عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:07 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

وقد أسهمت الولايات المتحدة في إذكاء هذا الوهم، وفي إشاعة المفاهيم الخاطئة؛ كغطاء أيديولوجي لغزوها السلمي– ومؤكد أن إسهامها كان مخططًا، ومؤكد أيضًا أنها تمكنت - من خلال حلفائها وعملائها - من التشويش الناجح، فتصرفت غالبية القوى الوطنية بوحي من الحلم اللذيذ، حلم تدفق البترو/دولارات، والدولارات التي تمكننا من استيراد كل ما حُرمنا منه، وخاصة في مجال الاستهلاك؛ أسوة بإخواننا النفطيين. وحتى في مجال التنمية، كان الحلم اللذيذ يقضي بأن العملية أصبحت ميسرة مع تدفق الأموال من الخارج.
ب- والتحرك الواعي لتسويق هذا التصور الجديد كان نشطًا في كل المستويات، فنقرأ مثلاً في وثيقة للبنك الدولي (مفروض أنها محظورة النشر، أيّ مواجهة لقيادات النخبة السياسية الحاكمة) كلامًا ورديًّا حول المستقبل الجديد للاقتصاد المصري، تقول الوثيقة: "إن هناك تزايدًا ضخمًا في القدرة المالية في العالم العربي، ولمصر موقف فريد حياله يرجع إلى عدة عواملَ مركبة: دور مصر التاريخي الطويل والثقافي في المنطقة، ومناصرتها النشطة والمتواصلة للقضية العربية، وزعامتها السياسية، وحجمها بوصفها أكبر دولة عربية، وذات صناعة وهياكل مالية متطورة، وقوة عمل. وتلك العناصر مجتمعة، تجعل مصر تتمتع بموقف لا مثيل له في المنطقة يجعل في إمكانها جذب استثمار الأموال من الدول العربية الغنية بالبترول، ومن جهة أخرى، إمداد هذه الدول بعدد كبير من العمال المهرة، الأمر الذي ينجم عنه تحويل مقدار كبير من النقد إلى مصر" (37).
ج- وفي تقرير آخر (محظور النشر أيضًا) مقدَّم إلى اجتماع مغلق لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (oecd) ينكشف حجم الوعود المحددة التي أغرقت بها القيادات السياسية المصرية. يقول التقرير: "كان متوقعًا بعد زيادات سعر النفط في أكتوبر وديسمبر 1973، أن كمية تقرب من 5 بليون دولار، قد تتدفق من فوائض الدخول المتعاظمة للدول العربية المنتجة للنفط، إلى الدول العربية الأقل ثراء، وبالتحديد إلى مصر. ومنذ ذلك الحين، كانت هناك تقديرات بأن مصر وحدها تلقت وعودًا بما يزيد على 5 بليون دولار كمعونة واستثمار. وبالإضافة لذلك، تلقت مصر أيضًا تعهدات سخيَّة من كل الدول الغربية الصناعية، ومن الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية" (38).
د- والحقيقة أن زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون للقاهرة (12 يونيو 1974) كانت قد سبقتها زيارة لروبرت مكنمارا (رئيس البنك الدولي – 27 فبراير 1974)؛ حيث قابل الرئيس السادات، وأبلغه أن البنك سيُولي مصر اهتمامًا خاصًا إذا "صححت" سياساتها الاقتصادية، وفق توصيات صندوق النقد الدولي.. وفي مايو وفدت بعثة الصندوق لمناقشة المسئولين، وتقديم "التوصيات". أيضًا سبقت زيارة نيكسون جولات لوزير خارجيته في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ جولته الأولى (5 نوفمبر 1973)
لم يكن كيسنجر يعد لاتفاق النقاط الست عند الكيلو 101،
ثم لاتفاق الفصل الأول للقوات (17 يناير)، بمعزل عن تصور عام وتام للدور الأمريكي في المنطقة العربية، أو بمعزل عن تصور للتطورات المرتقبة في العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة، ونجحت جهود كيسنجر في إنشاء لجنة التعاون المشترك برئاسة وزيري الخارجية المصري والأمريكي (31 مايو). ومعروف الآن أن أحاديث كيسنجر مع كبار المسئولين – في تلك الفترة – تضمنّت وعودًا بمساعدات اقتصادية سخيَّة. ويؤكد هذا اعتراف "شيهان" (المطِّلع والقريب الصلة من هنري كيسنجر)، فهو يقول: "إن جوهر سياسة كيسنجر بشأن الشرق الأوسط، كان ذا مستويين: المستوى الأول، هو احتواء النزاع العربي الإسرائيلي الذي اعتبره مُستعصيًا تقريبًا، "أمَّا المستوى الثاني فهو الترويج للتكنولوجيا الأمريكية، التي يتوقُ إليها العربُ جميعًا (بما في ذلك الراديكاليون) والتي تساعده على كسب الوقت بينما يقوم بالانتهاء من المشكلة الأولى: وكان يقول للعرب: إنني أعرف ما تريدون وهو عودة أراضيكم، الأمر الذي اجتهد في تحقيقه، وفي الوقت نفسه سأقدم لكم كل شيء تريدون الدخول في مناقشته من أجل القرن العشرين". وبالنسبة للمسئولين المصريين: "كانت السياسة الموازية (أي: المستوى الثاني) تعني التأييد الأمريكي والأموال الأمريكية وتشجيع المستثمرين الأمريكيين، وأمراء البترول على إنقاذ الاقتصاد المصري – وناهيك عن تشجيع دول غرب أوربا على بيع الأسلحة للسادات؛ نظرًا لأن مخطط كيسنجر الطويل الأمد هو القضاء على الاتحاد السوفيتي باعتباره مصدر الأسلحة الرئيسي بين الدول العربية" (39).

هـ- ولم يقتصر الأمر على الوعود، فقد تطلبت اللعبة التلويح ببعض "البشائر" فقفز رقم المنح المقدم من الأقطار العربية النفطية أثناء حرب أكتوبر وبعدها، وكذلك خلال عام 1974. وبعد اتفاقية الفصل بين القوات، اكتظت الفنادق بطوابير ممن جاءوا بصفة مستثمرين، ويبدو الآن أن أغلبهم كانوا جواسيس وأفاقين، أو على أحسن الفروض، مستثمرين غير جادين. وإلى جانب هؤلاء تدفقت عروض شركات البترول العالمية – وخاصة الأمريكية – لعقد اتفاقات (من 22 نوفمبر 1973 حتى 18 ديسمبر 1974 كان العدد 23 اتفاقية منها 21 مع شركات أمريكية). وفي تلك الفترة بالذات (بعد الارتفاع الكبير المفاجئ في أسعار النفط) كان هذا التدفق لشركات البترول ذا أثر نفسي ساحق.
و- قدم نيكسون وكيسنجر إلى السادات - في تلك الأيام- "العديد من الوعود – وعودًا بتقديم مساعدات اقتصادية، وأخرى بتزويد مصر بقوة نووية تُستخدم في الأغراض السلمية" (29). وكان "مجموع المساعدات والاستثمارات الأمريكية المتوقع بثقة – أثناء زيارة الرئيس نيكسون – يصل إلى 2000 مليون دولار كحد أدنى(40).. ولذلك، وحين تقرر إصدار القانون رقم 43 لسنة 1974 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، كانت مناقشته تعكس هذا الجو العام؛ فالحكومة متعجلة لإصدار القانون؛ تعبيرًا عن جديتها في فتح الأبواب "لاستقبال الأموال" قبل وصول نيكسون، وبالفعل قدمت المشروع في 19 مايو 1974، وتشكلت لجنة مشتركة من اللجنة التشريعية واللجنة الاقتصادية، ولجنة الخطة والموازنة ولجنة القوى العاملة (في مجلس الشعب) لدراسة المشروع على وجه السرعة، فعقدت اللجنة المشتركة أول اجتماعاتها في يوم 21 مايو، ورغم أن المناقشات تميزت بالترحيب الساذَج والسوقي، فإن أية كلمة تحفُّظ كانت تثير رعب ممثل الحكومة، فيسرع إلى تحذير الأعضاء "تعلمون أن رأس المال حساس، وأخشى مع حرية الصحافة التي نحرص عليها جميعًا، وحرية المناقشة، أن تنقل بعض عبارات يساء فهمها في الخارج؛ فالغاية التي نتوخَّاها جميعًا، هي الانفتاح على الدنيا دون خوف" (41).. ورغم أن اللجنة المشتركة كانت تعقد الجلسات المتوالية، وتندفع في إنجاز المهمة، نجد أن ممثل الحكومة يقول: "إن الحكومة ترجو من السيد رئيس اللجنة بوصفه وكيلاً للمجلس، التعجيل بنظر مشروع قانون استثمار المال العربي والأجنبي"(42)، وحين انتهت أعمال اللجنة في أول يونيو كان رئيس المجلس في ذلك الوقت (حافظ بدوي) يقول كلامًا من قبيل "نريد أن نحس بإشراقة فجر جديد، نريد أن نحس بالدنيا وقد تفتحت لنا، فنحن في حاجة إلى أن نفتح الأبواب، نحن في حاجة إلى أن يطل علينا الفجر الجديد (...) أرجو أن نفتح للرخاء أبوابنا، وأن نفتح في الحياة آمالنا، وأن ننظر بعيدًا عن هذه المحاذير التي سمعتها من الأخ أحمد طه (عضو يساري في المجلس)، نريد أن نبتعد قليلاً عن هذه المحاذير، ولنعتمدْ دائمًا على الله"(43).. وحتى رجل أكثر احترامًا كعبد العزيز حجازي، (كان النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء) كان يدلي بكلام يقرب أحيانًا من الهذيان. كان في وضع المدافع الأول عن مشروع القانون، وكان يُسكت أي معارضة، بمجرد الإشارة إلى فيض الأموال والمشروعات التي تنتظر قانون الاستثمار؛ ففي الجلسة العامة لمجلس الشعب، أعلن أن "هناك مبالغ كبيرة معروضة علينا؛ كقروض أو مساهمات في مجالات كثيرة؛ كالبترول والبتروكيماويات والغزل والنسيج، واستصلاح الأراضي، وكل هذا يؤكد وجود الثقة، وبقي توفير الحوافز للمستثمر".. وعند تحفظ البعض على تأجير الأراضي الزراعية للأجانب، قال عبد العزيز حجازي: إنه "يود أن يقول بهذه المناسبة، إننا الآن بصدد مشروعين صغيرين معروضين علينا، في مساحة 300 ألف فدان غرب النوبارية؛ الأول لتربية الحيوان، والثاني لتحديث وتصنيع الإنتاج الحيواني، فهل يجوز لنا أن نرفض أحد هذين المشروعين؟ بالطبع لا". ورغم تصفيق الغالبية لهذه البشائر، أضاف الرجل بشرى أخرى: "فعلى سبيل المثال، تقدم المستثمرون اليابانيون بعرض لاستصلاح واستزراع مساحة نصف مليون فدان في الأراضي الصحراوية، على أن يستخدموا في هذا المشروع كل إمكاناتهم وخبراتهم للبحث عن المياه الجوفية، واستزراع هذه المساحة، مع تحملهم كافة الأعباء، كما يحدث تمامًا بالنسبة للبحث عن البترول... فهل نرفض تعمير الصحراء؟ لا أعتقد أن أحدًا منا يوافق على ذلك، وبالتالي فمثل هذه المسائل يجب أن نتناولها بأفق واسع ورحب"(44).
وسط هذا الطوفان من التصريحات الوردية، وافق مجلس الشعب في حماس عارم على القانون 43 لسنة 1974، وفي جلسة واحدة (9 يونيو 1974)، وقبل وصول نيكسون بثلاثة أيام.. وكان التفاؤل الاقتصادي غارقًا في التفاؤل السياسي العام للمسئولين بالنسبة لموقف الولايات المتحدة، بعد اتفاقية يناير. كانت التصريحات تؤكد مثلاً "أن كيسنجر استطاع – تحت قيادة الرئيس نيكسون – أن يحدث ثورة رائعة في السياسة الأمريكية في منطقتنا"(46). وقيل: "إن الموقف في أمريكا تغير تغيرًا حاسمًا"(47).. وتعبيرًا عن هذا التفاؤل، بدأ العمل فعلاً في تطهير القناة وفي التعمير، وصرح الرئيس بأنه يفكر في مستقبل مئات الألوف من الجنود والضباط الأبطال الذين حققوا لمصر معجزة العبور، وأنه يرى أن الدولة لا ينبغي أن تكتفي بأن توفر لكل منهم معاشًا، بل يجب أن تعد له عملاً يحبه ويسعده (48).
ز-.. وهكذا تضافر التضليل الأمريكي مع المماشاة الكاملة من القيادة السياسية، ومع التطلع إلى الخير الغامر عند فتح الأبواب، وانعكس ذلك في أغرب ترحيب برئيس الولايات المتحدة، الذي قتلت أسلحته إخواننا وأبناءنا منذ شهور. وكان نيكسون ومن معه على رأس المندهشين، ويبدو أن المرافقين له أدركوا أن حملة الوعود والتضليل وصلت إلى أبعاد تنذر بالخطورة والنكسة، حين يثبت كذبها (49).
وبالفعل، كان البيان المشترك – في ختام الزيارة – بداية للإحباط؛ فلم يكن هناك التزام محدد بمعونات عاجلة بأي قدر، واكتفى بوعود عامة أو محدودة مثل "وقد وافقت الولايات المتحدة على المساعدة في تدعيم الهيكل المالي لمصر. ولدفع هذه العملية يزور مصر في المستقبل القريب وليم سايمون وزير الخزانة للولايات المتحدة أقصى مساهمة ممكنة للتنمية الاقتصادية في مصر؛ وفقًا لتفويض من الكونجرس، وتشمل تطهير قناة السويس، ومشروعات التعمير، وإنعاش التجارة المصرية. وبالإضافة إلى ذلك، ستولي الولايات المتحدة اهتمامًا ذا أولوية خاصة، لاحتياجات مصر من السلع الزراعية".. وإذا لاحظنا أن قرار المساهمة في تطهير القناة وفي التعمير سبق زيارة نيكسون، ولأسباب تتعلق بتأكيد أثر فصل القوات، وتدعيمًا لسياسة التهدئة في الجبهة المصرية الإسرائيلية، فإن الجديد الذي وعدت به الزيارة يصبح محدودًا جدًا. ولا يغير من ذلك أن ينص البيان على مجموعات العمل المشتركة التي تبحث مشروعات ومقترحات تقدم إلى اللجنة المشتركة التي حدد لها أن تجتمع برئاسة كيسنجر في واشنطن، في أواخر عام 1974. لقد نص البيان على ست مجموعات عمل مشتركة:
1. مجموعة لبحث خطط إعادة فتح قناة السويس، وتعمير المدن على طول القناة ودور الولايات المتحدة في هذه الجبهة.
2. مجموعة لتقديم التوصيات حول زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث المنجزات التكنولوجية.
3. مجموعة لتطوير البحث العلمي وتركز على تبادل العلماء.
4. مجموعة لمساعدة الحكومة المصرية في تطوير الخدمات والأبحاث الطبية.
5. مجموعة لتشجيع التبادل الثقافي من خلال المعارض والزيارات.
6. ثم مجموعة (قد تكون الوحيدة التي بدا أنها تتناول أمورًا واعدة ومحددة، وترتيبها في البيان المشترك بعد مجموعة قناة السويس)، وهي مجموعة عمل مشتركة لبحث وتقديم توصيات بإجراءات تهدف إلى فتح الطريق أمام إسهام الاستثمار الخاص للولايات المتحدة في مشروعات مشتركة في مصر؛ ولزيادة التجارة بين البلدين. وتوجيه فرص الاستثمار وفقًا لاحتياجات مصر للدعم المالي والتكنيكي والمادي من أجل النمو الاقتصادي.
وتشجع الولايات المتحدة وتدعم مشروعات المؤسسات الأمريكية في مصر، وجدير بالذكر أن المشروعات التي يتفاوض بشأنها حاليًا في مجالات: البتروكيماويات، الغذاء والآلات الزراعية، تنمية الأرض الزراعية، الطاقة، السياحة، البنوك – وجمع من القطاعات الاقتصادية الأخرى. وتزيد القيمة التقديرية للمشروعات التي تبحث جديًا عن 2000 مليون دولار. إن التكنولوجيا ورأس المال الأمريكيين بالارتباط مع القدرة الاستيعابية لمصر، ومع قوة عملها الماهرة، وفرص الاستثمار المنتج عندها، ويمكن أن تسهم بفاعلية في دعم التنمية للاقتصاد المصري".
هذا شيء قد يبدو محددًا (لغير المدقق).. وهو رقم قد يتفق مع الوعود التي سبقت الزيارة (2000 مليون دولار) ولكن من المؤكد أن المسئولين المصريين كانوا يأملون في مكونات مختلفة لهذا المبلغ الموعود، كان الأمل في "معونات" سائلة أو شبه سائلة لتدعيم ميزان المدفوعات، وليس في مشروعات هي – على أحسن الفروض – تحت الدراسة
ولم تتقرر بعد، وإذا تقررت، فإن عائدها بعيد (وعلى كل فإنها لم تتقرر حتى الآن!).

وهناك شيء آخر يبدو محددًا ومبهجًا، فتعويضًا عن الأحلام الضائعة في معونات نقدية أو سلفية، أعلنت حكومة الولايات المتحدة في بند خاص، أنها ستقدم إلى مصر التكنولوجيا النووية "ستبدأ الحكومتان المفاوضة حول اتفاق للتعاون في مجال الطاقة النووية، تحت إجراءات أمنية يتفق عليها، وعند إبرام هذا الاتفاق تكون الولايات المتحدة مستعدة لبيع مفاعلات نووية ووقودًا لمصر، وسيمكن هذا مصر مع بداية الثمانينيات من توليد كميات إضافية كبيرة من الطاقة الكهربائية، لدعم احتياجات تنميتها المتزايدة بسرعة"(50).
ولا شك أن هذا العرض كان من أهدافه الإبهار، ولكن كان رأي بعض الفنيين الوطنيين أن بديل المحطات النووية (حال حدوثه في ظروف سياسية معينة) لا يعتبر أفضل البدائل المتاحة لإنتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربائية، ففضلاً عمّا يتضمنه هذا العرض من محاذير اقتصادية وفنية، فإنه يعني– حال حدوثه – تسلُّم مفتاح الطاقة التي تسير اقتصادنا – ودون ضرورة – لقوة عظمى تتعارض مع طموحنا للاستقلال. أي أنه أداة جديدة لفرض الهيمنة. ولم يكن متصورًا بطبيعة الحال أن تسمح الولايات المتحدة باحتمال استخدام هذه المفاعلات في غير الأغراض السلمية. وستستخدم هذه الذريعة لفرض رقابة واسعة مباشرة. ومع كل، كان المفروض أن يشرع في إقامة هذه المحطات عام 1976، وأن تبدأ في العمل عام 1983، ولكن الكونجرس
لم يعتمد الاتفاق حتى الآن. وهذا يؤكد تدخل الاعتبارات السياسية في إقامة وتشغيل محطات نووية، وهو يبدأ أيضًا فرحة من تصوروا أيامها أنهم حصلوا من الولايات المتحدة على شيء محدد.. شيء "يدخلهم إلى القرن الواحد والعشرين"(51).



(3) تصورات التنمية بين القوى الوطنية والبنك الدولي:
أ- إن الأحلام والأساطير التي شاعت حول الأموال التي ستنهمر، انعكست في بعض المناقشات الاقتصادية والتنموية. في أواخر 1973 وأثناء 1974 كان كلام عجيب يكتب ويقال في محافل محترمة. وكان مطلوبًا بالتالي تأكيد بديهيات كادت تضيع في زحمة الأحلام. عبد العزيز حجازي كان يقول مثلاً إننا "كدنا نصبح أفقر شعوب المنطقة، بينما الثراء والبناء والتعمير وعلامات الانتعاش المادي واضحة في الدول العربية الشقيقة من حولنا"(52). وهذا الكلام كان يتكرر على لسان كل المسئولين الكبار، وكل الكُتاب والمحدثين الذين سيطروا فجأة على كل وسائل الإعلام، وكان يتكرر أيضًا على لسان اقتصاديين وفنيين يتحدثون بوقار شديد. كان بعضهم يخرج من هذه المقارنة بأن أداءنا الاقتصادي والسياسي كان منحطًا (وكأن الدول "الغنية" حققت ثراءها بالجد والاجتهاد وليس "بخبطة" البترول!).
فما كان حالنا يختلف عن حالهم بهذه الدرجة لولا الحرب، "ولولا تحويل بلدنا من قطر زراعي إلى بلد صناعي، وتحويل مجتمعنا من مجتمع رأسمالي إلى مجتمع اشتراكي"، ولولا محاولاتنا "لنشر الثورة والاشتراكية من حولنا؛ مما يخلق لنا المتاعب مع دولة عربية وأجنبية حاولت الإطاحة بالنظام الثوري القائم عن طريق تجويعنا بوقف مساعداتها والتآمر علينا، بل العدوان السافر على أراضينا كما وقع في عام 1956. فأثر ذلك كله على اقتصادنا" (كهذا مثلاً كتب وحيد رأفت) (53).
ب- إن انتشار السوقية والتشويش في الفكر الاقتصادي والتنموي، لم يكن مجرد سذاجة؛ فالتخطيطات الخارجية كانت تذكي هذا الاتجاه، ولكن لم يخل الأمر مع ذلك من محاولات لطرح تصورات نظرية على قدر من الجدية؛ لتبيان التعديلات المطلوبة في النظام والسياسات الاقتصادية، للتلاؤم مع المتغيرات الجديدة؛ أي لتحديد المضمون المقترح لما يسمى بالانفتاح الاقتصادي، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أطروحات عبد المنعم القيسوني (باعتبار أنه تولى بعد ذلك مسئولية القطاع الاقتصادي) والقيسوني لم يعرف عنه أنه اشتراكي متطرف؛ ولذا كانت تصوراته ترشح القطاع الخاص المصري والعربي دور أكبر، وبالنسبة لأهداف التنمية قال إنه "قد يكون من مصلحتنا أن نبدأ بالصناعات الخفيفة لاستغلال الطاقات العاطلة وأن نعطيها الاهتمام الأكبر، فهي أرخص أنواع الاستثمار. أما الصناعات الثقيلة مثل صناعة الحديد والصلب وغيرها، فإنها تحتاج لموارد كبيرة، وقد يكون من المصلحة أن نؤجلها بعض الشيء" إلا أن القيسوني ظل في ذلك الوقت مدافعًا عن إنجازات الخمسينيات والستينيات لتدعيم الاستقلال الاقتصادي. "فلم يكن كافيًا أن نحصل على الاستقلال السياسي، بل كان لا بد أيضًا أن نسيطر على الأوضاع الاقتصادية في بلادنا". والحديث عن الانفتاح الآن – كما يقول – يأتي بعد أن مصرنا المنشآت الاقتصادية الأجنبية في مصر، وبعد أن سيطرنا على مراكز التحكم الاقتصادي في البلد، وشعرنا أننا مسيطرون على حياتنا الاقتصادي؛ (ولذا) أصبح بإمكاننا أن نفتح بعض المجالات، دون خوف أو تردد لرءوس الأموال العربية والأجنبية". ومن سياق الدراسة يتأكد أن القيسوني كان لا يضع البنوك ضمن "بعض المجالات" المفتوحة، وهو ينص على أن من مهام الانفتاح الأساسية فتح الأبواب للأموال العربية" بالذات، والتعامل مع الشرق والغرب "نفتح على الجميع بلا استثناء"(45)، يعني هذا العرض أنه حتى بالنسبة لشخص كالقيسوني، كان ما حدث بعد ذلك، بعيدًا عن تصوراته.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس