عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 02:36 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة


الفصل التاسع
(1977/ 1978)
فتــرة الاستســلام

أولاً ـ انعقاد المجموعة الاستشارية الأولى (إعلان الاستسلام في الجبهة الاقتصادية):
(1) عودة إلى أحداث كانون الثاني/ يناير ـ خلفياتها ونتائجها:
عودة واستطرادًا حول ما حدث في كانون الثاني/ يناير، نذكر بأن المباحثات السرية بين صندوق النقد والمجموعة الاقتصادية، كانت قد أسفرت عن إذعان الحكومة لمعظم المطالب، أو عن قبول إحداث تغيير حاسم في السياسة الاقتصادية، وفي إدارتها لقاء اتفاق مساندة من الصندوق، وانعكس هذا الإذعان أولاً في مشروع الموازنة الذي قدم إلى مجلس الشعب متأخرًا عن موعده. وفي اجتماع الهيئة البرلمانية لحزب مصر لمناقشة الإجراءات المالية المطلوبة (16 كانون الثاني/ يناير) عرض الأمر بطريقة غامضة (1)، والإعلان الأفصح تحت قبة مجلس الشعب (17 كانون الثاني/ يناير) كان مفاجئًا للجميع.
في البداية، تحدَّث القيسوني أمام مجلس الشعب، وقال إنه لا بد من مواجهة المشكلة الاقتصادية مواجهة تامة، وحدد برنامج العمل للمجموعة الاقتصادية في خطوات متتالية على النحو التالي (2):
ضرورة العمل على موازنة الموازنة العامة بقدر الإمكان؛ لتفادي القوى التضخُمية التي تؤثر على الأسعار.
ضرورة الاتجاه نحو موازنة الموازنة النقدية بقدر الإمكان، وهذا الأمر بالغ الصعوبة، وكل ما يمكن عمله في سنة 1977، هو البدء في هذا الاتجاه.
- ضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
- ضرورة الاتفاق مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
- عمل بعض الإصلاحات الاقتصادية الداخلية ـ كإصلاح النظام الضريبي، خصوصًا فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وتفادي التهرب من الضرائب وإصلاح نظام الجمارك.
- العمل أيضًا على إدخال التعديلات اللازمة على قانون الإسكان أو قانون الإيجارات العقارية؛ بحيث تتمشى الإيجارات مع مستوى الدخل الذي ينتظره المستثمر من استثماراته.
- إدخال الإصلاحات اللازمة على قانون استثمار المال العربي والأجنبي.
- زيارة الدول العربية، وخاصة الدول التي كونت هيئة الخليج؛ لشرح أن علاج المشاكل الاقتصادية لا يمكن أن يتم جزءًا جزءًا، ولكن يجب أن يكون علاجًا شاملاً.
- التباحُث مع البنك الدولي، ومع الدول التي ستحضر المجموعة الاستشارية، للاتفاق على الترتيبات اللازمة لعقد المجموعة.
- زيارة الولايات المتحدة للتباحث الاقتصادي مع الحكومة الأمريكية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
- زيارة بعض الدول التي تقدم المساعدات الاقتصادية لمصر، وخاصة ألمانيا الغربية وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، وإيران، واليابان.
وهذا البرنامج، وبترتيب بنوده، واضح الآن أنه كان من إملاء صندوق النقد و(الحكومة الأمريكية بالتالي)؛ فالبندان (1)، (2) كما يتحققان في مشروع الميزانية ـ شرطان ضروريان، ويسبقان التوصل إلى البند (3)، أي خطاب النوايا واتفاق المساندة، وهذا بدوره شرط يسبق البند (4)، أي إعلان سياسة من الحكومة يقبله البنك، وإذا تحققت - على ضوء ذلك - البنود (5)، (6)، (7) يمكن التوصُّل إلى نتائج مع دول الخليج، وحينئذ يكون هناك جدوَى من بدء الاتصالات حول المجموعة الاستشارية، ثم تُعتمد النتائج في واشنطن.
بعد هذا البيان من القيسوني لخط السير، بدأت الخطوة العملية الأولى بالبيان المالي الذي ألقاه وزير المالية (صلاح حامد) (3)، وباسم تقليل العجز في الموازنة العامة، وفي الجوهر؛ لتحرير الأسعار من سيطرة الدولة، أعلن الوزير أن إعانات خفض تكاليف المعيشة، تقرر الهبوط بها من 553.7 مليون جنيه في موازنة 1976 إلى حوالي 276.4 مليون جنيه في موازنة 1977 ( أي كان الهبوط بنسبة 50 بالمائة)(4). وصحيحٌ أن الخفض كان جزئيًّا؛ بسبب انخفاض الأسعار عالميًّا لبعض السلع (وخاصة القمح)، ولكنه كان يعكس أساسًا إلغاء اعتمادات الدعم، لسلع مثل الدقيق والذرة والأرز، والسكر الحر والشاي والبوتاجاز، والآثار المباشرة لمثل هذا القرار على أصحاب الدخل المحدود، وخاصة أصحاب الأجور غير المرنة في الحكومة والقطاع العام، كان لا يمكن أن تُدارَى بأيَّة مناورة؛ ولذا ركزت المعارضة الشعبية، وداخل مجلس الشعب، على هذا الجانب، فأعلن الرئيسُ السادات إلغاء قرار خفض اعتمادات الدعم مساء 18 كانون الثاني/ يناير. إلا أن المقارنة بين الإجراءات المُتَّخذَة في موازنة كانون الثاني/ يناير، وبين مذكرة بول ديكي (راجع ـ الفصل الثامن) تظل تُشير إلى أن الجانب المصري أذعن في المباحثات لأغلب المطالب، وليس لكل المطالب. فقد ألحَّت مذكرة ديكي على إلغاء قائمة الدعم بأكملها؛ بحُجة أن الاقتصار في معونات الدعم على الخبز والدقيق (الذي يهبط باعتمادات الدعم إلى حوالي 250 مليون جنيه)
لا يحقق الخفضَ المطلوب في الإنفاق العام. ولكن حدث في المباحثات أن قبل الصندوق قدرًا من التدرُّج في إلغاء الدعم. وهذا هو مفهوم ومنطق المباحثات مع الصندوق؛ فالصندوق لا يتنازل عن هدف التغيير الجوهري للسياسات الاقتصادية المصرية على نحو عاجل، (بل وفي عام 1977 بالتحديد، بعد أن أفلت منه عام 1976)، ولكنه على استعداد لإبداء بعض المرونة في هذا الإطار. وقد أجبرته الهَبَّةُ الجماهيرية في كانون الثاني/ يناير على تراجع كبير نسبيًّا، حين قبل تأجيل خفض اعتمادات الدعم (المباشر) لمدة سنة على الأقل. ولكن كان الأمر مختلفًا في جبهة سعر الصرف.
كانت مذكرة ديكي تُطالب بالتنفيذ الفوري لإجراءات الخفض الفعلي لسعر الصرف ـ أي خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 1976 ـ ودعم هذا الاتجاه بمطلب معاملة المستثمرين الأجانب في تحويلاتهم (فورًا) بمستوَى السوق الموازية، بل أكد الصندوق - في هذه النقطة - أنه "إذا ثبت أن ذلك صعبٌ، فإن هذا العامل وحده، يقودني إلى استنتاج أن خفض السعر الرسمي جملة وفَورًا - أمرٌ حتمي". وقد قبل الصندوق تأجيل تنفيذ هذا المطلب إلى بداية العام الجديد؛ بسبب ظروف الانتخابات لمجلس الشعب؛ وانتظارًا للتعديل الوزاري بما يتضمنه من تشكيل قيادة اقتصادية جديدة (أكثر تفاهمًا). وتم الاتفاق فعلاً مع هذه القيادة الجديدة على الإجراءات المطلوبة وعلى مراحل التنفيذ خلال العام (1977)، وانعكس هذا مباشرة في الموازنات المُعلنة في كانون الثاني/ يناير، ولكن تمكَّن الصندوقُ ـ بالتعاون مع الحكومة ـ من مغافلة الجميع عن هذا الجانب من الاتفاق، أي عن قرار التوسُّع في استخدام السعر التشجيعي، وهذا القرار كان خطوة حاسمة نحو التخفيض الفعلي لسعر الصرف الرسمي، وأثره على الأسعار المحلية، لم يكنْ أقل من قرار خفض الدعم المباشر. وتحققت المغافلة بطريقة سهلة؛ إذ عمدت الحكومةُ ببساطة إلى إخفاء الموضوع في البيانات والتصريحات المُعلَنة؛ ففي البيان المالي أشير إلى الموضوع في جملة عابرة، بمناسبة الحديث عن زيادة إيرادات الجمارك (ضمن الحديث عن الزيادة العامة المتوقعة في الإيرادات السيادية)، فقيل: إن من أسباب زيادة الجمارك، "معاملة بعض السلع على أساس الأسعار التشجيعية، بدلاً من الأسعار الرسميَّة".
وحين تحدَّث القيسوني ـ بعد عدوله عن الاستقالة ـ قال إنه لا يرى بديلاً للإجراءات المُلغاة، وشرح - باستفاضةٍ- رؤيته للمشاكل الاقتصادية، والقرارات المطلوبة، ولكنه أسقط أي ذكر لحكاية التوسع في استخدام السعر التشجيعي (5). ونفس الموقف تكرر في بيان ممدوح سالم بعد عشرة أيام من الهبَّة الشعبيَّة العارمة، فبعد حديثه عن الأسباب الداعية للإجراءات "التي نبعت من أفكار كبار الاقتصاديين المصريين، مع أفكار الاقتصاديين الدوليين"، عدد "الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، وترتب عليها زيادةُ أسعار بعض السلع" فقال إنها:
- زيادة الضريبة الجُمركية على بعض الواردات.
- زيادة رسوم الإنتاج على بعض المنتجات المحلية وزيادة رسوم الاستهلاك على مثيلات هذه المنتجات المستوردة من الخارج.
- رفع الدعم أو تخفيضه عن بعض السلع" (6).
ولم يذكر بكلمة صريحة، إجراء التوسع في استخدام السعر التشجيعي (رغم إشارته الملتوية إلى الفكرة). وقد انعكس هذا التجهيلُ في صياغة الاستجوابات التي قدمتها المعارضة في مجلس الشعب، حول إجراءات كانون الثاني/ يناير 1977 لرفع الأسعار؛ فمقدمو الاستجوابات ـ على علمهم واتصالاتهم ـ لم يتوصلوا إلى هذا السر الذي أخفته السلطات، فلم يتناوله واحدٌ منهم في استجوابه (7)، وبالتالي نجحت الحكومة في حماية هذا القسم من إجراءات الصندوق.
فقط انكشف السرُّ في 22 شباط/ فبراير حين سجلت لجنة الخطة والموازنة في تقريرها "أن الموازنة النقدية (التي
لا تنشر عادة) لعام 1977 تُشير إلى زيادة حجم الواردات الممولة بالسعر التشجيعي زيادة كبيرة، فبلغ هذا الحجم نحو 950 مليون جنيه" (8)، فأُسقِط في يد الحكومة، وكان على القيسوني أن يرد بعد انكشاف المستور، فبدأ بتجريح كاتب التقرير (أحمد أبو إسماعيل) وقال: "إن الحكومة الحالية
لا دخل لها بموضوع السعر التشجيعي، ويجب أن نعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وكلَّ ذي فضلٍ فضلَه.
فقد بدأ تطبيقُ السعر التشجيعي اعتبارًا من شهر نيسان/ أبريل 1976، وقد كان السيد الدكتور أحمد أبو إسماعيل رئيس لجنة الخطة والموازنة - أولَ من وافق على السعر التشجيعي (حين كان وزيرًا للمالية) وأول من حول الواردات من السعر الرسمي، إلى السعر التشجيعي في حدود 25 % من الواردات، بل إنه عزز هذا العمل؛ بأن فرض الجمارك على الواردات بالسعر التشجيعي أيضًا".
واعترف القيسوني ـ بعد هذا التقريع ـ بأن الواردات المحولة إلى السعر التشجيعي في عام 1977 كانت تبلغ 986 مليون جنيه (أي أكثر أيضًا مما جاء في الموازنة النقدية)، وبالتالي تكون الحكومة قد أضافت نحو 500
أو 580 مليون جنيه إلى ما سبق تقريره في العام السابق. ولم يشر القيسوني طبعًا إلى علاقة صندوق النقد بقرارات
أبي إسماعيل، أو بقراراته هو. كذلك التزم أبو إسماعيل الصمت في هذه النقطة. والحقيقة أن الإضافات المقررة عام 1977، كانت في الحدود التي طالبت بها مذكرة ديكي؛ لكي تنفذ في أواخر 1976، ورفضها مسئولو القطاع الاقتصادي في ذلك الوقت؛ لأن شريحة الواردات المحولة للسوق الموازية عام 1976 اقتصرت على واردات ممولة بتسهيلات ائتمانية، وعلى استثمارات طويلة الأجل، وبالتالي لا يظهر أثر تمويل استيرادها بالسعر التشجيعي على مستوى الأسعار في السوق المحلية في وقت قصير. والشريحة الثانية التي رفضت في أواخر 1976، ونفذت عام 1977، كانت مكوناتها تختلف. وصافي أثر هذه الشريحة الثانية على الأسعار خلال عام 1977 قدر وقتها بحوالي 403 مليون جنيه، وحاولت الحكومةُ التخفيفَ من أثر هذه الزيادات السعرية، فرصدت مبلغ 224 مليون جنيه لمواجهتها. وهذا التكتيك أصبح تقليدًا لتمرير ارتفاع الأسعار بتدرج يغافل المستهلك، واعتمادات صندوق موازنة الأسعار هذا،
لا تغطي إلا جزءًا من الزيادة السعرية (وتبقى زيادات سعرية حوالي 180 مليون جنيه). وإلى جانب ذلك، فإن الصندوق أجله سنة. أي بعد السنة يتحمل المستهلك الزيادة السعرية كاملة (9).
ج ـ المهم أوضحت مناقشات 22 شباط/ فبراير ـ لأول مرة ـ أن هناك طريقًا سريًّا آخر لرفع الأسعار، لم تكشفه ولم تغلقْه هبَّةُ كانون الثاني/ يناير، وأشارت المناقشات كذلك إلى أن هذه القفزة في استخدام السعر التشجيعي، وضعتنا على حافة القرار لتخفيض السعر الرسمي للجنيه، وفي وقت غير مواتٍ اقتصاديًّا، واعترف القيسوني بعد ثلاثة أشهر بخطورة هذه النقطة، فقال إنه "عندما نتكلم عن موضوع السعر التشجيعي، فربما تكون هذه أسوأ نقطة في خطاب النوايا" (10).
ولكن مناقشات الموازنة، كانت بعد "قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 2 لسنة 1977 بمناسبة أحداث الشغب" (11)، الذي أحال كل همسة اعتراض، إلى جريمة تستحقُ الأشغال الشاقة، وبعد الحملة المكثفة ضد أي معارض، باعتباره من المخربين و"الحرامية" والملاحدة.. إلخ، وساعد هذا، على أن تمر المسألة بسلام، وقد نُضيف سببًا آخر، يتعلق بالقضايا النقدية وسعر الصرف، وما أشبه، التي نجحت إحاطتُها بالغموض، وطُمِست روابطُها الطبيعية بباقي المتغيرات الاقتصادية (والسياسية)؛ بحيث بدت من المسائل التي ينبغي ألا يخوض فيها إلا خاصةُ الخاصة، وقد استخدم هذا الضباب والتجهيل بعد ذلك وبانتظام؛ لإحكام سيطرة صندوق النقد وسياساته على القطاع الخارجي، وأصبح التركيز على "تحرير" الأسعار يأتي من جبْهة سعر الصرف، أكثر منه عن طريق التعرض لاعتمادات الدعم "المباشر"، أو كمدخل للوصول إلى الدعم المباشر. وعلى كلٍّ، لم تكن الحكومة مستعدةً (حتى منتصف شباط/ فبراير) لأي تراجع عن قرارها في جبهة سعر الصرف؛ لأن الصندوق لم يكن ليسمح بذلك، بعد أن أصدر هو التعليمات الجديدة. وقد لاحظنا كيف أن القيسوني وأبا إسماعيل (احترامًا لأصول وآداب اللعبة) تجنبًا أيَّة إشارة لدور الصندوق في إملاء القرارات، وتمشيًّا مع الأصول نفسها والآداب؛ أصبحت أيَّة ملاحظة حول صندوق النقد أو البنك الدولي،تُصيب ممثلي الحكومة المصرية بأشد الانزعاج؛ فحين تعرَّض حلمي مراد ومحمود القاضي ـ أثناء مناقشة الميزانية العامة المعدلة ـ للصندوق والبنك بشكل عابر، كان ملحوظًا مدى الذعر الذي أصاب الحكومة، رغم أن المتحدثَين أشارا فقط، وبلباقة شديدة، إلى أنَّ مُقترحات الهيئات الدولية قد لا تكون كلها صحيحة، وأنها قابلة للنِّقاش.
على أيَّة حال، ينبغي أن نُشير ـ بقدر المعلومات المحدودة المتاحة ـ إلى ما حدث من اتصالات ومساومات خلف الكواليس في الفترة من 18 كانون الثاني/ يناير حتى عرض الميزانية المعدلة على مجلس الشعب، ويمكننا على ضوء هذه المعلومات أن نشهد للجماهير المصرية أنها كسرت في انتفاضَتها حدة الهجوم الخارجي، وأربكت بعضَ الترتيبات التي كانت مُعدَّة للتنفيذ بعد إجراءات الموازنة (والتي عددناها على لسان القيسوني). فبدلاً من زيارة المسئولين المصريين لدول الخليج ثُم واشنطن، أسرع مسئولو الخليج إلى زيارة القاهرة، فبدأت الاتصالات مع المملكة العربية السعودية منذ اللحظات الأولى للأحداث، ونتيجة لهذه الاتصالات؛ تمت زيارة سرية لمصر على مستوى عالٍ(12)، كذلك تمت اتصالات مباشرة مع كبار المسئولين في الولايات المتحدة (تقلد كارتر مهام منصبه رسميًّا في 20 كانون الثاني/ يناير).
لقد أفزعت الغضبةُ الجماهيرية العارمة كل أصحاب ومؤيدي الخط الأمريكي، وطلبت القيادة المصرية من كل هذه الجهات التزامًا بدعم سياسي واقتصادي مناسب. وتمثلت الاستجابات الأولى في سماح هيئة الخليج ببدء استخدام قرضها الأول (250 مليون دولار)، وبالنسبة للصندوق، أبرَق ويتيفين (رئيسُ مجلس المديرين) بموافقته على تراجع الحكومة عن بعض الإجراءات، وحين وصل جون جنتر للقاهرة، تضمن تقريره إلى القيسوني تأكيدًا جديدًا بأن الصندوق يكتفي مؤقتًا بالقرارات التي لم يشملها الإلغاء (13). ولم تكن قليلة، فبالإضافة إلى مسألة إدخال بقية مستلزمات الإنتاج إلى السوق الموازية (بحيث لا تبقى خارج السوق الموازية إلى السلع التموينية الضروريَّة)، كان قد تم رفع سعر الفائدة 1 % مع إعفاء فوائد المدخرات من الضرائب التي تشكل 40 % من قيمة هذه الفوائد. وبالنسبة للميزانية العامة، أقرَّت بعثة الصندوق الميزانيةَ المعدلة، التي ظلت تحتفظ بخفض ملموس في اعتمادات الدعم المباشر للأسعار؛ حيث هبطت إلى 380 مليون جنيه مقابل حوالي 550 مليون في ميزانية 1976؛ فقد أُلغِي دعمُ الاستهلاك المحلي من القطن (56 مليون جنيه)، وظلت سارية قرارات الرسوم الجمركية ورسوم الإنتاج على السلع الكمالية، وزيادة رسوم التمغة (الحصيلة المتوقعة 60 مليون جنيه)، ومن ناحية أخرى، أُلغيت الضريبةُ على القيم المنقولة، ورسوم الاستيراد على السلع الرأسمالية ومواد البناء، وكان صافي هذه الإجراءات يؤدي إلى تحسن في الميزانية بحوالي 100 مليون جنيه، وتمثل 40 % من عائد الإجراءات التي خُطط لها أصلاً، ويُضاف إلى هذا ارتفاعُ الرسوم الجمركية؛ نتيجة لزيادة تحويل الواردات إلى السوق الموازية (14).
ولم تستغرق مباحثات جنتر وقتًا طويلاً، لكي يعلن في 23 كانون الثاني/ يناير أن بعثة الصندوق وافقت مبدئيًّا- على تقديم اتفاق مساندة، يتضمن تقديم تسهيل ائتماني 140 مليون دولار، في حالة إثبات الحكومة لجديتها في مواصلة "برنامج التثبيت الاقتصاديّ"، بالمعدلات والترتيبات الجديدة التي أقرها الصندوق.
ولكن يبدو لنا الآن، أن هذه الاستجابات المحدودة كانت خلف البيان الصادر عن اجتماع السادات مع رؤساء المؤسسات الرسمية (23 كانون الثاني/ يناير)؛ فالبيان كان تحليلاً متوازنًا إلى حد بعيد، وأوضح أن حدوث ردود فعل بالنسبة للقرارات الاقتصادية، كان أمرًا طبَعيًّا لما تمثله من أعباء على الشعب، وأهم من ذلك، أن البيان قال إن "مصلحة البلاد العليا، والخروج من الأزمة الاقتصادية، يقتضي حلاً جذريًّا شاملاً، وليس عودة إلى الحلول الجزئية والوقتية". وكانت هذه العبارة ـ في تقديرنا ـ إشارة إلى ضرورة أن تحث الولايات المتحدة هيئةَ الخليج، على التحرك السريع لمواجهة أزمة الإعسار على نحو حاسم. ونتصور أن مضمون هذه الرسالة العلنية إلى الأطراف المعنيَّة، تناولته بتحديد أكثر الاتصالات السرية، وأجَّل الرئيسُ السادات بعد ذلك خطابه العام حول الأحداث، وأُشيع وقتها (على لسان من يعلمون) أن الرئيس يتجه إلى تعديلات هامة في السياسة الاقتصادية (وفي السياسة العامة)؛ حتى يتمكَّن من مواجهة الأزمة (15)؛ ولذا كان خطاب 3 شباط/ فبراير مباغتًا في مضمونه وحِدَّته وقراراته، وبدأ وصف التحرك الشعبي (الذي كان طَبَعيًّا في البيان الأول) بأنه "انتفاضة حرامية"، وقال الخطاب إن كل التطورات السابقة على 15 أيار/ مايو، كانت تحت سيطرة الشيوعيين والسوفييت (الميثاق كان ماركسيًّا أيام علي صبري ـ والشيوعيون وصلوا إلى المراكز الهامة في السلطة ـ السفير السوفييتي ارتدى رداء المندوب السامي، بعد أن سيطر الشيوعيون على الداخلية والجيش). وهاجم الخطاب المواقفَ النقدية في الصحافة، وأثناء المعركة الانتخابية، وأضاف أن الشيوعيين يسعون من خلال حزب التجمع للوثوب على السلطة. ثم أعلن في الختام عن استفتاء عام، حول عدد من القرارات أفزعت كل الفئات، ولكن كان مفهومًا أنها موجهة في الأساس إلى المعارضة الشعبية. وليس مجرد استنتاج أن نقول إن هذا الخط ـ الذي بدا للبعض مفاجئًا ـ كان على صلة بالوعود التي أسفرت عنها الاتصالات المُكثَّفة، ولا ندري طبيعة الوعود التي قدمت في هذه الفترة الحرِجة.
ولكنْ لوحظ تواصلُ الاتصالات خلال شهر شباط/ فبراير وما بعده. وبدأت اللقاءاتُ المُعلنة بزيارة فانس (وزير الخارجية الأمريكي الجديد) للقاهرة ضِمْن جولته في الشرق الأوسط، ولم يبدُ أثر الاتصالات في تيسيرات جديدة بالميزانية العامة (كما سبق أن أشرنا)، ولكن وصل عدد من مسئولي القطاع الاقتصادي والمالي في دول الخليج، واستُؤنِفت المباحثاتُ مع بعثة صندوق النقد؛ للبحث عن حلول جذرية لقضية الديون المصرية. وتواصلت الجهود وانتهت إلى نتائجَ حاسمة فعلاً كما سيجيء.
(2) جبهة الصِّراع العربي الإسرائيلي:
و... نعود بعد هذا إلى تطورات الصراع المصري الإسرائيلي:
أ- قلنا إن القيادة المصرية بدأت تستعد للتعامل ـ بتوجس وحذر ـ مع الرئيس الأمريكي الجديد جيمي كارتر. واستوقف المراقبين الغربيين أيامها أن الرئيس السادات كان يعبر بثقة عن توقعه لتحرك أمريكي نشِط، وكان يصف عام 1977، بنفس ما سبق أن وصف به كلاً من عامي 1974، 1975، فقال إنه عام الحل الشامل وتحقيق السلام. وقد عبَّر أحدُهم أمام الرئيس عن دهشته من هذا التفاؤل، وتساءل: "أنتم تقولون إن كل شيء يتجه نحو استئناف الولايات المتحدة لدورها في إقرار السلام، وقد قال كارتر - بالتحديد- إنه لن يكون مستعدًا لأنْ يتقبل ضغطًا باتجاه عمل أي شيء لا يريد هو أن يفعله. فهل تلقيت أية معلومات تدل على أن الولايات المتحدة، أو أن مستر كارتر، مستعدٌ لأنْ يتحرك بسرعة عندما يتسلَّم مهام منصبه؟؟. وكانت الإجابة: "مطلقًا.. ثم إنني لا أحاول دفع الرجل أو أستعجله" (16).
ولكن ضمن إجراءات الإعداد للتعامل مع كارتر، واصلت القاهرة إسهامها النشيط في الاتصالات والتنسيق مع الأطراف العربية المعنية. في 14 كانون الثاني/ يناير (قُبَيل الأحداث العنيفة مباشرة) كانت محادثات الرئيس السادات مع الملك حسين قد بدأت في أسوان. وصرَّح إسماعيل فهمي أنها بهدف التنسيق بين دول المواجهة ومع الفلَسطينيين، في إطار الاستراتيجية العربية، ودفع الأطراف للذهاب إلى جنيف والبدء بطريقة عملية لحل المُشكلة (17).
ب ـ وأدت أحداث كانون الثاني/ يناير إلى وقف الاتصالات، وقد نَفترض أن الاتصالات السرية التي تلت الأحداث، تناولت أيضًا قضية الشرق الأوسط. وعلى كلٍّ، حدث أن أعلن كارتر في أول كلمة وجهها إلى الأمة (18 شاط/ فبراير) أنه يعتزم إيفاد فانس إلى الشرق الأوسط؛ بهدف إيجاد الطُّرق الكفيلة بتحقيق سلْم حقيقي. وبعد محادثات فانس في القاهرة، تأكد أن تصورات الإدارة الأمريكية عن الحل الشامل بعيدة جدًا عن مفاهيم الساعين إلى حل أمريكي. أيضًا أوضحت الولايات المتحدة أنها ضد توقعات عقد مؤتمر جنيف قبل آذار/ مارس، بل وأوضحت أنها لا ترحب بصيغة جنيف. فبالنسبة للموعد، صرح فانس بأنه لا بد من انتظار الانتخابات الإسرائيلية، وبالتالي
لا يمكن أن ينعقدَ مؤتمر جنيف قبل أيار/ مايو. ولم يكن الموقف الأمريكي طبعًا مجرد اقتراح، كان قرارًا؛ ولذا أُعلِن أن كارتر رتب سلسلة من اللقاءات مع القادة العرب والإسرائيليين، تمتد حتى آخر أيار/ مايو، ولم يكن ممكنًا أن يبدأ تحرك نشط قبل انتهاء هذه اللقاءات. وبالنسبة لفكرة مؤتمر جنيف نفسها، صرَّح فانس بأنه يقترح عقد مؤتمر في النصف الثاني من عام 1977 على نمط جنيف؛ إذ "لا بد أن يكون هناك اتفاقٌ يسبق انعقاد المؤتمر فيما يتعلق باشتراك أطراف فيه، بمعنى من يحضره (يقصد مشكلة تمثيل الفلسطينيين) وهذا موضوع إجرائي، ثم يتم إرسال الدعوات وتحضره بعهد ذلك جميع الأطراف". والحقيقة أن الموضوع لم يكن إجرائيًّا، وإذا تم بحث جوهر النزاع (القضية الفلسطينية) في هذا المؤتمر التحضيري، يكون جنيف مجرد قاعة تشهد التوقيع النهائي. وكان الرئيس السادات مرتبطًا باتفاقات سابقة مع الأطراف العربية حول انتهاج صيغة جنيف للحل الشامل؛ ولذا صرح يومها بأنه لن يتكلم عن هذا الاقتراح الأمريكي، إلا أثناء زيارته للولايات المتحدة (18).
ج ـ انعكست نتائج جولة فانس في تصاعد جهود القاهرة لتنسيق المواقف، فبعد تشكيل القيادة السياسية الموحَّدة بين مصر وسوريا، وقعت وثيقة إعلان تشكيل القيادة السياسية الموحدة بين مصر وسوريا والسودان (28 شباط/ فبراير). ولا شك أن الاهتمام الخاص بالسودان من قِبَل القيادة المصرية كان يرجع ـ في جانب أساسي منه ـ إلى إمكانية تعظيم الدور المصري في أفريقيا والبحر الأحمر. وهذا الدور المُحتمل كان سعيًّا من القيادة السياسية لاجتذاب الاهتمام الأمريكي (9 آذار/ مارس ميثاق القاهرة لتدعيم التعاون السياسي والاقتصادي والمالي بين القارة الأفريقية والعالم العربي. ولكن كانت دول الخليج وعلى رأسها السعودية محط أنظار المُجتمعين).
وكالعادة ظلت الحسابات غير المفهومة في كثير من الأحيان خلف تضارب التصريحات، فتمشيًّا مع السياسة العامة المُعلَنة بعد خطاب شباط/ فبراير، كان طَبَعيًّا أن يصرح الرئيس السادات في آخر شباط/ فبراير بأن "علاقاتنا مع السوفييت متوترة للغاية" (19). ولكن يبدو أن الاتصالات بسوريا، مع نتائج الاتصالات مع الجانب الأمريكي التي
لم تعكس أية تعديلات أو تسهيلات مقبولة سياسيًا واقتصاديًّا، كانت خلف ما قيل في الفترة نفسها عن اتصالات مجددة مع السوفييت. وصرح السادات وهو في طريقه مع الرئيس السوري إلى الخرطوم بأن "الأسد قرر وهو في موسكو في تشرين الأول/ أكتوبر 1972، أن يسافر الوزير المصري إلى موسكو يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر، فنفذت مصر هذا القرار، والرئيس الأسد يعلم أنه يستطيع أن يتخذ في مصرَ أي قرار كما اتخذ في الماضي، فإن سوريا هي القلب النابض دائمًا" (20).
د ـ وشهِد شهر آذار/ مارس توترًا ملحوظًا في علاقات القاهرة ـ واشنطن، فمع محادثات إسحق رابين (رئيس حكومة إسرائيل آنذاك) تتالت تصريحات كارتر التي ميزت بين الحدود القانونية لإسرائيل، وبين خطوط الدفاع لإسرائيل التي يمكن أن تتطابق أو لا تتطابق في المستقبل المرئي مع الحدود القانونية، ويمكن بالتالي أن تمتد خطوط الدفاع الإسرائيلية فيما وراء الحدود الدائمة المعترَف بها؛ بوضع قوات إسرائيلية لبعض الوقت، أو محطات إنذار فيما وراء الحدود الدولية التي يُتفق عليها بين إسرائيلَ وجيرانها. وذكر كارتر أن هناك عناصرَ ثلاثة رئيسَة في حدود البحث عن السلام، هي بالترتيب:
- إنهاء حالة الحرب، وإقامة علاقات طبيعية كاملة.
- مسألة الحدود.
- المسألة الفلسطينية.
ولكنْ لم تلتزم الحكومة الأمريكية بموقف مُحدد، إلا بصدد العنصر الأول؛ فطلبت تحقيقه فورًا، أما النقطتان الأخيرتان، فقالت إنهما متروكتان لما تسفر عنه المفاوضاتُ. ولا شك أن هذا الإفصاح عن التصورات الأمريكية للحل الشامل كان مثبطًا ـ في تلك الأيام ـ لآمال القيادة المصرية؛ فبادر الرئيس السادات إلى رد فوري حاد، بمناسبة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة، ويحسُن أن نثبت هنا جزءًا كبيرًا من النص؛ حتى يتضح حجم التنازلات التي تحققت بعد ثمانية أشهر في الأهداف السياسية المُعلَنة.
قال الرئيس السادات (13/ 3/ 1977):
"لقد نسفت حرب أكتوبر التحريرية المجيدةُ نظرياتِ الأمن الإسرائيلية، ولم يعد منطقيًّا أن يعود أحد إلى ترديد هذه النظريات المتساقطة، أو يستخدم المنطق الذي تقوم عليه، وعلى ذلك، فليس من المقبول أن يعود البعضُ إلى الحديث عن الحدود الآمنة ضمن المفاهيم الإسرائيلية، ودعوني أكرر أمامكم، وعلى مسمع من الجميع: إننا لا نقبل التفريط في شبر واحد من أرضنا، وإن التراب الوطني ليس محلاً للمساومة، وإن أي حديث عن تأمين الحدود، يجب أن يتمَّ في إطار التسوية الشاملة التي تُطرح فيها جميعُ جوانب المشكلة، وفي مقدمتها القضيةُ الفلسطينية، كما أن يجب أن يكون منطلقًا من انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية المحتلة، ومن مبدأ احترام السيادة الإقليمية، وعدم جواز ضم الأراضي بالقوة؛ لأننا لسنا بصدد تكريس الاحتلال، ومكافأة المعتدي على عدوانه، بل نحن نتجه إلى انحسار العدوان ليصبح كأنْ لم يكن، غير منتج لأي أثر".
وبالنسبة للقضية الفلسطينية، ولمنظمة التحرير، قال الرئيس السادات أنه "بالرغم من التحديَّات التي واجهتها الثورة الفلسطينيةُ، والمصاعب التي تعرضت لها نتيجة أوضاع معاكسة لا تخفَى على أحد، وبالرغم من السلبيات التي أصابت الحركة في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى التعزيز والمساندة، فإن من الحقائق التاريخية التي لا يمكن طمسُها أن ثورتكم استطاعت أن تحافظ على ذاتها، والإبقاء على قدرتها على حماية مصالح جماهير الشعب الفلسطيني، وأهليتها للتعبير عن أحاسيسه، وتعبئة طاقاتها في هذه المرحلة الحاسمة (....) وليس الشعب الفلسطيني مطالبًا بالتخلي عن حقوقه أو تقديم التنازلات، فقد أثبت للعالم أجمع رغبته الصادقة السلام، وحرصه على أن يكون قوة إيجابية بناءة في هذه المنطقة الاستراتيجية".
إن إسرائيل "تحاول استبعاد هذا الشعب من جهود السلام، كما لو كان طرفًا غريبًا يحاول أن يُقحِم نفسَه في المعادلة، هذا قلب للأوضاع لا نَقبله ولا نتسامح فيه.. إن الشعب الفلسطيني، هو صاحب القرار في كل ما يتعلَّق بمصيره وقضيته (....) كما أننا نصرُّ على احترام ما صدر عن هذه الإرادة من قرارات، وفي مقدمتها اختيارُ منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًّا وحيدًا له، ومدافعًا عن حقوقه ومصالحه. إن القرار الإجماعي الذي صدر في مؤتمر القمة في الرباط، هو قرار نهائي لا رجعة فيه، ولا مَساس به، ونحن لا نقبل أي انتقاص منه، بل إن المطلوب في هذه المرحلة من كفاح شعب فلسطين، هو أن نضيف إلى هذا القرار قوة، وأن نجعل فحواه مستقرًا في التعامل الدولي كل يوم؛ لأن في تدعيم منظمة التحرير الفلسطينية تدعيم للجبهة العربية كلها، كما أن في النيل منها ومن مركزها وقدرتها على الحركة إساءة بالغة لقضيتنا الواحدة، (....) وسيظل هذا هو موقفنا على الدوام، أوفياء لشعب فلسطين، وحقه في تقرير مصيره واختيار طريقه دون مُعقِّب"... "وأودُّ أن تطمئِنُّوا جميعًا إلى أن مصر لم تُسقط أيَّ احتمال من حسابها، وأن قواتها المسلحة على أُهْبة الاستعداد للتعامل مع أي موقف؛ فقد وعينا دروس الماضي، كما أننا يقظون لأحداث الحاضر، عازمون على أن يحمل المستقبلُ بين ثناياه للأجيال القادمة من أبنائنا مزيدًا من الطمأنينة والاستقرار".
هذا الكلام العنيف والحاسم، قِيل ردًا على كارتر، وكان طَبَعيًّا أن يواكب التشدُّدَ في موضوعي الانسحاب والحق الفلسطيني، تشددٌ مشابه في موضوع العلاقات الطبيعية، فصرح السادات بأنه لا يمكن أن ينص على العلاقات الدبلوماسية والحدود المفتوحة في اتفاق سلام.. "هذا لم يحدث أبدًا من قبل، ومعنى ذلك هو فرض شروط، وهي نظرية بن جوريون التي يسميها:رض السلام على العرب" والسلام
لا يمكن فرضه" (21). وعاد الرئيسُ إلى تأكيد الموقف نفسِه فقال: إنه عند إنهاء حالة الحرب رسميًّا، تصبح قضايا "الحدود المفتوحة أو التبادل الاقتصادي أو العلاقات الدبلوماسية أو ما أشبه، مسألة سيادة بالنسبة لكل بلد، وإنني لا أعتقد أن أحدًا قد قام بعد أيَّة حرب، بوضع اتفاق سلام، يقضي بأن تبدأ العلاقات الدبلوماسية مع هذا أو ذاك" (22).
ولكن ظلت التحركات المختلفة للقيادة المصريَّة من أجل تحسين موقفها التفاوضي في إطار الحل الأمريكي، وأوضح الرئيس مثلاً ـ بعد خطابه الحاد أمام المجلس الوطني الفلسطيني مباشرة، أنه "على استعداد للقاء مع بريجنيف، بشرط الإعداد لهذا اللقاء، ونحن لا نريد الإساءة إلى الاتحاد السوفيتي، ولكننا ننطلق من حقيقة قائمة هي أن أمريكا تملك 99 % من أوراق اللعبة" (23). وخطا كارتر من ناحيته خطوة تقرِّبه من الجانب العربي، حين أعلن ـ بعد تصريحاته السابقة ـ وفي اجتماع عام، أنه من الضروري أن يكون للشعب الفلسطيني وطنٌ قومي، وأن المشكلة الفلسطينية هي مركز التسوية النهائية لأزمة الشرق الأوسط (17 آذار/ مارس). وزاد من أهمية التصريح أنه كان بمثابة رسالة تحية إلى المجلس الوطني الفلسطيني المُنعقِد في القاهرة.
هـ ـ مع الاقتراب من موعد اللقاء مع كارتر (3 نيسان/ أبريل)، كان الموقف الإسرائيلي واضح التشدد، والتحرشات اليمينية بمساعدة إسرائيل لا تنقطع في لبنان، والتوتُّر حاد بين ليبيا وتونس من ناحية، وبين ليبيا ومصر من ناحية ثانية، والانقسام في جبهة الأوبيك - بسبب رفض السعودية رفع سعر النفط - لا زال فعالاً، وداخل مصر.. كان الضغط الاقتصادي متصاعدًا لفرض الخضوع.. وكانت الإدارة الأمريكية ـ التي تقف خلف كل هذا ـ تتحرك بتثاقل، وتطرح تصورات غير مطمئنة للأطراف العربية المعنيَّة، فهل تضمنت الاتصالات السرية بين القاهرة وواشنطن، شيئًا آخر؟ كانت أسئلة الصحفيين الغربيين في تلك الأيام (وبينهم صهاينة طبعًا) تسعى لالتقاط أية معلومات حول هذا، خاصة مع مظهر التفاؤل الذي بدا به الرئيس. كانت الأسئلة على سبيل المثال:
س: إن ضخامة الخلافات التي تباعد بين سيادتك وبين إسرائيل، تدعونا إلى أن نسألك كيف تفسر تفاؤلك؟
س: هل تبدو الظروف مشجعةً للرئيس، بحيث يقرر وجود تطور إيجابي في الموقف الأمريكي تجاه النزاع؟
س: هل يمكنك يا سيادة الرئيس، أن تشرح لنا - بمزيد من الوضوح - رأي كارتر الذي يقولك يجبُ أن تجري تعديلات طفيفة للحدود، يتراوح مداها من خمسة إلى عشرة كيلومترات؟
س: ما الرأي في أن التجربة أظهرت أن الولايات المتحدة لا تريد - ولا تستطيع - ممارسة ضغوط على إسرائيل؟
س: هل تعتقدون أنه في إمكانكم إقناع الرئيس كارتر بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها المفاوض المعتمد في المفاوضات؟
س: في حالة عدم تحقق الآمال بتدخل أمريكي خلال المستقبل القريب، ماذا سيكون رد الفعل لديكم؟ هل تنتظرون لأجل غير مُسمَّى، حتى تغير الولايات المتحدة موقفها، وحتى تكون قادرة على ممارسة ضغط معين، أم هل ستبحثون عن بديل؟
وكانت إجابة السؤال الأخير، أن المثل الإنجليزي يقول: "لا تدعنا نعبر الجسر حتى نصل إليه، ولكن يجب أن أخبرك أننا لا نستطيع أن ننتظر إلى أجل غير مسمَّى". وقال الرئيس السادات أن هناك دلائل صدرت عن الرئيس كارتر جعلته يشعر بمزيد من التفاؤل (24).
ثم بدأت مباحثات واشنطن، وقد ذكر السادات (في فترة تالية) أنه أنفق أكثر من ساعة ونصف، في مباحثاته مع كارتر؛ "لمحاولة التوصل إلى نوع من التفهم والاتفاق حول طبيعة السلام" (25). والحقيقة التي كشفها كارتر، هي أنه أصرَّ على مبدأ قيام علاقات طبيعية مع إسرائيل، وعلى أسبقية هذا المبدأ على كل ما عداه. وقيل إن السادات وافق على التنازل في هذه النقطة، أمام تحذير صريح بوقف الدور الأمريكي في حالة عدم الموافقة، رغم إصرار الإسرائيليين ـ في المقابل ـ على عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة، أو حتى من "أراضٍ" في كافة مناطق الاحتلال، ودعك من مسألة الفلسطينيين. وقد أسفرت المباحثات عن تنازل مصري آخر يتعلق بصيغة مؤتمر جنيف لحساب الأسلوب الذي سبق أن أعلنه فانس في القاهرة، وقال السادات: إنه هو الذي اقترح "على كارتر تشكيلَ مجموعات عمل تحت رئاسة وزير خارجيته فانس؛ لكي تتصل بجميع الأطراف بما فيها الاتحاد السوفيِتِّي، وأخذ الرئيس كارتر باقتراحي هذا" (26). وفي هذا الاتجاه، قالت القيادة المصرية: إنها هي التي بادرت أيضًا إلى حث المسئولين الأمريكيين على مزيد من الاهتمام بالخطر الشيوعي في أفريقيا. وشهدت القارة تنافسًا ملحوظًا بين المغرب ومصر على التدخل في زائير. أعلن في خطاب أول أيار/ مايو قرار إيفاد بعثة طبية للمساعدة في علاج الجرحَى والمصابين في زائير، وكذلك إرسال 50 من الطيارين والفنيين لمساعدة القوات الجوية الزائيرية في نقل المؤَن والذخائر، ولكن كان واضحًا أن المغرب هي التي وقع عليها الاختيار للقيام بالمهمة؛ فقد أعلن الملك الحسن منذ 7 نيسان/ أبريل، أنه قرر إرسال قوات، وبالفعل اشتركت القوات المغربية في القتال الفعلي منذ ذلك التاريخ، بمساعدات فرنسية وأمريكية. ولكن كانت المساعدات العسكرية المصرية - في المقابل - تخدُم المخطط الأمريكي بنشاط، في صراعات القرن الأفريقي.
وكل هذه التنازُلات، وهذا التورط، كان في مقابل وعد باستمرار قوة الدفع، ويقال أيضًا: إن موافقة السلطات المصرية على تعليمات صندوق النقد، كانت شرطًا لاستمرار قوة الدفع، ولرفع الحصار الخانق الذي فرضه الدائنون.
و ـ وتوالت الاتصالات السياسية الأمريكية، وتبلورت في مباحثات كارتر وحسين في واشنطن (25/ 4) ـ ثم في مباحثات كارتر والأسد في جنيف (9/ 5) ـ وفي مباحثات كارتر وفهد في واشنطن (23/ 5). وفي هذه الأثناء كان الصلَف الإسرائيلي في قمته، ومشفوعًا بالمزايدة الطبيعية في موسم انتخابات الكنيسِت، وجرت محادثات في القاهرة مع كرايسكي مستشار النمسا (6/ 5) ومع تشاوشيسكو الرئيس الروماني (11/ 5)، وواضحٌ الآن أن هذه المباحثات كانت ضمن قنوات الاتصال السري مع الجانب الإسرائيلي. كان كارتر يؤكد طوال هذه الفترة على منهج الحل الشامل، وصرح بأنه لن يكون هناك أملٌ معقول في التوصل إلى تسوية للمشكلة، دون إقامة وطن قومي للفلسطينيين (12 أيار/ مايو).
ويبدو أن إلحاح كارتر في تلك الفترة على البعد الفلسطيني، كان أهم ما في جَعبته بالنسبة للتسوية الشاملة، رغم غموض التعبيرات التي استخدمَها في هذا الإطار. ولكن في 16/ 5 أعلنت هزيمة حزب العمل في الانتخابات العامة، وأصبح على كتلة ليكود أن تشكِّل الوزارة لأول مرة، وأعلن رئيس الوزراء الجديد بيجن ـ في أول تصريح بعد الانتخابات ـ أنه يسعَى إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، عن طريق إقناع الولايات المتحدة بحاجة إسرائيل إلى الاستيلاء نهائيًّا على الضفة الغربية.
كان موقف الإدارة الأمريكية لا يطمئن تمامًا الأطراف العربية الساعية على سلام أمريكي، ولم تفلحْ كافة الاتصالات والتحركات في تغيير هذا الموقف. وبدا عزوفُ الإدارة الأمريكية عن القيام بدور نشط للتوصل إلى تسوية، كعامل ضغط إضافي لانتزاع تنازلات جديدة من الجانب العربي. ولا نعتقد أن انتخاب كارتر بدلاً من فورد، كان السبب الأساسي خلف هذا الموقف. وصحيح أن الانتخابات الإسرائيلية كانت عاملاً غير مواتٍ للتحرك النشط في النصف الأول من العام، ولكنها لا تمثل أيضًا السبب الأساسي للموقف الأمريكي؛ فالسبب الأساسي، هو أن استراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء الصراع منذ أواخر 1973، وتفرض السلام الأمريكي (أو السيطرة الأمريكية) على المنطقة، قامت على انتزاع المخالب العربية، وكسب الوقت لإحداث التغييرات السياسية والعسكرية والاقتصادية المناسبة خطوة خطوة؛ بحيث ينعكس كل ذلك في وزن المفاوض العربي، وفي إصراره على الحد الأدنى من مطالبه. وإذا كان كيسنجر قد تحرك كالمكوك للتوصل إلى اتفاقيات فصل القوات، فإن هذا يرجع إلى أن الاتفاقيات كانت خطوات حاسمة "لانتزاع الفتيل" كما قيل أيامها بحق، ويعني انتزاع الفتيل: منع احتمال استخدام القوة، ويحقق هذا تسلُّم الولايات المتحدة لمفتاح الموقف، وبعد ذلك لا يعود هناك ما يدعو للعجلة، حتى يُعاد ترتيبُ الأوضاع والتوازنات على النحو المطلوب.
لقد أوضحنا كيف استفادت الولايات المتحدة وإسرائيل من الفترة التالية لاتفاقية الفصل الثاني للقوات، ولكن بدا من مواقف القيادات العربية المعنية في مطلع 1977 أن عملية الترويض لم تكتمل بعدُ؛ ولذا كان مُتصورًا ألا تسرع الإدارة الأمريكية في تدخلها لفرض التسوية (سواء في ظل فورد
أو كارتر)، إلى حين الانتهاء من الخطوات الضرورية لإعادة ترتيب الأوضاع على نحو حاسم، يفرض الشروط كاملة.. وانعكس ذلك بوضوح في الجانب الاقتصادي داخل مصر؛ فعينُ الولايات المتحدة لا تغفل أبدًا عن هذا المجال، وتطوراته على صِلة وثيقة بتوقيت تدخلها السياسي في التسوية.

ز ـ ولكن ينبغي ـ مع ذلك ـ أن نُشير إلى حقيقة الدور الإسرائيلي المتزايد في التسوية، لا على حساب الدور المصري والعربي فقط، ولكن على حساب الدور الأمريكي أيضًا. إن التحرك الصهيوني النشط لمساندة إسرائيل، استعاد عافيته بعد مرور زمن كافٍ على حرب تشرين الأول/ أكتوبر. ويبدو أن مسألة ووتر جيت أضافت إلى فاعليته، وهذه حقيقة كان حرِيًّا أن تفرض نفسها - بدرجة أو أخرى- في ظل الجمهوريين أو الديمقراطيين. صحيحٌ أن الوزن الصهيوني في السياسة الأمريكية لم يعد إلى القمة التي بلغها قبل تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ولكن إسرائيل تحاول العودة إلى هذه القمة بلا كلل، ويبدو أنها قطعت شوطًا بعيدًا. لقد توحَّد الصهاينة مع سياسة كسب الوقت التي انتهجتها الولايات المتحدةُ، وشحذوا طرفها الحاد الموجه إلى الجانب العربي، وشيئًا فشيئًا، زاد توظيف هذه السياسة لصالح إسرائيل. إن سياسة كسب الوقت، كانت تهدف إلى خلق وقائعَ جديدة في المنطقة: عزل الاتحاد السوفيتي ـ اختلال التوازن العسكري ـ التمزق العربي.. إلخ. والمؤسسة الصهيونيةُ - وإسرائيلُ - أسهمت بلا شك في هذا كله، مستفيدة من الإمكانيات الهائلة للولايات المتحدة. وفي هذا الإطار لم تكن إعادة صياغة الاقتصاد المصري - بالتأكيد- بعيدة عن الصهيونية وإسرائيل؛ فإعادة الاقتصاد المصري إلى التبعية، لم تكن في صالح الولايات المتحدة وحدها؛ فهي أيضًا تأمين لإسرائيل، وإعداد "لتطبيع العلاقات". ولا يُعقل أن تكتفي الصهيونية في هذا المجال بموقف المتابع من بعيد؛ فمن المنطقي تمامًا، أنها أسهمت إسهامًا مباشرًا وكبيرًا في إنجاز ما تحقق. ولا نقصد بذلك أنها كانت مساهمة في تنفيذ المخطط (من خلال سيطرتها المؤثرة في شبكة المصارف الدولية على سبيل المثال)، ولكن لا بد أنها ساهمت في وضع المخطط وفي إدارته؛ فالنفوذ الصهيوني ـ في الحياة السياسية الأمريكية ـ لا يتركز فقط في الصحافة والكونجرس، ولكن في المراكز العصبية الأكثر حساسية (وهذا هو الأخطر). "إن معلومات المخابرات الإسرائيلية عن التطور في واشنطن، تزيد - قَطعًا - عن معلومات المخابرات الأمريكية حول إسرائيل.. وإذا حاولنا التجسس عليهم، فإننا مُخْترقون إلى الحد الذي يجعل محاولتنا تنكشف، وساعتها تحدث فضيحة هائلة.. إن الإسرائيليين يعلمون أن حكومتنا كالجبن السويسري، وهم يتسللون عبر كل ثقب فيها"(27).
هذا الكلام يبدو معقولاً وقابلاً للتصديق، ولكن يترتب عليه أن تدخل الصهيونية في سياسات الشرق الأوسط،
لا يمكن أن يقتصر على أعمال المخابرات، أو على التأثير في الاتصالات السياسية للبيت الأبيض والخارجية الأمريكية؛ فمن الضروري والممكن أن يتدعم أيضًا عبر اتصالات صندوق النقد والبنك الدولي، وعبر وكالة التنمية الأمريكية ومعوناتها. ووكالة التنمية ـ على أيَّة حال ـ فرع من الخارجية الأمريكية كما نعلم.







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس