عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:09 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

ج- إلا أن المحاولة الأهم لطرح تصور نظري تمثلت في ورقة أكتوبر (مايو 1974)، ففضلاً عن صفتها كوثيقة رسمية، فإنها أشمل وأعمق وأكثر راديكالية مما جاء في دراسة القيسوني، وقد وصفت بأنها تصور استراتيجي حتى عام 2000، وحددت في إطار هذا أن استراتيجية التنمية هي جزء من استراتيجية حضارية تهدف إلى خلق إنسان جديد بقيم تتصل بتراث المنطقة، وكان طبيعيًا أن تتناول كافة الممارسات الاجتماعية والسياسية، ولم تنس استهداف خريطة جديدة لمصر. وفي الجانب الاقتصادي، قدمت ورقة أكتوبر تقييمًا إيجابيًا لمنجزات ثورة 23 يوليو، وحاولت أن تعيد الرشد والاتزان أمام المتغيرات الجديدة. جاء في هذه الورقة:
* إن شعبنا قد غير ظروف حياته منذ يوليو 1952، وعلى مدى الاثنين والعشرين عامًا الماضية، ودون إغفال للسلبيات فإن "ما أريد أن أؤكده هو أن التقييم الموضوعي لما حدث يفضي إلى نتيجة لا يمكن أن ينازع فيها منصف، وهي أن المحصلة النهائية كانت إيجابية إلى حدود بعيدة وعميقة".
* "إن النضال من أجل حرية الإرادة الوطنية لا ينتهي بخروج المحتل، ولكنه ممارسة يومية مضنية ومكلفة، وإن كانت ثمارها في المدى الطويل أعظم بكثير مما يتوهم البعض كسبه من أي تبعية".
* "لقد أرجف الذين زعموا أننا نريد أن نلغي الميثاق،
أو أن نعدل عن اشتراكيتنا، أن وثائق الثورة لا تنسخ بعضها، ولكنها تكمل بعضها البعض". وإذا كان منهاجنا الأساسي هو حرية الإرادة الوطنية في اتخاذ القرار، وفي صياغة المستقبل، فإن الممارسة الفعالة لهذه الحرية تقتضي حسابًا دقيقًا لكل ما يحيط بنا من ظروف؛ لنقرر لأنفسنا ما هو خليق فعلاً بتحقيق أهدافنا في البناء والتقدم".

* إن معركة البناء لا تقل مشقة وتعقيدًا عن معركة العبور، وهي مثلها تحتاج إلى التخطيط الدقيق، والعمل الشاق وروح التضحية والعطاء".
* "إن فترة ما بعد الحرب تفرض تضحيات وجهودًا
لا تقل عن تلك التي فرضتها الحرب ذاتها، وعلينا – إذن - أن نتذكر دائمًا هذه الحقيقة، وأن ندرك أن الرخاء يحتاج منا إلى عمل كثير وطويل وشاق". ولكننا "نرفض أن يكون التقدم لصالح قلة تنعزل عن الجماهير، وترتبط بأساليب حياة غريبة عنها. ونريد أن تشارك أوسع الجماهير في صنع التقدم، وفي الاستفادة العادلة من ثمراته"... "إننا يجب أن نفهم الاشتراكية بالعقل والقلب معًا. ولذلك يجب ألا ننقطع عن التفكير في جماهيرنا الأكثر حرمانًا. وفي وسائل توفير أكرم سبل العيش والأمان والتقدم لها، فالأمم تقاس بمستوى قاعدتها العريضة، لا بمستوى قممها القليلة".

* ومع فتح أكتوبر العظيم ونتائجه الواسعة، فإن "دولة مثل مصر بوسعها اليوم أن تمد خطوط التعاون الدولي في اتجاهات متعددة، وأن تستفيد من كل الفرص التي يتيحها الوضع العالمي الجديد، مدركين أن قوتنا الذاتية وروابطنا العربية وعلاقاتنا الإفريقية، وانتماءنا لحركة عدم الانحياز، أسلحة أساسية في أيدينا لنرعى مصالحنا، وندافع عن حقوقنا، ونحول دون أن يتم أي اتفاق على حسابنا".
* "دور القطاع العام في المرحلة المقبلة بالغ الأهمية؛ ففي ظل سياسة الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار العربي والأجنبي، يظل القطاع العام هو الأداة الأساسية لتنفيذ أية خطة للتنمية، وهو الذي يتولى المشروعات الأساسية التي لا يقدم عليها غيره؛ ذلك أن القطاع العام هو وحده الذي يمكن أن تلزمه الخطة إلزامًا مباشرًا، في حين أن التخطيط للقطاعات الأخرى له معنى مختلف، ويتم بأساليب غير مباشرة؛ كالضرائب والائتمان والأسعار، والحوافز والإعفاءات، كما أن القطاع العام يظل الأداة الأساسية للتعبير عن الإرادة الوطنية في تشكيل اقتصادنا القومي. إنه الضمان الرئيسي لأن تظل القرارات الاقتصادية الهامة قرارات مصرية، تعبر بالفعل عن استقلال مصر الاقتصادي".
* "إنا ندرك تمامًا أن عبء التقدم والبناء يقع أساسًا على عاتق الشعب المصري (...) أمَّا عن رأس المال الأجنبي فليس عندي من رد على المتشككين خيرٌ مما جاء في الميثاق".. "وقد أوضح الميثاق أننا نقبل المساعدات غير المشروطة والقروض، كما نقبل الاستثمار المباشر في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديثة. وهذا بالدقة هو خطنا".
كذلك "فإن الانفتاح الذي أعلناه، هو انفتاح على العالم كله شرقه وغربه؛ لأننا ندرك تمامًا أن تنوع علاقتنا الاقتصادية الدولية هو الأساس المادي لحرية حركتنا السياسية (...) ويهمني في هذا الصدد أن أخص بالحديث أولاً المال العربي".
* "التنمية ليست عملاً عفويًا، يتم كيفما اتفق، في تلقائية كاملة، إنما التنمية عمل علمي يقوم على التنبؤ بالمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية في آجال زمنية معينة، ويعد التصور الوطني لمواجهتها (...) على أن هذا كله يحتاج إلى تغيير وتطوير في فلسفة التخطيط، وفي أجهزته ومسئولياته، ويجعلها أكثر دقة، وأكثر مرونة، وأوسع مخيلة، فهناك التخطيط للقطاع العام، الذي هو رأس الحربة في معركة التقدم والبناء لتحديد أهدافه، وإعادة رسم أولوياته، وهناك التخطيط الذي يخدم الاستثمارات الوافدة، بإعداد الدراسات المسبقة، وبتوفير حاجياته في إطار الاقتصاد القومي في مُجمله".
* * *
هذه النقاط لا تمثل ملخصًا دقيقًا، وقد لا تحيط إحاطة كاملة بالمفهوم النظري العام خلف ورقة أكتوبر؛ فهي نقاط مختارة (وقد لا تخلو من تحيز) بهدف إبراز الموقف الذي اتخذته الورقة حِيال القضايا الأساسية التي كانت، ولا زالت، محل خلاف حاد بين القوى السياسية المختلفة داخل المجتمع. وبالتأكيد فإن هذا الموقف كان يعني أن تأثير القوى الوطنية الواعية كان لا يزال قريبًا من مركز إصدار القرارات الاستراتيجية (55).
د- ومن الطريف أن البنك الدولي حين أراد تلخيص ورقة أكتوبر، ركز على نقاط مختلفة، فكتب "أن الجدل الدائر حول إجراء تغيير في الاستراتيجية الاقتصادية، والاتجاه الذي حددته ورقة أكتوبر، يتلخص أساسًا فيما يلي:
* أدت حرب أكتوبر في عام 1973 إلى توحيد كافة قطاعات المجتمع المصري، وينبغي أن تستخدم تلك الوحدة في "معركة البناء" التي يتمثل هدفها في تحديث المجتمع المصري.
* ويتمثل العنصر الأساسي في عملية التحديث في تسريع النمو الاقتصادي، ويتطلب هذا إجراء تغييرات في مهام القطاعات المختلفة، وفضلاً عن ذلك، فإن مصر تحتاج مساعدة هائلة من الخارج، في شكل معونات مالية وتكنولوجية، ومن ثم يتعين عليها انتهاج سياسة اقتصادية متوجهة للخارج.
* قام القطاع العام بدور حاسم في التنمية السابقة لمصر ولكن أوضحت الخبرة عددًا من النواقص، وبالتحديد فإن هذا القطاع عانى من: أ- إفراط في البيروقراطية. ب- إلحاق بعض الأنشطة التي لا تتفق مع مهمة القطاع العام، وكان ينبغي أن تترك للقطاع الخاص.
بيد أنه في التحليل النهائي نجد أن القطاع العام، قد لعب دورًا إيجابيًا، لا سيما في تنفيذ مشروعات كبرى، وزيادة الإنتاج، ودفع تكلفة سياسة مصر للعمالة الكاملة، وتثبيت الأسعار، وكان المطلوب إعادة توجيه القطاع؛ بهدف تخليصه من العقبات، ورفع كفاءته. وفي المستقبل يكون التركيز الرئيسي لأنشطة القطاع العام على:
أ- أن يكون الأداة الأولى لتنفيذ خطة التنمية (حيث إنه كان القطاع الوحيد الذي يلتزم مباشرة بالخطة).
ب- أن يقوم بالمشروعات الأساسية؛ لتنفيذ خطة التنمية التي لا ترغب أو تستطيع القطاعات الأخرى أن تقوم بها.
جـ- أن يقدم خدمات أساسية للاستثمار الخاص والأجنبيّ.
* القطاع الخاص كعامل منتج كان قد أصابه الشلل؛ وذلك بسبب عدد من "السياسات المتناقضة" في الماضي. وقد حان الوقت لإنهاء هذه الظروف، ولإمداد القطاع الخاص بالاستقرار، والتشجيع لتعظيم الإنتاج.
* ورغم أن العبء الأساسي للتنمية، يقع على كاهل مصر؛ فإنها لا تزال في حاجة إلى قدر كبير من الموارد الأجنبية، وقد أدَّت الأوضاع المتغيرة في العالم أن أصبح توافد الكميات الضروريَّة من رأس المال الخارجي؛ ممكنًا جدًا، إذا توفرت استجابة مناسبة.
وكانت الظروف الجديدة ذات طابعين: الأول كان زيادة الموارد المالية للعالم العربي، فمالكو هذه الفوائض قد يرغبون في استثمار جزء منها في مصر؛ بسبب الروابط التاريخية والحضارية؛ ولأن مصر يمكن أن تقدم ملاذًا اقتصاديًا سليمًا. والعامل الثاني تمثل في الوضع الذي تبوأته مصر بعد حرب أكتوبر والذي حفز الدول الأخرى، إلى أن تأخذ أهدافها وجهودها مأخذ الجد، وترغب في الاستثمار بها. وينبغي أن تمسك الاستجابة المصرية بتلك الفرص الجديدة – وبصياغة ورقة أكتوبر فإن "مسئوليتنا الوطنية لا تسمح بتجاهل هذه الفرص". بيد أن الاستفادة من ذلك تتطلب موقف (توجه للخارج)، وكانت مصر مستعدة لانتهاج هذه السياسة بتوفير كافة الضمانات القانونية الضرورية للمستثمرين الأجانب.
* إن جهد التنمية لا يمكن أن يكون مسألة عشوائية، وإنما يجب أن يتم في إطار مخطط، والأوليات المحددة للخطة ينبغي أن تؤكد على إقامة صناعة حديثة، وزراعة كثيفة ذات عائد مرتفع، وعلى تنمية النفط والطاقة والسياحة.
* وأخيرًا ينبغي التأكيد على أن الأهداف الاجتماعية
لم تهمل، وقد أكدت ورقة أكتوبر على "أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تستقيم وتنطلق، إلا إذا سايرتها تنمية اجتماعية بمعدلات متكافئة". وكجزء من تنمية اجتماعية متوازنة على نحو أفضل، ينبغي أن يكون هناك نمو متعادل بين الأقاليم، وبذلك يقل التفاوت الذي اتسع بين العاصمة والمحافظات(56).

كان هذا ما فهمه خبراء البنك الدولي من ورقة أكتوبر، وهدفهم يعكس تحيزًا مضادًا لتحيزنا، فقد ركز البنك على ما يرضيه، أو اختصر في النقاط التي يختلف معها، مشوهًا
أو مغفلاً ما كنا نعتبره الجوهر الإيجابي، فبينما ألحت ورقة أكتوبر على مفهوم الاستمرارية في ثورة يوليو، وعرضت كافة تعديلاتها المفترضة في هذا الإطار، عرض البنك هذه التعديلات منفصلة عن أصولها؛ وكأساس لشيء مختلف تمامًا. وارتبط بذلك تجاهل مفهوم الاستقلال في اتخاذ القراءات الاقتصادية، ولم يكن هذا على سبيل السهو؛ فهو يعكس حنق البنك على هذا المفهوم، وبالتالي على الاتجاه العام للورقة. وقد عبر عن هذا الحنق صراحة حين أورد في بند مستقل، وبعد تلخيصه لورقة أكتوبر تقييمه الخاص لسياسة مصر الاقتصادية قبل الانفتاح، فكتب: "أن الاقتصاد المصري – وقياسًا على تطوراته في العقد الأخير – اتسم بهيمنة القطاع العام (عقب التأمينات الواسعة النطاق في 1961)، وبضوابط جامدة على الأسعار، والواردات والاستثمار. وفي الواقع على كافة القرارات الاقتصادية الجوهرية، وكذلك بتخطيط مركزي مفصل لمعظم المشروعات والسياسات، وبلجوء متزايد إلى الأوامر الإدارية كوسيلة لتنفيذ السياسة، وبانعدام المنافسة، وبالإنتاجية المنخفضة في معظم القطاعات، وبمعدل متدهور من الاستثمار والمعونة الخارجية.. وباختصار، أصبح الاقتصاد منعزلاً ومصابًا بالأنيميا، وقد تقدمت ورقة أكتوبر باستراتيجية جديدة جريئة؛ لتمكينه من الخروج من عُزلته النسبية، وأصبحت هذه الاستراتيجية معروفة باسم: سياسة الانفتاح، وتعني أساسًا: التحرك نحو اقتصاد أقل صرامة، ويسمح فيه لكل من القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية بدور نشِط وتنافسي" (57).

هذا التقييم القاتم يعكس رفض البنك للمضمون الأساسي لورقة أكتوبر ولمفهومها في الانفتاح. ولا يتسع المجال لعرض رأينا. ولكن لا بد أن نشير إلى أن تقرير البنك الدولي نفسه عرض في موضع آخر تقييمًا مختلفًا لتجربة التنمية المصرية في الستينيات: "فخلال الفترة 60 – 1967 نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل حقيقي 6% سنويًا تقريبًا – في المتوسط. وقد رافقت ذلك زيادة مطردة في مستوى الاستثمار الذي وصل إلى 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي المدخرات المحلية (أكثر من 14% في 66/ 1967). وحتى منتصف الستينيات، كان هناك تدفق ملموس لرأس المال الخارجي. وبعد حرب 1967 ضعفت الاستثمارات بسبب تحويل الموارد إلى مستلزمات الدفاع؛ ولنضوب تدفق رءوس الأموال (إلى مصر). خلال 68 – 1972 كان صافي التدفق متجهًا إلى الغرب إذا أخذنا في الاعتبار (سداد) فوائد الديون. وكان هناك تدهور في مستوى الاستثمار (وصل إلى 12% من الناتج الإجمالي في 1972) وفي معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي، فكان في المتوسط حول 3% سنويًا بالأسعار الثابتة، في الفترة 67 – 1973. وانخفضت أيضًا المدَّخرات المحلية إلى حوالي 8% من الناتج القومي في 1973" (58).
هذا التقييم – مع تحفظنا – يختلف تمامًا عن التقييم السابق، فالمعدلات التي اعترف بها – حتى 1967 – تعني تسليمًا بنجاح جهود التنمية في مرحلة التأميمات الواسعة، والتحليل لهبوط المعدلات بعد 1967 يشير إلى الحرب والضغوط الغربية، وليس إلى "مصيبة" القطاع العام والتخطيط المركزي كما قيل في التقويم السابق!
على أية حال، كان اهتمامنا بمنظور البنك الدولي؛ بسبب أن هذا البنك هو المرجع الفني المختص للدول الغربية ولدوائر الأعمال، فيما يختص باستراتيجيات التنمية في الدول التي يتعامل معها. ورغم أن البنك الدولي كان في هذه المرحلة – كالولايات المتحدة وصندوق النقد – يتحسس الخطى، وحَذِرًا في إبداء الملاحظات، فإن معارضته لمفاهيم ورقة أكتوبر كانت واضحة حسب العرض السابق، وزادها وضوحًا في فقرة تقول – تحت عنوان (عوامل ضغط على التنمية) – إن "الاستراتيجية الجديدة التي وضعت خطوطها في ورقة أكتوبر، قد تفتح مجالاً للتنافس بين الأهداف واتباعها جميعًا، وفي نفس الوقت يمكن أن يكون بمثابة فرملة للتنمية، ويمكن تحديد مجالات هذا التنافس المحتمل في: توزيع عادل للدخل يتعارض مع الحوافز التي ينبغي توفيرها من أجل نمو القطاع الخاص – الحماية المفروض تقديمها للصناعة، ونتائج ذلك على الكفاءة الاقتصادية – ترشيد نظام الأسعار (ويشمل كلا من الأسعار المحلية وسعر الصرف) من ناحية، وتثبيت الأسعار من ناحية أخرى – اللامركزية في اتخاذ القرار، وفي مواجهتها الحاجة إلى الإبقاء على بعض أهداف اجتماعية محددة مركزيًّا" (59).
* ولكن ينبغي أن نسجل أن ورقة أكتوبر كانت بالفعل نشازًا غريبًا وسط النغم السائد، وسجلت "الطليعة" وقتها هذه الملاحظة، فكتبت: "ماذا بعد الموافقة على ورقة أكتوبر؟ مفروض أن الوثيقة أصبحت إطارًا للتحرك السياسي في مختلفة مؤسسات الدولة، ونرجو أن تكون المبادئ التي تضمنتها دليلاً يوجه الحوار، ويحصر الخلاف في المرحلة المقبلة".. وأشارت الطليعة إلى تعارض الورقة مع اتجاه الإعلام "فعلى ضوء الوثيقة لم يعد مقبولاً مثلاً أن تصور المرحلة الماضية على أنها مجرد كم هائل من السلبيات، وعلى ضوء الوثيقة لم يعد مقبولاً أن ينكر البعض كل ما جاء في الميثاق".. كذلك لم يعد مستساغًا نشر أفكار خاطئة عن الأسباب الموضوعية للمتاعب الاقتصادية. لم يعد مستساغًا تصوير هذه المصاعب، على أنها مجرد نتاج للقطاع العام والسياسات "الاشتراكية" الخاطئة. وأن مجرد فتح الأبواب، بلا حساب سيقدم حلاً سحريًّا لكل المشاكل (..) أيضًا لم يعد مقبولاً أن يمتد الحوار إلى المقارنة بين اقتصاديات السوق، واقتصاديًّا التخطيط المركزي، وأيهما أفضل.. فقد حسمت هذه القضية". كذلك "أكدت الوثيقة ما نص عليه دستورنا في المادة 30 حول دعم القطاع العام". "هذه مجرد عينة من المبادئ التي تحددت في ورقة أكتوبر. وهي تختلف مع كثير ما قرأناه وشاهدناه خلال الأشهر الماضية في وسائل إعلامنا" (60).
كانت ورقة أكتوبر آخر محاولة من العناصر الوطنية في الدولة للتصدي نظريًّا للغزو الخارجي وضغوط أعوانه (61). والنقد الحقيقي لورقة أكتوبر أنها كانت مجرد ورقة، وقد خنقت إعلاميًّا حتى ماتت. وبعد ثلاث سنوات من الانتكاسات الفعلية أعلن الرئيس السادات دفنها رسميًّا مع كل المواثيق السابقة للثورة. إن هزيمة ورقة أكتوبر، وما رشحته من سياسات، لم تكن هزيمة في ندوة فكرية مع البنك الدولي، وما أشبه، فهي هزيمة ولدتها كل القوى التي تناولناها. والبنك الدولي بالمناسبة لم يقتحم الميدان على نطاق واسع في العام الأول للانفتاح، منتظرًا دور الحكومة الأمريكية وصندوق النقد.
(4) صندوق النقد الدولي (المطالبة بخفض سعر الصرف وإلغاء الدعم):
أ- بحثنا في الفصول (2، 3، 4) تدخلات الحكومة الأمريكية المباشرة وتدخلات البنك الدولي على مستوى المشروع والقطاع، وتوجنا البحث بمحاولة لإعادة تشكيل صورة عامة، أيدناها بعرض معلومات مركزة ومتكاملة لشرح طبيعة الهيئات الدولية واستراتيجيتها في فرض وإدامة التبعية بقيادة الولايات المتحدة، وحاولنا أن نعمق هذا العرض نظريًا (الفصل 5). وبدءًا من هذا الفصل يتناول التحليل متابعة تدخل القوى الخارجية (بشكل مباشر أو غير مباشر) على مستوى الماكرو لإحداث التغييرات المناسبة في بنية الاقتصاد القومي ككل. والتدخل على مستوى الوحدة والقطاع (التدخل من أسفل) والتدخل على مستوى الاقتصاد الكلي أكثر خطرًا. ووصل القوى الخارجية إلى درجة التأثير الفعال على الإدارة المركزية للاقتصاد الكلي أكثر خطرًا. ووصول القوى الخارجية إلى درجة التأثير الفعّال على الإدارة المركزية للاقتصاد يعني أنها ضمنت تحقيق هدفها الرئيسي، فالتدخل على مستوى الوحدة يتحدد إطاره، ويتغلغل، بقدر نجاح القوى الخارجية في صياغة استراتيجية التنمية والسياسات الاقتصادية، والمؤسسات المنفذة لهذه السياسات.
وقد "ظلمنا" في الواقع دور صندوق النقد الدولي في الحالة المصرية، فدوره أثناء تحليلنا للديوان المصرية لم يظهر بالقدر الذي يتكافأ مع خطورة هذا الصندوق كما شرحناها، أو مع حقيقة الدور الفعلي الذي أداه. وعذرنا في ذلك هو السرية التامة التي أحاطت تحركات الصندوق؛ بحيث
لم يظهر اسمه في الوثائق المعلنة إلا لمامًا، ولكن آن لنا "أن نرد اعتباره"، ونكشف دوره الطبيعي كرأس حربة في الهجوم المشترك.

ب- كانت آخر "مشاورات" أجريت مع صندوق النقد الدول قبل حرب أكتوبر في الفترة 10 – 19 فبراير 1973"(62). جاء في قرار مجلس المديرين التنفيذيين للصندوق (13 يونيو) بعد بحث التقرير المقدم عن نتائج المشاورات:
* بعد عامين من استعادة ملموسة للحيوية الاقتصادية تحت ظروف من الاستقرار النسبي، تباطأ نمو الاقتصاد المصري منذ 1970، وبرزت من جديد ضغوط على الموارد ومع الضوابط الشاملة للأسعار، انعكست هذه الضغوط أساسًا في مصاعب ميزان المدفوعات. ويعتقد الصندوق أنه لا بد من تدعيم السياسات المالية، وبالتحديد يجب الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي.
* تدعو الخطط الرسمية لزيادة الاستثمار؛ من أجل رفع معدل النمو الاقتصادي. ويعتقد الصندوق أن تحقيق هذا الهدف سيحتاج إعادة توجيه السياسات الاقتصادية؛ بحيث تحسن تخصيص الموارد وتخفف الضغط على النقد الأجنبي.
* وقد اعترفت السلطات المصرية لبعض الوقت بضرورة إصلاح جذري في نظام النقد الأجنبي يحقق تحسنًا متواصلاً في القطاع الخارجي، ويقلل الاعتماد الكبير الحالي على الضوابط والاتفاقات الثنائية. وأثناء الأعوام الأخيرة اتخذت خطوات محدودة في هذا الاتجاه، وكانت النتيجة على أي حال نظامًا معقدًا من تعدد أسعار الصرف. ويعتقد الصندوق أنه من مصلحة مصر أن تشرع بلا تأخير في إصلاح أساسي لنظام النقد، وهو يوصي في الأثناء بتبسيط التعدد في أسعار الصرف، وبتوسيع نظام الحوافز. ويجب أن تبذل جهودٌ متزايدة أيضًا؛ لإنهاء الترتيبات اتفاقات الدفع الثنائية مع أعضاء الصندوق.
ج- كانت المشاورات، في نطاق المشاورات الدورية التي يجريها الصندوق مع الأعضاء؛ وفقًا للمادة 14 من اتفاقيته، التي سمحت للدول الأعضاء؛ بتطبيق ترتيبات مؤقتة قبل الانتقال إلى الالتزام العام الذي تفرضُه المادة 8 من الاتفاقية (إعلان حرية تحويل العملة – الامتناع عن فرض أيَّة قيود على المدفوعات الجارية المستحقة إلى غير المقيمين – عدم التمييز بين الأعضاء في المعاملات الخارجية إلا بموافقة مسبقة من الصندوق). وتتراوح الترتيبات التي يقبلها الأعضاء، أو يقبلها الصندوق بين بدائلَ كثيرة. وعلى ذلك كان القرار المُتخذ قبل الشروع الفعلي في سياسة الانفتاح، يشير باتجاه "التوصيات" التقليدية للصندوق، ولكن بتحفظ شديد، والتوصيات ذات الصياغة المحددة تقتصر على الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي (وهذا مطلب لا يعترض عليه)، أما الإصلاحات النقدية فيبدو أن السلطات المصرية أنشأت السوق الموازية (سبتمبر 1973) كاستجابة "محدودة" لهذه التوصية (بالإضافة إلى اعتبارات واقعية). وبالنسبة لاتفاقيات الدفع (التي يعترض عليها الصندوق من حيث المبدأ) اقتصرت المطالبة على أن تنهي بعض الاتفاقيات مع الدول أعضاء الصندوق (أي: استُثنيت مجموعة الدول الاشتراكية).
* وفي مايو 1974 – بعد إعلان الانفتاح وقبيل زيارة نيكسون – وفدت بعثة من الصندوق لإجراء مشاورات جديدة برئاسة جون جنتر. كانت المشاورات هذه المرة أكثر شمولاً، والتوصيات أكثر صراحة. ويشير تقرير البعثة إلى العجز في ميزان المدفوعات وتراكم المتأخرات. وقد أبدت البعثة انزعاجها من حجم القروض، وأن نسبة كبيرة منها ذات طبيعة قصيرة الأجل (1/2 الدين كان يستحق خلال 4 أعوام) وهذه القضية – كما يقول التقرير – كانت تقلق أيضًا الجانب المصري، وإعادة التوازن – من وجهة نظر الصندوق – لن يكفي في علاجها الدخل المتوقع من القناة أو البترول كما اقترح الجانب المصري، فالأمر يتطلب إصلاحًا جذريًّا للقطاع الخارجي، يكون مدخلاً للإصلاح الاقتصادي الشامل، "فالقطاع الخارجي – بمنظور سياسة الانفتاح – يقدم الموقع الأفضل لبداية عملية الترشيد. وهذه العملية ينبغي أن تستند إلى أساس من سياسة ملائمة للنقد الأجنبي. والخطوات التي اتخذتها بالفعل السلطات المصرية تمثل بداية (تطبيق سوق موازية رسمية مع إجراءات نحو لامركزية القرار، فيما يتعلق بالتجارة الخارجية).
ومن المهم دعم هذه البداية كخطوة رئيسَةٍ نحو إنشاء سعر معدل وحيد للصرف، عند مستوى واقعي، وإعادة هيكلة الأسعار في قطاعات التجارة الداخلية والخارجية، وفي نفس الوقت، فإن المؤسسات المسئولة تحتاج إلى إصلاح، وبالتحديد فإن برنامجًا ديناميكيًّا لزيادة الصادرات لا بد أن يُنَفَّذ.
وتعتقد البعثة أن الوقت مناسب لتلك الإجراءات، ومن المسلم به أن تلك الإجراءات، سيكون لها تأثير على الأسعار المحلية، ولكن الزيادات في بعض الأسعار ضرورية؛ لتغيير التوازن النسبي بين القطاعين المحلي والخارجي؛ حتى تخفف حدة اختناقات النقد الأجنبي عبر الزمن (التشديد للمؤلف).
ولكن الجانب المصري لم يتفق في المشاورات حول مناسبة الوقت لهذا الاندفاع في الإجراءات، فيسجل تقرير البعثة أن المسئولين المصريين يوافقون على هدف التوسع في السوق الموازية؛ وصولاً إلى سعر واحد للصرف، ولكن "كانوا يرون أن مثل هذه الخطوة الكبيرة قد تؤدي إلى استنزاف كبير لموارد النقد الأجنبي المتاحة، أو إلى معدل عالٍ من زيادة السعر؛ ولأن هذه النتائج قد تضعف القبول الذي تلقاه سياسة الانفتاح؛ فإنهم يميلون إلى اتخاذ منهج تدريجي".
* والحقيقة أن شرح خبراء البنك الدولي لملابسات اللحظة التي رآها الصندوق مناسبة للتوسع في تنفيذ برنامجه التقليدي، يدعم رؤية المسئولين المصريين آنذاك؛ إذ يقول البنك: إنه "تتعين ملاحظة أن هذه السياسة للتحرر الاقتصادي، قد اتبعت في مناخ سياسي واقتصادي دولي غير مواتٍ إلى حد بعيد". ويقصد التقرير بهذا المناخ أنه "كانت تسيطر على اقتصاد مصر في عام 1974 ضغوط منبعثة من القطاع الخارجي، ولكنها انتشرت على بقية الاقتصاد. فعلى الجانب الخارجي، اشتملت الضغوط على التقدم البطيء نحو السلام في الشرق الأوسط، وعلى الارتفاع الشديد في أسعار واردات مصر الرئيسَة، والانكماش في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبطء المسحوبات من المعونات السهلة ومن رأس المال الأجنبي الخاص. وعلى الجانب المحلي، أدى تصاعد الأسعار العالمية للغذاء إلى زيادة صافي دعم الموازنة لمواد الاستهلاك الشعبي بما يقرب من ثلاثة أضعاف؛ حيث حاولت الحكومة تثبيت الأسعار المحلية للمواد الغذائية المستوردة" (63). ولا تعنينا في هذا الكلام تفاصيل تحليل وتقديم أوضاع الاقتصاد المصري عام 1974، فنحن نختلف في بعض النقاط الهامة. وينبع خلافنا من رفض استراتيجية الانفتاح التي تتبناها الهيئات الدولية من حيث المبدأ، ولكن حتى لو أخذنا بهذه الاستراتيجية، فإن الظرف لم يكن مناسبًا للبدء فيها – باعتراف البنك الدولي – إذا لم يكن مقصودًا إحداث انهيار. فالظرف الذي وصفه البنك الدولي تطلب من أية دولة محترمة إحكام الإدارة المركزية للاقتصاد، حتى مع اقتناعها بالتوجه تدريجيًّا نحو الانفتاح (كما حدث في الدول الغربية أثناء الحرب وبعدها) ولم يحدث أبدًا أن كان مثل هذا الظرف فرصة للانفتاح الفوري وإلغاء القيود؛ لأن الانفتاح الفوري والكامل في مثل هذه اللحظة يورث الكوارث.
وقد سجل تقرير البنك الدولي أيضًا اعتراضًا مبدئيًا ومنطقيًا للمسئولين المصريين على توصيات صندوق النقد الدولي، فيقول: "إن الحكومة واعية بالتشوهات الناتجة عن قيام سعر للصرف مبالغ فيه، ولكنها تشعر أن التخفيض الفوري لقيمة الجنيه، ليس الجواب الأكثر ملاءمة.
وتنهض هذه الحجة على أساس أن الصادرات المصرية تشمل عددًا كثيرًا من السلع ذات مرونة سعرية منعدمة (الصادرات "التقليدية" القائمة على القطن) وتذهب إلى دول الكتلة الشرقية (حوالي 64% من صادرات مصر عام 1974 إلى منطقة الاتفاقيات الثنائية)، بينما تتكون معظم الواردات المصرية من سلع ضرورية (وبالتالي لا يمكن الحد منها) تأتي أساسًا من كتلة العملات الحرقة (حوالي 74% من الواردات عام 1974 مصدره هذه البلاد). وعلى ذلك، فإن الإجراء التقليدي بتخفيض العملة، وإعادة توحيد سعر الصرف، قد يؤدي فقط إلى زيادة موقف النقد الأجنبي سوءًا، في المدى القصير)... والطريف أن التقرير علق على وجهة النظر المصرية بأن "هذا القلق الذي تشعر به السلطات ليس قلقًا بلا مبرر" ولكن لم يرتب على ذلك إلا ضرورة أن تنفذ السلطات التوصيات المقدمة من صندوق النقد؛ بحجة أنه
ما دام "الاقتصاد سيفتح على أية حال أمام المنافسة الخارجية، فمن الواجب أن نبدأ في اتجاه التزام سعر للصرف يعكس حقائق الموقف؛ تجنبًا لسوء تخصص الموارد" (64). وهذا كلام مسطح، ومجرد ترديد لأكذوبة المفعول السحريّ لتغيير سعر الصرف، وبغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، وعن الاعتراضات العملية المثارة، وهذا الكلام يقال رغم أن البنك الدولي يعترف بأن مشكلة العجز في ميزان المدفوعات (وأحد جوانبها الأساسية زيادة الصادرات) لا يحلها مجرد خفض سعر الجنيه المصري، فالسلع الصناعية هي "رأس الحرية في عملية الوصول إلى معدلات نمو أعلى في مجال نمو الإنتاج والصادرات. ولكن المنافسة في الأسعار لا تكفي في حد ذاتها بالنسبة لهذه السلع. فهناك اعتبارات هامة أخرى مثل النوعية والتصميم، ومدى الثقافة في السلع وتكاليف الإدارة وتوفر قطع الغيار بصفة منتظمة وتوصيل الاعتمادات إلى المشترين المحتملين. وهكذا فإن إحداث تغيير هيكلي كبير في اتجاه الصادرات أو تركيبها، سوف يتطلب قدرًا كبيرًا من الإجراءات بخلاف ترشيد سعر الصرف، وينتظر أن يستغرق التنفيذ الناجح لهذه السياسة الشاملة فترة الخطة الخمسية القادمة بأكملها على الأقل" (65).

وصحيح أن البنك الدولي يشرح موقفه في نطاق "تسويقه" لتصوراته الاستراتيجية المتكاملة، وما تتضمنه من دور الاستثمار الأجنبي والتبعية للأسواق الغربية – وهذه قضية أخرى – ولكن يبقى أنه يقول بصراحة إن زيادة الصادرات (بهدف تقليص أو إنهاء العجز في ميزان المدفوعات) لن يتحقق حلها السريع بمجرد تعديل سعر الصرف، والإجراءات المتشابكة المطلوبة لا يمكن إنجازها في الأجل المتوسط، إذن لماذا الإلحاح على البدء بتعديل واسع في سعر الصرف بالذات، وتحرير الواردات في الأجل القصير، بل فورًا، رغم أن أي عاقل يلمح عدم مناسبة التوقيت؛ حتى بين المتفقين على صحة الإجراء من حيث المبدأ؟
إن حديثنا السابق قد يسوغ للبعض أن يتحدث عن التناقض بين مدرسة صندوق النقد ومدرسة البنك الدولي،
أو بين المدرسة النقدية (من النقود) والمدرسة البنيوية ذات النظرة الأشمل لتكامل المتغيرات الاقتصادية، على أساس أن الأخيرة لا تقتصر على البنود التقليدية لبرنامج الاستقرار الذي يلح عليه صندوق النقد.

والبنك الدولي يشهد فعلاً انتعاشًا للاتجاهات البنيوية بعد أن اكتسب اقتصاديوه خبرة "وضع ومتابعة استراتيجيات التنمية في الدول التابعة. ولكن – كما سبق أن ذكرنا (الفصلان 4 و5) – ومن خلال تجربتنا العملية، نؤكد أن المسألة تناقضًا في الأساس، فهو تمايز في إطار التكامل، والتنسيق محكم بين المؤسستين. وقد نشير أيضًا إلى حقيقة أن تقرير البنك الدولي (الذي نقلنا عنه) رغم أنه شبه سرّي ومحدود التوزيع، فإن كاتبيه من الخبراء لا يعلمون – بالدقة- كل قواعد العمل المتفَق عليها، ولا يعتبرون بالتالي بدقّة عمّا يبلغه البنك الدولي للمستويات الأعلى من الدولة في الاجتماعات والوثائق الأكثر سرية. وقد صرح ماكنمارا الرئيس السادات (حين قابله عام 1974) بأن شروط البنك الدولي للبدء في "مساعدة" مصر، هي نفس شروط صندوق النقد، ومن الناحية العملية، كانت الآراء التي نقلناها عن البنك الدولي، تنتهي إلى ضرورة الإسراع في تنفيذ ما يقوله الصندوق.
* إذا قلنا إن الهدف الذي لا يخفيه صندوق النقد هو "إحداث بنيوية للاقتصاد" سنجد أن برنامج الاستقرار الذي صاغه (والمسنود من الولايات المتحدة والبنك الدولي) كان منطقيًا ومحسوبًا بواقعية. فالدعوة (في بداية 1974) للتوسع الفوري الكبير في السوق الموازية وصولاً إلى سعر موحد منخفض للجنيه المصري، كان لا بد أن يؤدي إلى كوارث، دون أي عائد اقتصادي إيجابي في المقابل. وهذا الإجراء مع إخراج الاستيراد من تخطيط الدولة في ظروف اقتصاد منهك. وندرة في النقد الأجنبي، ومعدلات تضخم فالتة في الأسواق الموردة، كان لا بد وأن يؤدي إلى توسع في استيراد سلع غير ضرورية، وبأسعار بالغة الارتفاع، أي يؤدي إلى انهيار في ميزان المدفوعات، وإلى غرق واختناق بالديون الخارجية في آخر عام 1974، رغم أن مشكلة الديون كانت واصلة بالفعل إلى أبعاد تثير انزعاج صندوق النقد الدولي (كما أشرنا) في بداية العام. إلا أن هذه النتيجة التي تبدو بدَهيَّة ومزعجة، كانت بالنسبة للصندوق وحلفائه تبدو بدَهيّة ومطلوبة. والفارق بين "مزعجة" و"مطلوبة" هو الفارق بين هدف وهدف.
إن الإغراق في الديون الخارجية، يبدو متعارضًا مع هذه التنمية المستقلة، وهذا صحيح بالقطع، ولكن إذا كان الهدف إخضاع بلد ما، وإرباك إدارته، فإن إغراقه في وضع المدين المعسر، وسيلة ممتازة ومجدية لتحقيق الهدف.
* على أيَّة حال، كان مشروع القرار المقدم من بعثة الصندوق إلى أعضاء مجلس المديرين التنفيذيين، في يوليو 1974، على ضوء تقرير بعثة الصندوق على:
1. كان نمو الاقتصاد المصري بطيئًا لعدد من السنوات، فالدفاع له عبء ثقيل، والاستهلاك بشكل عام زاد نصيبه من الموارد المتاحة، ونتج عن ذلك مستوى منخفض من الاستثمار، وقد أدت الصعاب المزمنة في النقد الأجنبي إلى قصور في قطع الغيار والمواد الخام، وبالتالي إلى نقص خطير في استخدام القدرة الصناعية، ويعتقد الصندوق أن تهيئة أساس للنمو الاقتصادي من جديد، تتطلب تغييرات بنيوية رئيسَة للاقتصاد، مع اهتمام خاص بتصحيح الأسعار النسبيَّة.
2. وقد اتخذت السلطات المصرية بعض الخطوات لترشيد القطاع الخارجي؛ كجزء من سياسة جديدة للانفتاح الاقتصادي. والصندوق يثني على الخطوات التي اتخذت حتى الآن، ولكنه يعتقد أن هذه السياسة يمكن نجاحها فقط في حالة إرسائها على سياسة أكثر واقعية للنقد الأجنبي. ويوصي الصندوق باتخاذ خطوات وإجراءات أخرى لتوسيع نطاق السوق الموازية، ولتقليل درجة التحكم الإداري في التبادلات الخارجية؛ تطلعًا إلى إنشاء سعر صرف موحد؛ كهدف نهائي عند مستوى واقعي.
3. كان التوسع في الائتمان المصرفي خلال العامين الماضيين كبيرًا على نحو غير ملائم، وضغوط الطلب الناتجة تم احتواؤها فقط بالاعتماد الكثيف على الضوابط. ويعتقد الصندوق أن الحاجة إلى دعم السياسات المالية المحلية لن تكون فقط لاحتواء ضغوط الطلب، ولكن أيضًا لزيادة الموارد المتاحة للتنمية.
4. اعتمدت مصر بشدة على ضوابط النقد الأجنبي والتجارة للحد من الطلب للنقد الأجنبي، ومارست أيضًا التعدد في أسعار الصرف. ورغم هذه الضوابط كان هناك اعتماد متزايد على الديون القصيرة الأجل، والمتوسطة الأجل، التي تؤدي إلى مصاعبَ في المستقبل. ويلاحظ الصندوق أنه على الرغم من بقاء متأخرات كبيرة على المدفوعات الجارية، فإن خفضًا أساسيًّا في هذه المتأخرات قد تحقق خلال العام الماضي. وتهدف السياسة إلى إنهاء المتأخرات في أقرب وقت ممكن. كان هناك أيضًا خفضٌ في درجة اعتماد مصر على اتفاقات الدفع الثنائية، ويوصي الصندوق باتخاذ خطوات أبعدَ في هذا الاتجاه. وفي ظل الظروف الحالية يمنح الصندوق موافقته حتى 31 يوليو 1975 على ممارسات مصر لتعدد أسعار الصرف؛ كنتيجة لترتيبات السوق الموازية. ويعيد النظر في هذه الممارسات أثناء مشاوراته القادمة مع مصر". (التشديد من المؤلف).
* ولا شك أن المقارنة بين قراري 1973، 1974 تكشف أن الأخير كانت صياغاته ومطالباته أصرح، ويعكس ذلك جو المشاورات التي سبقت كلا من القرارين، فالجانب المصري كان أكثر انفتاحًا، وأكثر استعدادًا بالتالي لعرض البيانات وتقبل "النصائح"، وعلى سبيل المثال تضمن قرار 1973 إشارة عامة إلى ضرورة إصلاح نظام النقد، وفي المقابل طالب قرار 1974 بالتوسع الفوري في السوق الموازية أي بالتوسع في ممارسة تعدد أسعار الصرف، وأوضح في نفس الوقت أنه يلح في هذا المطلب على مضض، ولمدة عام واحد؛ تطلعًا إلى توحيد سعر الصرف (طبعًا حول ما دون سعر السوق الموازية – أي: خفض السعر الرسمي للجنيه). ولكن ظلت توصيات الصندوق تعكس مع ذلك حقيقة أنه لا زال يواجه مقاومة على الجانب المصري.
ويلاحظ أن الصندوق استخدم – لتسويق توصياته – أساليب الغواية. فمشاكل التنمية هي في الأساس (كما يزعم) نقص في الموارد، وخاصة من النقد الأجنبي، وهذه يمكن أن تتوفر بشرط أن تقبل السلطات إجراء التغييرات البنيوية التي يطلبها الصندوق، وعلى رأسها "تصحيح" الأسعار المحلية (من خلال خفض سعر الصرف وإلغاء تدخلات التخطيط المركزي في تحديد الأسعار، أو ما يسمى بإلغاء الدعم في صوره المختلفة).
أيضًا يشير القرار إلى الفشل النسبي للتدخلات الحكومية المباشرة في التجارة الخارجية، وفشل تعدد أسعار الصرف، في منع تفاقم الديون الخارجية، وتراكم المتأخرات، وكان تقرير البعثة عن مشاوراتها في القاهرة، قد سجل أن الأمر يتطلب معونات خارجية كثيفة وعاجلة. "إن الموارد الخارجية لا تقتصر الحاجة إليها من أجل تحرير ملموس للواردات، فهي تساعد أيضًا على التخلص من المتأخرات الحالية على المدفوعات الجارية، وتقلل من الاعتماد على القروض القصيرة الأجل والمتوسطة الأجل التي تقترب من مستويات خطيرة". وكان طبيعيًّا أن يلوح الصندوق بعد ذلك إلى دوره وإمكانياته في هذا الاتجاه، إذا نفذت الحكومة شروطه، فمن "المتوقع منطقيًّا زيادة المعونات الخارجية والداخلية زيادة محسوسة، إذا صيغ برنامج مناسب للإجراءات الخارجية والداخلية".
إن عديدًا من المسئولين في الدولة وفي القطاع الاقتصادي كانوا – بحكم الانتماء المدرسي أو المصلحة – مع الاتجاه العام لبرنامج الصندوق. والوعد بالمعونات لم يكن – كما نعلم – في حدود الوعود التقليدية الموجهة للدول "النامية"، والمنظر المتوقع لبلايين الدولارات المنهمرة كان يدير الرءوس. ولكن حدث رغم كل ذلك اعتراض على تنفيذ البرنامج – وسط الظروف السائدة – بالطفرة التي يطلبها الصندوق. رفضت الحكومة التوجه السريع إلى خفض سعر الصرف (من خلال التوسع الكبير في السوق الموازية)، ورفضت خفض تدخلها في ضبط الأسعار. لقد أعلن الصندوق أن تدفق المعونات (بما في ذلك المعونات الخليجية) مشروط بتنفيذ البرنامج، وأكد البنك الدولي بالفعل أن قروضه مقيدة باستجابة الحكومة لتوصيات الصندوق، وأعلنت الحكومة الأمريكية نفس الموقف، فيما يتعلق بقروضها الميسرة من خلال وكالة التنمية، بل جعلت الالتزام "بتوصيات" الصندوق ضمن شروط تحركها النشط على ساحة المواجهة المصرية – الإسرائيلية. ومع ذلك أصرت الحكومة على الاعتراض. وقد يفسر هذا الموقف بأن الانهيار المؤكد (نتيجة للبرنامج) كان مسألة واضحة تمامًا، ويتعذر على أي مسئول اتخاذ قرار صريح بإحداثه. ومن ناحية أخرى نتصور أن القيادة المصرية قدرت أن الإمكانيات والاحتمالات التي فجرتها حرب أكتوبر تمكنها من دفع الولايات المتحدة للتحرك نحو التسوية، وجذب المساعدات المطلوبة، رغم تمردها على توصيات الصندوق، خاصة إذا كانت الأنظار موجهة إلى الدول العربية النفطية كمصدر أساسي لهذه المساعدات. إلا أن معارضة الحكومة لتنفيذ البرنامج كانت تحديًا يستدعي استخدام كل الإمكانيات المضادة الإجهاضية. فإحداث الانهيار هدف تكتيكي هام، يضع أصحاب "المساعدات" المنفذة في مركز القوة وإملاء الشروط، ويمكنهم بالتالي من إعادة تشكيل البنية الاقتصادية حسب المواصفات التي تلائمهم. وفشل صندوق النقد – بصفته طليعة اقتحام – في تحقيق المهمة تحقيقًا كاملاً، بضربة خاطفة ومباشرة، كان يتطلب تدخُّّل الجهات الأخرى.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس