عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:14 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(1) المجالات والتسهيلات:
أ- كان هناك اختراقٌ خطير آخر، للاستقلال الاقتصادي تمثل في القانون 43 لسنة 1974 – (استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة) (112). وقد أشرنا في بداية الفصل إلى الجو الذي أحاط بمناقشة وإقرار هذا القانون، كانت الوعود بفيض من المنح والمعونات، تصاحبها وعود مماثلة بتدفق مشروعات الاستثمار المباشر. فقط نفتح الباب، ونترك لها باقي المهمة! وحدث أيامها أن ارتفعت أصوات تنبه إلى بدهيَّة أن تجارب الدول التابعة في الاستسلام لهذه الآمال كانت بلا أساس، "وأن الاعتماد على قوانين السوق وحوافز الربح يدفع الجزء الأكبر من رءوس الأموال الأجنبية الخاصة، إلى الانسياب تلقائيًّا نحو الدول الصناعية، وليس نحو الدول النامية. ففي الأولى (مهما فعلنا) أمان أكبر، وعائد أعلى.
وهذا الكلام صحيح، بالذات في مجال الصناعات المتقدمة ذات التكنولوجيا المعقدة والسريعة التجدد، وهو المجال الذي نتمنى أن تتقدم إليه المشروعات الغربية"(113) ولكن مثل هذا الكلام، لم يكن يجد من يسمعه، ورغم مرور الأعوام، ووضوح الخبرة العملية، ظل الأفَّاقون يشيعون الآمال؛ بحيث كان علي الجريتلي مضطرًا في عام 1977 إلى التذكير والتحذير "في ضوء التاريخ الحديث، من الإسراف في التفاؤل بشأن احتمالات ورود المال العربي الخاص؛ إذ يئُول معظم فائض النفط للحكومات العربية والهيئات الحكومية المتخصصة في استثماره، بينما نصيب القطاع الخاص منه ما زال ضئيلاً، فضلاً عن قلة عدد رجال الأعمال العرب في غير مجال التجارة" (114).
ب- وقد اشتمل القانون 43 على تنازلات سخيَّة للمستثمرين الأجانب، شملت إعفاءات ضريبية جمركية، وأباحت للمشروعات - المنشأة وفقًا لأحكام هذا القانون - حقَّ الاستيراد، وفتح حسابات بالنقد الأجنبي تستخدمها دون إذن أو تراخيص، خاصة لدفع قيمة وارداتها السلعية والاستثمارية، والمصروفات غير المنظورة، ولسداد أقساط القروض الخارجية وفوائدها، أو لأية أغراض لأزمة لهذه المشروعات، ولكن أهمّ من ذلك، كان اعتبار هذه المشروعات من شركات القطاع الخاص، حتى إذا كان الشريك من القطاع العام، وترتب على ذلك إبعاد المشروعات المشتركة من دائرة القوانين والتنظيمات المحددة للقطاع العام، والتي تيسر التخطيط المركزي. ويعني ذلك كما قال فؤاد مرسي أن "نظام الاستثمار الأجنبي سوف يشكل بمشروعاته اقتصادًا قائمًا بذاته داخل الاقتصاد المصري".. بل "ويبدو الخطر من احتمال تحول القطاع الأجنبي داخل الاقتصاد المصري، إلى قطاع ثالث قائد"(115)، وهذا القطاع يخرجه القانون أيضًا عن سيادة الدولة، فقد نص على ضمان بعدم التأميم، وهو نص يتعارض مع المادة 35 من الدستور، وقد علقنا أيامها بأن هذا النص "لا يؤكد ثقة المستثمر الأجنبي.. بالعكس، وهو يشكك المستثمر في مدى جدية الضمانات التي نقدمها، وفي مدى استعدادنا لاحترام هذه الضمانات" (116)؛ لأن القانون الحالي – كما يقول علي الجريتلي – "لا يقيد الحكومات المستقلة. والمبدأ المستقر دوليًّا، هو أن التأميم حق غير منازَع فيه للدولة ذات السيادة، بشرط دفع تعويض عادل للمستثمرين الأجانب. وقد أوفت مصر بالتزاماتها كاملة في هذا الصدد، في أعقاب التأميم الشامل، ودفعت قُرابة ثمانين مليونًا من الجنيهات الإسترلينية للحكومات المعنية، وتمت المفاوضات الخاصة بالتعويض بإشراف البنك الدولي" (117). ومن الطريف أن نذكر هنا أن الاتفاقيات المختلفة التي وقعتها الحكومة المصرية مع الدول صاحبة الاستثمارات المحتملة؛ بهدف التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات لم تتضمن نصًا يمنع التأميم، وهذا طبيعي؛ لأن الدول "المحترمة" التي وقعت معنا الاتفاقيات رفضت أن يكون هذا من الضمانات المنصوص عليها؛ لأنها لا يمكن أن تلتزم من ناحيتها بشيء كهذا.
ج- وقد توسع القانون 43 في المجالات المفتوحة أمام رأس المال الأجنبي، فوفقًا للمادة الثالثة، نفتح الباب في التصنع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل وغيرها من المجالات – استصلاح الأراضي البور الصحراوية واستزراعها، ومشروعات تنمية الإنتاج الحيواني والثروة المائية، ويكون هذا الاستصلاح والاستزراع بطريقة الإيجار طويل الأجل (50 سنة يجوز مدها إلى مدة أو مدد تصل إلى 50 سنة أخرى) – مشروعات الإسكان – شركات الاستثمار التي تهدف إلى توظيف الأموال في المجالات المنصوص عليها في هذا القانون – بنوك الاستثمار وبنوك الأعمال وشركات إعادة التأمين بالعملات الحرة – البنوك التي تقوم بعمليات بالعملة المحلية متى كانت في صورة مشروعات مشتركة مع رأس مال محلي مملوك لمصريين، لا تقل نسبته في جميع الأحوال عن 51%.
وأستأذن القارئ هنا في العودة إلى مقال مجلة الطليعة الذي ناقش إدخال المستثمرين الأجانب في كل هذه المجالات، على اعتبار أنه يحمل في صياغته نبض الانفعال في لحظة الصراع. سجل المقال أن القانون خرج على ورقة أكتوبر (التي كان الاستفتاء قد تم عليها منذ أيام)، وكانت الورقة تؤكد "ما جاء في ميثاق العمل الوطني من أننا نقبل المساعدات غير المشروطة، والقروض، كما نقبل الاستثمار المباشر في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديثة. وقالت ورقة أكتوبر: "إن هذا بالدقة هو خطنا".
* ولكنَّ قانون الاستثمار، حدد مجالاتٍ لا تدخل في هذا الخط، فلماذا يدخلُ رأس المال الأجنبي في مجال السياحة – مثلاً – رغم أنها قطاع لا يحتاج إلى مهارة تكنولوجية عالية تفتقدها؟ قد يقال: إن المقصود هو المستثمر العربي.. ولكن القانون لم يحدد.
* ويلاحظ بشكل عام أن القانون لم يضع ضوابطَ كافية تمنع أن يترتب على الاستثمار الأجنبي مزيد من العجز في ميزان المدفوعات. ينبغي أن نطمئن إلى أن قيمة ما ستحوله المشروعات الأجنبية من أرباح وفوائدَ سنوية، وكذلك ما ستدفعه لقاء استيراد قطع الغيار ومستلزمات الإنتاج، لا يزيد على ما يدخل بلدنا من نقد أجنبي في مختلف أشكال رأس المال المستثمر. قد يقال إن النص على أن مشروعات الاستثمار سيُسمح بها في نطاق الخطة القومية (م3) يحقق الاطمئنان المطلوب، وإن الخطة ستراعي هذا الاعتبار عند اقتراحها قائمة المشروعات. وهذا صحيح إلى حد ما – ولكن سوابقنا مع تخلُّف التخطيط والمتابعة في مراحلَ كثيرة، وتحديد مشروع القانون لبعض مجالات استثمار رأس المال الأجنبي، يجعل الإنسان يقلق عند السماح بالعمل في مجال كالنقل. فهو – كالسياحة – لا يحتاج خبرات فنية، ولكنه يختلف عن السياحة مع ذلك؛ فالسياحة مصدر للنقد الأجنبي، وبالتالي فإن تحويل أرباحها إلى الخارج هو تحويل لجزء من النقد الأجنبي الذي أدخلته إلى مصر. ولكن في حالة النقل سيحصل صاحب المشروع على إيراداته بالعملة المصرية ثم يصدر أرباحه بالنقد الأجنبي.
* نفس الأمر في حالة الإسكان فوق المتوسط والإداري الذي يدفع إيجاره بالعملة المحلية، فإن لصاحب هذه المساكن تحويل صافي العائد إلى الخارج بالنقد الأجنبي، في حدود 6% سنويًّا من المال المستثمر.
وبالمناسبة، فإن القطاع الخاص المصري، يتجه في مجال الإسكان إلى الإسكان فوق المتوسط، ولا يسهم في حل مشاكل الإسكان لجماهيرنا الواسعة إلا بأقل القليل.. ولكن أصحاب الدخول العالية لا يكتفون بهذا، بل يطلبون أن يتجه رأس المال العربي أيضًا إلى خدمتهم.. ثم يتحمل المجتمع كله مهمة تحويل عائد هذه الخدمة المقدمة إليهم!. نحن
لا نطلب ضوابطَ في صلب القانون، تضمن أن تكون الحصيلة العامة لكل المشروعات، في ميزان المدفوعات إيجابية.

* مسألة أخرى: السماح لرأس المال الأجنبي باستصلاح الأراضي البور، واستزراعها بطريق الإيجار طويل الأجل وتنمية الثروة المائية. وفي مصر بالذات.. يعني هذا أن يشاركنا رأس المال الأجنبي في عائد السد العالي الذي حاربنا بالسلاح لإقامته. وهذا غير مقبول، فالسد العالي ليس من الهياكل الارتكازية التي تقيمها الدولة كي يستفيد منها توسُّع الاستثمار الخاص؛ المصري والأجنبي. السد العالي ليس توسيعًا لميناء، أو مدًّا لبعض الطرق. السد العالي مشروع تكلف 400 مليون جنيه، ودفع كل مواطن جزءًا من دخله من أجل إنشائه، والطبيعي أن تعود كل ثماره إلى مجموع الشعب، وليس على حفنة من أصحاب المشروعات الخاصة.
* أيضًا.. لماذا نسمح ببنوك العملات الحرة التي ستنافس بنوكنا المصرية في تجميع المدخرات العربية ومدخرات المصريين في الخارج؛ كي توجهها إلى أعمال لا تخضع لأولوياتنا.. ولكن تخضع لأوامر المراكز الرئيسَةِ لهذه البنوك في العواصم الأجنبية؟!.
وأخطر من هذا: كيف نسمح بقيام بنوك خاصة أجنبية ومشتركة، وتقوم بعمليات بالعملة المحليَّة؟
إن البنوك وشركات التأمين هي خط الدفاع الأساسي للقطاع العام.. وهي الضمان الأساسي لإمكانية تمويل التنمية، فبدون السيطرة المركزية على الموارد والتحكم في إنفاقها وفق الأولويات.. كيف نتحدث عن تنفيذ خطة مستقلة طموحٍ؟
* أيضًا بالنسبة للمناطق الحرة. لا توجد أيَّة ضمانات في مشروع القانون تمنع استخدام موقع مصر الممتاز في منافسة الصناعة المصرية داخل السوق العربية والأفريقية. بل ولا توجد ضمانات كافية لمنع استخدام هذه المناطق ضد الصناعات المصرية داخل السوق المحلية" (118).
* إن أخطر ما في قضية الاستثمار الأجنبي هو إمكانية أن يتحول القطاع الأجنبي إلى قطاع قائد، فهذا التحول الخطير يعني أن البنية الاقتصادية قد تكيفت تمامًا مع وضع التبعية. ومسألة أن هذا الاحتمال خطير كان من مسلَّمات النضال الوطني في مصر، فطلعت حرب كان يقول في عام 1920 إن "أملنا أن يخرج مواطنونا من هذه الأزمة (يقصد أزمة هبوط أسعار القطن عام 1920 بعد موجة التضخم الشديد التي صاحبت الحرب العالمية الأولى) بالعظات والعبر، وأن يستفيدوا من دروسها، فينظموا صفوفهم ويلجوا باب الاستقلال الاقتصادي، ويدخلوا ميدان العمل الصحيح، ويستثمروا أموالهم في مرافق بلادهم الحيوية على مختلف أنواعها، ويتكاتفوا فيما بينهم لترقية شئونهم الاقتصادية (...) ويمصِّروا الشركات الأجنبية التي يشكون في تصرفاتها بشراء أسهمها؛ حتى تكون لهم الكلمة العليا في جمعياتها العمومية"(119).. ولكننا في لَوثة ونكسة 1974 كنا في حاجة؛ لأن نناقش خطر الهيمنة الخارجية من أول وجديد!
(2) معركة السماح ببنوك أجنبية:
أ- على أيَّة حال، هذا التحول الكامل إلى بنية تابعة،
لم يكن متصورًا أن يتم في يوم وليلة، بل كان مقدرًا – عند الأقل من أصحاب النظرة الواقعية – أن الاستثمارات الأجنبية ستتلكأ؛ لأن الساحتين؛ السياسية والاقتصادية، لم تكونا قد هُيِّئتا بعدُ، على النحو الذي يكفيها ويرضيها، ولكن كان مقدرًا - في نفس الوقت - أن تتحقق خطوة هامة نحو الهدف، تكلفتُها بسيطة وأثرها حاسم. أقصد: محاولة الهيمنة على قطاع البنوك، وإنهاء الدور الحاكم للقطاع الحاكم في هذا المجال.

والحقيقة أن خطر عودة البنوك الأجنبية، كان القضية التي أثارت أكبر قدر من التحفظ والمعارضة، أثناء مناقشة مشروع قانون الاستثمار. وأعتقد أن هذا الموقف كان طبيعيًّا جدًا؛ لأن الخبرات المريرة للنضال الوطني – في هذه الجبهة بالذات – كانت ولا زالت حية في ذاكرة المعاصرين. وقبل المعاصرين وخبرتهم، كان إنشاء بنك مصر من النتائج الجوهرية لثورة 1919 الوطنية العارمة، وكان أجدادنا يدركون أن اقتحام القطاع المصرفي أساس للتحرك نحو الاستقلال الاقتصادي، وكان طلعت حرب يقول: إن "أموال البلاد معطلة؛ بعضها مُكتنَز، وبعضها في بنوك أجنبية، وكلاهما لا تستفيد منه البلاد شيئًا مذكورًا.
إن نظرة في تقارير هذه البنوك، تدلنا على أن الجزء الأكبر من أموالنا مستعمل خارج البلاد، في بونات على خزائن الحكومات، أو سَنَدات قروض الحرب، أو ما شابه ذلك من العمليات التي هي في مصلحة المساهمين فقط، ومصلحة الدول التابعة لها"(120). إلا أن قوى السيطرة الاستعمارية، كانت تدرك أهمية بقائها في هذا الموقع أداة أساسية لاستمرار سيطرتها؛ ولذا لم يكن التمصير سهلاً، وبعد أكثرَ من ثلاثة عقود من النضال، كانت البنوك الأجنبية في عام 1956 لا زالت تستحوذ على ما يزيد عن نصف جملة الودائع بالبنوك التجارية، وعلى ما يناهز نصف إجمالي قروض البنوك والكمبيالات المخصومة لديها (121). وكلنا يذكر تقرير وزير المالية والاقتصاد المصري حول دور البنوك الأجنبية، بعد تأميم قناة السويس؛ فقد استخدمت الدول الغربية هذه البنوك وسيلة للتخريب، وأصدرت إليها توجيهًا "بكف يدها عن إجراءات التمويل المعتادة؛ سواء في ذلك تمويل محصول القطن، أو التمويل الصناعي والتجاري، وكانت ترمي بذلك إلى إحداث تدهور في اقتصاديات البلاد لتثير اضطرابات عامة بها (122)، وأضاف الوزير أن "الأحداث أثبتت أن كثيرًا من فروع بنوك الدول المعتدية التي كانت تعمل في مصر، تمنح قروضها إلى عملائها في مصر؛ بناء على أوامرَ مباشرة تأتيها من الخارج. ومؤدَّى هذا أن سياسة الائتمان التي يقوم عليها الاقتصاد المصري كانت ترسم خارج البلاد؛ وفقًا لما تمليه مصالح غير مصرية– هذا على الرغم من أن النفوذ الذي كانت تملكه هذه البنوك الأجنبية، كان مستمدًا مما يتجمع لديها من أموال مصرية، وودائعَ يأتمنها المصريون عليها، ومدخرات يحتفظون بها لديها؛ إذ إنه لم يكن لديها بمصر رءوس أموال تُذكر" (123).
ووزير المالية والاقتصاد (صاحب هذا التقرير) كان
عبد المنعم القيسوني، ويشهد للرجل أنه عاد إلى تذكير الاقتصاديين المصريين، بمضمون الكلام السابق في مارس 1974؛ فقد أشار إلى دعوته لرؤساء البنوك الأجنبية في مصر في يوليو 1956، "وطلبت شخصيًا من رؤساء البنوك الأجنبية في مصر ألا يستغلوا وضعهم الخاص، ولا يستغلوا سيطرتهم على الموارد المتاحة تحت أيديهم للتأثير على الاقتصاد المصري؛ خصوصًا أننا كنا على أبواب موسم قطني جديد، وكان لا بد من تدبير الأموال لتمويل مشتريات القطن من المنتجين، وإعدادها للتصدرير إلى الخارج (...) ومن جهة أخرى كانت البنوك الأجنبية في مصر تتصرف إلى حد ما في موارد النقد الأجنبي المتاحة للبلد، وتعلمون حضراتكم أننا عندما أممنا قناة السويس قامت الدولة المستعمرة بتجميد أموالنا كلها لديها، وكنا متوقعين هذا، فحاولنا تهريب بعض هذه الأموال إلى دول أخرى قبل التأميم بثلاثة أو أربعة أيام؛ حتى لا تشعر هذه الدول بما كنا قد انتويناه تجاه قناة السويس، ولكن كانت الأموال التي تمكنا من توجيهها للخارج لا تزيد على 4 أو 5 ملايين من الجنيهات، وكانت البنوك الأجنبية - بطبيعة الحال - خاضعة لنظام الرقابة على النقد الأجنبي، ولكننا كنا نطبق الرقابة على النقد بشيء كبير من المرونة؛ بحيث إن البنوك الأجنبية كان في إمكانها أن تتصرف - إلى حد ما - في هذه الأموال: أموال الاعتمادات وحصيلة الصادرات.. إلخ، وفي طريقة استخدامها. طلبت منهم مراعاة المصلحة العليا للاقتصاد المصري في طريقة استخدامهم للأموال المحلية والأجنبية الموجودة تحت سيطرتهم. ولكنهم لم يستجيبوا لرجائي، وعملوا على تخفيض المبالغ المخصصة لتمويل القطن، كما عملوا على سرعة استنزاف مبالغ النقد الأجنبي التي كانت حرة تحت تصرفهم؛ بحيث يضعوننا أمام مشاكلَ اقتصادية داخلية وخارجية حرجة. وكان لا بد من اتخاذ إجراء مضاد، إجراء لحماية الاقتصاد المصري؛ ولمنع سيطرة الأجانب عليه، ولمنع تهديد الأجانب لنا، واستخدامهم لأموالنا المودعة لديهم لطعننا في صدورنا. وكان الرد الطبيعي على ذلك هو فرض الحراسة على بنوك الأعداء، ثم تمصيرها كليًا" (124).

للأسف نسي عبد المنعم القيسوني هذا الكلام بعد ذلك حين تولَّى قيادة ما أُسمِي بالمجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء، ولكن وقت مناقشة مشروع القانون لم يكن الجميع قد نسي بعد هذه الخبرة؛ ولذا عارض كل رجال البنوك الانفتاح في قطاعهم عند مناقشة قانون الاستثمار، وكان بين المعارضين أحمد زندو (محافظ البنك المركزي آنذاك) وحامد السايح (وكان رئيسًا للبنك الأهلي – وقد تغير موقفه بعد ذلك). ولكن ينبغي أن نشيد - بإعزاز خاص - بوقفة حسن زكي أحمد (الرئيس السابق لبنك القاهرة) الذي قاد ببسالة معارضة مجموعة البنوك، حتى أُقصِي من منصبه(125). إلا أن المعارضة لم تقتصر طبعًا على رجال البنوك، فقد تحدث رجال من مختلف الاتجاهات السياسية وعارضوا، ولكنْ هنا أيضًا، لعبت خمر الأحلام بالعقول الطيبة، وتمكنت العناصر المشبهوة من تنفيذ التوجيهات، فانفتح الباب أمام البنوك الأجنبية، وتتطلب هذه النتيجة وقفة خاصة.
ب- فمع أحلام تدفق المنح والمعونات، وأحلام تفجُّر البترول، وأحلام تدفق الاستثمارات الغربية، كانت هنا أيضًا أحلام أن تكون القاهرة سوقًا مالية للبترودولارات. وممثلو الحكومة كانوا يسربون هذا الأمل الخادع؛ فيدغدِغون الأعصاب، أثناء مناقشة مشروع القانون 43 في اللجنة المشتركة، وحين اتضحت المعارضة القوية لموضوع البنوك، كان وزير التأمينات يقول مثلاً: "نريد أن تكون القاهرة سوقًا مالية، كما كانت لندن في الماضي، خاصة أن هناك بلايين الجنيهات فائضٌ في الدول العربية، إذا
لم نشعرها بأننا ننفتح اقتصاديًّا، فستذهب كل هذه الأموال إلى تشيزمانهاتن في الخارج" (126).

ويضيف شريف لطفي، أن الهدف من قانون الاستثمار "ليس مقصورًا على الاستثمار في مجال الصناعة والزراعة فقط، بل إن أول أهدافه أن تتحول القاهرة إلى مركز مالي ونقدي دولي، وهذا هدف رئيسي، ومن ثم فإن كل ما يتعلق بالبنوك، وببورصة الأوراق المالية، يهدف إلى تحقيق هذا الهدف". وعلى ذلك، صوَّرت البنوك الأجنبية، على أنها ناقل للأموال إلى مصر، بل لفيض من الأموال، "فلا مجال للمقارنة بينها وبين البنوك التي كانت موجودة من قبل؛ كبنك باركليز مثلاً، فبنك باركليز كان عبارة عن فرع في مصر، وكان يتعامل في أموال المصريين فقط، ولم يكن يأتي بأية أموال من الخارج"(126) (وزير التأمينات) ويبدو أن أغلب المعارضين ابتلعوا وقتها هذا الطعم، فلم يتساءل أحدهم عن حقيقة أن هذه البنوك ناقلة للأموال من الخارج إلى الداخل، وعما إذا كانت قدرتها في ذلك تزيد عن قدرة البنوك المصرية. "فالبنوك المصرية والعربية والمشتركة تستطيع بما لها من مراسلين ومساهمات في بنوك (الكونسوريتا) العالمية المشتركة، وما تتمتع به من تسهيلات ائتمانية طائلة، تمويل التجارة الخارجية والاستثمار دونما حاجة إلى البنوك الأجنبية" (127). ولكن هذا التقييم – الواقعي – الذي كتبه علي الجريتلي (بعد سنوات من إقرار المصيبة) لم يجد أيامها من يقوله؛ لأن الأحلام كبست حتى على عقول المعارضين.
ج- كان الانفتاح في القانون 43 يسمح بقيام بنوك أجنبية 100% بحجة أنها فروع لبنوك خارجية، وتتعامل بالنقد الأجنبي فقط، وفي هذا النطاق، تمارس كل الأنشطة المصرفية؛ ابتداء من تقبل الودائع، إلى الإقراض طويل الأجل وقصير الأجل، حسْب نص المادة (3 – 5) فإن هذه البنوك تقوم "بالعمليات التمويلية الاستثمارية بنفسها؛ سواء تعلقت بمشروعات في المناطق الحرة، أو بمشروعات محلية أو مشتركة، أو أجنبية مقامة داخل جمهورية مصر العربية، وكذلك لها أن تقوم بتمويل عمليات تجارة مصر الخارجية". وقيل في الحوار إن "هذا السماح لا يضيف جديدًا؛ لأن هذا الفرع لا يزيد عن الأصل الموجود في لندن أو باريس، ونحن نتعامل مع هذا الأصل الآن، يبقى الجديد أن البنك يكون قريبًا منا، وفي هذا تسهيل للعمل".. وأشير أيضًا إلى أن "استخدام كلمة فرع في وصف أحد هذه البنوك، يقصد به فقط أن يتبع المركز الأم، وليس الشكل القانوني، فهذا الشكل يخضع لقانون البنوك، الذي يشترط أن تأخذ البنوك العامة في مصر شكل شركات مساهمة مصرية، خاضعة لرقابة البنك المركزي".. وقد فاتت كل هذه المغالطات على جهة المعارضين فانسحبوا بسرعة من موقف المعارضة المبدئية للبنوك الأجنبية إلى خط الدفاع الثاني: خط البنوك المشتركة التي تتعامل بالجنيه المصري، وقد عبر عن ذلك رئيس اللجنة المشتركة (جمال العطيفي) وكان من الأقطاب البارزين لجبهة المعارضة، فقال "أعتقد أنه لا اعتراض على البندين 4، 5 وأن النقاش كله يدور حول البند 6" (128).
وبالفعل تمكنت المعارضة من تكريز نيران شديدة، ومبررة تمامًا، على هذا البند؛ فقد تم تجاوز كل المحاذير السياسية والاقتصادية الخاصة بفروع البنوك الأجنبية (إمكانيات التآمر السياسي – الإخلال باستقلال ومركزية السياسة الائتمانية – استنزاف الكوادر المدربة من البنوك المصرية) بحجة أن أموالاً هائلة ستأتي من ورائها، ولكن ما هي الحجة التي يمكن أن تبرر احتمال كل هذه المخاطر وأكثر منها، في حالة البنوك التي تتعامل بالجنيه المصري؟ بنوك الاستثمار أو فروع البنوك "هذا موضوع آخر. إنما البنك الأجنبي الذي يجيء ليتعامل بالعملة المحلية، ماذا سيحمل معه؟ سيحمل رأسماله فقط، أي أنه لن يأتي بأي تمويل خارجي، يعني لن تحدث أية إضافة للاقتصاد القومي. بالعكس الودائع من عندنا (وسيزاحم البنوك المصرية مزاحمة غير متكافئة في اجتذابها) وعمليات البنوك التجارية مربحة جدًا، وبعد هذا سألتزم أنا أن أحول له أرباحه بالعملة الأجنبية. هذه هي المشكة التي تواجهنا فقط. كل رجال البنوك بلا استثناء، معترضين على هذا النص" (جمال العطيفي)(129).
ماذا كانت الحجة المقابلة؟ لم يكن أمام ممثلي الحكومة (وأبواق الجهات الأجنبية) إلا أن يلوِّحوا مرة أخرى بالأحلام، فأعلن مصطفى مراد أن "هذا البند أساسي. وهو يتيح للمصارف الأجنبية أن تتعاون مع المصارف المصرية في تمويل عمليات داخلية، وقبل ودائع داخلية مقابل الهدف الأساسي، وهو تقبل ودائع من الدول العربية"؛ أي أن الأمر صفقة الموافقة على البنوك المشتركة في مقابل مجيء الودائع العربية، وزاد وزير التأمينات من توضيح الوقف فقال: "يجب أن نقضي على الانغلاق الذي كنا فيه، وننفتح انفتاحًا حقيقيًّا، وأؤكد لكم أنه إذا قصرنا معاملات البنوك على الاستثمارات، ودون المعاملات المصرفية في الداخل، فلن يأتي إلى مصر أي بنك.
عمليات البنوك متكاملة، ولا يمكن أن نجزئها. إن أنصاف الحلول، وعملية مواربة الباب، لن تحقق ما نريده"(126).. وكالعادة، أثبت هذا الكلام فعاليته، فمرت الموافقة على البند 6، من حيث المبدأ، واضطر المعارضون إلى الانسحاب لخط الدفاع الثالث: من يكون الشريك المصري في هذه البنوك المشتركة؟
د- قال المعارضون إن الشريك مع البنك الأجنبي، ينبغي أن يكون بنكًا من بنوك القطاع العام، وكانت حجتهم أن الشريك الأجنبي سيكون بنكًا أو أكثر من البنوك الدولية الكبرى، وبالتالي ستمثل حصة رأس المال الأجنبي في الجمعية العمومية ومجلس الإدارة - ككتلة منظمة بمندوبين ملتزمين، فإذا كان التمثيل المصري المقابل من مساهمين مبعثرين، فإن كتلة البنك الأجنبي، يمكن أن تحكم سياسات البنك المشترك وتشك الإدارات وفق ما تراه، رغم أنها تمتلك 49% فقط من رأس المال بنص القانون. وقد عرض حسن زكي أحمد خبرته في هذا المجال "إنني كبنك القاهرة، أساهم بنسبة 40% في بنك القاهرة – عمان، وفي كل سنة أنا الذي أمثل الأغلبية – رغم أنني أملك 40% من الأسهم – لأنه قليلاً ما يتفق رأي الـ 60%" (126). وغني عن البيان أنه إذا تمكن الشريك الأجنبي من السيطرة الفعلية على سياسة إدارة البنك المشترك؛ فإن ضربة أخرى قاسية تكون قد وجِّهت إلى سيطرة الدولة على السياسة الائتمانية. ولكن ممثلي الحكومة (حسب التعليمات) كانوا لا يقبلون أقل من التسليم الكامل واستخدموا في النقاش حُججًا عابثة، فقال بعضهم إنه لا بد من إعطاء القطاع الخاص المصري فرصة المشاركة أيضًا في البنوك التجارية، فالقطاع الخاص من "مصريين أمناء على بلدهم، يهمهم ارتفاع قدرِه"، وأضاف وزير التأمينات آنذاك، أنه ليس مقبولاً في "عهدنا المشرق" أن نقول للمصري إنك لست محل ثقة؛ ولذا فإن النص على قصر المشاركة على القطاع العام دون الأفراد، إساءة لشعور المواطنين المصريين. وكان طبيعيًّا أن يرد رئيس اللجنة (العطيفي) بأن المسألة ليست مسألة ثقة أو عدم ثقة في المواطن المصري، ولكنها مسألة تنظيم؛ لضمان سيطرة الدولة على قطاع المصارف.. وهذه هي القضية، ولكن وزير التأمينات رد بتصريح بالغ الغرابة، فقال إنه يعتقد "كأستاذ جامعي، وأستاذ بنوك بالذات، أن البنك الأجنبي لا يأتي ليرسم سياسة هدم، ولماذا نفترض سوء النية، فنتوقع أن هذه البنوك ستأتي لتهدم"(129). وبالتأكيد كان التصريح بالغ الغابة، فقد كان بوسع المرحوم حسن شريف، أن يقول: إننا يقظون وقادرون على منع أي تخريب، ولكن أن يقال إن البنك الأجنبي بطبيعته لا يمكن أن يشترك في سياسة هدم، فإنَّ هذا – كما أوضحنا – كان يتعارض حتى مع خبرتنا المعاصرة. إلا أن المسئولين في تلك الفترة كانوا مستعدين لقول أي شيء، بل وصل الحال بعبد العزيز حجازي، إلى وضع تعريف جديد للملكية العامة للمجتمع؛ ففي العادة يأخذ ذلك شكل ملكية الدولة، وهي في هذا تختلف عن الملكية الخاصة التي هي ملكية فرد، أو بعض أفراد، وقد طالب المعارضون – كما سبق أن ذكرنا – بأنه إذا كان ولا بد من إنشاء هذه البنوك، فإن الشريك المصري الذي يملك 51% من الأسهم، يجب أن يكون أحد بنوك القطاع العام؛ وذلك حتى نظل مرتبطين – بأي قدر – بمبدئنا القديم، الذي كان ينص على أنه "يجب أن تكون المصارف في إطار الملكية العامة" (الميثاق – الباب السادس).
لقد طالب المعارضون بهذا، فإذا بحجازي يقول إنه "عندما نتكلم عن إطار الملكية العامة، فإنما نعني أن الغالبية فيها، أو الجزء الأكبر منها، السيطرة عليه للمصريين".. "وبالتالي فإنني أعتقد أن إطار الملكية العامة، محافَظٌ عليه بالكامل، في حدود النص الذي سبق أن شرحته؛ طالما أن الـ 51% في أيد أمينة وغير مستغلة" (130).. أي أن ملكية أي أصحاب أعمال مصريين "شرفاء" هي ملكية عامة!
و.. انتزعت الموافقة، ومر البندان 5، 6 من المادة الثالثة، بلا أي تعديل.
(3) تقييم لمعركة البنوك:
أصبح مطلوبًا الآن تقويم هذه المعركة، وما قيل فيها وحولها. وفي اعتقادنا أن المعارضين ابتلعوا فكرتين ساذجتين أو غير صحيحتين: الفكرة الخاصة بتحويل القاهرة إلى سوق مالية دولية. والفكرة الأخرى خاصة بدور فروع البنوك الأجنبية.
أ- وبالنسبة للمفهوم الأول، نبدأ بسؤال تبدو إجابته بدَهيَّة، ولكنها غابت مع ذلك عن الأذهان. والسؤال هو: ما هي السوق المالية؟ بشكل عام هي – ككل سوق – لقاء بين عرض وطلب. وتتميز السوق المالية بنوع السلعة التي تُتعامل فيها (أي: الأموال) وبنوع المؤسسات المناسبة لتنظيم التعامل في هذه السلعة المحددة. ويفترض هذا الوصف أن السوق المالية (محلية أو إقليمية أو دولية) ليست سوقًا عاملة في فراغ، فهي مرتبطة عضويًّا بنسيج النشاط الاقتصادي، فموارد السوق المالية (جانب العرض) هي نتاج عملية إنتاج اجتماعي، واستخدامات هذه الموارد (جانب الطلب) هي نتاج الحاجة إلى إعادة الإنتاج الاجتماعي وتوسيعه. وعلى ذلك تكون المؤسسات المطلوبة متطورة من داخلها لتحقق أهدافها المتنامية، وتخضع في هذا لمجمل التطورات في بنية المجتمع المعين، وفي بنيته الاقتصادية. (هذا صحيح إذا كان الحديث عن اقتصاد متمركز حول نفسه). والبنوك الغربية – ببنتها الحالية تشكلت وتطورت على نحو ملائم لمجمل التطورات التي حققتها هذه المجتمعات بشكل عام، ولكن لا يعني ذلك أن جوهر الوظيفة التي تحققها السوق المالية (ترتيب العلاقة بين العرض والطلب) ينبغي أن تؤدي دائمًا، عبر نفس المؤسسات في كل مكان وزمان.
هذا الإطار العام للتصور لم يكن حاضرًا كمدخل للبحث الجاد، فقد أطلقت شعارات السوق المالية الدولية، وانتشرت؛ كجزء من حملة التضليل العام وليس أكثر. وهذه الشعارات حققت مهمتها، فأزاغت الأبصار بعد تراكم المدخرات لدى الدول العربية النفطية؛ نتيجة رفع أسعار النفط. وقضية "إعادة تدوير" هذه الأرصدة الدولارية إلى الدول الغربية، وإلى الولايات المتحدة بشكل خاص، مسألة شغلت السياسيين الاقتصاديين في تلك الدول، فلم لا تدخل مصر في "اللعبة"؟ أليس مفيدًا لكل الأطراف العربية أن يكون جزء متعاظم من "إعادة التدوير" هذه إلى المنطقة العربية وإلى مصر؟ هذا التساؤل والتطلع من القوى الوطنية كان مشروعًا تمامًا، وإجابة التساؤل: نعم، ولكن كيف؟ هنا قيل على لسان المسئولين وأشباه المسئولين، كلام ساذج ومبتذل. قيل عن السوق المالية كلام عام كالذي نقلناه، فصرح بعضهم بأنها كسوق لندن في الماضي، دون أن يتذكر أن لندن أيامها
لم تكن فقط مركزًا ماليًا دوليًّا، ولكن مركزًا صناعيًا، ومركزًا سياسيًا دوليًا، وعاصمة لامبراطورية، وكأن كل هذه الاعتبارات لم تكن ذات تأثير مباشر على طبيعة وتشكيل – سوق لندن المالية الدولية في الماضي وحتى الآن. فكتب أحد التقارير الرسمية أنه "حتى تكون مصر سوقًا مالية، وسوقًا للودائع، لا بد من وجود خدمات حديثة، وفنادق مريحة.. إلخ(131)، ولكن أحدهم لم يكتف بهذه "الدعائم الأساسية" للسوق المالية الدولية فأطال في وصف الفنون الحديثة المستخدمة في الأسواق المالية الدولية الآن: التلكس والكومبيوتر والأزرار والأجهزة والدوائر التلفزيونية الخاصة التي تنقل على شاشتها آخر البيانات عن الأسواق الأخرى عبر التلستار..إلخ (132). ومثل هذا الكلام كان مقصودًا به إبهار المستمعين، وإقناعهم بأن حكاية السوق المالية، واجتذاب البترودولارات عن طريقها، مسألة لا يقدر عليها إلا "الخواجات" أصحاب هذه التكنولوجيا. ومع الانبهار لم يكن هناك من يتوقف ليلتقط أنفاسه، ويطلب بحث الموضوع بالتسلسل الطبيعي، فالهدف من إنشاء السوق المالية ينبغي أن يبحث أولاً، والمؤسسات المناسبة تبحث بعد ذلك، والتجهيزات التكنولوجية تأتي في آخر القائمة.

ليست القضية أن تكون القاهرة مجرَّد مركز إضافي من مراكز إعادة التدوير للبترودولار العربي، فالقضية موقع المحطة النهائية لسوق القاهرة الدولي. إن موقع العرض المرشح لتغذية سوق القاهرة المزعومة معروف، وهو الدول العربية صاحبة المدخرات، ولكن أين موقع الطلب؟ أين ستستخدم هذه الموارد؟ هل في الدول الصناعية الغربية أساسًا، أو داخل مصر والمنطقة العربية بشكل رئيسي؟ إذا كان الهدف هو الدول الصناعية الغربية، فإن البنوك الأجنبية تكون بالفعل أكفأ وأنسب للمهمة، فهي أدرى بظروف هذه الدول، وهي بالتالي أقدر على اجتذاب الودائع وتوظيفها، وهي أقدر على تقديم الاستشارات والخدمات، لمن يريدون توظيف أموالهم في استثمارات طويلة الأجل، ولمن يريدون الاحتفاظ بسيولة عالية؛ حيث تتوفر في الأسواق الغربية الأساليب والأدوات المتنوعة والمتطورة من أوراق مالية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، وكلها قابلة للتداول بيعًا وشراء من خلال أجهزة تعمل بدقة وسرعة. وكل هذا تقدمه فروع البنوك الأجنبية بفكاءة عالية من خلال اتصالاتها بمراكزها الرئيسية. إلا أن شبكة فروع البنوك الأجنبية – بهذا الشكل – هي مجرد قناة من قنوات التحويل، أو "إعادة التدوير"، إلى الدول الغربية. والأرباح الكبيرة التي تحققها من عمليات "الترانزيت" هذه، والتي تصدرها إلى الخارج، هي أيضًا قناة إضافية من قنوات التحويل. وإذا كان هناك من يتحدث عن سوق بيروت، وعن سوق البحرين، فإن هذه الأسواق لا يزيد دورها عما ذكرنا، وهو دور على هامش الأسواق المالية الدولية المركزية، وتابع لها، وإقامة سوق إضافية من نفس النوع مقرها القاهرة – بكل ما يتطلبه ذلك من تعديلات جذرية في المؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية – مسألة تهم البنوك والدول الغربية في المقام الأول، ولا تنتفع منها – على المستوى المحلي – إلا الفئات التي ترتبط مصالحها بتغيير النظام الاقتصادي بشكل عام، والفئات المتعاونة مع شبكة البنوك الأجنبية، وسوق الأوراق المالية بشكل خاص.
قد يقال إن الهدف مما كان يقال عن السوق المالية الدولية، هو إعادة تدوير البترودولار إلى داخل مصر، والمنطقة العربية، ولكن في هذه الحالة كان يسهل بقدر بسيط من التأمل استنتاج أن البنوك الأجنبية ليست وسيلة مناسبة للهدف؛ لأن هذا الهدف – ببساطة شديدة – يتعارض تمامًا مع استراتيجية هذه البنوك. فالبنوك الأجنبية مهمتها الأولى توظيف الأموال النفطية في خدمة الاقتصاد الغربي والأمريكي، وهي تحرص على أن يكون الكمُّ المُعاد تدويره إلى الدول التابعة (والدول العربية) محدودًا وموزعًا على هذه الدول وفق حسابات هذه البنوك، (وهي حسابات سياسية أولاً) وفي الأوجه التي تعيّنها. والتقاء الطلب العَربيّ مع العرض العَربي من البترودولار، على هذا النطاق المحدود، وبهذا الشكل غير المباشر (أي: عبر وسيط أجنبي) كان (ولا يزال) يتحقق فعلاً، ولم يكن يستدعي تشويه النظام المصرفي المصري، وتصفية استقلاله.
ب- وينقلنا هذا إلى فكرة إنشاء فروع للبنوك الأجنبية داخل مصر، وأنها ستجعل مهمتنا في التعامل مع البنوك الدولية أيسر، فالصحيح أن مهمة هذه البنوك هي التي أصبحت أيسر، مهمتها في السيطرة على موارد واستخدامات البترودولار داخل مصر. لقد تكلَّفت الاتفاقات السياسية، والترتيبات مع الهيئات الدولية، بفرض الوصاية الأمريكية على التدفقات الخاصة عبر قنوات البنوك، فأسرعت البنوك الأجنبية للاستحواذ عليها؛ كي تخرج بها عن تخطيط السلطات المصرية المركزية، ولتوظيفها على النحو الذي تمليه سياستها هي.
قال شريف لطفي: "إن البنوك الأجنبية في الماضي: كانت تستطيع أن تستثمر المدخرات المصرية في الخارج، وقد انتفى هذا الوضع كلية في ظل هذا القانون" (126)،
ولا أدري على أي أساس كان يجزم بهذه الثقة، وقد حدث على أية حال أن هذه البنوك لم تخيِّبْ ظننا، فهي لم تجلب مواردَ من الخارج، والودائع التي جمعتها بالنقد الأجنبي كانت في أغلبها ودائع من المصريين، وقامت بتوظيف قسم كبير منها في الخارج (انظر الفصلين الثامن والعاشر)، وعملياتها في مصر لم تكن في مجال الاستثمار إلا بشكل هامشي.

"هذه البنوك الأجنبية ماذا تعمل إذن؟ لا نستطيع أن نتجاهل أن البنك الأجنبي له أغراض سياسية، يأتي ويدخل السوق ويعطي السلف لناس قد لا يستحقون سلفًا: وهذا حصل في عدة بنوك أجنبية، (يعني البنك يروح فارش) ويقول الناس إن هذا البنك عظيم، فإذا سألنا لم يفعل ذلك، وهل هي مغامرة؟ فإن الإجابة هي أنه عمل ذلك؛ ليربط نفسه بناس أو شخصيات لها مفاتيح الدولة". هكذا حذر حسن زكي أحمد قبل وقوع الكارثة، ثم تساءل الرجل بعد شرحه: هل نحن مستعدون لهذا؟ وقال: مستحيل!(133)! ولكن ثبت للأسف أن المسألة "لا مستحيل ولا حاجة".
وبالمناسبة، فإن رقابة البنك المركزي لم تكن لتفعل شيئًا في هذه المواضيع، حتى لو كانت سياسة الدولة تتطلب ذلك، (وهي لم تكن تتطلب طبعًا في ظل الانفتاح)، فوفقًا للمادة 40 من قانون الرقابة على البنوك؛ فإن "على مجلس إدارة البنك المركزي أن يضع قواعدَ عامة تتبع في الرقابة على البنوك التجارية، ويجوز وفقًا لمقتضيات حالة الائتمان أن تتناول هذه القواعد تنظيم المسائل الآتية:
* تحديد نسبة ونوع الأموال السائلة التي يجب أن تحتفظ بها البنوك التجارية.
* تعيين الوجوه التي يمتنع على البنوك التجارية استثمار الأموال فيها، وتحديد الاحتياطات الواجب توافرها لمقابلة الأصول المعرضة لتقلبات شديدة في قيمتها، وتعيين الحد الأقصى لقروض البنوك التجارية واستثماراتها بالنسبة لأنواع معينة من القروض والاستثمارات.
كان هذا هو كل اختصاص البنك المركزي المصري في قانون الرقابة على البنوك إلا أن البنك المركزي كان إلى جانب هذه المهام، يمارس صلاحيات أخرى باعتباره مؤسسة بنوك، أي: كمالك للبنوك، وليس كمجرد رقيب عليها، وكان يملك بهذه الصفة أن يتدخل لإقراض عميل وتحديد المبلغ،
أو لعدم إقراض عميل آخر، وكل هذا لا يملكه كبنك في علاقاته بالبنوك الأجنبية والمشتركة؛ لأنها بنوك خاصة.

لقد أخطأ المعارضون – إذن - حين تجاوزوا عن مخاطر فروع البنوك الأجنبية، وحين خدعوا في دورها المزعوم لجذب المدخرات العربية، فبهذا الخطأ – أخذت البنوك الأجنبية وأنصارها زمام المبادرة، فبعد التسليم بأنها "تفتح أبواب الأمل"، أصبح بوسعها أن تفرض ما تشترطه لمجيئها، وهو فتح الباب أيضًا أمامها لتشارك في العمليات المصرفية بالجنيه المصري.
ج- ولكن إذا كانت هذه هي حقيقة أسطورة السوق المالية الدولية، وإذا كانت هذه هي حقيقة الدور الذي تلعبه فروع البنوك الأجنبية، فهل كان هناك طريق آخر لإعادة تدوير الأموال العربية، أو لتوطين هذه الأموال في المنطقة العرقية؟ في ذلك الوقت (1974) كانت هناك إمكانيات واضحة. وحاليًا أصبحت الإمكانية أصعب بعد استقرار الهيمنة الأمريكية الغربية. في ذلك الوقت كان مطلوبًا أن تتم دراسات وجهود جادة من منطلق قطري وقومي مستقل، ويكفي أن نذكِّر هنا بالدراسات والجهود التي بذلها الأعداء لاستيعاب المدخرات العربية على الوجه الأمثل (134). إن الدراسات – على الجانب العربي – كان ينبغي أن تستوعب الحقائق التالية (135): من ناحية العرض:
* عرض الأموال في العالم العربي يأتي دائمًا كعرض فعلي ومباشر، وذي ضخامة غير عادية بالنسبة للأقطار النفطية؛ نتيجة لتقسيط مدفوعات الشركات النفطية على أقساط معدودة خلال السنة، فتحتاج تلك الأموال إلى إيجاد المقابل الفوري والآمن من الطلب؛ حتى لا تفوتها الفوائد التي يمكن الحصول عليها. وبما أن هذه الأموال لا تلقى في المنطقة العربية هذا الطلب الفعلي جاهزًا، فإنها تتجه بطبيعة الحال اتجاهًا جارفًا ومنطقيًّا نحو الأسواق الغربية؛ حيث يوجد الطلب بالشكل المرغوب فيه. وفي الحقيقة فإن أغلب الأموال لا تغادر الدول الغربية على الإطلاق، فهي تحول ببساطة من حسابات الشركات النفطية في لندن ونيويورك إلى حسابات الدول النفطية في نفس المراكز، ثم تنتشر بعد ذلك إلى الدول الأوروبية الأخرى، وإلى كندا واليابان.
* أصحاب تلك الأموال؛ سواء جهات حكومية أو جهات خاصة، يريدون إبقاء قسم كبير منها في شكل أموال سائلة، يمكن التصرف بها بأخف القيود والشروط.
في مقابل ذلك نلاحظ في جانب الطلب (أيام 1974 وحتى الآن) ما يلي:
* أنه طلب احتمالي في أحيان كثيرة، وليس طلبًا فعليًّا، يتمكن من استيعاب العرض فورًا، وبطريقة سليمة وآمنة، فالمشاريع المحتاجة إلى تمويل في كثير من البلدان العربية، لم تتبلور بصورة كافية.
* أنه طلب لأموال طويلة الأجل في الأساس (أو هكذا ينبغي أن يكون)؛ إذ إن معظم المشاريع تحتاج إلى وقت غير قصير في بعض الأحيان؛ حتى تدرَّ الأرباح التي من شأنها تأمين تسديد الأموال المقترَضة.
وتعني هذا الحقائق أن الالتقاء المحتمل بين العرض والطلب على الأرض العربية، لن يتم بغير دراسات جادة وترتيبات متنوعة، وهذه الترتيبات تتضمن مؤسسات مناسبة، وهي في حالتنا لا بد أن تكون في الأساس مؤسسات حكومية وشبه حكومية (136)، ولا أحسب أن في هذه الحقيقة ما يفزع، فحتى مع الدول الغربية تم القسم الأكبر من إعادة التدوير من خلال الحكومات والهيئات الدولية، والقسم الأقل قامت به الأسواق المالية الخاصة بإشراف ومساعدة الحكومات، ومن ناحية أخرى، ينبغي أن نتذكر أن الجهاز الحكومي في الدول النفطية – ممثلاً بالبنك المركزي أو وزارة المالية – هو صاحب الأموال النفطية الوحيد. وهو المسئول أساسًا عن توظيف القسم الأكبر من هذه البلايين من الدولارات، وهذه الحقيقة لن تغيرها أي حوافز تقدم للقطاع الخاص في هذه الأقطار.
والترتيبات عبر المؤسسات الحكومية، لا تعني أنها مجرد ترتيبات سياسية، فهي تضع بالقطع الدراسات والحسابات الاقتصادية في اعتبارها، ولكن في إطار نظرة سياسية أرحب، وهذه النظرة تشمل المواجهات والتعامل مع العالم الخارجي، وتشمل استقرار العلاقات الثنائية والمتعددة بين الدول العربية، وتشمل مفاهيم التنمية المتكاملة، وتضمن تحديد الأهداف المشتركة للأجل الطويل، وكل ذلك سيؤثر في منهج الحسابات الاقتصادية في هذا الإطار قدمت بشأنها دراسات كثيرة، ولكن كل هذا كان يتطلب تحرُّكًا نشطًا ومخططًا وكفئًا من جانب الطلب؛ ليس فقط لأن "عنصر الطلب يجب بالضرورة أن يكون أنشط من عنصر العرض في سوق تتميز بتنافس حاد على العنصر الأخير" كما يقول إبراهيم شحاته (137)، ولكن لأن واقع الحال، كان يجعل دول الطلب (وعلى رأسها مصر) مهيأة لأن تكون المبادرة والقادرة على حل المشاكل التي تحول دون لقاء العرض مع الطلب؛ سواء من حيث إعداد المشروعات، أو التقدم بالتصورات العامة الموجهة للتعاون، إذا لا يغيب عن تصورنا أن العاملين في الإدارات المركزية الضيقة للدول النفطية، أعدادهم قليلة، وكفاءاتهم لا تتسع للمهام المطلوبة، والخبراء الأجانب يتسببون من خلال النصائح الفنية (ودعك من الضغوط السياسية) في تشويهات خطيرة في استخدامات المُدَّخرات العربية.
ولكنْ هل الأنسب تسمية مثل هذه الترتيبات المقترحة: محاولة لإنشاء سوق مالية إقليمية؟ إن الترتيبات تتضمن جزئيًّا إنشاء نوع من السوق، ولكن الوزن الأكبر في المحاولة للسياسات غير المرتبطة كليًا بمنطق السوق؛ ولذا
لا يبدو أن إطلاق اسم سوق مالية إقليمية يعبر عن مجمل المحاولة التي تناولناها.. في كل الأحوال ينبغي أن نعي باستمرار أن المحاولة الأصيلة لإعادة تدوير قدر متعاظم من البترودولارات إلى المنطقة العربية، عبر مؤسسات وقرارات عربية، هي معركة حادة وعنيفة ضد المخططات الدولية الأمريكية، وهذا يؤكد - من جديد - دور مصر (أو الطلب) في المبادرة إلى اقتحام هذا الاختيار، ومن الناحية الاقتصادية كان يتطلب هذا من مصر، أول ما يتطلب، المحافظة على استقلال السياسات المالية والنقدية، وليس فتح الباب
بلا حساب للبنوك الأجنبية.








آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس