عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:00 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

في المرحلة الأولى من القتال، انهارت القوات الإسرائيلية معنويًّا وماديًّا. وهامش الاستقلال الذي حققته إسرائيل بعد 1967، منعها - من البداية - من طلب النجدة الأمريكية بصوت عالٍ، فاكتفت بطلب قائمة متواضعة من الأسلحة، ولكن مع تعاظم الخسائر ابتلعت كبرياءها، وبدأت في الصراخ. في مساء 8 تشرين الأول/ أكتوبر كان كيسنجر يبشر السفير الإسرائيلي، بأن بلاده ستحصل على طائرتين فانتوم خلال 24 ساعة (وفقًا للقائمة التي سبق أن قدمها)، فإذا بالسفير يستنكر: "طائرتان؟ إن إسرائيل تحتاج عشرات".
ولكن رغم الإلحاح وحركة المكوك التي قام بها السفير بين البيت الأبيض والخارجية والدفاع، تلكأ البنتاجون في إرسال المعدات الحربية المطلوبة، وثبت في هذه الأثناء أن إسرائيل عاجزة تمامًا إذا تُركت وحدها. وأبلغت واشنطن السفير الإسرائيلي (10 تشرين الأول/ أكتوبر) أن السوفييت يتحركون في الأمم المتحدة لوقف القتال؛ حتى يتجمد الموقف في نقطة يملك العرب فيها المبادرة، وإسرائيل لم تتمكن بعدُ من مجرد الإعداد لهجوم مضاد، فرفض السفير الإسرائيلي هذا العرض باسم حكومته، وعاد إلى الإلحاح في إقامة جسر جوي أمريكي فورًا لمواجهة الجسر الجوي الذي أقامه السوفييت مع مصر وسوريا. ولكن في مساء 12 تشرين الأول/ أكتوبر كانت الأعصاب الإسرائيلية قد احترقت تمامًا، وكان الدبلوماسي الإسرائيلي يقول لكيسنجر: "إذا لم يبدأ جسر جوي أمريكي كثيف إلى إسرائيل فورًا؛ فإنني سأعلم من ذلك أن الولايات المتحدة ترتد عن تعهداتها وسياستها، وسنستخلص نتائجَ بالغة الخطورة من كل هذا" (15). (كان هذا تهديدًا بالهجوم العلني على الموقف الأمريكي في ظل أزمة ووترجيت الحرجة)، ولكن لم يكن هذا التحذير سببًا كافيًا لتغيير الموقف الأمريكي؛ فالموقف لم يتغير إلا بعد اعتراف من جولدا مائير، بأن الموقف الإسرائيلي أصبح ميئوسًا منه. وتوضيح ذلك أن كيسنجر طلب في اليوم نفسه (12 تشرين الأول/ أكتوبر) رأي القيادة الإسرائيلية في قرار– تحرك الولايات المتحدة – لوقف إطلاق النار، مع بقاء قوات كل طرف في أماكنها، على أن يطبق بعد 12 ساعة من صدوره (لإتاحة فرصة للقوات الإسرائيلية لتحسين مواقعها). وكان رد مائير (بعد اجتماعها مع ديان وإليعازر رئيس الأركان) كالتالي: "في سوريا هناك تقدم ضئيل والمقاومة أصبحت أكثر ضراوة؛ بسبب تدخل العراقيين. (والقوات المصرية صامدة بقوة في مواقعها على القناة). وعلى ذلك، ينبغي أن نوافق على السيناريو الذي تقدم به كيسنجر، ودون مد الوقت". ولم يستطع إيبان والسفير الإسرائيلي دينتز، تصديق ما يقرآه؛ فالقيادة الإسرائيلية قبلت ما كانت ترفضه منذ يومين، ودون وقت إضافي 12 ساعة. "لقد تبيَّنوا بسرعة أن القيادة الإسرائيلية لا تعتقد أنها تستطيع تحسين موقفها خلال 12 ساعة، وأنها تخشى أن كل ساعة إضافية قد تجعل الموقف أكثر سوءًا" (16).
فقط بعد انتزاع هذا الاعتراف، بدأ الجسر الجوي الكثيف.
قد يلاحظ هنا – وفي الفترة نفسها – شيء من الغموض في الموقف المصري، فهو لم يبادر ولم يقبل وقف إطلاق النار في اللحظة المناسبة. وفي الوقت نفسه، توقفت القوات المصرية عن التقدم إلى المضايق لإحراز نصر عسكري حاسم (17). وشائع أن السوفييت كانوا ضمن المستنكرين للموقف بعد انهيار خط باريلف، وبعد حالة الشلل والارتباك التي أصابت القيادة الإسرائيلية في الأيام الأولى من القتال. ومعروف أيضًا أن السوفييت اقترحوا وقف القتال في لحظة مناسبة. وتفسير الموقف المصري قد يرجع إلى أخطاء سياسية، أو إلى تقييمات للموقف العسكري لا نعلمها. ولكن هل يمكن أن نفترض أيضًا أن الاتصالات السرية أسهمت في صياغة الموقف المصري في تلك الفترة؟ يمكن أن نفترض مثلاً أن الولايات المتحدة قدمت وعودًا مجددة بالتدخل السياسي الحاسم في الصراع، بعد الأداء العسكري العربي الرائع، وألمحت إلى حرصها على تجنب التدخل السافر والكثيف لدعم إسرائيل؛ كمحاولة لتحسين صورتها في العالم العربي، وإعدادًا لقبول الولايات المتحدة كوسيط في التسوية المرتقبة. ومثل هذا الكلام كان يشجع القيادة المصرية على إطالة أمد القتال؛ لتأكيد النتائج السياسية المترتبة على العبور الناجح والرائع لقناة السويس (ويدخل في ذلك وعد السعودية بالتدخل نفطيًّا إذا استمر القتال مدة معقولة (18). ولكن قد نتصور أيضًا أن الولايات المتحدة حذرت في الوقت نفسه من مواصلة القوات المصرية للتقدم. فاقتلاع القوات الإسرائيلية من المضايق يعني أن القوات المصرية ركبت سيناء؛ أي أصبح الطريق مفتوحًا إلى حدود مصر الدولية، بل إلى الأراضي الإسرائيلية. وبالتالي أصبح تحرير سيناء بالقوة مسألة متاحة، وأصبحت الحاجة إلى الدور الأمريكي لاستعادة الأرض حاجة محدودة. إن تعظيم الدور المصري/ العربي في تحرير الأرض، وفي صياغة التسوية لا يستبعد الدور الأمريكي، ولكن يحد منه، ويخلق توازنًا بين القوتين العُظميان، وكل هذا مرفوض من الولايات المتحدة، ويتنافى مع مفهوم السلام الأمريكي.
(7) على أية حال، حدث - بعد أن أُعيدت إسرائيل إلى المقاس المطلوب، وإلى الاعتماد المُطلَق على قوة الولايات المتحدة - أن تحولت الإدارة الأمريكية إلى الجانب العربي لتعيده أيضًا إلى المقاس المطلوب. وكان هذا يعني "استعادة التوازن العسكري في المنطقة، وتزويد الولايات المتحدة بالتالي بوسيلة ضغط دبلوماسية؛ لتشكيل مفاوضات ما بعد الحرب". كان الدعم الأمريكي في اليونان مصدرًا أساسيًّا لمعلومات إسرائيل عن تحديد منطقة اللقاء بين الجيش الثاني والثالث. وبعد أن كانت إسرائيل تطلب وقف إطلاق النار في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، تطورت الأمور إلى أن أصبحت مصر هي التي تطلب وقف إطلاق النار، وعللت القيادة المصرية موقفها – صراحة – بأنها بصدد موقف أمريكي جديد، وقد علل كيسنجر تغير الموقف الأمريكي، بأنه أمر لا يتعلق بالصراع المحدد بين العرب وإسرائيل، ولكنه يدخل في الحسابات الدولية التي لا ينبغي أن تسمح للسلاح السوفيتي بهزيمة السلاح الأمريكي، أي أن المسألة تكاد تكون مسألة فنية، أو مجرد هيبة. وهذه مغالطة بطبيعة الحال؛ لأن وقائع ونتائج القتال في الصراع المحدد بين العرب وإسرائيل، تدخل أيضًا في الحسابات الدولية للولايات المتحدة، بل تأتي أولاً، كعامل حاسم في تحديد صورة المستقبل لمنطقة تحتل موقعًا أساسيًّا في الاستراتيجيات الدولية.
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر وصل كوسيجين إلى القاهرة، وكشف عن خطورة النتائج المترتبة على التسلل الإسرائيلي إلى الضفة الغربية للقناة، وتقول مصادر مختلفة إنه حصل على موافقة الرئيس السادات على قرار بوقف إطلاق النار. ولكن يقول الرئيس السادات إن كوسيجين بقي في القاهرة أربعة أيام، وبعدها عاد إلى موسكو "وفي أذنه عبارة واحدة: إني لن أوقف إطلاق النار.. وفي أذني عبارة واحدة: أوقف النار". إلا أن الرئيس يقول أيضًا: إنه "في يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر (يوم عودة كوسيجين إلى موسكو) تدخلت أمريكا، وأعلنت أنني غير مستعد لمحاربة أمريكا، فوافقت على وقف إطلاق النار، وأرسلت للسوفييت ليخبروا أمريكا" (19).
في 10 تشرين الأول/ أكتوبر كان كيسنجر في موسكو. كان الموقف يتطلب قرارات عاجلة، وكان يتطلب مشاورات حول طبيعة التطورات السياسية المقبلة. وبالنسبة لكيسنجر كان من أهدافه أيضًا، كسب مزيد من الوقت لصالح إسرائيل في أرض المعركة. ولكن صدر رغم هذا – عن اجتماع موسكو – القرار بوقف إطلاق النار. وفي طريق العودة توقف كيسنجر في إسرائيل، بعد أن كانت القيادة الإسرائيلية قد استوعبت المعنى السياسي المقصود من صدور قرار كهذا دون مشاورات سابقة معها. كان هذا المعنى لا يقل خطورة في مضمونه عن القرار نفسه.
ولكن من المسلم به أن إسرائيل لم تتمثل عمليًّا لوقف إطلاق النار، بل استخدمت القرار في تنظيم قواتها، وفي شن هجوم هام؛ لتحسين موقفها على الضفة الغربية في القناة، فهل كانت الولايات المتحدة بعيدة عن ذلك؟ كل الشواهد تدل على غير هذا، فبالتأكيد كانت مواقع إسرائيل التي طلب قرار 22 تشرين الأول/ أكتوبر وقف القتال عندها، تجعل موقف قواتها في الضفة الغربية بالغ الحرج، وبالتالي كانت الوقائع في ميدان القتال لا تضع الولايات المتحدة على مسافة متقاربة من الطرفين، كانت الوقائع تجعلها في موقف المدافع عن إسرائيل في مواجهة موقف مصري أقوَى. ولم يكن هذا ما تطلبه. وحسب رواية إسرائيلية، فإن كيسنجر سأل في إسرائيل: كم عدد الأيام المطلوبة لإكمال الحصار على الجيشين المصريين في الضفة الشرقية في القناة؟ وتراوحت الإجابة بين 3 و7 أيام. فعلق كيسنجر: "حسنًا، إن وقف إطلاق النار في فيتنام لم ينفذ في الوقت المتفق عليه تمامًا"(20). ويقول جولان: "إن كلماته بدت لمستمعيه بمثابة إشارة مرور (غير مباشرة) لاستمرار القتال". ولكن سواء قالها كيسنجر بهذا الشكل غير المباشر، أو بشكل مباشر، فإن رسائل السادات إلى بريجنيف ونيسكون توالت كل ساعة حول تطورات الموقف واستمرار إسرائيل في القتال. وجاء في رد نيكسون (24 تشرين الأول/ أكتوبر) أنه أبلغ الحكومة الإسرائيلية أن استمرارها في عمليات عسكرية هجومية سيؤدي إلى أوخم العواقب فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة – إسرائيل في المستقبل".
وأضاف أن الحكومة الإسرائيلية نفت أنها تقوم بعمليات هجومية "ويستحيل أن نحدد من هنا الوقائع الحقيقية". وهذه العبارة الأخيرة – كما قال هيكل – لم تكن مقنعة تمامًا، ودعمت شكوك الروس في أن إسرائيل قد سُمِح لها – وبتعمد - أن تواصل انتهاكاتها لوقف إطلاق النار.
(8) رغم العجز عن احتلال الإسماعيلية، وعن اقتحام السويس، كان الجيش الثالث والسويس تحت الحصار، حين صدر القرار الثاني لوقف إطلاق النار (24 تشرين الأول/ أكتوبر) فأذاع السادات نداء إلى بريجنيف ونيكسون لتشكيل قوة سوفيتية – أمريكية لحفظ السلام. وبعد الرسالة بساعات تلقى الرئيس الأمريكي رسالة حادة ومنذرة من بريجنيف. تبنت الرسالة اقتراح السادات، ثم أضاف بريجنيف: "إنني أقولها بصراحة: إنه إذا رأيتم أنه يستحيل أن نعمل معًا في هذا الموضوع، فإننا سنكون مواجَهين بالضرورة الملحة لتناول مشكلة اتخاذ الخطوات الملائمة من جانب واحد. إن إسرائيل لا يمكن أن يُسمح لها بالمضي في انتهاكاتها".
كان مستحيلاً أن تقبل الولايات المتحدة دخول قوات سوفيتية، منفردة أو مع قوات أمريكية، في هذه اللحظة، وفي المنطقة العربية، وضد إسرائيل. فإذا تمكن الروس من التواجد في الشرق الأوسط باعتبارهم المنقذين للعرب – كما قال كيسنجر – يصبح إخراجهم بالغ الصعوبة، ويتزايد نفوذهم على تدفق النفط إلى الغرب. وقد فسرت رسالة بريجنيف في مجلس الأمن القومي الأمريكي، على أنها تهديد حقيقي بالتحرك، تؤيده المعلومات المؤكدة عن انتشار حالة التأهب بين القوات الأمريكية. وتطلب الأمر أيضًا تحركًا موازيًا لمحاصرة المشكلة في المنبع. أي منع تطور الموقف إلى حالة يضطر فيها السادات إلى طلب التدخل السوفيتي. ويتحقق ذلك بأمر حاسم إلى إسرائيل، يمنعها من ممارسة الحصار الكامل على الجيش الثالث (21). ويبدو أن الاتصالات السرية نجحت في تهدئة القيادة المصرية، وأقنعها باختيار البديل الأمريكي لإعداد ترتيبات مؤقتة غير رسمية. فتم إبعاد السوفييت مؤقتًا عن القضية العاجلة الساخنة. قضية إخراج الجيش الثالث من مخاطر الحصار.
(9) بالمفهوم الاستراتيجي، كانت النتائج السياسية والعسكرية بعد وقف إطلاق النار كارثة بالنسبة لإسرائيل؛ وإضعافًا لأوروبا الغربية واليابان. وتحسنت – في المقابل وبدرجات متفاوتة – المواقف النسبية للأطراف الأخرى: العرب – الاتحاد السوفيتي – الولايات (22). ولكن الدبلوماسية السرية التي صاحبت الحرب الساخنة، لم تتوقف في صراعها المميت أثناء الحرب الباردة التي بدأت فور وقف إطلاق النار، واستخدمت فيها كل الأدوات؛ بما في ذلك التهديد بتدخلات دولية عسكرية عند تجدد الاشتباكات.
بدأت الولايات المتحدة تحركها، وفق تقييم صحيح للتغير الذي أصاب توازن القوى الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل (ويبدو أنها ارتاحت إلى ذلك) ونشرت على لسان كيسنجر تصريحات نصف علنية في هذا الاتجاه؛ ففي اجتماعه مع عدد من وزراء الخارجية العرب (17 تشرين الأول/ أكتوبر) قال كيسنجر إن "سبب الفشل السابق في تطبيق قرار 242 كان التفوق العسكري الكامل لإسرائيل.. كان العرب ضعافًا، وهم اليوم أقوياء. لقد حقق العرب أكثر مما كان يعتقد أي إنسان (بما في ذلك هم أنفسهم) أنه ممكن" (23). ووفقًا لمعلومات المصادر المصرية، فإن كيسنجر واجه الإسرائيليين بهذه الحقيقة: "قد يكون صحيحًا أنهم استعادوا المبادرة، ولكن أثبتت الأيام الأولى من القتال، أن عديدًا من مسلماتهم الاستراتيجيَّة كانت خاطئة: لقد أخذتهم المفاجأة – أثبت العرب قدرتهم على العمل المنسق – أزمة الطاقة تزود العرب بمَيزة سياسية". ولم يذكر طبعًا على لسان كيسنجر أنه ثبت أن قدرة إسرائيل على الحركة المستقلة أصبحت محدودة جدًّا.
هذا التقييم للتغير الاستراتيجي، أكده نيكسون حين وصف جولدا مائير "بأنها كُفْأَة جدًا، ولكن عنادها كان يقوم على إحساسها بالتفوق العسكري، والوضع الآن مختلف". إلا أن نيكسون أشار إلى ملاحظة أخرى، "لقد اتهمتمونا عام 1967 بالتواطؤ مع إسرائيل. ولكنكم جئتم هذه المرة لتتكلموا معنا (رغم المعونات الكثيفة المعلنة – ع. ح). ويشكل هذا فارقًا كبيرًا (24). ولا شك أن هذه الملاحظة الهامة لم تكن تقصد لقاءه العلني مع وزراء الخارجية العرب، بقدر إشارتها إلى الاتصالات السرية التي تواصلت دائمًا، قبل وأثناء القتال. ولا شك أن هذه الاتصالات كانت رصيدًا هامًا للتحرك الأمريكي في المراحل التالية.
كان هدف الولايات المتحدة في حربها الباردة – داخل المنطقة – تأكيد ما حققته من ترويض وإخضاع لإسرائيل، وكانت تهدف أيضًا، ومن خلال وعدها بإعادة الأراضي المحتلة، إلى إخضاع الجانب العربي لشروطها وإخراج الاتحاد السوفيتي من الساحة. وتطلب ذلك الاستفادة من الوقائع التي خلقها القتال، والتي لعبت الولايات المتحدة دورًا أساسيًّا في تشكيلها على نحو ملائم. لقد انتهت العمليات العسكرية إلى مأزق أو اختناق يواجه كل طرف من طرفي القتال. وبعد الاحتواء المؤقت لأزمة الحصار، وبعد التقاط الأنفاس، ظل الوضع بالغ الخطورة كما قال كيسنجر: "خط وقف إطلاق النار كان خطًا مجنونًا. تصور حربًا تنتهي بمثل هذه الطريقة؛ بحيث يحاصر الإسرائيليون الجيش الثالث بمحاصرتهم لمدينة السويس على الضفة الغربية في القنال، وفي نفس الوقت يجدون قوتهم المحاصرة هذه تدريجيًّا وقد أصبحت محاصرة بقوة مصر أكبر (بمساعدة قوات سوفيتية أو دونها) تعمل بالقرب من خط تموينها الأساسي في القاهرة"(25).
(10) إن الترتيبات المؤقتة وغير الرسمية، لم يكن من شأنها ضمان إمدادات كافية ومنتظمة للجيش الثالث. وبالتالي ظل الموقف منذرًا باحتمال تحرك عنيف لفتح الطريق عُنوة ولتجدد حرب شاملة. ولم يكن كيسنجر غافلاً عن احتمال التدخل السوفيتي في كل ذلك، (واصلت القوات السوفيتية المحمولة جوًّا حالة تأهبها بعد القرار بوقف حالة التأهب بين القوات الأمريكية). وكان شرحه للجانب الإسرائيلي يتضمن هذا السيناريو المحتمل: إذا لم تعطوا المصريين ممرًّا إلى الجيش الثالث سيأتي الروس بطائراتهم الهيلوكوبتر ليفعلوا ذلك. ماذا ستفعلون؟ هل ستطلقون النار عليهم؟ وماذا ستعمل الولايات المتحدة في تقديركم؟ الولايات المتحدة لن تسمح بتصرف سوفيتي من جانب واحد. إن هذا يجعل السوفييت أبطال العالم العربي. ولكي نمنع هذا، سترسل الولايات المتحدة الهليوكوبتر التابع لها هي محملاً بالطعام إلى الجيش الثالث" (26).
بوسعنا أن نتصور أن الاتصالات السرية التي أقنعت القيادة المصرية بقبول ترتيبات مؤقتة كانت مدعومة بوعد بإجراء خطوة أخرى، أي: بمواصلة التدخل من أجل صيغة رسمية ومستقرة. وبالتأكيد كانت الإدارة الأمريكية حريصة على احتكار حل هذه المشكلة الحساسة – من وجهة النظر المصرية. ولكن وضح منذ ذلك الوقت أن السياسة الخطوَة خطوة، تتضمن بالضرورة محاولةً دءوبًا لكسب الوقت، واستخدمت في المفاوضة كل فنون المناورة؛ لتحقيق ذلك(27).
خطوة إقامة طريق مستقر لتموين السويس والجيش الثالث، تطلبت تدخل كيسنجر لصياغة أسلوب التفاوض، وحين اجتمع الفريقان - المصري والإسرائيلي - عند الكيلو 101 (29 أكتوبر) تعثرت محاولة الوصول إلى اتفاق، وفي 30 أكتوبر كان إسماعيل فهمي في واشنطن للتباحث مع نيكسون وكيسنجر. وفي 31 أكتوبر وصلت مائير لنفس الغرض. ومثل هذا المنظر انتصارًا دبلوماسيًّا مُهِمًّا، أكد أن الولايات المتحدة أصبحت مقصد الطرفين؛ لحل المشاكل المستعصية. المباحثات مع الطرفين تناولت المشكلة الساخنة للجيش الثالث، وتصورات الخطوة التالية. كان موقف مصر أن تكون الخطوة التالية عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر، وهذا الموقف كان مرفوضًا. ولكن أهم من ذلك أن مشكلة الجيش الثالث (التي تضغط على أعصاب المفاوض المصري) ظلت مؤجلة، رغم أن كل يوم، بل كل ساعة، كانت مليئة بالمرارة والمخاطرة. وفقط بعد خمسة أيام من وصول كيسنجر إلى القاهرة في أول زيارة (أي: في 11 نوفمبر) وقعت اتفاقية النقاط الست بشروط مهينة عند الكيلو 101 (وكانت القوات السوفيتية لا زالت تحت التأهُّب عند زيارة كيسنجر. أي: كان البديل الثاني لا يزال قائمًا أمام القيادة المصرية). ولكن كان كيسنجر يستخدم دائمًا في مفاوضاته مع مصر: "أو بوسعكم أن تحصلوا على الأسلحة من الاتحاد السوفيتي، ولكن لن تحصلوا على الأرض
إلا منا". وهذه المقولة ناقصة بدرجة مُخلة؛ فقد بدا في تلك الفترة أنه أصبح بوسع الولايات المتحدة أن تتصرف فعلاً في معظم الأراضي (على الأقل) التي تحتلها إسرائيل؛ نتيجة حرب أكتوبر. لكنْ فارقٌ كبير بين أن تستخدم الولايات المتحدة صلاحياتها في ردّ الأراضي، تحت ضغط القوة العربية (بمكوناتها المختلفة) في المقام الأول، وبين أن ترد الأراضي؛ لِقاء قبول مصر والدول العربية لوضع التبعية الكاملة للولايات المتحدة (هذا إذا كان صحيحًا أنها سترد الأراضي كلها في حالة الاختيار الثاني).

وبالتأكيد كانت الولايات المتحدة تعمل – في خطواتها المتتابعة – على خلق الوقائع وتطويرها بطريقة تتفق مع هذا الاختيار الثاني، بل عملت تدريجيًّا على إغلاق الطريق الآخر المحتمل؛ بحيث لا يبقى أمام القيادات العربية هامش للمناورة المستقلة، ولا يصبح هناك إلا طريق واحد مفتوح، ترسمه الولايات المتحدة. وتبدأ هذه الترتيبات بإبعاد صياغة التسوية عن موازين الجو الساخن التي أنشأتها حرب أكتوبر وامتداداتها البترولية، والتي وضعت العرب في مركز قوة نسبية. كانت الولايات المتحدة تسعى للتسويف المتعمد، وكانت القيادات العربية، وبينها الملك فيصل، تدرك هذا المخطط لخفض درجة الحرارة، من خلال تجزئة المشاكل، ومعالجة كل جزئية بدم بارد (28). وإذا كانت سحب من الضباب قد تكثفت في سماوات العلاقات المصرية السوفيتية، فإن زيارة كيسنجر قد أضافت إلى السحاب الأسود عواصفَ رعدية شديدة، وإذا كان لدى السوفييت شك في نيات مصر وقيادة مصر، فإن هذه الزيارة.. أكدت لديهم أنني (أي: الرئيس السادات) اتفقت مع الأمريكان عليهم" (29).






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس