عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:01 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(11) بعد التوصل إلى اتفاقية الكيلو 101 ظل وضع الجيش الثالث مقلقًا ومهينًا، ونشبت عبر الخطوط المتشابكة حرب استنزاف ضارية - غير مُعلنة - ضد القوات الإسرائيلية على الضفة الغربية للقناة. وإذا كان مطلوبًا مع ذلك احتواء الموقف، وإذا كان غير مسموح لأيٍّ من الطرفين أن يفجره، فإن الولايات المتحدة تملك - إذن وَحدها - إخراج الجيشين المتحاربين من هذا المأزق. وقد وعدت بذلك فعلاً، لكنْ لمَ العجلة؟ استطالة الزمن في هذا الظرف، مسألة مفيدة لانتزاع التنازلات من الطرفين عبر الاتصالات السرية. وبالفعل جاء كيسنجر في جولة نوفمبر، بعد أن كانت مصر قد عدَّلت من مسألة عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر (التي تعكس رغبة في إضعاف الموقف الإسرائيلي، وتهديدًا بالتالي بالعودة للقتال إذا تعذر الاتفاق، وتهديدًا بالتالي بتنشيط الدور السوفيتي). كانت فكرة إجراء انسحاب إسرائيلي إلى خط أكثر استقرار من خطوط 22 أكتوبر قد قدمت باسم فض الاشتباك بين القوات المتحاربة. وبمنطق دفع الحركة بمعدل سريع (وفقًا للمصالح العربية). كان الاقتراح المصري أن تكون المرحلة الأولى من الانسحاب إلى خط العريش/ رأس محمد. وكان الملك فيصل يربط رفع الحظر البترولي بالانسحاب الكامل في بداية الاتصالات، ثم تعدل المطلب إلى "قدر معقول من
ألا نحاسب". وكان موقف كيسنجر في كل الأحوال "أنه تلزمني فترة ما بين ستة أشهر إلى سنة كاملة؛ حتى نصل إلى بداية شيء معقول" (30).

أذكر أيامها أن هذا التصريح أدهش الكثيرين من الفترة التي تصوروها طويلة قبل الوصول إلى "بداية شيء معقول". إلا أن كيسنجر أوضح أنه يمكن - في هذه الأثناء - أن تتحقق بعض الخطوات (فصل أول للقوات)، ولكن ليس قبل 31 ديسمبر (بحجة الانتخابات الإسرائيلية).
في 14 ديسمبر جاء كيسنجر إلى المنطقة. كانت التحركات المختلفة في تلك الفترة ضمن التحضير لمؤتمر جنيف. وبالتأكيد كان الاتحاد السوفيتي متحمسًا لحل القضية من خلال هذا المؤتمر، وبمشاركته النشطَة (بصفته أحد رئيسي المؤتمر). ونفترض هنا أن الإصرار السوفيتي على عقد المؤتمر، وموافقة الأطراف العربية (ردًّا على التسويف الأمريكي) دفعًا للولايات المتحدة التحرك السريع؛ حتى
لا تفقد ما كسبته، فحتى هذه اللحظة كان كيسنجر يدرك "أن السادات يملك بديلين: الأول أن يحاول ويحقق اتفاقًا، عبر مساعدة الولايات المتحدة، في جو من الاسترخاء. والثاني أن يحاول ويصل إلى اتفاق بمساعدة البريطانيين والفرنسيين واليابانيين والسوفييت، ولكن في مناخ من الأزمة الدولية مع الولايات المتحدة التي أصبحت مُتخلِّفة وراء الدول الأخرى"(31).

وما نُشر عن رحلة كيسنجر في ديسمبر يقول إنها كانت لتذليل العقبات أمام مؤتمر جنيف، ولكن يصعب تصديق ذلك، فحتى من خلال ما نشر يمكن اكتشاف حقيقة أن كافة المناورات والوعود قد استخدمت لاستبعاد السوريين، ولشق الصف العربي؛ بإعطاء أولوية خاصة لمصر، ثم لتفريغ المؤتمر من أي مضمون فعلي.
انعقد مؤتمر جنيف في 21 ديسمبر، ووفقًا لرواية الإسرائيليين، ألحَّ جوميكو – في لقائه الخاص مع وزير الخارجية الإسرائيلي (إيبان) – على أن المطلوب مواصلة المؤتمر (بلا انتظار للانتخابات الإسرائيلية)، والتوصل بسرعة على "تقدم ذي مغزى". وفهم الإسرائيليون أن مقصد السوفييت يتجاوز مجرد اتفاق مبدئي لفصل القوات. ولكن كانت جولة كيسنجر قبل المؤتمر، قد بحثت مباشرة مع مصر وإسرائيل مشروع اتفاق لفصل القوات. الاتصالات التي سبقت الزيارة، والمفاوضات المباشرة، أصرت على أن يعتدل الجانب المصري في مطالبه كشرط لتدخل الولايات المتحدة، فتعدلت المطالبة المصرية بأن يكون الانسحاب إلى خط العريش/ رأس محمد، واكتفت بأن يكون خط الانسحاب الأول إلى شرق المضايق. ويبدو أن الوعود الأمريكية في هذا الاتجاه كانت خلف الموقف المصري المتردد إزاء المساندة السوفيتية، وإزاء مؤتمر جنيف.
(12) في 10 يناير عاد كيسنجر إلى المنطقة، بعد إلحاح من مصر وإسرائيل. وبدأ دبلوماسية المكوك للتوصل إلى اتفاق للفصل بين القوات على الجبهة المصرية. وفي 17 يناير وقع الاتفاق فعلاً، ووضح أن كيسنجر فرض على كل طرف أن يقبل تجزئة مطالبه؛ فتحولت الخطوة المُرتقبة إلى خطوتين. فالانسحاب الإسرائيلي وفق الاتفاق، يكون فقط من المواقع غرب القناة، وأخذت إسرائيل - مقابل ذلك - تخفيفَ الوجود العسكري المصري شرق القناة، مع البدء في تطهير قناة السويس وتعمير مدنها. والشرط الأخير قد نتصور أن القيادة المصرية وافقت عليه اقتناعًا، وليس خضوعًا. ولكن من المؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة أصرَّا على ألا يكون المطلب مجرد قرار مصري مستقل، ولكن شرطًا أو جزءًا لا يتجزأ من الاتفاق، اتفق على عدم إعلانه. ويدعونا هذا إلى إلقاء الضوء على نوع من فنون العمل السري تكرر بعد ذلك كثيرًا. فبعد كل اتفاقية ثار الكلام حول البنود السرية، وأقسم المسئولون أنه لا توجد أيَّة اتفاقيات سرية مع إسرائيل، وواقع الحال أن هناك الآن أسلوب الاتفاق الثلاثي؛ فالحكومة المصرية توقع ما يسمى مذكرة إيضاحية، موجهة إلى الحكومة الأمريكية تتضمن التزامها بالشرط المعين، والحكومة الأمريكية توقع في نفس الوقت مذكرة إيضاحية إلى الحكومة الإسرائيلية تتضمن التزامًا بأن هذا الشرط المعين (كعودة الملاحة في القناة) سينفذ. هذا الأسلوب يضرب عددًا من العصافير بحجر واحد، فهو يتيح للحكومة المصرية (أو الإسرائيلية) أن تنفي أنها التزمت أمام الدولة الأخرى بالتزامات معينة، والحكومة الأمريكية تبدو كما لو أنها تلقت تفسيرًا أو اقتراحًا أو التزامًا من الحكومة المعنية، دون أن يكون لها دخل أو ترتيب في ذلك (ويذكرنا هذا بخطاب النوايا عند صندوق النقد الدولي، وإعلان السياسة عند البنك الدولي – راجع الفصل الرابع). ومن ناحية ثالثة، فإن التجاء الحكومتين المصرية والإسرائيلية إلى الولايات المتحدة لتبليغ الشروح والالتزامات، تأكيدٌ للدور الخاص للولايات المتحدة؛ كشريك مهيمن في إنشاء وتنفيذ الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية. وقد نفترض بالمناسبة أن الولايات حصلت أيضًا على بعض هذه المذكرات أثناء المفاوضات والاتفاقيات؛ لتعبر عن التزامات خاصة قبلها، ولحسابها الخاص (بعيدًا عن القضايا المباشرة لمصر/ إسرائيل)، فهي وسيلة لها إلزام الاتفاقية أو المعاهدة، دون مثالب إجراءات التصديق الدستورية، وما تتضمنه من علنية، في حالة الصيغة التقليدية للاتفاقيات الدولية (ولم يتنبه المعارضون في مصر إلى هذا التكنيك الجديد).
المهم، كانت الاتفاقية الأولى لفصل القوات، تعني تأجيل الانسحاب الإسرائيلي إلى شرق المضايق لخطوة ثانية، وتأجل سداد الثمن المباشر لذلك (مرور الشحنات الإسرائيلية في القناة عند فتحها للملاحة) إلى حين التوصل إلى هذه الخطوة. ويقال إن مائير التفتت إلى كيسنجر بعد توقيعها للاتفاق وقالت: "إنني أعتقد بإخلاص وأمانة، أنك صنعت تاريخًا في هذا الأسبوع، وليس عندي أي شك في ذلك" (32). وهذا الارتياح الإسرائيلي مفهوم. ولكن تقبيل كيسنجر على الوجنتين – من الجانب المصري – واعتباره أخًا وليس مجرد صديق، هو الموقف غير المفهوم.
فاتفاقية الفصل الأول للقوات حققت التالي: تجميد صيغة مؤتمر جنيف – دعم اتجاه الولايات المتحدة للانفراد بتسوية النزاع وفق شروطها هي – يرتبط بكل ذلك إبعاد السوفييت سياسيًا عن منطقة النزاع، وعن الجانب العربي بالتحديد – انعكس ذلك مباشرة (بمجرد توقيع الاتفاقية) في أزمة إمداد القوات المسلحة المصرية بالأسلحة السوفيتية. وكانت القيادة المصرية تحاول تطويق مثل هذه الأزمات في الماضي، ولكنها قررت هذه المرة (18 أبريل) تنويع مصادر السلاح (هل كان هذا واردًا في مذكرة من المذكرات الإيضاحية؟) – أيضًا حققت الاتفاقية تصدعًا في الجبهة العربية المحاربة. صحيح أن السادات أعلن يوم توقيع الاتفاقية أن كيسنجر وعد بالتوصل إلى خطوة مشابهة على الجبهة السورية، ولكن منطق الخطوة خطوة بطبيعته يؤدي إلى بذر الشقاق والشكوك، خاصة وأن الخطوة الأولى تبدأ دائمًا من مصر، والمخطط الأمريكي والإسرائيلي يشير دائمًا ومنطقيًا إلى معاملة مصر معاملة خاصة (بصفتها الدولة الأقوى) لإغرائها بالابتعاد عن الآخرين؛ وتمهيدًا للبطش بهؤلاء الآخرين. ويمكننا أن نفترض أن المناورات التي تمت في تلك الفترة، والمعلومات (أو شبه المعلومات) التي سُرِّبت، أسهمت في خلق نتائج مطلوبة تمامًا من وجهة نظر كيسنجر(33). وبعد فترة كافية لحدوث هذه النتائج، حققت مفاوضات المكوك، اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية (28 فبراير). ومع طول الزمن، ومع الضغط، ومع "المجهود الشاق" الذي بذله كيسنجر، أعلنت الدول النفطية وقف قيودها على تصدير النفط (18/ 3)؛ اكتفاء بمجرد وعد من الولايات المتحدة بخطوة أخرى محدودة (وكان إنهاء الحظر والتقييد – كما ذكرنا – مربوطًا بشيء قريب من التسوية الشاملة). وبذا تخففت الولايات المتحدة من ضغط أوروبا الغربية واليابان، وتخلَّصت من منظر أن السعودية تفرض حظرًا على الولايات المتحدة.
والخلاصة، أن اتفاقية الفصل الأول للقوات، بكل النتائج السابقة، أضعفت إمكانية اللجوء إلى بديل استخدام القوة. أسهم الاتفاق إسهامًا أساسيًا في خلق وقائع ومؤسسات تجعل اختيارَ بديلٍ للخطوة خطوة مغامرةً صعبة. وبالتالي استراحت الولايات المتحدة إلى ما حققته، وجاءت زيارة نيكسون للمنطقة، تعبيرًا عن تدشين المرحلة الجديدة من السيطرة. قلنا: إن النتائج المباشرة بعد وقف العمليات العسكرية كانت تعني – بالمعنى الاستراتيجي – خسارة لإسرائيل، واستفادة بدرجات متفاوتة للجانب العربي وللاتحاد السوفيتي وللولايات المتحدة. ونشهد الآن بأن الدور النشط، والمكثف للسياسة الأمريكية (وعلى رأسها كيسنجر) في تلك الفترة الحرجة، أدى إلى تغير سريع في المعادلة. فالاتحاد السوفيتي فقد دوره أو كاد، والولايات المتحدة أصبحت في موقع السيطرة والمستفيد الأول من نتائج الحرب. ونضيف إلى هذا أن التوازن النسبي بين طرفي الصراع المحليين والمباشرين تعدلت أيضًا على نحو واضح، فتدعم الموقف الإسرائيلي، وساء الموقف العربي. حدث هذا لأسباب عديدة، على رأسها اختلال التوازن في التسليح، وليس أقلها إدارة إسرائيل لمعركتها الدبلوماسية بكفاءة أعلى، ومستفيدة من الأدوات المختلفة المتاحة، ولكن لا ننسى أيضًا أن تحيزات هنري كيسنجر شخصيًّا، ليست فوق مستوى الشبهات(34).
ثانيًا – الهجوم المخطط لتقويض الاستقلال الاقتصادي:
(1) الخطوة خطوة، سياسية متكاملة:
إن الموافقة على نزع مخالبنا وأنيابنا، بينما الأرض
لا زالت محتلة، يعني تسلًُّم الولايات المتحدة "للتوكيل المصري" في قضية الصراع. ويعني أننا لن ندفع الولايات المتحدة للتدخل بدافع الضغط والتهديد، ولكن سنجذب انتباهها بالإغراء، ويتضمن الإغراء مشاركة أو منافسة إسرائيل في تحقيق وحماية المصالح الأمريكية. والقرار المصري – بهذا المفهوم – كان قرارًا بالانسحاب في ظروف تبدو مواتية للتقدم. وكان طبيعيًّا أن يطلب من الجانب العربي، ومن مصر بشكل خاص، إثبات حسن النية بعد تاريخ "أسودَ" من الكفاح ضد الإمبريالية.

كان لا بد أن تساعد مصر في إعادة ترتيب الأوضاع داخل المنطقة على نحو يكفل اطمئنان الولايات المتحدة على مصالحها، ويكفل احتواء النتائج التي كانت محتملة بعد الحرب. وداخل مصر، كان استقلال الإرادة (سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا) يتنافى مع "حسن النية" ونبذ أسلوب التهديد. وفي هذا النطاق، لم تكن الخطوة خطوة مجرد تعديلات متتابعة في مواقع القوات العسكرية على الخرائط، فعمقها الحقيقي، تمثل فيما كان يحدث داخل مصر: في ارتباطاتها الدولية – في علاقاتها العربية – في وضع مؤسساتها السياسية وقواتها المسلحة – في التغيرات الأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية – ثم في علاقتها مع إسرائيل. باسم الخطوة خطوة، وبذريعة الأزمات في البيت الأبيض، وانتخابات الرئاسة، والعناد الإسرائيلي، مرت الأعوام واستفادت الولايات المتحدة وإسرائيل من تبدد الجو الساخن الذي أنشأته حرب أكتوبر. والولايات المتحدة (التي كانت منشغلة جدًا في الانتخابات والأزمات) لم تغفل لحظة عن التدخل الفعلي في الشرق الأوسط. الانتخابات كانت تشغلها فقط عن التقدم بمقترحات متكاملة حول قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنها لم تغفل لحظة عن تعميق التناقضات العربية، ولم تغفل أبدًا عن إحكام سيطرتها على مواقعها النفطية في الخليج، ولم تغفل أبدًا عن إحداث ثورة مضادة متكاملة في مصر وغيرها، ولم تنشغل طبعًا
أو تقصر في تسلح إسرائيل. وإثباتًا لحسن النية؛ ولأننا حلفاء الحاضر والمستقبل، كان لا بد أن تقبل القيادة المصرية بكل ذلك، كان لا بد أن تقبل لعبة "الإستربتيز" فتخلع عن الشعب المصري مكتسباته التاريخية.. قطعة قطعةً.. إن هذا التحليل يؤكد المسئولية الجسيمة للقيادة المصرية، فالولايات المتحدة لم تتسلل إلى مصر من النافذة، ولم تقتحم الأبواب عُنوة، ولكنها عادت في وضح النهار، وبدعوة رسمية، ويبدو أيضًا أنها كانت تستعد لهذا اليوم، فتخطيطها كان جاهزًا ومحكمًا(35). وكما قلنا كان هذا التخطيط – تحت عنوان الخطوة خطوة – شاملاً لكافة المجالات.
وفي دراستنا لتطور الجانب الاقتصادي، (كما في الجوانب الأخرى)، ينبغي
ألا نغفل أبدًا عن فرض أن هناك تدبير وتخطيط لإحداث ما حدث.

وتبرر هذا الفرض، مفاهيمنا العامة حول طبيعة العلاقات الدولية، وحول التبعية المفروضة، ودور صندوق النقد والبنك الدولي، ووكالة التنمية الأمريكية، فالأشقاء الثلاثة مؤسسات تخطط وتدير السياسات اللازمة اقتصاديًّا؛ لإعادة إنتاج النظام الدولي القائم على دول مسيطرة ودول تابعة. ومعروف أن هذه المؤسسات تقوم بمجهود مضاعف وأكثر تنسيقًا في الدول التي حاولت التمرد، فبعد نجاح "الجهات الأخرى" في التصفية السياسية لمحاولة الاستقلال، يكون الأشقاء الثلاثة جاهزين لدعم هذا الانتصار بالسياسات الاقتصادية الملائمة لإعادة النظام الاقتصادي إلى أوضاعه "الطبيعية"، أي إلى التبعية من جديد، بأقل آلام ممكنة، وبأقصى سرعة. وفي حالة مصر، بدورها القائد في صراعات ومستقبل المنطقة، لا نتصور أن يكون الموقف مختلفًا. إن الممارسة الاقتصادية هي، في التحليل النهائي وبالتحديد، الممارسة المرتبطة مباشرة بتوفير الحاجات المعيشة لمجتمع ما. والتوصل (عبر طرق مختلفة) إلى أن تكون إدارة النسق الاقتصادي من الخارج، تأكيد لتبعية هذا المجتمع لمن يديرون نسقه الاقتصادي.
وكما كان استخدام احتلال الأراضي مجالاً للعمل المخطط والتآمر السري، ويساعد في محاولات استعادة الولايات المتحدة بالذات لإدارة النسق الاقتصادي المصري، فإن الهجوم على الجبهة الاقتصادية – بهذا الهدف – لا بد وأن يكون بدوره مجالاً للتخطيط والتآمر السري المدبر، وتستفيد من نتائجه سياساتٌ الخطوة خطوة في جبهة الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي الجبهات الأخرى.
ومع ذلك فإن فرض "التدبير والتخطيط الخارجي لإحداث ما حدث في إدارة وبنية الاقتصاد المصري" لا يقوم فقط على الاستدلال المنطقي؛ فالمعلومات المتاحة – رغم أنها غير كاملة بطبيعة الحال – تؤيد صحة هذا الفرض (كما يتضح من فصول الكتاب – خاصة من السادس إلى العاشر) وسنلحظ أيضًا أن استخدام هذا الفرض، يساعد في تفسير كثير من التطورات التي يصعب تفسيرها بغيره. وغنيٌّ عن البيان أن تركيزنا على دور المخططات الخارجية، لا يعني إغفال القوَى الاجتماعية والسياسية المحلية، ولكن التركيز يعني أن القوة الخارجية – بإمكانياتها المختلفة – كانت القائد والمخطط لمسار الثورة المضادة. وهذا طبيعي؛ فالثورة المستقلة تتطلب - بحكم تعريفها - قيادة محلية وعقلاً مستقلاً، والثورة المضادة لإملاء التبعية تتطلب – أيضًا بحكم تعريفها – قيادة خارجية. يتطلب الأمر طبعًا استخدام أدوات محلية، ولكن العقل والقيادة للقوى التي تفرض سيطرتها. وعلى كلٍّ، فإن الخلاف في هذا الأمر، لا يعكس خلافًا نظريًّا، بقدر ما يعبر عن نجاح الممارسات السرية في إخفاء الدور الحقيقي للقوى الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في القطاع الاقتصادي (كما في القطاعات الأخرى) (36).
(2) بيع الأحلام:
أ- كان الموقف بعد أكتوبر 1973 يشيع – من الناحية الاقتصادية – تفاؤلاً عامًا بإمكانيات المال العربي، وبإمكانيات الموقف الجديد للولايات المتحدة، وللغرب بشكل عام. والقفزة الهائلة والسريعة في الفوائض المالية العربية بالذات، خلقت حالة غريبة من انعدام الوزن "في المنطقة العربية، لا عند النفطيين فقط، ولكن عند جيرانهم أيضًا، وفي غياب تصور نظري متكامل، ومع سيادة قصر النظر السياسي، وتقلص الإرادة المستقلة، كان لا بد من تفاقم الحالة، وأصبح هناك وهمٌ عام بأن تيارًا متدفقًا من الأموال السهلة في طريقه إلى مصر؛ ليحل كافة المشاكل. ولم يكن الوهم بلا أساس، فالأموال العربية كانت بالفعل متغيرًا يبشر بإمكانية إيجابية كبيرة، ولكن تحول الإمكانية إلى فعل كان يحتاج عديدًا من الشروط المعقدة، والتعامل مع الإمكانية كما لو كانت فعلاً متحققًا يفضي إلى كوارثَ.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس