عرض مشاركة واحدة
قديم 10-03-2009, 11:39 AM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: شخصيات سياسية وتاريخية

عندما تم اعتقال جميع أهالي برقة وحصرهم، وتم احتلال واحة الكفرة لم يعد إذن أمام سفاح برقة إلا شيء واحد هو إتمام وضعية مد الأسلاك الشائكة التي ستفصل بين برقة ومصر فصلاً نهائياً، فأخذ في سرعة تتميمها مجنداً لذلك كل ما لديه من إمكانيات، وكان قد استدعى شركات المقاولات الخاصة من إيطاليا، فتعهدت كل شركة منها بإتمام الجزء المخصص لها تحت إشراف القيادة العسكرية التي وضعت مهندسيها تحت تصرف هذه الشركات، وقد استوردت الحكومة الإيطالية معدات خاصة من ألمانيا فضلا عما جاءت به من إيطاليا لهذا الغرض المطلوب، ووضعت تحت تصرف هذه الشركات عشرات الآلاف من العمال الذين جندتهم من المعتقلات تلهب ظهورهم السياط، وهكذا امتد خط الأسلاك الشائكة من البحر المتوسط إلى ما بعد الجغبوب فكان طوله حوالي ثلاثمائة كيلومتر، ثم وضع غرسياني نقاط عسكرية مزودة بجميع المعدات الحربية، وربط بعضها ببعض من حيث الاتصال فيما إذا احتاجت نقطة لمساعدة الأخرى تهب بسرعة، ومن هذه النقاط: مساعد، والشقة وبئر الغبي، وقبر صالح، وسيدي عمر، وبئر حكيم، ثم زوّد غرسياني هذا السياج المحكم بمولدات كهربائية لمده بالنور حتى لا يستطاع الإفلات منه مهما تكن الأحوال، وإذا ما قدر لأي إنسان أن يصل إليه فسيواجه معركتين عسيرتين لا سبيل لإفلاته من إحداهما إذا ما تيسر له الإفلات من الأخرى، وتتمثل المعركتان في محاولة تقطيع الأسلاك، وفي الدفاع عن النفس، وتقطيع الأسلاك يحتاج إلى معدات فنية وإلى وقت من الزمن فكيف إذن لمن يتمكن من الوصول إلى هذا السياج إجراء عملية التقطيع وعملية الدفاع في آن واحد.

كان المجاهدون مستمرين في جهادهم والقوات الإيطالية تشتبك معهم وهي مجهزة بالمصفحات والطائرات والمدفعية وكان القتال لا يتوقف وقد أورد الجنرال غرسياني في كتابه أنه التقى مع عمر المختار في مائتين وستين معركة خلال الثمانية عشر شهراً ابتداء من حكمه في برقة إلى أن وقع عمر المختار أسيراً وقد ثبت المجاهدون في حالتي الدفاع والهجوم.
كان المجاهدون يقضون معظم أوقاتهم في حالة استعداد قصوى ويوجهون الضربات المحكمة للطليان وحار سفاح برقة في أمر المجاهدين، ورغم الإجراءات التي اتخذها والتي كان يثق في فائدتها إلا أنه أصيب بالقنوط واليأس وأصبح كل أمله في موت عمر المختار الطبيعي قائلاً لكبار مرؤوسيه في أكثر من مناسبة: إن عمر المختار شيخ كبير ولابد من موته عاجلاً أو آجلاً فعلينا أن ننتظر تلك الساعة ولعلها لا تكون بعيدة، وفكر غرسياني ذات مرة تفكيراً غريباً وإن كان لا يستغرب على تفكيره أي شيء، فكر في إحراق جميع غابات الجبل الأخضر، ودرس هذا الموضوع جدياً مع مستشاريه السياسيين والعسكريين. إلا أن السيد صالح بك المهدوي أحد زعماء بنغازي استطاع أن يثني غرسياني عن هدفه بعد أن اجتمع به وشرع غرسياني يتكلم عن عمر المختار محملاً مسؤولية ذلك إلى جميع أهل البلاد، وقال عنهم لو أنهم صدقوا معنا لما استمر عمر المختار في موقفه اليائس يقاتل جنودنا، ثم انتقل فجأة ليتحدث عن موضع حرق غابات الجبل الأخضر وقال: إن الحكومة الإيطالية يهمها أن تنهض بهذه البلاد، وإن عمر المختار وقف عقبة في سبيل النهوض، وحاولت الحكومة أكثر من مرة أن تنصحه للإقلاع عن محاربتنا ولكنه رفض الانصياع إلى نصائح الحكومة معتمداً على اختفائه في مغارات الجبل وغاباته، ولقد صممت أن أزيل هذه الغابة التي يحتمي وراءها ساخراً بقوة الحكومة، وسكت الجنرال قليلاً، ثم طلب من صالح بك المهدوي أن يشاركه البحث في هذا الموضوع فأجابه بقول:إن عمر المختار سينتهي بلا شك فقاطعني عند كلمتي هذه بقوله (أكو أكو . كويستا لفيريتا . يانوتا يانوتا . سينتا . سينتا . ديري . ديري . أو أنتي . أو أنتي .) ومعنى هذه الكلمات الإيطالية هو: هكذا . هكذا . هذه هي الحقيقة ( أسمع يايانوتا (الترجمان) أسمع . أسمع . قل . قل . استمر . استمر) إنكم يادولة الوالي اتخذتم بحزم جميع الاحتياطات التي من شأنها القضاء عليه، والمسألة مسألة وقت لا أقل ولا أكثر وهنا تحمس الجنرال لكلماتي هذه كأنها صادفت هوى في نفسه، أو كأنني قلت له شيئاً كان يريد أن يسمعه.

وقلت له مواصلاً الحديث: إن الدولة الإيطالية في حاجة لاستثمار كل شجرة في هذه البلاد، وسوف يكون فضل هذا الاستثمار المنتظر على أيديكم فإذا ما أقدمتم على حرق الغابات والكلمة الأخيرة لدولتكم فسوف يمر زمن طويل وطويل جداً دون إعادتها من جديد لما كانت عليه، هذا إذا لم يكن إعادتها مستحيلاً، وإليكم يادولة الوالي نذكر مسألة لها وجه الشبه برأيكم هذا. في عهد الدولة العثمانية قامت قبيلة البراعصة بعصيان ضد الحكومة وتعذر على الحكومة إنهاء العصيان، واعتبرت أن غابات الجبل الأخضر كانت أكبر مشجع للقبائل على العصيان فتتخذ منه مخابئ لا يقوى الجنود العثمانيون على اكتشافها فأرادت الحكومة أن تقوم بحرق جميع الغابات وسمع السلطان بذلك فاعترض على هذه الفكرة قائلاً: إذا كان الموجب لعصيان الأهالي هو تمنعهم عن دفع العشور والعوائد الحكومية فإنني أدفعها عنهم من جيبي الخاص حماية للغابات في الجبل الأخضر، ولا أوافق على حرقها. وعندما انتهيت من الحديث معه ودعني شاكراً).

لقد حرص صالح بك المهدوي على حماية الجبل الأخضر من عبث غرسياني الذي كانت في يده إمكانات إيطاليا للقضاء على حركة الجهاد ولذلك جادل وناقش وحاول أن يقنع غرسياني بالإقلاع عن تلك الفكرة الجهنمية لقد قال صالح بك عندما سئل عن صحة ما إذا كانت الحكومة العثمانية فكرت في إحراق غابات الجبل الأخضر، فأجاب بقوله: إن المسألة التي ضربت بها المثل للجنرال غرسياني كانت لها أثر في عهد قديم والحديث عنها يطول، والطليان لا يريدون ذكرها من وجهة سياسية محضة وعلى كل حال كنت أرمي بذكرها للجنرال غرسياني إلى حماية جبلنا من عبث هذا المجنون الذي وضعوا في يده سيفاً حاداً.

كان غرسياني يملك القوات الضخمة في البر والبحر والجو، والسلطة الغاشمة المستبدة في برقة، والخزائن المرصوفة بالأموال، والسجون والمعتقلات والمشانق، ومع هذا يضعف ويسيطر عليه العجز أمام المجاهدين وقائدهم العظيم حتى دفعه تفكيره إلى حرق الغابات بعد أن تمكن من حرق الأكباد، والأفئدة والأجسام لقد وقع تحت تأثير عصبي حاد من جراء ما أصابه من الفشل الذريع وكان في طريقه إلى الاستقالة أو الإقالة لولا تقدير الله بوقوع عمر المختار في الأسر.


الأيام الأخيرة من حياة المختار . ووقوعه في الأسر ثم إعدامه

أولاً: أحمد الشريف يحترق على بلاده ويرسل محمد أسد لمعرفة أخبار المجاهدين:

كان محمد أسد صاحب كتاب الطريق إلى الإسلام قد تعرف على أحمد الشريف أثناء إقامته في الحجاز وقد تأثر به غاية التأثر، وأحبه حباً عظيماً، يقول محمد أسد: (ليس في الجزيرة العربية كلها شخص أحببته كما أحببت السيد أحمد، ذلك أنه مامن رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالماً ومحارباً، على بعث المجتمع الإسلامي بعثاً روحياً، وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي ذلك أنه كان يعرف جيداً أن الواحد لايمكن أن يتحقق من دون الآخر).

لقد تعرف محمد أسد على أحمد الشريف بواسطة المجاهد الأندونيسي حاجي آغوس سالم الذي كان يمثل مركز القيادة في جهاد اندونيسيا ضد أعدائها، وكان قد جاء معه بقصد الحج وعندما عرف السيد أحمد الشريف أن محمد أسد حديث عهد بالإسلام، مد إليه يده وقال: (مرحباً بك بين إخوانك، يا أخي الشاب ..). لقد أحب محمد أسد أحمد الشريف وتفاعل مع قضية ليبيا وكان يمضي معه وبصحبة السيد محمد الزوي الساعات الطوال للبحث في وضع المجاهدين في ليبيا واستمرت الإجتماعات في مساء كل يوم طيلة أسبوع تقريباً لبحث ماكان بالإمكان صنعه، وقد رأى الشيخ محمد الزوي أن إمداد المجاهدين بين الفينة والأخرى لم يكن من شأنه أن يحل المشكلة، فقد كان يعتقد أن واحة الكفرة، في الجنوب من صحراء ليبيا يجب أن تكون ثاني محور لكل العمليات الحربية في المستقبل وكان يظن أن الكفرة كانت ماتزال بعيدة عن تناول الجيوش الإيطالية، وفوق ذلك فقد كانت تقع على طريق القوافل (ولو كان طويلاً وشاقاً) إلى واحتي بحرية وفرفرة المصريتين، ولذا كان يمكن تموينها بصورة جادة أكثر من أي موقع آخر في ليبيا، كما كان يمكن أن يتحول كثير من المهاجرين إلى مصر إليها لتكون مستودعاً دائماً لإمداد عمر المختار في الشمال، وكان أحمد الشريف مستعداً للذهاب بنفسه، لو أمكن إعادة تنظيم القتال على تلك الصورة، للإشراف على العمليات الجهادية بنفسه.

لقد تحدث محمد أسد عن سبب اهتمامه بالقضية السنوسية فقال: لم يكن اهتمامي البالغ بمصير السنوسيين ناشئاً عن إعجابي ببطولتهم المتناهية في قضية عادلة مقسطة فحسب، بل ان ماكان يهمني أكثر من ذلك هو ماكان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربي بأكمله إذ أنني لم استطع أن أرى في العالم الإسلامي كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي: الحركة السنوسية، التي كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة في سبيل الحياة وبسبب أن السيد أحمد كان يعرف مبلغ عطفي الشديد على القضية السنوسية، فقد التفت إلي وسدد نظره إلى عيني وسألني قائلاً: (هل تذهب، يامحمد إلى برقة بالنيابة عنا، فتقف على مايمكن صنعه للمجاهدين؟ لعلك تستطيع أن ترى الأمور بأجلى مما يراها بنو قومي .).

وبعد أن وافق محمد أسد على تلك المهمة الصعبة تناول أحمد الشريف من على أحد الرفوف نسخة من القرآن الكريم ملفوفة بغلاف من الحرير، وبعد أن وضعها على ركبتيه أمسك بيدي اليمنى بين يديه ووضعها على الكتاب:

(أقسم يامحمد، بالله الذي يعلم مافي القلوب، على أنك ستبقى أميناً للمجاهدين ).

قال محمد أسد: فأقسمت ولم أشعر في حياتي يوماً أنني كنت أكثر وثوقاً بوعدي مما كنت في تلك اللحظة.

قام أحمد الشريف بترتيب أمور هذه الرحلة واتصل باتباع الحركة في مصر ووصل الخبر إلى عمر المختار واستعد محمد أسد لهذه الرحلة المثيرة مع رفيقه زيد من قبيلة شمّر، وشرع في تنفيذ خطواته وكان رجال الحركة السنوسية يقودونه بمهارة بارعة حتى وجد نفسه أمام عمر المختار في الجبل الأخضر وقد فصل الأستاذ محمد أسد تلك الرحلة في كتابه المشهور.

لقاءه بعمر المختار :

بعد دخول محمد أسد إلى الجبل الأخضر من جهة الصحراء الغربية المصرية بواسطة المجاهدين الذين أرسلهم عمر المختار لاستقباله وجد محمد أسد نفسه أمام قائد حركة الجهاد ويصف لنا محمد أسد ذلك اللقاء فيقول: كان يحيط به رجلان من كل جانب، ويتبعه كذلك عدد آخر، وعندما وصل إلى الصخور التي كنا ننتظر عندها، ساعده أحد رجاله على النزول، ورأيت انه كان يمشي بصعوبة (عرفت بعدئذ أنه قد جرح إبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام) وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح: كان رجلاً معتدل القامة قوي البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة. وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف انهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا انهما لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة والألم والشجاعة.

واقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي (مرحباًبك، يا ابني) قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً: لقد كانت عيني رجل كان الخطر خبزه اليومي.

وفرش أحد رجاله حراماً على الأرض فجلس سيدي عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبدالرحمن ليقبل يده ثم شرع بعد استئذانه، يوقد ناراً خفيفة تحت الصخرة التي كنا محتمين بها وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه - وهي إمارة الإحترام والحب لايكاد المرء يراها في جزيرة العرب ولكنه كثيراً مايراها في شمالي افريقيا - ثم التفت إلي مبتسماًوقال: (لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، في كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكنني لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة، إلا من الله العلي الكريم. إننا حقاً على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا ..).

فقلت: (ولكن .. هذه الخطة التي وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟ ).

لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر: (الكفرة .؟ لقد خسرنا الكفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريباً ).

وأذهلني الخبر، ذلك إنني والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبني خططنا على افتراض أن الكفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة، أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر لاشيء سوى كماشة الإيطاليين التي كانوا يضيقونها بثبات واستمرار .. وخسارة نقطة بعد نقطة .. واختناق بطئ).

- وكيف سقطت الكفرة؟

فأومأ سيدي عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب: (دع هذا الرجل يقص عليك الخبر .. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من الكفرة، ولم يصل عندي إلا بالأمس).

وجلس الكفري على ردفيه أمامي وجذب برنسه البالي حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو في صوته أي أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التي شهدها.

- (لقد خرجوا علينا في ثلاث فرق من ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علو منخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالاً وشيوخاً. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتاً بيتاً، ولكنهم كانوا أقوى كثيراً منا، وفي النهاية لم يبق إلا قرية الهواري. لم تنفع بنادقنا في سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جداً من الهرب. أما أنا فقد اختبأت في حدائق النخيل، مترقباً الفرصة لشق طريقي خلال الخطوط الإيطالية، وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتي كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن وفي اليوم التالي احضرت لي امرأة عجوز بعض الماء والخبز، واخبرتني أن الجنرال الإيطالي قد حشد كل ماتبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدي وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن الكريم ثم رماها الى الارض وداس عليها بحذائه صائحاً: (دعوا نبيكم البدوي يساعدكم الآن، اذا استطاع!) ثم أمر بقطع اشجار النخيل في الواحة وهدم آبارها، واحرق كل ماكان في مكتبة السيد احمد البدوي من كتب وفي اليوم التالي اصدر امره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا في طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق، وطوال الليلة التالية كنت اسمع من مخبئي صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بنادقهم ... واخيراً زحفت الى الصحراء في ظلام الليل فوجدت جملاً شارداً امتطيته ووليت فراراً.).

وعندما انهى الرجل قصته المروعة قربني سيدي عمر إليه بلطف وكرر قوله: (انك تستطيع ان ترى، يابني، اننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا) ثم اضاف: (اننا نقاتل لأن علينا ان نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة او نموت نحن وليس لنا ان نختار غير ذلك. إنا لله وإنا إليه راجعون - لقد ارسلنا نساءنا واولادنا الى مصر كيما نطمئن على سلامتهم متى شاء الله لنا أن نموت).

قلت: (ولكن ياسيدي عمر، اليس من الافضل لك وللمجاهدين ان تنسحبوا الى مصر بينما لايزال هناك طريق مفتوح امامكم؟ فلقد يكون من الممكن في مصر جمع المهاجرين الكثيرين من برقة وتنظيم قوة اكثر فعالية وجدوى. ان القتال هناك يجب ان يوقف بعض الوقت حتى يستعد الرجال شيئاً من قوتهم ... انا اعرف ان البريطانيين في مصر لاينظرون بعين الرضى الى وجود قوات ايطالية راسخة الاقدام على خاصرتهم، فقد يغضون الطرف، والله اعلم، عن استعداداتكم فيما اذا اقنعتموهم بانكم لا تعتبرونهم اعداء.).

فأجاب : (كلا ياابني، لم يعد هذا يجدي الآن. ان ماتقوله كان ممكناً منذ خمس عشرة او ست عشرة سنة، قبل ان يقوم السيد احمد، اطال الله عمره، بمهاجمة البريطانيين كي يساعد الاتراك - الذين لم يساعدونا . أما الآن فلم يعد في الامر مايجدي.. ان البريطانيين لن يحركوا اصبعاً لكي يسهلوا علينا امرنا، والايطاليون مصممون على ان يقاتلونا حتى النهاية، وعلى سحق كل إمكانية للمقاومة في المستقبل، فاذا ذهبت واتباعي الآن الى مصر، فاننا لن نتمكن مطلقاً من العودة ثانية، وكيف نستطيع ان نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم، لاعداء الله يفترسونهم؟).

- وما قول السيد ادريس؟ هل يشاركك الرأي ياسيد عمر ؟

- (إن السيد ادريس رجل طيب. انه ولد طيب لوالد عظيم، ولكن الله لم يعطه قلباً يمكنه من تحمل مثل هذا الصراع.).

كان زيد الشمّري رفيق محمد اسد في رحلته بصحبة خليل احد المجاهدين لأحضار قرب الماء، وبعدما رجع وقع بصر خليل على سيدي عمر هجم لتقبيل يده، وبعد ذلك قدم محمد اسد زيداً الى عمر المختار فوضع المختار يده على كتفه وقال:

- (مرحباً بك، ياأخي، من أرض اجدادي. من أي العرب انت؟" وعندما اخبره زيد انه من قبيلة شمر، أومأ عمر برأسه مبتسماً : (آه ، اذن انت من قبيلة حاتم الطائي، اكرم الناس يداً.).

وقدم لهم رجال المختار بعض التمر ودعاهم المختار الى ذلك الطعام البسيط فأكلوا، ونهض قائد المجاهدين وقال: (آن لنا أن نتحرك من هنا. اننا على مقرب من المركز الايطالي في بوصفية، ولذا لا نستطيع ان نتأخر حتى الفجر).

وتحرك محمد اسد مع قائد حركة الجهاد ووصل الى معسكر المجاهدين ووقعت عيناه على امرأتين احدهما مسنة والاخرى شابة - في المعسكر كانتا جالستين بالقرب من احد النيران، مستغرقتين في اصلاح سرج ممزق بمخرز غليظ.

وعندما لحظ الشيخ عمر المختار دهشة محمد اسد قال: (إن اختينا هاتين تذهبان معنا حيثما نذهب. لقد رفضتا ان تسعيا الى امن مصر مع سائر نسائنا واولادنا. انهما ام وابنتها، وقد فقدتا جميع رجالهما في الحرب.).

اتفق عمر المختار مع محمد اسد على طريقة امداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح عن طريق الطريق التي جاء منها محمد اسد، مع انشاء مستودعات سرية في واحات بحرية وفرفرة وسيوه ، وكان عمر المختار يشك في امكانية الافلات من مراقبة الايطاليين بهذه الطريقة مدة طويلة.

وقد تبين بعد ذلك ان ظنونه ومخاوفه كانت في محلها، ذلك انه بعد بضعة اشهر تمكنت قافلة تحمل المؤمن والذخائر من الوصول فعلاً الى المجاهدين ، إلا ان الايطاليين اكتشفوها بينما كانت تجتاز الفجوة بين الجغبوب وجالو، وسريعاً ما انشأوا بعد ذلك مركزاً محصناً في بير طرفاوي على نصف المسافة تقريباً بين الواحتين، مما جعل، بالاضافة الى الدوريات الجوية المستمرة، كل مسعى آخر من هذا النوع خطراً الى أبعد الحدود.

وكان قد تقرر رجوع محمد اسد وزيد الشمرّي الى الحجاز ورجوع من حيث أتوا بواسطة المجاهدين البواسل الذي رتبوا الامور، وأخذوا بالاسباب، وحافظوا على ضيوفهم الكرام.

يقول محمد اسد: وودعت وزيد عمر المختار، ولم نره بعد ذلك اطلاقاً، ذلك انه بعد ثمانية أشهر، قبض عليه الايطاليون واعدموه.

وقد وصف لنا محمد اسد آخر لقاء مع السيد احمد الشريف فقال: ومرة اخرى وقفت امام إمام السنوسية ونظرت الى وجه ذلك المحارب القديم المرهق ، ومرة اخرى قبلت اليد التي حملت السيف طويلاً جداً حتى انها لم تعد تستطيع بعد ان تحمله.

- (بارك الله فيك، يابني.. لقد مضت سنة منذ ان التقينا اول مرة، وهذه السنة قد شهدت نهاية آمالنا ولكن الحمدلله على كل حال ).

والحق انها كانت سنة مفعمة بالهموم والاكدار بالنسبة الى احمد: لقد اصبحت الاخاديد حول فمه اكثر عمقاً، واصبح صوته اكثر انخفاضاً من أي وقت مضى.

لقد هوى النسر. انه يجلس منكمشاً على السجادة، وقد لف نفسه ببرنسه الابيض كأنما يطلب الدفء، ويحدق بصمت في الفراغ وهمس: (لو اننا استطعنا فقط ان ننقذ عمر المختار. لو اننا تمكنا من اقناعه بالهرب الى مصر بينما كان هناك متسع من الوقت ).

فقلت له : (لم يكن باستطاعة احد ان ينقذ سيدي عمر. انه لم يرد ان ينقذ. لقد فضل ان يموت اذا لم يستطع ان ينتصر. لقد عرفت ذلك عندما فارقته ياسيدي احمد ).

إن احمد الشريف اهتم ببلاده بمجرد هجرته منها وكان على إتصال بالمجاهدين وقد حدثني السيد عبدالقادر بن علي أن احمد الشريف قام بكتابة رسائل الى قبائل برقة يحثهم فيها على السمع والطاعة للشيخ عمر المختار رحمهم الله.

ثانياً: الاسد يقع اسيراً:

ظل المختار في الجبل الاخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز اقامته الى المراكز الاخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد احوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارساً وذهب في اربعين فقط. ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير) وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لابد من اجتيازه ، فمر به عمر المختار ومن معه ، وباتوا فيه ليلتين ، وعلمت بهذا ايطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان ، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ماعندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو؛ وقرر منازلة الاعداء وجهاً لوجه فأما أن يشق طريقاً يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيداً في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عدداً كبيراً من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها ، ولم تسعفه يده الجريحة وأصبح لسان حاله يقول:




أسرت وماصحبي بعزل لـدى الوغـىوكم من صدى صوتي ليوث الشرى فروا
وما أحد في الحـرب يجهـل سطوتـيولا فرسـي مهـر ولا ربــه غـمـر
ولكن إذا حـم القضـاء علـى أمـرئيكـون ولا يغنـي مـن القـدر الحـذر
ومـن رام مـن أمـر الالـه وقـايـهفليـس لـه بــر يقـيـه ولا بـحـر



والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت) ، فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش اول من قتل وهو يحاول انقاذ الشيخ الجليل ، وهجم جنود الطليان على الاسد الجريح دون ان يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الاسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار الى ميناء سوسة محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الايطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم الى سوسة ومن ثم نقل فوراً الى بنغازي عن طريق البحر.

يتبع >






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس