عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 02:44 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

هـ ـ ومع بقاء كل شيء على حاله؛ يكون الطريق الوحيد للخروج من المأزق (ودعك من محاولة تحريك الموقف) متجهًا إلى القدس. ومع الاتصالات السرية المتصورة ـ على مستويات مختلفة ـ كان الأمر يتطلب إعدادًا نهائيًّا على المستوى الأعلى، فكانت المباحثات المُغلقة مع تشاوشيسكو (29 تشرين الأول/ أكتوبر). وحسب رواية الرئيس السادات، فإن تشاوشيسكو طمأنه إلى قدرة بيجن على اتخاذ قرارات صعبة، ويبدو هذا معقولاً، ولكن لا يتصور أن اللقاء المغلق، اقتصرت مُحتوياته على هذه الجملة المفيدة؛ فأغلب الظن أن تشاوشيسكو نقل إلى الرئيس السادات كلامًا أكثر تحديدًا حول نوايا إسرائيل (الكاذبة طبعًا) في حالة قبول السادات لزيارة القدس، وهذا منطقي؛ فمثل هذه الزيارة يحسُن لإتمامها استخدامُ الجَزَرة إلى جانب العصا. ونشير هنا إلى حقيقة أن القيادة الإسرائيلية كانت تنتهز كل فرصة متاحة، للتلميح بأن الاتصال المباشر بين أطراف الصراع، وخاصة مصر وإسرائيل ـ ودون الولايات المتحدة ـ هو الطريق الأقصر لحل المشاكل، وستبدي إسرائيل في هذه الحالة مرونة كبيرة، والكتّاب القريبون من القيادة الإسرائيلية تعهدوا دائمًا إذاعة هذا التصور (89). ولا شك أن القيادة الإسرائيلية استخدمت أيضًا كل فنون المناورة؛ لتأكيد هذا التصور في ذهن السادات قبل رحلة القدس.
* هل كان قرار السادات مفاجأة لواشنطن؟ لقد أبدت الولايات المتحدة إشارات عديدة توحي بذلك، لكن يبدو لنا ـ رغم غياب المعلومات المؤكدة ـ أن تصديق ما تدعيه الولايات المتحدة، يعتبر سذاجة بالغة؛ فالولايات المتحدة أرادت أن تبدو بهذا المظهر؛ خوفًا من ردود الفعل العربية، وأرادت أن تبتعد قليلاً عن بؤرة الحدث؛ كي تملك هامشًا للمناورة، يمكِّنها من احتواء معارضة أصدقائها في المنطقة؛ خدمة للمخطط العام. وأيًّا كان الأمر، فإن مجمل التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية (التي استخدمت إمكانيات الولايات المتحدة في إحداثها) هو الذي جعل هذه المأساة ضرورة.
في شباط/ فبراير 1977، كان السادات يقول في حديث لتايم إنه لا يمكن أن يجتمع مع أي قائد إسرائيلي، طالما أن جنديًّا إسرائيليًّا في أرضه، وفي نيسان/ أبريل 1977، قال السادات لمِحطة "آي بي سي" الأمريكية: إن "مصر ترفض أيَّة اجتماعات ثنائية مع إسرائيل، وترفض التفاوض المباشر"(84)، ولكن تايم كانت محقةً تمامًا، حين ذكرت أن كارتر وفانس وأعضاء الحكومة الأمريكية، أسهموا مساهمة كبيرة في خلق الجو الذي جعل اجتماع السادات وبيجن ممكنًا(90). وأيضًا كان كيسنجر محقًا، حين خاف أن ينسَى الناسُ فضله السابق، فكتب أنه "سيكون مبررًا أن يشعر الأمريكيون - في كل اتجاه وحزب – بالزهو، إذا نجحت العملية الجارية الآن، حتى إذا صادفتها بعض الإحباطات العارضة؛ لقد أقمنا توازنًا عسكريًّا أغلق طريق الحل العسكري (في وجه العرب طبعًا!)، وساعدت أمتنا - التي اكتسبت ثقة الجانبين - في تشكيل عملية تفاوضية بلغت قمتها في الاقتحام الذي مثلته رحلةُ السادات التاريخية" (91).
إن السادات لم يبادر ـ من موقع الاختيار ـ إلى رحلة القدس، ولكنه قبل النتيجة التي كان حتمًا أن تترتب على مجمل سياساته. ومن واقع المأزق وانعدام البدائل، ذهب إلى إسرائيل. وكما قال كيسنجر، فإن "انعدام البدائل يُجلي البصيرة بشكل مدهش"، وانعدام البدائل أصبح يعني أنه
"لا بديل لمفاوضات السادات ـ بيجن؛ فجنيف ـ كساحة تفاوضية ـ مات" (91).

* * *
وـ كانت زيارة القدس نقطة التحول والانكسار الخطير في الحركة العربية، وكل ما جاء بعد الزيارة ـ من لقاءات ومباحثات واتفاقات ـ كان تداعيًّا ضروريًّا، مع ثبات الظروف والسياسات المحيطة، أو لنقل (من أجل الدقة) مع مزيد من تطور الظروف والسياسات على نحو ملائم.
كان عام 1977 ـ إذن ـ عامًا أسودَ في التاريخ المصري (والعربي). في عام 1977 حقق الهجوم الصهيوني/الأمريكي جوهرَ أهدافه الاستراتيجية "بالنسبة لمصر"، وبكل النتائج الخطيرة التي تنشأ عن ذلك في أنحاء الأمة العربية.
انهارت رسميًّا إرادةُ القتال والمقاومة، وأصبح الأعداء في موقع السيطرة على القرار المصري ـ وقد أشرنا في فصول الكتاب ـ إلى أن فِرَق الأعداء هاجمت مختلف الجبهات (جبهة العلاقات الدولية ـ جبهة الصراع المصري الإسرائيلي ـ جبهة التضامن العربي ـ جبهة المؤسسات السياسية والعسكرية ـ جبهة السياسات والبنية الاقتصادية والاجتماعية ـ الجبهة الإعلامية والثقافية). ونشهد أن التخطيط كان محكمًا، والتحرك على مختلف الجهات كان متناسقًا؛ من أجل إحداث تغيير إجمالي جذري يتلاءم مع الهدف الاستراتيجي (إخضاع الإرادة المصرية للسيطرة الصهيونية ـ الأمريكية). ولا يعني ذلك أن التقدم في كل الجبهات كان يتم بوتيرة واحدة؛ فلأسباب عديدة كانت الفِرَق المهاجمة تتقدم بمعدلات متفاوتة، ولكن دون أن تفقد ـ في كل الأحوال ـ ترابطها ورؤيتها الموحَّدة.
في الجبهة الاقتصادية ـ التي ركزنا دراستنا عليها ـ حقق المهاجمون انتصارَهم الحاسم في أيار/ مايو، واحتفل بالنصر في لقاء المجموعة الاستشارية (أيار/ مايو 1977)، وبعد ستة أشهر تحقق الانتصار الأكبر في رحلة القدس (تشرين الثاني/ نوفمبر 1977)، وكان الانتصار الأخير مرتبطًا عضويًّا بنجاح الهجوم في الجبهة الاقتصادية، وفي غيرها من الجبهات. وقد ذكرنا أن كل ما تلا رحلةَ القدس كان تداعيًا ضروريًّا، وكان عمليات مطاردة لجيوب المقاومة مضمونة النتائج، وكذلك كان الحال بعد المجموعة الاستشارية.
ولا يملك المرءُ إلا أن يلحظ أن عام 1980، الذي حدده صندوق النقد والبنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية (على وجه التقريب)؛ لإنهاء مهمتهم في "إصلاح المسار الاقتصادي"، انكشف الآن ـ وبعد تطورات ومباحثات تبدو منفصلة ـ باعتباره أيضًا العام الذي يبدأ فيه ما أُسمِي "بالعلاقات الطبيعية" مع إسرائيل. هل يمكن أن يكون هذا مجرد صدفة؟ إن المتابع للتطورات، يلحظ أيضًا أن ما يتم إنجازه في الجبهة الاقتصادية حتى عام 1980 (وفي غيرها من الجبهات طبعًا)، يحقق هدف أن تنشأ العلاقات التجارية والاقتصادية ـ بدءًا من عام 1980 ـ بالشروط الإسرائيلية، (ويمكن أن نصل إلى النتيجة نفسها ـ بدرجة أو أخرى ـ في الجبهات المختلفة). إنها – إذًا – مرحلةٌ تُسلم إلى مرحلة.
والتخطيط كان شاملا ومُحكمًا ومتشابكًا، وقد نُضيف ـ في الاتجاه نفسه ـ أنه ثبت بعد فترة، أن مهام فترة الانتقال (في الجبهة الاقتصادية وفي غيرها) قد تحتاج أجلاً يتجاوز ما كان مُقدَّرًا؛ إذ تعثر تنفيذ بعض البنود في الوقت المحدد لها ورغم النجاح العام في تحقيق جوهر المطلوب، بدا أن استكمال بعض النتائج، واستقرار مجمل ما أنجز، بالإضافة إلى المهام الجديدة التي يمثلها ربط مصر وإسرائيلَ بعلاقات مباشرة.. بدا أن كل هذا يتطلب عامين أو ثلاثة، بعد عام 1980. ويُلاحظ أن اتفاقية كامب دافيد، والمعاهدة المصرية الإسرائيلية بعدها، نصت على استمرار قوات الاحتلال في سيناء (شرق خط العريش رأس محمد) بعد (تطبيع العلاقات) عام 1980، ولفترة تتراوح ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام، يحدد تاريخها في المفاوضات.
(2) صندوق النقد يغضبُ ثم يتساهل:
أ- بعد اجتماع المجموعة الاستشارية؛ بكل ما مثلته، ساد الارتياح لدى المؤسسات التي حققت سيطرتها، فنشرت مثلاً مجلة تشيزمانهاتن: إن "التقديرات تشير إلى أن وضع الاقتصاد المصري أصبح يدعو للتفاؤل بدرجة كبيرة خلال عام 1977؛ نتيجة لزيادة حجم المساعدات الخارجية، بالإضافة إلى الإجراءات التي اتخذتها - وتتخذها – الحكومة، والتي تهدِف إلى تخفيض عجز الميزانية وتنمية المدخرات المحلية؛ وذلك عن طريق تخفيض الدعم، وترشيد استخدامه، ورفع أسعار الفائدة على الودائع المصرفية. وهذا من شأنه أن يؤدي في النهاية ـ مع زيادة توافر النقد الأجنبي ـ إلى زيادة التكوين الرأسمالي خلال عامي 1977، 1978... وأصبح من الممكن الآن، تخفيضُ الطاقات العاطلة في الصناعات التحويلية إلى حد كبير؛ بسبب زيادة إمكانيات توفير النقد الأجنبي اللازم لشراء مستلزمات الإنتاج والمعدات الرأسمالية من الخارج. هذا فضلاً عن القرارات التي تتخذ الآن لدعم إدارة المشروعات التي قاست كثيرًا من مركزية اتخاذ القرارات" (92).. إلخ كهذا تم ترويج التفاؤل. ويُلاحظ أن تشيزمانهاتن (والجهات المشابهة) كان يوجه الحديث إلى الدوائر الغربية؛ ولذا كان مفهوم التفاؤل وأساسه- بعد المجموعة الاستشارية - أن الحكومة المصرية وقعت في قبضة صندوق النقد، والتزمت بالتعليمات. وبالفعل سارت الأمور (بعد أيار/ مايو) على نحو أرضَى الصندوق (ومن معه) إلى حد كبير. وأبرز النتائج التي أرضت الصندوق كانت في القطاع الخارجي؛ "فقد حققت مصر تقدمًا ملموسًا نحو سعر للصرف أكثر واقعية، ونحو اعتماد أقلَّ على قيود التجارة والمدفوعات" (93).
وكان الصندوق يشيرُ في التقييم إلى مجمل الإجراءات التي حمل الحكومة المصرية، على اتخاذها منذ بداية الانفتاح، وإلى الإجراءات المنفذة ـ بشكل خاص ـ وفق الموازنة المعدلة عام 1977، وما تلا ذلك في خطاب النوايا وترتيب المساندة؛ إذ أصبحت كل الصادرات بسعر السوق الموازية، وكذلك الواردات (باستثناء سبعة بنود أساسية)، وكذلك كل التعاملات غير المنظورة (باستثناء قليلة). والاستثمارات الأجنبية المباشرة أصبحت تعامل أيضًا بسعر السوق الموازية (بعد تعديل القانون أثناء العام). وكذلك تذاكر الطائرات.
والتقييم الإيجابي للصندوق (لتصفية الضوابط على التجارة والمدفوعات) كان يشير إلى التيسيرات المتزايدة للمصدرين من خلال السوق الموازية، وإلى فوضَى الاستيراد الممول من حصيلة النقد الأجنبي لدى العاملين في الخارج. ولكن في عام 1977 قلَّ إحكامُ الضوابط أيضًا على إجراءات الاستيراد على الموازنة النقدية، وأهمُّ من ذلك، قيام قائمة للاستيراد بتراخيصَ عامةٍ مفتوحة، وخفضت الحكومة في بداية 1977 عدد اتفاقيات الدفع الثنائية مع الدول الأعضاء في الصندوق إلى 10 (ليس من بينها أي طرف هام). وفي الوقت نفسه، انخفض حجم التعامل - إلى حد كبير - في إطار الاتفاقيات الثنائية مع غير أعضاء الصندوق؛ (أي: الدول الاشتراكية). وكان مفروضًا ـ وفق ترتيب المساندة ـ أن الحكومة المصرية ملتزمة بإنهاء خمسِ اتفاقياتٍ أخرى مع الدول أعضاء الصندوق، وبالفعل بدأت السلطات في هذا الاتجاه قُبَيل آخر العام. وقد ارتبطت كل هذه التطورات بتصفية المتأخرات التي تراكمت على نحو خطير في أوائل العام (قبل توقيع خطاب النوايا)، (أي: قبل اعتماد "قانون التصفية"). فتمت تصفية المتأخرات في آب/ أغسطس 1977، وعملت الجهات الخارجية على أن تكون القروض الإضافية المتعاقَد عليها خلال العام، ذات آجال طويلة أو متوسطة.
ب ـ كان من حق الصندوق – إذًا - أن يطمئنَّ إلى إنجازاته في القطاع الخارجي؛ فقد حقق برنامجه لعام 1977 بالكامل، والإنجازات لهذا القطاع فتحت الطريق تمامًا؛ لكي يفرض سياساته في مجال الأسعار المحلية، ولا يعني ذلك أن الأهداف النهائية للصندوق في القطاع الخارجي قد تحققت؛ فهناك مزيد من المطالبات، ولكنها كانت نتائجَ منطقية وتحسيناتٍ مضمونًا تنفيذُها، ومُمكنٌ أيضًا إبداء المرونة بشأنها. فعلى ضوء ما تحقق، طالبت بعثةُ الصندوق بإنهاء التعدد في سعر الصرف "لقد حثت البعثةُ السلطات على مواصلة التقدم في إصلاح النظام (نظام الصرف)؛ لتحسين الكفاءة، ولإثبات التزامها بتجنب القيود الإدارية في مواجهة ضغوط ميزان المدفوعات التي قد تظهر في المستقبل.. ومع التسليم بأهمية سياسية سعر الصرف كمؤشر على التزام مصر بالإصلاح الاقتصادي، فإن توحيد سوقَي الصرف: الموازية والرسمية ينبغي أن ينفذ بأقصى سرعة ممكنة، وقد يكون ذلك (لأسباب إدارية) في بداية عام الميزانية القادم، أول كانون الثاني/ يناير 1978" (94). وقد عبرت بعثةُ الصندوق عن ارتياحها لاستمرار سعر الصرف في السوق الموازية عند المستوى الذي كان قائمًا وهذا المستوى كان المرشح طبعًا للسعر الموحد (جنيه واحد = 1.41 دولار مقابل جنيه واحد = 2.56 دولار في حالة السعر الرسمي). وبالتالي بدا أن الحكومة لم تحدث مزيدًا من الخفض في قيمة الجنيه خلال 1977، والحقيقة أن الصندوق كان قد طالب السلطات المحلية في مناسبات سابقة بخفض سعر الجنيه في السوق الموازية "ليعكس التفاوت في معدلات التضخم بين مصر وشركائها الأساسيين في التجارة". ولكن حدث في عام 1977 أن انخفض سعر الصرف فعليًّا دون إعلان، فمع ارتباط الجنيه المصري بالدولار، انخفض سعر الجنيه أتوماتيكيًّا في مواجهة عملات الدول التي تتاجر معها مصر أساسًا، مع انخفاض سعر الدولار في ذلك العام. وحرصت بعثةُ الصندوق، على تسجيل أن ارتباط الجنيه بالدولار، هو في حالة هبوط سعر الأخير فقط، ولكن "إذا توقف الهبوطُ في سعر الدولار، أو تغير اتجاه السعر؛ فإن استمرار الضغوط التضخميَّة في مصر، قد يتطلب مراجعة لسعر الصرف"(94). إلا أن الصندوق لم يكن يهدف في تبسيط نظام الصرف، وتوحيد سعر الصرف، مجرَّدَ تعديل العلاقة بين السوق الموازية والسوق الرسمية فقط، ولكن أيضًا العلاقة بين السوق الموازية والسوق السوداء (أو الحرة). وقد وافقت السلطاتُ على مطالب الصندوق بشأن العلاقة الأخيرة، بتوسيع قائمة التراخيص المفتوحة، وبخفضِ الفارق بين أسعار الشراء وأسعار البيع في السوق الموازية إلى 1 % بدلاً من 2 % لمنافسة شروط العمل في السوق الحُرَّة. ولكن بالنسبة لإنهاء السعر الرسمي تمامًا، أو الخفض الكامل لسعر الجنيه، رأت السلطات المصرية أن الإسراع في هذا الاتجاه يُحدث آثارًا سلبية على الموازنة العامة (على عكس رأي بعثة الصندوق)، وتعذر الوصول إلى اتفاق حول هذا الموضوع" (95). وإبداءً للمرونة؛ وافق الصندوقُ بعد ذلك على تأجيل تنفيذ رأيه حتى بداية عام 1979.
ج ـ ولكن في القطاع الداخلي، واجه برنامج الصندوق عقباتٍ أكبرَ نسبيًّا، وشعر الناس بمظاهر هذه الأزمة، دون أن يدركوا حقيقة ما يجري. فكما ذكرنا، كان هناك تجهيل كامل بطبيعة الشروط التي تضمنتها الاتفاقياتُ العلنية والسرية، وتكفلت الضجةُ الإعلامية والتصريحات الرسمية ببيع الاتفاقات، بتجهيل المتخصصين والرأي العام، بحقيقة أنه حتى في الجانب المالي للتسوية، لم تُقدِّم القروض والتيسيرات حلاً جذريًّا. وبيان القيسوني (28 أيار/ مايو) كان نموذجًا مكثفًا لفن الخداع والتضليل؛ ولذا كان حديثه (بعد شهر واحد من هذا البيان) حول احتمال عودة كابوس الاختناق بالديون مفاجئًا تمامًا، ونضيف الآن أنَّ الرجل نفسه كان قد قال (في بيان 28 أيار/ مايو) إنه "تم ضغط العجز (في الموازنة العامة) ضغطًا كبيرًا، وإنه إذا كنا لم ننجح في تحقيق التوازن المطلوب، فقد اقتربنا منه إلى حد كبير". وفي حديثه التالي الشهير، فاجأ الجميعَ أيضًا، بأنه اكتشف حدوث "تجاوزاتٍ في اتفاق العام الماضي، من جانب بعض الجهات، وبعض شركات القطاع العام، بلغت نحو 400 مليون جنيه، وقامت هذه الجهاتُ والشركات بالاقتراض من البنوك المحلية، ولم تسدد ما اقترضته؛ إما لعدم توافر الاعتمادات اللازمة عندها، وإما لعدم قدرتها على السداد بسبب الخسائر التي تصيبها؛ لذلك أصبح لزامًا على الحكومة، أنْ تدبِّرَ هذا المبلغ، وأن ترده إلى البنوك، ومعنى هذا - ببساطة - المزيدُ من العجز في الميزانية العامة. وبالإضافة إلى هذا الوضع الجديد الذي تبيَّن بعد إعداد الميزانية وإقرارها، اتضح أن وزارة المالية قامت في العام الماضي، باقتراض 300 مليون جنيه، هي قيمة الرقم الذي تم اقتراضه في العام الماضي، خصمًا من إيرادات هذه السنة.. والشيء الغريب أن بعض الوزارات لا تكف عن طلب اعتمادات إضافية جديدة؛ إمَّا لتنفيذ مشروعات لم ترد في الخطة، وإمَّا للاتفاق على بنود جديدة لم ترد في الميزانية (96).
* ألقى القيسوني هذه القنبلة في وجه الحكومة، وسافر إلى الخارج، وقيل إنه قدم استقالته. وقد تحدث في الفترة نفسها، وبالاتجاه نفسه، وزير المالية (صلاح حامد) وأوضح أن التجاوزات في الإنفاق على المشروعات الاستثمارية (التي أشار إليها القيسوني) والتي تضمَّنت مشروعاتٍ غير مُدرجة في الخطة أو الميزانية العامة، بلغت حوالي 400 مليون جنيه (97). ويعني كل ذلك أن عجز الموازنة العامة الذي كان مقدرًا ـ في بداية العام ـ بحوالي 400 مليون جنيه، ارتفع فعليًّا إلى ما يقرب من 1500 مليون جنيه. وهذه النتيجة "لا بد أن تثير القلق كما قال القيسوني؛ فاستمرار عجز الميزانية وزيادته، معناه ازدياد التضخم".
وقال وزير المالية: إن الاتفاق على مشروعات غير مُدرجة بالخطة أو الميزانية التي سبق لمجلس الشعب إقرارُها أو حتى تجاوز الاعتمادات، دون عرضها مُسبَّقًا على مجلس الشعب، يُعَدُّ مخالفةً دستورية. وأنا أعتبرُ الجهاتِ التي ارتكبت ذلك، مسئولةً عن هذه المخالفة الدستورية".
* كانت هذه التصريحاتُ مفاجأة، وحار المراقبون في تفسيرها؛ فقيل إنها تعكس خلافًا حادًا داخل الحكومة، (وبالتحديد بين القيسوني وممدوح سالم)، وقيل: إنها تعكس أيضًا هبوطًا عامًا وشديدًا في كفاءة الجهاز الحكومي، وقدرته على التحرك المُنسَّق والمنضبط، وفي قدرته على إمداد القيادات المسئولة بالمعلومات الصحيحة في الوقت المناسب. وكل هذا كان صحيحًا. ولكن أهم من كل ذلك ـ وهو ما لم يُذكرْ في حينه ـ أن فترة الإدلاء بهذه التصريحات (أوائل تموز/ يوليو) هي فترة الإعداد لميزانية العام المقبل (1978)، وتسبقها محادثاتٌ مع بعثة صندوق النقد الدولي، ومتابعة الصندوق المنتظمة (عبر مندوبه المقيم، وعبر الخبراء العاملين معه) كشفت أثناء المباحثات قصة هذه التجاوزات في الميزانية العامة (وفي نواحٍ أخرَى)، وهذا الانحراف عما التزمت به مصر في خطاب النوايا وترتيب المساندة، كان سببًا في مواجهة ساخنة مع المسئولين في القطاع الاقتصادي، وطالب الصندوق بسرعة إدخال التعديلات الفنية والإدارية اللازمة لأحكام متابعة الموازنة العامة، وركَّز على سرعة تحريك (أو رفع) الأسعار، مُستخدمًا ـ كالعادة ـ عجز الموازنة المتزايد كمبرر، ومُستندًا إلى ما التزمت به الحكومة في خطاب النوايا، ولوَّح بالعقاب في حالة المخالفة. وتشمل إجراءاتُ رفع الأسعار خفضَ الدعم من ناحية، ورفع أسعار مُنتجات القطاع الصناعي (أو تحريكها حسب تعبير الصندوق) من ناحية أخرى؛ فالحكومة نفذت التزامها بتحويل المدخلات المستوردة لصناعات القطاع العام، إلى سعر السوق الموازية عبر ثلاث مراحلَ (في شِباط/ فبراير ونيسان/ أبريل 1976 وفي آذار/ مارس 1977). وبالتالي زادت نقطة هذه الواردات بالعملة المحلية بحوالي 80 % وصاحبت ذلك زيادة موازية في التعريفة الجمركية، مع زيادة أيضًا في الأسعار العالمية، وفي أسعار المستلزمات المحلية (نتيجة سياسات الانفتاح). وكل ذلك أدَّى إلى ارتفاع النفقات الإجمالية لإنتاج القطاع العام الصناعي بحوالي 250 مليون جنيه سنويًّا، وحسب الاتفاق مع الصندوق كان لا بد أن ينعكس ذلك في أسعار البيع للمستهلك.
* وبالفعل بدأت السلطاتُ تحركًا نشطًا لإرضاء الصندوق، فتوالت الاجتماعات، وتتابع النشر، حول موضوع إلغاء
(أو ترشيد) الدعم. في آب/ أغسطس، نُشر عن اجتماع برئاسة ممدوح سالم لدراسة زيادة الدخول الصغيرة، مقابل إلغاء الدعم عن بعض السلع (98). بعدها بأسبوع نُشر عن تصوُّر وزير التخطيط، حول ما أسماه: "العَقد الاجتماعي الجديد"، وهذا التصور المتضمن في خطته الخمسية 1978 ـ 1982، قيل: إنه نوقِش في اجتماع مجلس الوزراء حتى ساعة مبكرة من الصباح، وكان عبارة عن مطالبة بإلغاء الدعم بأكمله مقابل زيادات في أجور ودخول الطبقات الكادحة (99). ونشر القيسوني (بعد عدوله عن الاستقالة) ثلاثَ مقالات حول الموضوع (100). وقيل في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر: إن مجلس الوزراء درس موضوع الدعم، وقرر طرح كل البدائل على الرأي العام، وأنه في كل الأحوال لا بد من الالتزام بعدم مسّ رغيف العيش والسلع الشعبية الأساسية (100). وبالفعل نُشِر عن اجتماع اللجنة الاقتصادية لحزب مصر العربي الاشتراكي، على أساس "أن قرار إلغاء الدعم أو الإبقاء عليه، ليس قرار الحزب أو قرار الحكومة، ولكنْ هناك حقائقٌ هامة، لا بد أن تتعرف عليها الجماهيرُ" (101).... إلخ.

وسط كل ذلك، بدأت الحكومةُ ترفع أسعار المنتجات الصناعية للقطاع العام، والصندوق كان قد وافق ـ من البداية ـ على مبدأ التدرج (ولذا وافق على إنشاء صندوق موازنة الأسعار)، ولكنه كان ساخطًا جدًا على درجة البطء في تدرج الحكومة. وفي المباحثات قرب نهاية العام (24 تشرين الأول/ أكتوبر ـ 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977) سجلت بعثة الصندوق أنه "لم تتحقق إلا خطوات ضئيلة لزيادة أسعار البيع المحلية للسلع المصنوعة. ولا يتوقع أن تصل في مجموعها إلى أكثر من 50 مليون جنيه في السنة. ويضاف إلى ذلك أن الزيادة في سعر المنسوجات القطنية عالية الرتبة لم تطبق بعد، وكان مفروضًا أن تحدث حين أُزيح دعم هذه الأصناف (الذي يبلغ 56 مليون جنيه) مِن ميزانية عام 1977. وقد عبرت البعثةُ عن اهتمامها بأمر هذا التخلف في التنفيذ، وأكدت للسلطات أهميةَ التحرك نحو هيكل سعري لإنتاج القطاع العام، يعكس تمامًا تكاليف الإنتاج، بالإضافة إلى عائد معقول على رأس المال.. وقد سجلت السلطات المصرية أنها لم تتحول عن التزامها بالترشيد الموضوعي لهيكل الأسعار المحلية، ويخفض الدعم غير المباشر، ولكن قالت إنه كان ضروريًّا في الوضع السياسي الحالي أن يتم التوجه بحذر، كأن الأمر يتطلب وقتًا كافيًا لتوعية الرأي العام بالعبء الحقيقي للدعم، وبالحاجة إلى التحرك نحو هيكل أكثر واقعية للأسعار. وقد تحقق ذلك الآن، وأصبح المسرح معدًا لإجراءات أكثر اتساعًا في نطاق ميزانية 1978، وأشارت السلطات إلى نيتها في تطبيق زيادات كبيرة في أسعار القطاع العام. وركزت البعثة على أن الزيادة في الأسعار الرسمية هي مجرد جزء من الهدف، الذي هو تحقيق هيكل من الأسعار النسبية يعكس بشكل صحيح ـ وعلى أساس متواصل ـ تكاليف الإنتاج والحاجة لعائد مناسب على رأس المال" (102).
زـ ولكن يلاحظ أنَّ تقرير بعثة الصندوق عن مباحثاتها الدورية في آخر 1977 كان يعكس جوًا عامًا، يختلف عن تقرير الأعوام السابقة؛ فموقف البعثة كان يعبِّر عن ثقة في النفس أعلى، كانت محادثات الأعوام الماضية تواجه مقاومة غير منظمة في كل الجبهات من الجانب المصري. ولكن بعد الأوضاع المؤسسية الجديدة، وبعد ما نُفِّذَ من التعليمات، كانت مهمة البعثة ـ كما يبدو من تقريرها ـ أسهل كثيرًا، وبعد الانتصارات المحققة في القطاع الخارجي (وخاصة في مجال سعر الصرف)، ومع السياسات الأخرى التي فرضتها في القطاع الخارجي، أصبح هدف تحرير الأسعار المحلية من سيطرة الدولة، في متناول اليد. فعمليًّا ضاقت دائرة الأسعار التي تتحكم فيها الدولة، فأصبحت في نطاق أسعار بعض الحاصلات الزراعية، وقسم من منتجات القطاع العام الصناعي. وسياسة إطلاق الأسعار؛ لكي يحددها السوق المشوه والتابع، تشمل المنتجات الزراعية والصناعية معًا. ولكن التركيز الخاص لصندوق النقد على منتجات القطاع العام الصناعي يرتبط بالتقييم الاستراتيجي الصحيح للوظيفة القائمة والمحتملة للقطاع العام، ويرتبط بالتالي بخطة نسف التماسك المؤسسي لهذا القطاع، ولوظيفته المتميزة. وقد أنشأ الصندوق - عبْر سنوات نشاطه - كل الوقائع التي من شأنها إجبار الحكومة على تحقيق مطلبه في هذه الدائرة المُحَدَّدة.
* فالسلطات المحلية أذعنت للتعليمات والسياسات التي أدت إلى ارتفاع أسعار المدخلات المستوردة والمحلية، وثبات أسعار المنتجات - بعد ذلك - يعني خسائرَ محققة لعدد من الشركات، ويعني انخفاضًا شديدًا في الفائض الإجمالي الذي يولده القطاع العام. وهذه النتيجة لا تتسق طبعًا مع الدور المتوقع من شركات القطاع العام، كوحدات اقتصادية تسهم في تمويل الاستثمار والموازنة العامة. واستمرار مشاكل السيولة أو العجز عن الإحلال والتحديد والتوسع، لا يمكن أن يُحَلَّ - حلاً دائمًا - بالاقتراض من بنوك القطاع العام، أو باعتمادات من الموازنة العامة؛ فبالنسبة للبنوك ـ يؤدي التوسعُ في الاقتراض المصرفي، مع رفع تكلفته (أي: رفع سعر الفائدة؛ بِناءً على تعليمات الصندوق)، ومع استمرار مشكلة السيولة، إلى عجز الشركات عن السداد، وهذا إرهاقٌ للمركز المالي لهذه البنوك، ومزيدٌ من إضعاف قدرتها على الصمود والمنافسة أمام البنوك الأجنبية ـ وعلى كلٍّ، فقد تكفَّلت تعليماتُ الصندوق بوضع سقف على اقتراض شركات القطاع العام من البنوك التجارية؛ بحجة زيادة موارد الائتمان للقطاع الخاص. وبالنسبة لتمويل هذه الشركات من الموازنة العامة ـ كحَلٍّ دائم ـ فإن هذا أيضًا أمرٌ غير طبيعي؛ فالموازنة العامة تشكو من عجز رهيب، والمفروض أن تُسهم شركات القطاع العام في سد جزء من هذا العجز. وفي ظل المعطيات الحالية، لا يعني تمويل شركات القطاع العام من الموازنة العامة، إلا تزايدَ حجم العجز، الذي يُلجِئ الحكومة إلى زيادة اعتمادها على الاقتراض المصرفي، وبالتالي فإن احتمال تمويل الخزانة لشركات القطاع العام لتوفير السيولة والاستثمارات لا يختلف في نتيجته عن التجاء هذه الشركات مباشرة إلى البنوك ـ وعلى كل أيضًا، فإن الصندوق تكفل بوضع سقف على العجز المسموح به في الموازنة العامة، وسقف على التجائها إلى البنوك، وحين تجاوزته الحكومة لتمويل شركات القطاع العام، زمجر الصندوق وسانده القيسوني. كذلك تابع صندوق النقد انتظامَ الحكومة في تحصيل الضرائب والرسوم الجمركية المستحقة، على شركات القطاع العام؛ حتى لا يكون التهرب في هذا المجال منفذًا لتخفيف الأعباء التي أصبحت تتحملها. أمام هذا الحصار، كيف يمكن لشركات القطاع العام أن تحتفظ بثبات أسعارها؟ إن الضغوط من كل ناحية، لا بد أن تؤدي إلى انفجار القيود على أسعارها إذا أريد لهذا القطاع ألا يختنق. إن التحكم في أسعار الشركات الصناعية، كان له منطق في إطار نسق متكامل من الأسعار المستقلة، ومع انهيار هذا النسق، ومع إذعان الحكومة لنسق الأسعار الذي رفع أسعار مدخلات الإنتاج، كان صندوق النقد واثقًا من استحالة الاستمرار في تثبيت أسعار القطاع العام.
لقد تعلَّم الصندوق من تجربة كانون الثاني/ يناير 1977 أن يبدأ بما يسميه: الدعمَ غير المباشر، ويَنْفُذَ منه إلى ما يسميه بالدعم المباشر. وكان يربط بين مطلبه لإلغاء الدعم، وبين ضرورة إنهاء أو خفض العجز في الموازنة العامة. وقد وأوضحنا منذ البداية (الفصل السادس) أن إصرار الحكومة على مواصلة دعمها للأسعار، مع عجزها عن زيادة إيراداتها الحقيقية، هو موقف غير متسق، ويحمل بالضرورة عوامل هزيمته.
ويُلاحظ أن المباحثات مع صندوق النقد ـ في السنوات المختلفة ـ لم تبحث بجدية إمكانية زيادة الإيرادات الحقيقية، أو وقف الاستنزاف في أوجه الإنفاق المختلفة. ولا نُشير هنا إلى إجراءات راديكالية لزيادة إيرادات الخِزانة، ولكنْ نقصدُ جدية في الأداء، في إطار ما يسمونه: انفتاحًا. وأعتقد أن تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، تُشير إلى ذلك بإلحاح (103)، وهذا الترشيد يؤدي إلى تضييق فجوة العجز في الموازنة العامة بنسبة كبيرة، ولا نعتقد أن تجاهل هذه النصيحة البدَهية من طرفي المباحثات: ممثلو الحكومة المصرية ـ وبعثة صندوق النقد، كان على سبيل السهو؛ فبالنسبة للحكومة يقول الجهاز المركزي للمحاسبات: "إنه
لا يؤخذ ببعض مقترحاته إلا بعد وقت طويل من إثارتها، هذا فضلاً عن عدم الاستجابة لبعض آراء الجهاز في تفسير بعض نصوص القوانين السارية على الرغم من سلامة تلك الآراء، بل وصدور فتاوَى من مجلس الدولة تأييدًا لها، الأمر الذي يساهم في ضياع مبالغَ على الخزانة العامة، على مدَى عدة سنوات". والجهاز دبلوماسي جدًا في هذه العبارات؛ إذ يبدو من تقاريره المختلفة، أن كافة مُقترَحاتِه الأساسية لم يؤخذ بها أبدًا من كافة الجهات. وقد اضطر جهازُ المحاسبات إلى تسليط الضوء على ما أسماه: "ظاهرة استشرت بالنسبة لأجهزة الدولة وهي ظاهرة الإسراف في المال العام.. في أجهزة تدخل في موازنة الحكومة المركزية، أو في غيرها من الموازنات الأخرى؛ وذلك بهدف "اتخاذ قرارات شاملة على مستوى الدولة، يتحقق من خلالها الحدُّ من هذه الظاهرة؛ حفاظًا على المال العام" (104).

ولكن هذه القرارات لم تصدر أبدًا، وموقف الحكومة يفسره عجزٌ واضح عن مواجهة التحلل المفزع في الجهاز الإداري، وانحطاط كفاءته ـ في سني الانفتاح ـ ويرتبط بذلك ويغذيه انتشارُ الفساد على مختلف مستويات الجهاز، والفساد يؤدي إلى انعدام حد أدنَى من التمايز الضروري بين الجهاز الإداري والمصالح الخاصة للأفراد والمجموعات، وبالتالي عجز الجهاز الإداري عن ترشيد الأداء (الذي يرتكِن في المقام الأول ـ إلى معاييرَ موضوعيةٍ). ونشاط الجهاز الإداري، على أساس من تبادل المصالح بين أفراده، وبين القادرين من خارجه، يعني أن ضياع الإيرادات المُستحقة مسألة مدبرةٌ، والإسراف في المال العام أمرٌ حتمي (ولو كره الجهاز المركزي للمحاسبات). والوزراء ـ على قمة الجهاز الإداري ـ يشترك بعضهم في أُخطَبوط المصالح هذا،
أو يهرب من مواجهته، وفي الحالين، يصبح مفهومًا ألا يثير الجانبُ المصري معالجةَ العجز في الموازنة العامة عن هذا الطريق.

وبالنسبة لصندوق النقد، يبدو أنه تجاهل هذا الطريق الإصلاحي من منظور آخر، فحين يكون تبديد الإيرادات والإسراف في الإنفاق مُعطَى؛ يكون الطريقُ الوحيد لإصلاح عجز الموازنة، في ظل الإنفاق العسكري المرتفع، هو بالفعل إلغاء بند الدعم. إن بقاء الفساد وانحطاط الكفاءة يدعم – إذًا- الموقفَ التفاوضيَّ للصندوق في قضية تحرير الأسعار من سيطرة الدولة، وهي مسألة محوريَّة في استراتيجية التبعية للسوق الغربية، وهي تمنع أيضًا إمكانية فرض عوائقَ محتملة في وجه التعامل الاقتصادي مع إسرائيل. وقد نضيف إلى هذا الصندوق كان يعلم أن حلفاءه يشاركون في إفساد الجهاز الإداري على نحو "مفيد". ولا يتعارضُ هذا الكلام مع حقيقة أن المباحثات مع الصندوق بدأت في الفترة الأخيرة تهتم ـ بشكل متزايد ـ بمسألة إحكام التحصيل الضريبي، وإنهاء المتأخرات المُستحقة للدولة، بل وبتعديل النظام الضريبي وترشيد الإعفاءات الجمركية (103)، باسم زيادة الإيرادات وتحقيق العدالة الاجتماعية، ونتوقع أن يزيد اهتمام الصندوق بجوانب الترشيد هذه بعد انتهاء مرحلة الهدم، وبدء مرحلة التركيز على دعم العلاقات الجديدة، ومحاولاته للترشيد ستواجه بمصاعب ومقاومة من القوَى التي سبق أن أطلقها ودعمها، ولكن حتى كتابة هذه السطور تظل ملاحظاتنا ـ على كل حال ـ صحيحة، يظل صحيحًا أن الصندوق لم يركز بشكل عام على سد الثغرات التي يعرفها جيدًا؛ (لأنه يتابع تقارير الأجهزة الرقابية أكثر من أية جهة أخرى في مصر)، وكأن التركيز والضغط باتجاه الدعم أساسًا.
المهم، مع استبعاد هذا البديل لإلغاء الدعم، وبالتراضي بين الطرفين (الخارجي والداخلي)، وصل الصندوق إلى محاصرة مسألة الأسعار عام 1977 بشكل مُحكم. وهذه الثقة بالنفس مكَّنته من أن يلعب بأعصاب هادئة. فالضغوط الساحقة التي مورست في بداية العام، الحِدَّة والإنذارات في المراجعة النصفية، تحولت في الثلث الأخير من عام 1977 إلى إبداء بعض من المرونة، وانعكس هذا في اتصالات ومباحثات آخر العام، وعبر القيسوني عن ذلك فقال: إن "الجو الذي عملت فيه هذا الشهر مختلف كل الاختلاف عن جو آذار/ مارس الماضي"(105)."لقد ابتلع الصندوقُ تباطؤ الحكومة في موضوع الأسعار المحليَّة خلال عام 1977، وقبلُ باعتماد إجراءات بديلة للاحتفاظ بعجز الموازنة قريبًا من السقف الذي عيَّنه، وبالتالي للحد من لجوء الحكومة إلى الاقتراض المصرفي لسد العجز، وأسهم الصندوق (والجهات المعاونة) في تقديم بعض البدائل المحققة لهذا الهدف؛ فالعجز الإجمالي للموازنة بدا للبعثة أنه لن يزيد عن المستهدف في بداية العام إلا بحوالي 300 مليون جنيه (رغم المفاجآت التي انكشفت أثناء العام)؛ نتيجة الجهد الكبير في تحصيل الأرباح والضرائب المستحقة على شركات القطاع العام في الوقت المحدد لها، وكان مستهدفًا في بداية العام أن تُستخدَم التسهيلاتُ المصرفية لتمويل العجز في حدود 400 مليون جنيه تقريبًا. ووفقًا لترتيبات المساندة (التي حددها الصندوق)، كان مطلوبًا أن تتخذ إجراءات إضافية أثناء العام؛ بحيث ينخفض سقف التسهيلات المصرفية إلى 350 مليون جنيه، ومع تجاوز الاقتراض الخارجي لما كان مُقدَّرًا(107)، تدخل عامل هام آخر؛ هو "الاستلام غير المتوقع لمِنَح تبلغ 48 مليون جنيه، وفقًا لاتفاق الرباط"، وأدى كل ذلك إلى احتواء الضغوط، ولم يتجاوز اقتراضُ الحكومة من الجهاز المصرفي الحدَّ الذي قدَّرته السلطاتُ في بداية العام، بأكثر من 75 مليون جنيه، أو لم يتجاوز السقف المحدد في ترتيبات المساندة بأكثر من 125 مليون جنيه (107).
وأعتقد أن من حقنا أن نفترض أن زيادة القروض الخارجية، لم تكن بعيدة عن وساطة الصندوق، وأن المنح العربية كانت "مفاجأة" سارة للجانب المصري، ولكن لم تكن مفاجأة للحكومة الأمريكية، وفي كل الأحوال، ينبغي أن نلاحظ أن كل التعديلات والتطورات التي لحقت بالموازنة، تمت في سرية تامة.
مجلس الوزراء (خارج القطاع الاقتصادي) لا يدري شيئًا، ومجلس الشعب ولجانه المتخصصة، في جهل مطبِق، ورئيس مجلس الشعب (سيد مرعي) رغم صلاته القوية بالسلطة، كان بعيدًا أيضًا عن حقيقة ما يجري، عن حقيقة الوضع الاقتصادي والسياسات المالية والنقدية، تمامًا كما كان الحال في بداية العام، حين عُرضت موازنة 1977 التي أثارت المعارضة الجماهيرية الواسعة. وكان استمرار هذا التجهيل، بل وتزايده، تأكيدًا متزايدًا بأن صندوق النقد (ومن معه) أصبحوا مركز السلطة الفعلية في إدارة الاقتصاد القومي (108).
ويحسن ـ قبل الانتقال من هذه النقطة ـ أن نضيف تفسيرًا آخر للمرونة التي أبداها صندوق النقد في تلك الفترة، إن الثقة بالنفس كانت تفسيرًا أساسيًّا لإمكان المرونة، ولكنها لا تصلح وحدها سببًا أو تفسيرًا لقبول الصندوق ـ وبهدوء ـ لإعادة جدولة برنامجه، ولبحثه المخلص عن بدائلَ لتقليل العجز في الموازنة العامة. ويبدو أن التفسير يتعلق بنشاط التحركات السياسية في تلك الفترة، للتوصل إلى تسوية أمريكية (مع جولة فانس وبعدها)، والخوف من تكرار أحداث كانون الثاني/ يناير في هذه الظروف، مسألة مفهومة.
إلا أن بعثة صندوق النقد لم تتخلَّ – طبعًا - عن أهدافها، وكان طَبَعيًّا أن تحرص ـ في مباحثات آخر العام ـ على تأكيد أن الإجراءات المتخذة خلال عام 1977 ذات طبيعة استثنائية، والانتقال الجاد إلى قضية الأسعار المحلية (ما يسمَّى بالدعم المباشر وغير المباشر)، أي إلى الجبهة التي
لم تستسلم تمامًا بعدُ، ينبغي أن يبدأ. ورغم المرونة التي أبدتها البعثة في المباحثات، كتبت في مشروع القرار الذي قدمته إلى المجلس التنفيذي، أن التقدم في هذه الجهة ضرورة، وأن "الإجراءات الضرورية ينبغي أن تُتخذ
بلا إبطاء".

وفي العادة، يعتمد المجلس التنفيذي مشروعَ القرار المقدم من البعثة، أو يعتمده بتعديلات ثانوية، ولكن في ذلك العام، لم تكن تعديلات المجلس التنفيذي في الفقرة الأساسية من مشروع القرار ثانوية. جاء في الفقرة الثانية من مشروع القرار (كما اقترحته بعثةُ الصندوق إلى مصر): "أن الصندوق يتوقع من السلطات أن تتخذ إجراءاتٍ واسعة لتطبيق الأهداف السِّعرية، والمتعلقة بالموازنة الواردة في البرنامج الاقتصادي المدعم بترتيب المساندة، ويلاحظ الصندوق أن السلطات المصرية لم تتحولْ عن التزامها بهذه الأهداف، ويعتبر أنه مفيد جدًا للاقتصاد المصري، أن تُتخذ الإجراءاتُ الضرورية بلا إبطاء" (109).
ولكنْ حدث أن غيَّر المجلسُ التنفيذي هذه الصياغة، وأصبح نص الفقرة المقابلة في القرار المتخذ في 3 شباط/ فبراير 1978 على النحو التالي: "يلاحظ الصندوق أن السلطات المصرية لم تتحول عن التزامها نحو الأهداف السعرية، والمتعلقة بالموازنة الواردة في البرنامج الاقتصادي المدعم بترتيب المساندة، في إطار إعادة تشكيل البنية عبر عدة سنوات.
ويلاحظ الصندوقُ بارتياح، القرارَ الأخير للسلطات المصرية بتوسيع صلاحيات شركات القطاع العام، في تحديد الأسعار وفق النفقات الحقيقية، ويلاحظ نيتُها في اتخاذ مزيد من الإجراءات في هذا الاتجاه في المستقبل القريب" (110).
هنا أيضًا لم يكن تعديل القرار نَحو مزيد من التيسير، ونحو مزيد من التدرج مجرد اطمئنان من الصندوق إلى أنه أصبح مالكًا لزمام العملية، ولكن حدث في الفترة بين نهاية مباحثات البعثة في القاهرة (6 تشرين الثاني/ نوفمبر) وبين إصدار القرار في واشنطن (3 شباط/ فبراير) أن قام الرئيس السادات بزيارة القدس (9 تشرين الثاني/ نوفمبر) ومع كل الضجة وردود الأفعال المتباينة (دوليًّا وعربيًّا ومحليًّا) التي أحدثتها الزيارة، ومع وعود الرجاء التي نشرت داخل مصر، كان مفهومًا أن يتعاون صندوق النقد مع الحكومة المصرية، ويتوقف عن الإلحاح على رفع الأسعار فورًا وبالجملة. وكان طَبَعيًّا أن تتضافر القيادة العليا للبنك الدولي مع المجلس التنفيذي للصندوق، وعبَّر عن ذلك مكنمارا (رئيس البنك) عند حضوره إلى القاهرة (وفي شباط/ فبراير أيضًا) بعد زيارة القدس. كان مجرد حضوره في ذلك الوقت مظاهرة تأييد. ولكنه انتهز الفرصة ليعبر عن ارتياحه إلى ما تحقق من تحولات في بنية وإدارة الاقتصاد المصري خلال السنوات الأربع التي انقضت منذ زيارته الأولى. أشاد الرجل بالخطة الخمسية التي وضعت تحت إشراف البنك، وأشاد بما حققه الصندوق؛ لقد تحقق ترشيدٌ كبيرٌ للأسعار، فتدعم موقفُ النقد الأجنبي بتوسيع السوق الموازية. لقد حدث تحسن درامي في الصورة الإجمالية للديون، وترتَّبَ على ذلك زيادةٌ حادة في الاستثمار العام والخاص، وزيادة في متحصِّلات النقد الأجنبي.
وكرر مكنمارا الأكذوبة الكبرى حول معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي، فقال إنها "تسارعت حتى وصلت في العام الماضي إلى 9 %". قال مكنمارا ذلك، رغم أن هذا "العام الماضي" بالذات أي 1976، لم يشهد هذا المعدل وفق أي تقرير. المهم، كان الرجل في الجو الذي يجعله يقول أحلى الكلام. إنه ـ كالصندوق ـ لم يكن مكتفيًا طبعًا بما تحقق، وكانت له انتقاداته، ولكنه أجَّل الانتقاد، وأشار إلى المطالبات برفق: "فلِكي تستغل الإمكانيات الاقتصادية لمصر بطريقة رشيدة وديناميكية، لا تستطيع مصر أن تتوقف على الطريق الذي بدأته. يجب أن تستمر في طريق الإصلاح الاقتصادي وتقدم الحوافز الصحيحة إلى مُنتجيها في الصناعة والزراعة والقطاعات الأخرى، وخاصة في القطاعات التي يمكنها أن تنتج الصادرات. الأسعار والتعريفات التي لن تشجع الإنتاج، قد يلزم إعادةُ النظر فيها. إن الإجراء الذي اتخذته مصر بتبنِّي سعر صرف واقعي، لقسم كبير من تجارتها، أدَّى إلى نتائجَ طيبة بمعيار تحويلات العاملين المصريين في الخارج. وزيادة القدرة التنافسية لعدد من المنتجات المصرية؛ بحيث يكون مؤسفًا ألا يحدث استمرار في هذا الطريق".. وكالعادة لوح مكنمارا "بالجَزَرة" فقال: "إنه متأكد من زيادة احتمالات الاستثمار، في حالة الاستمرار في السياسات التي بدأت فعلاً بنجاح ملحوظ، وسيؤدي هذا إلى إسهام مالي من البنك الدولي، يزيد عمَّا كان عليه الحال في الماضي، وأعتقد أنَّ هذا لا بد أن ينطبق على مصادر التمويل الخارجي الأخرى" (111).
هكذا حث مكنمارا السلطات المحلية على مواصلة الطريق في عام 1978، ولم تكن اللهجة الودودُ التي صاغ بها المطالبَ، هي كل ما أبداه من مرونة؛ فقد تعاطف ـ على ما قيل ـ مع موقف الصندوق، في تمديد آجال التنفيذ لبرنامجه، وكانت الحكومة قد التزمت بالفعل أمام الصندوق بأن تبدأ التحرك في العام الجديد (1978) وفق المراحل الجديدة التي حددها.

(3) الطريق إلى المجموعة الاستشارية الثانية:
في بيان رئيسِ مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة: بدأ التمهيدُ لرفع الأسعار، بأن امتنع البرنامجُ عن أي التزام صريح حول قضية الدعم، ودار الحديثُ حول "ضغط العجز في الميزانية العامة للدولة؛ وذلك حتى يتم القضاء على العجز في الموازنة العامة، وامتصاص القوة الشرائيَّة الزائدة". وفي البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1978، تجنبت الحكومةُ أن تصرح بالتزامها بقرار صندوق النقد حول الدعم وتعديلات الأسعار. ولكن شرح البيانُ مأزق الميزانية العامة على النحو الذي يجعل خفض الدعم نتيجة حتمية (112)، وواقع الحال، أن مشروع الموازنة تضمن فعلاً المرحلة الأولى من رفع الأسعار، حسب التدرج الذي أقره صندوق النقد. والمرحلة الأولى كانت تركز على أن تعكس أسعار القطاع العام ـ وفق خطوات مُتفق عليها ـ أثر استيراد مستلزمات إنتاجية بسعر السوق الموازية، وكذلك أثر ارتفاع أسعار مستلزماته من السوق المحلية، والتي تم رفع بعضها بتدبير تحت اسم إلغاء الدعم غير المباشر. وعلى هذا أبقى مشروع الموازنة على اعتمادات تبلغ 464.3 مليون جنيه للدعم المباشر، وأضيف إليها 168.3 مليون جنيه للتخفيف من أثر فروق سعر الصرف. ولكنَّ التخفيف لم يكن يعني ـ كالعادة ـ إلغاء الأثر، وبالتالي توالي صدور القرارات المفضية إلى رفع الأسعار (قبل عرض الميزانية وبعدها). وقد علمنا من تقرير لصندوق النقد أنه حدث خلال عام 1978 أن انخفضت نسبةُ الإنتاج الخاضع للسيطرة المركزية على الأسعار من حوالي 45 في المائة إلى حوالي 35 في المائة (في إطار الشركات التابعة لوزارة الصناعة) نتيجة لرفع 31 مجموعة من السلع من قائمة المواد المسيطر على أسعارها. والزيادات السعرية المنفذة عام 1977، وفي أوائل 1978 نفذت إلى المستهلك النهائي معظم زيادات التكلفة الناشئة عن تحويل مدخلات الإنتاج المستوردة إلى سعر السوق الموازية، خلال عامي 1976، 1977 (113). وقد صدرت في شهر آذار/ مارس بالذات مجموعة من القرارات المعبرة عن هذا الاتجاه، ولم يكن معروفًا في ذلك الوقت (وحتى الآن) أن هناك جدول زمني معين، ولكن شعر الجميع بالنتائج؛ ولذا علت صيحات المعارضة والاستنكار، وتكثفت في النصف الثاني من شهر آذار/ مارس على هيئة أعداد غير مسبوقة من طلبات المناقشة والأسئلة وطلبات الإحاطة في مجلس الشعب (3 طلبات مناقشة و46 سؤالاً، و18 طلب إحاطة). اشترك في هذه الحملة أعضاء من كل الاتجاهات، ولم يتخلف أنصار الحكومة. وكان على الحكومة أن تراجع موقفها بعد هذه المواجهة والتي عكست سخطًا شعبيًا منذرًا، وسط تعثر للمباحثات المصرية الإسرائيلية، وتهاوٍ للآمال الكاذبة حول رخاء السلام، فدافع وزير التموين والتجارة ووزير الصناعة عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة دفاعًا متهالكًا. وأقفل باب المناقشة بتعسف (114)، وتوقفت الحكومة بعد إجراءات آذار/ مارس عن رفع الأسعار مرة أخرى، متخلية عن التزامها أمام صندوق النقد، فاستقال عبد المنعم القيسوني احتجاجًا ـ للمرة الثالثة ـ وقُبلت الاستقالةُ هذه المرة.
خطاب النوايا لثلاث سنوات: و... بدأت المباحثات مع بعثة الصندوق في ـ أيار/ مايو 1978 ـ حول ما سبق أن التزمت به الحكومة، أي حول مراحل البرنامج التي تحقق كل أهداف الصندوق. البرنامج يمتد أجله لثلاث سنوات، تنتهي في حزيران/ يونيو 1981. وبنود البرنامج ومراحله يحددها صندوق النقد بطبيعة الحال، وتنفذها الحكومة تحت إشرافه. استمرت المباحثات 15 يومًا، انتهت إلى "إنفاق وجهات النظر" كما قيل في المؤتمر الصحفي، وكانت هذه أول مرة يُعقد فيها مؤتمر صحفي بعد مباحثات مع الصندوق. وكالعادة لم تعلن للرأي العام إلا أكاذيبَ، فرئيس الوفد المفاوض المصري (حامد السايح) قال إن: "دعم السلع الأساسية سيستمر كما هو، والاتفاق مع الصندوق
لا يعني المساس بدعم هذه السلع.. وأوضحت المناقشات أن نقل مجموعات السلع إلى الأسعار التشجيعية، يجب ألا يمسَّ أسعار البيع للجمهور، أي أن النتيجة النهائية لن تؤدي - في ظل ما اتفق عليه - إلى زيادة حقيقية في أسعار هذه السلع؛ لأن الزيادة سيتحملها صندوق موازنة الأسعار".. أما عبد الشكور شعلان (مدير عمليات الصندوق في الشرق الأوسط) فأكّد "أن الصندوق لا يفرض أية شروط" (115).

وحقيقة الأمر ندركها من خطاب النوايا الذي حدده الصندوق في هذه المباحثات، ووقعه رئيس مجلس الوزراء حين ذاك (ممدوح سالم)، ونكتفي هنا بعرض خلاصة وافية لما جاء به (116).
1 ـ برنامج الثلاث سنوات:
(أ) الإصلاحات الهيكلية:
نقد الخطاب "تشوهات" التكلفة/ السعر؛ ففي القطاع الصناعي نتجت التشوهات الهيكلية عن السياسات الحاكمة لأسعار الناتج في شركات القطاع العام. حتى وقت قريب، كانت موافقة مجلس الوزراء مطلوبة لتغيير الأسعار بالنسبة لقائمة تشمل 88 مجموعة من السلع، تغطي ما يقرب من ثلثي الناتج للقطاع العام الصناعي، وزيادة التكلفة في القطاع العام الاقتصادي الناشئة عن تحويل المدخلات المستوردة من سعر الصرف الرسمي إلى سعر السوق الموازية، ولم تنعكس إلا بدرجة محدودة في أسعار البيع المحلية، وقد بدأت عملية إصلاح هذا الوضع؛ سواء بتعديل الأسعار المسيطر عليها بحيث تعكس تكلفة الإنتاج على نحو أفضل، أو تخويل مجالس إدارة الشركات سلطة تحديد الأسعار لعدد أكبر من السلع، وستستمر عمليةُ ترشيدِ الأسعار أثناء فترة البرنامج بهدف وضع عمليات شركات القطاع العام على أساس تِجاري سليم. وسيمكِّن الأداءُ المالي المُحسَّن للقطاع العام الاقتصادي، من إسهامه بشكل ملائم في تمويل برنامجه الاستثماري وأعمال الحكومة.
وبالنسبة للزراعة، تعتقد أنها تملك إمكانيات كبيرة لمزيد من التنمية، ونحن ننوي أن نشجع تخصيص الموارد في هذا الاتجاه. سنستمر في إعطاء أولوية لاستثمارات الهياكل الارتكازية؛ لتحسين تسهيلات الري والصرف، وسنرتفع بمستوى خدمات التوسع الزراعي. وسنراجع سياساتِ التسعير الزراعي؛ بهدف خفض تشوهات التكلفة/ السعر، وزيادة حوافز الإنتاج.
ونحن مهتمون بالتكلفة المتزايدة للدعم، ويتزايد هذا العبء جدًا إذا حسبت السلع المدعمة المستوردة بسعر السوق الموازية الأكثر واقعية. وفي مواجهة أية تطورات رئيسَةٍ مفاجئة في الأسعار العالمية، ينبغي أن يزيد إنفاق الدعم بمعدل أقل جدًا من إنفاق الحكومة الإجمالي في كل سنة من سنوات البرنامج.
للتغلب على الاختلالات في مجال التعليم، بدأنا إعادة توجيه الأولويات التعليمية والتدريبية، وسنعطي اهتمامًا أكبر بالتدريب المهني. وشركات القطاع العام الآن حرة في اتخاذ قراراتِها في التعيين. وسيكون ممكنًا أيضًا إعطاء استقلالية أكبر للمصالح الحكومية في هذا الاتجاه. وفي الوقت نفسه ننوي أن نسمح بمرونة أكبر في الأجور داخل القطاع العام.
(ب) السياسة المالية:
نيتنا في تقليل الاختلال المالي في الأجل المتوسط، يمثل عنصرًا أساسيًّا في برنامج الإصلاح، وسنحقق هذا بتحسين الوضع التمويلي للمشروعات المملوكة ملكية عامة، وبتوسيع القاعدة الضريبية، وبتحسين إدارة الضريبة، وبالحد من المصروفات الأقل ضرورة، وتحسين التحكم في الإنفاق، وتطوير الإحصاءات المالية. وقد طلبنا مساعدة فنية خارجية من أجل تطوير الإدارة الضريبيَّة. وسنراجع أسعار الخدمات المقدمة الحكومة والقطاع العام؛ بهدف أن تعكس تكلفة هذه الخدمات. وننوي أن تكون نتيجة هذه الإجراءات احتواء العجز الكلي للحكومة في حوالي 2.3 بليون جنيه طوال فترة البرنامج ـ أي في نفس المستوى لعام 1978، وبالتالي سينخفض العجز من حوالي 27 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1978 إلى 16 % عام 1981. ومع الزيادة المتوقعة في التمويل الخارجي وفي الاقتراض غير المصرفي، يستهدف أن ينخفض اللجوء إلى التمويل المصرفي من حوالي 665 مليون جنيه عام 1978 إلى حوالي 440 مليون جنيه عام 1981.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس