عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:16 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(4) نتائج القانون في العام الأول:
صدر القانون 43 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، بعد إسكات الأصوات المعارضة، وحدث في التطبيق ما توقعناه، فقطاع البنوك كان المجال الوحيد الذي اندفع إليه رأس المال الأجنبي، فهم يدركون مثلنا وأكثر منا، الأهمية الاستراتيجية لهذا القطاع. إن دافيد روكفلر لم ينتظر حتى صدور القانون، فطالب أثناء مقابلته للرئيس السادات (فبراير 1974) بفتح مكتب لبنك تشيزمانهاتن الذي يرأسه (138)، وفي مفاوضات عبد العزيز حجازي مع وليم سايمون (وزير المالية الأمريكي في يوليو 1974) وقعت الوثائق الخاصة بإعادة العمل باتفاقية ضمان الاستثمارات الأمريكية في مصر، وتم الاتفاق في المباحثات على خطوات تتضمن:
1- السماح لأربعة بنوك أمريكية من الدرجة الأولى، بفتح فروع لها في مصر، وهي "تشيزمانهاتن"، و"فيرست ناشيونال بانك"، و"بنك أوف أمريكا"، و"الأمريكان إكسبريس".
2- تزور مصر مجموعة من 16 من كبار رجال الأعمال الأمريكيين الذين يمثلون 10 من أكبر الشركات الأمريكية خلال الفترة من 3 إلى 5 أغسطس لدراسة إمكانيات الاستثمار فيها (139).
ولكن البند الأول هو الذي أسفر عن نتائج سريعة، فحتى نهاية سبتمبر 1974 أعلنت الهيئة العامة لاستثمار المال العربي والأجنبي أن عدد المشروعات التي وافقت عليها بلغ إجمالي رأسمالها نحو 104.3 مليون جنيهًا، منها 54.9 مليون جنيه نقد أجنبي. ويخص الشريك الأجنبي من هذا الكلام الهزيل 22.9 مليونًا جنيه فقط، وتتضمن حصة الجانب المصري 75 مليونًا جنيه للقطاع العام و6.4 ملايين للقطاع الخاص. وبالنسبة للمشروعات بنظام المناطق الحرة، أعلنت الهيئة أنها وافقت على مشروعات قيمة رأسمالها نحو 91 مليون جنيه.
ورغم هزال كل هذه الأرقام بالنسبة للتوقعات، أكدت بيانات البنك المركزي أن المستثمر فعلاً بالنقد الأجنبي وفقًا للقانون 43، لم يتجاوز في آخر ديسمبر 1974 مبلغ 7 مليون دولار، أو حوالي 2.8 مليون جنيه مصري!
في مقابل هذا ثبت من بيانات هيئة الاستثمار أنه حتى مارس 1975، كان 19 بنكًا من البنوك العالمية قد طلبت افتتاح فروع لها في مصر. أوضحت البيانات أنه تمت بالفعل الموافقة على إنشاء خمسة بنوك، منها بنك مشترك يتألف من بنك مصر (51%) مع بنك فيرست ناشيونال شيكاغو، وبنك دي روما، وكذلك ووفق على إنشاء بنك ثالث يتألف من بنك الإسكندرية (51%) مع بنك باركليز (140)، ولم تمضِ فترة قصيرة، إلا وكان البنكان الأمريكيان الآخران في بيان حجازي – سايمون يبدءان أيضًا أعمالهما في القاهرة.
ب- هذا الغزو الذي أحدث تصدعًا مؤلمًا في مكتسبات الاستقلال الاقتصادي، بدأ مع إقرار قانون الاستثمار، وتأكد مع الموافقات التي تمت في أواخر 1974 وأوائل 1975. وقد يذكر للحكومة في ذلك الوقت أنها كانت مترددة أيضًا في هذا المجال، فرغم الاندفاع غير المسئول أثناء مناقشة مشروع القانون، أعلن أنه في الممارسة العملية ستصر الحكومة على أن يكون الشريك المصري – في حالة البنوك المشتركة – بنكًا من بنوك القطاع العام، وأنه لن يسمح للقطاع الخاص المصري بالمشاركة، أو بإنشاء بنوك تجارية خاصة. ولكنها في هذا الموقف – كما في غيره من المواقف– كانت تتراجع سريعًا أمام الضغوط؛ ولذا صرح وزير التعاون الاقتصادي – قبل استقالة الوزارة بشهر واحد– أن قرار الحكومة هو قرار مرحلي لمدة عام أو عامين (141). وقد حاولت الحكومة طمأنة القلِقين على مستقبل بنوك القطاع العام، فأعلنت أن شركات القطاع العام ستقصر معاملاتها على هذه البنوك، ولكن لم يكن إعلان الحكومة كافيًا للطمأنة؛ فالنسبة الأكبر من الودائع (ودائع القطاع الخاص والقطاع العائلي) مفتوحة لمنافسة محمومة من البنوك الأجنبية.
ج- ومع الاندفاع نحو تأسيس البنوك التجارية المشتركة، كان طبيعيًّا أن تمتد يد المراجعة إلى تنظيم قطاع البنوك كله، فألغيت عمليات الدمج السابقة (كان البنك الصناعي قد أُدمِج في بنك الإسكندرية، وبنك بورسعيد في بنك مصر). وبدأت إعادة النظر في الهيكل التنظيم للجهاز المصرفي على أساس إلغاء نظام التخصص (الذي تقرر 1971) وبحيث يعود كل بنك، وحدةً مستقلة تتعامل مع أية جهة، وفي مختلف الأغراض. ولا شك أن إلغاء تخصص بنوك الدولة يعني خطوة هامة لتفكيك البناء التنظيمي المتماسك للقطاع العام، ونذكر أن إسماعيل صبري (وزير التخطيط آنذاك) كان قد طرح – في فترة سابقة – تصورًا حول تنظيم قطاع البنوك، على نحو يتناسب مع أسلوب التنمية المخططة في مصر وكان التصور يقوم على:
1. تخصيص بنك للتجارة الخارجية.
2. تحقيق التخصص والتكامل بين البنوك التجارية الأخرى. (وكان هذا التخصص قد بدأ تنفيذه – فيما يتعلق بالقطاع العام). ونعتقد أنه – في ظل سيطرة الدولة على البنوك – لا معنى فعلاً للتنافس، أو لتعدد الفروع في نفس المكان.
3. توفير الرقابة الكاملة للبنك المركزي على البنوك التجارية بحيث يكون مجموع فروعها شبكة مصرفية واحدة، تغطي الجمهورية وتحركها في المقام الأول توجيهات البنك المركزي. أما الائتمان طويل الأجل؛ ففي تقديرنا أنه لا بد من وجود بنك للاستثمار في الجهاز المصرفي المصري، ويجب أن يتلقى هذا البنك الفائض الإيجابي لكل شركات القطاع العام، وعليه أن يوفر لكل شركة الاستثمارات المقررة لها في الخطة (142).
ونحن نعلم أن إسماعيل صبري ويحيى الجمل – من خلال موقعهما في مجلس الوزراء – سجلاً اعتراضهما على الغزو الأجنبي لقطاع المصارف، وعلى تشويه نظامه، ولكن اتجاه السياسة العامة، والضغوط، عصفت بكل التحفظات. وقد نرى إدخال تعديلات للتصور الذي عرضه إسماعيل صبري لتنظيم القطاع العام المصرفي، إذا كنا نستهدف جذب مدخرات واستثمارات عربية، ولكن إذا كان الهدف الكامن خلف التصور ثابتًا، وهو تطويع الأداء في الجهاز المصرفي لاحتياجات التنمية المخططة، فإن التعديلات كانت ستأخذ مسارًا مختلفًا تمامًا عن الذي تحقق. إن التعديلات المحققة كانت ردة سببها الغزو الخارجي، الذي يرمي إلى هدف مضاد.


(5) القانون لم يكن مع ذلك تسليمًا كاملاً:
يبقى في النهاية أن نسجل أن القانون 43 ظل يحمل بعض الضوابط، فمن ناحية كانت صلاحية الأجهزة التنفيذية في الموافقة على المشروعات وفي متابعتها واسعة نسبيًّا، ومن ناحية أخرى اشتملت المادة 2 على ما اعتبره كبار المستثمرين المحتملين مسئولاً أساسيًا – من الزاوية الاقتصادية – عن إحجامهم، فهذه المادة تعرف المال المستثمر الذي تتناوله أحكام القانون، وجاء في البند الأول من التعريف أنه "النقد الأجنبي الحر المحول لجمهورية مصر العربية، بالسعر الرسمي عن طريق أحد البنوك المسجلة لدى البنك المركزي المصري؛ لاستخدامه في تنفيذ أحد المشروعات أو التوسع فيها".
والنقطة المحددة هنا هي: السعر الرسمي. فقد رفض المستثمرون أن يُحسب نقدهم الحر المحول إلى/ ومن مصر بالسعر الرسمي، وتضامنوا بالتالي مع الهيئات "الدولية" التي تضغط لخفض سعر الجنيه، وقد عبَّر أيامها مصطفى كامل مراد عن رأي هذه الجهات، "فاقترح حذف عبارة (السعر الرسمي)؛ ذلك أن الاتجاه الآن إلى تعويم الجنيه المصري في السوق الموازية، وقد يجري مستقبلاً إنشاء بورصة (كامبيو)، فلن يكون هناك سعر رسمي للجنيه المصري؛ لأن سعره سيتغير باستمرار، حسب مركز الاقتصاد المصري". وأوضح مندوب الحكومة سبب التمسك بعبارة السعر الرسمي، وقال إنه "جرت مداولات كثيرة في اللجنة الوزارية عمَّا إذا كان من الأفضل إضافة هذه العبارة، أو لا داعي لذلك، وكانت الآراء كما يلي:
* إن ما جرى عليه العمل فعلاً حتى الآن، هو أن التحويل يكون بالسعر الرسمي، والمقصود بالسعر الرسمي في هذه الحالة سعر التحويلات، وليس سعر السوق الموازية،
ولا سعر حسابات "ج".

* إن الأرباح تحول أيضًا بهذا السعر الرسمي (...) وعلى ذلك رأت اللجنة الوزارية تسجيل ما كان معمولاً به في نص المشروع". وأضاف وزير المالية تأكيدًا للموقف الذي كانت تتخذه الحكومة من قضية تعويم الجنيه، والذي كان يعني في تلك الظروف خفضًا كبيرًا في سعره الرسمي، فقال "كلنا نتكلم عن تعويم الجنيه، ولكن ذلك لم يتقرر للآن، وما زال تحت الدراسة، وفي حالة تعويم الجنيه، فلن يكون له إلا سعر واحد" (143).
رابعًا – الانفتاح وتشويه الخطة الانتقالية:
(1) الإطار العام للخطة:
كانت خطة 1974 قد وضعت، وأصوات القتال لم تخفت بعدُ؛ ولذا كان إجمالي الاستخدامات الاستثمارية في تلك الخطة 550.5 مليون جنيه (بالإضافة إلى 25 مليون جنيه زيادة في المخزون السلعي)، وكان هدف النمو المحدد لها 6.6%. وكان طبيعيًّا أن يتناول الخطة تعديل ما في العام الأول للانفتاح، فاتخذ قرار وضع الخطة الانتقالية في أبريل(144)، وأعيد النظر في استثمارات النصف الثاني من سنة 1974 لكي تتمشى مع إطار الخطة الانتقالية، وتم ذلك بتقرير استثمارات إضافية لهذه الفترة. أما الفترة التالية في الخطة الانتقالية (وهي سنة 1975) فقد قدمت كخطة سنوية، والأولويات التي حكمت الفترتين كانت واحدة.
وعمليًّا، كان التعديل في برنامج النصف الثاني من سنة 1974، عبارة عن طلب اعتمادات إضافية تقدمت به الحكومة إلى مجلس الشعب، وجهت بشكل أساسي إلى التعمير. فجملة الاعتمادات الإضافية بلغت 194.3 مليون جنيه (منها 16.6 مليون جنيه خصمًا على الاستثمارات غير الموزعة)، وكان نصيب التعمير من هذه الاعتمادات 106.3 مليون جنيه (بنسبة 54.7%). وعلى هذا يعتبر الجزء الخاص بعام 1975 – داخل الخطة الانتقالية - الجهد الأكثر تكاملاً لأجهزة التخطيط، ونعرض إطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1975 في هذا الفصل؛ لأنه يعبر عن تصورات التنمية كما سادت فعلاً في العام الأول من الانفتاح.
أ- يبلغ حجم الاستخدامات الاستثمارية المُستهدَفة نحو 1222.9 مليون جنيه (شاملاً الزيادة في المخزون وقدرها 40 مليون جنيه)، وإذا استبعد الإنفاق الاستثماري من هذا الرقم (11.5 مليون جنيه) والأرض (20.9 مليون جنيه) فإن إجمالي التراكُم الرأسمالي يكون 1190.5 مليون جنيه.
واستهدفت خطة 1975 الوصول بالناتج المحلي الحقيقي إلى 3757.2 مليون جنيه بزيادة قدرها 316.2 مليون جنيه عما كان متوقعًا تحقيقه في عام 1974، أي بنسبة 9.2% (بالأسعار الثابتة)، وترتفع الزيادة في الناتج المحلي إلى 388.9 مليون جنيه، أي بنسبة 10.7% (بالأسعار الجارية).
وتعني هذه الأرقام أن الخطة كانت طموحة جدًا من حيث الأهداف؛ فإجمالي الاستخدامات الاستثمارية المستهدفة (دون التغير في المخزون) يزيد عن ضعف ما كان مستهدفًا في 1974 (550.5 مليون جنيه) ويتجاوز ما تقرر لها بالفعل (728 مليون جنيه) بحوالي 455 مليون جنيه، وكان معدل نمو الإنتاج القومي الحقيقي في ذلك العام 3.14% (145). وقد عزت الخطة لارتفاع معدلات النمو المستهدف إلى "تشغيل الطاقات العاطلة، واستكمال المشروعات الجاري تنفيذها، فضلاً عن تزايد نشاط بعض المشروعات والقطاعات ذات الأهمية الخاصة؛ كمجمع الحديد والصلب، الذي يزيد إنتاجه بنسبة 200% ومجمع الألومنيوم الذي ينتج لأول مرة، وشركة "كيما" بعد عمرتها الجسيمة، وقطاعي التشييد والكهرباء".
ب- وبالنسبة لأولويات الخطة كانت: التعمير أولاً – ثم استكمال المشروعات التي قطعت شوطًا كبيرًا في التنفيذ – ثم الإحلال والتجديد والطاقات العاطلة لإزالة الاختناقات بهدف زيادة معدلات الإنتاج – ويقتصر الاستثمار في المشروعات الجديدة التي تلعب دورًا استراتيجيًّا في التنمية (مثل الأسمدة والأسمنت) أو التي تلبي حاجات ماسة للجماهير. ويلاحظ أن الاستثمارات العينية الموزعة في القطاع العام (نحو 1056.2 مليون جنيه) خصص منها 438.9 مليون جنيه للقطاعات السلعية (41.5%)، منها 196.3 للصناعة (أي 18.6% دون البترول والكهرباء)، وكانت نسبة الزراعة 4.3% والري والصرف 4%. وبالنسبة لاعتمادات الجهاز الإداري زنادت بحوالي 281.4 مليون جنيه عن عام 1974، منها 242.7 مليون جنيه لوزارة الإسكان والتعمير "لمواجهة أعباء التعمير"، وهذا المبلغ إذا أضيف إليه 134.3 مليون جنيه مخصص لهيئة قناة السيوس، يرتفع إجمالي الموجه لمنطقة القناة إلى حوالي 370 مليون جنيه، أي أنها استحوذت وحدها على 35% من إجمالي الاستثمارات للقطاع العام.
ج- هيكل التمويل: أوضحت الخطة أنها وضعت ضمن أهدافها معاودة بناء "مخزون سلعي استراتيجي، يمكن استخدامه لتوفير احتياجات القوات المحاربة وقت الحرب، ولضمان أقوات الجماهير، وإشباع حاجاتها في الحرب والسلم معًا دون أزمات حادة"، وهذا الهدف كان يعني في الحقيقة زيادة المبالغ المخصصة للمخزون إلى 275 مليون جنيه؛ وبذا وصل المطلوب للاستثمار والمخزون إلى حوالي 1466 مليون جنيه (1191 + 275)، وفي نفس الوقت قدرت الخطة المدخرات المحلية (= الاستثمار والمخزون – العجز الجاري في ميزان المدفوعات) بما لا يتجاوز 116 مليون جنيه، أي 7.9% فقط، وإذا أضيفت مبالغ الدعم العربي (مقدرة بـ 250 مليون جنيه) إلى المدخرات المحلية، لا ترتفع النسبة إلى أكثر من 25%، وتظل الخطة تنتظر كرم الجهات الخارجية لتوفير 75% من المطلوب.
د- السياسات الاقتصادية: لم تتناول الخطة الانتقالية السياسات المحددة التي تضمن تنفيذ الأهداف، وهذا الإغفال لم يكن على سبيل السهو، ولكنه انعكاس لنقص الصلاحيات المخولة لأجهزة التخطيط المركزية؛ ولذا اكتفت الوزارة بتوجيه بعض "النصائح والتعليقات" المتفرِّقة، واطمأنت - فيما يبدو - على ما يتضمنه هيكل الخطة نفسه من أدوات اعتبرتها كافية لتحقيق الأهداف، فقد تضمنت الخطة إسناد 91.5% من جملة الاستثمارات العينية الموزعة إلى القطاع العام.
(2) نقد الأولويات:
أ- بعد هذا العرض لإطار الخطة الانتقالية، ننتقل إلى الملاحظات، وقد وصف تقرير للبنك الدولي هذه الخطة بأنها "أولاً خطة مؤقتة لعبور فترة الظروف غير العادية التي نشأت عقب حرب أكتوبر 1973، توجهًا إلى مرحلة تكون العودة فيها إلى التخطيط المعتاد، ولخمس سنوات ممكنة. وثانيًا، فإنها المحاولة الأولى لإضفاء مضمون عملي لسياسة الانفتاح الاقتصادي؛ ولذا تعهد الخطة إلى القطاع الخاص بدور أكبر جدًا – الاستثمار الخاص المستهدف في 1975 حوالي ثلاثة أضعاف المستوى للعام السابق، وأيضًا إلى رأس المال الأجنبي، وثالثًا، تركز إلى حد كبير على مشروعات ذات فترة حضانة قصيرة؛ مثل مشروعات تحقيق التوازن، والتحديث، والاستخدام الأكمل للطاقة الصناعية القائمة. هذا التأكيد على ما يسمى "القطاعات الإنتاجية" يؤدي على أية حال إلى بعض الإهمال للقطاعات الاجتماعية" (146). وفي هذا الوصف التحليلي العام يصدق التقرير في (أولاً)، فالخطة اسمها انتقالية، وتقريرها يحدها هدفها بأنه "تثبيت وتقوية القاعدة التي سوف ينطلق منها الاقتصاد المصري خلال الخطط الخمسية القادمة". ويصدق تقرير البنك في (ثانيًا) أيضًا، فهي تعبير عن الممارسة العملية لسياسة الانفتاح (وليس لورقة أكتوبر)، وتعبير عن هذه الممارسة في إطار مفاهيم الانفتاح وتوازنات القوى في تلك السنة. هذه الممارسة كانت تعكس تراجعًا عن ورقة أكتوبر، ولكن تراجعًا غير كامل. وتركيز البنك الدولي على زيادة دور القطاع الخاص المصري والأجنبي، ولم يكن تركيزًا على أهم ما نعتبره تراجعًا عن ورقة أكتوبر، والحقيقة أن نصيب القطاع الخاص (98.2 مليون جنيه) كان يزيد فعلاً ثلاث مرات عن حجم استثماره المقدر في خطة 1974، وكان النصيب المعلن للقطاع العام – في المقابل – 1056.2 مليون جنيه، وكان يبدو بالتالي أن نسبة الاستثمار الخاص، ظلت 8.5% فقط.
أما (ثالثًا) التي جاءت في تقرير البنك الدولي (عن الأولويات) فإنها غير صحيحة. وسنتحرر هنا من تقييمات البنك الدولي؛ لنقدم تصورنا الخاص. ولا شك أن أولويات الخطة تقررت سياسيًّا، فهي قد تقررت – كما يقول تقرير الخطة – "في ضوء توجيهات السيد الرئيس ومناقشات اللجنة العليا للتخطيط السياسي".
ب- ويتضح ذلك تمامًا بالنسبة للنقطة ذات الأولوية الأولى – أي التعمير – فإن اعتبارات السياسة العليا هي التي قررتها، أقصد الاختيار الاستراتيجي لأسلوب حل للصراع المصري/ الإسرائيلي. في وقت من الأوقات صرح الرئيس السادات بأن عملية التعمير تبدأ عندما ينسحب آخر جندي إسرائيليّ من الأرض العربية (147). ولكن بعد اتفاقية الفصل الأول للقوات، ومع وعود محددة بانسحاب إسرائيليّ آخرَ في اتفاقية فصل ثان للقوات في أكتوبر، التزمت القيادة بالبدء في التعمير، وأسندت المهمة إلى عثمان أحمد عثمان، وكانت تعليمات الرئيس له: "إنني أريد إعادة بناء هذه المدن التي تقع تمامًا في مدن المدفعية الإسرائيلية. إنني أريد أن أوضح للإسرائيليين، أنني لا أنوي شن حرب ضدهم مرة أخرى"(148).
وقد دارت بالفعل عجلة التعمير بأقصى سرعة، واحتل الأولوية في خطة، تهدف إلى إنعاش اقتصاد مُنهَك، رغم أن التعمير – من الناحية الاقتصادية – كان يزيد من متاعب الاقتصاد المصري. وقد تدفقت الوعود والقروض بشكل مخطط نحو هذه الأولوية بالذات؛ إذ أسرعت الولايات المتحدة إلى قيادة عمليات تطهير مجرى القناة. وفي رسالة نيكسون إلى الكونجرس (24 أبريل) اقترحت معونة "لدعم" مصر (حوالي 250 مليون دولار) من أجل: 1- تطهير قناة السويس. 2- إصلاح المنشآت المدمرة. 3- المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد المصري. ومن هذا المجموع المتواضع، اقترحت الرسالة تخصيص 170 مليون دولار لتعمير منطقة القناة (149). وفي يونيو قدمت الكويت 150 مليون دولار لنفس الغرض. وفي أغسطس قدمت السعودية 300 مليون دولار كمعونة عاجلة لتعمير منطقة القناة، أثناء زيارة للملك فيصل (وبالمناسبة كانت الصحافة المصرية قد توقعت أن تقدم السعودية 1.2 بليون دولار كقروض مُيسَّرة بالإضافة إلى معونة التعمير.. ولكن لم يحدث). وفي نوفمبر 1974 أعلن صندوق التنمية السعودي موافقته على التعاون في تقديم قروض لبعض المشروعات؛ كممول شريك مع البنك الدولي، وكان على رأس القائمة قرضٌ للإسهام في إعادة فتح قناة السويس للملاحة.
والبنك الدولي كان قد أعلن (بعد زيارة مكنمارا للقاهرة) عزمه على تقديم قروض قيمتها 200 مليون دولار لعدد من المشروعات (في السنة المالية يوليو 1974/ يونيو 1975) ولكن لم يستخدم عام 1974 إلا قرض قناة السويس (50 مليون دولار). أما إيران الشاه، فكان الاتفاق معها (849.6 مليون دولار) في مايو 1974 يشمل مجالات متنوعة، ويتكون من تسهيلات ائتمانية واستثمارات مشتركة. وأثناء زيارة الشاه (يناير 1975) كان على رأس المشروعات التي حددت استعادة التسهيلات الملاحية في ميناء بورسعيد (حيث لإيران منطقة تجارة حرة)، وكان مقترحًا أن تقيم بها مصنع بتروكيماويات، وخط لنقل البترول بين السويس وبورسعيد تشترك فيه إيران مع آخرين، بالإضافة إلى المساهمة في إعادة الملاحة في القناة وتطويرها من خلال عقد مع شركة يابانية (150).
ولا ننسى طبعًا أن اليابان قدمت بدورها 38 بليون ين (حوالي 60 مليون جنيه) قرضًا لإعادة الملاحة في القناة(151).
ج- واحتلال التعمير لموقع الأولوية الأولى مسألة يختلف معها جذريًّا كل من له تصور استراتيجي مغاير في مجال الصراع مع إسرائيل. ولكن حتى في نطاق التصور الاستراتيجي "الرسمي"، لم يكن مفهومًا أن يتسع نطاق العملية على النحو الذي صار، رغم أعبائها الاقتصادية الثقيلة. والطريف أن البنك الدولي – يزعم دائمًا أنه بعيد عن السياسة، ويقيس الأمور من زاوية اقتصادية فنية (ويضيف حاليًا أنه يهتم أيضًا بالنواحي الاجتماعية) ولكن هذا البنك الدولي لم يتوقف بأي تحفظ أمام قضية التعمير، بل تجاهلها تمامًا، وهو يحصر أوجه تركيز الخطة. ولكن لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب، أثبتت في الحقيقة أنها تحذر. ورئيس اللجنة في ذلك الوقت (أحمد أبو إسماعيل) كان قد اكتسب سمعة طيبة عند الهيئات الدولية والدوائر اليمنية، باعتباره المنظر الاقتصادي للانفتاح غربًا بلا حدود، ولكنه توقف مع ذلك أمام قضية التعمير؛ إذ لاحظ "أن الكثير من المشروعات يتعلق بالتعمير والإسكان والمرافق، وهذه أنشطة لن تترتب عليها صادرات، ولكن الخطة تمول جانبًا كبيرًا من هذه بقروض، وهذا يضعف مركزنا الاقتصادي؛ ذلك أنه لن يمكن سداد مثل هذه القروض، إلا إذا أمكن زيادة الصادرات من المشروعات الأخرى زيادة ضخمة تكفي لسداد قروض المشروعات جميعها، وهذا أمر لا يتأتى لمشروعات حديثة التكوين، وكان واجبًا على المخطط للمحافظة على سلامة الاقتصادي المصري في علاقاته الخارجية، أن يعتمد في تمويل مشروعات الإسكان والتعمير والمرافق على المعونات، كما فعلت كثير من الدول التي مرت بها حرب" (152).
د- إلا أن مخاطر التعمير على هذا النطاق الواسع
لم تقتصر اقتصاديًّا على مسألة القروض المتعذر سدادها، فالعملية بطبيعتها تزيد الضغوط التضخمية (كما أسلفنا)، وعثمان أحمد عثمان الذي قرر تصدير عمال البناء والحرف المكملة بلا ضابط، كان هو نفسه المشرف على عمليات التعمير، ويدرك احتياجاتِها الكبيرة من هؤلاء العمال، وقد انعكس ذلك في تشوه هيكل الأجور على المستوى القومي، وكان ذلك ضمن أسباب مضاعفة التكلفة للأعمال الإنشائية عمومًا، ومعها الضغوط التضخمية. وللحقيقة لم يفت وزارة التخطيط في هذه النقطة أن تتقدم "بواجب الشرح والنصح" فسجلت أن عنق الزجاجة في أعمال الإنشاء والتعمير، يتمثل في عنصر العمالة "فقد بدأت الشكوى من نقص العمالة الفنية منذ العام الماضي بصفة خاصة؛ نتيجة للعمل في ليبيا (ولم يشأ تقرير الوزارة أن يضيف السعودية ودول الخليج). كما أن أعمال التعمير قد جذبت نسبة عالية من العمالة المتاحة؛ نظرًا للأجور المرتفعة في منطقة القناة، مما يخشى منه على معدلات التنفيذ في بقية المشروعات. وتجدُر الإشارة هنا إلى أن زيادة الأجور، لن تحل مشكلة العمالة في قطاع التشييد على المستوى القومي؛ حيث إن عرض العمالة الفنية أقل من الطلب بشكل واضح. كما أن ارتفاع الأجور يزيد من تكاليف التشييد؛ مما ينقص الحجم العيني المنفذ من الخطة؛ ولهذا فلا بد من التحفظ فيما يتعلّق بسفر عمال البناء في الخارج".

ولم يكن ممكنًا أن يستخدم التخطيط (بعد كل ما قال) كلمة أشد من "التحفظ" حتى لا يغضب الوزير القوي عثمان أحمد عثمان (ومن خلفه). وقد منح مجلس الشعب وزارة التعمير سلطات واسعة بمقتضى القانون رقم 62 لسنة 1974، وهذا القانون خوَّل الوزارة وضع خطة التعمير، ويسلمها سلطات مالية وإدارية واسعة، دون التقيد بالقواعد المنظمة للتصرف في النقد الأجنبي وباللوائح المالية، أو لوائح المناقصات والممارسات والمقاولات. وبمقتضى هذه الصلاحيات خرجت استثمارات تبلغ 242.7 مليون جنيه (وهي الاستثمارات المخصصة للتعمير) من دائرة الإشراف المركزي لأجهزة التخطيط. وقد أعلن مجلس الشعب في ردِّه على بيان الحكومة أن السلطات الواسعة المخوَّلة لوزارة التعمير
"لا تعني تحللاً من رقابة المجلس، بل تفرض مزيدًا من اليقظة والحزم"، ولكن هذا الحزم لم يظهر أبدًا، رغم أن كافة التقارير غير الرسمية كان تلِح على ضرورة التدخل، "فالتعمير يسير بطريقة عشوائية وغير مخططة" – هذا ما أعلنه مثلاً عضو مجلس الشعب المسئول عن متابعة هذا الأمر، وقد شرح الرجل أوجه الإسراف العجيب (153). وكتب في نفس اتجاهه ميلاد حنا (أستاذ الإنشاءات بهندسة عين شمس) وقال "إنه سأل المسئولين التنفيذيين عن سر هذا الإسراف، فأجابوا بأنهم - بدورهم - لا يعرفون السبب، وأنهم يتصورون أن هذه سياسة عليا!" (154).

وفي مجال التعمير، كان ذائعًا أيضًا المبالغة في الاستعانة بالخبرات الأجنبية، في أمور لا تستأهل أبدًا الاستعانة بالأجانب، وكانت هذه العملية تتم بالذات من خلال شركة "المقاولون العرب"، وأحاطت بذلك شبهات قوية. كذلك كانت التقديرات الرسمية (التي سربتها دوائر التخطيط في ذلك الوقت) تقرر أن حجم الأعمال المقدر إسنادها إلى قطاع المقاولات الخاص. في مناطق التعمير – يتجاوز 140 مليون جنيه أثناء خطة 1975. وباختصار يمكن أن نقول إن هذا التعمير كان مضخة هائلة لتحويل الموارد – بطرق غير مشروعة – إلى القطاع الخاص المشوه، وتمت هذه العملية تحت أعين الجميع، بل بمساندة ومباركة من جهات في قمة المسئولية والنفوذ.
هـ- لماذا غض البنك الدولي بصره عن كل ذلك،
ولم يتوجه بكلمة نقد "اقتصادي" واحدة إلى التوسع في قطاع التعمير أو إلى سلبيات الأداء
، رغم أن هذه السلبيات – من وجهة النظر الاقتصادية البحتة – لم تكن خافية على أحد؟ هذا السؤال قد يبدو للبعض مشروعًا، ولكنه بالقطع – وعلى ضوء مفهومنا للبنك الدولي – يعتبر سؤالاً ساذجًا. فكل ما نعتبره سلبيًّا، كان إيجابيًا تمامًا من المنظور الاقتصادي للبنك الدولي. من هذا المنظور أصاب قطاع التعمير – باتساعه وأسلوب أدائه – عديدًا من العصافير بحجر واحد:

حصر دائرة التخطيط المركزي والمتابعة المركزية؛ بإخراج أهم مجال للاستثمارات الجديدة من هذه الدائرة – أخل بالتوازن المعقول بين القطاعات الاقتصادية؛ فالتوسع في التعمير كان بالضرورة على حساب التوسع في قطاعات أخرى، وعلى حساب حصول هذه القطاعات على احتياجاتها من الاستثمار ومستلزمات الإنتاج، وإحداث الاختلال والإرباك، كان مفيدًا في هذه المرحلة – تأكد هذا الاتجاه من خلال زيادة تكلفة التشييد، ونُدرة العمالة، فمع أولوية التعمير، كان لا بد أن تهبط معدلات التنفيذ العيني للإنشاءات في المجالات التي لم تكن تحظى بمباركة البنك الدولي – وما ترتب على ذلك من ديون خارجية صعبة، وزيادة في الضغوط التضخمية، يساعد الحملة المشتركة لخفض سعر الجنيه، ويساعد في إشاعة الفوضى في هيكل الأسعار الذي حاولت الحكومة أن تحميه – وما يعتبر فسادًا ودخولاً طفيلية من زاوية معينة، كان من منظور البنك (ومن معه) إحداثًا لتراكم أوَّلِي سريع في يد عصابات من المغامرين، أي في يد قطاع خاص، حسب المواصفات المطلوبة، قطاع خاص انتفخ بدخول هائلة؛ نتيجة للسياسة الأمريكية والسلام الأمريكي؛ ونتيجة للتعامل مع الشركات الأجنبية. أليس كل هذا كافيًا لكي يلتزم البنك الدولي جانب الصمت، علامة على الرضا والارتياح؟ بالقطع يكفي، ودعك من مسألة أن التعمير كان – أيضًا – مطلبًا أمريكيًّا إسرائيليًّا لإقامة عائق أمام تجدد الاشتباكات العسكرية؛ ولتكثيف الوجود الأجنبي في حزام عازل بين القوات (سواء في شكل مصالح، أو في شكل خبراء التعمير والبترول).
(3) دلالة التركيز على الصناعة:
أ- كانت هذه الأولوية الأولى للخطة الانتقالية. إلا أن الأولويات التالية مثَّلت - إلى حد ما - محاولة التوازن أو مرحلة التردد في الانفتاح المطلوب. وقد حظيت هذه بمعارضة في تقرير البنك الدولي كما أسلفنا، وأيضًا في مجلس الشعب، فقد هُوجم استئثار القطاع العام بالنصيب الغالب من الاستثمار. ونقد تقرير لجنة الخطة والموازنة، ما وصفه بأنه مبالغة في التركيز على الطاقات العاطلة، وقال إن الزراعة لم تنلْ مكانها المناسب في الأولويات؛ حيث إن نصيبها من استثمارات 1975 لا يعدو 4.3%، "ويقل حجم ما خصص لوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي من استثمارات في هذه الخطة، عمَّا خُصص لها عام 1974"، والحقيقة أن الخلاف بين الحكومة واللجنة، لم يكن في المفاضلة بين الزراعة والصناعة، ولكن في تحديد دور كل من القطاعين العام والخاص في إنجاز الأهداف العاجلة كما جاءت في خطة 1975.
إن تشجيع القطاع الخاص المنتج (كما هو الحال في الزراعة) ضرورة قومية، ولكن كان معقولاً أن تكون أولوية أو درجة التشجيع بقدر الإسهام المتوقع لهذا القطاع في تحقيق الخطة المعينة، وهي في هذه الحالة خطة إنعاش تهدف إلى تحقيق عائد سريع ومرتفع يمكن للدولة تعبئته لمواجهة الأعباء والالتزامات المتعددة، والتركيز على قطاع الزراعة – بوصفه المعروف – لم يكن ليحقق هذا الهدف، وإذا كان المطلوب – في المدى القصير – خطة تحقق – بقدر معقول من اليقين – عائدًا سريعًا، فإن التركيز لا بد وأن يكون على الصناعة (في القطاع السلعي) فهي بطبيعتها قطاع منظم، وكان مفترضًا – في 1975 – أنها خاضعة للإدارة المركزية، وهي بالتالي أقدر على تحقيق الهدف المطلوب لذلك العام، وقد تمسكت الحكومة، بموقفها من تحديد الأولويات، وتمسكت بهذا الحجم الكبير لاستثمارات القطاع العام، ولاستثمارات الصناعة، وكان موقفها في هذه الجزئية صحيحًا، ووفقًا لحسابات تبدو واقعية، ولكن نكرر كالعادة أن السياسات لا بد أن تكون متكاملة.
ب- وأعتقد أن من واجبنا أن نذكر – بالمناسبة – أن القطاع الخاص لم يكن "مظلومًا" جدًا، فأرقام الاستثمار العام أخفت نسبة محترمة من الأموال كان مفروضًا أن تحول إلى القطاع الخاص، وإذا تركنا جانبًا موضوع العمولات، وما أشبه في التجارة الخارجية والتعاقدات المحلية، فإنه يكفي أن نشير إلى قطاع المقاولات، فقد كان متوقعًا أن يتعاظم دور قطاع المقاولات الخاص بنفس معدلات زيادته في منطقة القناة (مباشرة أو من الباطن) وحجم إنتاج التشييد في الخطة الانتقالية، كان مقدرًا أن يصل إلى 654.6 مليون جنيه، وكان الحجم المقابل في خطة 1974
لا يتجاوز 391 مليون جنيه، ورغم أن هذه الزيادة الهائلة تبلغ 68% فقد تمت تصفية شركتين من شركات القطاع العام في مجال المقاولات، ورفع حد التعاقد – في نفس الوقت – مع مقاولي القطاع الخاص من 100 ألف جنيه إلى 500 ألف جنيه. ويعني ذلك أن الإجراءات العملية كانت تتيح للقطاع الخاص فرصة التوغل في ميدان استراتيجي يتسع باتساع القطر، وهو في هذا الميدان يشتغل بمال الدولة وتسهيلات بنوك الدولة، ويحقق تراكمًا خرافيًا. ويستحيل تقديم أرقام محددة عن الأرباح، ولكن أحد القريبين من الصورة (محمود أبا وافية) اضطُرَّ إلى "المطالبة بإعادة النظر في العلاقات بين شركات المقاولات وأصحاب الدخول الطفيلية الذين يريدون أن يثروا دون مجهود أو تعب" (155). وقد أشارت لجنة الرد على بيان الحكومة إلى نفس المعنى حين أعلنت "أنه قد أصبح من الضروري أن تمتد أحكام قانون الكسب غير المشروع إلى المتعاملين مع القطاع العام من الأفراد". وقالت: "إن الفساد والثراء يرجع - في معظمه - إلى علاقات في أحد طرفيها موظف اؤتِمن على أموال عامة، فخان الأمانة، وفي الطرف الآخر فرد يسعى إلى التأثير على ذمة الموظف العام؛ ليتقاسما معًا الربح الحرام". إن هذه الفقرة كانت تتسع لفئات أخرى غير المقاولين، ولكن لا شك أن أعمال المقاولة التي تحركت في نطاق 655 مليون جنيه، كانت من أكثر المجالات إسالة للعاب. وقد دلَّت الخبرة المصرية أثناء الخطة الخمسية الأولى (60/ 1961 – 64/ 1965) على أن قيام القطاع الخاص بنصيب كبير من إنتاج التشييد، أدَّى إلى مضاعفة التكلفة، واستنزاف المال العام، وإرباك المواعيد، وكان هذا الكلام معروفًا ومعلنًا، والخبرة الحالية المتجددة أكدت نفس الشيء.

(4) هيكل التمويل المشوَّه:
أ- ننتقل بعد هذا إلى هيكل التمويل: وقد حددنا الأبعاد الشاذة لاختلال الهيكل، وقال تقرير الخطة هذا الاختلال يبرز "بعض الصعاب والمشاكل التي تصاحب جوانب التنمية خلال عام 1975، إلا أن التقدير الموضوعي لآثار حرب أكتوبر في رفع مكانة مصر، وتأكيد التضامن العربي والتغيير الإيجابي في مواقف بعض الدول الأجنبية، والنتائج السياسية النشيطة التي تمارسها الحكومة بتوجيه من السيد الرئيس لدعم كل أشكال التعاون العربي والدولي، وتزايد الثقة في الاقتصاد المصري، واستقراء ما تم عقده بالفعل من اتفاقات وما هو بسبيل الإبرام، كل ذلك يجعل التخطيط يطمئن إلى أن بوسعنا مواجهة هذا العجز بمواردَ خارجية في هذه الفترة الاستثنائية، التي تبرر في ذاتها الاعتماد الكبير على تلك الموارد. كما أن النتائج المتوقعة عن تنفيذ الخطة من شأنها أن تضع الاقتصاد المصري في وضع أفضلَ عند بداية الخطة الخمسيَّة".
وهذا التبرير – من أوله لآخره – لا يبدو مقنعًا؛ فمن حيث المبدأ، من يحتكر التمويل يملك التخطيط، يملك إملاء الأولويات، وتحديد المشروعات، وهذه بدَهيَّة لا تحتاج عناء الإثبات. وقد بنت الحكومة توقعاتِها بتوفير التمويل – ووفق شروطها هي – على فرض تزايد الثقة في الاقتصاد المصري، ولا ندري كيف تتزايد الثقة في اقتصاد تعلن الخطة أنه مفلس وعاجز تمامًا عن تمويل تنميته؟ أيضًا بُنيت التوقعات على تغير الظروف السياسية، واستقراء ما تم من اتفاقات. ويلاحظ هنا أن الخطة كانت تدرك أن أولوياتها جعلت الانحياز غربًا جزءًا من بنيتها (ورغم نقدها بالكلام للمبالغة في هذا الاتجاه في مواضعَ متفرقة من تقرير الخطة) فالمكون الأجنبي في إجمالي الاستثمارات العينية قُدِّر
بـ 468 مليون جنيه، وكان نصيب التمويل الأجنبي الحر (أي من الدول الغربية) 408.4 مليون جنيه، ونسبته 87.3%. وأرجعت الخطة "هذا الارتفاع الملحوظ في الاعتماد على التمويل الأجنبي الحر إلى احتياجات التعمير المعطاة أولوية في خطة 1975 والتي لم يسبق تضمين معظمها في أيَّة افتقادية دفع"، والحقيقة أنه لا سبق ولا كان متوقعًا أن تتضمن اتفاقيات الدفع مع الدول الاشتراكية إسهامًا في عمليات التعمير التي اعتُبرت جزءًا من السلام الأمريكي، ولكن لم تكن مشروعات التعمير وحدها المسئولة عن هذا الانحياز في هيكل تمويل الخطة.

وإذا كان من أسباب هذا الانحياز تفاؤل راجع إلى "تغير الظروف السياسية، واستقراء ما تم من اتفاقيات" مع الأصدقاء الجدد، فقد ثبت الآن أن هذه التقديرات كانت جزءًا من أحلام الفترة، بل كان واضحًا – حتى في تلك الأيام – أن استقراء ما تم فعلاً من اتفاقيات، كان يؤدي إلى غير التفاؤل؛ فوفقًا لتصريحات الرئيس السادات وقت إعداد الخطة، كانت الوعود (الوعود وليس الاتفاقيات المحددة) التي حصلت عليها السلطات المصرية كالتالي: إيران 100 مليون دولار – ألمانيا الغربية 30 مليون دولار – الولايات المتحدة 250 مليون دولار – البنك العربي الدولي 50 مليون دولار (156).
ب- ومع هذا الصورة لإمكانيات التمويل الميسرة لم يكن يعني تنفيذ الخطة، إلا لجوءًا للاقتراض الصعب لسد الفجوة التمويلية، أي تدهورًا متزايدًا في وضع الاقتصاد المصري، وقد أشار تقرير لجنة الخطة والموازنة – في مجلس الشعب– في ذلك الحين إلى أنه لا يعترض على تمويل عجز يصل إلى نحو 1100 مليون جنيه بالاقتراض من الخارج، وقال إنه ليس هناك عيب أو خطر في ذلك، ولكنه أشار إلى أن الخطة تقترض نوعين من القروض:
1- قروض إنتاجية قصيرة الأجل.
2- قروض استثمارية طويلة الأجل.
أما النوع الأول من القروض، فإن الخطة تقوم بالحصول عليه؛ لتمويل شراء جانب كبير من السلع الوسيطة، خصوصًا تلك التي تدخل في تشغيل الطاقات العاطلة، وهذه القروض يجب سدادها بعد فترة قصيرة. ولكي يمكن سدادها يجب أن نكون قادرين على تصدير جزء من الإنتاج الذي تحقق نتيجة لعملية الاقتراض من الخارج، فإذا كانت أرقام الخطة تتوقع جمودًا في حجم صادراتنا؛ فإن هذا يعني أننا لن نتمكن من سداد فوائد وأقساط القروض الإنتاجية قصيرة الأجل، التي سنقترضها لتشغيل الطاقات العاطلة، ومعنى ذلك أن هذه الطاقات العاطلة التي سيتم تشغيلها عام 1975 نتيجة للاقتراض، ستعود طاقة عاطلة مرة أخرى؛ لأنه لن يكون هناك من يقرض دون انتظار سداد قرضه وفوائده، وإن عدِم سداد القروض التي ستمول الطاقات العاطلة؛ سيضر بالمركز الائتماني للدولة، وسيضعف قدرتنا في الحصول على القروض الإنتاجية التي نموِّل بها إنتاجنا العادي، وبذلك ستظهر الاختناقات في اقتصادنا القومي بصورة أكثر عنفًا في عام 1975.
كان هذا موقف لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب من ضوابط الاقتراض لتشغيل الطاقات العاطلة (وسبق أن ذكرنا معارضتها لقروض التعمير)، وقد كان هامًا أن نثبت هذا الموقف؛ لأنه قُدِّر بعد ذلك لكاتب تقرير اللجنة - أحمد أبي إسماعيل - أن يصبح وزيرًا للمالية بعد هذا الكلام بأربعة أشهر. وكل ما كان واعيًا به وحذِرًا منه، قام هو بتنفيذه، بل بوسعنا أن نقول إن الوزير المسئول عن صياغة الخطة الانتقالية كان يتوقع – بناء على الاتصالات السياسية– أن هناك احتمالات قوية للحصول على قروض ميسرة (157)، وقد يصلح هذا كتبرير ما، لخطة تعتمد أساسًا على التمويل الخارجي، ولكن ما هي حجة المسئولين الذين اتضح لهم أن الموارد الخارجية الميسرة غير متوافرة بالقدر الذي كان متوقعًا، ما هي حجتهم في الاستمرار؟ لقد سجلت (الطليعة) أيامها، أننا - من حيث المبدأ - ضد الاعتماد على الإقراض الخارجي كمصدر أساسي لتمويل التنمية، ويزداد اعتراضنا– مثل تقرير لجنة الخطة والموازنة – إذا كان محتملاً أننا لن نستطيع سداد هذه القروض الكبيرة، وبالتحديد إذا كانت قصيرة الأجل (158).
(5) السياسات العامة المصاحبة للخطة:
أ- بالنسبة للسياسات العامة التي اعتمدت عليها الحكومة لتنفيذ الخطة، ذكرنا أنها كانت مرتكزة على الدور القيادي للقطاع العام كمعطي، ولكن كان مفهومًا أن هجوم الجهات الخارجية على القطاع العام، ذو شُعَبٍ ثلاث: شُعبة تستهدف ضرب سيطرة الدولة على التجارة الخارجية والبنوك؛ باعتبارها أكثر المواقع أهمية – والشعبة الثانية تستهدف إنهاء التنظيم المركزي للقطاع العام – والشعبة الأخيرة تستهدف تقليص حجم القطاع العام المنتج بشكل عام.
وقد تناولنا ما حققته شعبة الهجوم الأولى – ونوضح هنا أن الحكومة حاولت أن تقف ضد شُعبة الهجوم الثانية خلال عام 1974، وحين أثار مصطفى كامل مراد (بتوارد خاطرٍ غريب مع المطالبات الدولية) قضيةَ إلغاء المؤسسات النوعية رد رئيس مجلس الوزراء "بأن إلغاء المؤسسات العامة، يضع كل المكاسب التي حققناها من خلال إدارة القطاع الاقتصادي، ومن أجل هذا؛ فإنني أؤيد تأييدًا كاملاً بقاء المؤسسات العامة الاقتصادية؛ باعتبارها الشركات الأم (شركات قابضة)" (159).
ولكن هذا الموقف كان – كالعادة – يتراجع سريعًا؛ فبعد أيام من التصريح السابق، صدر قرار بإعطاء 20 مصنعًا سلطاتٍ مطلقة في الإنتاج والاستيراد والنقل البحري، وفي التعامل مع البنوك لتدبير العملات الأجنبية؛ لاستيراد مستلزمات الإنتاج، وأعلن أن هذه القائمة دفعة أولى، وأن كافة الوزراء كُلِّفوا بتقديم أسماء الشركات التي يطبق عليها هذا النظام في قطاعاتهم. وصرح وزير التعاون الاقتصادي بأنه لا يرى مانعًا في تطبيق هذا النظام على كل الشركات العامة. وصحيح أن هذا الإجراء ظل محدود الأثر من الناحية العملية، ولكنه كان مؤشرًا واضحًا إلى أن الحكومة في موقف الدفاع، وتستعد للتراجع. ويعزز هذا الاتجاه أن قطاع الاستثمار المشترك كان مقررًا (وفق القانون 43) معاملته كقطاع خاص، ويعني هذا – ضمن ما يعني – أنه لا يخضع لسلطة المؤسسات النوعية. إن صيغة المؤسسات النوعية
لم تراعِ - في كل الأحوال - طبيعة العلاقات الاقتصادية الموضوعية بين الشركات العامة، ويمكن أن يقال إن أسلوب ممارستها لمهامها التنظيمية والإشرافية، كان يحتاج تطويرًا يزيد من استخدامات المُحفِّزات المعنوية والاقتصادية.

ولكن لم يكن الحل أبدًا لعلاج الصداع قطعَ الرقبة. ودور المؤسسات العامة كان في الأساس – ورغم كل التحفظات – إيجابيًّا، وكان ضرورة لتكامل الجهود في تنفيذ التنمية المخططة، ولترشيد تخصيص الموارد على مستوى مركزي، وللتنسيق بين الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية (على مستوى الوحدات) منعكسة في تحديد الأهداف، وفي السياسة السعرية.. إلخ. وكذلك كانت المؤسسات العامة أداة ضرورية لدعم القطاع العام في مواجهة التحديات الخارجية. وقد تذرعت الجهات الأجنبية بتبرير غريب لهجومها على المؤسسات النوعية، فادَّعت أن المؤسسة المركزية تسيء بالضرورة إلى إنتاجية المشروعات التابعة؛ لأنها بالضرورة أداة بيروقراطية، تعوق إطلاق المبادرات في الوحدات المنتجة، وهذا ادعاء مفضوح الكذب، فقائلوه على بيِّنة من وضع الشركات العابرة للجنسية، التي تدير - من مقر قيادتها في واشنطن أو بون أو أيَّة عاصمة مركزيَّة - فروعًا في أستراليا وزئير وبوليفيا، ويعلمون أن فروع هذه الشركات إذا جاءت في مصر، ستكون حلقة تابعة لهذه المؤسسات المتشعبة والمتكاملة. وهذه المؤسسات تقوم نطاق صلاحياتها– وبكفاءة عالية – بنفس المسئوليات التي تقوم بها المؤسسات المتشعبة والمتكاملة. وهذه المؤسسات النوعية داخل الاقتصاد المصري، ولكن في محاولة للتمركز حول الذات. ويصعب – على ما أعتقد – تفسير هجوم الجهات الخارجية على المؤسسات النوعية للقطاع العام، إلا إذا قلنا إن حيثيات دفاعنا عن هذه المؤسسات، هي نفس الحيثيات الحقيقية التي تدفع الجهات الأجنبية إلى المطالبة بتصفيتها؛ إذ يكفي أنها تنظيم مناسب لقيادة القطاع العام للتنمية المستقلة؛ كي تكون التصفية واجبة. وقد حاولت الحكومة – كما سجلنا أن تعترض.
وحاولت الحكومة أيضًا أن تقف ضد شعبة الهجوم الثالثة، التي تستهدف تقليص حجم القطاع العام. كانت المطالبة ببيع جزء من القطاع العام، قد تفجرت لأول مرة في تقرير لجنة الخطة والموازنة لمجلس الشعب (أبو إسماعيل – ديسمبر 1973). قال التقرير "إنه من الممكن فتح باب للاستثمار الخاص (العربي والمصري) في 49% من أسهم شركات القطاع العام". وأضاف أن هذه الوسيلة ستمكن من توفير النقد الأجنبي للشركات فيزداد إنتاجها، وتزداد إمكانيات التصدير، وأيضًا ستزداد أرباح العمال وتفتح منافذ لاستثمار المدخرات المصرية (160). ويعلم الله ما إذا كان الأمر هنا أيضًا مجرد توارد خواطر، أو شيئًا آخر. ولكنْ معروفٌ أن هذا المطلب، قدمته الجهات الخارجية. ومعروفٌ أيضًا أنها لم تكن من الإلحاح عليه، وتسايرها في الصحف وداخل مجلس الشعب جوقة عالية الصوت. ووقفت الحكومة أيامها مع الرافضين لهذا الاتجاه. ولكن توصيات الجهات الخارجية حول تقليص القطاع العام، كانت لا تقتصر على طرح بعض الأسهم لاكتتاب القطاع الخاص. فلمساندة هذا الاتجاه، كانت التوصيات تلِحُّ على الحد من إنشاء القطاع العام لمشروعات جديدة؛ كي يتولى القطاع الخاص (الأجنبي والمصري) هذه المهمة، فينخفض - مع الزمن - الوزن النسبي لناتج القطاع العام. وقد لاحظنا أن الخطة الانتقالية ركزت اهتمامها على مشروعات الإكمال والإحلال والتجديد، وجعلت البدء في مشروعات جديدة استثناء. وأيامها كان الموقف مبررًا بأنها خطة إنعاش (انتقالية)، ولَكَم - مع ما كشفته التطورات اللاحقة - يمكن أن نفترض أن هذا التوقف عن بدء مشروعات جديدة، قد يكون أيضًا بتأثير الضغوط الخارجية.
ونضيف في نهاية هذه الفقرة، أن أشد ما أصاب القطاع العام في تلك السنة، لم يكن الإجراءات المحددة والمباشرة. أفعل ما تحقَّق، كان انهيار المعنويات، والثقة بالنفس لدى قيادات القطاع العام والعاملين فيه. فالحملة الشرسة ضد الناصرية والتأميمات، تركزت أيضًا ضد القطاع العام؛ باعتباره رمزًا للفشل والتبديد. ونتائج هذه الحملة كانت رصيدًا هامًا استخدمه الأعداء بكفاءة في السنوات التالية.
ب- وإذا كنا قد تناولنا في هذا الفصل مجملَ الممارسات التي أشاعت الفوضى، وخلخلت أساس النظام الاقتصادي، فإن أخطر من كل ما ذكرنا – على المجتمع ككل – فتح الباب بلا ضوابطَ أو ترتيباتٍ، لتصدير قوة العمل المصرية للخارج. تناولنا هذه القضية أثناء الحديث عن قطاع الإنشاء والتعمير، ونذكر الآن أن التصريحات والسياسات الرسمية كانت تعارض أي تخطيط في هذا المجال. كان وزير الإسكان والتعمير آنذاك (عثمان أحمد عثمان) يتحدث مثلاً عن نقص عمال البناء فيقول: "إن هذا قائم فعلاً، وكانت الدولة تمنع سفر عمال البناء إلى الدول العربية، ولكنني عارضت ذلك، وصار الآن يُسمح لعمال البناء بالهجرة (...) فبِالبلاد وفرةٌ من الأيدي العاملة، ولا خوف من نقص عمال البناء المهرة (...) وأودُّ أن أوضح، أننا لو لم نتمسك بحرية الفرد الكاملة في ظل المنافسة، فلا يمكن أن نحقق أي تقدم، فمن شاء السفر من البلاد، فليسافر (...) وعلينا ألا نعتقد أن قلة العمال تعوق معركة التقدم، فهذا غير صحيح، والحرية والتنافس يجلبان الرخاء"(161)... (كلام يبدو كالهذيان، ولكننا نعلم أن عثمان بالذات لا يهذي)، وعبد العزيز حجازي تحدث في نفس الاتجاه "فالعمالة المصرية قوة تصديرية ضخمة، بدأنا تصديرها فعلاً إلى بعض دول أوروبا. ولكن لكي أدعمها كقوة تصدير؛ لا بد من توسيع قاعدة التعليم والتدريب. لا بد من مشروعات في هذا الشأن. لا بد من دعم التعليم الأجنبي، وتعليم اللغات؛ حتى يكون العامل المصري مرغوبًا في الخارج في أيَّة دولة"(162).
وفي مناسبة أخرى قال رئيس مجلس الوزراء: إنه "لا بد أن يكون هدفنا بالنسبة لتصدير العمالة واضحًا؛ كهدفنا بالنسبة لتصدير القطن والأرز، وأن نكسر الكلام الخاص بقيد الهجرة وعدم تصدير البشر؛ لأن هناك ندرة؛ ولأن ذلك يكلف كذا؛ ولأننا محتاجون لهذه الخبرات. بالعكس، فإن العملية التصديرية ضرورة لشعب ينمو، ولا تتوازن إمكانياته مع النمو البشري الموجود".
وعلَّقنا أيامها بأننا لا نعتقد "أن تصريحًا من هذا النوع قد ظهر في أيَّة دولة نامية أو غير نامية، فكافة الدول تجزع من مشكلة استنزاف العقول والمهارات البشرية، عن طريق الهجرة، وقد صرح بعض المسئولين في الدول الأخرى بأنهم عاجزون عن منع هذه الظاهرة الخطيرة، ولكنهم بالقطع
لا يذكرون أنهم يخططون لتشجيعها!

إن المهارات البشرية هي المحرك الأساسي لتسارع التنمية. هذه المسألة أصبحت من المسلمات الآن، ومعروف أن عدد اليد العاملة المثقفة والمدربة في مصر، لا يزيد عن احتياجاتنا. فنسبة الأميين - كما نعلم - أكثر من 70%، وما يبدو أحيانًا في شكل فائض، هو في الحقيقة نتيجة لسوء التخطيط أو سوء التوزيع. فقد يتزايد عدد عرض المؤهلين في مهنة أو مناطق أخرى. وفي التحليل النهائي سنجد أن الطلب أكثر من العرض. ومع ذلك.. ليس مطلوبًا أن نمنع التصدير المؤقت في بعض المهن إلى الدول العربية مثلاً
أو الأفريقية. هذا مطلوب، ولكن ليكن مفهومًا أن هذا يمثل تضحية من جانب مصر في الجزء الأكبر من هذه التخصصات؛ فالمدرسون الذين نرسلهم إلى الدول العربية يؤثرون بالسلب على مستوى الأداء في المدارس المصرية، والأطباء يؤثرون على مستوى مستشفياتنا ووَحَداتنا الصحيَّة.. وهكذا، وفي الحقيقة ينبغي أن تعالَج هذه القضايا مع الدول الشقيقة، في إطار تصور عام للتكامل الاقتصادي وتبادل الموارد النادرة على أسس من المصلحة المتبادلة"(163).

إنني موقنٌ الآن، أن فتح الباب بلا ضوابطَ أمام نزوح قوة العمل المصرية إلى الخارج، والذي بدأ على نطاق غير مسبوق منذ 1974، كان أخطر - في آثاره - من فتح الباب
بلا ضوابط أمام الاستيراد أو الاستثمار الأجنبي، ولا أعتقد أن عدم التخطيط في هذا المجال لم يكن "مخططًا"؛ فالنتائج كانت موجعة جدًا، وهي نتائج لم يقتصر نطاقها على الاقتصاد – بمعنى التأثير على الإنتاجية والاختلالات العشوائية في هيكل الدخول والأجور مثلاً – فالنتائج المجتمعة والاجتماعية والسياسية، كانت أبعدَ أثرًا (انظر الفصل العاشر).

خامسًا – عودة للإطار العام و.. ختام:
(1) نعود إلى التذكير بتطورات الموقف في جبهة الصراع المصري/ الإسرائيلي؛ فبعد الوقائع والتغيرات المؤسسية المحققة في اتفاقية فض الاشتباك على الجبهة المصرية، (ثم على الجبهة السورية) استخدمت الولايات المتحدة سياسة التسويف قبل أن تبدأ الخطوة التالية المرتقبة، بحجة أزمة الرئاسة في الولايات المتحدة، ولكن دون أن تغفل طبعًا عن استخدام الوقت لإحداث التغيرات المطلوبة بهمة محمومة، بل كان التسويف، وتعليق الخطوة التالية، عنصرًا مواتيًا لفرض التغيرات على القيادات التي تريد أن تثبت للولايات المتحدة "حسن سيرها وسلوكها".
وبعد تولي جيرالد فورد منصب الرئاسة، تتابعت تصريحاته المنذرة، فأعلن في سبتمبر مثلاً "أن الأمم ذات السيادة لا يمكن أن تسمح بأن تكون سياساتها مملاة عليها،
أو مصيرها مقررًا بتدابير مفتعلة، ولا تسمح بتشويه الأسواق العالمية للسلع" (164)، وهذه التصريحات جزءًا من محاولة تحطيم الأوبك نفسه، ولكنها كانت في الوقت موجهة إلى الأقطار العربية النفطية التي عبرت عن ضيقها من جمود الموقف الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي، وكان السادات يعبر أيضًا عن تململه، وعبرت تصريحاته عن لهجة نقدية لأول مرة منذ أكتوبر 1973، فوصف موقف الولايات المتحدة بأنه "لم يتبلور بعد"، وأضاف أن الولايات المتحدة ساعدت مساعدة فورية ومجانية في إزالة العوائق من قناة السويس، ولكن لم يزل هناك مشروع لمنح 250 مليون دولار، وهو المشروع الموجود في الكونجرس (165)، وعاد إلى تأكيد نفس الشكوى أمام التلفزيون الأمريكي، فقال: إنه "لا يتوقع غير 250 مليون دولار وهو مبلغ لا يمكن مقارنته بما تقدمه أمريكا لإسرائيل. مصر تخسر سنويًا مثلاً 300 مليون دولار من بترول سيناء (أي 2000 مليون خلال السنوات السبع الماضية) وسوف أطالب أمريكا بهذا" (166). وكل هذا كان يؤكد أن سيطرة الولايات المتحدة على الموقف لا زالت هشة، ويتطلب التدعيم (إلى جانب التهديد) الإسراع بالخطوة المرتقبة. وبالفعل بدأت الرحلة السادسة لكيسنجر إلى الشرق الأوسط.

وكان يتوقع في هذه الجولة – كما صرح دبلوماسي كبير من مرافقيه "أن يصل إلى نتائجَ محددة خلال مباحثاته؛ حتى لا يتخذ مؤتمر القمة العربي القدم في الرباط (29 أكتوبر) مواقفَ متشددة". كانت الولايات المتحدة تخشى من انعقاد هذا المؤتمر في جو من نفاذ الصبر؛ ولذا أعلن في ختام الجولة (14 أكتوبر) وعدًا محددًا لتهدئة "المعتدلين" وقال "سوف أعود إلى المنطقة في الأسبوع الأول من نوفمبر؛ للعمل على تحقيق التقدم نحو السلام في الشرق الأوسط، على أسس قوية ومحددة".
(2) ومعروف الآن أن الأسس القوية، كانت تعني تحركًا ثانيًا على الجبهة المصرية. وتأجيل أي تحرك على الجبهة الفلسطينية، مع تسليمها للملك حسين. وهذا التوجه قبلته القيادة المصرية، فهدد بتفجير الشكوك والتناقضات العربية، وبعزل مصر. ولم يكن ذلك يزعج كيسنجر بطبيعة الحال، ولكن حدث أن قلب مؤتمر الرباط هذه الحسابات، كان المؤتمر تحركًا في الاتجاه المضاد تمامًا، إذا وضع القضية الفلسطينية في مقدمة الصورة؛ كهدف لأيَّة خطوة محتملة، وقرر أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وبعث رسالة تحية إلى القيادة السوفيتية، وكانت المفاجأة (أو هكذا بدت للمراقبين الخارجيين) أن الملك فيصل بحسِّه الإسلامي العميق نحو فلسطين والقدس، كان مع كل هذا الاتجاه بلا تحفظ. ولم تعترض القيادة المصرية.
كان مؤتمر الرباط كما كتب شيهان: "أول هزيمة كبرى تلحق بكيسنجر منذ اندلاع حرب أكتوبر، واعتبره بمثابة عقبة كبرى في سبيل دبلوماسية المراحل" (167). وأبلغت القاهرة أن الاستمرار في سياسة الخطوة خطوة - لتحقيق اتفاق جديد لفض الاشتباك - أصبح متعذرًا. وكانت الولايات المتحدة تعتقد أن التلويح بوقف الدور الأمريكي، ورقةُ ضغط حاسمة، ولكن القيادة المصرية لم تكن قد فقدت زمام المبادرة السياسية تمامًا، فقام وزير الخارجية المصري (إسماعيل فهمي) بزيارة الاتحاد السوفيتي، مع وزير التخطيط (إسماعيل صبري) الذي أعلن بعد عودة الوفد أن السوفييت تعهدوا بتقديم قروض تبلغ 151 مليون دولار لمشروعات تنمية 1975، 1980، وتشمل مشروعات التوسع في مجمع الألومنيوم (نجع حمادي) ومجمع الحديد والصلب في حلوان، بالإضافة إلى إقامة مجمع جديد في الإسكندرية (3 ملايين طن سنويًّا) كما وافقوا مبدئيًّا على المقترحات المصرية لتوجيه القروض السابقة غير المستخدمة إلى مشروعات جديدة (حوالي 373.3 مليون دولار) (168).
(3) وغير معروف طبعًا ما جرى في الاتصالات السرية، ولكن معروف أن الموقف الأمريكي – كما عبر عنه كيسنجر في زيارته لمصر (5 نوفمبر) – لم يتغير. وقد يعني هذا تصورًا من الولايات المتحدة، أن التحرك المصري لا يمثل اتجاهًا جديدًا. ولكن حدث في النصف الثاني من ديسمبر، أنْ استقبل السادات وفدًا من قيادات الشباب السوفيتي (بمناسبة أسبوع الصداقة العربية السوفيتية) وقال: "إن شعبنا في مصر وشبابنا أيضًا يعلم مدى نمو وازدهار العلاقة بين البلدين، ولقد تعاونا سويًّا في بناء القاعدة الصناعية في مصر، وتعاونا أيضًا في بناء السد العالي. كما تعاونا في مجال تزويد مصر بالأسلحة السوفيتية، وما زالت مجالات التعاون واسعة بين البلدين.
لقد صمدت الصداقة السوفيتية المصرية للمصاعب والعواصف الكثيرة، وأثبتت أنها متينة. ومن الطبيعي أن يحدث خلاف أو يقع نوع من سوء الفهم في أية مرحلة من المراحل، ولكن الأسس الراسخة والمتينة للصداقة بين البلدين كفيلة دائمًا بأن تتغلب على هذه المشاكل. وأوضح السادات أن المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفيتي لمصر أمر يعرفه كل مصري، وكل شاب مصري. وكما قلت في مناسبة سابقة، إن ظهور الكتلة الاشتراكية بعد الحرب الثانية، كان له أكبر الأثر في حركات التحرر في العالم الثالث، ومن أجل ذلك نريد أن تتم هذه المسيرة بفهم كامل على كل المستويات في بلدينا، وسوف تتيح لنا زيارة صديقي العزيز الرفيق بريجنيف، أن يعبر الشعب المصري عما يُكِنُّه نحو الاتحاد السوفيتي، ولا شك أن الزيارة ستكون نقطة تحول في الصداقة في بلدينا، ولكي تتم المسيرة التي بدأناها سويًّا"(169).
كان هذا الحديث آخر مرة يذكر فيها الاتحاد السوفيتي بكل هذه الحفاوة والحرارة، ولكن أدركت الإدارة الأمريكية أيامها، أن سيطرتها على الموقف ليست كاملة بعد، وأنه
لا بد من خطوات جديدة قبل استخدام التحذير والتهديد،
أو على الأقل لا بد من بعض الإغراء مع إعلان التحذيرات، فعادت الاتصالات. وكما يقول الرئيس السادات فإن "الأمريكان رغم كل ظروفهم الداخلية السيئة بعثوا يقولون إنهم يريدون استئناف الحركة من أجل السلام".

وكان آلون (وزير الخارجية الإسرائيلي) في زيارة لواشنطن خطوة انسحاب تالية على الجبهة المصرية.
ويبدو أن السوفييت استشعروا اتجاه القيادة المصرية – مرة أخرى – إلى قبول تحرك أمريكي منفرد، بعيدًا عن مؤتمر جنيف؛ إذ عاد الفتور إلى العلاقات المصرية السوفيتية، وجرى لقاء في موسكو حول الموقف الجديد مع وزيري الخارجية والدفاع المصريين، وأعلن بعد هذا اللقاء إلغاء زيارة برجينيف للقاهرة (30 ديسمبر). لم يحمل الإلغاء مجرد احتجاج على قبول القيادة المصرية لإبعاد الاتحاد السوفيتي عن التسوية، ولكنْ ترتب على الإلغاء أيضًا، تأجيلُ بحث جدولة الديون، وتزويد القوات المسلحة بالعتاد.
(4) في هذا الإطار العام، وعلى ضوء ما جاء في هذا الفصل، نلخص النتائج في القطاع الاقتصادي. لقد قطعت الولايات المتحدة شوطًا هامًا في إخضاع الاقتصادي المصري، ولكنها لم تكن قد أنهت مهمتها بعدُ على نحو يطمئنها، واستخدمت الولايات المتحدة في هذا كافة الوسائل والفرص المتاحة بكفاءة عالية، وحققت التالي:
1. اختراق للقطاع الخارجي أسفر عن الإغراق في الديون، وتقليص العلاقات مع الدول الاشتراكية، وإصدار قانون الاستثمار، وفتح الباب بالذات أمام البنوك الأجنبية.
2. فرض أولوية التعمير بممارساتها ونتائجها الاقتصادية المدمرة (بالإضافة إلى أهميتها السياسيَّة).
3. إفشال سياسة الحكومة في السيطرة على الأسعار، وارتفاع معدلات التضخم.
4. فتح باب العمل في الخارج بلا حدود.
5. حدث مع كل ذلك، ومن خلاله، توسع سريع في الفئات الاجتماعية المستفيدة، والمساندة للانفتاح الأمريكي والتي تحتل مواقعَ سياسية واقتصادية فعالة.
ومن الناحية المقابلة ظلت السلطات تقاوم على مستويات مختلفة، وفي معاركَ دفاعية غير متماسكة، فواصلت الحكومة رسميًّا رفض مطالب الحكومة الأمريكية وصندوق النقد والبنك الدولي والشركات العابرة للجنسية، في تخفيض السعر الرسمي للجنيه، وواصلت محاولاتها للسيطرة على هيكل الأسعار المحلي، وواصلت أيضًا، ومعها الفنيون الوطنيون، الدفاع عما في حوزتهم من معلومات، وعن مصالح القطاع العام.
ولكن كان الأعداء في نهاية العام في الموقف الأقوى، وكانوا يستعدُّون لمرحلة الهجوم الجديدة، مستفيدين من زيادة التدهور في حالة التسهيلات المصرفية، ابتداء من سبتمبر (راجع فقرة الديون الخارجية في هذا الفصل)، والتي أدت إلى توقف عن السداد بشكل حاد، وتراكم المتأخرات، (ويلاحظ أن هذه الفترة – بالمناسبة – هي نفس فترة الإنذارات التي سبقت وصاحبت أزمة الرباط). وحاول رئيس مجلس الوزراء أن يحصل على معونات نقدية عاجلة من دول الخليج (من خلال جولة في ديسمبر) لإطفاء الأزمة، وكان قد سبقها بزيارة لإيران (أبريل)، ولكنه عاد بوعود للمشاركة في مشروعات استثمارية طويلة الأجل، وصفر اليدين بالنسبة لأية معونات نقدية عاجلة. وفي آخر العام، كان عامل جديد يتدخل في الموقف؛ إذ انتقلت معارضة الانفتاح إلى الشارع، فتحركت جماهير ساخطة على الانفتاح الذي لم يجلب الأموال، وإنما نشر الفساد واللصوصية والغلاء.

هوامش الفصل السادس
(1) صدر عديد من الدراسات في الغرب حول دور المخابرات المركزية ضد التجارب الثوريَّة في الخمسينيات والستينيات. ولا نستبعد أن المخابرات المركزية كانت خلف بعض ما سرب من معلومات (أو ما أُشيع كمعلومات) بهدف التخويف والحرب النفسية. في المكتبة العربية، يمكن الرجوع إلى ترجمة كتاب دافيد وايز – توماس روس: الحكومة الخفية، (القاهرة: دار المعارف، 1965)، ترجمة جورج عزيز – أيضًا اقرأ عن دور المخابرات المركزية، وأجهزة التخريب الأخرى ضد تجربة شيلي في: مجدي نصيف، شيلي – الثورة، والثورة المضادة، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1976).
(2) Philip Agee, CIA Diary, op. cit. وبالنسبة للشركات العابرة للجنسية. انظر مجدي نصيف – شيلي – مرجع سابق، أيضًا:
A. Sampson. The Sovereign State, The secret History of ITT, London: Coronet Books, 1975).
وأيضًا يمكن الرجوع إلى عديد من الكتب المعروفة التي تتناول تاريخ وأسلوب عمل شركات النفط.
(3) Victor Marchetti and John D. Marks, The CIA and the Cult of Intelligence, (N. Y: Alfred A. Knoff, 1974). The first book the U.S. Government ever went to court to censor before publication.
هذا الكتاب مرجع هام فعلاً، وقد حكم بحذف عدد من الفقرات من الكتاب؛ لكي يُسمح بنشره، وكانت أغلب الفقرات المحذوفة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، أي: بمنطقة الصراع العربي الإسرائيلي.
(4) علوي حافظ، "مهمتي السرية بين عبد الناصر وأمريكا"، الأخبار، (31/ 7-7/8 سنة 1976).
(5) M. Heikal, The Road to Ramadan, (Fontana: Collins, 1976), pp. 198-202 Ibid, p. 247.
bid, P. 247. (6).
(7) حسني مبارك، حديث إلى علي حمدي الجمال، "4 مفاجآت في حياتي آخرها منصب نائب رئيس الجمهورية"، الأهرام، (5/6/1975).
(8) في قضية عبد الحكيم عامر (1967) سُئل صلاح نصر – في التحقيق معه – عن صِلاته بالمخابرات المركزية، فقال إنه كان على صلة منتظمة بها؛ بالمخابرات السوفيتية، كجزء من مسئولياته؛ كمدير للمخابرات العامة المصرية. وبالنسبة لدور المخابرات المركزية الأمريكية في أوروبا الغربية (لجمع المعلومات، وللتأثير في السياسات) انظر:
Philip Agge and Lowis Wolf, Dirty Work, The CIA in Western Europe, 1978.
دور المخابرات المركزية في التخريب داخل الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، نُشر عنه الكثير، وأيضًا عن الدور المشابه، وفي اتجاه مضاد للمخابرات السوفيتية، ولكن لم ينشر – في حدود علمنا – عن دور المخابرات كأجهزة للاتصالات التحتية بين الدولتين. ومعروف أن الاتصالات السرية وقواعد العلاقات (خاصة في ظل الانفراج الدولي)
لا تقتصر على شبكة المخابرات. ولكن لم تنشر أيضًا معلومات محددة عن ذلك.

(9) نعتمد في الصفحات التالية على ما تناثر من معلومات في كتب أمريكية وإسرائيلية. وأيضًا على ما جاء على لسان الرئيس السادات، وفي كتاب حسنين هيكل. وفي ذهننا طبعًا أن المعلومات في كافة هذه المصادر سرية بحساب دقيق، ومبتورة أو محورة لخدمة مصالح معينة. وبالتالي استخدمناها بعد مضاهاة ومحاكمة، وبمساعدة المفاهيم النظرية التي نعتبرها صحيحة.
(10) Heikal, The Road to Ramadan, op. cit., p. 202.
(11) Mattei Golan, The Secret Conversations of Henry Kissinger. Step – by – Step Diplomacy in the Middle East, (New York: Bantam edition. 1976), pp. 144–155.
(12) Marvin Kalb and Bernard Kalb, Kissigner, (Boston: Little brown, 1974), p. 456.
(13) الرقم الإجمالي للدبابات المحطمة خلال 15 يومًا من القتال، وصل إلى 3000، وللمقارنة فإن الخسائر في معركة من أكبر معارك الدبابات خلال الحرب العالمية الثانية، بين رومل ومونتجمري في الشمال الأفريقي، لم يتجاوز 650 دبابة خلال ستة أشهر (هيكل – الطريق إلى رمضان، مرجع سابق، ص157).
(14) انظر مثلاً: د. جمال حمدان، 6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، (القاهرة: عالم الكتب، 1974)، الفصل التاسع.
(15) Kalb, Kissinger, op. cit., 475.
(16) M. Golan, The Secret Conversations. op. cit, p. 66.
(17) حسنين هيكل تساءل في كتابه أيضًا عن سر هذين الموقفين، وبدا أنه يعللهما بنقص الخبرة فيما يتعلق باختيار اللحظة المناسبة لوقف القتال، وبممارسة سياسات ما بعد الحرب عمومًا – وبالنسبة لوقف التقدم نحو المضايق، كان التعليل بالحذر الزائد لدى القيادة العسكرية وقصور الخيال. وكان اللواء مصطفى الجمل (المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا) صريحًا جريئًا في نشر وجهة نظره بخصوص التوقيت في وقف إطلاق النار. كتب: إننا "نجد القيادة السياسية في تشرين أول/ أكتوبر 1973 تعطي القيادة العسكرية الفرصة كاملة دون تدخل، ولم تذعن للضغوط الدولية لوقف إطلاق النيران، إلى أن حققت القوات المسلحة أهدافها... ولو أنني في الوقت نفسه آخذ على القيادة السياسية أنها لم تقبلْ وقف إطلاق النار عندما عرض يوم 13 أكتوبر بعد أن حققت هدفها المرحلي من الحرب، وبعد أن أغدقت أمريكا أسلحتها المتطورة على إسرائيل بلا حساب. ولو كان قد حدث ذلك؛ لما حدثت الثغرة التي شوهت انتصارنا الكبير" ("رسالة إلى زكي نجيب محمود"، الأهرام، (17/2/1977).
(18) كرر الرئيس السادات في عديد من خطبه وأحاديثه أن الملك فيصل طلب منه أن يواصل القتال أطول مدة ممكنة؛ حتى يتهيأ له الإعداد لعمل مشترك من الدول النفطية.
(19) "من أوراق الرئيس السادات"، مجلة أكتوبر (30/1/1977)، العدد 14.
(20) M. Golan, The secret Conversations, op. cit., pp. 86-87.
(21) يقول كتاب الأخوين كالب: إن كيسنجر أبلغ دينتز (السفير الإسرائيلي) محرم صباح 24 تشرين أول/ أكتوبر (قبل إعلان رفع حالة التأهُّب) أن وقف إطلاق النار ينبغي أن يحترم، وطلب السماح بقوافل الطعام والماء والعلاج؛ لكي تصل إلى الجيش الثالث (p. 488) – وأشار هيكل إلى أن السادات تلقَّى رسالتين من نيكسون (في 24 تشرين أول/ أكتوبر)، ولكنه كشف فقط عن محتويات الرسالة التي نقلنا مضمونها (البند 8). ووفقًا لجولان، فإن نيكسون أرسل رسالة سريَّة إلى السادات (24 أكتوبر) قال فيها: إن الولايات المتحدة لن تسمح - تحت أي ظرف من الظروف - بتحطيم الجيش الثالث أو تجويعه. ويقول ماتي إن كيسنجر التزم بنفس الشيء أمام الاتحاد السوفيتي (p. 89 and 104(.
(22) جاء في الندوة السنوية السادسة عشرة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، التي عُقدت في 12/15 أيلول/ سبتمبر 1974: "لقد امتدت حرب أكتوبر رغم أنها من أقصر حروب القرن العشرين – إلى آفاق أبعدَ بكثير من مجالها وأبعادها ومدتها القصيرة نسبيًا. وفي حين أنه من السابق لأوانه التنبؤ بآثارها النهائية، إلا أنها قد أحدثت فعلا تحولات في توازن القوى بالمنطقة، وفي علاقتها ببقية العالم. ورغم أن الحرب قد أثرت بدرجة كبيرة على جميع الأطراف المتحاربة، إلا أن معظم نتائجها المباشرة كانت تلك التي أثَّرت على إسرائيل، والتي يبدو أن موقفها قد أصابه الضعف في ثلاث نواحٍ رئيسية: فعلى المستوى العسكري، فإن الصورة التي كانت تتمتع بها إسرائيل على مدى واسع في المجتمع الدولي، كقوة ذات استقلال ذاتي ونفوذ قد اهتزت بشدة؛ حيث أكدت الخسائر الأولية لإسرائيل في الجو، والهزائم التي مُنيت بها في معارك سيناء، مدى تعرضها عكسريًّا، بينما كشفت حاجتها إلى إمداد ضخم من الأسلحة والذخيرة والمعدات في أثناء سير القتال، عن مدَى اعتمادها على معاونة الولايات المتحدة. ولقد نتج عن ذلك مراجعة جادة لقيمة التفوق الإسرائيلي، وخاصة في الولايات المتحدة؛ حيث تغير العديد من المفاهيم الرسمية بالنسبة للدور الاستراتيجي الذي تستطيع إسرائيل أن تلعبه في الشرق الأوسط.
كما نتج عن حرب أكتوبر إمعان النظر جيدًا في سياسات إسرائيل السابقة تجاه العرب، مما نشأ عنه عزلة دبلوماسية دلت على خطر المبالغة والتهويل في تقدير قوتها. وحتى الولايات المتحدة – السند والحليف الرئيسي لإسرائيل – انتهزت الفرصة التي قدمتها الحرب لتحسين مركزها في العالم العربي واتخاذ دور أكثر انصافًا وعدلاً كوسيط وصانع سلام.
ومن الناحية النفسية، انعكست آثار الحرب داخل إسرائيل في ضعف الثقة بالقيادة السياسية، وفي فقد الجيش. ولقد وصف المعلِّقون الإسرائيليون الحربَ بزلزال هزَّ إسرائيل من جذورها، واوجب البحث عن منافذَ جديدة للتخلص من هذا الموقف الصعب، وزادت الخلافات في الرأي مع سياسة الحكومة؛ سواء من ناحية اليمين أو اليسار، فعلى المستوى القومي قويت أحزاب اليمين، بينما بلغ الأمر في بعض الدوائر العسكرية، إلى حد التشكك في قدرة الصهيونية نفسها على البقاء. ولقد أظهرت الانتخابات التي أُجريت بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر تزايدًا في عدد الشبان الإسرائيليون الذين تبخرت أحلامهم في الحياة في إسرائيل، والذين يرغبون في الهجرة منها إذا أُتيحت لهم الفرصة، كما أعادت الصحافة اليومية إلى الأذهان أصداء عقدة مسعدة"، (نقلاً عن: اللواء مصطفى الجمل، استراتيجية إسرائيل بعد حرب أكتوبر (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية – مؤسسة الأهرام، أكتوبر 1976)، ص14 – 15، التشديد في النص السابق من المؤلِّف ع. ح.
(23) Heikal, The Ropad to Ramadan, op. cit., p. 232 and p. 247.
(24) Ibid., p. 231.
(25) Kalb, Kissinger, op. cit., p. 507.
(26) M. Golan, The Secret Conversations, op. cit., p. 108.
(27) نقلاً عن جولان، المصدر السابق، فإن كيسنجر قال لمساعديه أن منهجه في مفاوضات الشرق الأوسط، كان وفقًا لنموذج المفاوضات في فيتنام. وقد أوضح الارتباط بين الحالتين على النحو التالي: "إن التشابه بين المفاوضات في فيتنام والشرق الأوسط، يتمثل في أن الولايات المتحدة ساعتها كانت كإسرائيل في نهاية 1973 أي كانت في وضع أدنى. كان كل شيء ضد الإدارة في واشنطن: الرأي العام، ومجلسا الكونجرس. كان واضحًا أن الولايات المتحدة ستُضطر إلى الخروج من فيتنام عاجلاً أو آجلاً. وكانت المشكلة هي كسب الوقت، وكان علينا – إذن - إنهاك الجانب الآخر للحصول على اتفاق أفضل. والاستراتيجية كانت بسيطة: اسبق خصمك دائمًا (في المفاوضات) باقتراح، وعند أي اقتراح مضاد، كن مستعدًا باقتراح جديد. وبهذه الطريقة يمكنك أن تتأكد دائمًا، من أن اقتراحَك أنت، سيكون موضع المناقشة. وبموازاة ذلك، وقعت هانوي فيما تمنته واشنطن حين شرعت في هجوم مكَّن الولايات المتحدة من العودة إلى قصف الشمال، فازداد إنهاك هانوي" (p. 176).
وبغض النظر عن نتائج هذا التكنيك في مفاوضات فيتنام، فإن الملاحظ أن هذا التكنيك استخدم فعلاً مع الجانب العربي، ومع مصر بشكل خاص، ونجح عندنا فيما فشل فيه هناك. وأعتقد أن كيسنجر لم يكن في هذا الكلام يقترح منهجًا مناسبًا للإسرائيليين فقط؛ إذ كان يحدد أيضًا منهجًا للدبلوماسية الأمريكية. وقد استخدمه الاثنان على أية حال، فساعد في إحكام السيطرة الأمريكية، وفي تحسين الموقف التفاوضي الإسرائيلي.
(28) انظر في هذه النقطة: عادل حسين، "الموقف الأمريكي من الصراع العربي الإسرائيلي"، الطليعة، عدد (يناير 1974).
(29) محمد حسنين هيكل، حديث خاص مع كيسنجر، مقال "بصراحة" الأهرام، (16/11/1973).
(30) Golan, The Secret Conversations, op. cit, p. 153.
(31) Ibid, p. 14.
(32) Kalb, Kissinger, op. cit., p. 541.
(33) "لأمر ما، لسنا نفهمه، تأخر الفصل بين القوات المتحاربة على جبهة الجولان طويلاً، ولم تبدأ المحادثات الجديدة حوله بالكاد، بينما قد تم تنفيذ الفصل على جبهة سيناء نهائيًا منذ بضعة أشهر، بل وتم رفع الحظر عن البترول إلى أمريكا، وعن خفضه بالنسبة للدول الأخرى. وكان الظن أن يترابط الفصل على الجبهتين في اقتران وتزامن شرطي، وأن ينتظر رفع الحظر كلتيهما" هكذا كتب د. جمال حمدان (6 أكتوبر، مرجع سابق)، ص319. وأعتقد أن أسباب التأخر أصبحت مفهومة الآن تمامًا. وعلى رأس الأسباب تمزيق الصف العربي – سألت محطة التلفزيون الأمريكية في تلك الفترة – على سبيل المثال – "يتصور البعض أنكم قد تخليتم عن سوريا بعض الشيء؛ لقبولكم الفصل بين القوات في سيناء، وأن ذلك خفف من الضغط على الإسرائيليين، وأن السوريين يشعرون بأنهم قد تُركوا وحيدين هنا دون أن تمارسوا أنتم ضغطًا على الإسرائيليين. فهل هذا صحيح؟ - وأجاب الرئيس السادات: "لا يدور ذلك في بعض الدوائر في سوريا فقط، بل إنه ليدور أيضًا في بعض الدوائر العربية، ولكن هذا ليس صحيحًا".
(34) يُذكر أن الملك فيصل - رحمه الله - كان لا يخفي مخاوفه من هنري كيسنجر؛ بسبب أصوله اليهودية، وصارحه تقريبًا بذلك. فقد نقلت كافة المراجع عن كيسنجر أن الملك فيصل أوضح له أن اليهود سبب "مصائب الدنيا" جميعًا؛ بدءًا من البلشفية، وانتهاء بربيبتها الصهيونية. وقال إن اليهود يلعبون في الغرب دورًا خطيرًا لمصلحة إسرائيل.
(35) صرح هنري كيسنجر في 26 يونيو 1970 (سانت كليمنت): نحن نحاول تحقيق تسوية في الشرق الأوسط على النحو الذي يدعم الأنظمة المعتدلة، وليس الأنظمة الراديكالية. نحن نحاول طرد الوجود العسكري السوفيتي "نقلاً عن:
J. Waterbury. Egypt 1976, North East Africa Series, Africa, Vol. XX, N". 3 Field Staff Reports, p. 4.
(36) يختلف موقفنا هذا عن تصوّر د. فؤاد مرسي الذي بالغ في دور القوى الاجتماعية المحلية في إحداث الردة "إن مشكلة المشاكل، هي أن هناك وضعًا اجتماعيًا معيَّنًا (...) يتمثل في أن هناك طبقة عليا جديدة قد نمت، وصار لها وجودها المحسوس، بل صارت لها تطلعاتها لفرض سيادتها على المجتمع بأسره"، (هذا الانفتاح، مرجع سابق، ص132/ 133) ويعود المؤلف بهذه الظاهرة إلى الستينيات، وخاصة بعد الهزيمة؛ حيث "تبلورت في قمة المجتمع من جديد فئات وأقسام عليا تشكل رأسمالية كبيرة، ذات كيان طبقي مستقل عن الرأسمالية الوطنية، وذات اتجاهات مختلفة عنها، وفي أحيان كثيرة متعارضة معها" (ص136). والمؤلف لا يربط تطورات الانفتاح بالمخطط الأمريكي، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، واختيارات القيادة السياسية، وارتبط بهذا– كما سبق أن لاحظنا – عدم تنبه البحث إلى خطورة الدين الخارجي؛ كأداة أساسية لفرض التبعية.
(37) Document of the World Bank, Arab Republic of Egypt, Economic Report, Report N. 870 a-EGT, (Not for Public Use), January 1976, pp. 4 – 5.
(38) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity of Egyptian Economy, (Paris: OECD, Development Centre, Restricted 30 th May 1975) CD/-AG (75) 1117-1, p. 45
(39) إدوار ر. ف. شيهان، العرب والإسرائيليون وكيسنجر، (القاهرة: وزارة الإعلام، الهيئة العامة للاستعلامات، 1976)، ص66 وص113، كتب مترجمة (722).
(40) Yusuf Ahmed, Absorptive Cop., op. cit., p. 47
(41) قانون استثمارات المال العربي والأجنبي والمناطق الحرَّة – مجموعة الأعمال التحضيرية، (مجلس الشعب – اللجنة التشريعية)، ص ص 104 – 105.
(42) المرجع السابق، ص118.
(43) المرجع السابق، ص386.
(44) راجع مداخلات عبد العزيز حجازي في مناقشات مجلس الشعب، مضبطة الجلسة 35، الفصل التشريعي الأول، المرجع السابق.
(45) حديث للرئيس السادات إلى مجلة نيوزويك، نقلاً عن الأهرام، (10/3/1974).
(46) الأهرام، (19/3/1974).
(47) الأهرام، (13/4/1974).
(48) نقل علي أمين هذا الحديث على لسان الرئيس، "أخبار الغد"، الأهرام، (8/2 سنة 1974).
(49) صرح نيكسون بأنه "تأثر جدًا، ليس فقط بعدد الجماهير التي استقبلتنا، فالأهم من ذلك الحماسة التي أبدتها هذه الجماهير (...) ومن جانب آخر، فإن الشيء الذي يدعو إلى التأثر، أن هذه الجماهير تبدي شعورًا عميقًا بالمودة والصداقة لأمريكا". وحين سأله بعض مرافقيه: ألا تعتقد أن وجودك هنا قد يزيد من آمال الجماهير، وأن هذه الآمال قد يصعب تحقيقها؟ قال نيكسون: إن الرئيس السادات، وأنَّا قد أجرينا محادثاتٍ مكثفة جدًا، تناولت مطالب مصر وكيف نواجه هذه الجماهير بطريقة فعالة، ودون أن نبالغ في الوعود. وفي نفس الوقت دون أن نخيب آمالهم؛ كنتيجة طبيعية لعدم الاستجابة للتطلعات التي أثرناها فيهم. إن المشكلة أعقد من أن يُتصوَّر معها، أن زيارة رئيس أمريكي تعني بالضرورة حلاً سريعًا وفوريًّا للمشاكل. إن الرئيس السادات أراد مني مثلاً أن أزور ما يسميه بأحياء القاهرة الفقيرة، وأراد مني أيضًا أن أرى الدلتا أخصب أراضي مصر، وإن كان الفلاحون من الفقراء، وكان من المهم أن نلاحظ أن الشعب في أحياء القاهرة الفقيرة، وفي أخصب أراضي مصر على السواء، يظهرون الصداقة كما كانوا يظهرونها حول قصرَي القبة والطاهرة. ولقد كنا حريصين في خطبنا العلنية، على أن نتكلم فقط عمَّا يمكن تحقيقه".
مؤتمر صحفي للرئيس نيكسون في القطار إلى الإسكندرية– الأهرام، (14/6/74).
(50) نصوص البيان المشترك، نُقِل عن:
Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit, Annex 5 (Text of the Joint Statement).
(51) كان رأي عدد من الفنيين الوطنيين كالتالي:
أ- إنتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربائية، يمكن أن يتحقق عبر بدائلَ مختلفة: 5 محطات حرارية (تستخدم المازوت أو الغاز الطبيعي) مخطات غازية (تستخدم السولار أو النافتا) – محطات نووية – محطات كهروماتية. وفي اختيار البديل الأمثل لا بد من دراسة مدى جدوى المشروعات الجديدة، ودراسة الآثار الجانبية المُحتملة.
ب- بالنسبة للمحطات النووية بالذات، تدل تجربة الدول المتقدمة صناعيًّا على أنها مُكبَّلة بالمشاكل؛ لذا تباطأت الإنشاءات في مواقع محطات القوى عبر الولايات المتحدة؛ بسبب تضاعف تكلفة الإنشاءات بالإضافة إلى انخفاض كفاءة أداء هذه المحطات (طبقًا لبيانات هيئة الطاقة النووية بأمريكا عام 1975، فإن محطات القوى النووية، اشتغلت في الولايات المتحدة بنصف طاقتها في المتوسط، كما أن الزيادة في تكلفة تشغيل هذه المحطات 30.2 مليون دولار، في عام 1974). وكذلك ثبت ارتفاع نسبة الحوادث في كثير من المحطات، وارتفعت أسعار الوقود النووي من 17 دولار للكيلوجرام من أكسيد اليورانيوم عام 1973 إلى 66.57 دولار للكيلوجرام عام 1975.
جـ- ولا تقتصر المشاكل على اقتصاديات العملية؛ فأهم من ذلك أخطار التلوث الكبيرة بالنفايات الذرية (تصادف الدول المتقدمة صناعيًّا – رغم إمكانياتها – مشاكلُ كبيرة غير محلولة في هذا المجال).
د- إقامة المحطات النووية له مخاطرُ استراتيجية تهدد السيادة؛ لأن الدول العظمَى تحتكر بيع الوقود النووي، وهي تملك رفع الأسعار، أو الامتناع عن البيع لأسباب سياسية.
هـ- ويبين من كل هذه المحاذير الاقتصادية والفنية والسياسية، أن بديل المحطات النووية ليس أفضل المتاح لإنتاج الطاقة الكهربائية.
(انظر: د. راجية عابدين خير الله، "مستقبل الطاقة الكهربائية في مصر حتى عام 2000"، سيمينار معهد التخطيط القومي، (القاهرة: 21 مارس سنة 1978).
ويروي ماتي جولان رواية ذات دلالة عن هذه المفاعلات؛ ففكرة منشآت نووية في يد العرب، كانت كافية لإثارة الانزعاج لدى القيادة الإسرائيلية؛ إذ يدرك الأخصائيون إمكانيةَ تحويل مثل هذا المفاعل إلى أغراض عسكرية. ولكن الأمر الأكثر إزعاجًا، هو أن الإسرائيليين
لم يعلموا عن هذا الموضوع إلا من الصحف؛ إذ يعني ذلك (وهو ما لم يذكره جولان صراحة) إصرار الولايات المتحدة على أسلوب جديد في التعامل مع إسرائيل بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر.

ويضيف المؤلف الإسرائيلي، أن القادة الإسرائيليين سألوا كيسنجر عن طريقة التثبت من أن المفاعل لن يُستخدم لأغراض عسكرية. فرد كيسنجر بهدوء: "إنه حقيقة لا يعلم ماذا يقترح الإسرائيليون؟" وتلقَّى كيسنجر الرد الذي كان يتوقعه وهو "الإشراف الأمريكي"، فكان تعليقه أن هذه فكرة تبدو معقولة، ولكنها قد تعني إشرافًا أمريكيا مقابلاً على القدرات النووية الإسرائيلية. ويقول جولان: إن تعليق كيسنجر كان كافيًا لإغلاق الموضوع (ص ص215/ 216). ولكن هذه الرواية تجعلنا نفترض أن الموضوع لم يغلق عند هذا الحد، فمن المُؤكَّد أن التحكم في مستقبل الحرب والسلام، وإخضاع الأطراف المحلية للسيطرة الأمريكية، يعارضه استحواذ إسرائيل على قوة نووية مستقلة، بعيدة عن الإشراف الأمريكي. وكان طبَعيًّا في مرحلة إعادة إسرائيل إلى حجم مقبول أمريكيًّا، أن تسعى الولايات المتحدة إلى الحد من الاستقلال النووي لإسرائيل. فهل كان التلويح بحكاية المفاعلات المصرية – في تلك الفترة – ضمن أدوات الضغط لتحقيق هذا الهدف؟ إن إخراج السوفييت من المنطقة كان يتطلب التزامًا أمريكيًّا بتحييد القوة النووية الإسرائيلية المهددة لمصر. ويتحقق ذلك عبْر ثلاثة بدائلَ:-
وضع مصر مباشرة تحت المظلة النووية الأمريكية في مواجهة إسرائيل – إقامة مفاعلات نووية في مصر – ضمان من الولايات المتحدة بألا تستخدم إسرائيل قوتها النووية ضد مصر من خلال إشراف أمريكي على استخدامات هذه القوة وتطورها. ولا شك أن البديل الثالث، هو الأنسب والأكثر فائدة بالنسبة للولايات المتحدة، والملاحظ – كما قلنا – أن الحديث عن المفاعلات النووية لمصر توقفت فترة طويلة – فهل حدث ذلك مقابل بسط إشراف أمريكي على القوة النووية الإسرائيلية؟
(52) د. عبد العزيز حجازي (حين كان رئيسًا لمجلس الوزراء)، حديث للصحافة المصرية نشر في (24 أكتوبر 1974)، وأعيد نشره في جريدة الأنوار اللبنانية في (26 تشرين أول/ أكتوبر 1974).
(53) د. وحيد رأفت، "من أين نبدأ وإلى أين؟" مجلة مصر المعاصرة، (يوليو 1975)، العدد 361، ص85 – 86.
(54) د. عبد المنعم القيسوني، "التطورات العالمية الاقتصادية الأخيرة مع الإشارة بصفة خاصة للعالم العربي ولمصر"، مجلة مصر المعاصرة، (أبريل 1974)، عدد 365.
(55) يقال إن أحمد بهاء الدين وإسماعيل صبري وكمال أبو المجد، كانوا مسئولين عن صياغَة ورقة أكتوبر.
(56) World Bank, Report No 870 a-EGT, op. cit., pp. 1 – 2 وقد أعيد نشر نفس التلخيص بنفس الكلمات في التقرير الشامل الذي أعدَّه البنك الدولي عن الاقتصاد المصري (ستة أجزاء):
Arab Republic of Egypt, Economic Management In a Period of Transition, Report No= 1815 EGT. Novermber 1977; Vol. 1, pp. 13 – 15. Document of the World Bank, for Official Use Only. CONFIDENTIAL.
(57) World Bank, Report No 870 a-EGT, op. cit., p. 3.
(58) Ibid, p. I.
(59) Ibid., p. IV.
(60) عادل حُسَين "ورقة أكتوبر: وجهة نظر في التطبيق"، الطليعة، (يونيو 1974).
(61) بعض الدارسين الجادِّين يهاجم ورقة أكتوبر باعتبارها الإطار النظري لما تمت ممارسته باسم الانفتاح. وأعتقد أن هذا تقويم غير صحيح. انظر مثلاً "بحث د. جودة عبد الخالق حول سياسة الانفتاح"، مرجع سابق.
(62) البيانات التالية عن صندوق النقد مصدرها:
Document of International Monetary Fund and Not For Public Use, SM-74-172, July 1974.
To: Members of the Executive Board.
From: The Acting Secretery.
Subject: Arab Republic of Egypt. Staff Report and Proposed Decision For the Article XIV Consultation. CONTAINS CONFIDENTIAL INFORMATION.
(63) World Bank, Report No. 840 a-EGT, cit., p.I.
(64) Ibid, pp. 22 – 23.
(65) Ibid, pp. 23 – 24.
(66) الخطة الانتقالية يوليو 1974/ ديسمبر 1975، (القاهرة: وزارة التخطيط – جمهورية مصر العربية، أكتوبر 1974)، ص143 و124.
(67) عادل حسين، الطليعة، (أبريل 1974)، مرجع سابق.
(68) د. أحمد أبو إسماعيل: "كيف دخلت حكومة حجازي الثالوث المخيف"؟ جريدة الأخبار، (21/8/1977).
(69) د. أحمد أبو إسماعيل: "حجازي بين خيارين"، جريدة الأخبار، (22/8/77).
(70) World Bank, Report No. 1815 EGT, op. cit., p. 38.
(71) دراسات تلك الفترة حول أسباب التأميمات أشارت إلى التالي:
أ- في غياب سيطرة وتخطيط مركزي يؤدي طلب عروض من الموردين في وقت واحد لنوع معين من السلع إلى رفع هؤلاء الموردين لسعرها، فيتم الاستيراد بسعر يزيد عن السعر الحقيقي، وعن السعر الذي كان ممكنًا الشراء به لو لم يتم الطلب بكميات كبيرة وفي وقت واحد. ويعني ذلك تبديد للنقد الأجنبي، وعبئًا على المستهلك.
ب- تعدد المستوردين للسلعة الواحدة من مصادر مختلفة أدى إلى وجود ماركات مختلفة، دون ضرورة تدعو لذلك، وقد استتبع هذا، توفيرَ قطع الغيار اللازمة بهذه النوعيات المتباينة، وبالاستيراد من أسواق متباعدة (السيارات نموذج يقرب الصورة) ويعني ذلك استيراد قطع غيار بكميات قليلة من كل سوق؛ مما يرفع من تكلفة الاستيراد؛ إذ لو تم الاستيراد بكميات كبيرة؛ لأمكن الحصول على خصم من الموردين.
جـ- رفع المستوردين لأسعار السلع التي كانوا يستوردونها عن الأسعار الحقيقية؛ بقصْد تهريب أموالهم للخارج، أو لبيع الهامش المُضاف بالعملة المحلية (بأسعار مبالغ فيها). كذلك لجأ المستوردون (لنفس الأغراض) إلى التهرب من تحويل النسبة الحقيقية للعمولات التي كان المستوردون يتقاضونها من المُصدِّرين والموكِّلين بالخارج.
د- عدم اهتمام المستورد بالحصول على أقل الأسعار (بل قد يحرص على ارتفاع السعر) حتى يزيد ما يتقاضاه من ربح عند تصريفه للسلع التي يستوردها، فإذا كان المستورد يتقاضى 5% عند تصريفه لهذه السلع بالسوق الداخلي، سيزيد ربحه إذا استورد نفس السلع بمليون جنيه مثلاً بدلاً من 800 ألف جنيه (وهي القيمة الحقيقية لها)، ويقدم المصدرون للمستورد حوافزَ مجزية؛ ليفعل ذلك.
هـ- في حالة استخدام تراخيص الاستيراد كأداة تنظيمية، يحدث أن يبيع بعض المستوردين تراخيص الاستيراد التي يحصلون عليها، و/ أو يتنازلون عنها إلى آخرين، ويؤدي هذا إلى زيادة أسعار السلع على المستهلك النهائي، بالإضافة إلى ظهور فئة من أصحاب الدخول الطفيلية.
و- تخصيص الموارد المحدودة للنقد الأجنبي وفق أولويات ملزمة يتطلب إدارة مركزية تنظيم الاستيراد في الوقت المناسب، وبالأسعار المناسبة (والمستقرِّة قدر الإمكان)؛ وفقًا لخطة التنمية ولاحتياجات القطاع العام، ولضمان توفير سلع الاستهلاك الضروري لمحدودي الدخل.
ز- قيام التكتلات الاقتصادية بين الدول المتقدمة صناعيًا والشركات التجارية والصناعية الكبرى، لغرض سيطرتها على الدول الصغرَى والدول "النامية"، يستلزم تمركز عمليات التجارة الخارجية في مؤسسة تملك القوة والمرونة في مواجهة هذه التكتلات.
انظر: قدرِي الشرقاوي، التجارة الخارجية – الاستيراد والتصدير الأصول العلمية والعملية، (القاهرة: مكتبة التجارة والتعاون، 1976)، ص146 – 148.
* ويلاحظ أن كل الأغراض، والنواقص التي تحدثت عنها هذه الدراسات عادت على نطاق واسع مع الانفتاح.
(72) كان الرئيس الراحل عبد الناصر مُتنبِّهًا إلى هذا الذي أثبتناه. في جلسة مجلس الوزراء (فبراير 1969) وجه حديثه إلى حسن عباس زكي، وقال "في البلد إشاعات عن تصرفات لبعض المسئولين في قطاعَي التجارة والاقتصاد. الإشاعات تقول: إن هناك عمولات ضخمة تُدفع لبعض الموظفين الكبار في هذين القطاعين.
وأنا أرى عدم ترك القيادات في مثل هذه القطاعات لفترات طويلة، ولا بد من تغيرها من آنٍ لآخر. علينا أن نراجع الصفقات والعمليات مراجعة دقيقة ومستمرة؛ لأنه
لا ينبغي أن نفتح للناس سككًا وطرقًا تؤدي بهم إلى الفساد والانحراف. المال السايب يعلم السرقة" – من محاضر اجتماعات عبد الناصر، مرجع سابق، ص161 – 162 – ولكن لم تتخذ إجراءات حازمة في هذا الاتجاه رغم هذا التوجيه المحدد.

(73) ممارسة تعدد أسعار الصرف لها تاريخ طويل في مصر، (فمنذ 1958 نشأت "حسابات التصدير"، و"حسابات حق الاستيراد"، ثم صدر القرار 364 لسنة 1968 الذي منح تيسيرات نقدية للمواطنين العاملين في الخارج أو من يؤدون خدمات للخارج، وفي عام 1971 قرر نظام للعلاوة على الخدمات الفندقية بنسبة 35%، وفي أوائل 1972 عممت العلاوة على حصيلة السياحة، وعلى أساس نسبة الـ 35% وفي عام 1972 تقرر العمل بأسعار صرف تشجيعية أخرى بالنسبة للمدخرات والسياحة تضمنت علاوة نسبتها 50% من السعر الرسمي، ووجهت الحصيلة الناشئة عن ذلك إلى استخدامات منظورة وغير منظورة. وحين أنشئت السوق الموازية بالقرار الوزاري رقم 477 لسنة 1973 قيل إن الهدف إنشاء نظام متكامل لممارسة تعدد سعر الصرف، وقد أوجب القرار أن يتم التعامل في السوق الموازية للنقد عن طريق البنوك التجارية التي يحددها البنك المركزي المصري (وكانت كلها بنوكًا مصرية مؤممة).
وفي الحقيقة ظلت هذه السوق سوقًا شبه رسمية؛ سواء لعدم تلاقي العرض والطلب في السوق، أو بسبب تحديد أسعار الصرف بقرار إداري عن طريق البنك المركزي. والتطوير الحادث عام 74 استحدث نبودًا هامة زادت من حصيلة السوق (الصادرات غير التقليدية وتحويلات مواطني الدول العربية لغير أغراض الاستثمار) كذلك أجاز القرار للأشخاص الطبيعيين والمعنويين المحليين في مجالات السياحة والتصدير - الاحتفاظَ بمتحصلاتهم من النقد الأجنبي ضمن موارد السوق الموازية للنقد، في حساب لدى أحد البنوك التجارية، ويحق لهم استخدام هذه المتحصلات خلال ستة شهور في تمويل الواردات التي يحتاجون إليها،
أو المدفوعات غير منظورة لأزمة لنشاطهم. كما يحق لهؤلاء الأشخاص بيع هذه الحصيلة بالسعر التشجيعي. ولكن التوسع والتطوير في هذا الاتجاه لم يكن ليحول السوق إلى سوق فعليّ، فقط تحقق ذلك في إطار السماح بتحويل الموارد النقدية التي تدخل بطبيعتها ضمن موارد السوق إلى سلع، فقد نصت المادة الخامسة (القرار الوزاري رقم 64 لسنة 1974) على أنه "يجوز للمصريين الحائزين على موارد بالنقد الأجنبي – تدخل بطبيعتها ضمن موارد السوق الموازية، أن يقوموا بتحويلها إلى البلاد في شكل عيني من السلع الواردة بالقائمة بتوريد سلع من تلك الواردة بالقائمة آنفة الذكر إلى البلاد، ويتم قيد المقابل لقيمة هذه السلع بالجنيه المصري على أساس الأسعار التشجيعية". هذه المادة كانت تقنن سوقًا ثالثة وفعلية للنقد الأجنبي، تموّل ما يسمى بالاستيراد دون تحويل عملة.

(74) I.M.F. SM- 74 – 172, op. cit, p. 18.
(75) في عام 1969، سُمح رسميًّا باستخدام أسلوب الاستيراد الممول ذاتيًا لاستيراد السيارات، أو السلع للاستعمال الشخصي، أو السلع الإنتاجية المملوكة لهيئات مصرية، أو لمصريين في الخارج (قرار وزاري 543 – 1968 وقرار وزاري 1009 – 1969). ولكن الممارسة العملية كانت تملأ الأسواق بكميات وأنماط تتجاوز تمامًا ما سمحت به هذه القرارات. وتفسير ذلك أن القيادة السياسية استجابت أيامها – لتطلعات أصحاب الدخول العليا في استيراد أنماط استهلاك كمالية، وكان مفيدًا سياسيًّا أن تتم هذه العملية عبر قنوات منفصلة عن شركات الاستيراد الرسمية الحكومية، فهذا يتيح للقيادة أن تعلن أمام الجماهير المحرومة أنها غير مسئولة عن هذا "العبث والإجرام"، بل وتتخذ بعض إجراءات الزجر والمصادرة من وقت لآخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن عمليات "الاستيراد دون تحويل عملة" اتسعت بسرعة وأصبحت نشاطًا يتطلب "إدارات سرية" ذات كفاءة، لها مكاتب في مصر وفي الخارج؛ لتشرف على تهريب النقد وحسابات المقاصة، وتنظيم شبكة آلاف العاملين من جملة البضائع جوًا وبحرًا، ومن القائمين بالتوزيع. ولكن هذا السوق، الذي كان يتعامل بعشرات الملايين من الجنيهات سنويًا، ظل مستقبله محفوفًا بالمخاطر، وتطلب هذا أن القائمين على هذه العمليات كانوا من العناصر المغامرة، وكانوا مضطرين إلى مشاركة عديد من العناصر ذات النفوذ في مستويات السلطة المختلفة، وهذه البؤرة الفاسدة التي لم تتوقف عن التوسع، لم تلبث أن أصبحت قوة لا تسهل تصفيتها لو أرادت السلطات السياسية.
كان يستحيل طبعًا معرفة الحجم الصحيح لهذه السوق في تلك الأيام أو الآن، ولكن قدرت الغرفة التجارية لمحافظة القاهرة (مارس 1971) أن حجم هذه التجارة في القاهرة وحدها كان 10 مليون جنيه سنويًّا، ولكن بعض المسئولين المصريين في بيروت قدر أن الواردات المهربة من لبنان كان 18 مليون جنيه سنويًّا منها 3 ملايين عن طريق الجو، 15 مليونًا عن طريق البحر. ولا تدخل في هذا الحساب الواردات المهربة من عمان ودمشق وليبيا والكويت وأوروبا الغربية. انظر عادل حسين، جريدة الأخبار، (5/2/1972). وقد حاول د. فؤاد مرسي - حين كان وزيرًا للتموين- محاصرة هذه التجارة؛ فكانت محاولته سببًا أساسيًّا لإقصائه.
(76) في 10 مايو 1974 أصدر مجلس الوزراء قرارات تحدثت عن الاستيراد، دون تحويل عملة بلا قيود، وكالعادة هاجم عبد العزيز حجازي بهذه المناسبة الانحراف بهذا النظام، وأكد أنه لن يسخر لاستيراد الفُستُق واللوز، ولكن لاستيراد السلع التموينية ومستلزمات لإنتاج. وتساءلنا يومها في الطليعة: كيف تتفق هذه التصريحات مع قرار تيسير استيراد سيارات الركوب الخاصة، بل وتيسير استيرادها بهدف البيع (تحت اسم الإهداء) ومهما كان نوعها وحجمها. لقد بلغ عدد سيارات الركوب المستوردة في عام 1972 حوالي 16 ألف سيارة، ومع التيسيرات الجديدة يتوقع أن يرتفع الرقم إلى 20.000 سنويًّا، ويقدر إجمالي الإنفاق المتوقع لإحضار حوالي 60 مليون دولار، ولو أنفق هذا المبلغ في استيراد قطع غيار ومستلزمات إنتاج لزاد إنتاجنا الصناعي حوالي 120 مليون جنيه! والسؤال الآن هو: هل الكماليات التي نقيد استيرادها تقتصر على الفستق واللوز؟ أليست السيارات الخاصة – وبالذات السيارات الفارِهة – من السلع الكمالية التي تستحق فرض أقصى القيود في ظروف اقتصاد الحرب التي تعاني فيها جماهير الشعب؟! بل وبالنسبة للتفاح والفستق.. إن الدولة تمنع استيرادها (في قائمة السلع المسموح بها) ولكننا نلاحظ في نفس الوقت، أن كل أنواع السلع الكمالية تملأ الأسواق بلا أي رقيب، وهذا يعني تبديد جزء كبير من النقد الأجنبي بشكل أو آخر، ويعني أرباحًا خرافية للوكلاء والمهربين لا يدفعون عنها أية ضريبة.
إن السياسة المتبعة لا تريد أن تزعج أصحاب الدخول العالية، وتسمح بوجود السلع الكمالية، وفي نفس الوقت تبدو– مع افتراض حسن النية – كما لو كانت تعاني من إحساس بالذنب، فتمتنع عن السماح رسميًّا باستيراد هذه السلع،






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس