عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 02:42 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

جدول (1)
احتياجات مصر من النقد الأجنبي 1977 ـ 1980 (بالمليون دولار الأمريكي ـ بالأسعار الجارية)

موازنة
مستهدف
المجموع
1977
1978
1979
1980
العجز في الحساب الجاري (بالأسعار الثابتة 1975)
العجز في الحساب الجاري
(بالأسعار الجارية) +
استهلاك الديون الطويلة والمتوسطة الأجل
خفض الديون القصيرة الأجل
ودائع السنة الواحدة
الالتزامات الأخرى **
1.931

2.158
0.840
0.710
1.450
0.195
1.625

1.961
0.625
ـ
0.325
0.125
1.205

1.627
0.675
ـ
0.030
0.108
0.895

1.317
0.780
ـ
0.085
0.080
5.656

7.063
2.920
0.710
1.890
0.508
الاحتياجات الإجمالية
5.353
3.036
2.440
2.262
13.091

* بسبب تغيُّرات الأسعار، لا يعكس حساب الصادرات والواردات من السلع والخدمات تقديرًا صحيحًا لاحتياجات مصر من النقد الأجنبي. وتقدير العجز (بالأسعار الجارية) تم باستخدام أرقام البنك الدولي القياسية للسلع الداخلة في الصادرات والواردات.
* * لا تدخل فيها الالتزامات الناشئة عن الديون العسكرية.

ونخلُص من أرقام الجدول السابق، إلى أن احتياجات النقد الأجنبي أثناء الفترة 77 ـ 1980 كانت تصل إلى 13.1 بليون دولار، وإذا رتبت معالجة خاصة لحالة 1977، يظل العجز، للأعوام 78 ـ 1980 يبلغ 7.7 بليون دولار. ويبلغ 3 بليون دولار لعام 1978 وحده، و2.6 بليون كمتوسط سنوي خلال الفترة. ومع استبعاد القروض والمعونات المرتبط عليها فعلاً، يكون صافي العجز السنوي الواجب تغطيته ـ في المتوسط ـ حوالي 1.2 بليون دولار. ووفقًا لفروض البنك الدولي ـ في تلك الفترة حول قدرة السلطات المصرية على استخدام الأنواع المختلفة من القروض (قروض مشروعات ـ قروض سلعية ـ قروض غذائية ـ قروض نقدية) قدرت الهيئات الدولية أن الارتباطات التي تحتاج إليها الحكومة المصرية من القروض الخارجية خلال الفترة من 78 ـ 1980 ولمواجهة العجز الصافي المقدر
بـ 1.2 بليون دولار، تتطلب توفير توليفة من أنواع القروض المختلِفة مجموعها 2.5 بليون دولار سنويًّا. ويعنينا هنا أن متوسط العجز الصافي (1.2 بليون) يمثل الفجوة المنذرة دومًا ـ في ظل الظروف السائدة ـ بعودة الديون المصرفية (59). ولم تتضمن اتفاقياتُ 1977 ترتيباتِ محددة لسد هذه الفجوة، ولا ننسى طبعًا أن اتفاق تأجيل سحب الودائع (الذي تقرر عام 1977) يقضي بأن يكون التأجيل لسنة واحدة قابلة للتجديد حتى عام 1980، ويمكن بالتالي أن يضاف عبئُها إلى أية سنة خلال الفترة (78 ـ 1980) إذا دعت الضرورة، أي إذا لم تلتزم الحكومة المصرية بتنفيذ البرنامج الممتد، الذي يضعه لها صندوقُ النقد.

ورحم الله محمد رشدي الذي علَّق على قرارات البعثات الدولية (بعثة كييف وفييه وبعثة جوشن وجوبير) في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر؛ لاحتواء الديون الخارجية وتيسيرها، قال الرجل إن الإجراءات "لم تكن بقصد الإصلاح، بقدر ما كانت بهدف تثبيت أقدام التدخل الأجنبي، وبالتالي كان علاجُها لبعض الأحوال مُسَكِّنًا أكثر منه حاسمًا، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة الأحوال سوءًا" (راجع الفصل الأول).
ج ـ تعديل قانون الاستثمار:
لإحداث التشوهات المطلوبة والمتكاملة في البنية الاقتصادية؛ كان مفروضًا أن تمتد التزامات الحكومة إلى جبهة الاستثمار الخاص (الأجنبي والمصري). وتعبيرًا عن التضامن بين الفِرق المتحالفة في الهجوم: دولاً عربية وغربية، ومؤسسات دولية، ومؤسسات خاصة، كان خطاب النوايا ينصّ في بنوده على المبادئ الأساسية لاستراتيجية التنمية، تاركًا التفاصيل للبنك الدولي، وكان إعلان السياسة في المقابل ينص على المبادئ الأساسية لبرنامج التثبيت، تاركًا التفاصيل للبنك الدولي، وكان إعلان السياسة في المقابل ينص على المبادئ الأساسية لبرنامج التثبيت تاركًا التفاصيل لصندوق النقد، وأيضًا كان خطاب النوايا وإعلان السياسة ينصان على المبادئ الأساسية للتعامل مع مؤسسات الإقراض "المُيسَّر" تاركين التفاصيل للاتفاقيات الموقعة مع هذه الجهات، والاتفاقيات تنص على ضرورة الالتزام بتعليمات صندوق النقد، وكذلك ارتبط خطابُ النوايا وإعلان السياسية والاتفاقيات ـ بدرجات مختلفة ـ بالمبادئ الأساسية للتعامل مع المستثمرين تاركين التفاصيل لقانون الاستثمار(60).
نعلم أن صدر القانون رقم 65 لسنة 1971 ـ بعد حركة 15 أيار/ مايو ـ ولكن مع إعلان التوجه العام إلى الانفتاح، كان لا بد من قانون آخر لاستثمار المال العربي والأجنبي، فصدر القانون 43 لسنة 74 كأول علامة بارزة من علامات الطريق الجديد، ولكن منذ ذلك التاريخ مرت مياه كثيرة، وأصبح مفروضًا أن تُصاغ العلاقة مع المستثمرين على نحو يتلاءم مع ما آل إليه الحال. كان القانون 43 محلاً لانتقادات عنيفة من القوى الوطنية المستنيرة (راجع الفصل السادس)، ولكل ظل يحمل بقايا تشبث بمعاني السيادة والاستقلال، (واسمها في القاموس المعاصر "انغلاق"). وكان لا بد من إزالة هذه البقايا، والتزمت الحكومةُ بتحقيق ذلك، قبل انعقاد المجموعة الاستشارية (11 أيار/ مايو) وبالفعل أحال مجلس الشعب في جلسة 25 نيسان/ أبريل مشروع القانون الذي قدمته الحكومة (بتعديل بعض أحكام نظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة الصادر بالقانون 43) على لجنة مشتركة من اللجنة الاقتصادية ومكتبَي اللجنة التشريعية ولجنة الخطة والموازنة، لنظره على وجه الاستعجال، وإعداد تقريرها عنه. ولم تقصِّر اللجنة المشتركة، فعقدت اجتماعين فقط يومي 26 و 27 نيسان/ أبريل، ثم عقد مكتب اللجنة اجتماعًا يوم 28، وصدر التقرير في اليوم نفسه. والحقيقة أن الحكومة أذعنت في مشروع قانونها للمطالب الجوهرية للمستثمرين، ولكنَّ اللجنة زايدت على الحكومة بطريقة مشبوهة، ووصلت بالتنازلات المقدَّمة للمستثمرين إلى مستوى يخرج عن أي معقول، ورأت أن الأمر يتطلب إلغاء القانون رقم 43 (وليس مجرد تعديله) وكذلك القانون 86 لسنة 1974 (الخاص بتقرير بعض الإعفاءات الضريبية للمشروعات المصرية المنشأة في إطار خطة التنمية)، وإصدار تشريع قانون جديد يُسمَّى قانون الاستثمار،
ولم يوقف هذه الفكرة إلا "أن القانون 43 لسنة 1974 له دلالة دولية؛ لذلك رأينا أنه ليس من المُستحسَن إلغاؤه بهذا الشكل؛ لارتباطه بنظام الاستثمار في مصر، وفي الوقت نفسه، وجدنا أنه لو ألغينا القانون 86 لسنة 1974 ـ رغم أنه وُلد ميتًا ـ فسيكون له بعض التأثير السياسي" (61). وأصدق ما قيل في وصف مشروع القانون بعد تعديلات اللجنة، جاء على لسان من يعتبر نفسه زعيم اليمين؛ فقد قال "إنَّ هذا المشروع بقانون قد استجاب في الواقع لكل التعديلات التي طالب بها كافةُ المستثمرين؛ الأجانب منهم
أو المصريين" (62). لم يترك شيئًا في نفس أيٍّ منهم،
إلا وحققه!

وكان طبَعيًّا أن تقدم اللجنةُ مشروعها بتبريرات لا تعرف الخجل، فسجلت في تقريرها حول ما أسمته (فلسفة التعديل): "إن حل المشاكل الاقتصادية والسياسية لمصر وأيضًا للدول جميعها حتى الغنية والقوية منها، وبصرف النظر عن انتمائها الفكري والمذهبي، لم يعد يتحقق بالمقام الأول بالسياسات والخطط الاقتصادية، ولكنه يتحقق بالانفتاح الخارجي، وتنمية التبادل والتعاون الدولي من خلال العلاقات الثنائية والجماعية بين الدول، ومن خلال المنظمات الدولية العالمية والإقليمية، ويؤيد ذلك سياسة الوفاق التي تقررت في مؤتمر هلسنكي في أوائل عام 1975، والحوار العربي الأوروبي، وقيام مجموعة الدول النامية المعروفة بالدول
الـ 77 في إطار منظمة الأمم المتحدة، والتي بلغ عددها الآن حوالي مائة دولة" (63).

أليس مذهلاً كل هذا الجهل في فقرة واحدة من وثيقة رسمية مصرية؟! هل كل دول العالم، وعلى اختلاف انتماءاتها، توقفت عن رسم سياسات، واكتفت بانتظار الفرج والرواج إلى جانب بابها المفتوح؟ وإذا جاز أن هذا الكلام يصف حالنا أو مأساتنا، فهل يحق للسادة أعضاء اللجنة المشتركة أن يسقطوا خيبتنا على العالم كله؟! وما دخل هلسنكي والحوار ومجموعة الـ 77 دولة في كل هذه الهلوسة؟
على أيَّة حال، أخطأ أعضاء اللجنة حين تصوروا أن مزيدًا من السوقية أمام مجلس الشعب، يمكن أن يرجِّح كِفَّتهم، فقد قال أحدهم: "لا يصح أن ندخل في تفاصيلَ قانونية وتتحدث عن ضياع أموال الدولة ومواردها (....) إن المال حولنا يسيل، والفائض كل عام في الدول العربية يبلغ 50 ألف مليون دولار، ولا نستطيع أن نجذب ألف مليون من هذا المبلغ لمصر (...) إن البلد في حاجة – إذًا - إلى مثل هذا القانون (....) وأرجو من السادة الأعضاء أن يوافقوا على هذا المشروع بقانون، على وجه الاستعجال؛ لأن المجموعة الاستشارية تجتمع اليوم في باريس لدعم الاقتصاد المصري. والدكتور القيسوني والدكتور حامد السايح موجودان حاليًا في باريس، والجميع في انتظار هذا القانون، ووكالات الأنباء تنتظر موافقة مجلسنا على هذا المشروع بقانون؛ لأنه سيحقق تمويل الخطة بمبلغ يصل إلى نحو 7000 مليون دولار في الفترة حتى عام 1980" (62). وقال مقرر اللجنة إنه لا داعي للخوف بعد أن زالت عنا عقدةُ النقص بعد انتصار أكتوبر وبعد أن أصبح "بمقدورنا أن نتكلم مع كل من له قوةٌ وحولٌ في هذا العالم، من مركز قوة مماثل، بل أحسسنا أنا لسنا ضعافًا في عالم تأكله الذئاب" (64).
وقال رئيس اللجنة: "الانفتاح الاقتصادي واقع لا جدال فيه، ولو كرِه الكافرون.. وكل يرى هذا المسار بقدر ما فتح الله عليه" (61) (فتح الله على رئيس اللجنة بأن عين مديرًا في بنك انفتاحي بِمرتب عظيم).
إن وثيقتي "تيسير الدَّين الخارجي" أو "قانون التصفية الثاني": تشيزمانهاتن ـ هيئة الخليج، ومشروع قانون الاستثمار، هي الوثائق التي عُرضت على مجلس الشعب. وثائق الاستسلام الأخرى ـ والأكثر خطورة ـ لم تعرضْ. وقد نجح التحايل في إمرار "قانون التصفية الثاني" ولكن بالنسبة لوثيقة مشروع القانون الخاص بالاستثمار، لم يكن المعارضة منحصرة في ممثليها التقليديين، ولكنْ شملت كل الشخصيات المستنيرة ذات الانتماء الوطني، وأعطى رئيس المجلس سيد مرعي الكلمة لجمال العطيفي؛ كي يبدأ النقاش (وكان من العناصر الحكومية البارزة) فكشف ذلك عن مساندة قطاع هام من الدولة لوقف التعديلات الإضافية التي أدخلتها اللجنة على مشروع القانون، بل وللحد مما جاء في المشروع الأصلي المُقدَّم من الحكومة؛ توسعت كلمة العطيفي في نقدها، وبدت حادة ـ بمقاييس هذه الأيام ـ رغم أنها كانت في إطار أن مصر لا ينبغي أن تكون أكثر تساهلاً في حقوقها من سنغافورة وإندونيسيا والفلبين وتايلاند، وما أشبه!
المهم، كانت المعركة حادة، وما جرَى تحت قبة المجلس كان هناك ما يسانده خلف الكواليس، فقد تأخَّر عرض مشروع القانون على المجلس، رغم استعجال الحكومة والهيئات الدولية لسرعة إقراره قبل انعقاد المجموعة الاستشارية. فلم تبدأ المناقشة العامة إلا في 10 أيار/ مايو، وبينما مر قانون 43 في مجلس الشعب عام 1974 في جلسة واحدة، تواصلت المناقشات الصاخبة لتعديل القانون حتى 16 أيار/ مايو 1977، وعبر ثماني جلسات طويلة. ويشهد لسيد مرعي أنه استخدم كل قدراتِه وصلاحياته؛ لكي لا يهبط القانون عن الحد الأدنى المعقول، وأوضح منذ البداية "أن هذا المشرع بقانون، لا بد أن يأخذ حقه من الدراسة التفصيلية الهادئة؛ لأنه جزء من سياسة الانفتاح التي يكثر عنها القيل والقال"، بل قال سيد مرعي إنَّ كلام خالد مُحيي الدين
وأبي العز الحريري (من ممثلي حزب التجمُّع) عن الانفتاح، هو نفس كلام الرئيس أنور السادات" وقد آن الأوان لهذا المجلس أن يتكلم عن سياسة الانفتاح الاقتصادي، بمناسبة نظره لهذا المشروع بقانون، بتعديل بعض مواد قانون استثمار المالي العربي والأجنبي (…..) وأرجو من الصحافة أن تعطينا وقتًا كافيًا؛ لكي نشرح سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تتعرض للهجوم، والتي يُهاجَم النظامُ الحاكم بسببها، ويهاجم السيد الرئيسُ محمد أنور السادات ظلمًا وعدوانًا في هذه النقطة" (65).

لقد استطردنا في الإشارة إلى كلمة سيد مرعي؛ لأن انفعال اللحظة، انتزع من المسئول المصري اعترافًا بطبيعة الجو السياسي العام، وإشادتنا بموقف سيد مرعي من مشروع القانون، لا تمتد طبعًا إلى تصديقه حين يندهش من الهجوم الظالم على مُجمل السياسات الاقتصادية.
ننتقل بعد هذا إلى جوهر الموضوع، فنُلخِّص نقاط المعارضة لمشروع القانون كالتالي.
* المجالات الجديدة: وفقًا لقانون 43 كانت هناك مجالات ستة تستفيد بنظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة (مادة 3)، وأضافت الحكومةُ في تعديلاتها هذه المجالات:
- نشاط التعمير في المناطق الخارجة عن الرقعة الزراعية ونطاق المدن الحالية.
- نشاط بيوت الخبرة والمكاتب الفنية والاستشارية، إذا كان يتعلق بأيٍّ من المجالات المُشار إليها، ويوافق عليه مجلس إدارة الهيئة.
- مكاتب التمثيل الإقليمي التي تمثل شركة أو أكثر في عدد من الدول من بينها جمهورية مصر العربية.
- أعمال المقاولات.
- شركات التأمين متى كانت في صورة مشروعات مشتركة مع رأسمال على مملوك لمصريين لا تقل نسبته في جميع الأحوال عن 51 % ويكون لها الحق في التعامل في كافة أنواع التأمين، وبشرط أن تكون بالعملة الأجنبية.
- شركات التأمين التي تقوم بعمليات بالعُملة المحلية متى كانت في صورة شركات مساهمة أو جمعيات تعاونية مملوكة بالكامل لمصريين.
وكانت الحكومةُ ـ في الحقيقة ـ قد فَتحت في موضع آخر، منفذًا خلفيًّا يعيد حق تملك الأرض الزراعية للأجانب؛ إذ أُضيف للمادة 12 أنه لا تسري أحكام "القانون رقم 15 لسنة 1963 بعدم جواز تملك غير المصريين للأراضي الزراعية والصحراوية، على الأراضي والعقارات التي تمثل جزءًا متكاملاً من الأصول الرأسمالية للمشروعات التي تُقرُّها الهيئةُ".
إلا أن النقاط من 8 إلى 12 تعرضت لنيران الهجوم الحامية، وكذلك الإضافة للمادة 12 (66)، فلم تجد إضافة اللجنة لشركات التأمين من يدافع عنها، وكذلك إضافة الأراضي الزراعية. وبالنسبة لمجالات المقاولات وبيوت الخبرة ومكاتب التمثيل، كانت الحجة الرئيسية للدفاع عنها هو أن المبدأ سبق إقراره في قطاع التعمير؛ حيث نصَّت المادة (5) من القانون 62 لسنة 1974 (بشأن بعض الأحكام الخاصة بالتعمير) على أن "تتمتع شركات المقاولات الأجنبية، أو البيوت الاستشارية الأجنبية العاملة في مشروعات التعمير، بالإعفاءات الضريبية المقررة لرأس المال الأجنبي، بمقتضى قانون استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة"، ثم صدر القانون 113 لسنة 1975 بتعديل القانون 62، فنص في المادة الأولى منه على أنه يُضاف إلى المادة التي أشرنا إليها "وتتمتع بذات الإعفاءات المنصوص عليها في الفقرة السابقة، العملياتُ التي تقوم بها شركات أو بيوت أجنبية، في المشروعات التي يكون فيها التعاون من مقتضيات التعمير، ويصدر بتحديدها قرارٌ من وزير الإسكان والتعمير".
والحقيقة أن قطاع التعمير ـ بقيادة عثمان أحمد عثمان، وبمباركة الجهات الخارجية ـ أصاب، كما أسلفنا، عديدًا من العصافير بحجر واحد (راجع الفصل السادس) وإصابة قانون الاستثمار؛ استنادًا إلى ما تم في قطاع التعمير، كانت عصفورًا آخر، ولكنَّ المعارضين تشبثوا بموقفهم، وقالوا إن "أعمال المقاولات الواردة في قانون التعمير، هي أعمال خاصة بشئون التعمير ولظروف معينة، ولقد انتهى أمرُها. أما نشاط المقاولات الوارد في قانون استثمار المال العربي والأجنبي، فهو نشاط دائم ومطلق" (67).
أما بيوت الخبرة ومكاتب التمثيل، فلم يقف إلى جوار اللجنة المشتركة في الدفاع عن وجودها وامتيازاتها، إلا فكري مكرم عبيد (وكان من أقطاب حزب اليمين قبل الانتقال إلى منصب الأمين العام للحزب الوطني)، وحاول الرجلُ أن يبعد الشبهات الطبيعية التي تحيط بمثل هذا الموقف، فقال: "أرجو ألا يُفهم من كلامي أن لي صلة
أو ارتباطًا بنشاط هذه المكاتب". وبالفعل، فإن ارتباطاتِ الرجل معروفةٌ، وهو لم يستطع - بطبيعة الحال - أن يقول أي كلام مقنع أكثر من أن "هذه المكاتب تمثل شركات عالمية، وهي كثيرة جدًا.. فكيف تمنع مثل هذا النشاط المفيد للاقتصاد المصري؟ خاصة وأن الفلسفة التي بُني عليها هذا القانون هي التيسير وليست التعسير" (61) (!) وأضاف رئيس اللجنة المشتركة إن "النقطة التي أُثيرت بشأن عدم قيام هذه المكاتب بعمل إنتاجي، مردودٌ عليها بأن هذه المكاتب مولدة للنشاط الإنتاجي"(68) (ولا ندري كيف؟!). ومع ذلك؛ فالمعارضة كانت معتدلة في موقفها، فهي لم تكن ضد قيام هذه المكاتب من حيث المبدأ؛ "إذ لم يدُر بخَلَد أحد من السادة الأعضاء ـ كما قال العطيفي ـ الوقوف في وجه مكاتب التمثيل الأجنبي، وكان هدفي من التعديل، ألا تتمتع بالإعفاءات والمزايا المنصوص عليها في قانون استثمار المال العربي والأجنبي" (68)؛ أسوة بالتوكيلات التجارية التي أصبحت مقتصرة على المصريين (وفقًا للقانون 93 لسنة 1974 والصادر بناء على إلحاح رجال الأعمال المصريين) والتي لا تتمتع بأي إعفاء من الضرائب.

وقد أسفرت الموقعةُ لتحديد مجالات الاستثمار الجديدة عن حل وسط، يقترب أكثر من موقف المعارضين؛ فالصيغة النهائية التي صدر بها القانون، حُددت المجالاتُ الجديدة (المضافة إلى ما ورد في القانون 43) وحددت شروطها على النحو التالي:
1. نشاط التعمير في المناطق الخارجة عن الرُّقعة الزراعية، ونطاق المدن الحالية (بقيت على حالها).
2. نشاط المقاولات الذي تقوم به شركاتُ مساهمة
لا تقل مشاركةُ رأس المال المصري فيها عن 50 بالمائة.

3. نشاط بيوت الخبرة الفنية المتخذة شكل شركة مساهمة، بالمشاركة مع بيوت الخبرة الأجنبية العالمية، إذا كان يتعلق بأي من المشروعات الداخلة في المجالات المشار إليها، والتي تعتبر هذه الخبرة من مُقتضياته، وبشرط موافقة مجلس إدارة الهيئة في كل حالة على حِدة، على أن يُمسَك لكل عملية حساب خاص؛ وفقًا للنظام الذي يقرره وزير الاقتصاد، ويوافق عليه مجلس إدارة الهيئة.
وحذفت كل الفقرة المضافة إلى المادة 12، الخاصة بملكية الأراضي الزراعية والصحراوية والعقارات المبنية والأراضي الفضاء.
وبالتأكيد، كان تمكُّن مجلس الشعب من حذف الأراضي الزراعية، إنجازًا محمودًا. كذلك كان حذف مكاتب تمثيل الشركات الأجنبية مكسبًا إيجابيًّا، وبكل المقاييس، لم يكن مفهومًا لماذا تتمتع مثلُ هذه المكاتب بإعفاءات وامتيازات قانون الاستثمار. أيضًا كان إبعاد التأمين عن شركات التأمين الأجنبية أمرًا مهمًّا، ويحسُن أن نُشير ـ في هذه المناسبة ـ إلى مثال من الأدوات التي تستخدمها الجهات الخارجيةُ لفتح الأبواب، وللتأثير على المناقشات والقرارات؛ فقد تصدى علي عزت عبد الباري (وكان رئيسًا للهيئة المصرية العامة للتأمين) لمحاولة إدخال شركات التأمين الأجنبية، وفي المناقشات السابقة على عرض مشروع القانون، تمكن من إقناع اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب بموقفه، ثم كشف الرجل أنه تلقَّى ـ على إثر ذلك ـ عرضًا من شركة تأمين أجنبية؛ كي يعمل بها بمرتب يصل إلى خمسة أضعاف ما يتقاضاه في منصبه كرئيس لهيئة التأمين الوطنية (69).
على أيَّة حال، حدث بالنسبة لمجال التأمين بالذات، أن انفتحت ثغرة في اللائحة التنفيذية للقانون المُعدَّل، ومن هذه الثغرة تأسست شركة تأمين مصرية أمريكية للعمل في المناطق الحرة، ومفروضٌ أن تمتد أعمالها إلى المصريين العاملين في الخارج؛ للتأمين بالنقد الأجنبي.
وحدث أيضًا ـ رغم كل المعارضة ـ أن جاء الزمن الذي فتح فيه الباب أمام شركات مقاولات أجنبية، للقيام بعمليات داخل مصر، وتستهلك النقد الأجنبي، في وقت تصدِّرُ فيه مصر خبرة البناء، وعمال الإنشاء (بمئات الآلاف) إلى أسواق خارجية!
مع ذلك، كان فرض عدد من الضوابط على مجالات الاستثمار، يمثل الإنجاز الأساسي للمعارضين ضد "الانفتاح بلا أية حدود". ولكن هذه الجبهة لم تكن في الحقيقة مكمنَ التنازلات الأخطر، وللحقيقة أيضًا، فإن المجالات المفتوحة للاستثمار الأجنبي، ودون تعديل القانون 43، كانت واسعة بما فيه الكفاية؛ ففي البند (1) من المادة (3) ـ من ذلك القانون ـ كان النص يفتح "التصنيع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل وغيرها من المجالات "وكانت عبارة "غيرها من المجالات" تسمح بأي تفسير، وقد تأسست بالفعل شركة المقاولات المصرية الإيرانية، وفق هذه العبارة، قبل تعديل القانون والسماح - بصراحة - بمشاركة رأس المال الأجنبي في قطاع المقاولات. إلا أن الشكوَى الحقيقية للمستثمرين الأجانب، تركزت على معايير الأفضلية في قبول المشروعات داخل المجالات المفتوحة؛ إذ نص القانون 43 مثلاً على حوافز للمشروعات ذات الأهمية الخاصة، وللمشروعات التي لا تشكل عبئًا على ميزان المدفوعات، وتبلور ذلك في حق تحويل الأرباح؛ إذ قصرت المادة 22 حق تحويل الأرباح بالكامل على:
المشروع الذي يحقق اكتفاءًا ذاتيًا من حيث احتياجاته من النقد الأجنبي، وتغطي حصيلة ما يحققه من صادرات منظورة أو غير منظورة جميعَ عناصر احتياجاته، من استيراد آلات ومعدات، ومستلزمات إنتاج ومواد، ومن سداد للقروض الخارجية وفوائدها، يسمح بتحويل صافي الأرباح السنوية للمال المستثمر في حدود رصيد حصيلة صادرات المشروع.
بالنسبة للمشروعات الأساسية ذات الأهمية الرئيسية للاقتصاد القومي، والتي لا تكون موجهة للتصدير، يسمح بتحويل صافي الأرباح السنوية للمال المستثمر بالكامل.
وقد عدّل البند (1) بحيث لم يعد تحويل الأرباح "في حدود رصيد صادرات المشروع"، ولكن في "حدود الرصيد الدائن لحساب العملة الأجنبية المرخص به".


أما البند (2) فقد تحول إلى:
1. بالنسبة للمشروعات التي لا تكون موجهة أساسًا للتصدير، والتي تحد من حاجة البلاد إلى الاستيراد، يسمح بتحويل صافي أرباحها كلها أو بعضها، بأي سعر مُعلن للنقد الأجنبي؛ وفقًا لما تقرره الهيئة، وطبقًا للقواعد النقدية السارية.
وبهذا تحقق مطلب المستثمرين، في أن يتسع حافز تصدير كل الأرباح (ودون حد أقصى) لمشروعات إحلال الواردات، التي تشمل في أغلبها مشروعات غير أساسية يركز عليها المستثمرون الأجانب لعائدها السريع، أو مشروعات يمكن إقامتها بالإمكانيات المحلية. ولم تعد القدرة التصديرية (التي تعكس مزايا تكنولوجية وإدارية) محددًا أساسيًّا لتحويل صافي الأرباح بالكامل، طالما أن المشروعات قادرةٌ على توفير النقد الأجنبي اللازم لتحويل أرباحها عن غير طريق التصدير ـ أي طالما أن رصيدها الدائن بالعملة الأجنبية يسمح بذلك ـ سواء من حصيلة المبيعات بالنقد الأجنبي في الأسواق المحلية، أو بشراء العملات الأجنبية عن طريق البنوك من أصحاب الحسابات الحرة، أو بشراء العملات الأجنبية من موارد السوق الموازية للنقد (مادة 14). وتُغني هذه الوسائل البديلة عن التصدير لتوفير النقد الأجنبي، منافسة حادة لأوجه الطلب الأخرى على العرض المحدود من النقد الأجنبي المتوفر في السوق المصري، ولن تُحسَم هذه المنافسة وفق رؤية وطنية للأولويات الصحيحة، إذا وضعنا في اعتبارنا سيطرة البنوك الأجنبية (التي تتعامل معها هذه المشروعات) على حصة متزايدة من موارد النقد الأجنبي، تملك وحدها تعيين أوجه استخدامها... وقد نص على أن استخدام المشروعات لموارد السوق الموازية يخضع لموافقة مجلس إدارة الهيئة وفي حدود هذه الموافقة (مادة 30 من اللائحة التنفيذية للقانون)، إلا أن أولوية "التيسير للمستثمرين"، والضغوط الخارجية، ستدفع الهيئة دومًا إلى الأريحية. وكان من الأريحية، وتمشيًّا مع المنطق الجديد حذف بند 4 (م ـ 22) بأن "لا تلتزم الدولة بتحويل عائد الاستثمار بالنسبة للمال المستثمر الذي تقل قيمته الكلية عن 50 ألف جنيه"، وكان النص يهدف طبعًا إلى تشجيع المشروعات الكبيرة. وأيضًا ارتفع المسموح بتحويله من صافي العائد بالنسبة للمساكن التي تدفع أجرتها بالعملة المحلية إلى نسبة 8 % سنويًّا من المال المستثمر بدلاً من 6%.
كان القانون 43 يُستثنَي المشروعات الأجنبية من أحكام القوانين والقرارات المنظمة للاستيراد "دون التزام من جانب الحكومة، بتوفير النقد الأجنبي اللازم لعمليات الاستيراد، خارج الحسابات المصرفية المذكورة في المادة السابقة" (أي: المادة 14). ولكن هذه المادة توسعت كما أشرنا؛ بحيث
لم يعد الجانب الدائن في الحسابات المصرفية للمشروعات مقصورًا على صادراتها المنظورة وغير المنظورة، أو الأموال المحولة من الخارج بالعملات الحرة، وإنما أُضيف إلى موارد النقد الأجنبي ما تستطيع أن تعتصره هذه المشروعات من داخل مصر، ويعني ذلك توسع دائرة الاستيراد المرسل بلا ضوابط من خلال الشركات الأجنبية. وأضيف إلى هذا "السماح للمشروعات المُشار إليها، بأن تصدر منتجاتها بالذات أو بالواسطة دون ترخيص، وبغير حاجة لقيدها في سجل المُصدرين". وفشلت محاولات المعارضين لتقييد هذه الحرية، ولو بمجرد إخطار الهيئة العامة للاستثمار قبل التصدير؛ لكي يكون لدى الدولة تصورٌ عن موارد النقد الأجنبي المتوقعة، أو للتنسيق بين التصدير واحتياجات الاستهلاك المحلي (70).

وكان لا بد من تأمين طرق الانسحاب أمام المستثمرين الأجانب وقتما يريدون، والقانون 43 حقق ذلك في المادة (21) بالسماح بإعادة تصدير رأس المال المستثمر عينًا بموافقة الهيئة (وظل هذا بلاد تعديل) أو بتحويله نقدًا إلى الخارج على خمسة أقساط سنوية متساوية، فألغَى التعديل شرط التساوي في الأقساط، وكان ممكنًا أن يُستثنَى من شرط الأقساط الخمسة ـ أصلاً ـ) إذا كان المستثمر قد تصرف فيه "في رأسماله" مقابل نقد أجنبي حر تم تحويله إلى جمهورية مصر العربية".
لكنْ تمشيًّا مع منطق التعديلات؛ أصبح الاستثناء ممكنًا أيضًا (أي تحول الأموال دفعة واحدة) إذا أمكن للمستثمر أن يحصل على النقد الأجنبي اللازم من داخل مصر، أي "إذا كان رصيد المستثمر بالنقد الأجنبي في الحساب المشار إليه في المادة 14 يسمح بهذا التحويل، أو إذا كان قد تصرَّف فيه مقابل نقد أجنبي حر". وكان الاستثناء من شرط الأقساط الخمسة يتطلب في القانون 43 موافقة الهيئة على هذا التصرف، فاكتفى التعديل بمجرد إخطار الهيئة،
ولم تنفعْ في المناقشة حجة أن استئذان الهيئة وموافقتها ضرورية، على الأقل حتى لا يحل محل المستثمر الأصلي، مستثمرٌ آخر من دولة معادية (71). ومن أجل مزيد من التيسير؛ أضاف التعديل في كل الأحوال حقَّ "بيع الأسهم المقومة بعملة أجنبية حرة في البورصات المصرية، بنقد أجنبي حر، وفي هذه الحالة يحول ناتج البيع لحساب البائع إلى الخارج" ومسألة تشجيع وتطوير سوق الأوراق المالية كانت موضع إلحاح ودراسات الجهات الخارجية والمصرية المعنية منذ 1974، وهذا السوق ـ وبالنقد الأجنبي ـ من أسرع وأكفأ قنوات تحويل الأموال إلى الخارج عند الحاجة. ومعروف أن القانون المصري لا يُجيز تداول حصص التأسيس والأسهم، قبل مرور سنتين على قيام الشركة، ولكن أجاز هذا بالنسبة للشركات المستفيدة من القانون إذا وافقت الهيئة (مادة 12).

وأخيرًا، كانت هناك طريقة انسحاب المستثمر الأجنبي بتصفية المشروع، والقانون 43 كان يضع بعض الضوابط على تحويل المستثمر لأمواله على هذا السبيل ـ لمنع التلاعب ـ فوضع حدًا أقصَى "لا يجاوز القيمة المسجل بها المال المُستثْمَر عند وروده، مضافًا إليها نسبة يحددها مجلس إدارة الهيئة، مقابل الارتفاع الذي يكون قد طرأ على قيمة المال المستثمر"، ولكن جاء التعديل مُلغيًا لأية معاييرَ محددة، "يكون تحويل المال المستثمر في حدود قيمة الاستثمار عند التصفية، أو التصرف فيه بحسب الأحوال".. وبالكاد تمكَّنت المعارضةُ في مجلس الشعب، من إضافة "على أن تعتمد الهيئة نتيجة التصفية" إلى آخر الفقرة.
وبالنسبة لإعفاء المشروعات من تطبيق قوانين الدولة، حدث توسُّع كبيرٌ في دائرة الإعفاء التي نص عليها قانون 43. وتعرضت هذه النقطة لانتقادات حادة من المعارضين، ولكن بقدر محدود من النتائج (72)، أهمها إسقاط النص المُقترح من الحكومة بإطلاق يد المشروعات في تشغيل العمال ساعات إضافية، دون تصريح من مكتب العمل، (وهو أمر يتعارض مع الحقوق التي كسبها العمال المصريون منذ أوائل الخمسينيات).
وكذلك تمكن المجلس من خفض نِسبة إعفاء الأرباح الموزعة من ضريبة الإيراد العام إلى 5 % من القيمة الأصلية لحصة الممول في رأس المال للمشروع، وذلك بعد انقضاء فترة الإعفاء من كل الضرائب، لمدة خمس سنوات (أو ثماني أو خمس عشر سنة، حسب الحالة) اعتبارًا من أول سنة تالية لبداية الإنتاج، أو مزاولة النشاط. وبهذا تكون النسبة (5 %) قد ظلت عند المستوى المقرر في قانون 43، وكانت الحكومة قد اقترحت رفع هذه النسبة إلى 10 %، وكان هذا يعني أن المشروع الذي يبلغ رأسماله مليون جنيه ويربح مائة ألف جنيه سنويًّا، يصبح معفيًّا من الضرائب طول فترة اشتغال المشروع؛ لأن المائة ألف جنيه تمثل 10% من رأسمال المشروع.
ولكن ظلت باقي التساهلات والاستثناءات سارية، وظلت كل مادة من قانون الاستثمار (من المادة ـ 1 ـ إلى المادة 22 ـ) تهدي للمستثمرين استثناء أو أكثر من القوانين العامة للبلاد، و"الغريب في أمر هذه الاستثناءات ـ كما كتب محمد علي رفعت ـ أن الذين صاغوا القانون في سنة 1974، والذين صاغوا ما أُدخل على مواده من تعديلات في سنة 1977، لم يفطنوا جميعًا لعواقب تطبيقه، تلك العواقب التي ظهرت بواكيرُها فيما تعانيه المشروعات الوطنية القائمة وغير المنتفعة (بالاستثناءات) من ضيق ومعاناة (...) مع أنها أولَى بالرعاية؛ لسابق فضلها في الأداء، ولمعاناتها الطويلة؛ ولأنها لو تُركت وشأنها؛ لانهارت دعائمها"، وهذا الانهيار "تترتب عليه خسائرُ لن تعوضها المكاسب المرتقبة من إقامة المشروعات المنتفعة". والتمييز في المعاملة الاقتصادية، يستحدث الثنائية الاقتصادية، ومثل هذا التمييز كان دائمًا الأداة التي يلجأ إليها المستعمرون "لإقامة قطاعات أو مشروعات اقتصادية يختصون أنفسهم بملكيتها وإدارتها، ويتركون للمواطنين المستضعفين القطاعاتِ التقليدية المتخلفة (...) وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر؛ فلا بد من ذكر ما عانته مصر على مدَى الأجيال في ظل نظام الامتيازات الأجنبية من سيطرة رأس المال الأجنبي على اقتصادياتها (....) وإذا كان إغفال العواقب التي تعززها الاستثناءات سالفة الذكر عند تطبيقها، أمرًا مُستغربًا؛ فالأغرب منه أن يدعي مدعٍ أن القانون الجامع لتلك الاستثناءات، إنما هو تجسيدٌ لسياسة عامة تقررها الدولة. أمِن المعقول أن تكون مجموعة استثناءات خاصة من قوانينَ عامة، تجسيدًا لسياسة عامة؟ أو مكونة لها" (73).
إلا أن اللجنةُ المشتركة أصرَّتْ أيضًا على إضافة فقرة إلى (المادة 6) وتتعلَّق بامتداد كل الامتيازات الجوهرية التي تتمتع بها رءوس الأموال الأجنبية؛ لكي تغطي أيضًا المشروعات المصرية الخالصة(74) وعلى رأسها الإعفاءات الضريبية، شاملة الإعفاء الدائم للأرباح، بنسبة 5 % من رأس المال المُستثمَر، من ضريبة الإيراد العام (المادة 17) وكانت الحجة الديماغوجية المقدمة، أنه لا بد من مساواة المصري مع الأجنبي، وأي وطني عاقل كان يرفض هذا المنطق؛ فالرأسمالي العجوز عضو مجلس الشعب سيد جلال قال: "إنني مندهش من الكلام الذي يقال، من أنه يجب عدم إيجاد تفرقة بين المستثمر الأجنبي والمستثمر المصري، فلا بد من التفرقة بين الاثنين؛ لأن المصري يستثمر في بلده ووطنه الذي يدين له بكل شيء، ووضعه يختلف عن الأجنبي الذي يأتي إلينا بهدف الربح (...) إنني أتساءل عن الأسباب التي تدعونا إلى إعطاء مثل هذا الإعفاء للممول المصري، بعد أن أعفيناه من كافة أنواع الضرائب والرسوم، لمدد تتراوح ما بين 5 سنوات و 15 سنة؛ وفقًا لطبيعة كل مشروع. كما أتساءل عن الأسباب التي تدعونا للاستمرار في إعفاء الممول المصري، رغم أنه يقيم في مصر ويستظل بظلها، وينعم بخيراتها، ويعيش آمنًا في ظل قواتها المُسلَّحة ورجال الأمن فيها، ويتمتع ابنه بالتعليم المجاني، ويتمتع هو بالعلاج المجاني أيضًا، لماذا – إذًا - نعفيه من الضريبة بنسبة 10 % من رأس المال؟ هل يعتبر هذا بمثابة معاش إضافي للممول؟ إنني لا أجد أي مبرر لإعفاء الممول المصري بنسبة 10 % من القيمة الأصلية لحصته، ثم كيف نقرر بأن يظل هذا الإعفاء مستمرًا إلى ما لا نهاية؟ إننا إذا كنا نعفي المستثمر الأجنبي من الضرائب؛ فهذا لأننا لا نطلب منه أن يسهم في الأعباء العامة للدولة، أمَّا المواطن المصري، فلماذا نعفيه من أداء الضريبة المُستحقَّة عليه؟ إنني أرجو من الإخوة الزملاء، عدم الموافقة على هذا الإعفاء"(75).
ولكن الإخوة الزملاء لم يستجيبوا للرجاء، رغم مساندة رئيس المجلس للاتجاه المعارض، فحين طُرِحَ الأمر للتصويت وقال سيد مرعي: "الموافق من حضراتكم على مساواة رأس المال المصري برأس المال الأجنبي في الاستفادة من حكم المادة (17)، يتفضل برفع يده"، رفعت الأغلبية يدها، وسط التصفيق الحاد، وحين تساءل رئيس المجلس: "وهل يكون الإعفاء مطلقًا دون تحديد مدة؟ أو يحدد بخمس سنوات أو ثماني سنوات؟" (76) لم يجد من يعبَأ بالإجابة أو التعليق.
المناقشات التي أشرنا إليها بما عدلته وبما لم تعدله، عكست إدراكًا ناميًا وصحيحًا، لحقيقة أن الدولة تمنح المستثمرين الأجانب والمصريين تسهيلاتٍ شاذة، ولم تميز في ذلك بين المشروعات الهامة وغير الهامة، وتتأكد خطورة ذلك، حين نتذكر اتساع القطاع الذي يشمله هذا القانون، في ظل استراتيجية تنمية، التزمت بها الحكومةُ، وتعلن أن المشروعات الجديدة ـ خارج الهياكل الارتكازية ـ سيقوم بها القطاع الخاص الأجنبي والمصري، وبالتالي يكون المستهدَف إعفاء كل المنجز خلال الخطة الخمسية (أو في كل السنوات التالية) من أي تخطيط أو ضوابطَ من قِبَل الدولة، وأيضًا لن تحقق الدولة أية زيادة في موارد الميزانية العامة من خلال المشروعات الإنتاجية أو الخدمية الجديدة، وتصل الأرباح والعوائد المصدرة بالنقد الأجنبي، إلى أرقام مزعجة، إذا نجحت السياسات في اجتذاب رءوس أموال أجنبية في مشروعات كثيرة تافهة، تتمتع بكل هذه الإعفاءات.
ولكن في إطار هذه الصورة العامة، فات الجميع (قصدًا أو سهوًا) رصد ثلاثة جوانبَ في تعديلات القانون، ترتبط بمجمل التحوُّرات المستهدفة في البنية الاقتصادية لتكريس التبعية:
الجانب الأول والأخطر بسعر الصرف؛ ففي الهجوم الشامل والمشترك من كافة الممولين الأجانب (دول عربية وغربية، ومؤسسات دولية، ومؤسسات خاصة) كان هناك اللقاء حول خفض سعر الصرف خفضًا شديدًا، وكانت إجراءات "ونوايا" الحكومة في الوثائق السابقة، تتجه إلى الخضوع لهذا المطلب، فحققت خطوة أساسية في هذا الاتجاه للتوسع الكبير في التعامل على أساس السعر التشجيعي، في التصدير والاستيراد والقروض.. إلخ، والتزمت بأن يكون كل الاستيراد بالسعر التشجيعي بدءًا من أول كانون الثاني/ يناير 1979، وكان لا بد أن يستكمل ذلك بتعديل سعر الصرف الذي يُعامل به المالُ المستثمر؛ كي يصبح هدف خفض سعر الصرف أمرًا واقعًا وكاملاً، وقد تعهدت الحكومة أمام كل الجهات الخارجية بأن تحقق من خلال تعديل القانون 43 هذه الخطوة. وجمال العطيفي (القريب من الصورة) كان مدركًا للموضوع، إلى حد أنه اعتبر ـ وبحق ـ أن موضوع سعر الصرف هو جوهر التعديلات المطلوبة لقانون الاستثمار
"إلا أن الإضافات والتعديلات التي رأت اللجنة إدخالها تجاوزت ما سبق أن طالبنا به". ولكنه عرض القضية على أساس أنه "كان من المتصور، والمفروض أن يتضمن مشروع القانون المعروض بوضوح وجلاء هذا الوعد،
ألا وهو تحديد سعر الصرف الذي يتم به تحويل العملة وإنهاء الخلاف القائم حوله". وأضاف أن الحكومة سبق أن وعدت بتحقيق ذلك على لسان رئيس مجلس الوزراء عند عرضه لبيان الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر 1975، وأن لجنة الرد على بيان الحكومة (وكانت برئاسته) أثارت بدورها مسألة "تحديد سعر واحد (التشجيعي أو الرسمي) يتم على أساسه استجلاب رأس المال الأجنبي، وتحويل الأرباح". ولا أعتقد أن ضعف الذاكرة يفسر خطأ العُطيفي هنا في سرد الوقائع، ولكن كان الرجل يدرك خطورة كشف هذه النقطة، واستحالة تعديلها، فحاول أن يتجاوزها؛ ليواجه ما هو ممكن.

كان القانون 43 ينص في الفقرة الأولى من المادة (2) على أن: يُعتَبر مالاً مستثمرًا في تطبيق أحكام هذا القانون، النقدُ الأجنبي الحر، المُحوَّل لجمهورية مصر العربية بالسعر الرسمي، عن طريق أحد البنوك المسجلة لدى البنك المركزي المصري؛ لاستخدامه في تنفيذ أحد المشروعات أو التوسع فيها ـ وفي الوقت نفسه كانت الفقرة الأولى من المادة 21 تنص على "يكون تحويل المال المستثمر إلى الخارج على خمسة أقساط سنوية متساوية، وبذات العملة الوارد بها وبسعر الصرف المعمول به وقت التحويل"؛ ولذا سجلت المذكرة الإيضاحية التي قدمتها الحكومة لمشروع القانون المُعدَّل ما يلي:
أ- إن التفاوت في معاملة رأس المال العربي والأجنبي بأسعار صرف مختلفة، بالنسبة لدخوله وخروجه، أمرٌ يتنافَى مع العدالة في المعاملة، التي تقتضي توحيد السعر في الحالتين، كما أن عبارة (سعر الصرف المعمول به وقت التحويل) عبارة غير محددة التعريف، وتُجيز عدة تفسيرات متناقضة".
وبالفعل كانت هذه العبارة غير محددة، وقد تصور البعض في البداية، أنها تعني السعر التشجيعي، وحينئذٍ، تكون الحالة أن المستثمر يجلب أموالاً تحدد قيمتها بالسعر الرسمي، أي تعادل قيمتها بكمية من الجنيهات المصرية، تقل عن حالة تقييم النقد الأجنبي بالسعر التشجيعي. عند تصدير المستثمر لأرباحه بالسعر التشجيعي يحول المستثمر كل مائة جنيه يربحها مثلاً باعتبارها 146 دولار فقط، في حين أنه يحول أمواله باعتبارها 250 دولار إذا حول أمواله للخارج بالسعر الرسمي؛ أي بنفس سعر دخوله للبلاد. إلا أن الحكومة أعلنت منذ مناقشات مشروع القانون 42 لعام 1974 أن رأس المال سيعامل معاملة موحدة عند قدومه وعند خروجه؛ فطالما أنه عُومِل بالسعر الرسمي عند مجيئه؛ ستعامل تحويلاتُه للخارج بالسعر نفسه. وقد طبق هذا فعلاً خلال لممارسة العملية؛ ولذا فإن إزالة اللبس في الصياغة تعتبر في هذا السياق مجرد تدقيق وتحصيل حاصل، وهنا يأتي خطأ العطيفي؛ لأن بيان الحكومة عام 1975 (الذي أشار إليه) كان في اتجاه إزالة اللبس وتأكيد توحيد المعاملة بنص صريح على أساس السعر الرسمي، ورد لجنة مجلس الشعب في ذلك الوقت كان في اتجاه أنه لا داعي للتعديل؛ لأن التعامل مع المال الأجنبي المستثمر (دخولاً وخروجًا) بالسعر الرسمي مسألة مضمونة ومفهومة، وبمعنى آخر كان المطروح عام 1975 تأكيد مبدأ التعامل بسعر واحد مع المال المستثمر، ولم يكن مطروحًا يومها أي تساؤل، حول ما إذا كان هذا السعر الواحد هو السعر الرسمي أو السعر التشجيعي ـ كما قال العُطيفي؛ لأن المسئولين كانوا ـ ولا زالوا حتى ذلك الوقت ـ في الموقف الذي يستطيعون فيه معارضة خفض سعر الجنيه، ولكن الموقف في منتصف 1977 اختلف، ولم تكن القضية المطروحة توحيد سعر التعامل، ولكن تغيير سعر التعامل، وبررت الحكومة موقفها في المذكرة الإيضاحية على النحو التالي:
ب- "إنَّ توحيد سعر الصرف في المعاملات الاستثمارية ـ دخولاً وخروجًا ـ بالسعر التشجيعي، يتمشَّى مع السياسة الاقتصادية العامة للدولة التي تستهدف إصلاح المسار الاقتصادي، وترشيد المعاملات الخارجية وفق سعر للصرف يتمشَّى مع حقيقة المتغيرات الاقتصادية، ويؤدِّي إلى توازن ميزان المدفوعات المصري خلال بِضع سنوات".
" جـ ـ إن توحيد السعر على أساس السعر الرسمي، ليس في صالح الاقتصاد القومي؛ إذ يأتي رأسُ المال الأجنبي عادة في صورة آلات ومعدات، من العسير تقييم أسعارها الحقيقية؛ نظرًا لتفاوت المواصفات، وتباين الأسعار في الأسواق الدولية، وبالتالي قد تشجع المستثمرين على تضخيم قيمتها؛ لتعويض الفرق بين السعر الرسمي والسعر التشجيعي، (وهذا الوضع لا يغيره كثيرًا استخدامُ السعر التشجيعي ـ المؤلف)، كما أن خروج رأس المال وأرباحه بالسعر الرسمي، يضر بمصالح مصرَ؛ إذ إن الأرباح تتولد في مجتمع يتمتع بمستوى أجور منخفض نسبيًّا؛ (نظرًا لقيام الحكومة بإعانة تكلفة المعيشة لبعض السلع الرئيسية) بينما يتمتع المستثمر بالسوق المصرية الضخمة، ومجالات تسويق إنتاجه بأسعار مرتفعة؛ نظرًا لنُدرة السلع المُتاحة، وبالتالي ليس في صالح الاقتصاد القومي أن يسمح للمستثمر بتحويل أرباحه على أساس 38 قرشًا عن كل دولار (بالسعر الرسمي) بل يتعين أن نطالبه بالسعر التشجيعي؛ أي نحو 70 قرشًا عن كل دولار".
والبند (ج) إشارة نفهمها لارتباط التغيير في سعر الصرف في قانون الاستثمار، بمُجمل التغييرات المُملاة في البنية والسياسات الاقتصادية، وعلى رأسها خفض سعر الصرف الرسمي. ولكن البند (ب) يقدم استخدام السعر التشجيعي، كما لو كان إجراء يتطلبه الصالح الوطني، وعلى حساب الأرباح التي يحصلها المستثمرون الأجانب. وواقع الحال، أن المستثمرين الأجانب هم الذين ألحُّوا لفرض هذا التعديل والحكومة المصرية هي التي حاولت أن تعترض لأطول فترة ممكنة. والأسباب واضحة:
فتحرير سعر الصرف وهيكل الأسعار المحلية من قبضة الدولة، أداة أساسية لربط الاقتصاد القومي باقتصاديات الدول الغربية بشروط الأخيرة، والنجاح في ذلك، شرطٌ استراتيجي لإعداد المسرح لقيام الشركات العابرة للجنسية بدورها؛ تجارة واستثمارًا. وكل هذا مُهِم جدًّا لإسرائيل.
وبالإضافة إلى ضمان انتظام الأداء العام وفق المطلوب، فإن المصالح المحددة للمستثمر الأجنبي لا تُضار على الإطلاق بتصدير ربحه بسعر 70 قرشًا للدولار، بدلاً من السعر الرسمي (على عكس ما ادَّعت الحكومةُ) طالما أن حصته في رأس المال قُوِّمت أيضًا بالسعر نفسه التشجيعي.
لنفرض مثلاً أن حصة مستثمر أجنبي في مشروع مشترك تبلغ 100 ألف دولار، فإذا قومت بالسعر الرسمي؛ تكون مساوية لـ 40 ألف جنيه، وإذا كان رأس مال المشروع 100 ألف جنيه، تصبح حصة الشريك الأجنبي 40 % من رأس المال، وإذا حقق المشروع معدلاً من الربح 10 % أي 10 آلاف جنيه، يكون نصيب الشريك الأجنبي حسب حصته في رأس المال 4 آلاف جنيه، تساوي عند تصديرها بالسعر الرسمي 10 آلاف دولار.
وإذا قومت نفس حصة المستثمر الأجنبي (100 ألف دولار بالسعر التشجيعي)، ترتفع قيمتها بالجنيه المصري إلى حوالي 71 ألف جنيه، إذا شارك بها في مشروع بالحجم نفسه (رأسماله 100 ألف جنيه) تقفز نسبة الشريك الأجنبي إلى 71 % من رأس المال، وإذا كانت أرباح المشروع أيضًا 10 آلاف جنيه، فإن نصيب الشريك الأجنبي حسب حصته الجديدة في رأس المال 7100 جنيه، تساوي عند تصديرها بالسعر التشجيعي 10 آلاف دولار.
وبعد "الاطمئنان" على نصيب المستثمر الأجنبي من الأرباح، ينبغي أن نلحظ من كلامنا السابق، أن الشريك الأجنبي أصبح بوسعه ـ بعد السعر التشجيعي ـ أن يملك نسبة أكبر من رأس مال الشركة، وبحكم قبضته الإدارية بالتالي، بكمية محدودة من النقد الأجنبي المحول. وإحكام السيطرة الإدارية، يدعم الروابط التكنولوجية والاقتصادية بين المشروع المحلي وفروع الشركة الأم، ومن خلال هذه وتلك، يتزايد نزيف التحويلات للخارج، من خلال توريد السلع الوسيطة عبر القنوات الخاصة للشركة العابرة للجنسية، بأسعار مُغالَى فيها، ولِقاء براءات الاختراعات والعلامات التجارية، وأيضًا لتحويل المرتبات العالية للخبراء ورجال الإدارة.. بالإضافة على الربح الرسمي.
وتكنيك السيطرة على المشروعات، بحفنة دولارات، يعني التحكم في كمية مدخرات مصرية كبيرة بحفنة دولارات ترد من الخارج. وتبدأ هذه العملية عند تأسيس المشروع المشترك، ولكن أثناء التنفيذ، وبعد التشغيل، قد يلجأ المشروع إلى الاقتراض لتغطية التوسع في إنفاقه الاستثماري، وكان قانون 43 يشجع على ذلك لاجتذاب مزيد من النقد الأجنبي من المصادر الخارجية؛ ولذا نص على إعفاء "الفوائد المُستحقة على القروض الخارجية ـ ولو اتخذت شكل فوائدَ ـ التي يعقدها المشروع من جميع الضرائب والرسوم، ويسري ذلك الإعفاء على فوائد القروض الخارجية التي يمول بها الجانب المصري نصيبه في المشروع" (المادة 18) ولكن مع التعديلات المُدخلة حذفت كِلمة "الخارجية"، وأصبح الإعفاء بالنسبة للقروض "التي يعقدها المشروع بالنقد الأجنبي" (أي يشمل الإعفاء ما يقترضه المشروع من مصادر الإقراض داخل مصر)، ويسري الإعفاء أيضًا بالنسبة للقروض التي يمول بها الجانب المصري نصيبه في المشروع (أي القروض التي يحصل عليها من داخل مصر أيضًا بالعملة المحلية). ويعني هذا أن المستثمر الأجنبي بحِفنة دولارات (بُولِغ في قيمتها) سيطر على مواردَ محلية كبيرة، ثم توسع بعد ذلك في المشروع، أو في دائرة سيطرته على مواردَ منتزعة من السوق المصري، وزاد بالتالي من حجم أرباحه، بنفس حفنة الدولارات التي جاء بها (77).
من أجل كل هذا، كان منطقيًّا تمامًا أن يصر المستثمرون على معاملة أموالهم بالسعر التشجيعي. إلا أن قضية السعر التشجيعي، رغم خطورتها هنا، ومع ارتباطها بسياسة الخفض المتعسِّف لسعر الصرف، مرت في غفلة غريبة من المعارضين، تمامًا كما مرت بِبساطة مسألةُ التوسع في الاستيراد بالسعر التشجيعي، أو بسعر السوق الموازية.
ننتقل بعد هذا إلى الجانبين الآخرين، وهما على أهميتهما، لن يحتاجا إلى شرح طويل. الجانب الثاني يتعلق بقطاعات المقاولات، فقد تعرض فتح هذا المجال أمام الاستثمار الأجنبي لمعارضة شديدة، نجحت في النص على بعض الضوابط، ولكن اقتصر هجومُ المعارضة، على حجة أن القطاع مصدر لأرباح وتحايلات غير عادية، وبتعبير محمود القاضي: "المقاولات وما أدراك ما المقاولات!" والحجةُ الأخرَى كانت أن الخبرة المصرية الهائلة في قطاع المقاولات لا تحتاج إلى أي مدد خارجي، ولا شك أن الحجتين مُهمتان، وفي الصميم، وتكفيان لإغلاق الباب أمام المستثمرين الأجانب، ولكن تظل الحجة الأهم ـ والتي
لم يسلط عليها الضوء ـ إن قطاع الإنشاء يتحكم في التنفيذ العيني للخطة، كتحكُّم الجهاز المصرفي في التنفيذ المالي، وكما كان اختراق الأجانب للقطاع المصرفي ضربةً كبرى للاستقلال الاقتصادي، أو للقدرة على تنفيذ قرارات مستقلة في مجال التنمية والإدارة الاقتصادية، كان اختراق الأجانب لقطاع المقاولات ضربة مشابهة بنفس المعايير، وكان مكسبًا هامًا، استهدفه الأعداء من تعديل قانون 43.

الجانب الثالث خاص بقضايا العمالة؛ فالمعارضون ركزوا على الجوانب الإنسانية والاجتماعية بالمعنى الضيق، ولكن غابت النظرة إلى اقتصاديات الماكرو، وغاب أيضًا مفهوم الاستقلال الاقتصادي. وحين نوقِش الموضوع بنظرة ضيقة؛ مرَّ تعديل المادة 11 ببساطة، وتقضي باستثناء مشروعات الاستثمار الأجنبي من حكم المادة 21 من قانون العمل (91 لسنة 1959) الذي يُلزم المشروعاتِ بتعيين العمال والسائقين والعمال المتدرجين؛ بناء على ترشيح مكاتب العمل، ويعني هذا أنه لا ضرورة لأولوية تشغيل العاطلين، وإباحة نقل العمالة من موقع إلى آخر بلا ضابط، وكان يكفي للموافقة على هذا المبدأ، أن يقال: وما المانع "إذا كانت شروط العمل أفضل". وقد أشير في المناقشة إلى الوجه الخطير لهذا المبدأ، فقيل: "إن المشروع الاستثماري قد يكون في حاجة إلى كفاءات عُمَّالية، وقد تكون هذه الكفاءات موجودة في الحكومة أو في شركاتٍ أخرى، وليس لهؤلاء حق الحصول على كعب العمل؛ لأنهم ليسوا عاطلين، وبالتالي لن تستطيع تلك الشركة أو غيرها الحصول على هذه الكفاءات اللازمة لنجاح المشروع" (78). وهذا الموقف ـ بلا سياسات مضادة مناسبة ـ هو تقنين لسياسة استنزاف العمالة الفنية من القطاع العام. ومعروفٌ أن القانون 43 كان قد أعفى شركاتِ الاستثمار الأجنبي من نظم ولوائح القطاع العام (حتى لو كان الشريك شركة من القطاع العام) ونصَّت التعديلات على استثناء "العاملين وأعضاء مجالس الإدارة في تلك الشركات من أحكام القانون 113 لسنة 1961 ـ بعدم جواز زيادة ما يتقاضاه رئيسُ أو عضو مجلس الإدارة
أو العضو المنتدَب عن خمسة آلاف جنيه". وكان هذا النص في ـ غيبة سياسات مضادة مناسبة - تقنينًا لاستنزاف الإدارات العليا والخبرات البشرية الثمينة، التي تربَّت على القطاع العام، وتقنين المفارقات في هيكل الأجور والمرتبات، وما يترتب عليها من هجرة المهارات البشرية لمواقع العمل في القطاع العام، تؤدي إلى تخريب جسيم لإنتاجية القطاع العام ـ بمفهومه ودوره حتى الآن ـ (وهذا هدف استراتيجي للقوى الخارجية) وهذه الهجرة تؤدي أيضًا إلى خسارة الاقتصاد القومي للإضافات المُستهدفة من الاستثمار الأجنبي في صورة توسيع وتنويع لرصيد المهارات البشرية التي تمتلكها. وهذا الموقف يسهم، مع السياسات الأخرى، في تيسير أن يكون القطاع الخاضع للسيطرة الأجنبية قائدًا للاقتصاد القومي، وبديلاً ـ وليس إضافة ـ للقطاع العام(79).

ثانيًا ـ ما بعد المجموعة الاستشارية الأولى:
(1) التوجه إلى القدس (إعلان الاستسلام في جبهة الصراع الرئيسي):
إذا عندنا بعد ذلك إلى التحرك السياسي في جبهة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، نجد أن مرحلة جس النبض والمباحثات الاستطلاعية للحل الشامل الذي بشَّر به كارتر، كانت قد وصلت عمليًا ـ في أيار/ مايو ـ إلى مزيد من تحسين الموقف التفاوضي لإسرائيل، بفضل الضغط الأمريكي المنظم على الأطراف المعنية.
فقد تم بالفعل إرجاءُ مؤتمر جنيف، وانتزعت من الجانب المصري موافقة مبدئية على إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل قبل (أو دون) التزام من إسرائيل بالانسحاب من كل الجبهات. وبدأ التراجع حول مبدأ تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني في التسوية، من خلال البحث عن البدائل المحتملة لأشكال مشاركة الفلسطينيين في مؤتمر جنيف (الذي لم ينعقد أبدًا)، والتي وصلت إلى حد أن يمثل الشعب الفلسطيني أستاذٌ أمريكي من أصول فلسطينية. وارتبط كل ذلك ـ داخل مصر ـ مع النجاح الأمريكي ـ الإسرائيلي في السيطرة على إدارة الاقتصاد المصري (المجموعة الاستشارية 12 أيار/ مايو)، وواكب هذا أيضًا ازدياد التدهور في علاقات القوى العسكرية بين مصر وإسرائيل.
وعلى المستوى العربي نذكر أن أزمة لبنان ظلت نزيفًا مستمرًا لقدرات سوريا، والاتصالات العلنية والسرية للولايات المتحدة، أسهمت في إعادة التوتر إلى الجبهة المصرية السورية ـ بعد محاولات رأب الصدع في نهاية 1976، وأوائل 1977. ولم يقتصر التوتر على العلاقات المصرية مع سوريا وليبيا، ولكن أدَّى الدور السعودي في قانون التصفية، إلى تكثيف الإحساس الطبيعي بالإهانة والمرارة التي تجرعها السياسيون والفنيون والبيروقراطيون المساهمون في اتصالات تلك الفترة واتفاقياتها، أضيفت إلى المرارة التي سبق أن ترسبت ـ منذ الانفتاح ـ على أصعِدة مختلفة، ونشأ عن كل ذلك توتر مكتوم.
وعلى المستوى الدولي أسفرت تحركات كارتر ـ عن تصاعد العداء مع الاتحاد السوفييتي، فتجاوزت المواجهة حدود الحملة السياسة الإعلامية، بل وحدود مصر؛ لكي تصل إلى مواجهات ساخنة وبالسلاح في أكثر من موقع في أفريقيا، وتدعم المحور المصري ـ السوداني في هذا الإطار. وكان لقاء السادات ـ نميري (19 أيار/ مايو) تنسيقًا وتتويجًا لذلك.
وحين أعلن ذلك، كان باقيًا ـ في قائمة مباحثات كارتر ـ اللقاءات مع الأمير فهد. وفي يوم اللقاء (23 أيار/ مايو) نشر في صحف القاهرة أن الرئيس السادات تلقَّى رسالة من كارتر، تؤكد التزام الولايات المتحدة بموقفها من تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وبضرورة عقد مؤتمر جنيف هذا العام بغض النظر عن أية تغييرات في قيادة إسرائيل. ولكن المواقف العملية لم تثبت جدية هذا الكلام، وأكدت ذلك نتائجُ مباحثات فهد ـ كارتر؛ إذ سبقت اللقاء توقُّعات بأن تقدم الحكومة الأمريكية إلى الأمير السعودي ما لم تقدمه للآخرين؛ تدعيمًا لدور السعودية في المنطقة العربية. كان متوقعًا أن يحصل فهد على التزام أمريكي محدد بمواجهة الصلف الإسرائيلي؛ وصولاً إلى تسوية شاملة مقبولة عربيًّا (من الأطراف "المعتدلة" على الأقل). ولكن خابت هذه الآمال، بل قيل أيامها إن كارتر ركز على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية، أكثر من تركيزه على قضية الشرق الأوسط. ويبدو أن شعور القاهرة بالإحباط كان على علاقة بتصريح الفريق أول الجمسي (نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية آنذاك)، فقد أكد (25 أيار/ مايو) أنه "ليست هناك حشود عسكرية على حدود مصر الغربية، وليست هناك أية نوايا عدوانية نحو الشعب الليبي الشقيق"، ولا نعتقد ـ في سياق الأحداث ـ أن التصريح كان بغرض التمويه، فأغلب الظن أنه كان رسالة امتعاض، وإبلاغًا علنيًا عن تحلل القيادة المصرية من مُهمة أُسندت إليها.
وعبرت القيادة المصرية عن نفس مضمون الرسالة، حين أعلن بيان من القاهرة وموسكو (يوم تكليف مناحيم بيجن بتشكيل الحكومة الجديدة ـ أي 7 حزيران/ يونيو) عن زيارة رسمية لإسماعيل فهمي (نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية) للاتحاد السوفييت، وقيل: إن المباحثات تشمل الموقف الدولي بكل تصوراته، والموقف في الشرق الأوسط، وقيام الدولتين العظميين بالدعوة لعقد مؤتمر جنيف، بمشاركة الفلسطينيين، والعلاقات الثنائية بين البلدين بجوانبها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وقيل إن جدول الأعمال يتضمن أيضًا بحث الوضع في القارة الأفريقية. وتمت المباحثات في يومي 9 و10 حزيران/ يونيو، وأكد البيان المشترك اهتمام الطرفين باتخاذ الإجراءات الهادفة إلى التغلب على الصعوبات القائمة في العلاقات بين البلدين؛ لتطوير التعاون المصري السوفيتي في مختلف المجالات لصالح الشعبين. وقد أُحيطت زيارة إسماعيل فهمي بتغطية إعلامية واسعة، ونُقل عن الجرائد أيامها أنه كلف بفتح صفحة جديدة، وأن المباحثات ـ بهذا المعيار ـ حققت أهدافها، بما في ذلك موضوع السلاح؛ ولذا فوجئ وزير الخارجية تمامًا حين هاجم الرئيس الاتحاد السوفيتي في خطاب عام ـ بعد عودة فهمي مباشرة ـ ومستندًا إلى فشله في مهمته. ولكن من حقنا أن نفترض هنا أن التغير المفاجئ كان نتيجة اتصالات سرية (لا يعلم بها وزير الخارجية). ويبدو أن الاتصالات أنذرت، وطلبت وقف الاتصال مع السوفييت، ويبدو أنها وعدت في الوقت نفسه بتجدد التحرك الأمريكي النشِط، أو باستمرار قوة الدفع من أجل التسوية الشاملة. ويُرجِّح هذا التصور أن الفترة التي تلت ذلك كانت تحضيرًا بالفعل لجولة قام بها فانس.
وفي انتظار فانس، وإعدادًا لجولته؛ تصاعدت الاشتباكات في جنوب لبنان، وأعلنت حكومة بيجين بدء تنفيذ مخططها لإقامة تسع وعشرين مستوطنة جديدة، ضمن برنامج ليكود لإنشاء 120 مستوطنة في الأراضي العربية المحتلة، ومن هذا المنطلق تقابل كارتر مع بيجن (19 تموز/ يوليو).
وعلى الجانب المصري، في المقابل، كان أهم إسهام قُدِّم إعدادًا لجولة فانس، اختراق القوات المصرية للحدود الليبية (21ـ 23 تموز/ يوليو)، وفي الأثناء قصف الطيران المصري "محطة رادار كبيرة جدًا، تبيَّن فيما بعد أنها قاعدة سوفيتية محصنة، تعمل أجهزتها على نطاق واسع من شرق البحر الأبيض حتى غربه، ويصل مداها إلى عمق أوروبا"(80).والمصادر الأخرى لها رواية مختلفة؛ فهي تؤكد أن القيادة المصرية ـ وهذا منطقي ـ كانت تعلم مسبقًا بحقيقة المحطة، وأن ضربها بالتالي كان مقصودًا، تقول "تايم" مثلاً إن السادات "أزعجه بشكل خاص، أن الروس يقيمون ـ في مطارات ليبية تجهيزات إلكترونية معقدة للتصنت (…) فأرسل قوات جوية مصرية لسحق هذه القواعد" (81). وليس هناك ما يُثبت صحة أي من الروايتين لتبرير العدوان. ولكنَّ هذا الزعم - على أيَّة حال - عن تحطيم هذه التجهيزات السوفيتية، لا يدخل في إطار الأمن المصري، بقدر ما يدخل في إطار أمن حِلف الأطلنطي والأسطول السادس الذي يحمِي إسرائيل.
ومن جانب كارتر، باعت الإدارة الأمريكية وعودًا كثيرة علنية؛ تمهيدًا لزيارة فانس، فتكررت تصريحات الرئيس الأمريكي، بأن مهمة وزير خارجيته مناقضةٌ تمامًا لمهام الخطوة خطوة، وأنها مهمة تقرب من الحل الشامل، وفي حديثه إلى التليفزيون الأمريكي (30 تموز/ يوليو) قال كارتر: "إن الهدف من جولة فانس، هو إيجاد إطار يمكِّن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، من توجيه الدعوة لاستئناف مؤتمر جنيف في الخريف القادم" (82). وذاع في تلك الفترة، أن مؤتمر جنيف سينعقد فعلاً ـ بموافقة الأطراف المختلفة ـ في تشرين الأول/ أكتوبر. وحسب المفهوم الأمريكي التقليدي لمؤتمر جنيف (كمكان لتوقيع الاتفاقات وليس لمناقشتها)، وحسبما قيل في الاتصالات التمهيدية السرية؛ كان منطقيًّا أن يتوقع ـ أنصار السلام الأمريكي ـ أن يحمل فانس في جولته النية الكافية والصلاحيات، لتحقيق تقارب جوهري في مواقف الطرفين؛ العربي والإسرائيلي، وبالتحديد بالضغط على إسرائيل.
بدأت جولة فانس (1 ـ 11 آب/ أغسطس) بمباحثاته مع السادات في الإسكندرية، ووفقًا لما نُشر، فإن المقترحات المصرية كانت في إطار الصفقة التي أصبحت تَلقى قبولاً من كل الأطراف العربية المعنية، وتضمنت قبولاً لإقامة علاقات وفق نص يقول: "إنهاء حالة الحرب، هي الخطوة الوحيدة التي تعقب الانسحاب، على أن يتم بعد ذلك اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى عودة العلاقات الطبيعية، بشرط تنفيذ كل ما ورد في قرار مجلس الأمن". وقيل إن فانس قدَّم مشروعًا مضادًا، كانت أهم بنوده: وجوب التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المعنية حول الحدود التي قد تنسحب إليها إسرائيل ـ ضرورة التمثيل الفلسطيني في مؤتمر جنيف، على أن يتم ذلك بعد أن تعلن المنظمة اعترافها بإسرائيل ـ عودة العلاقات الطبيعية بين العرب وإسرائيل فورًا، وبمجرد الاتفاق على ذلك، وأن تقوم العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الجانبين ـ إجراء استفتاء بين سكان الضفة الغربية لتحديد مستقبلهم.
وأعلن أيامها أن الجانب المصري اعترض على المشروع الأمريكي، وقال: إنه لا يتفق مع تصريحات كارتر والالتزامات الأمريكية السابقة (83). وبالفعل كان المشروع الأمريكي حريصًا على تسجيل النقطة التي انتزعها من القيادة المصرية (العلاقات الطبيعية)، وأراد أن ينتزع أيضًا اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وفي المقابل ترك قضية الانسحاب للمفاوضة بين الأطراف دون أي التزام أمريكي.
ومع ذلك، فإن إسرائيل كانت ترفض من البداية أية مناقشة من هذا القَبيل، وأعلنوا أنه إذا جاء فانس بأفكار حول جوهر المشكلة، فسوف يحظَى بالاستماع له دون شك، إلا أن هذه الأفكار لن تناقش معه، فإسرائيل ترى أن مهمة وزير الخارجية الأمريكي، يجب أن تقتصر على إزالة العوائق التي تحول دون عقد مؤتمر جنيف، والمفاوضات الحقيقية حول النزاع لا يمكن أن تجري إلا بين إسرائيلَ والعرب. وهذه المفاوضات - كما أوضحت المصادر الإسرائيلية بصراحة-تستبعد الفلسطينيين بالضرورة، حتى لو قبلت المنظمةُ القرارَ رقم 242 دون أي تعديل، وحتى إذا اعترف الفلسطينيون بإسرائيل، فإن إسرائيل لا يمكن أن توافق على اشتراكهم في مباحثات جنيف. وأعلن موشِي ديان بعد المُباحثات: "إن إسرائيل ترغبُ في التفاوض مع كل دولة عربية على حِدة؛ ولذلك فهي ترفض التفاوض مع وفد عربي واحد. وإسرائيل ترفض العودة إلى حدود ما قبل حُزيران/ يونيو 1967، وهي تذهب إلى جنيفَ على أساس أن كل شيء مطروح للمفاوضة، ولكن من منطلق عدم الانسحاب من الضفة
أو قطاع غزة، فإسرائيل لا تريد دولةَ فلسطينية في هذه المناطق، ولن تقبل وجود قوات أجنبية بها، حتى ولو كانت أردنيَّة" أما عن العلاقات مع أمريكا، فقد قال ديان: "سنشعر بالسعادة إذا حظينا بالتأييد الأمريكي لكل مواقفنا. ولكن إذا
لم نحصل على هذا التأييد، فإننا سنقاتل للدفاع عن مواقفنا، وإذا كانت هناك خلافاتٌ مع الأمريكيين؛ فإننا سنتولَّى أمورنا بأنفسنا" (84).

كان هذا ما عاد به فانس من مباحثاته في إسرائيل (9 آب/ أغسطس). وبالتأكيد، فإن استخدام ديان لِكلمة "سنقاتل" كان مقصودًا؛ فإسرائيل - كما نشرت واشنجتن بوست أيامها- أصبحت تملك من القوة العسكرية، ما يشجعها على شن حرب تستمر لعدة أسابيعَ، دون حاجة إلى مساعدات، وهي ليست قلقة الآن على أمنها لسنوات طويلة مُقبلة، وهناك ثلاثة بلايين من المساعدات العسكرية في الطريق إليها. وسوف تتسلم إسرائيل من السلاح الأمريكي، ما قيمته عشرة بلايين دولار مع نهاية العقد (84).
وقد أوضح فانس أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وبدا من تصريحات السادات في تلك الفترة، أنه كان يتوقع رحلات مكوكية على طريقة كيسنجر، ولكن ثبت أن هذا الجهد لم يكن في نية (أو قدرة) الإدارة الأمريكية، فعادت فكرة لجان العمل والاتصالات التي يقودها فانس لاستمرار قوة الدفع، وقيل إنها ستنشط أثناء تواجد وزراء خارجية دول المنطقة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر. ويبدو أن كارتر حاول أن يظهر ـ أمام الجانب العربي ـ بأنه لا زال قادرًا على عمل شيء؛ إذ عبرت الحكومة الأمريكية (16 آب/ أغسطس) ـ بعد عودة فانس ـ عن اعتراضها على قرار إقامة ثلاث مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وعلى تطبيق القوانين الإسرائيلية في المناطق المحتلة (الضفة والقطاع) وردت الحكومة الإسرائيلية بتصعيد الاشتباكات في جنوب لبنان، ثم أعلنت وزارة الدفاع بدء تنفيذ خطة الحكومة لتطبيق القوانين الإسرائيلية (9 آب/ أغسطس)، وأعلنت الحكومة (10 آب/ أغسطس) مشروعًا لإقامة 6 مستوطنات جديدة. وفي هذا الإطار تأتي أهمية الاتصال الآخر بين مصر وإسرائيل عبر تشاوشيسكو، فقد توجَّه بيجن إلى بوخارست (25 آب/ أغسطس) لإجراءات مباحثات حول تطورات أزمة الشرق الأوسط، حسبما أُذيع رسميًّا.
مهدت إسرائيل – إذًا - لاتصالات كارتر وفانس في أيلول/ سبتمبر، بالتوسُّع في إجراءاتِها لفرض الأمر الواقع في المناطق المُحتلة، "وتصادف" أيضًا أن سبق الاتصالات مباشرة انفجار الاتهامات حول بيرت لانس باستغلال منصبه السابق كمدير لبنك جورجيا، في الحصول على امتيازات غير قانونية. ولانس كان مديرًا للميزانية في الحكومة الأمريكية، وصديقًا قريبًا من كارتر. وقالت قياسات الرأي العام في ذلك الوقت، إن هذا الاتهام كان من عوامل هبوط شعبية كارتر.
وصل ديان (وزير الخارجية الإسرائيلي) إلى نيويورك (18 أيلول/ سبتمبر)، ويقال إنه توقف أثناء رحلته؛ لإجراء مباحثات سرية مع مسئولين مصريين، وحدث - على أيَّة حال - أن أعلن البيت الأبيض أن مشروع السلام الإسرائيلي الذي حمله ديان، لم يحسمْ القضايا الأساسية في النزاع العربي الإسرائيلي، وتوالت التصريحات الأمريكية حول ضرورة مشاركة الفلسطينيين. وحول شروط إشراك منظمة التحرير. ولكن ظلت الإدارة الأمريكية تبدو في منظر العاجز تمامًا عن أي تحرك إيجابي.
دـ ويقول الرئيس السادات هنا، إنه تلقَّى في هذه الفترة (أواخر أيلول/ سبتمبر) رسالة شخصية بخط كارتر، حملها مبعوث خاص، ويُضيف أنه كتب بدوره ردًّا على الرسالة بخط يده، وجاء في الرد أن الموقف يحتاج نوعًا من التحرك الجريء (85). وليس معروفًا طبعًا ما جاء في رسالة كارتر البالغة السرية، ولكن ما قيل عن رد السادات عليها، بالإضافة إلى هذا السياق من التطورات، يجعلنا نتصور أن رسالة كارتر عبَّرت عن فشله في التأثير على إسرائيلَ، وقد يرتبط بذلك إبلاغ السادات بمضمون البيان المشترك لجروميكو ـ فانس الذي صدر فجأة في أول تشرين الأول/ أكتوبر كأساس لدعوة مؤتمر جنيف. كان البيان مجرد تسجيل للنصوص الواردة في قرار مجلس الأمن (242)، بما في ذلك تعبير الانسحاب من "أراضٍ" بدلاً من "الأراضي"، ومع إضافة نص "الحقوق المشروعة للفلسطينيين".
فكرة البيان، قُوبلت باعتراض صريْح من القيادات المصرية، ونعتقد أن منطق الاعتراض، يقوم على أن هذا التحرك هو بمثابة إنذار رسمي، بأن الإدارة الأمريكية ستنفض يدَها عن المشكلة، وتوقف جهودها تمامًا؛ إذ لا يعقل أن تكون الولايات المتحدة قد غيرت فجأة مخططها الاستراتيجي، الذي يتضمن إبعاد الاتحاد السوفيتي عن المنطقة. وبالتالي لا يمكن أن يعني هذا التحرك الأمريكي السوفيتي المشترك، توجَّهًا جادًا نحو مؤتمر للتسوية، وإنما تجميدًا للقضية. وقد يقال للقيادة المصرية إن التلويح باتفاق أمريكي سوفيتي محتملٌ يمكن أن يكون أداة ضغط على إسرائيلَ كي تعتدل. ولكن الخبرة السابقة بقدرة القيادة الأمريكية على الضغط، لم تكن ترجِّح مثل هذا التفسير. وقد نفترض أيضًا أن الاتصالات السريَّة مع إسرائيل أسهمت في إبعاد القيادة المصرية عن الموافقة على هذه الخطوة.
على أيَّة حال، إذا كانت القيادة المصرية قد عبَّرت عن عدم ارتياح، فإن القيادة الإسرائيلية أعلنتها حربًا. وحساباتها مفهومة؛ فأيًّا كانت الفاعلية المتوقعة لمؤتمر جنيف، يظل التحول عن المسار الذي قبلته القيادة المصرية (99 % من ورق اللعب في يد أمريكا) انحرافًا عن الوضع الأمثل بالنسبة لها، فاحتكار الولايات المتحدة للعملية أعطى إسرائيل ـ بحكم السيطرة الصهيونية داخل المؤسسات الأمريكية ـ ضمانًا كبيرًا بالتحكم في الموقف وفي تحريكه وفقًا لشروطها. وبالتأكيد كانت التقديرات لكل نتائج الخطوة خطوة، ولنتائج الاتصالات الخاصة، توحي باقتراب وقوع الفريسة في فخ الحل المنفرد، ففيم التحول إلى صيغة أخرى تدخل أطرافًا دولية أخرى، وأقطارًا عربية أخرى؟ إن تجميد العملية في جنيف جائز، ولكن سيطرتها غير مضمونة - بالقدر نفسه على سبيل القطع - ولا شك أن إسرائيل أدركت أيضًا احتمال أنَّ الحركة الأمريكية أداةٌ إنذار لها، ولكن كان هذا سببًا إضافيًّا لقرار إسرائيلَ لخوض اختبار القوَى، والذي انتهى بتأديب قاسٍ لكارتر. وتفاصيل الضغط وأعمال الابتزاز التي استخدمتها الصهيونية في هذه المعركة الفاصلة، لم تكشفْ ولم تُعرَف، ولكن كان ملموسًا أنها محمومة وضارية، وبعد أقل من أسبوع، وبعد "جلسة من المساومة المريرة مع موشي ديان، انهار كارتر، وأعلن أن الاتفاق الأمريكي ـ السوفيتي أن يكون أساسًا لمؤتمر جنيف" (86).
بعد هذا الانكسار المُهين، أصبح السائدُ في دوائر البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، اتجاه العودة إلى الخطوة خطوة، وهذه تعني بالضرورة ـ وبالمنطق الإسرائيلي ـ أن يبدأ التحرُّك مع مصر. وسواء أبلغ السادات بذلك رسميًّا أو لم يبلغْ، فإنه بالقطع قد فهم ذلك. وهكذا توقفت تمامًا قوة الدفع الأمريكية نحو تسوية شاملة، وسط توسع نشِط في إنشاء المستوطنات (حسب البيانات الإسرائيلية في ذلك الوقت صار العدد 19 مستعمرة في سيناء ـ 51 في الضفة الغربية ـ 26 في الجولان).
وأخطر من كل ذلك، كانت الأنباء التي تسربها إسرائيل، تقضي بأنها تستعد لضربة إجهاض ضد القوات المسلحة المصرية، مستفيدة من فجوة التسليح التي اتسعت بشكل خطير بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وبعد التطورات السياسية التي أوقفت الإمدادات السوفيتية. ويبدو أن إسرائيل لم تكتفِ بالإنباء عن النوايا، ولكنْ تعمَّدت أيضًا أن تُظهر دلائلَ عملية على صحة ما تذيعه، وقد اعترف السادات بذلك حين أشار إلى مناورة الجيش الإسرائيلي الضخمة في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر. صحيح أن الرئيس السادات قال إن القوات المسلحة المصرية ردت بمناورة على نفس المستوى والنطاق (87)، ولكن بالتأكيد تعلم كل الأطراف أن احتمال تجدد القتال على الجبهة المصرية كان ضغطًا شديدًا على أعصاب كل من يعنيهم الأمر، وكل من يعلمون حقيقة الأوضاع التي وصلنا إليها (88).
وقد نفترض أن اتصالات تتعلق بهذا الإنذار؛ قد تمت بين القاهرة وواشنطن على أعلى مستوى (وهذا افتراض منطقي تمامًا). وقد نفترض أيضًا، أن الإدارة الأمريكية لم تقدم ضمانًا مناسبًا للأمن المصري، وحينئذ يكون الضغط على الأعصاب ساحقًا.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس