر في هذا اللقاء إلى فترة قصيرة؛ حتى
لا يبدو أنه مهتم بقضية الشرق الأوسط، وتمويهًا بالتالي عن اجتماعه السري مع حافظ إسماعيل (في اليوم التالي) في منزل رئيس شركة البيبسي كولا.

في الاجتماع مع نيكسون، أكد الرئيس الأمريكي على أن المناقشات المقبلة مع مصر ينبغي أن تتم (كما كان الحال مع الصين وفيتنام) على مستويين: مستوى وزارة الخارجية حيث يمكن أن يكون كل شيء معلنًا، والمستوى الآخر خلال القنوات السرية التي يشرف عليها كسينجر، ودون معرفة وزارة الخارجية الأمريكية. والمستوى الآخر – كما قال نيكسون – هو القناة الموصلة إلى تسوية حقيقة. ولا بد من ضمان السرية؛ إذ إن إسرائيل لا ينبغي أن تعلم شيئًا عمّا يجري (طلب نيكسون من جنرال سكو كروفت عدم تسجيل هذه الفقرة في المحضر).
وفي الاجتماع مع كيسنجر قيل لحافظ إسماعيل إن ثلاثة مبادئ ينبغي أن تحكم التعامل "الثقة المتبادلة – لا غش – السرية الكاملة".
وأثناء القتال في تشرين الأول/ أكتوبر كانت حلقة الوصل عبر المخابرات، أي حلقة الوصل غير المرئية، عاملة طول الوقت، بين القاهرة وواشنطن، وفي تبادل الرسائل العاجلة بين السادات ونيكسون (6)، ومع تطور العلاقات أصبحت اللقاءات المباشرة (وفي اجتماعات مغلقة) بين الرؤساء،
أو بين الرئيس المصري والمبعوثين على مستوى عالٍ، ظاهرة عادية ومتكررة، ويشابهها الاتصال التليفوني المباشر. وأعتقد أن الرئيس السادات، قد كشف تمامًا طبيعة الإدارة السرية، وما تضمنه من إخفاء للمعلومات والتدابير الأساسية، حين قال – حسب رواية حسني مبارك "إن تواجد المعلومات كلها عند فرد واحد عمل خطير، ويجب أن يكون هناك على قمة المسئولية من يشارك الرئيس فيما لديه من معلومات وخطط موضوعة لكل الاحتمالات... "وقال الرئيس إنني قررت أن أضع غيري معي في الصورة، صورة العمل بكافة جوانبه"، فعين مبارك كنائب لرئيس الجمهورية (7).

(3) ومؤكد أن هذا الأسلوب لا يمارس مع الولايات المتحدة وحدها، فالاتحاد السوفيتي يستخدم أسلوبًا مشابهًا، والعلاقات السوفيتية الأمريكية، تتم أيضًا بالأسلوب نفسه (ولكن بمؤسسات أكثر رشدًا عند الجانبين) (8). ولسنا بصدد تقييم هذا الأسلوب في إدارة العلاقات الدولية، فحسبنا الآن أن نعرف قواعد اللعبة كما هي، وندرك على ضوء هذه المعرفة أن معلوماتنا عمّا يحدث حولنا محدودة جدًا. وقد يصح للباحث أن يحاول إجابة الأسئلة على طريقة علماء الحفريات الذين يتصورون شكل الحيوان وحجمه من قطعة عظم وبعض الأنياب. هذه مسألة واردة وهامة، ولكن مع كل المصاعب التي أشرنا إليها، يتعذر على هذه المحاولة أن ترقي إلى مستوى تركيب تاريخ متكامل. وقد قررنا من البداية، أننا لا نهدف إلى محاولة من هذا النوع، فتركيزنا موجه إلى التغير في السياسات والبنية الاقتصادية. وهذا الاختيار لا يعفينا من كل المصاعب، ولكن يقلل منها أن المعلومات في هذا الجانب أوفر للأحداث؛ لأن التطور في النظام الاقتصادي المصري لا يمكن فهم أسبابها الكاملة،
أو استيعاب نتائجها البعيدة، بغير تذكّر دائم لأهمية المنطقة العربية حضاريًا؛ ولخطورتها وحساسيتها استراتيجيًّا. أو بغير تتبع يقظ لتطور الصراع على أرض المنطقة منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. إن تحليلنا يهدف إلى تطبيق مناسب للنتائج النظرية الممثلة في نموذج التبعية/ الاستقلال. وكما وصلنا إلى هذا النموذج – نظريًّا – عبر منهج مركب، فإن محاولة تطبيقه أو استخدامه في دراسة الحالة المصرية، حتى مع تركيزنا على الجانب الاقتصادي، تتطلب مراعاة المنهج المركب، أي مراعاة المتغيرات غير الاقتصادية التي أثرت في شكل ومضمون التطورات الاقتصادية موضع التحليل، في الحالة المصرية على وجه التحديد. فنظرًا لطبيعة المنطقة، ولوزن التحدي الصهيوني في تحديد السياسات المصرية؛ ونظرًا لأهمية الدور المصري في الاستراتيجية العربية يصبح مضمون ما تحقق داخل مصر أكبر جدًا من مجرد انتكاس في التطور الاقتصادي لقطر من الأقطار. إن حجم ونوع المصيبة يتحدد بأثر هذه الانتكاسة على الدور المصري في النهضة العربية، وكذلك بأثر هذه التطورات على المستقبل الصهيوني، وعلى استمرار وإحكام الهيمنة الغربية الأمريكية؛ حضاريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا على هذه المنطقة الهامة من العالم. ومن المفارقات التاريخية أن هذا الحجم الهائل للمصيبة، تحقق بعد أول حرب تحريرية ناجحة ضد إسرائيل، وقوى السيطرة الدولية التي ساندتها.

(4) من المؤكد أن حرب 1967 حققت أهدافًا أساسية لإسرائيل، ولكنها لم تحقق مباشرة أهداف الولايات المتحدة، فرغم إضعاف هيبة وتماسك الأنظمة الساعية للاستقلال في المنطقة، ورغم حقيقة أن احتلال الأراضي واجه هذه الأنظمة بمهمة استنزفت طاقتها، فإن بلورة النتائج على النحو الذي استهدفته السياسة الأمريكية، لم تتحقق، ومواصلة الاعتماد على عنصر الزمن وحده؛ لكي تركع هذه الأنظمة وتصفى. بدا مع السبعينيات أنه مسألة غير مضمونة تمامًا، مع موالاة الاستعداد العسكري، ومع مزيد من التدخل (بل الوجود) السوفيتي. مسألة أخرى كان تقلق الولايات المتحدة وهي أن إسرائيل (بامتداداتها الصهيونية داخل المؤسسات الأمريكية) أصبحت قوة مزعجة، وهامش استقلالها في الحركة وصل إلى أبعاد منذرة، خاصة وإسرائيل في قلب منطقة تحتل موقعًا متقدمًا في الاستراتيجية الأمريكية.
إن جوهر الدور الأمريكي المفتَرض بين الدول العربية كان يقوم على عملية تبادل بعض الأراضي العربية مقابل تصفية الاتجاهات المتمردة في المنطقة. وهذه العملية تتضمن أن تكون الأراضي المحتلة في 1967 رهن تصرف الإدارة الأمريكية، تعيدها قطعةً قطعة وفْق تطورات الصفقة مع الأطراف العربية المعنية. ولكن هامش الاستقلال الإسرائيلي بعد 1967 جعل التحكم في الأراضي المحتلة ملكًا للقرار الإسرائيلي، قبل أن يكون في يد الإدارة الأمريكية، فأصبح مستحيلاً من الناحية العملية أن تلعب الولايات المتحدة الدور المتوقع منها.
وهذا التحليل – بكل نواحيه، والذي لا يخلو من فروض– يؤدي إلى فرض آخر، وهو أن الولايات المتحدة كانت تبحث عن مخرج. ولعل هذا يقربنا من تصور بعض ما حوته الاتصالات السياسية، ويفسر عديدًا من الأحداث لمن يحاول أن يُعد تصورًا تقريبيًّا للتطورات السياسية العامة منذ أوائل السبعينيات (9).
ووفقًا لما نشره مصدر مصري مسئول عن الاجتماع السري لحافظ إسماعيل، فإن كيسنجر أوضح أن الولايات المتحدة تفضل بحث مشاكل الشرق الأوسط بالتفصيل، مع الأطراف المعنية وحدها ومباشرة، وبعيدًا عن الاتحاد السوفيتي. وبالنسبة لمصر، فإن عليها أن تفكر فيما هي مستعدة لتقديمه، مقابل انسحاب إسرائيلي جزئي. "والضمانات بالكلام لا تكفي؛ فالتنازلات المتوقعة من مصر سياسية وأرضية"(10) وهذا كلام لم يكن مرضيًا، ولكن كان مؤشرًا إلى احتمال تدخل أمريكي في الصراع. والعرض الأمريكي مثَّل تقديرًا معينًا لتوازن القوى، عبر عنه كيسنجر فيما بعد للمسئولين الإسرائيليين على النحو التالي: "إنني أتذكر الآن أن حافظ إسماعيل أبلغني عدة مرات أن الوضع الحالي
لا يمكن أن يستمر، وسألني عمّا إذا كانت الولايات المتحدة لم تفعل شيئًا في مواجهة هذا الاحتمال".. وأضاف كيسنجر أنه "لم تبدُ على وجهي مجرد ابتسامة خفيفة، ولكنني ضحكت في داخلي وضحكت. حرب؟ مصر؟ لقد اعتبرت ما قيل كلامًا فارغًا، وتبجُّحًا بلا أي مضمون" (11).

ويبدو الآن أن الاتصالات السريَّة خلال 1972، 1973، لم تنجح في انتزاع الموافقة على كل التنازلات العربية، فكيسنجر كان يقول لكبار الدبلوماسيين العرب (25 أيلول/ سبتمبر 1973) إن "ما نحتاجه، هو أن نعثر على وسائل تمكننا من تحويل ما هو غير مقبول لكم حاليًا، إلى وضع يمكنكم أن تعيشوا معه"(12). ولكن أهم من ذلك أن الاتصالات السرية مع الجانب الآخر كانت – على ما يبدو – أكثر فشلاً في إقناع الإسرائيليين بتسلُّم الولايات المتحدة بعض الأراضي؛ لاستخدامها في صفقتها. ولعله عبر عن هذا المعنى للقادة الإسرائيليين حين قال: "إنني لا أودُّ أن ألوم أحدًا، ولكن كان ممكنًا أثناء عام 1973 أن نمنع الحرب، إذا كنا قد تنبهنا لما هو قادم.. بدلاً من عمل شيء كنا نتبادل النكات حول الأحذية التي تركها المصريون خلفهم عام 1967" (13).
(5) المهم، حدث بعد تجميد ظاهر للموقف، وبعد وقف طويل لإطلاق النار، أن تحركت القوات المصرية والسورية، وفْق مخطط عربي محكم موحد، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، كانت الحرب محدودة بمقياس الأرض التي دار عليها القتال، وبمقياس الزمن الذي استغرقته، ولكن من المؤكد أن الأرض المحدودة والزمن المحدود شهدا كثافة في القتال، ومعدلاً في فقد العتاد، لم تخبرهما حرب سابقة (13). ومن المؤكد أيضًا أن هذه الحرب العسكرية بامتداداتها الاقتصادية (النفطية) لسعت بنيران الصراع كل أنحاء الأرض، بل وانعكس البُعد العالمي للحرب في شكل عسكري مباشر، حين أعلنت القوتان العُظميان رفع حالة التأهب النووي في مرحلة من المراحل.
إن حرب تشرين الأول/ أكتوبر – بهذا المستوى، وبهذه الخطورة – تبلور ما يقال عن الأهمية الاستراتيجية لمنطقتنا، وعن نوع الصراعات داخلها ومن حولها. إن حرب تشرين الأول/ أكتوبر كان مفروضًا – في كل الأحوال – أن تغير صورة المنطقة، وتؤثر تأثيرًا هامًا على التوازنات الدولية التي كانت قائمة قبلها (14). وقد حدث هذا فعلاً، ولكن في عكس الاتجاه الذي كان ممكنًا، والذي تطلعت إليه أمتنا، في نضالها الطويل لتحرير الإرادة.
(6) ما سبق الحرب، وما دار حقيقة أثناء الحرب، يحمل كثيرًا من علامات الاستفهام. ولكن بوسعنا أن نقرر – وفق ما أعلن من كل الأطراف – أن حملة الخِداع الاستراتيجي ضد إسرائيل، كانت ناجحة تمامًا. وغرور القيادة الإسرائيلية أوصلها إلى حد الاستهانة بالتقارير المؤكدة حول التحركات العربية على الجبهتين، والتي بلغت حدًّا لم يعد ممكنًا إخفاؤه. ومعروف الآن أن الإدارة الأمريكية اتفقت مع إسرائيل في تفسيراتها لتطور الموقف، وطلبت منها ألا تبدأ القتال بضربة وقائية. وللحقيقة كانت جولدا مائير نفسها قد استبعدت مثل هذا الإجراء؛ بسبب الثقة الزائدة في قوتها "التي لا تقهر"، وفي الضعف المهين للأعداء.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس