عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:11 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(5) انهيار ميزان المدفوعات:
أ- "القطاع الخارجي – بمنظور سياسة الانفتاح – يقدم الموقع الأفضل لبداية عملية الترشيد (أي: عملية الإخضاع – ع. ح). وهذه العملية ينبغي أن تستند إلى أساس من سياسة ملائمة للنقد الأجنبي". هكذا أفصح صندوق النقد عن خطة العمل. ورغم أهمية هذا الكلام – كاعتراف – فإن كافة المفاهيم العامة كانت توصلنا طبعًا إلى هذا التحديد لاتجاه الهجوم. والنتيجة المُفجعة لعملية "الترشيد" في القطاع الخارجي أسفرت عن قفزة غير مسبوقة في عجز الميزان التجاري في آخر 1974 (أول أعوام الانفتاح الاقتصادي) إلى 1798.1 مليون دولار (وكان 662.3 مليون دولار عام 1973).. وحدث هذا الانهيار، رغم أن الصادرات السلعية في ذلك العام زادت إلى 1671.1 مليون دولار (مقابل 1004.3 مليون عام 1973) ولكن التدافع على الاستيراد من الغرب (دون زيادة مناسبة في التصدير) أوقعتنا في هذا العجز الرهيب. لقد ارتفع نصيب "مناطق العملات الحرة" من الصادرات المصرية عام 1974 إلى 36% فقط (مقابل 35% في العام السابق). وكان مفروضًا أن تكون هذه الزيادة الطفيفة من محددات تمدد الاستيراد من الغرب، ولكن حدث أن ارتفع نصيب الواردات من "مناطق العملات الحرة" إلى 71% من إجمالي الواردات (مقابل 60% في العام السابق). وأوقع من النسب هنا، أن نقول إن الواردات من الأسواق الغربية ارتفعت من حوالي 1000 مليون دولار إلى 2463 مليون عام 1974.
والمثير للدهشة أن هذا الاتجاه تحقق، رغم غياب تسهيلات ائتمانية بشروط معقولة، وليس فقط في ظل زيادة طفيفة في صادرات مصر إلى الغرب، وسجلت وزارة التخطيط هذه الملاحظة، فكتبت أن "ثمة ظاهرة مُلفتة للنظر، وهي عزوف الوزارات عن استخدام القروض والتسهيلات التي تقدمها الدول الاشتراكية، حتى هبطت نسبتها من المكون الأجنبي للاستثمار إلى إعادة التفاوض بشأن القروض المخصصة لمشروعات عدلنا عنها، أو تأجل تنفيذها لاستخدامها في مشروعات الخطة المقترحة"، وقد أضاف تقرير الوزارة أن هذا الاتجاه لا يتفق مع المفهوم الصحيح لسياسة الانفتاح، فالمفهوم الأساسي "أنها انفتاح على العالم كله شرقه وغربه، فمصر الحريصة على استقلالها الاقتصادي، وموقفها المبدئي كدولة رائدة في عدم الانحياز، ترى في تنوع علاقاتها الاقتصادية، تأكيدًا لعدم انحيازها وتأمينًا لاستقلالها"(66)، ولكن واضح أن هذا المفهوم كان في ذهن وزارة التخطيط وحدها، والدلالة الأساسية لكلامها السابق أن المسألة أصبحت خارجة تمامًا عن أي سيطرة مركزية؛ بحيث أصبح دور أجهزة التخطيط في موضوع خطير كهذا يقتصر على النقد وتوجيه النصح، "وإذا كانت أجهزة التخطيط غير قادرة على حسم مثل هذه الأمور الاستراتيجية، والتي لا تقرر وفق معايير فنية فقط، ولكن وفْق معايير سياسية واقتصادية وفنية معًا، إذا كان التخطيط قد فقد سيطرته، حتى في هذا المجال من تعاملنا مع الخارج... إذن ماذا بقي للحديث عن (الخطة) (67).
ب- تفسير البنك الدولي للانهيار: المهم، ترتب على هذا الاختلال الشديد، الغرقُ في الديون الصعبة. وأحمد
أبو إسماعيل محق في أن "المديونية التي تحققت عام 1974 لم تحدث من قبلُ في تاريخ البلاد. فهذه أول مرة في تاريخ مصر الاقتصادي، يتحقق فيها هذا القدر من القروض قصيرة الأجل في عام واحد" (68). وهو محقٌ أيضًا حين يضيف أننا "منذ ذلك التاريخ، ونحن ما زلنا في هذه المشكلة"(69)، ولكن من العبث أن يحاول أبو إسماعيل أن يتنصل بعد ذلك من مسئوليته حين تولى وزارة المالية، فهذا الاتجاه الخطر
لم يقتصر على عام 1974، ويحسن أن ننقل هنا تقييم البنك الدولي لهذا الموضوع:

"عام 1973 يكسر استمرارية نمط السلوك لميزان المدفوعات. قبل 1973 كانت مصر تعاني بطريقة مزمنة من عجز ميزان المدفوعات، إلا أن العجز للميزان لم يتجاوز أبدًا 6 أو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الحد الأعلى تحقق فقط في أحوال استثنائية. وبعد 1973 تحرك العجز (معبرًا عنه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) في إطار 15 – 20 في المائة بدلاً من صفر – 7 في المائة. حدث انقطاع هنا. تغير واضح من نمط إلى آخر. الفارق في حجم ونسبة العجز في ميزان المدفوعات قبل وبعد (1973) ليس فارقًا في الدرجة، وإنما في النوع. التغير كبير جدًا في مستوى الجسامة والعواقب الاقتصادية لهذه التغيرات بالغة الدلالة" (التشديد للمؤلف).
ويستطرد تقرير البنك بعد ذلك إلى محاولة تعليل هذا الانكسار الخطير في المسار، فقد "كان هناك تحرك معاكس في الشروط الخارجية للتجارة بعد 1973 راجع إلى حد كبير من زيادة سعر القمح المستورد أربعة أضعاف، ولم تقابلها زيادات مقارنة في سعر صادرات القطن، وفي عامي 1974 و1975 ارتفعت أسعار مكونات الواردات والصادرات بدرجات غير متساوية، ولكن بشكل واضح، كان الرقم القياسي العام لأسعار الصادرات 1969/ 1970 = 100، و1974 = 213، و1975 = 215 – والرقم القياسي لأسعار الواردات لعامي 1974 و1975 = 239، أي أن الأسعار النسبية تحركت ضد الصادرات المصرية بـ 12 في المائة بين 1973 و1974، ولكن المؤشر الأكثر دلالة هو حركة نسبة أسعار صادرات القطن/ الواردات الزراعية التي انخفضت بحوالي 35 في المائة بين 1973 و1974، ومع ذلك، فإن الحركة المعاكسة في شروط التجارة ليست التفسير الوحيد، وقد لا تكون التفسير الأهم للتدهور الشديد جدًا في ميزان المدفوعات، فقد شهدت أحجام الواردات والصادرات تحركات في الاتجاه الخاطئ، أي بأسلوب ضار إلى أقصى حد من وجهة نظر ميزان المدفوعات، فللوهلة الأولى قد يتوقع الإنسان أن تؤدي زيادات أسعار الواردات إلى خفض في حجم الواردات، وزيادات أسعار الصادرات إلى توسع حقيقي في الصادرات. ولكن أحجام الواردات زادت بعد 1973، وانخفضت الصادرات. كان وقع التوسع في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار) ملحوظًا.. إن "مفعول الدخل" الذي عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر" كان - بوضوح - القوة السائدة، ويبدو أن الزيادة في الطلب المحلي قد نشطت الواردات، وحرفت الصادرات عن الأسواق الخارجية إلى الداخل"(70) (التشديد للمؤلف).
هذا العرض للبنك الدولي، يحتوي على قسم وصفي صحيح للانكسار الحاد والخطير في نمط السلوك لميزان المدفوعات. ولكن حين انتقل إلى التحليل والتفسير، ترك كثيرًا من الأسئلة مفتوحة، والإجابة التي قدَّمها كانت خاطئة أو غير مقنعة. فقد لاحظ مثلاً أن حركة الأسعار في تجارتنا الخارجية لم تؤدِّ إلى النتائج التي تتوقعها أو تبشر بها الهيئات الدولية، ولكنه "نسي" أن يسجل أن الأسعار (وبالتالي خفض سعر الصرف) لا تؤدي هذا الدور الحاسم الذين ينسبونه إليها لتحسين ميزان المدفوعات. فخفض سعر الصرف يؤدي – كما يقولون – إلى رفع سعر الواردات، فينخفض تلقائيًا الميل للاستيراد. ولكن حدث عام 1974 أن ارتفعت أسعار الواردات إلى أعلى؛ مما كان يمكن أن يتوقع في حالة خفض سعر الصرف (في ظروف عادية)، وكانت النتيجة زيادة حجم الواردات. وعني ذلك أن الأخذ بتوصيات الصندوق والبنك الدولي (بتخفيض سعر الصرف في عام 1974)
لم يكن يؤدي وحده إلى الإقلال من الواردات، ولكنه كان يؤدي بالقطع إلى الهبوط بحصيلة الصادرات (لانخفاض أسعار التصدير؛ نتيجة خفض سعر الصرف – أي: لمزيد من التدهور في شروط التبادل – مع وضوح العجز عن زيادة الكميات المصدرة؛ لتعويض انخفاض الأسعار).

والنتيجة الحتمية: مزيد من انهيار ميزان المدفوعات. ومفهوم طبعًا أننا لا نقصد إلى نفي أي أثر للأسعار على حركة الصادرات والواردات، ولكننا ننفي أن يكون للأسعار هذا الدور الحاسم، في إطار من تحرير التجارة من الضوابط المركزية، كما قالت وألحت التوصيات الدولية في عام 1974.
ج- المدخل الأول لتفسيرنا: لقد اعترف تقرير البنك الدولي بأن "الحركة المعاكسة في شروط التجارة، قد لا تكون التفسير الأهم للتدهور؛ ولذا أضاف التقرير أن "مفعول الدخل" عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر"، وكان القوة السائدة، فحدث التوسع الكبير في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار). وهذا التفسير خاطئ تمامًا – في تقديرنا – إلا أن الإجابة الصحيحة، تتطلب الغوص في نوع من التحليل، لم يكن متوقعًا أن يَلِجَهُ البنك الدولي في تقرير كهذا. فالإجابة الصحيحة، تبدأ بالفرض العام الذي نقيم عليه دراستنا، وهو أننا بصدد محاولة لإخضاع مصر، ولإعادة تشكيل أوضاعها - السياسية والعسكرية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية - على نحو يضمن استمرارها في التبعية. وهذه المحاولة تتطلب تخطيطًا مُحكمًا، فكل حرب (ساخنة أو باردة) تفترض، وجود خطة وهيئة أركان وإدارة عمليات. كل حرب تستخدم القوة بأشكالها المختلفة، وتستخدم الخداع والمراحل وتقسيم الأدوار، ولا بد أيضًا من ركوب المخاطرة المحسوبة، ودفع التكلفة المطلوبة لتحقيق الهدف.
* إذا تذكرنا هذا ونحن بصدد القطاع الخارجي، وما أصابه من انهيار، فإن من واجبنا أن نذكر أيضًا أن مخاطر خسائر التعامل مع العالم الخارجي من موقع ضعف، أوصلتنا في الستينيات إلى ضرورة التأميم الكامل للاستيراد، وتأميم القسم الأكبر من تجارة الصادرات، كان التأميم أداة ترشيد حقيقية، وأداة للاستقلال الاقتصادي، رغم كل النواقض التي أصابت التنظيم والممارسة(71). وقسم من هذه النواقض كان بسبب انخفاض مفهوم ومُبرَّر في مستوى الخبرة والكفاءة الفنيَّة والتنظيمية. ولكن قسمًا آخر (أعتقد أنه أهم) كان بسبب الإفساد والتخريب المنظم، والتوسع في هذا القسم الأخير هو "محاولات" "ترشيد" القطاع الخارجي (بمفهوم الصندوق ومن معه) والتي لم تتوقف برغم التأميم. فالتجارة الخارجية ليست مجرد تبادل في التصدير والاستيراد. ولكنها اقتتال في نطاق استراتيجيتين متصارعتين؛ استراتيجية تهدف إلى تأكيد الاستقلال، واستراتيجية مضادة تهدف إلى فرض التبعية، وقطاع التجارة الخارجية المؤمم (وخاصة على جانب الاستيراد) كان في خط المواجهة الأساسي، وعلى احتكاك يومي "بأعداء الاستقلال الاقتصادي". وكما في كل قتالٍ لا بد من خسائر إلى جانب الانتصارات، ولا يقتصر مفهوم الخسائر في قطاع الاستيراد الوطني على مجرد عقد بعض الصفقات بشروط غير مناسبة، فأخطر من ذلك عمليات الاختراق، وشراء بعض "الناس المُهمين"، وهذه مسألة متوقعة باستمرار في هذا القطاع بالذات، إذا أخذنا في الاعتبار إمكانيات الخصوم الهائلة؛ ولذا يتطلب الحفاظ على دور القطاع بالذات، إذا أخذنا في الاعتبار إمكانيات الخصوم الهائلة؛ ولذا يتطلب الحفاظ على دور قطاع الاستيراد في تدعيم الاستقلال أن يخضع القطاع لعمليات متابعة دقيقة من هذا المنطلق(72)، إلى جانب عمليات التطوير الفني والإداري.
ولكن إعلان الانفتاح، كان يعني على أيَّة حال، انتقال الدول العربية واحتكاراتها من مرحلة حرب العصابات،
أو حرب الاستنزاف، إلى مرحلة الاقتحام والهجوم الشامل.
وفشل الصندوق في توجيه ضربته المباشرة من خلال "سياسة ملائمة للنقد الأجنبي" لم يكن يعني أن عمليته
لم تنجح في فتح بعض الثغرات الهامة التي استثمرتها القوى المعاونة في تحقيق النتيجة المستهدفة من خفض سعر الصرف.

* فقد صدر قرار وزير المالية (64 لسنة 1974) لتطوير السوق الموازية (أُنشئِت في سبتمبر 1973؛ لتمارس من خلالها أنواع محددة من المبادلات بسعر مخفض للجنيه. الجنيه = 1.7 دولارًا). والسوق لم تكن مجرد ممارسة لتعدد أسعار الصرف، فهذا مطلوب ولا غبار عليه إذا كان الهدف إنشاء نظام نقدي فرعي مستقر ومكمل للنظام الأصلي، يزيد حصيلة الدولة من النقد الأجنبي (وخاصة مدخرات العاملين في الخارج) من خلال حوافز مناسبة ومرنة في سعر التحويل، بشرط أن يخضع التصرف في هذه الحصيلة لأولويات الميزانية النقدية. ولكن هذا الهدف لم يكن في نية صندوق النقد الذي بارك إنشاء السوق الموازية، ولم يكن أيضًا في نية السلطات المصرية عام 1974، وبالتالي كان تطوير السوق – في ذلك العام – لتوسيع نطاقها بشكل عام، وكمنفذ للقطاع الخاص إلى مجال الاستيراد، ودعم هذا ما أسمي بالاستيراد دون تحويل عملة(73). وتأكَّد كل ذلك بقرار رئيس الجمهورية بالقانون 137 لسنة 1974.
إلا أن التوسُّع في موارد وعمليات السوق الموازية، ظل محدودًا خلال 1974، وكان التوسُّع الحقيقي في النشاط الاستيرادي للقطاع الخاص عن طريق الاستيراد دون تحويل عملة (وهذه تسمية مضللة طبعًا، والأفضل أن نطلق عليه نظام الاستيراد الممول ذاتيًّا) وهذا النظام يسمح للمصريين الحائزين على نقد أجنبي في الخارج؛ باستخدام أرصدتهم في استيراد سلع (صدرت قائمة – في ذلك العام – بهذه السلع تضم 300 سلعة)، وكان متوقعًا مع التوسُّع في هذا النظام أن يصل حجم الواردات عن طريقه، وعن طريق السوق الموازية إلى 15% من إجمالي الواردات عام 1975.
ونظام الاستيراد الممول ذاتيًّا كان مثار نزاع لم يتوقف بين السلطات المحلية، والهيئات الدولية؛ فبعثة صندوق النقد الدولي تسجل في تقريرها أن الجانب المصري طلب رأي البعثة في مشروعه للتوسع في الاستيراد الممول ذاتيًّا، وكان رأي الصندوق أن التوسع في هذا النظام، سيكون على حساب السوق الموازية (وهذا صحيح؛ لأنه عبارة عن سوق سوداء للنقد الأجنبي، وأصحاب المُدخرات يفضلون التعامل مع هذه السوق؛ لأنها تعرض سعرًا أعلى لأرصدتهم) ومن ناحية أخرى، فإن المستوردين يفضلون أيضًا القيام بعملياتهم خلال هذا النظام؛ لأنه يتيح مرونة أوسع؛ فمجال المسموح به في نظام الاستيراد الممول ذاتيًا، أوسع من المجال الذي تتيحه السوق الموازية، وكان تقدير الصندوق أنه في حالة تعويم سعر الصرف في السوق الموازية، سيزداد سعر الجنيه المصري انخفاضًا، إذا كان نظام الاستيراد الممول ذاتيًا قائمًا ومتزايدًا(74). ولم يسجل التقرير رد الجانب المصري على هذه الحجج، ولكننا يمكن أن نتصور أن الموقف كان كالتالي: موقف صندوق النقد كان متسقًا مع أهداف فرض خفض كبير للسعر الرسمي للجنيه المصري، وتخليص التجارة الخارجية من السيطرة المركزية، وزيادة نصيب القطاع الخاص فيها، والتوسع في السوق الموازية، هو توسيع لدائرة التعامل المعلن بسعر مخفّض، وبالتالي خلق أمر واقع يسهل الانتقال الشامل إلى سعر الصرف الموحد المنخفض، وقد عبرت بعثة الصندوق عن هذا الرأي بصراحة، فقالت: إن اتجاهها هو "التوسع في السوق الموازية؛ حتى نتوصل إلى سعر واحد للصرف"، والأهداف الأخرى: القضاء على التحكم المركزي وزيادة نصيب القطاع الخاص، ينبغي أن تتحقق من خلال لهذا التوسع في السوق الموازية، والصندوق محق إذا رأى أن الاستيراد الممول ذاتيًا، يحقق مشاركة القطاع الخاص بشكل مشوه، وبطريقة لا تتسق مع باقي أهدافه، وهو يعوق استخدام السوق الموازية كأداة انتقالية.
ولا مانع من التذكير هنا بأن حكاية الاستيراد الممول ذاتيًا بدأت قبل 1967 كأمر واقع (فيما عرف أيامها ببضائع غزة)، وبعد العدوان تلقى هذا النظام اعترافًا قانونيًا محدودًا(75). ومع الإعلان الواسع عن الانفتاح الاقتصادي، قفزت عمليات الاستيراد - دون تحويل عملة - قفزةً هائلة ومتوقعة، فالجو السياسي العام فرض المشروعية القانونية لهذا السوق، ومع تكاثر الدخول الطفيلية وتراكمها، اتسع حجم الطلب على السلع الكمالية المستوردة. وكان تقدير صندوق النقد محقًا في أن منظمي هذه السوق يفضلون العمل من خلالها على العمل من خلال السوق الموازية. وكانت السلطات تدرك أيضًا هذه الحقيقة، وكانت تدرك أن انتعاش هذه السوق لا بد وأن يكون على حساب موارد واستخدامات السوق الموازية، ولكنها مضت مع ذلك في حفز الاستيراد دون تحويل عملة بدافعين متعارضين: دافع الاستسلام أمام فئة المستوردين الشرهة والمؤثرة بقوة على القرارات، ودافع آخر (قد يبدو غريبًا) هو أن بعض العناصر الوطنية قدرت أن التوسع من خلال هذا السوق (وليس من خلال السوق الموازية) قد يكون مقبولاً تكتيكيًا؛ حيث ظل هذا النظام يتيح للمسئولين ممارسة النفاق السياسي، فيسمحون من جهة لأصحاب الدخول العالمية بكل أنماط الاستهلاك السفيهة، ولمنظمي العملية بتحقيق أرباح خرافية، وفي نفس الوقت يواجهون الشعب بتصريحات حادة ضد من انحرفوا بأهداف الاستيراد دون تحويل عملة إلى استيراد الكماليات(76). ويضاف إلى ذلك أن إلهاء القطاع الخاص المستورد في عمليات الاستيراد الممول ذاتيًّا، خير من احتوائه داخل السوق الموازية، فتظل هذه تحت هيمنة القطاع العام، ويظل القطاع الخاص كمًا ونوعًا على هامش قطاع الاستيراد، وأيضًا فإن الاستيراد الممول ذاتيًا يظل سوقًا سوداء للنقد، وانحصار نطاق السوق الموازية، يعني تضييقًا لدائرة التعامل القانوني بالسعر المنخفض للجنيه، ويحدّ بالتالي من إمكانية استخدام السوق الموازية كمَعْبر للسعر الموحَّد المخفض، ويدعم هذا الموقف التفاوضي مع صندوق النقد. وبمعنى آخر، فإن العناصر صاحبة هذا التقدير أرادت أن تستخدم قاصدة ولحسابها، ما اعتبره الصندوق نظامًا معيقًا لأهدافه(77).
إلا أن هذا التقدير كان – في أحسن الفروض – من المحاولات المبعثرة للمقاومة، ولم يكن ممكنًا أن يصمد طويلاً، فنظام الاستيراد الممول ذاتيًا تبديد سفيه للموارد، ويصعب الدفاع عنه في أي مناقشة جادة، ومواصلة الدفاع عنه أعطت صندوق النقد فرصة أن يبدو في وضع المطالب فعلاً بالترشيد في مواجهة إدارة تحمي نظامًا فاسدًا. إن المحافظة على استقلال الدولة في وضع سياستها النقدية
لا يتحقق بهذه التكتيكات "الخائبة"، وإنما بنضال شاقٍ ومجموعة من السياسات الاقتصادية المستقلة التي تعتمد على التأييد الواعي من القوى الوطنية، وليس على تأييد السماسرة والمهربين، إن تأييد السماسرة والمهربين أبقى قرحة الاستيراد بالتمويل الذاتي، رغم اعتراض صندوق النقد ومن معه، ولكن السماسرة والمهربين فتحوا في المقابل الأبواب الأخرى للصندوق كي يرتع ويأمر.. وطوبى لمن يضحك أخيرًا!

* إن التراجعات التي تحققت في إطار التوسع في السوق الموازية، والاستيراد بالتمويل الذاتي، ظلت تمثل تعديلاً محدود الأثر في النظم الحاكمة للتجارة الخارجية. ولم يكن سهلاً في نفس الوقت إنهاء المؤسسة المصرية العامة للتجارة الخارجية التي يتم التعامل الخارجي الأساسي عبر شركاتها. الإنهاء الرسمي والقانوني لتأميم التجارة الخارجية وللاستيراد بشكل خاص كان متعذرًا في ذلك الوقت؛ ولذا كان لا بد من الالتفاف بهدف إفراغ هذه السيطرة الحكومية من مضمونها الحقيقي. وقد تمَّ ذلك بموافقة مجلس الوزراء في سبتمبر 1974 بإعادة تشكيل لجان البت؛ بحيث تصبح تحت إشراف الوزراء المختصين؛ طبقًا للتخصص السلعي، وصدر قرار وزير التجارة رقم 338 لسنة 1974 بإعادة تشكيل هذه اللجان (42 لجنة) ولتحديد اختصاصاتها، وكان الهدف المعلن لهذا التنظيم الجديد هو تحقيق اللامركزية، وسرعة البت في احتياجات القطاعات، وكان هذا الهدف يستجيب تمامًا للمطالبة التي ألحت عليها بعثة الصندوق في مشاوراتها.
* وإلى جانب هذا الإجراء، صدر قانون 93 لسنة 1974 الذي رخص للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين من المصريين، ممارسة حق تمثيل الشركات الأجنبية في مصر. هذا القانون كان تراجعًا خطيرًا عن القانون 107 لسنة 1961 الذي قصر أعمال الوكالة التجارية على القطاع العام. وعودة القطاع الخاص إلى مجال التوكيلات تحقق تحت ضغط صندوق النقد ومطالبات الاحتكارات الأجنبية، وتدافع عملائها المصريين الذين يعلمون الأرباح الخرافية السهلة، الناشئة عن هذا المجال. كان القرار الجمهوري يشترط ألا يكون الوكيل من بين العاملين في الحكومة والهيئات العامة، والمؤسسات العامة، وشركات القطاع العام، ما لم يكن قد مضى على تركه العمل بها سنتان على الأقل واشترط القرار أيضًا ألا يكون عضوًا في مجلس الشعب أو المتفرغين سياسيًّا طوال عضويتهم. وذلك ما لم يكن عاملاً في هذا قبل عضويته. أيضًا ألا يكون الوكيل من الأقارب من الدرجة الأولى لأحد العاملين بالحكومة والهيئات العامة ومؤسسات وشركات القطاع العام، من الفئة العالية ومَن في مستواهم.
والحقيقة أن أهمية كل هذه الشروط (التي حرصنا على إثباتها) تكمن في أنها تفضح وعي من أصدروا القرار بأنهم يفتحون بابًا خطرًا، تتسلل عن طريقه الشركات العابرة للجنسية لخلق فئة عميلة. وتفضح الوعي بخطورة أن تكون هذه الفئة قريبة أو مندمجة مع مراكز إصدار القرارات السياسية. ولكن تحقق طبعًا ما كان محتمًا أن يحدث، فالشركات كانت حريصة على التعاون بالذات مع النوعيات التي حاول القرار أن يستبعدها. وتحقق ذلك بالفعل عبر كافة أشكال التحايل. وسجل هذه الظاهرة تقرير رسمي (بعد العام الأول من الانفتاح) فقال إنه "واكبت سياسةَ الانفتاح الاقتصادي ظاهرتان خطيرتان عليه؛ هما ارتفاع الأسعار، وانتشار العمولات والسمسرة".... والسمسرة أو العمولة
لا ينبغي أن "تدفع لذوي المناصب الرسمية أو المتصلة بهم، وينبغي ألا تدفع السمسرة في صفقات عادية أو بشروط مجحفة"(78).

وقد فاحت رائحة التدخل من كبار المسئولين في الأعمال والصفقات؛ بحيث اضطر الرئيس السادات إلى المطالبة بسرعة تطبيق قانون الكسب غير المشروع "لتحديد القلة المنحرفة، وبهذا ندعم الثقة في اقتصادنا، ونرفع عن القيادات عُقَد الخوف من اتخاذ القرارات؛ خشية الاتهام بالانحراف"(79). ولكن نبه تقرير آخر إلى "أن على جهات الرقابة أن تنشط في تعقب الدخول الحرام، وفي الفئات العليا من أصحاب الدخول في المجتمع، وعليها أن تقترب من مواطن الشك عن صفقات الملايين وتعاقدات الخارج التي
لا يمكن أن يظهر أثر الانحراف فيها في إقرار يقدمه صاحب الشأن"(80) (طبقًا لقانون الكسب غير المشروع).

وحاول محمود القاضي (عضو مجلس الشعب آنذاك) أن يكشف أبعاد هذا التطور الخطير. فتقدم بسؤال إلى الحكومة يقول إن "هناك مكاتب استشارات، ولكن تلك المكاتب
لا علاقة لها بالاستشارات، وإنما هو تنظيم لعمليات الوكالة، ولا أعرف ما هو الذكاء والنبوغ الذي ظهر فجأة على بعض صغار السن من العباقرة والأصهار. إنني أطالب الحكومة أن تقدم إلى المجلس بيانًا بأسماء أصحاب هذه المكاتب الذين ظهرت عبقريتهم مبكرة في مكاتب التوكيلات أو الاستشارات، وأن يتضمن البيان المذكور عدد وحجم العمليات التي قام بها هؤلاء الأشخاص وشركاتهم الجديدة منذ 1967 حتى اليوم؛ وذلك حتى نكون على بينة من الأمر، وحتى نقطع الألسنة التي قد تتطاول على أُناس شرفاء، ويجب أن يتضمن البيان أيضًا حجم العمليات التي قامت بها هذه المكاتب مع الحكومة أو القطاع العام" (81).

وجه هذا السؤال إلى الحكومة في بداية مناقشة مشروع الخطة والموازنة العامة، ولكن رئيس مجلس الوزراء، والوزراء تجاهلوا الأمر تمامًا، وقد عاد محمود القاضي إلى آثار الموضوع، وألح في إحراج الحكومة، وفي المطالبة ببيان الوكلاء من أقارب المسئولين، ولكن الفصل التشريعي الأول، انفضَّ قبل أن يتلقى صاحب السؤال إجابته(82)،
ولا زالت قائمة الوكلاء – حتى لحظة كتابة هذا الكلام – من الأسرار العليا للدولة. وقد توصلت دراسة علمية أخيرة إلى أن عدد أصحاب التوكيلات كان حوالي 700 (في أواخر 1977). وهم فريقان: فريق العملاء القديم. وفريق العملاء الجديد. الفريق الأول من أصحاب مكاتب التوكيلات المؤَمَّمة عام 1961، وكانت بعض عناصره قد نقلت أعمالها خارج مصر، ثم عادت بعد الانفتاح، وكان البعض الآخر بمثابة غواصات داخل القطاع العام، برزت إلى السطح وعادت إلى نشاطها الصريح منذ أواخر 1973، وحتى قبل قانون وقرار 1974 – أما فريق العملاء الجديد (وهو الأكثر عددًا) فكان من الوافدين إلى صفوف الوكلاء والوسطاء والسماسرة والمستشارين، معتمدين على نفوذهم السياسي وصلاتهم بالجهاز التنفيذي (83).

وقد تضخمت هذه الفئة سريعًا، وأصبح دورها المؤثر معروفًا رغمه كل حيل التغطية القانونية، وأصبح ذائعًا ومنشورًا في عام 1976 أن سوق الأعمال غاص بكبار المسئولين السابقين (اثنان من رؤساء الوزراء السابقين – 22 وزيرًا سابقًا – عشرات من رؤساء شركات القطاع العام السابقين – ووكلاء الوزارات والمحافظين – حسبما نشر) وأن معظم الصفقات الكبرى تتم الآن عن طريق هؤلاء المستوردين، كما أنهم حصلوا على أكبر التوكيلات التجارية(84). وقد قيل أكثر من هذا الكلام رسميًا، وفي مواجهة الحكومة، حين أعلن عضو مجلس الشعب (عباس المصري) أن "هناك عشر أو خمس أُسَر على الأكثر من هذه الطبقة توجد في أوروبا وفي أمريكا. ولا نستطيع أن نعقد صفقة واحدة في الخارج إلا إذا وقع عليها نفر من هؤلاء، وهم بعيدون كل البعد عن أن يتأثروا بما نقوله هنا، أو ما نفرضه من ضرائب ومن.. إلخ؛ لأنهم في الخارج.
إن أي مشروع نريد له تمويلاً خارجيًّا – وهذا أمر تعرفه كل الشركات – يقال للذي يذهب إلى الخارج أن هذا المشروع يجب الاتصال في شأنه بفلان أو فلان بالاسم حتى تتم الصفقة" وقد صاحت بعض الأصوات يومها تطلب إعلان الأسماء، فرد عباس المصري: "أعرف هذه الأسماء جيدًا، وبعض الزملاء يعرفونها... وبعض هذه الأسماء تنتسب إلى رجال عظماء يتكلمون كثيرًا عن النظام الاشتراكي، وبعض هذه الأسماء تنتسب إلى رجال عظماء يتكلمون كثيرًا عن النظام الاشتراكي، وبعض هذه الأسماء لها نسب جديد في مصر" (85). هذا الكلام حين يقال في أية دولة، يقفز ممثلو الحكومة للتصدي، ولكن الحكومة عندنا آثرت أن تصمت تمامًا، فلم تبادر إلى نفي الاتهام، ولم تطلب من العضو إعلان الأسماء!
ولم نذهب بعيدًا؟ لقد أصبح معروفًا ومنشورًا أن عددًا من المسئولين نسقوا أعمالهم في الخارج على هيئة شركة قابضة للتجارة الدولية، مقرها لوكسمبورج، اسمها شركة "مالتي تريد" (يناير 1974). وقامت هذه بإنشاء شركة مساهمة فرنسية مقرها الدائم في باريس، وهذه الشركة وراء غالبية صفقات استيراد السلع الاستهلاكية؛ بمعنى أنها تحصل على عمولات غير مبررة عن هذه الصفقات، بل "يقال إن هذه الشركة تحصل على عمولات عن صفقات غريبة ومعقدة؛ مثل صفقة استيراد مصر لسكر من الصين الشعبية، عن طريق تاجر يمني. فقد حصلت الشركة المذكورة على 10 في المائة من تلك الصفقة عمولة لها" (86).
أي أنها لا تعتق شيئًا.. وعلم أنها قامت خلال عامي 1975، 1976 بعمليات بلغت 655 مليون دولار، منها 20 مليون دولار قيمة صادرات مصرية لأوروبا، ويتضمن هذا أنها قامت بتوريد 36% من احتياجات مصر من القمح، وحوالي 70% من السكر، كما حصلت على تسهيلات حكومية فرنسية بقيمة 200 ألف طنًا من الدقيق لمصر، وأيضًا قامت بتوريد جانب من احتياجات الصناعة من الآلات وحديد التسليح والخردة والفحم.. وقد سجلت تقارير للرقابة الإدارية مخالفات وانحرافات متعددة، في الصفقات المنفذة من خلال هذه الشركة (87). وللعلم، كان أول رئيس لهذه الشركة عبد المنعم القيسوني (الذي أصبح فيما بعدُ رئيسًا للمجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء)، وخلفه حامد السايح (الذي أصبح وزيرًا للاقتصاد) ثم مصطفى خليل (الذي أصبح رئيسًا لمجلس الوزراء) (88)، ورغم أن النشر عن هذه الشركة، كان على هيئة اتهام واضح، لم تجسر الحكومة على الرد، وحين أثير الموضوع في مجلس الشعب، امتنعت عن الإجابة (89).
ورغم خطورة كل هذه المعلومات، فإن ما تنشره الصحف الأجنبية، حول علاقة كبار المسئولين وأقاربهم بقطاع التجارة، أكثر خطورة.
* وقد حاول الفنيون الوطنيون – عبثًا - إعادة السيطرة المركزية على حركة الاستيراد، والحد من الصفقات المريبة، فأعلنت مؤسسة التجارة – في تقرير رسمي – أن لجان البت تعمل بمعزل عن المؤسسة المتخصصة. التي يمكنها إعطاء الصورة الأدق لأسواق السلع الخارجية (..) وأنه من الأفضل أن تمثل المؤسسة وشركاتها تمثيلاً فعليًا في لجان البت"، وتساءلت المؤسسة عن المدى الذي ينبغي أن يسمح به لمكاتب القطاع الخاص والأفراد، للتقدم مباشرة "للجان البت" بالعروض؛ سواء بالنسبة للاستيراد أو التصدير، فالنظام الذي أصبح معمولاً به كان يسمح للقطاع الخاص والأفراد للتقدم مباشرة للجان البت بالعروض التي يحصل عليها من الموردين الأجانب وفي حالة إرساء العطاءات عليه، يتولى القطاع العام عملية الاستيراد، وفتح الاعتمادات؛ وبذلك تكون عمولة هذه العمليات للقطاع الخاص، وتتم عادة بينه وبين المورد الأجنبي. وفي الاجتماعات الرسمية كشف بعض المسئولين في مؤسسة التجارة أنه أصبح من الواضح أن بعض الاحتياجات لا يعلن عنها قبل وقت كافٍ؛ حتى يتمكن الجميع من تقديم العروض؛ وفقًا لفرص متكافئة في الاشتراك؛ ضمانًا للوصول إلى أفضل الشروط وأحسن الأسعار، فأحيانًا يعلن عن بعض الاحتياجات ويحدد أسبوعًا لتقديم العروض، ويكون مطلوبًا من المورد أن يقدم الأسعار، ويفتح خطاب ضمان لتأكيد جدية العرض المقدم منه، وبالتالي يقوم بالاتفاق مع السفن التي يشحن عليها وتكاليفها، وقال المسئولون الوطنيون إن ذلك، يوصف في بعض الأحيان بالتعجيز، وتكون الفرصة بطبيعة الحال لمن عرف بهذه الاحتياجات مسبقًا بطريقة أو أخرى (!). وفي بعض الأحيان أيضًا كان يتم الإعلان عن تصدير سلع معينة تضم عدة شحنات في الشهر نفسه، ويطلب من المستوردين تقديم الأسعار خلال ثلاثة أيام، مما يؤدي إلى أن يقول البعض، "إن سفن المشتري لا بد وأن تكون في الإسكندرية" (!).
وفي غياب المؤسسة - كجهاز تنظيم مركزي - يعطي النظامُ الجديد لجانَ البت المبعثرة سلطاتٍ كاملة لشراء ما تحتاجه من مستلزمات الإنتاج، ولكن حيث إن السلعة الواحدة قد تكون مطلوبة لأكثر من قطاع، فإن البت فيها – وفق النظام المستحدث – كان للجان متعددة، وأدى ذلك إلى شراء السلعة الواحدة بأكثر من سعر. كذلك لوحظ أن لجان البت (الغياب الخبرة المجمعة والمبلورة) تقتصر في دراستها للعروض على الناحية السعرية دون أن تأخذ في الاعتبار بعض الظروف الأخرى؛ مثل إمكانيات الموردين في التوريد، ومركز هؤلاء الموردين في الخارج، وضرورة تفضيل التعاقد مع المنتجين مباشرة ودون وسطاء، على الأقل لضمان التوريد، ولإقامة علاقات دائمة ومباشرة. ولكن في هذا الأمر لم تكن القرارات الخاطئة؛ بسبب نقص الخبرة فقط، فقد أشار البعض بصراحة إلى أن لجان البت تعرضت "لضغوط" من بعض الجهات لتفضيل عروض معينة (90).
وفي إطار توسيع السوق الموازية صدر قرار وزير التجارة رقم 286 لسنة 1974 (في 22/8/1974) بشأن السلع المسموح بتوريدها إلى البلاد؛ طبقًا للقرار 64 لسنة 1974، وقد سجلت الرقابة الإدارية وزن أصحاب النفوذ والتوكيلات، فقالت إنه "توالى بعد ذلك صدور قرارات وزارية لوزير التجارة، تضمنت إضافة أصناف أخرى للقائمة الأساسية وهي القرارات أرقام 148، 466، 555 لسنة 1974، وأرقام 62، 143، 259، 508 لسنة 1975، والقرار 227 لسنة 1976، وقد ردد كثير من المتعاملين في هذه الآونة أن صدور قرارات وزارية؛ بإضافة بعض السلع قد حقق لبعض المستوردين مكاسب طائلة؛ إذ كانوا يقومون بالشحن والسعي لدى المسئولين؛ حتى تصدر القرارات بإضافة ما قاموا بشحنه من سلع. وعند نشر هذه القرارات وعلم باقي المستوردين بها، يكون قد أُتيح لهؤلاء تحقيق مكاسب طائلة؛ مستفيدين - في ذلك - من ظروف احتياج الأسواق للسلع التي استوردوها" (91).
* هذه الثغرات الخطيرة في خطوطنا الدفاعية، دبرتها ووسعتها – بكل الطرق – قوى الغزو الخارجي؛ لإحداث الانهيار. فسيل الوعود والأكاذيب حول التدفقات الهائلة للمعونات، كان عماد الخداع الاستراتيجي في هذه المرحلة من الغزو، وقد ساعدت هذه الوعود في الإخلال بأي تقديرات رشيدة، وشلت إرادة المقاومة عند مستويات مختلفة من السلطة، وعند قطاعات وطنية كثيرة. من هذا الجو من الوعد بآلاف الملايين من الدولارات، كان طبيعيًّا أن تسود موجة الاستيراد من الأسواق الغربية على أوسع نطاق. ولمَ لا، والمعونات والمِنَح ستتولى السداد؟
إلا أن الخديعة لم تكن إحدى الأدوات الفعالة، وكانت موجهة بالتحديد إلى الفئات الوطنية التي كان يمكن أن ترفض التورط في هذه السياسات، لولا أن وعيها زُيِّف، وإرادتها شُلَّتْ؛ ولذا نشطت – إلى جانب الخديعة – التوجيهات السياسية المباشرة المرتبطة بالدور الأمريكي في الصراع المصري الإسرائيلي. فالحد من العلاقات الاقتصادية مع الدول الاشتراكية، كان جزءًا من مخطط إبعاد السوفييت عن منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي كان لا بد أن يتسع الاستيراد من الأسواق الغربية – بقرار سياسي – رغم استحالة زيادة التصدير إلى هذه الأسواق بمعدلات معقولة. أيضًا كان لا بد من شرط دفع عجلة التعمير في منطقة قناة السويس (ويتضمن التعمير بالضرورة، زيادة في الاستيراد من الغرب).
وكان مفهومًا أن هذا التوجه السياسي، يؤثر حتمًا بالسالب على ميزان المدفوعات.
ولكن لم يكن كافيًا مع ذلك التزام القيادة السياسية بهذا التوجه لتحقيق كل النتيجة المطلوبة: أي انهيار ميزان المدفوعات؛ ولذا تدخلت الحكومات والشركات والبنوك الدولية لإكمال المهمة. فيلاحظ مثلاً أن الأسواق الغربية انفتحت عام 1974 بالذات للقطن المصري، واستوعبت القسم الأكبر من صادراته، ثم توقفت عن هذا الاتجاه في الأعوام التالية، فهل كان هذا محض صُدفة في أسواقٍ، تخضع معدلات ومناطق الاستيراد فيها، لقدر كبير من التوجيه الحكوميّ؟ جائز طبعًا أن تكون صدفة، ولكن جائز أيضًا – في إطار التصور العام للحركة – محاولة هذه الدول لدعم القرار السياسي، بتعديل التوزيع الجغرافي لتجارة مصر الخارجية، وللإيحاء بأن الاستغناء عن الأسواق التقليدية للقطن (في الشرق) مسألة ممكنة، ولحفز حركة الاستيراد من الغرب في العام الأول من الانفتاح.
أيضًا حدث أن تضافرت كل الجهات المتحالفة من أجل رفع أسعار الواردات بمعدلات غير طبيعية، ولا تتناسب مع معدلات التضخم التي كانت سائدة في الأسواق الموردة، ومثال القمح هنا صارخ؛ فواردات القمح زادت أسعارها أكثر من ثلاثة أضعاف. والقمح سلعة استراتيجية، وخضوع أسعارها لسياسات الحكومات في الغرب، مسألة لا خلاف عليها (4 دولة تحتكر تقريبًا صادرات العالم من الحبوب، وهي الولايات المتحدة – كندا – أستراليا – الأرجنتين. الولايات المتحدة تحتكم وحدها على 50% من الصادرات) وللتذكرة، فإن منع صادرات القمح ذات الترتيبات الخاصة في السداد (قانون 480) سلاح استُخدم كثيرًا في منازعات الولايات المتحدة مع الدول التابعة. وفي عام 1974 و1975 بالذات، كانت التصريحات العلنية حول استخدام القمح؛ كأداة للإخضاع السياسي تتطاير في جو شامل للدول النفطية والعربية، فإنه ظلت هناك مصلحة سياسية في رفع أسعار المواد الغذائية، وعلى رأسها القمح، وكان هناك دائمًا "من يصرخون بأن هناك علاقة مباشرة بين أسعار النفط، وبين أسعار الأسمدة والطعام، ومجاعة مئات الملايين في الهند وبجنلاديش والأقطار النامية الأخرى (غير البترولية) في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية" (92). أي كان هناك هدف إرباك اقتصاديات هذه الدول بشكل عام، واستخدام ذلك (ضمن أهداف أخرى) في الوقيعة بين الدول التابعة النفطية، والدول التابعة غير النفطية.
في هذا الإطار السياسي لاستخدامات القمح، نعتقد أن أثر المبالغة في رفع أسعاره على ميزان المدفوعات المصري
لم يكن صدفة. كانت الحكومة المصرية تتطلع – بسذاجة – إلى استيراد سلع زراعية بقروض طويلة الأجل من الولايات المتحدة، قيمتها 750 مليون دولار؛ وفقًا لبرنامج الغذاء من أجل السلام. كان هذا التطلع ضمن جو الآمال والأحلام، ولكن تبين أن كل الميزانية المقترحة، وفقًا للفقرة الأولى من القانون 480، للسنة المالية 1975، لا تتجاوز 742 مليون دولار، وفي نفس الوقت كان مخططًا ألا يزيد نصيب أي بلد– في سنة التكدير الشامل هذه – عن 10% من اعتمادات البرنامج. وعلى ذلك، خُصِّص لمصر 100 ألف طن من القمح (بدلاً من المليون التي طلبتها). وتلقت مصر – بمقتضى هذا البرنامج – شحنات مجانية من الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من عام 1974 لم تتجاوز قيمتها 2.8 مليون دولار (93).

صحيح أن هذا الرقم عبرت به الولايات المتحدة عن "عواطفها"، وأن منزلة مصر عندها لا تقل عن منزلة شيلي وفيتنام الجنوبية (قبل تحريرها) وكوريا الجنوبية، ولكن ظل الرقم ضئيلاً جدًا بالنسبة للاحتياجات التي تولت الولايات المتحدة توريدها بأسعار خرافية، بالتعاون مع حلفائها السياسيين، في [كارتل] القمح؛ فقد بلغت واردات القمح 2.5 مليون طن خلال 1974 قيمتها 682.8 مليون دولار، والدقيق 200 ألف طن قيمتها 64 مليون دولار، وكان متوسط ثمن الطن المتري من القمح المستورد 28 جنيهًا عام 1972 و99 جنيهًا عام 1974.
واعترف البنك الدولي بأن غياب التمويل السهل للمواد الغذائية، ضاعف أيضًا من المشكلة؛ حيث اضطرت مصر إلى استيراد هذه المواد باستخدام تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل جدًا، وبأسعار فائدة مرتفعة، وكان هذا سببًا أساسيًّا خلف أزمة السيولة الحادة، التي تجتازها مصر حتى الآن(94).
وبالإضافة إلى هذه السلعة المسعرة سياسيًّا، وبقرارات حكومية أو شبه حكومية، أصبح معروفًا الآن أن أسعار السلع المستوردة من الأسواق الغربية كانت – بشكل عام – بالغة الارتفاع عن المستويات الطبيعية. ومع ذلك توسع الاستيراد، ولم ينكمش. وكما ذكرنا عبر البنك الدولي عن دهشته الطريفة من هاتين النتيجتين "المتعارضتين"، ومع أن الأمر
لا يبدو عجيبًا أو مُلغزًا.

* فالشركات العابرة للجنسية (بحكم مصالحها المتشعبة، وعملياتها الإنتاجية والتسويقية في مختلفة الدول) تتابع بانتظام التطورات الدولية، وتنصح حكومات دولها، وتتقبل النصح، حول السياسات المقترحة في المناطق والدول المختلفة. هذا كلام لا يختلف حوله. ولجان الاستماع في الكونجرس الأمريكي، والتحقيقات المجراة حول الشركات العابرة للجنسية، وحول شركات النفط في الشرق الأوسط وغيره، وعشرات الكتب الصادرة في الغرب، مليئة بالمعلومات والأمثلة الوفيرة. ومنطقة الشرق الأوسط (بكل ما فيها) وإخضاع الدول العربية – وعلى رأسها مصر –
لم تكن لتبعد أبدًا عن مبدأ التنسيق بين الشركات والحكومات المعنية، متضمنًا توزيع الأدوار. لقد استطاعت الضغوط السياسية من الولايات المتحدة والهيئات الدولية تسهيل مهمة المهاجمين؛ سواء من خلال الموقع الاستراتيجي الحاكم الذي احتلته الولايات المتحدة في إدارة الصراع المصري الإسرائيلي، أو من خلال ما صاحب ذلك من حملة التضليل العام، أو قرار التعمير، أو قرارات "اللامركزية" في الاستيراد، والسماح للقطاع الخاص بأعمال الوكالة التجارية. وكان على الشركات أن توسع هذه الثغرات بكل إمكانياتها على نسج شبكة العملاء وتقديم الرَّشاوَى على أوسع نطاق.

وخبرة رجال الأعمال الغربيين في فتح الأسواق بهذه الأساليب "القذرة" خبرة عريقة ومعروفة، رغم أن الامتناع الواضح عن تناول الوقائع الهامة عن الفساد في تحليل مشاكل التنمية في البلاد المتخلفة، يعتبر من أوضح الأمثلة حول تحيز "منهج ما بعد الحرب" (في دراسات التنمية) كما لاحظ وبحق ميردال. والعدد المحدود من الاقتصاديين الغربيين الذي تناولوا قضية الفساد (في دراسات منشورة)، كان رأيهم أن الرشوة ضرورة وعملية تشحيم غير ضارة لإدارة متضخمة وبطيئة. وأعتقد أن أحدهم كان صادقًا تمامًا حين أوضح "أن الفساد في هذه الدول ليس مجموعة من الظواهر المتفرقة، ولكنه نسق سياسيّ يمكن لمن يمارسون السلطة أن يوجهوه بدقة معقولة"، فهذا التشخيص صحيح إذا كان مقصودًا "بمن يمارسون السلطة" المؤسسات المعنية في الدول المسيطرة – في المقام الأول – "فعالم الأعمال كان نشطًا بشكل ملحوظ، في حفز ممارسات الفساد مع السياسيين وكبار المسئولين. إن أحد القضايا الهامة التي تلزم التقارير الرسمية والمناقشات العامة الصمت حيالها هو الدور الذي يلعبه رجال الأعمال الغربيون المتنافسون على الأسواق في أقطار جنوب آسيا، أو المشتغلون في استثمارات مباشرة في المشروعات الصناعية هناك؛ سواء بشكل مستقل،
أو كمشروعات مشتركة مع الشركات المحلية أو الحكومات. إن ممثلي دوائر الأعمال الغربية، لا يشيرون أبدًا إلى هذا الموضوع علنًا، ولكن بوسعي أن أؤكد شخصيًّا أنهم يعترفون صراحة في الأحاديث الخاصة، أنه من الضروري عادة أن يُرشَى المسئولون الكبار والسياسيون من أجل عقد صفقة، ولا بد من رشوة مسئولين كبار ومسئولين صغار؛ لكي يديروا مشروعاتهم دون عقبات عديدة، (…) وبين الأقطار الغربية، يقال عادة: إن الشركات الفرنسية والأمريكية والألمانية الغربية (خاصة) هي أقل الشركات تمنُّعًا في استخدام الرَّشاوَى لشق طريقها، بل يقال: إن الشركات اليابانية أسخى أيضًا في هذا الباب. ومن ناحية أخرى
لم أسمع أبدًا ادعاءً بأن الوكالة التجارية للبلاد الشيوعية قدمت أو دفعت رشاوى فردية" (95).

"الأساليب القذرة" ممارسة معروفة - إذن - ومسلَّم بها، تتولاها إدارات محترفة؛ كجزء من الآليات الضرورية لفرض التبعية وإعادة إنتاجها. وقد حدث بالفعل أن تدفق ممثلو دوائر الأعمال الغربية منذ 1973، مع عملاء المخابرات، والمغامرين من كل نوع، وعملت كل الجوقة على بيع الأحلام، وعقد الصفقات، فتحولت اللامركزية في الاستيراد إلى فوضَى شاملة.
ونجحت الفئة المحلية العميلة للشركات الدولية في لعب دورها المرسوم لفتح السوق المصري على مصراعيه. كان مطلوبًا من هذه الفئة تمرير أكبر كمية ممكنة من الصفقات، وبأسعار تزيد كثيرًا عن المستويات الطبيعية، وكان عائد هذه الفئة يتناسب مع نجاحها في أداء المهمة، فالميل الحدي للحوافز (عمولات ورشاوى مالية وعينية) يتزايد بكثرة مع زيادة حجم الصفقة، ومع ارتفاع سعرها، فجرى التسابق المجنون لعملاء الشركات نحو تحقيق الهدف. وقضية ارتفاع العمولات لا يختلف عليها في الأوساط المصرية المسئولة، فأحمد أبو إسماعيل اعترف مثلاً في بيان مكتوب بأن الواردات المصرية "تحملت أعباء إضافية من فوائد وعمولات استيراد مرتفعة" (96). إلا أن البعض يتصور أن ارتفاع أسعار الواردات؛ تم فقط بسبب العمولات المرتفعة (أي لتغطية تكلفة العمولات) وهذا غير صحيح. فالعمولات المرتفعة كانت – كما قلنا – حافزًا أيضًا لرفع أسعار الواردات.
ولا ينبغي أن نفهم حرص الموردين – في حالتنا – على رفع الأسعار؛ باعتباره مجرد حرص تقليد تقليدي على تعظيم الربح، فالشركات العابرة للجنسية، لا تتعامل مع الأسعار، في كل صفقة وفي كل مكان؛ وفق هذا المنطق البسيط (كالبقال أو صاحب معرض وورشة الأحذية، رغم أن حتى هؤلاء، لهم هامش ما من المرونة في تحديد الأسعار).
فسياسة الأسعار – في الشركة العملاقة – تتحدد مركزيًّا كجزء من التخطيط العام، وتتحدد مستوياتها في الفروع المختلفة، وفي الدول المختلفة؛ حسب معاييرَ متعددة، وتختلف هذه المعايير في الدولة الواحدة من مرحلة إلى أخرى. إنها تهدف – في التحليل النهائي، ومن مجمل عملياتها – إلى تعظيم ربحها، ولكن هامشها في المناورة من أجل تحقيق الهدف، هامش واسع؛ سواء في إطار النظرة الشاملة لأعمال الشركة المنتشرة في أرجاء العالم، أو في إطار المصالح الاستراتيجية للدولة الأم التي تتبعها إدارة الشركة، أو في إطار المصالح الاستراتيجية للدول الغربية.
ففي بعض المراحل، يمكن أن تمارس سياسة إغلاق من أجل فتح أسواق معينة (أي: تباع السلع بسعر التكلفة
أو بسعر يقل عن التكلفة). وفي أحيان أخرى، تمتثلُ هذه الشركات لقوانين وقرارات حكوماتها، فتمتنع تمامًا عن التعامل مع أسواق معينة، ضد توجهاتها التلقائية والغريزية لتوسيع عملياتها وزيادة أرباحها؛ احترامًا لاعتبارات استراتيجية وسياسة (بدا هذا واضحًا في محاصرة الدول الاشتراكية الأوروبية والصين وكوبا – ورغم الانفراج الدولي لا زالت هناك ضوابط سياسة مراعاة).

وفي أحيان ثالثة، لا تكون هناك مقاطعة كاملة؛ وفق قواعدَ صريحة معلنة، ولكن يحصر التعامل من خلال إرهاق العميل بتعقيدات مكتبية، أو برفع السعر، أو بالامتناع عن تقديم تسهيلات في السداد (وبدا هذا مثلاً في التعامل مع مصر في النصف الثاني من الستينيات وأوائل السبعينيات). وفي أحيان رابعة، يطلق العنان للشركات؛ كي تتسابق بلا أي ضابط خلف غرائزها؛ لزيادة المبيعات ومضاعفة الأرباح، طالما أن هذا يتسق مع الخط الاستراتيجي والسياسي العام (وأبرز مثال هنا حالة البيع للدول المصدرة للنفط؛ حيث تكونت كارتلات من الشركات لرفع الأسعار؛ كجزء من مخططات ما يسمى إعادة تدوير البترودولارات).
وتخطيط هذه الشركات لعملياتها – وضمنها تخطيط الأسعار – لا يخضع فقط للاعتبارات الذاتية لكل شركة، فهو يتأثر تأثرًا كبيرًا – كما رأينا – بالتطورات والتوجيهات السياسية للدول الغربية. ومن حقنا - على ضوء ذلك - أن نفترض أنه كان مطلوبًا من الشركات العابرة للجنسية والموردين – بدءًا من 1974 – أن تتنافس في إحداث الانهيار المدبر لميزان المدفوعات المصري، وما يترتب على ذلك من الإغراق في الدين. كان المطلوب من دوائر الأعمال، أن تحق بوسائلها "الخاصة" ما عجز صندوق النقد الدولي عن تحقيقه؛ من خلال خفض سعر المصرف الرسمي. ويعني ذلك أن التنافس في زيادة المبيعات ورفع الأسعار لم يكن مجرد استجابة للتطلعات التلقائية لدوائر الأعمال، ولكن كان يعني أن هناك ضوءًا أخضرَ أمام هذه التطلعات التلقائية؛ لكي تندفع بأقصى طاقة، مع ضمان بألا تتعرض هذه الأعمال إلى مخاطرَ اقتصادية شديدة؛ بسبب هذا التوسع في البيع إلى عميل مفلس.
د- التفسير الثاني (الديون المصرفية): ينقلنا هذا إلى الوجه الآخر للعملة، ونقصد تراكم الديون القصيرة الأجل. ودور هذه الديون أنها يسرت وحفزت زيادة الاستيراد (حجمًا وسعرًا)، وأدت في نفس الوقت إلى مزيد من تكلفته. وأيضًا كانت طبيعة هذه الديون (قصر الآجال والمعدل العالي للفائدة) وكانت استخداماتها (في أوجه لا تزيد موارد النقد الأجنبي) تجعل السداد عند موعد الاستحقاق مستحيلاً، وبالتالي كانت كل زيادة في الاستيراد بواسطة هذه التسهيلات، تعني مزيدًا من الغرق في مأزق لا خلاص منه. وقد تحدثنا عن جملة التخدير بالأحلام التي صاحبت الانفتاح الاقتصادي. وهذه الحملة المدبرة، جعلت عددًا كبيرًا من المخدوعين، ينتظر فيض المِنح العربية النقدية، والمعونات الأمريكية والغربية لمواجهة العجز المتصاعد في ميزان المدفوعات، وهذه الحملة لم يكن ممكنًا أن تحقق أهدافها بالكفاءة المطلوبة، ما لم تكن مصحوبة ببعض "البشائر" تهل بين الحين والآخر، وتحقق ذلك من خلال التدفقات النقدية من دول الخليج العربية التي يبدو أنها استخدمت، وفق مخطط بارع، فمن حيث الكم، كانت بالقدر الذي يكفي لإبقاء جذوة الآمال متقدة، ولا يكفي في نفس الوقت لوقف الحاجة إلى الديون الصعبة. ومن حيث الأسلوب، لم تتدفق المعونات وفق اتفاقية تحدد الكميات والتوقيت. فلو تحددت الأمور – كما في تحويلات دعم الخرطوم – يكن عمل حسابات تنبؤات واقعية، فلو تحددت الأمور – كما في تحويلات دعم الخرطوم – يمكن عمل حسابات وتنبؤات واقعية، ويصعب خلق جو الإرباك والتمني اللازم للإغراق في الديون الصعبة؛ ولذا بدا الموقف من خلال التدفقات غير المنتظمة أن الاحتمالات بلا سقف، وتتوقف على نجاح الاتصالات السياسية، وبالفعل كانت الاتصالات تحدث بعض النتائج، وخاصة في أواخر 1973 بعد حرب أكتوبر، ولكن دخلت المسألة – مع احتواء وسيطرة الولايات المتحدة للموقف – في آلية الإغراق، وأصبحت التدفقات غير المنتظمة مسألة مدبرة، وبمثابة "الجزرة" التي تحفز "الحمار" على مواصلة السحب على التسهيلات المصرفية، وتسهيلات الموردين.
فبعد حرب أكتوبر وصلت المنح العربية على 725 مليون دولار، وغطت هذه المنح 111% من عجز السلع والخدمات، وبإضافة سداد المدفوعات الرأسمالية، تكون هذه المنح قد غطت 62% من إجمالي الالتزامات المالية الخارجية لمصر. وهذه الصورة كانت بشيرًا طيبًا لاحتمالات عام 1974، وبالفعل زادت المنح غير المنتظمة إلى مجموعة 1264 مليون دولار في ذلك العام (تتضمن حوالي 221 مليون دولار منحًا بترولية)، ولكن على أمل المزيد من المنح، وبكافة الدوافع الأخرى التي تحدثنا عنها، كان مطلوبًا ومحتمًا أن يتجاوز عجز السلع والخدمات هذا المبلغ، فالمنح غطت 78% فقط من العجز، و55% من إجمالي الالتزامات المالية الخارجية. ولم تتقدم مصادر المعونة الأخرى لستر الموقف؛ فالبنك الدولي الذي وعَد بتقديم 200 مليون دولار في الفترة من يوليو 1974 إلى يونيو 1975، لم يتم توقيع اتفاقية محددة معه؛ وبالتالي لم يبدأ السحب الفعلي في عام 1974 (باستثناء قرض قناة السويس). ونفس الأمر بالنسبة للوعود التي تلقتها مصر من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (oecd)، وبالنسبة للولايات المتحدة بالذات كانت الفجوة هائلة بين ما وعدت به القيادة السياسية، وبين ما اعتمدته فعلاً؛ فقد طلب الرئيس الأمريكي نيكسون من الكونجرس في أبريل 1974 اعتماد مبلغ هزيل (250 مليون دولار) كمعونة لمصر، وكتب نيكسون في رسالته إلى الكونجرس: "إن هذه المساعدات (لمصر والدول العربية)، ستُسهم في بناء ثقة هذه البلاد في الولايات المتحدة، وستدعم القوى المعتدلة في المنطقة" (24/4/1974)، وتحدث بعد ذلك كيسنجر إلى الكونجرس، وأوضح أن "هذه المساعدات هي محاولة لتكريس مؤشر جديد، يظهر لأول مرة منذ عقود من الزمان.
إن هذه المساعدات، هي الإسهام الأمريكي في خلق حوافز لدى كل الأطراف؛ لكي يديروا ظهورهم للحرب ويتوجهوا نحو السلام، ولكي يغيروا أولوياتِهم من الصراع إلى التعمير (...) حينما تدرسون مقترحاتِنا، نرجوكم أن تتذكروا فلسفتنا الأساسية، وهي تنمية التعاون ومنع المواجهات والضغوط علينا وعلى أصدقائنا وحلفائنا"(97) (26/4). ورغم الفجوة الهائلة بين الوعود الأولى وبين المبلغ المقترح (مشفوعًا بكل هذه التفسيرات) لم يعلن الكونجرس موافقته، إلا في أواخر العام، ولم يبدأ السحب عليه إلا عام 1975، وفي المقابل أدى التدهور في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي إلى هبوط معدل السحب على اتفاقيات التعاون الاقتصادي والفني، وإلى إيقاف كامل التسهيلات للموردين، وارتبط هذا وذاك بالتزامات السداد في هذين الحسابين، فأصبح صافي حركة رأس المال من الاتحاد السوفيتي إلى مصر بالسالب لأول مرة، وبلغ صافي التدفق من مصر إلى الاتحاد السوفيتي 228 مليون دولار (183 مليونًا اتفاقيات تعاون + 45 مليونًا تسهيلات مورِّدين، بخلاف أقساط الديون العسكرية) وإجمالاً أوضح تقرير للبنك الدولي أنَّ حسابات القروض المتوسطة والطويلة الأجل، سجلت عام 1974 تدفقًا صافيًا من مصر للخارج (وإلى دول الكتلة الغربية كما إلى دول الكتلة الشرقية) يصل إلى حوالي 132 مليون دولار (52 مليون جنيه)، فرغم التيسيرات التي قدمها الموردون الغربيون، زاد إجمالي تسهيلات الموردين عن مدفوعات السداد لهذا البند بحوالي 21 مليون دولار فقط (8 مليون جنيه) بينما المدفوعات على هذه الديون وصلت إلى 402 مليون دولار (157 مليون جنيه) (98)، وقد طرح تقرير ثانٍ للبنك الدولي، تقديرًا آخر، جعل التدفق إلى مصر 273 مليون دولار (تسهيلات موردين) + 199 مليون دولار (قروض متوسطة وطويلة) مقابل تدفق من مصر 281 مليون دولار (تسهيلات موردين) + 195 مليون دولار (قروض متوسطة وطويلة) (99)، ولكن تظل النتيجة الجوهرية واحدة، رغم هذا التعديل في الأرقام. فرصيد حسابات القروض الطويلة والمتوسطة الأجل، ظل بالسالب، وإن كان العجز – حسب التقدير الأخير – أقل بأربعة ملايين دولار. وتضاف إلى كل هذا مدفوعات الفوائد (أساسًا على تسهيلات الائتمان المصرفي) وقدمت (في المصدرين) بحوالي 165 و112.7 مليون دولار على التوالي، وكانت النتيجة التي تسللت وانتشرت عبر كل ذلك و"في غياب أيَّة آلية للتحكم" – كما يقول البنك الدولي – تفاقم الديون المصرفية.
* في آخر الفترة (يناير/ مارس) وصلت التسهيلات المصرفية القائمة (شاملة غير المسحوبة) 512.8 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (أبريل/ يونيو) وصلت إلى 635.7 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (يوليو/ سبتمبر) بلغت 754.7 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (أكتوبر/ ديسمبر)؛ أي مع آخر السنة، كان الرقم قد قفز إلى 1055.2 مليون جنيه (أو 2696 مليون دولار) (100). وكانت حوالي 440 مليون جنيه في نهاية 1973 (حوالي 1127 مليون دولار)، أي زيادة 139.6% في عام واحد. وبلغت الديون القائمة للمراسلين في الخارج (أي: الكميات المسحوبة أو خطابات الاعتمادات المدفوعة بوساطة هذه المؤسسات) 423 مليون جنيه (1082 مليون دولار) في نهاية 1974 بالمقارنة مع 195 مليون جنيه (449 مليون دولار) في نهاية 1973. وقد خلق هذا النوع من التمويل، بتكلفته الباهظة، أزمةَ سيولة خارجية حادة، وورث عام 1975 وضعًا يطالب فيه – خلال السنة – بسداد تسهيلات مصرفية وصلت قيمتها إلى حوالي 2050 مليون دولار. وبالنسبة لإجمالي الدين العام الخارجي المعلن، كان 31% مستحقًا للسداد خلال عامين، و40% خلال ثلاثة أعوام، 46% خلال أربعة أعوام(101).
* إن تسهيلات الموردين لا تعتبر في معظم الحالات ضمن الديون الميسرة، ومع ذلك فهو إجراء تقليدي لتشجيع المستوردين على زيادة مشترياتهم، ولكن هذا لا يعني أن الشركات تقدم هذه التسهيلات في أي وقت، ولأي عميل، وبأي مقدار، فهنا أيضًا يتحدد القرار بالأوضاع السياسية العامة، وبالأوضاع الخاصة للموردين، وبمدَى الثقة في اقتصاديات العميل، وفي قدرته على أداء التزاماته. ولكن الأوضاع السياسية تأتي أولاً. ويفسر هذا - إلى حد بعيد - هبوطَ تسهيلات الولايات المتحدة، ووقف القروض الحكومية الغربية. ومع الدور الأمريكي الجديد تغير الموقف، ويشير إلى هذا بصراحة تقرير البنك الدولي عن القروض. إلا أن التدفق الأكبر للديون، جاء في عام 1974، على يد البنوك (وليس عبر تسهيلات الموردين). وهذا "السخاء" – من البنوك – لا بد أن يكون أيضًا بقرار سياسي. فقد كان معروفًا تمامًا نضوب الموارد الذاتية للحكومة المصرية، وكان معروفًا أيضًا، أن المعونات النقدية لم تنهَمر على السلطات المصرية. كذلك لا يمكن أن يكون هذا التسابق بسبب الغفلة والبلاهة؛ فهذه الأوصاف لا تنطبق أبدًا على مصادر الإقراض الغربية (موردين أو بنوك)، ومن المسلم به أن البنوك الكبرى في الدول الغربية (وعلى رأسها البنوك الأمريكية) تسيطر على توزيع التسهيلات التمويلية في العالم، وفق شروط ومعاييرَ تحقق المصلحة السياسية والاقتصادية للدول المسيطرة، وعلى حساب الدول التابعة، وفي مواجهة "حالة خاصة" تتحدد سياسة هذه البنوك؛ وفقًا للتوجيهات والتكتيكات المحددة، ومركز التوجيه هو الحكومات الغربية (خاصة الحكومة الأمريكية – ولا ننسى أيضًا النفوذ الصهيوني) والهيئات الدولية (الصندوق والبنك وتوابعهما). وهناك "نظام للإنذار المبكر" أقامته الهيئات الدولية، ووظيفة هذا النظام – في الظروف العادية – إصدار توصيات محددة ضد تشجيع مزيد من تسهيلات الموردين والتسهيلات المصرفية إلى الدول "التي تقع في منطقة الخطر"(102)، وهذا "النظام" جزء من علاقات التشابك والتنسيق بين الهيئات الدولية، وبين المصارف والشركات الدولية، ووفقًا لهذه العلاقات لم يعمل "نظام الإنذار المبكر" عام 1974 بالنسبة لمصر (رغم توفر الدواعي الفنية لذلك)، بل تدافعت البنوك بحرص ودأَب غريبين، لإقراض مدين معسر!
* ولا يُخل بهذا التحليل، أن التوجه للإقراض المصرفي الواسع، تقابل مع التحرك التدريجي نحو إقامة خطوط ائتمان كبيرة مع البنوك العاملة في الشرق الأوسط، والمعتمدة بشدة على التمويل العربي، رغم استمرار توثيق الروابط التقليدية مع البنوك الأمريكية في أوروبا الغربية (كما يقول البنك الدولي) فأولاً: لا تخرج البنوك العاملة في الشرق الأوسط (وضمنها البنوك العربية الجنسية) بإدارتها وروابطها وتوجيهاتها عن شبكة البنوك الدولية. وثانيًا: ظلت البنوك الأوروبية والأمريكية مصدر الإقراض الأساسي. والصحيح أن المؤامرة في كل الأحوال مُوِّلت بالبترودولار؛ سواء في جانب المنح والمعونات، أو في جانب الديون المصرفية (سواء كانت ودائع البترودولار في مراكز الشرق الأوسط، أو في أفرع البنوك وخارج الشرق الأوسط).
وهذا النوع من التمويل، يهدِف من ناحية – إلى التخفيف من أعباء المخاطر الاقتصادية والسياسية، حول مصير هذه الديون (ومن هنا، السخاء في التسهيلات المصرفية، مقابل الشًُّح في تسهيلات الموردين). ومن ناحية أخرى كان هذا النوع من التمويل، يؤدي إلى تعميق التناقضات بين الدول والشعوب العربية.
هـ- التفسير الإجمالي: تمت "المؤامرة" بتدبير وتخطيط. ولا أعتقد أن هذا التحليل يقوم على الاختلاف أو الجموح في الخيال؛ فهو تحليل يستند إلى خلفية من المسلمات المعروفة والمنشورة عن آليات العلاقات بين دول السيطرة الغربية والدول التابعة، وإلى حقيقة أن الدول المسيطرة (والولايات المتحدة على رأسها) تلجأ إلى التخطيط في تحقيق أهدافها. وفوق كل ذلك، فإن تحليلنا يبدو تفسيرًا معقولاً لنتائجَ تبدو شاذة وغير مفهومة بغير هذه الفروض وهذا التحليل.
* و.. نعود الآن إلى التعليق على تفسير البنك الدولي لانهيار ميزان المدفوعات المصري؛ فقد سجل تقرير البنك أن التوسع في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار) كان ملحوظًا.. وأن "مفعول الدخل" الذي عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر" كان بوضوح القوة السائدة، ويبدو – كما يقول التقرير – أن الزيادة في الطلب المحلي نشطت الواردات، وصرفت الصادرات عن الأسواق الخارجية إلى الداخل. وهذا التفسير – على ضوء العرض السابق – لا يوصف بأنه سطحيّ، ولكن بأنه تفسير مغالط، فالنص على أن مفعول الأسعار لعِب دورًا مضادًا لمفعول الدخل، يتضمن إصرارًا على أن ارتفاع أسعار الواردات لعب دوره "التقليدي" في اتجاه خفض الاستيراد، ويعني هذا أن ارتفاع الأسعار، جعل الانهيار في ميزان المدفوعات أقل. وهذا الاستنتاج المطلق، والمجرد عن ظروف المكان والزمان المحددين، لا معنى له.
إن ارتفاع الأسعار لا يحقق خفضًا في الاستيراد، إلا إذا كانت التجارة الخارجية تُدار إدارة رشيدة، وتهدف – ضمن ما تهدف – إلى الحد من عجز ميزان المدفوعات، ولكن إذا أخذنا بالفرض الذي نبدأ منه التحليل، وهو أن هناك هجومًا مخططًا لإخضاع مصر، وأن انهيار ميزان المدفوعات سلاح مجرب في هذا الاتجاه، تكون زيادة الأسعار غير متعارضة في هذه الحالة مع زيادة حجم الواردات، بل إنهما يتعاونان معًا لتحقيق الهدف باتساق تام، والأدوات المستخدمة لإحداث الزيادة في الاتجاهين كانت نفس الأدوات: العمولات. و الرَّشاوَى – والتسهيلات الائتمانية الباهظة التكلفة. إن ارتفاع الأسعار لم يكن في حالتنا – إذن - "فرملة" للاستيراد، ولكنْ كان قوة دفع إضافية، تضافرت مع الزيادة المتعمدة في الاستيراد؛ ليكون الانهيار في ميزان المدفوعات أفعل.
هذه هي المغالطة الأولى، والمغالطة الثانية أن تقرير البنك صوَّر العملية كما لو أن زيادة في الموارد النقدية قد حدثت – كمرحلة – فأدت إلى زيادة الطلب الداخلي (لكل من سلع الاستثمار والاستهلاك) – في مرحلة تالية، وهذا تصوير يكون صحيحًا في حالة حصول مصر على مِنَح وقروض نقدية ميسرة، فأنفقت في زيادة الاستيراد – بطريقة غير رشيدة – رغم ارتفاع الأسعار، وإذا تم الأمر بهذه الصورة؛ فإننا لا نكون بصدد حالة تثير الفزع؛ إذ تكفي وقفة متأنية لتحليل ما تم – بأعصاب هادِئة – بهدف الترشيد، ولكننا – باعتراف البنك الدولي – بصدد كارثة، والكارثة لا تفهم
إلا على ضوء تصور معاكس تمامًا لتصور البنك، ووفقًا للوقائع الثابتة، فإن الموارد النقدية التي حصلت عليها مصر، كانت في قسم كبير منها مقيدةً بواردات بأسعار مرتفعة، أي: قدمت القروض الصَّعبة؛ لتنفيذ الواردات التي تم الاتفاق
أو التعاقد عليها، وبالتالي لم يزد الدخل فزاد الطلب المحلي، ولكن فرضت زيادة الطلب، فأدَّى ذلك إلى التورط في الديون الصعبة، أي أدى إلى زيادة الدخل بطريقة مشوهة.

* ويثير السخرية، أن مسئولاً كأحمد أبي إسماعيل يكتب في أواخر 1977 أن عدم تدفق المنح الموعودة والقروض الميسرة في عام 1974، والغرق في الديون الصعبة، كان بسبب أن "الأصدقاء" كانوا يجهلون واقع الحال، "فالعرب كانوا يظنون أن مصر تمر بعملية بناء اقتصادي كبير؛ نتيجة لتطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي. وبالنسبة للأصدقاء الأمريكان، فقد لمست بنفسي ذلك في مايو 1975؛ فقد كان لديهم الانطباع بأن الحالة أحسن من الوضع الحقيقي لها، فلم يصدقوا أننا بحاجة إلى مبالغَ ضخمة لسداد التسهيلات المصرفية التي اقترضتها حكومة د. حجازي في عام 1974، وللحصول على احتياجاتنا من السلع الرئيسَة، إلا بعد أن اجتمعت بخبراتهم وناقشت هذه الاحتياجات تفصيلا"(103).
هذا الكلام يثير السخرية، إذا كان أبو إسماعيل يعتقد أن "الأصدقاء الأمريكان" نكثوا بوعودهم في موضوع المعونات، وطلبوا من الدول النفطية أن تَغُل يدها هي الأخرى؛ لأنهم تصوروا - خطأ - أن الأحوال الاقتصادية مزدهرة، وخاصة بالنسبة لميزان المدفوعات. إنني أصدق أن الأمريكان أبلغوا أبا إسماعيل بهذا الكلام فعلاً، ولكن بهدف ابتزاز المفاوض المصري؛ لكي يرفع أية ضوابطَ على حرمة المعلومات، وأيضًا لكي يخدعوه لعام آخر. وبالفعل حدث أن مواصلة الإغراق في الديون الصعبة، استمرت أيضًا خلال عام 1975، ولم تتدفق المعونات في هذا العام، إلا بالقدر وللوظيفة التي تمثلها الجزرة في حكاية الحمار، وقد فعلوا ذلك رغم أنَّ أبا إسماعيل ناقش معهم "الاحتياجات تفصيلاً"، يعني تأكد أنَّ المسألة ليست مسألة جهل، ولكنَّ أبا إسماعيل لم يفهم - حتى الآن – المسألة، أو لا يريد أنْ يفهم.
و- الصورة الواقعية لتجارة مصر الخارجية: بعد هذا العرض لنتائج "اللامركزية" و"تحرير التجارة الخارجية من القيود البيروقراطية"، يحسن أن ندعم فروضنا العامة، وحديثنا عن دور الوكلاء، وأرقامنا السابقة، بعرض صورة واقعية لما آلت إليه حركة الاستيراد الفعلية بعد الانفتاح. فقد تضافر مع رفع الموردين لأسعار مبيعاتهم، عجز ميناء الإسكندرية عن الاتساع لهذا الكم من الواردات بغير تخطيط، فتوالت غرامات التأخير، وكانت رافدًا آخر لزيادة تكلفة الاستيراد. في يونيو 1974، أعلنت حالة الطوارئ القصوَى في ميناء الإسكندرية؛ لأن 945 ألف طنًا من البضائع كانت مكدسة في المخازن وعلى الأرصفة وداخل الميناء. وفي نوفمبر 1974 كشفت مناقشات لجنة النقل بمجلس الشعب مع المسئولين أن استمرار التكدس في الميناء يكلف مليون دولار يوميًّا – في المتوسط – كغرامات تأخير للسفن، وفي آخر السنة قدر إجمالي ما تحمَّله الاقتصاد المصري؛ كغرامات تأخير (خلال 1974) بحوالي 49 مليون دولار(104).
* إلا أن قضية ميناء الإسكندرية أصبحت تتجاوز كثيرًا أنها قضية اختناق وغرامات تأخير، وما نفهمه من طبيعة هذه الظاهرة، يعني أنه لم يكن ممكنًا احتواء الأزمة بمجرد تطوير الأساليب الإدارية للميناء، فالفوضى التي بدأت مع التوسع المجنون في التعاقد على صفقات عجيبة وبأسعار شاذة، كان لا بد أن تُستكمل بحلقات مترابطة في سلسلة التلاعب فور إتمام التعاقد، وعقب خروج البضائع من المصنع وشحنها فوق بواخرَ مستهلكة في عبوات غير ملائمة، ثم في مرحلة ما بعد التفريغ في ميناء الإسكندرية. ويحسن أن نشير هنا إلى الدراسة التي قامت بها الرقابة الإدارية مع 18 جهة مسئولة في الدولة(105)، وتتركز الدراسة على مها تتعرض له السلع المستوردة في الميناء في خطوات متتالية:
1. فالسفن تفرِغ شحناتِها دون حصر سليم للبضائع، من حيث الكميات والماركات والعلامات، وحالة غير السليم منها، ودون مطابقة هذه البضائع مع المسجل على "مانفستو" السفينة! كان العمل يجري في السابق على أن تتولَّى شركات الملاحة والتوكيلات الملاحية تعيين العدد المناسب من "كتبة الحصر" على كل سفينة، ثم يتولى مندوب التوكيل الملاحي بعد ذلك مسئولية تتبع البضائع؛ وفقًا للحصر المحقق على السفينة لحين تستيفها بالساحة، إذا كانت واردة تحت نظام (تسليم صاحبه) أو تسليمها إلى "مخزنجي الاستلام" بمخازن شركة المستودعات إذا كانت واردة تحت نظام (تسليم مخزن). كانت تلك – كما تشير دراسة الرقابة الإدارية – الطريقة المتبعة في حصر كميات البضائع المفرغة من السفن؛ فهي مسئولية شركات الملاحة، والتوكيلات الملاحية تتولاها بصفته مالكة للسفن أو وكيلة عن مُلاكها، يلزمها القانون بتسليم البضاعة المنقولة إلى أصحابها أو وكلائهم بالحالة التي تسلَّموها عليها كمًّا وكيفًا.
"ولكن بعد أن تضاعف حجم الواردات، وانخفض مستوى الأداء، وتغيرت طبيعة العلاقات بين الفئات العاملة في الميناء، فإن الطريقة التي كانت متبعة سابقًا، لم تعد مطبقة من الناحية العملية". وليست المسألة مجرد إهمال بطبيعة الحال، فكَتَبَة الحَصْر لا يتبعون أية جهة حكومية أو قطاع عام، وإنما لهم جمعية تعاونية تقوم بتشغيلهم، "وهذه الفئة من أخطر الفئات في ميناء الإسكندرية"، والمعلومات (في قسم البحث الجنائي بشرطة ميناء الإسكندرية) تشير إلى أن عددًا كبيرًا من هذه الفئة مشاركٌ "في علاقات غير سليمة" مع بعض أطقم البواخر.
وهذه العلاقات تعني - من البداية - أن بوابة مصر مفتوحة على مصراعيها، فكتبة الحصر يمكن أن يثبتوا عُجُوزات وهمية في بعض البضائع؛ لكي تُعتبر عجزًا من ميناء الشحن (ويتولى كاتب التوكيل مع مخزنجي ومراقب الباخرة التابعَين لنفس التوكيل الملاحي - عمليةَ الاستيلاء على هذه البضائع التي تم إثبات عجز بها، ثم إخراجها من الدائرة الجمركية بطرق غير مشروعة) ويمكن أيضًا إثبات العكس، أي: إثبات وصول بضاعة لم ترد أصلاً، أو وردت بمواصفات مختلفة تمامًا؛ لتغطية تلاعب المتعاقدين. وتتكفل الحلقات الأخرى من العملية بطمس معالم هذه الجريمة، وقد حاولت شركات التوكيلات الملاحية (قطاع عام) التخلص من كتبة الحصر "ولكن أجهزة الأمن تدخلت لإعادتهم، واللجان الكثيرة التي شُكِّلت لحل مشكلة كتبة الحصر، ولوضع حد للسرقة، والتهريب والتلاعب لم تنتهِ إلى نتيجة".
2. نتيجة لانعدام الجرد السليم أصبح هناك تلاعب خطير في كميات ونوع البضائع المفرغة، قبل تخزينها أو جمعها (تشوينها) في الساحات، ويعقب ذلك تلاعب آخر أثناء التخزين، أو تواجد البضائع في الساحات، "فالبضاعة يتم تفريغها دون رقابة حقيقية، وعملية الاستلام والتسليم تتم دون وجود رقيب". وتتم بالتالي "سرقات ضخمة ويثرى المنحرفون ثراء فاحشًا" ويساعد ذلك تواطؤ عمال الشحن والتفريغ، فهم لا يلتزمون بالأصول الفنية، ويترتب على ذلك (مع ضعف العبوات المستخدمة في التغليف في كثير من الأحوال) - الإضرارُ بسلامة البضائع المفرغة، والعبث بها، وهنا أيضًا المسألة ليست مجرد إهمال "ويؤكد ذلك أن شركة واحدة هي شركة الشحن والتفريغ (قطاع عام) بها 4500 عامل من بينهم 900 عامل من ذوي السوابق، ومن بينهم من له 19 سابقة "وقد طلب رئيس مجلس إدارة هذه الشركة من الجهات المختصة نقلهم إلى جهات أخرى؛ حيث إن العمل في ظل هذا الوضع، يعتبر نوعًا من أنواع المساعدة على التلاعب والانحراف" (ولم يلتفت طبعًا لهذا الطلب).
ورغم التعليمات الجمركية بضرورة ترتيب الطرود غير السليمة فور دخولها المخزن، وجردِها بحضور مندوب الملاحة "والمخزنجي" ومندوبي الجمارك، إلا أنه كثيرًا ما يتأخر هذا الجرد لفترة طويلة، تُتاح فيها فرصة العبث بمشمول تلك الطرود، والتلاعب فيها.
3. تتعرض أثناء وجودها بالميناء أو ملاحتها الخارجية لسرقات منظمة، تتولاها عصابات متخصصة، والأمر العجيب أن نظام الحراسة داخل الميناء هو – نفسه – أحد الأسباب الرئيسية التي تساعد على حدوث السرقات والانحراف والتلاعب (!) فضلاً عن قلة العدد، وتجزئة المسئولية، فإن "عددًا كبيرًا من الحراس – كما يقول المسئولون بالميناء – ليسوا على مستوى مناسب من الأمانة".
....."وعندما تنتهي مراحل تداول البضائع الواردة إلى الميناء؛ بتسليمها لأصحابها وخروجها من الدائرة الجمركية تتعرض البضائع لكثير من المخاطر، لا سيما المملوكة منها للقطاع العام؛ حيث تبدأ سلسلة المخاطر من الطريقة السيئة التي يتم بها سحب البضائع – خصوصًا من الساحات المكدسة – دون مراعاة لسلامة البضائع، وكنتيجة طبيعية لهذا الوضع، فإن عملية الصرف تتم بعيدًا عن أية رقابة؛ مما يفسح المجال للانحراف والتلاعب، أو التواطؤ مع أمناء مخازن المستودعات".
4. وفي الطريق من الميناء إلى المخازن الرئيسية داخل البلاد، نكون في "ساعة السرقة الشاملة التي تجمع وحدها كل الصور التي تحدث في كل المراحل. إن أرتال السيارات التي لا تنقطع والقطارات التي لا تتوقف، والصنادل البحرية فوق النيل تشارك كلها في نقل تلال البضائع التي تستوردها الدولة، ولكنها – كلها أيضًا – تمضي على الطريق الذي يرسمه اللصوص (...) وعند وصول البضائع إلى المخازن تبدأ مرحلة سرقة من نوع جديد سرقة تستغل القصور في الإجراءات المخزنية التي تؤدي بالضرورة إلى الانحراف".
* هذا ما آلت إليه تجارة مصر الخارجية في ظل الانفتاح كما صورها تقرير رسمي من أعلى هيئة رقابية. وهذه الصورة البشعة، لم تشكلها العمليات المتناثرة لصغار الأوغاد واللصوص – كما حاول التقرير أن يقول – فمن المعروف تمامًا (بالتحديد لدى المسئولين في الرقابة الإدارية) أن هناك مؤسسات منظمة. وعلى رأس الآلاف من الأوغاد الصغار، تتربع قيادات من "ناس مهمين"، تستخدم الرَّشاوَى والضرب والقتل، وتستخدم نفوذها لتحقيق أغراضها؛ ولهذا السبب ألقي بتقرير الرقابة الإدارية (ومَن معها) في سلة المهملات(106).
إن هذه الصورة من النهب الواسع، والفوضى الشاملة قوضت - عمليًّا - ما بقي من مركزية الإشراف على الاستيراد (رغم التأميم الشكلي الذي كان لا زال سائدًا). لقد تكفلت جهود الوكلاء وبعثرة لجان البت، بخلق سلطة فعلية، تقرر في كثير من الحالات ما يستورد وما لا يستورد خلف ظهر السلطة الإسمية (المؤسسة العامة للتجارة)، ولكن
لم يكن هذا كافيًا لتحقيق الفوضى الكاملة، وفقط بمتابعة المسار الفعلي للسلع المستوردة. يمكننا أن نتصور بشكل ملموس، كيف تدفقت الصفقات الغربية، وكيف انهار ميزان المدفوعات، بعد أن أصبح الأمر خارج أي سيطرة،
أو متابعة. إن أبواب مصر لم تفتح على مصاريعها. ولكن
لم تعد هناك أبواب أصلاً.

ويمكننا أن نقدر أن الموردين الأجانب كانوا المستفيد الأول من هذه الجريمة، واقتسم معهم الأرباح الخرافية وكلاء الشركات الأجنبية (ومن في مرتبتهم). إن الأخيرين هم القيادة المحلية "للمافيا" التي أحدثت الانهيار. ولا يعني ذلك أن كل الفساد الذي سيطر على مسار الاستيراد كان بتدبير الجهات الأجنبية، بل ويعني أنه انحصر – على الجانب المحلي – في عملاء أو وكلاء الشركات الأجنبية. فانتشار الفساد داخل النسيج الاجتماعي له منطقه الخاص والغلاب، وبالفعل دخلت في العملية عصابات تهريب محترفة، وتجار جملة من خارج أصحاب التوكيلات، ولكن ظل واضعو المخططات الخارجية أصحاب المصلحة الأبعد في إطلاق هذا المنطق الداخلي لانتشار الفساد، بلا مقاومة أو ردع بهدف إشاعة الفوضى والإرباك في إدارة الاقتصاد المصري أثناء هذه المرحلة من الغزو. فضلاً عن أن واضعي المخططات الخارجية (من عملائهم) كانوا أيضًا أصحاب القسم الأكبر من المكاسب المباشرة.
إن الصورة السابقة لم تكتمل كلها عام 1974، ولكن اكتملت واستمرت في سنوات تالية تطلبها تحقيق الأهداف الموضوعة للمرحلة الأولى من الغزو. وهذه الصورة كانت للإسكندرية، حيث عمليات الاستيراد الأساسية، ولكن الصورة التي أضيفت بعد ذلك في بورسعيد كانت أكثر بشاعة.
(6) انفجار التضخم:
أ- هكذا حققت الهجمة المشتركة المضمون الأساسي لتوصية صندوق النقد؛ بخفض سعر الصرف. اعترضت الحكومة على هذا المطلب؛ لكيلا يحدث انهيار في ميزان المدفوعات، ولكن الانهيار تحقق، وأصبحت المطالبة بخفض سعر الصرف، مجرد مطالبة باعتراف قانوني، بعد اعتراف الأمر الواقع. وقد حدث تطور موازٍ لذلك في مجال تحرير الأسعار الداخلية من الضوابط المركزية. رفضت الحكومة توصيات صندوق النقد بإحداث قفزة في هذا المجال؛ لأن العواقب لذلك – من منظور أيَّة إدارة محلية للنسق الاقتصادي – يراها الأعمى؛ فالعواقب لذلك – في الظروف السائدة – قفزة وخيمة في معدلات التضخم، تزيد الاقتصاد المصري فوضَى وإنهاكًا، وتزيد التوترات الاجتماعية السياسية. ولكن هنا أيضًا كان ما تخشى منه الإدارة الاقتصادية، هو عين ما يهدف إليه الصندوق؛ كي تصبح الإدارة أكثر حاجة ليد خارجية تنتشلها من مأزقها، وأكثر استعدادًا بالتالي لقبول شروط الإنقاذ؛ ولذا تضافرت القوَى الأخرى لدعم محاولات الصندوق، ولم يكن كافيًا لرد هذه الهجمات مجرد أن تعترض الحكومة على قرار بتحرير الأسعار (كما اعترضت على خفض سعر الصرف). لقد عبرت الحكومة عن معارضتها في هذا المجال، وعن إصرارها على التحكم في الاتجاهات التضخميَّة، بقفزة في اعتماد الدعم المباشر للأسعار. كان صافي اعتمادات الدعم 11 مليون جنيه (1972) وزاد إلى 89 مليون جنيه (1973) ثم قفز إلى 322 مليون جنيه (1974) حسب تقديرات الميزانية، ووصل فعليًّا إلى 330 مليون جنيه. والحقيقة أن اعتمادات الحكومة لضبط الأسعار المحلية تجاوزت هذه الأرقام الصريحة، فالسكر المستورد – على سبيل المثال – كان يتلقى دعمًا مباشرًا (يدخل في نطاق الأرقام السابقة) ولكنْ، كان هناك دعمٌ آخر غير مباشر، يتمثل في تثبيت سعر السكر المنتج محليًّا عند مستوى يقل كثيرًا عن السعر العالمي. وما ينطبق على السكر المنتج محليًّا، ينطبق طبعًا على عديد من السلع الأخرى (كمنتجات نهائية أو كمستلزمات إنتاج)، بالإضافة إلى استمرار إنفاق الدولة على الخدمات المجانية.
ومع ذلك ارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين بنسبة 10% (حسب البيانات الرسمية)، وكانت نسبة الارتفاع أعلى في قسم الطعام والشراب (15%- وهذا القسم يمثل أكثر من 50% من استهلاك الأسرة المصرية) (107)، إلا أن التقديرات غير الرسمية ذكرت أن الارتفاع الفعلي في الأسعار بلغ نحو 20% في ذلك العام(108). ويعني كل هذا انخفاضًا حقيقيًّا في متوسط الأجر، وتدهورًا ملموسًا في مستوى معيشة أصحاب الدخول الثابتة، رغم كل اعتمادات الدعم. وهذه نتيجة منطقية؛ فالتحكم في الاتجاهات التضخمية (وفي الأسعار)
لا يمكن أن يتم بإجراء واحد يتيم، وإنما بمجموعة من السياسات المتكاملة، وفي غيبة هذه السياسات، أو بالأصح في وجود مجموعة من السياسات المضادة لتثبيت الأسعار، كان لا بد أن تتهاوَى قرارات الدعم، فهي في هذه الحالة تحمل عوامل هزيمتها في داخلها. إن صندوق النقد له سياسات متسقة منطقيًّا، وهو يعترف بأن هذه السياسات تؤدي عادة إلى رفع الأسعار (وإن كان الارتفاع المتوقع من سياساته أعلى كثيرًا مما يزعم). ولكن السلطات المصرية أرادت أن تنفذ سياسات الولايات المتحدة والهيئات الدولية في الانفتاح، وأن تمنع في نفس الوقت ما يترتب عليها حتميًّا من انفلات في الأسعار. والأداة المستخدمة (الدعم) لتحقيق هذا الهدف كان أعجز من أن تواصل الصمود طويلاً ضد هجمات العوامل المحدثة للتضخم من كل جانب.

ب- فالميزانية العامة مثقلة بعجز كبير (653 مليون جنيه عام 1974 مقابل 386 مليون عام 1973)؛ ووفقًا للبيانات النقدية بلغ إسهام الجهاز المصرفي في تمويل هذا العجز 320 مليون جنيه، وهذه القفزة في عجز الميزانية يفسرها إلى حد كبير أن إعانات الدعم زادت بنسبة 270%، في الوقت الذي لم تزد فيه الإيرادات الجارية إلا بنحو 12%، وهاتان النسبتان تبلوران التعارض غير المحتمل بين الأهداف، فالنسبة الأولى تشير إلى محاولة الحكومة للمحافظة على مستوى المعيشة للجماهير العاملة، والنسبة الثانية تكشف انخفاض معدل الزيادات في الإيرادات الحقيقية، فالمؤسسات العامة (وخاصة أرباح المؤسسة العامة للقطن) أسهمت به 20% من الزيادة المحدودة في الإيرادات الجارية، والرسوم الجمركية (أكبر بنود الإيرادات) زادت فقط بنسبة 16% رغم تضاعف قيمة الواردات (بسبب المتأخرات في السداد). ولا شك أن زيادة الإيرادات الحقيقية للموازنة العامة؛ لتمويل الدعم تمويلاً غير تضخمي، لا يمكن أن يتحقق إلا باستحواذ الدولة على نصيب متعاظمٍ من الفائض الاقتصادي الذي يبدد على يد أصحاب الدخول العليا.
وبشكل عام، فإن الموارد الحقيقية لمصر محدودة بالناتج القومي الإجمالي، وهي لا يمكن أن تتسع لتمويل التزامات الدفاع الوطني؛ ولتمويل الاستثمارات الضرورية؛ ولتثبيت (ولا نقول رفع) مستوى المعيشة للجماهير العاملة.. ثم أيضًا لتوفير البذخ للبعض، إن السياسة الاقتصادية كان يبدو أنها أمام خيارين: فإما أن تزيد إيرادات الخزانة زيادة حقيقة، وإما أن تضغط (أو تلغى) التزاماتها بالنسبة لاعتمادات دعم الأسعار.
ولكنَّ الحكومة ابتدعت ومارست مسارًا ثالثًا؛ فأصرت على مواصلة الدعم دون زيادة مناسبة في الإيرادات الحقيقية. وإذا تذكرنا المناخ السياسي العام الذي تحدثنا عنه، فإنه يبدو أن الحكومة أقامت حساباتها على فرض تدفق هائل من المعونات يسد الفجوة، والنتيجة العملية التي تمخضت عن ذلك كانت سد الفجوة بزيادة كم الإصدار النقدي، الذي حافظت به الحكومة (شكليًّا) على قدر كبير من التزاماتها المعلنة، فالعاملون يقبضون رواتبهم بانتظام، والاعتمادات تخصص على الورق لهدف الدعم. ووصل البعض من ذلك إلى أن سياسة الدعم على هذا النحو كان "لها أثرها السلبي على ارتفاع الأسعار في الداخل؛ نتيجة لما تضيفه من عبء على ميزانية الدولة، مما قد يضطرها إلى الالتجاء للاقتراض من البنك المركزي لتمويل هذه السياسة"(109).
ولكنني لا أعتقد أن الحصاد النهائي لأثر الدعم على الأسعار كان بالسالب، ولكنه من ناحية أخرى، لم يكن بالإيجاب بالقدر الذي يبدو من أرقام الاعتمادات، وفي كل الأحوال لم يكن ممكنًا لسياسة إبقاء الدعم أن تستمر على هذا النحو طويلاً، فالتزايد في طبع البنكنوت بهذه المعدلات مسألة خطيرة، ويُضاف إلى ذلك أن الدولة عمَدت إلى تغطية موقفها جزئيًّا بزيادة الاقتراض من الخارج، وبشروط صعبة لزيادة المعروض من السلع (بعد أن تلكأت المعونات الموعودة)، وهذه أيضًا مسألة خطيرة، ويستحيل عمليًّا الاستمرار فيها.
ج- والحقيقة أنه إذا كان إبقاء الدعم قد حدَّ - جزئيًّا ومؤقتًا - من التضخم، وحد بالتالي من عمق وسرعة إعادة توزيع الناتج القومي الإجمالي، إلا أن مجمل السياسات الاقتصادية كان يدفع في عكس هذا الاتجاه، ويحكم الحصار حول مفعول وإمكانية استمرار سياسة الدعم؛ فوفقًا لتوجيهات القيادة السياسية، والجهات الخارجية، تحولت بسرعة شعارات "تحرير" القطاع الخاص، إلى فوضى شاملة، فتكاثرت الأنشطة الطفيلية، وانتشرت كأورام سرطانية تفتك بالنسيج الاجتماعي في كل الاتجاهات، وهذه الأنشطة (المضاربة والتهريب والسوق السوداء والسرقات والعمولات و الرَّشاوَى.. إلخ) شكلت شبكة مترابطة للنهب واستخدمت هذه الفئة الصاعدة إمكانياتها المتنوعة (وعلى رأسها التوسع في إقامة العلاقات العضوية مع مستويات الغدارة الحكومية المختلفة) في الاستفادة من جو التضخم؛ لفرض فوضى متزايدة في نسق الأسعار. لم "تتحرر" الأسعار لتصبح أكثر عقلانية ومتسقة مع تكلفة الإنتاج، أو مع الأسعار العالمية كما زعم صندوق النقد، ولكن لتصبح خاضعة للأهواء، ولقدرة أصحاب الأعمال، ومبرمي الصفقات على تعظيم نصيبهم من كعكة الناتج القومي الإجمالي، ولم تنج اعتمادات الدعم نفسها من استنزاف هؤلاء الناس، وأصبحت هذه حجة إضافية تُستخدم ضد مبدأ الدعم، مع أن حقيقة أن هذه الفئة تلتهم جزءًا من اعتمادات الدعم يمكن أن تكون حجة إضافية لتصفية الأنشطة الطفيلية.
إلا أن تصفية الأنشطة الطفيلية لم تعد ميسورة؛ فقد انتشر أصحاب هذه الأنشطة بسرعة رهيبة، مستفيدين من كل الظروف المواتية المتاحة، وبالتالي غلظ قوامهم، وأصبحوا يملكون قدرة ذاتية على حماية مصالحهم ومواقعهم (إذا كان هناك من يكفر في مهاجمتها). ولكن لم يكن في قيادة السلطة من يفكر في مثل هذه المحاولة، بل كانت الاختيارات السياسية لقيادة السلطة تسبغ الحماية وتوفر الأمان. فالمساس بفئة الأغنياء الجدد يتعارض تمامًا مع مبدأ الانفتاح كما أملته الجهات الغربية، وقبلته القيادة المصرية، وكانت الحجة النظرية بالمناسبة أن هؤلاء الأفاقين الأوغاد هم مناط الأمل لإنهاض مصر والاقتصاد المصري!.
كان ممنوعًا – إذن - تصفية الأنشطة الطفيلية التي تولدت ثروات من غير عمل منتج، والتي تستحيل متابعتها في حالة تحصيل ضرائب (وهي نية لم تكن موجودة على أية حال) وترتب على كل ذلك تعذر زيادة إيرادات الميزانية، بل لم يكن ممكنًا منع استنزافها، وكان لا بد أن تتغلب في النهاية فوضى ارتفاع الأسعار على محاولات التحكم.
د- وقد نشير بشكل خاص إلى هدف التركيز على تعمير منطقة القناة (لأسباب استراتيجية) في ظروف فتح باب العمل في الأقطار المجاورة لعمال الإنشاء بلا ضابط (كهدف للانفتاح المرسل). إن الاستثمار في قطاع التعمير يولد بطبيعته ضغوطًا تضخمية (حيث إنه تيار من الإنفاق النقدي لا تقابله زيادة في الإنتاج السلعي)، وقد أدت المبالغة والفوضى في حسابات التكلفة، وندرة العمالة المدربة (نتيجة الهجرة) إلى مضاعفة النتائج التضخمية للتعمير، وإلى تشويه هيكل الأجور، وتسريع إعادة توزيع الناتج القومي لصالح أصحاب الأعمال.
هـ- إن حديثنا السابق أشار إلى أن قرار الحكومة بمواصلة التحكم في الأسعار، عارضته الأهداف والسياسات الأخرى، فأصابته عوامل التعرية وتآكل، ولكن أشاع المسئولون (لتبرير الخيبة) أن معدلات التضخم التي واجهناها بدءًا من عام 1975 كانت في الأساس مستوردة، بمعنى أن ارتفاع أسعار الواردات أدى إلى ارتفاع الأسعار في سوقنا المحلي. ولكن هذا التحديد للتضخم المستورد كانت تكفي لهدمه دراسةُ كريمة كريم، التي أثبتت أن الأثر الكمي لارتفاع أسعار الواردات، لم يكن المكوِّنَ الأساسي لارتفاع الأسعار داخل السوق المصرية (110). وقد عضدت هذه الدراسة نتائج دراسات أخرى لعدد من الاقتصاديين الوطنيين، أوضحت أن المتغيرات الأساسية التي أفضت إلى ارتفاع الأسعار، لا تخرج عن دائرة التحكم للدولة؛ أي أن التحكم في الأسعار كان ممكنًا من خلال سياسات اقتصادية متكاملة وملائمة(111).
ونحن نرفض طبعًا فكرة التضخم المستورد بالتحديد الذي طرحه الاقتصاديون الرسميون. ولو حصرنا بحثنا في إطار حسابات اقتصادية بحتة واستاتيكيَّة، فإن الرد الذي قدمته كريمة، يكفي - كما قلنا - لدحض هذه الفكرة. إلا أننا نرفض في الحقيقة تحليل أسباب التضخم بمنهج وحيد الجانب واستاتيكي؛ ولذا نختلف أيضًا مع منهج ونتائج الدراسات الأخرى التي أشرنا إليها. فبالمنهج المركب، وبالتحليل الديناميكي وفق مفهوم التبعية، لا يكون كم الإسهام المنخفض للأسعار الخارجية في مركب التضخم في سنة معينة، أساسًا مقبولاً للقول بأن التضخم الذي عانيناه منذ 1974 كان مشكلة داخلية في الأساس. كذلك لا يكفي أن نرصد أن غالبية المتغيرات الاقتصادية المؤثرة في معدلات التضخم مقيمة وعاملة داخل النسق الاقتصادي المصري؛ كي نستنتج أن التحكم في الأسعار ممكن. إن التضخم – في حالتنا المحددة– هو أساسًا اختلال في العلاقة الملائمة بين التدفقات النقدية من ناحية وتدفقات السلع والخدمات من ناحية أخرى، أو هو – حسب التعبير الشائع – نقود كثيرة تطارد سلعًا وخدماتٍ قليلة. والمتغير الأول (النقود) يتحدد بسياسة الإصدار والائتمان والمتغير الثاني (السلع والخدمات) يتحدد بقدرات الاقتصاد القومي على الإنتاج، وعلى نتائجَ تعامله مع الأسواق الخارجية، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن كل هذه المتغيرات تظل تابعة للسلطة السياسية (بكل ما تمثله اقتصاديًّا واجتماعيًّا) صاحبة الصلاحيات الواسعة في صياغة هذه المتغيرات، وفي ترتيبها والتعامل معها.
والقول بأن في وُسْع الدولة أن تتحكم في الأسعار من خلال سياسات اقتصادية متكاملة وملائمة، ينطوي على فرض أن هذه السلطة (أو الإدارة المركزية) مستقلة، وقادرة على التعامل مع المتغيرات المختلفة وفق سياسات اقتصادية رشيدة تتخذها بعيدًا عن تسلط القوى الخارجية وحلفائها في الداخل. هذا الفرض (الاستقلال)، وهذه النتيجة (إمكان التحكم في الأسعار) يبرران بالفعل الحديث عن انفجار التضخم باعتباره مشكلة داخلية. ولكن كل هذا لا علاقة له بما نحن بصدد تفسيره في حالتنا. فالسلطة صاحبة الصلاحيات الواسعة (في الدول التابعة) توجه من الخارج، وسياساتها الاقتصادية (التي تفضي - ضمن ما تفضي - إلى معدلات معينة من التضخم) تحدد في جوهرها من الخارج. ومن هذا المنطلق ينبغي على الاقتصادي الوطني أن يكشف أن المتغيرات المُفضية للتضخم تخرج عن دائرة التحكم للدولة "الرسمية"، وأن انفجار التضخم بهذا المعنى، لا يكون مشكلة داخلية في الأساس. ليست القضية أن يقدم الاقتصادي وصفة تبدو معقولة لمكافحة التضخم، فأهم من ذلك أن تكون "الوصفة" قابلة للتشغيل، ويتطلب ذلك تحديد أن السبب الأول لإعاقة التشغيل يكمن في السلطة "الفعلية" الموجودة بالخارج، وفي التشويهات التي أحدثتها في البنية الاقتصادية والاجتماعية لتنسيق مع مصالحها وسياساتها.
من هذا المنطلق لن نحاكمَ العوامل الخارجية، ونعتبرها السبب الأول لانفجار التضخم، بمعيار أثر أسعار السلع المستوردة على هيكل الأسعار المحلية في سنة معينة؛ فهذا المعيار مفيد فقط في ظل إدارة مستقلة، ولكن في حالة الدولة التابعة تحاكم العوامل الخارجية بمعيار سياسة الانفتاح بشروط الدول المسيطرة، والتي لا تعني بالنس






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس