عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 02:45 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

(ج) السياسات النقدية والائتمانيَّة:
سيخفض معدلُ خلق الائتمان، والبرنامج الائتماني حتى 30 حُزيران/ يونيو 1979 (كما جاء في البرنامج المفصَّل للسنة الأولى من برنامج الثلاث سنوات) يتسق مع الخفض في معدل الزيادة في عرض النقود إلى مستوَى غير تضخُّمي في عام 1981. وقبل نهاية كل سنة من البرنامج، سنعمد ـ بالتشاور مع الصندوق ـ على وضع خطوط من جهة الائتمان خلال فترة الاثني عشر شهرًا التالية، تتسق مع التقدُّم المطرد نحو هذا الهدف. وستبدأ عملية التدرج في إدخال زيادات مناسبة في أسعار الفائدة، وسنعمد إلى مشاورة الصندوق قبل نهاية كل سنة من البرنامج حول أي التعديلات الجديدة يكون مناسبًا.

(د) نظام الصرف والدين الخارجي:
مع أول كانون الثاني/ يناير 1979 سنكون قد انتهينا من عملية تحويل المبادلات إلى سعر السوق الموازية، وفيما يتبقى من فترة البرنامج ننوي اتباع سياسات ينتج عنها توسع تدريجي في السوق الموازية؛ بحيث تستوعب المبادلات التي تحدث عادة في السوق الحرة (دون تحويل عملة).
وسنواصل أيضًا عملية تحرير طريق السوق الموازية للواردات والمبادلات غير المنظورة. وبالتحديد ستتوسع في نظام التراخيص المفتوحة المنشأ عام 1977 بأقصى سرعة، وفي نهاية عام 1980 سيغطي كل السلع باستثناء عدد قليل. وبمجرد إدخال سلع في نظام التراخيص المفتوحة يمتنع إخراجها مرة أخرى، إلا أنه يمكن في بعض الأحيان توجيه المستوردين إلى مصادر عرض محددة؛ حتى يمكن استخدام المساعدة السلعية المقيدة بتلك المصادر استخدامًا كاملاً. وهدفنا في نهاية فترة البرنامج أن تتم كل المدفوعات الجارية في سوق واحدة، ويتحرر نظام الصرف من كل التقييدات ما عدا ما قد يكون ضروريًّا للتحكم في حركات رأس المال. وستنتهي أثناء السنوات الثلاث كل الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأعضاء في الصندوق، ونتوقع أيضًا إنهاء بعض الاتفاقيات الباقية مع الدول غير الأعضاء في الصندوق.
بالنسبة لسعر الصرف سنهتدي بالتطورات المتعلقة بالصادرات ذات الحساسية السعرية، وبالاتجاهات السعرية النسبية في مصر والخارج، وبحركات سعر السوق الحرة، وستشمل كل متابعة للبرنامج مشاورات مع الصندوق حول سياسة سعر الصرف.
وتهدف في السنوات الثلاث القادمة أن نعتمد إلى أقصى حد على مساعدات تنمية طويلة الأجل إلى جانب استخدام حظر للتسهيلات العادية للتجارة والموردين، وقد تستخدم التسهيلات المتوسطة الأجل بتوسع أكثر وكانت لا تمثل أهمية إلى حد ما في الماضي، ومع الزيادة في استقلالية القطاع العام الاقتصادي أصبح ضروريًّا أن تسجل لدى البنك المركزي كل تسهيلات الموردين الجديدة والقروض الخارجية الأخرى الممنوحة للقطاع العام والتي تصل آجالها الأصلية إلى سنة أو أكثر.
وبالنسبة التسهيلات الائتمانية من المراسلين، نطور الآن سياسة تسمح لكل مستورد أن يقرر بالارتباط مع بنكه التجاري، إذا ما كان يستخدم أو لا مثلاً هذه التسهيلات عبر السوق الموازية. وعلى ذلك لن يكون هناك إلزام على المستوردين ـ وفق السياسة الجديدة ـ لاستخدام مثل هذه التسهيلات، ربما باستثناء حالة الواردات من السلع الأساسية.
ثم التخلص من كل المتأخرات عام 1977، وبعض المتأخرات الصغيرة عادت إلى الظهور حديثًا، ولكن صُفِّيت الآن، وأثناء فترة البرنامج، سيحتفظ بكل مدفوعاتنا الدولية، ضمن العمليات الجارية. وبالإضافة لن تدخل الحكومة أية ممارسات لأسعار الصرف المتعددة، دون موافقة الصندوق، ولن تدخل ضوابطُ جديدة، أو تزيد من الضوابط الحالية على المدفوعات والتحويلات للمبادلات الدولية الجارية،
أو تدخل في أية اتفاقيات دفع ثنائية جديدة مع أعضاء الصندوق، أو تستحدث ضوابط جديدة، أو تزيد ضوابط قائمة على الواردات لأسباب تتعلق بميزان المدفوعات.

2 ـ سياسات للعام الأول من البرنامج:
ننوي أن نتحرك بحسم في الاثني عشر شهرًا القادمة في اتجاه تنفيذ البرنامج الذي وضعناه في الفترات السابقة.. من أجل تيسير تحقيق أهدافنا فيما يتعلق بأسعار القطاع العام، استبعدنا 30 مجموعة من السلع تغطي حوالي 10 % من إنتاج شركات القطاع العام الخاضعة لإشراف وزارة الصناعة من السيطرة المركزية على الأسعار، وخفضت بذلك نسبة الإنتاج الخاضع لمثل هذه السيطرة من 46 % إلى 36 %. وقد أصدرنا تعليمات محددة إلى مجالس إدارات الشركات المنتجة بأن تعدل الأسعار؛ بحيث تغطي تكاليف الإنتاج، ولكن ليس إلى مستوى يتجاوز أسعار الواردات المنافسة. وننوي أن نواصل إنهاء المركزية في سلطة التسعير؛ بغرض تقليل نطاق القائمة التي سبق ذكرها؛ بحيث تقتصر على بعض سلع قليلة، تتطلب أهميتها الاجتماعية استمرار السيطرة على الأسعار. وبالإضافة إلى هذا، فإن نيتنا تتجه إلى أنه، بمجرد استبعاد سلعة من السيطرة المركزية على الأسعار؛ لن تكون معرضة إلى مثل هذه السيطرة في المستقبل. إن تعديلات الأسعار في العام الماضي، وقد نفذ معظمها في أوائل 1978، أدت إلى زيادة الدخل الصافي للقطاع العام بحوالي 200 مليون جنيه على الأقل (على أساس سنوي)، وستتم عمليات ترشيد إضافية للأسعار، تكفي لزيادة الفائض الإجمالي العامل للقطاع العام بحوالي 150 مليون جنيه على الأقل (على أساس سنوي) وذلك في نهاية أيلول/ سبتمبر 1979، وستتم الإجراءات الخاصة بحوالي 75 مليون جنيه على الأقل، من هذا المبلغ، في نهاية حُزيران/ يونيو 1979.
أثناء الاثني عشر شهرًا المُقبلة، سنُعد الأساس أيضًا للإصلاحات الهيكلية الأخرى، التي ننوي إدخالها خلال فترة البرنامج. ستتم مراجعة كاملة لسياسات التسعير الزراعي؛ بحيث يمكن اتخاذ إجراءات لتحسين حوافز الإنتاج بدءًا من السنة الزراعية 79 ـ 1980، وسنراجع الوسائل التي يمكن بواسطتها إصلاح نظام الدعم بما يتمشَّى مع أهدافنا الاجتماعية، وبغرض البدء في إدخال تغييرات النصف الأول من 1979. وبالنسبة للإنفاق الاستثماري، فقد أعطينا فعلاً أولوية لاستكمال المشروعات الجارية، وبالنسبة لعام 1978 سيكون 85 % من الاعتمادات في الميزانية موجهًا لاستكمال المشروعات التي بدأت في أعوام سابقة، أو تجديد المصانع والتجهيزات القائمة.
وبالنسبة لسياسة الضرائب، سنقدم مشروعًا لإصلاح التعريفة الجمركية إلى مجلس الشعب في بداية دور انعقاد تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، وسيطبق الإصلاح بمجرد إصدار التشريع. وعن إدارة الضرائب؛ فقد اتخذنا إجراءات لتقليل الفاقد في الدخل الناشئ عن نظام السماح المؤقت، الذي يسمح في ظله للواردات أن تدخل البلاد قبل استيفاء الضريبة، ونحن نواصل جهودنا للقضاء على المتأخرات في تحصيل الضرائب بشكل عام.
أفصحت الحكومةُ - بعد ذلك - عن نيتها في إصلاح الميزانية (من الناحية الفنية). ولكن الإصلاحات الهيكلية، والإجراءات المالية المحددة التي ننوي تنفيذها، لن تؤثر في الوضع المالي إلا في عام 1979 وما بعده. وبالنسبة لميزانية 1978، لن يكون بوسعنا أن نشرع في إجراءات جديدة، رغم آمالنا السابقة.
العجز الإجمالي عام 1978 يستهدف أن يكون حوالي 1.9 بليون جنيه، أو 0.5 بليون جنيه فوق المقدر لعام 1977. نتوقع تمويل جزء من هذا العجز باقتراض خارجي أكبر، يتعلق ببرنامج الاستثمار، وبالتالي يبدو أنه لا يمكن تجنب الزيادة في التمويل المصرفي، ويتوقع أن يصل إلى 665 مليون جنيه عام 1978، واستمرار الاتجاهات المالية الحالية قد يؤدِّي إلى عجز ممول مصرفيًّا في حدود 1050 مليون جنيه عام 1979، ونحن ندرك أنه ينبغي تمويل نسبة أكبر من الزيادة في الإنفاق دون اللجوء إلى الاقتراض المصرفي، وعلى ذلك سنقلل اللجوء إلى التمويل المصرفي بحوالي 200 مليون جنيه على الأقل في عام 1979؛ بحيث لا يتجاوز هذا التمويل المصرفي 850 مليون جنيه. وسيتحقق 100 مليون جنيه على الأقل من هذا التحسن بواسطة إجراءات تتعلق بالإيراد أو الإنفاق؛ بحيث لا يتجاوز العجز الإجمالي 2250 مليون جنيه. وسنتشاور مع الصندوق عند متابعة البرنامج التي تنتهي في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، حول ملاءمة الإجراءات التي ينبغي أن تتضمنها الميزانيةُ من أجل تحقيق الأهداف المالية المَبنيَّة عليه.
وبالنسبة للسياسة النقدية والائتمانية، تضمنت النوايا رفع سعر الفائدة، مرة في 17 حزيران/ يونيو 1978، ومرة في أول كانون الثاني/ يناير 1979، وحددت النوايا سقفًا محددًا على توسع صافي الأصول المحلية للجهاز المصرفي، وسقفًا فرعيًّا على الزيادة في صافي التسهيلات المصرفية إلى القطاع العام. (الحكومة المركزية والمحليات، السلطات العامة وشركات القطاع العام شاملة شركات تجارة القطن). وقد صمم برنامجنا للائتمان بهدف توفير احتياجات القطاع العام، المتسقة مع السياسات المالية وغير المالية للقطاع العام المحددة أعلاه. وفي الوقت نفسه وبالتالي لن يزيد الائتمان المصرفي للقطاع العام بأكثر من 10 %؛ ويزيد الائتمان المصرفي للقطاع الخاص بنسبة 95 % إن الحدود المفروضة على توسع صافي الأصول المحلية للجهاز المصرفي، وعلى الزيادة في صافي التسهيلات المصرفية للقطاع العام: نفترض أن القطاع العام غير المالي سيتلقَّى 50 مليون دولار على هيئة منح بالنقد الأجنبي، أو استخدامات لقروض نقدية أجنبية أثناء كل ربع من أرباع السنة.
كما ذكرنا سابقًا، فإننا ننوي إكمال عملية تحويل المعاملات إلى سعر السوق الموازية في أول كانون الثاني/ يناير 1979. في 10 حزيران/ يونيو 1978 حولت واردات الشاي وزيت الطعام إلى سعر السوق الموازية، وكذلك كل ما تبقَّى من المعاملات الجارية غير المنظورة. وقد بدأنا كل الخطوات الضرورية لتوحيد سعري السوق الرسمية الموازية على كل المعاملات والحسابات، مع استثناء مؤقت يتعلق باتفاقيات الدفع الثنائية مع البلاد غير الأعضاء في الصندوق، ويتعلق بتصفية الموازين المرتبطة بالاتفاقيات الثنائية التي ستنتهي رسميًّا قبل أول كانون الثاني/ يناير 1979.
وارتباطًا بهدفنا في تحرير الطريق إلى السوق للواردات، فإن نظام التراخيص المفتوحة، الذي يمكن بمقتضاه استيراد سلع مُعينة من خلال السوق الموازية بلا قيود، سيجري توسيعه بسرعة. حين نشرت القائمة الأولى للسلع الداخلة في نظام التراخيص المفتوحة، في نيسان/ أبريل 1977، كانت تعطي موادَّ قيمتُها حوالي 125 مليون دولار (محسوبة بالواردات الفعلية الإجمالية من هذه السلع). في فترة مبكرة من العام 1978 أضفنا موادَّ جديدة قيمتها ـ 250 مليون دولار يتألف معظمُها من آلات وقطع غيار. في 10 حزيران/ يونيو 1978 وسَّعنا القائمة مرة أخرى بإضافة مواد قيمتها 125 مليون دولار. ولكي يكون هذا النظام فعَّالاً، فإن تخصيصات المستوردين من ميزانية النقد الأجنبي للسلع الداخلة في القائمة تم استبعادها، وجَّه المستوردون إلى أنهم يستطيعون الآن استيراد سلع القائمة بِحُرية تامة وبلا قيود. في أول كانون الثاني/ يناير 1979، سنضيف موادَّ جديدة؛ حتى تزيد من شمول القائمة بحيث تغطي على الأقل 15 % من مجمل الواردات، وفي أول كانون الثاني/ يناير 1980 ستغطي القائمة 40 % من مجمل الواردات على الأقل.
بعد ذلك التزمت الحكومة بإنهاء ما بقي من اتفاقيات الدفع الثنائية، مع أعضاء الصندوق (8 منها عند بداية 1978)، وفق مواعيد محددة؛ بحيث ينتهي آخرها في نهاية 1980. وعينت سقوفًا للاقتراض المتوسط الأجل، وللاقتراض المصرفي خلال العام.
وبالنسبة للعلاقات المؤسسية والعقوبات: جاء في خطاب النوايا، أنَّه في أية فترة من الترتيب الممتد، يتم فيها تجاوز اقتراض الحكومة من الجهاز المصرفي المُتفق عليه، أو يتم تجاوز الحدود المتفق عليها في الاقتراض الخارجي القصير الأجل، والمتوسط الأجل، أو لم يتم فيها التفاهم، أو لم يراعَ، حول سياسات سعر الصرف، وحول السياسات التي تسمح بتحقيق أهداف الموازنة كما حددت في الخطاب، أو توقف عن تنفيذ النوايا الخاصة (باحتساب المدفوعات الدولية في الحسابات الجارية، ومنع تعدد أسعار الصرف.. إلى آخره). أو لم يتم توحيد سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية بعد أول كانون الثاني/ يناير 1979، لن تطلب مصرُ أيَّةَ مشتريات وفق الترتيب الممتد، إلا بعد التوصل إلى تفاهم مع الصندوق، فيما يتعلَّق بالظروف التي يمكن أن تتم في ظلها مثلُ هذه المشتريات.
في أية فترة من الترتيب الممتد بعد 30 حُزيران/ يونيو 1979، وبعد 30 حُزيران/ يونيو 1980، لا يتم التوصل أثناءها إلى التفاهم (أو لم يراع التفاهم) حول الفقرات المحددة للأداء في العامين الثاني والثالث على التوالي، لن تطلب مصر مشتريات وفق الترتيب المُمتد، إلا بعد التوصل إلى تفاهم مع الصندوق، فيما يتعلق بالظروف التي يمكن في ظلها أن تتم مثل هذه المُشترَيات.
تعتقد الحكومة المصريةُ أن السياسات المحددة في هذا الخطاب مناسبة لتحقيق الأهداف الواردة في برنامجها، ولكنها ستتخذ أيَّة إجراءات إضافية قد تصبح ملائمة لهذا الغرض. وستتابع مصر دوريًّا مع المدير التنفيذي، التقدَّمَ الحادث في تطبيق البرنامج. ولن تتأخر المتابعةُ الأولى عن 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978. وبالإضافة ستتشاور مصر مع الصندوق قبل أول تموز/ يوليو 1979 وأول تموز/ يوليو 1980، وستصل إلى تفاهم مع الصندوق حول نوايا السياسة، وحول الفقرات المحددة للأداء، والمُتعلقة بتطبيق السياسات لكل فقرة اثني عشر شهرًا تالية. وأثناء الترتيب المُمتد، ستتشاور مصر مع الصندوق حول تبني أي إجراء، قد يكون ملائمًا؛ سواء بمبادرة مصر، أو كلما يطلب المديرُ التنفيذي المشاورة؛ بسبب أن أيًّا من المعايير الواردة في الفقرتين السابقتين لم يراعَ، أو لأنه يرى أن المشاورة حول البرنامج مطلوبة. وبالإضافة، فإنه بعد فترة الترتيب الممتد، وطوال فترة سداد قرض هذا الترتيب الممتد، ستتشاور مصر من وقت لآخر فيما يتعلق بسياسات ميزان مدفوعاتها، بمبادرة من مصر أو بناء على طلب من المدير التنفيذي.
ولا نعتقد أننا نحتاج ـ على ضوء كل عرضنا السابق في هذا الكتاب ـ إلى تحليل (117). نُضيف فقط أن مجلس مديري الصندوق ـ كالعادة ـ أعلن بعد اعتماد خطاب النوايا، ترتيبات المساندة الممتدة، أي ترتيبات ربط شرائح التسهيلات الائتمانية التي يقدمها الصندوق خلال الفترة، بمراحل تنفيذ البرنامج الوارد في خطاب النوايا. وكان الترتيب يقضي بأن يتم سحب الشريحة الأولى (120 مليون دولار) حتى نهاية 1978، والشريحة الثانية (180 مليون دولار) خلال النصف الأول من عام 1979، والشريحة الثالثة (210 مليون دولار) خلال عام 1979/ 1980 والشريحة الأخيرة (210 مليون دولار) خلال عام 1980/ 1981. ولمزيد من إحكام الرقابة، تنقسم كل شريحة من هذه الشرائح إلى دفعات ترتبط بتنفيذ التزامات معينة خلال أشهر محددة من السنة، وعلى ذلك تمثلت الخطوة الأولى في عملية تنفيذ الاتفاق في سحب مصر 90 مليون دولار (من شريحة السنة الأولى، بعد إعلان الصندوق لترتيبات المساندة، وكان مفروضًا سحب الدُّفعة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر. وكما نعلم، يعني إيقاف الصندوق وقف السحب في أية لحظة توقف مصادر الإقراض الأخرى، وزمجرة أصحاب الديون.
ج ـ انعقاد المجموعة الاستشارية: كما في العام 1977، كان انعقاد المجموعة الاستشارية في عام 1978 يعني أن المخططات المعادية للاستقلال المصري قطعت شوطًا ناجحًا، وأن المجموعة تجتمع لتعتمد النتائج. نذكر أن البنك الدولي لم يدعُ المجموعة الاستشارية الأولى إلا بعد توقيع القيسوني ـ ممثلاً للحكومة المصرية ـ خطاب النوايا وما ارتبط به من اتفاقات تكميلية. والأمر نفسه حدث في المجموعة الاستشارية الثانية. خطاب النوايا وقعه ممدوح سالم ـ ممثلاً عن الحكومة المصرية (10 حُزيران/ يونيو) والتقت المجموعة في مقر البنك الدولي في باريس (14/ 16 حزيران/ يونيو). ولكن تظل المجموعة الاستشارية الأولى تحتل موقعها الخاص في التاريخ؛ لأنها عبرت عن الانكسار الحاسم باتجاه التبعية الاقتصادية، وسبقتها وأحاطت بها كل الضغوط الساحقة التي أفضت إلى هذه النتيجة. والمجموعة الاستشارية الثانية مثلت ـ في الإعداد الهادئ لها، وفي جدول أعمالها مرحلة جديدة مختلفة. إن جدول الأعمال، والمطلوب إنجازه في هذه المرحلة، مُهم وكبير (على نحو ما بيّنا مثلاً في خطاب النوايا الممتد)، ومطلوب أن يتم التركيز على إعادة البناء وفق الشروط الجديدة.. ولكن رغم كل هذا، كان الانتهاء من عملية الترويض العنيفة، ختامًا لفترة الأحداث المُثيرة التي مثلتها المجموعة الاستشارية الأولى. وقد عبر البيان الصادر في نهاية اجتماع 1978 عن طبيعة التغير في المهام، بطريقته الخاصة، فقال إنه "بعد أن خفت الأزمة العاجلة في النقد الأجنبي التي شغلت معظم انتباه مصر وأصدقائها أثناء 1977، فإن موضوع البحث في الاجتماع الحالي هو أن الوقت قد حان لتركيز الانتباه على المشاكل الأكثر عمقًا للإصلاح البنيوي؛ بهدف تحقيق التغير الاقتصادي والمؤسسي المطلوب" (118).
وعبَّر عن نفس المعنى مندوب الولايات المتحدة في اليوم الأول للاجتماع، فقال: "إن الحكومة المصرية قد بدأت سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الصعبة، وإن كانت ضروريَّة، وقد وضعت هذه الأسس اللازمة لصياغة تغييرات بُنيوية أساسية في كل الاقتصاد من أوله إلى آخره" (119). أمّا رئيس الوفد المصري (حامد السايح) فقد عبر عن مفهوم القيادة المصرية للمجموعة الاستشارية ولمجمل التحرك المطلوب في المرحلة الجديدة، حين قال إنه "ليس هناك من يدرك قيمة التلازم الإيجابي بين السلام والتنمية الاقتصادية والاستقرار، أكثر من الرئيس السادات، وتعاوننا يمكن أن يكون أداة فعالة في تحقيق كل الأهداف الثلاثة الهامة". وفي السياق الذي نعرفه، فإن مفهوم السلام يعني طريق القدس، والتنمية الاقتصادية تعني قبول وصاية البنك الدولي، والاستقرار يعني قبول وصاية صندوق النقد. وبكلام السايح، فإن "حكومتي تقدر تقديرًا عاليًا النجدة المستمرة، والاهتمام، والمساعدة المقدمة من البنك الدولي (في الجوانب الاقتصادية وتحديد المشروعات إلى جانب التمويل).. وبموازاة هذا الدعم من البنك الدولي، فإن صندوق النقد لم يتوقف دقيقة عن إبداء اهتمامه، بكل الوسائل، حول التطورات النقدية والمالية في مصر". (وشرح السايح كيف وافقت مصر على بنود برنامج الاستقرار، كما حددها الصندوق، في خطابي النوايا الأول والثاني).
وقال إنه "من الواضح - على أيَّة حال - أن تطبيق هذه الإجراءات يَحتاجُ دعمًا خارجيًّا، وقد تمت دراسة هذه الاحتياجات دراسة شاملة بالاشتراك مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وسوف تستكمل وتُفصَّل على يد ممثليهما الممتازين" (120).
  • وقد تكفَّل جوزيف هويلر مُمثل الولايات المتحدة، بتوضيح المفاهيم والعلاقات، في الاتجاه نفسه، فأكد في البداية تضامنَ الأشقاء: "فنحن نودُّ أن نسجل موافقتنا العامة على بيان البنك الدولي هذا الصباح. ونقدر - تقديرًا خاصًا - بيان صندوق النقد هذا الصباح، ونرجو أن نؤكِّد على الاهتمام الذي توليه للبرنامج الذي ينبغي أن ينفذ في إطار اتفاق السنوات الثلاث الذي تمت صياغتُه أخيرًا بين صندوق النقد والسلطات المصرية". بعد هذا الإعلان، حرص ممثل الولايات المتحدة (كما في اجتماع المجموعة الاستشارية الأولى) على إبراز الصفة السياسية للوجود الأمريكي في المجموعة الاستشارية، بل والصفة السياسية للاجتماع ككل، فتلا رسالة من وزير الخارجية الأمريكي (فانس) إلى رئيس الوفد المصري، يحثه فيها على الإسراع في "الإصلاح" الاقتصادي. ومجرد أنَّ يتحدث وزيرُ الخارجية الأمريكي عن الإصلاح الاقتصادي، يكفي لتأكيد إبرازه للعلاقة بين التحرك في المجالين، ولكن ممثل الولايات المتحدة في الاجتماع، أصرَّ - مع ذلك - على وضع النقط على الحروف، فقال: "إن مصر اتخذت خلال هذا العام السابق خطواتٍ غير عادية وجريئة. إن الرئيس السادات يستحق التقدير والإعجاب الدائمَين منا جميعًا؛ بسبب مبادرته الشجاعة التي كهربت عالمًا يسعى للسلام في الشرق الأوسط.. إن المُبادرات التي قام بها قادةُ مصر في المجال السياسي الدولي، وفي التوجه نحو حل المشاكل الاقتصادية المحلية.. تستحق دعمنا المستمر" (119).
ولكن هذا الحديث عن "الدعم المستمر"، لم يكن يعني التزامًا مستقرًا ومحددًا، فصيغة المجموعة الاستشارية بحكم تعريفها، تنفي هذا الالتزام المحدد والمستقر لعدد من السنوات، ولكن طموح القيادة المصرية إلى جزرة "الكونسورتيوم"، "ومشروع كارتر"، كان يتطلب مزيدًا من التنازلات؛ فعلى جبهة الصراع المصري الإسرائيلي، لم نوقع اتفاقية سلام بعدُ، وبعد توقيع الاتفاقية يظل باقيًا أن تنفذَ، وفي الأثناء، يكون الصندوقُ قد حقق ترتيب المساندة الممتد لسنوات ثلاثة، ويكون البنك قد عمق إنجازاته في إعادة تشكيل هيكل التنمية. على أيَّة حال ـ كان المجتمعون في باريس متفائلين بالمستقبل ـ وعن حق ـ ولم تتقاعسْ الدولُ الخليجية بالمناسبة عن الحضور، رغم معارضتها المعلنة لزيارة القدس، ولا يُحتَج هنا بأن مستوى التمثيل لهذه الدول هبط عن مستوى تمثيلها في اجتماع 1977، فهذا هو حال الدول والمؤسسات المشاركة كلها، فاجتماع 1978 كان هامًا، وكان متفائِلاً، ولكن ـ كما قلنا ـ لم يكنْ مُثيرًا! لم يكن نقطة تحول تاريخية. وقد أعلنت هيئةُ الخليج للتنمية في مصر في الاجتماع عن استمرارها في دعم الاقتصاد المصري، ونُشر أيامها أنَّه ينتظر أن تقدم السعودية قروضًا لمصر خلال عام 1978 تتراوح بين 600 و700 مليون دولار (121).
وجديرٌ بالملاحظة أن تصرُّف السعودية وهيئة الخليج، جاء بعد زيارة القدس، ولكنْ أهم من ذلك أنه جاء بعد خطاب النوايا. أما قبل الاتفاق مع الصندوق (وقبل رحلة القدس بالتالي)، فكان وزيرا المالية في السعودية والكويت يؤكدان (حتى أواخر نيسان/ أبريل) للصحف المصرية بأن "الهيئة ليست على استعداد لزيادة رأس مالها لإعادة إقراضه لمصر نقدًا أو لتمويل استيراد السلع؛ سواء كانت سلعًا استثمارية أو سلعًا غذائية، بعد أن استخدمت مصر في العام الماضي معظم رأسمال الهيئة في سداد ديونها القصيرة الأجل، وفي استيراد هذه الأنواع من السلع" وصحيح أن الهيئة لم تزد رأسمالها، ولكنها استمرت في الإقراض لاستيراد سلع إنتاجية، وقد رفض الوزيران في حديثهما تقديم التزام واضح بالنسبة لتأجيل سحب الودائع، ولكن حدث أيضًا أن تجدد إيداعها دون أية مشكلة.. بعد خطاب النوايا (123).
(4) نحو كامب ديفيد:
إذا امتدت متابعتُنا للتطورات حتى آخر العام (1978)، سنلحظ أن صندوق النقد أبدَى ارتياحًا شديدًا لتوالي انتصاراته في القطاع الخارجي؛ حيث تحقق كل برنامجه المستهدف. فقائمة التراخيص المفتوحة اتسعت دائرة سلعَها ثلاث مرات أثناء عام 1978 وأوائل 1979؛ بحيث أصبحت تغطي حوالي 15 في المائة من الواردات الإجمالية. وتواصل إلغاء اتفاقيات الدفع الثنائية كما كان مستهدفًا. وتم، وهذا هو الأهم، توحيد سعر الصرف الرسمي مع السعر التشجيعي (عند مستوَى الأخير).
ولكن في السياسات المالية والنقدية، سجَّلت بعثةُ صندوق النقد (في تقريرها عن مباحثاتها الدورية 23 تشرين الثاني/ نوفمبر ـ 4 كانون الأول/ ديسمبر 1978) أن "التقدم في الدائرة المالية أثناء عام 1978 كان أبطأ من المُستهدَف، وبالنسبة للإنفاق الحكومي، لم تكن التطورات مُتسقة مع أهداف البرنامج"... "ولقد مثلت التطورات المالية لعام 1978 نكسة بالنسبة لأهداف الحكومة المالية للأجل المتوسط".. "وعلى ذلك، تركزت المناقشات على مدَى الإجراءات التي ستكون مطلوبة لإعادة الموازنة (عام 1979) إلى خط الأهداف المقررة. وقد عبَّرت البعثة عن اهتمامها بالعواقب التضخمية للتطورات المالية الحديثة والقادمة، ومع الاعتراف بأهمية المنهج التدريجي للإصلاح المالي، أكدت أنه في ظروف مصر، تكون تكلفة الإبطاء باهظة بدرجة غير عادية، فالهيكل المالي لمصر معرض للتدهور على نحو خاص؛ نتيجة التضخم الصاعد. ويرجع ذلك في الأساس إلى سياسة تثبيت الأسعار لدائرة واسعة من السلع والخدمات في وقت تزداد فيه تكاليف تدبيرها أو تكاليف إنتاجها. وسواء مولت (هذه السياسة) بعدم مباشر أو غير مباشر، فإن التضخم ينحو إلى زيادة عبء الموازن الناشئ عن مثل هذه السياسة، زيادة حقيقية؛ حيث إن الفجوة بين أسعار البيع الثابتة، وبين تكاليف الإنتاج والاستيراد، ستنمو بالمعنى النسبي والمطلق. وبما أن الدعم المباشر وحده وصل إلى 16 في المائة من الإنفاق الحكومي في العام 1978، فإن مجال التدهور في هذا الحساب كبير" (124). (يلاحظ أن هذا الرقم يكون أعلى جدًا إذا قيمت السلع المستوردة المُدعمة بسعر السوق الموازية. وحدث هذا في عام 1979، فقفز عجز الميزانية العامة ـ بعد توحيد سعر الصرف ـ إلى 2074 مليون جنيه) (125).
إن الصندوق هنا يستثمر بقوة نتائجَ انتصاراته السابقة، وخاصة في القطاع الخارجي، فمع تسليم الحكومة بخفض سعر الجنيه إلى المعدلات البالغة الهبوط التي فرضها الصندوق، أصبح الاستمرار في تثبيت الأسعار مسألة مستحيلة بالفعل، خاصة إذا كانت السياسات الأخرى تحول دون زيادة موارد الخزانة زيادة حقيقية. الصندوق محق في أن ينذر الحكومة بأن تكلفة الإبطاء في رفع الأسعار بالذات، تكون باهظة وغير عادية في الظروف التي آلت إليها مصر، ولكنْ أوضحت السلطات أنها لم تتمكن خلال عام 1978 من تنفيذ التزاماتها بالنسبة للأسعار، وبالنسبة لزيادات الأجور؛ بسبب الظروف السياسية التي تمر بها مصر (126). وكان المقصود الظروف التي سبقت وتلت كامب ديفيد، وهي ظروف تطلبت استقرارًا سياسيًّا وإشاعة للتفاؤل حول نتائج الحل المنفرد.
ويبدو أن القيادة السياسية كانت قد تلقت وعودًا بمساعدات اقتصادية كبيرة في حالة توقيع الاتفاقية لقاء دورها في استقرار المنطقة داخل الإطار الأمريكي، ووفق شروطه؛ إذ لا نعتقد أن الرئيس تحدث عن مشروع كارتر ـ بعد كامب ديفيد ـ من فراغ. قال إنه "مشروع على غرار مشروع مارشال وسيحقق المعجزات مثل ما فعله مشروع مارشال في ألمانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية". وحدد السادات الأرقام، فقال إن "مشروع كارتر يتضمن مبالغ تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر ألف مليون دولار لمدة خمس سنوات لتحقيق الرخاء في مصر والتغلب على المشكلات الاقتصادية" (127). ويلاحظ أن نفس هذا الرقم أعلنته دوائر أمريكية وصهيونية قبل تصريحات السادات؛ فقد دعا السناتور هنري جاسكون الولايات المتحدة إلى عرض برنامج تقدم خلاله المعونة الأمريكية على أساس المشاركة الكاملة بين إسرائيلَ ومصر، على أن تحتفظَ الولايات المتحدة بحق سحب هذه المعونة، إذا لم تستمر الجهود من أجل السلام. وقد أذيع في اليوم نفسه، عن دعوة واسعة النطاق في إسرائيل، حول مشروع الاستثمارات الأجنبية الحكومية الخاصة بالمنطقة، على غرار مشروع مارشال يتضمن إنشاء صندوق برأسمال 15 بليون دولار سنويًّا، ولمدة عشر سنوات، تساهم فيه الولايات المتحدة ودول السوق الأوروبية وأُستراليا وكندا والدول الإسكندِنافية، وآخر لرأس المال الخاص برأسمال قدره 30 بليون دولار سنويًّا يقوم على أساس تجاري وبضمانات حكومية، ويساهم اليهود بثلث رأسماله.
في الفترة نفسها، اقترح السناتور فرانك تشيرش على الحكومة الأمريكية مشروعًا في الاتجاه نفسه؛ لتقدم "معونات هائلة" تكون حافزًا لإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط، وتجعل من يعمل ضده يدفع ثمن ذلك". وقد تبلورت هذه المقترحات وغيرها في مشروع محدد، تقدم به السناتور جاكسون مع أربعة آخرين من أعضاء مجلس الشيوخ، ويدعو لعمل "خطة مارشال" تقوم الولايات المتحدة فيها بدور "الشريك الاقتصادي الكامل" مع مصر وإسرائيلَ والدول الراغبة في العيش بسلام في المنقطة؛ تأكيدًا لدورها في صيغة السلام المحققة (128).
في هذا الجو من "التفاؤل" تحدث الرئيس السادات بدوره عن مشروع مارشال، واللمسة التي أضافها أنه أسماه "مشروع كارتر".. ويبدو أن هذه الآمال خلَّفت تصورًا باحتمال أن تمثل المساعدات السخيَّة موردًا مستقرًا، يمكِّن المجتمع أن يعيش (لفترة ما) عند مستوى يتجاوز موارده الذاتية؛ أُسوةً بالمعاملة التي تتمتع بها إسرائيلُ. وهذا يمكن الخزانة من مواجهة العجز الكبير في الميزانية العامة، دون اللجوء إلى المصارف على مستوًى واسع.
وبالتأكيد كانت بعثة الصندوق لا تغفل عن هذه الظروف السياسية وما صاحبها من آمال، ولكنها لم تهضِمْ - مع ذلك- حالة النكوص الكامل للسلطات المحلية (بحجة الظروف السياسية) عن اتخاذ أية إجراءات تحسن صورة الميزانية العامة، وتتسق مع نتائج توحيد سعر الصرف. وكان واضحًا لبعثة الصندوق، أن الأوضاع السائدة، لا بد وأن تؤدي في نهاية 1978 إلى انهيار السقف العام المفروض على الزيادة في صافي الأصول المحلية؛ فالتجاء الحكومة إلى الجهاز المصرفي، كان متوقعًا أن يتجاوز المستهدف، ورغم إقامة حدود على الإقراض المصرفي لشركات القطاع العام، أدى التأخر في تطبيق التعديلات السعرية، إلى التساهل في الالتزام بهذه الحدود، وبالتالي تم تجاوز السقف المفروض على صافي الائتمان المصرفي في القطاع العام بهامش واسع(129).
في حدود التخصص وتوزيع الأدوار، لم يكن على بعثة الصندوق، إلا أن تتمسك بتنفيذ البرنامج وفق الجدول الزمني المرتبط بترتيب المساندة؛ ولذا سجلت في تقييم البعثة للموقف "إن أحرج مهمة تواجه السلطات هي تحسين الوضع المالي (...) ولتجنب صعوبات أكثر خطورة في المستقبل، ينبغي أن يتسارع تنفيذ الإصلاحات المالية الضرورية، في جانب الدخل، التحرك مطلوب في مجالات التسعير في مشروعات القطاع العام، والإصلاح الضريبي (...) وفي جانب الإنفاق، نعتقد السلطات أنه لا بد من ترشيد برنامج الدعم المباشر بحصر توجهها إلى المجموعات الأقل دخلاً، وبإلغاء الدعم على المواد الاستهلاكية الأقل ضرورة. والبعثة توافق على هذه الآراء، وتحث على تطبيق هذه الإصلاحات بأقصى سرعة ممكنة (...) وزيادات الأجور والمهايا بالحجم الممنوح في عام 1978، لا تتسق مع الأهداف المالية للأجل المتوسط، وتحتاج أن تُخفف في 1979".
إلا أنَّ البعثة تدرك مع ذلك حدودها، وتعلم أن التطورات السياسية، قد تدعو الولايات المتحدة إلى التدخل لإعداد ترتيبات استثنائية تؤجل بعض الإجراءات المطلوبة المالية والنقدية في إطار استراتيجية الصندوق المتفق عليها؛ ولذا تجنبت البعثة ما فعلته في العام السابق، فلم تضمن كل تقييماتها ـ كالعادة ـ في مشروع القرار المقدم للمجلس التنفيذي للموافقة. اكتفت بفقرة لا تُثير مشكلة، تنص على أن "الصندوق يرحب بالتقدم الذي أحرزته مصر نحو توحيد نظامها للصرف، وفي تحرير نظام مدفوعاتها. ويدعم الصندوق نية السلطات نحو مزيد من خفض الاعتماد على قيود الصرف، ولإنهاء اتفاقيات الدفع الثنائية المتبقية في أقرب وقت ممكن... إلخ". وترك مشروع القرار المجالات الحرجة مفتوحة؛ لكي تُصاغ الفقرات المتعلقة بها على ضوء التصالات على مستوى أعلى، وقد أشار إلى ذلك "تقييم البعثة"؛ حيث جاء في ختام التقييم، وبعد عرض وجهة نظر البعثة، أن "المديرين التنفيذيين قد يودون مناقشة بعض المواضيع التالية:
- أهمية الإجراءات اللازمة لتحسين التوازن المالي، على سبيل المثال: ترشيد الدعم، الإصلاح الضريبي، السيطرة على الإنفاق.
- الدور المركزي لسياسات التسعير والإدارة في مشروعات القطاع العام، من أجل إمكانيات النمو للاقتصاد في الأجل الأطول.
- الفرصة التي يتيحها التحسن في صورة ميزان المدفوعات من أجل مزيد من تحرير وترشيد القطاع الخارجي".
ولكن بعد كل ما تحقق ـ سياسيًّا واقتصاديًّا ـ لم يكن فشل السلطات في الالتزام بالجدول الزمني يثير قلقًا شديدًا عند القيادات المعنية في الخارج. صحيح أن انتقادهم لكفاءة المسئولين المحليين تزايد. ولكنَّ الانتصاراتِ المحققة في المجالات الحاكمة (سياسيًا واقتصاديًا) كانت تُبيح تدخل الولايات المتحدة من أجل بعض التساهل، ولكنها حرصت في الوقت نفسه، على تبديد الأوهام حول حدود المعاملة الخاصة التي تتوقعها القيادة المصرية، وبالتالي حول التدفقات الميسرة المنتظمة، وأوضحت الولايات المتحدةُ أن أي تدفقات، تظل كالعادة، مرتبطة بمواصلة الانصياع لتعليمات صندوق النقد. والتساهل عند الولايات المتحدة لا يصل - بأيَّة حال - إلى ما يشبه التوقف عن تنفيذ المخطط. وعلى هذا، قرر المجلس التنفيذي لصندوق النقد، على ضوء تقرير البعثة، وبعد اتصالات مباشرة مع السلطات المصرية (والأمريكية طبعًا)، تأجيل سحب الدفعة الثانية من الشريحة الأولى، على أساس أن تعود بعثة الصندوق للتشاور مع السلطات المصرية في يناير 1979. ثم تأجَّل الموعد إلى منتصف فبراير (130)، وفي الأثناء أوضح المقرضون الآخرون (وعلى رأسهم الولايات المتحدة) الوقوفَ إلى جانب الصندوق (انظر الفصل العاشر).
وهذا الموقف كان طبعيًّا أن يؤدي إلى وقف الكلام عن مشروع كارتر، وانتقل التوجهُ المصري إلى مؤتمر الدول الصناعية الغربية في طوكيو. ويبدو أن القيادة المصرية تصورت أنها يمكن أن تقوم بحركة التفاف حول موقف الولايات المتحدة وصندوق النقد، ولكنْ كان طبعيًّا أن يخيب المسعى، وعلقت فاينشيال تايمز على الدراسة والمطالبات التي تقدمت بها الحكومة المصرية إلى رؤساء الدول المجتمعين في هذا المؤتمر، فقالت إن "أحد المشاكل الأساسية يتمثل في أن السيد/ السادات لا يهتم كثيرًا بأمور الاقتصاد، فهو ينحو إلى المبالغة في تسييس أغلب المسائل الاقتصادية الأساسية. وما حدث في قمة طوكيو كان حالة نموذجية لذلك. فبعد معاهدة السلام مع إسرائيلَ، شعر السادات ـ وله بعض العذر ـ أن مصر تستحق مكافأة مالية، خاصة بعد أن هددته المقاطعة العربية، وعلى ذلك بدأت وزارتا الاقتصاد والتعاون الاقتصادي (في الربيع) في إعداد ورقة لتقديمها إلى المشاركين في طوكيو، عنوانها (إعلان حول السياسة وحول الاحتياجات من المساعدة الخارجية)، وتمخض ذلك عن وثيقة متسرعة هوجاء، مليئة بالإحصاءات غير المتسقة وبالنتائج الاقتصادية المشكوك فيها، والوزراء يطلقون على الوثيقة الآن بلهجة اعتذارية أنها ورقة عمل. ولكن يضاف أيضًا إلى ذلك، أنه كان اجتراء من مصر وإفراطًا في الدلال، أن تصورت أن مؤتمر القمة سيجد وقتًا لمناقشة محنتها"... بهذا المستوى المهين كان التعليق على المطالبات التي رفعتها القيادة المصرية (بعد كل ما فعلته) إلى مؤتمر قادة الغرب، رغم أن المبالغ المطلوبة كانت في إطار ما يبدو أنها وعدت به (أي حوالي 18.5 مليون دولار لسنوات الخطة الخمسية)، ورغم أن مطالباتها بالقروض كانت مشفوعة بإعلان أنها جادة في "إصلاح مسارها الاقتصادي". وانتهى الأمر ـ كما قالت فاينانشيال تايمز ـ إلى "أن الرئيس كارتر فتح الموضوع في اتصالات ثنائية مع كل رئيس دولة على حِدة" (131).
وفي الوقت نفسه، توالت تصريحات المسئولين الأمريكيين عن برامج المعونة إلى الصحافة المصرية، وكانت التصريحات تسعى إلى تأكيد أنَّ الولايات المتحدة قدمت الكثير خلال السنوات الماضية، وأنها تلتزم بتقديم مساعدات أخرى، ولكن دون أن تتحمل وحدها مسئولية توفير القروض الميسرة. كما يمكن أن يُفهم من اسم مشروع كارتر، بل أبدى المسئولون الأمريكيون أنهم لم يسمعوا بهذا المشروع، إلا من الرئيس السادات؛ فحين سُئل دونالد براون (رئيس هيئة التنمية الأمريكية) عن الموضوع، قالم: "إن الرئيس أنور السادات تكلم عن مشروع كارتر، ونحن نعتقد أن الرئيس يقترح تقوية وزيادة الاستثمارات في مصر؛ سواء العامة أو الخاصة، من كل الدول التي تساعد مصر".
وهكذا لم يكن مشروع مارشال (أو كارتر) الأمريكي عام 1978، أسعد حظًا من مشروع مارشال العربي عام 1976. ومع ذلك فإن مشروع مارشال العربي لم يكن سرابًا كله، صحيح أن الأموال لم تنهمر كما تصور البعض، ولكن تدفق قدر محسوب من القروض، وكل مخطط استراتيجي، وكذلك الحال مع القروض الغربية في المرحلة الجديدة. الحلم المبدد هو انتظام الأموال الوفيرة الميسرة "لتحقيق الرخاء والتغلب على المشكلات الاقتصادية"، والقدر المتوقع هو قروض تسرع في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية وفق احتياجات "السلام"، أي وفق الاستمرار في نفس المخطط الاستراتيجي بقيادة وكالة التنمية وصندوق النقد والبنك الدولي. وحتى كتابة هذه السطور، لم تتحقق رغبة السلطات المصرية في إعلان التزامات محددة من جهات الإقراض الخارجي لعدد من السنوات (صيغة الكونسورتيوم). وحسب كلمات براون فإن "أمريكا للبنك الدولي (أي لا جديد)، وعن طريقها ستتجمع كل المساعدات، وسيستمر تقديمها إلى مصر عن طريق اتفاقيات ثنائية أو متعددة (أي من الهيئات الدولية) وليس عن طريق خطة شاملة" (132).
بعد المجموعة الاستشارية الأولى تمت رحلة القدس، وبعد المجموعة الاستشارية الثانية وقعت اتفاقية كامب ديفيد. مثل الحدثان في عام 1977 إنهاء لمرحلة، ومثلت المجموعة الاستشارية الثانية في عام 1978 تركيزًا على بناء المرحلة الجديدة بعد إزاحة العقبات، وكذلك كانت اتفاقية كامب ديفيد، ومن بعدها المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
د ـ وفي ختام هذا الفصل نعرض ـ في عُجالة ـ بعض التصورات والتعميمات ـ حول تطورات الصراع العربي الإسرائيلي ـ لم نتابعُ الخطوات المُحددة إلى كامب ديفيد:
إن النفوذ الصهيوني داخل السلطة الأمريكية لا يستند فقط إلى قوة مجموعات الضغط الصهيونية، وقدرتها على الابتزاز وإنشاء شبكة من التحالفات، فكل هذا التحرك يستمد مشروعيته السياسية ـ في التحليل النهائي ـ من خلال التوحد مع الحسابات السياسية لأكثر القوَى عدوانية في المؤسسات الأمريكية، وبالتحديد فإن القوى الصهيونية كانت دائمًا ضد الانفراج الدولي (أو الوفاق)، وحاولت دائمًا أن توسع وتعمل دائرة من ترتبط حساباتهم باتجاه سياسي مشابه داخل الولايات المتحدة. وهذا الموقف متسق تمامًا مع أهداف ومصالح الاستراتيجية الصهيونية. فالانفراج الدولي إذا تدعم بمصالحَ اقتصادية متينة ومتبادلة، وإذا ترجم في اتفاقات سياسية لتقسيم مناطق نفوذ (أي عودة إلى منطق اتفاقات يالطا وبوتسدام في ظل توازن قوَى جديد)، وإذا ترجم أيضًا في ترتيبات لحل المنازعات الدولية؛ نصبح بصدد نظام دولي محكوم، أي في ظل سلام أمريكي ـ سوفيتي مفروض على الكرة الأرضية. وهذا الوضع من شأنه أن يضيق المناورة أمام الأطراف الدولية الأخرى، ويسهل فرض سياسات مُشتركة على هذه الأطراف، ويصعب مبادراتِها لتحسين موقفها النسبي، بالاستفادة من تناقضات الدولتين الأعظم. ووفقًا لهذا المفهوم، فإن كل أصحاب التطلع إلى دور أكبرَ في العلاقات الدولية، يسعون بأشكال مختلفة، ولأهداف متباينة، لمنع الانفراج الدولي من الوصول إلى هذه النتيجة، بل ويسعى بعضها بتخطيط وإصرار ـ إلى تأزيم العلاقات بين طرفي الوفاق، وتصعيد التوتر والمخاطر في مناطق العالم المختلفة. والمؤسسة الصهيونية ضمن هذا البعض (وأيضًا الصين)، فالمؤسسة الصهيونية واعية تمامًا بحقيقة أنه كلما تنامت العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ اتسع التناقض بين ما يمكن أن تمليه الحسابات الاستراتيجية المرتبطة بهذه العلاقات الخاصة، وبين الحسابات الاستراتيجية للصهيونية، وبالتالي يتضمَّن الوفاق ـ من هذه الناحية ـ تراجعًا في قدرة المؤسسة الصهيونية على استخدام سلطة وإمكانيات الولايات المتحدة في اتجاه يدعم مسيرتها الخاصة. وإعاقة الوفاق (أو نسقه إن أمكن) يتحقق داخل الولايات المتحدة طبيعة الدور الأمريكي في العلاقات الدولية، ترتبط مباشرة ومنطقيًّا، بالموقف في منطقتنا. فمُناهِضو الوفاق مع قبول المخاطر المحسوبة المترتبة على فرض كل شروط التبعية على المنطقة العربية، بما في ذلك فرض التوسع الصهيوني، وإغداق المساعدات العسكرية والاقتصادية على إسرائيلَ.
ولا يؤدِّي هذا الطرح ـ بمفهوم المخالفة البسيط ـ إلى استنتاج أن الانفراج، في حدِّه الأقصى، هو بالتالي اختيارنا الأمثل وبالضرورة. فإذا افترضنا أننا أيضًا ـ كأمة عربيةـ أصحاب مشروع حضاري تنموي مستقل (أي أننا مشروع قوة كبرَى في العلاقات الدولية)، وإذا افترضنا حالة تصميم واعٍ وحاسم على التنفيذ، فإن نتائج الانفراج ـ في حدِّه الأقصى ـ لا تناسبُنا نحن أيضًا، ولكن ستختلف حساباتنا بالقطع ـ في إطار هذا الموقف ـ وستختلف تحالُفاتُنا ومناوراتنا عن حسابات وتحالفات ومناورات المشروع المزاحم داخل منطقتنا (المشروع الصهيوني).. هذا التصور العربي (من منظور راديكالي) لا يعني أننا بصدد حرب بالسلاح متصلة، ولا يعني تجاهل حزمة الأدوات المتكاملة التي لا يمثل السلاح إلا جانبًا منها، ولا يعني أن مفهوم المراحل في الصراع المتشعب الممتد غير جائز، إنه يعني فقط أن التحرك الاستراتيجي وفْق هذا التصور نسقٌ متكامل، تتخذ فيه كل الأدوات والمفاهيم مضامينَ وأدوارًا مناسبةً، وأحسب أنه تكفي هذه الإشارة إلى إطار بحث مطلوب؛ لأن مهمتنا لا تمتد في السياق الحالي، إلى اقتحام مثل هذا البحث.
وبالتأكيد، فإن التحرك العربي خلال السنوات الماضية، كان بعيدًا عن مباحث هذا التصور الراديكالي، وعن مخاطر ممارسته. إرادة القتال العنيف - وفْق هذا التصور الاستراتيجي (لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية) - لم تحكمْ تصرفنا. وفي المقابل تحركت المؤسسة الصهيونية بإصرار للتأثير على مُجمل العلاقات الدولية (من خلال الولايات المتحدة أساسًا) على نحو يدعم موقعها في إسرائيلَ، ومع ذلك كان متصورًا، في إطار الأوضاع القائمة على الجانب العربي، ومع حصر المطالب العربية (استراتيجيًّا وليس مرحليًّا) في استرداد الأراضي المحتلة في حزيران/ يونيو 1967، كان متصورًا أن التوصل إلى الهدف الموضوع ممكنٌ.
إن الصهيونية ـ وفْق مخططها الاستراتيجي ـ
لم تتردد أمام اختيار التوحُّد شبه الكامل مع السياسة الأمريكية (دون أن تفقد هُويتها المميزة)، واستعانت بذلك في إزاحة الاتحاد السوفيتي من المنطقة (بكل ما يترتب على ذلك من تهديد للوفاق الدولي، قَبلته السلطةُ الأمريكية). وفي ظل المعطيات القائمة في الأقطار العربية، كان مطلوبًا ـ في المقابل ـ مجرد استفادة مما كان محققًا في العلاقات الدولية (أي لم يكن مطلوبًا أن ندخل تعديلات جوهرية في صيغة هذه العلاقات). ما كان مُحققًا في العلاقات الدولية، ومُنعكسًا في المنطقة، كان يسمح بمشاركة القوَّتين الأعظم في التوصل إلى التسوية، وما كان مُحققًا في العلاقات الدولية كان يسمح في الوقت نفسه ـ بهامش واسع نسبيًّا حركة الجانب العربي؛ فصيغة التسوية (في إطار التنافس المحكوم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) كانت ستعكس بالضرورة توازن القوى بين الأطراف المحلية، وتوازن القوى بين القوتين الأعظم داخل المنطقة، ورغبةُ كل طرف منهما في تحسين موقفه على حساب الطرف الآخر، وفي مواجهة الحرص الإسرائيلي على احتكار الدعم الأمريكي في المنطقة (الذي يرتبط بخط استراتيجي متكامل) كان مطلوبًا مجرد جذب الاهتمام الأمريكي إلى الحد الذي يكفي لترجيح المطالب العربية المُلخصة في استرداد الأراضي المحتلة عام 1967. وجذب الاهتمام لم يكن مطلوبًا فقط، ولكن كان ممكنًا أيضًا في ظل تغير محسوس في توازن القوَى العسكري بين القوات المسلحة العربية، والقوات المسلحة الإسرائيلية، وفي ظل الإمكانيات الفعلية لتحرك عربي محدود ضد المصالح الأمريكية، وفي ظل وجود سوفيتي ينذر الولايات المتحدة باحتمالات مقلقة. وكل هذه المتغيرات وفرتها حرب تشرين الأول/ أكتوبر الخالدة فعلاً، وكان ممكنًا ـ في ظل هذه المتغيرات ـ تعميق التناقض بين السلطة الأمريكية والسلطة الصهيونية.

ويبدو أن الإدارة الأمريكية في فترة نيكسون (وهي فترة تصاعد الوفاق) أحاطت بالتناقُض الكامن بين استمرار صيغة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية المقروضة منذ 1967، وبين منطق الوفاق. فالعناد الإسرائيلي يدفع أطرافًا عربية مُختلفة إلى تكثيف تعاونها مع السوفييت، وبالتالي يزيد نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة. واستمرار إسرائيل في احتلال الأراضي قد يدفع السوفيت إلى التورط في مساندة جادة لأعمال عسكرية عربية، وهذا يهدد أسس الوفاق، ويهدد توازنات القوَى الدولية المقبولة أمريكيًّا. ونعتقد أن الإدارة الأمريكية صارحت القيادة الإسرائيلية بكل ذلك، دون أن تتلقَّى ردًّا إيجابيًا. كانت إسرائيل تدرك ـ بقرون استشعارها ـ أن تصاعد الوفاق، وتوحده شيئًا فشيئًا مع مفاهيم الأمن القومي الأمريكي والمصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، يعني إضعاف قوَى التشدد التي تتحالف معها، ولكن ظلت تأمل في نجاح هجماتها المضادة، وظلت محتمية بمقولة إن مخاطر القتال أو التحرك العربي ضد المصالح الأمريكية، هو احتمال لا يمكن أن يتحول إلى فعل، وبالتالي يمكن استمرار الأمر الواقع (احتلال كل أراضي 1967) دون مخاطر حقيقة، وبالتالي لا تعارض بين مصالح إسرائيل في استمرار احتلال الأراضي، وبين مصالح الولايات المتحدة في استقرار المنطقة. وإدارة نيكسون ـ فيما يبدو ـ ظلت ترفض هذا التصور، دون أن تتمكن عمليًّا من فرض رأيها. وقد لاحظنا من متابعة ما عرفناه من أحداث، قُبيل حرب تشرين الأول/ أكتوبر وأثناءها وبعدها - شواهدَ تؤيِّد هذا التحليل (راجع الفصل السادس)، وهذا التحليل يتضمن اعتمادًا على نتائج القوة العربية وتعاونها مع السوفيت، من أجل تعميق التناقض المُحتَمل بين أمريكا وإسرائيل، ومن أجل حفز الولايات المتحدة على التحرك.
ولكن يبدو لنا أن استراتيجية القيادة المصرية (99 % من ورق اللعب في يد الولايات المتحدة) قامت على تقديرات خاطئة أو مُجتزأة في الإطار الذي طرحناه، واعتمدت في هذه التقديرات، على اتصالات سرية ووعود في فترة نيكسون. وقد بدأ في إطار ذلك تحرك الولايات المتحدة (وعلى رأسه كيسنجر بدوره المشبوه)، ولكن كافة التطورات والتورطات التي تلت ذلك، أعادت كل عناصر القوة الفعلية في الموقف العربي إلى موقعها السابق؛ كاحتمالات نظرية يمكن استبعادها، بعد أن برزت في تشرين الأول/ أكتوبر 1973 باعتبارها خطرًا محسوسًا، وهذه النتيجة وحدها كان من شأنها دعم موقف مجموعات الضغط الصهيوني داخل الولايات المتحدة (بعد أن زعزعته حرب تشرين الأول/ أكتوبر)، وأضيف إلى هذا انقلاب وُترجيت، وأثر كل ذلك على سياسة الولايات المتحدة قبل الوِفاق، وأغرب ما في هذا السياق تمثل في تدافع القيادة المصرية في أداء اللعبة الإسرائيلية؛ فالقيادة المصرية تنافست مع إسرائيل في تأزيم العلاقات السوفيتية الأمريكية، وفي حفز الولايات المتحدة على تصعيد التوترات الملتهبة في أفريقيا والعالم العربي وآسيا، وهذا التنافس يمكن طبعًا أن يحقق للقيادة المصرية كسبًا تكتيكيًّا محدودًا داخل المؤسسات الأمريكية، ولكنه في إطار المخطط الاستراتيجي لإضعاف الوفاق (أو نسفه إن أمكن) يكون لصالح انفراد الولايات المتحدة (وإسرائيل من الباطن) بمنطقتنا، وقد انعكس ذلك على صيغة التسوية المحققة.
في هذا الإطار كان حتمًا أن تفشل وتستحق محاولات كارتر لزحزحة إسرائيل عن مواقفها، إلى الحد الذي استهدفته إدارة كارتر. وفي هذا الإطار من توقف الدور الأمريكي، ومن الضغوط العسكرية والاقتصادية (مع التمويه والغواية)، توجه السادات إلى القدس للتفاهم مباشرة مع قادة إسرائيل، ودون وسيط أمريكي، وقد نفترض هنا أن القيادة المصرية ظلت تراهن على التناقض الإسرائيلي ـ الأمريكي، ولكن بدلاً من التركيز على الولايات المتحدة لخلق هذا التناقض، انتقلت إلى التركيز على إسرائيل للوصول إلى النتيجة نفسها، ونفترض هنا أيضًا أن إسرائيل لا بد أوحت بما يُغري على ذلك، وقد أعلن السادات بعد رحلة القدس: "سوف يلمس الجميع أبعادَ هذا التغيير في الأسابيع القليلة المقبلة" (133). وترتبط بهذا المسعَى، المبادرةُ السريعة إلى الدعوة لمؤتمر القاهرة (في 26/11 أي بعد خمسة أيام من عودته من القدس). ونَشرت نيويورك تايمز أيامها، أن السادات رفض طلب الرئيس الأمريكي بعدم الإعلان في خطابه أمام مجلس الشعب عن هذه الدعوة. وعبَّر جوزيف كرافت (واشنطن بوست) عن رأي عدد من المعلقين في تلك الفترة، عندما كتب أن "التحول الدبلوماسي المفاجئ في دبلوماسية الشرق الأوسط مؤخرًا، سيعمل على إضعاف الدور الأمريكي في المنطقة، وأن الحكومة الأمريكية تزحف لكي تعود إلى اللعبة" وروَّجت وجهة النظر هذه، لفكرة أن السادات كان يعتمد - من قبلُ - على الولايات المتحدة لحمل إسرائيل على قبول شروطه، ولكنه يقول الآن إن علَى مصر أن تقوم باتصال مباشر مع إسرائيلَ أيضًا (134).
وكما كان حتمًا ـ في ظل مجمل التطورات الحادثة ـ فشل محاولة تعميق التناقض من خلال جذب الولايات المتحدة وإبعادها عن إسرائيل، كان حتمًا – أيضًا - أن تفشل المحاولة من خلال جذب إسرائيل وإبعادها عن الولايات المتحدة؛ فإسرائيل أوعَى من أن تقع في هذا الخطأ الاستراتيجي. لقد لوحت بهذه "الجزرة" قبل زيارة القدس، وبعد تحقيق الغرض، عادت إلى تأكيد تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، مدعَّمة بما حققته من نصر تاريخي، أثبت أن عنصر الزمن كان لصالحها، وأثبت أن موقفها التفاوضي المتشدد كان يستند إلى حسابات واقعية. فزادت بالتالي سطوتها في المؤسسات الأمريكية. لقد أثارت رحلة السادات إلى القدس ضجةً هائلة، وترحيبًا ضخمًا في الدول الغربية (على مستوى رسمي وشعبي). وأجهزةُ الإعلام (الخاضعة للنفوذ الصهيوني) أسهمت إسهامًا كبيرًا في هذه الضجة. ولكن ينبغي أن نفرِّق هنا بين احتفاء بعض القوَى المتطلعة إلى قدر معقول من الاستقرار في الشرق الأوسط، يضمن انتظام حصولها على النفط، ويبعدها عن مخاطر المصادمات الدولية العنيفة، وبين احتفاء القوَى الصهيونية الراديكالية التي أمسكت منذ اللحظة الأولى جوهر هذا الحدث التاريخي، وأنه يعني اعترافًا مُعلَنًا من طرف القيادة المصرية بحقيقة توازن القوَى، وبحقيقة أن تل أبيب أصبحت مع واشنطن مفتاحًا أساسيًّا لأية تسوية. وكان منطقيًّا أن تلعب القيادةُ الصهيونية على عامل الزمن؛ لكي يتبخر ما تولَّد عن الزيارة من ضجة وآمال، ويبدأ البحث على أساس الوقائع الفعلية التي أدت إلى رحلة القدس، وتكثفت بعد هذه الزيارة. فالرحلة حطمت الحاجز النفسي كما يقول السادات، أي نالت من الشعور بالعداء والمرارة، وإرادة النضال في أكبر قطر عربي، بينما الأرض لا زالت مُحتَلَّة. وحطمت مع ذلك أي حد من حدود الالتزام بالتحرك العربي المشترك. وبعد كل ما أُثير حول الرحلة، لم يعُد سهلاً على السادات أن يتراجع، مهما صادف من عقبات، وكان طبَعيًّا أن ينعكس كل ذلك في المباحثات وفي الابتزاز؛ فمسألة أن الاعتراف وتطبيع العلاقات تأتي قبل الانسحاب، أصبحت تحصيل حاصل بعد الزيارة، وفي خطابه العلني فِي القدس، أسقط السادات التزامه بمنظمة التحرير الفلسطينية. ولكنْ، لم تكن هذه التنازلات تكفي للتعبير عما قدرته إسرائيل مناسبًا، لما آل إليه توازن القوى؛ فاستمرت مع لعبة الزمن، واثقة من هبوط المفاوض المصري إلى المستوى الذي عينته، مُستعينة بقدرتها على جذب الولايات المتحدة لدعم مواقفها الأساسية(135).
اضطرت القاهرة إلى تأجيل المؤتمر الذي دعت إليه، وحين انعقد (14/ 12) كانت إسرائيل والولايات المتحدة قد فرضتا أن يكون التمثيل على أدنَى مستوى، وأعلنت إسرائيلُ أن مهمة وفدها فنية، إلا إذا طُرحت فكرة التسوية المنفردة، وفي 24 كانون الثاني/ يناير انعقد لِقاء الإسماعيلية بقيادة بيجن والسادات، ووضح في اللقاء أن إسرائيل
لم تعدل شيئًا في برنامجها بَعد "المُبادرة". كانت نصوص المشروع الذي تقدَّم به بيجِن في الإسماعيلية تناول في جزئها الأول مستقبل "يهودا والسامرا" وقطاع غزة واقترح تشكيل حكم ذاتي إداري يشترك فيه الفلسطينيون العرب. والجزء الثاني، كان حول التسوية مع مصرَ، وذكر بيجِن المطالب التالية:

- إن تجرد مناطق معينة من سيناء من السلاح،
ولا يجتاز الجيش المصري الممرات، كما يستمرُ سريان اتفاق خفض القوات على المنطقة المحصورة بين الممرات وقناة السويس.

- أن تبقى المستوطنات الإسرائيلية في أماكنها وفي وضعها القائم، وتكون مرتبطة بالإدارة والقضاء الإسرائيليين، وتقوم بالدفاع عنها قواتٌ إسرائيلية.
- أن تحدد فترة انتقالية لعدد من السنين، يرابط خلالها جيشُ الدفاع الإسرائيلي وسط سيناء، مع إبقاء مطارات وأجهزة إنذار إسرائيلية لحين انتهاء هذه الفترة الانتقالية والانسحاب للحدود الدولية.
- ضمان حرية الملاحة في مضايق نيران، وتعترف الدولتان في إعلان خاص بأن هذه المضايق هي ممر مائي دولي يجب أن يكون مفتوحًا للملاحة لأية سفينة، وتحت أي علم ـ سواء بواسطة قوة تابعة للأمم المتحدة لا يمكن سحبها إلا بموافقة الدولتين، وبِناء على قرار بالإجماع لمجلس الأمن، أو بواسطة دوريات عسكرية مصرية إسرائيلية مشتركة (136).
هذا الطرح هو ما قدمته إسرائيل في إطار توازن القوَى كما تصورته، وهو يعني بوضوح حلاً منفصلاً مع مصر. ويبدو أن القيادة المصرية كانت قد تصورت أن الضجة التي أحدثتها زيارة القدس غيرت توازن القوَى، وأعطت قوة دفع تمكنها من التشبث بمدخل أشمل للتسوية، وفي كل الأحوال كان مفهومًا بين القوَى السياسية في مصر، على كل المستويات، وبكل المقاييس - مخاطرُ التورط في حل منفصل، ولكنَّ الأمر الذي أحدث زلزالاً، هو أن بيجين
لم يكتفِ أيامها باقتراح حل مصري إسرائيلي، فحتى بالنسبة لمصر، أصرَّ على أن تكون السيادة المصرية على سيناء شكلية، بل وأصر على بقاء المستوطنات، ولكن أيضًا مقلقًا؛ فالفخ الذي وقعت فيه القيادة المصرية سيرغمُها قطعًا على قبول جوهر ما تقصده إسرائيل، وقد احتفظت إسرائيل بورقة واحدة كانت على استعداد للتنازل عنها في اللحظة المناسبة لإنهاء الصفقة.

بعد فشل مباحثات الإسماعيلية، وصل كارتر إلى أسوان (4 كانون الثاني/ يناير)، وبعد مباحثاته عادت اجتماعات اللجنة العسكرية في القاهرة، واللجنة السياسية في القدس، وفشلت الأخيرة (وبحضور فانس) في مجرد إعداد جدول أعمال، وطلب السادات من الوفد المصري أن يعود إلى القاهرة (18 كانون الثاني/ يناير)، فوجهت الدعوة إليه لزيارة واشنطن، "ونجح كارتر ـ أثناء الزيارة ـ في الحصول على وعد من الرئيس السادات بالعمل على استئناف المفاوضات مع البعد عن التحولات المفاجئة، وعن الدبلوماسية العلنية"، وفي الوقت نفسه، حوى البيان الصادر عن البيت الأبيض حول الزيارة، نصًّا على أنه لا يمكن تحقيق السلام العادل والدائم، دون حل المشكلة الفلسطينية، وكذلك على أن التسوية يجب أن تُبنَى على "أساس جميع مبادئ القرار رقم 242 بما فيها انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ محتلة عام 1967"، وينطبق هذا على جميع جبهات الصراع، كذلك أعلنت الولايات المتحدة عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة (137). وطبعًا نص البيان الأمريكي ـ في المقابل ـ على التزام الولايات المتحدة التاريخي بأمن إسرائيل إلى جانب تأكيده الأهمية استئناف المفاوضات وإقرار السلام الشامل وإقامة العلاقات الطبيعية.
وتعبيرًا عن الموقف الأمريكي، وتجنبًا "للدبلوماسية العلنية"؛ بعثت الولايات المتحدة بوسيط يحافظ على قوة الدفع، ويعمل على تقريب وجهات النظر، وتعبيرًا عن عدم الجدية؛ كان الوسيط الأمريكي، ألفريد أثرتون الموظف في الخارجية الأمريكية. وبالتالي كانت الرحلات المكوكية مجرد مزيد من كسب الوقت للمفاوض الإسرائيلي، ومزيد من ترويض المفاوض المصري؛ لكي ينكمش إلى المقاس المطلوب.
وأثبتت الولايات المتحدة مرة أخرى ـ رغبتها وقدرتها المحدودتين في الابتعاد عن الخط الإسرائيلي في مؤتمر ليدز بحضور وزارة الخارجية للولايات المتحدة ومصر وإسرائيل، فغامر السادات بمحاولة اللعب على التناقضات في قلب إسرائيل مباشرة، وتمثل ذلك في اتصالاته مع شيمون بيريز (مستعينًا بالدولية الاشتراكية) ثم عيزرا فايتسمان (138)، وكان كل ذلك مواصلة لقوة الدفع نحو ما أرادته إسرائيل بالضبط: الحل المنفرد.
وـ و... في آخر المطاف، وصل السادات (5 أيلول/ سبتمبر) إلى كامب دافيد محاصرًا من كل جانب، والسرية التي فُرضت على مباحثات كامب دافيد، تثبت تمامًا أن كل ما يقال عن قدرة الصحافة وأجهزة الإعلام في الدول الغربية، كلام مبالغٌ فيه جدًا، وتثبت أن أغلب ما يصلنا من معلومات هو فقط ما تسمح بإذاعته مراكز السلطة الحقيقية في تلك الدول. ولكن بعيدًا عن تفاصيل المساومات والضغوط العنيفة التي تعرض لها المفاوض المصري (التي لا نعرفها ولا تهمنا كثيرًا في إطار تحليلنا العام)، فإن الحصاد المؤكد، هو أنه قَبِل النتائج المنطقية لمجمل سياساته، أي قبل جوهر العرض الذي قدمه بيجِن في مباحثات الإسماعيلية. لم يكن الأمر سهلاً؛ ولذا طالت المباحثات، وقال بيجِن يوم توقيع الاتفاقية ـ بسخرية واضحة ـ إن "المباحثات واجهت لحظات صعبة، بل حدث كالمعتاد أن ألمح شخصٌ ما، إلى أنه ربما يرغب في أن يحزم أمتعته ويعود إلى دياره" (139). ولكن ما كان ممكنًا أن يعود الرجل بعد كل ما فعل صفرَ اليدين، وما كان معقولاً أن تترك القيادة الإسرائيلية فرصة الحل المنفرد مع أكبر دولة عربية ـ مقابلَ سيناء تفلت من يدها (وهي تدرك أنه يصعُب أن تحصل على أكثر من ذلك عمليًّا، في وجود الدور الأمريكي الذي لا يمكن أن تُلغي وزنه تمامًا في التسوية)، ويمكن أن نتصور أسباب تقلصات كامب ديفيد، والتي بلغت الذروة بإعلان الرئيس السادات لنيته في العودة، على ضوء ما تسرب على لسان السادات نفسه؛ فقد اعترف بأنه قرر صبيحة يوم الجمعة (15 أيلول/ سبتمبر) أن يترك المؤتمر، ولكن أسرع كارتر إلى زيارته، وبعد رُبع ساعة، كان الرئيس كارتر، قد أقنعه بالعدول عن ترك المفاوضات، ومن ثم كانت بداية جديدة، وتكثفت الجهود والاتصالات، وتواصلت حتى آخر لحظة قبل توقيع الاتفاق، وقد رفض السادات ـ بالرغم من إلحاح رؤساء التحرير الأمريكيين ـ أن يفصح عن الوسائل التي لجأ إليها كارتر لإقناعه بالعدول عن ترك المؤتمر، ورفض الإفصاح عن موضوع الأزمة(140)، ولكن أشار إلى ذلك في مناسبة لاحقة، حين قال إنه "يجب أن نسجل أن مستر بيجِن أبدَى في آخر ساعات مؤتمر كامب دافيد تفهُّمًا صحيحًا لموضوع المستوطنات"(141). ويمكن أن نتصور على ضوء ذلك أن بيجِن استبقَى في يده، حتى آخر لحظة ورقة المستوطنات، بل ولعب بها إلى الحد الذي أوصل المؤتمر على حافة الانهيار. ولا يبدو أنه أسقطها بعد ذلك ـ في مقابل إسقاط مصر لمبدأ التسوية العربية الشاملة، فأغلب الظن أن الجانب المصري تنازل في مرحلة مبكرة من المباحثات عن هذا المبدأ مقابل عودة السيادة المصرية الناقصة على سيناء.
وبشكل عام، أعتقد أن عِزرا فايتسمان عبَّر ـ إلى حد كبير ـ عن الحسابات الإسرائيلية لما بعد كامب دافيد، حين قال إنه "يتعين الحفاظ على جيش قوي؛ حتى يصبح طريق السلام بلا عودة، ويجب القول أيضًا بأننا إذا نجحنا في إقامة علاقات مع مصر خالية من التوتر، وإقامة روابط اقتصادية وسياحية، مع حرية المرور، فإن ذلك يعادل تمامًا السيطرة على الأراضي اللازمة للدفاع عن أنفسنا" (142). فقط ينبغي أن نفهم الكلمات بمعناها الصحيح؛ فالاحتفاظ بجيش إسرائيلي قوي (مُدعَّم بأسلحة نووية) لضمان الأمن، يتضمن في المقابل وبالضرورة الاحتفاظ بجيش مصري ضعيف. وقد تحقق ذلك (اختلال التوازن العسكري) كأمر واقع خلال السنوات التالية، كان منطقيًّا أن تطلب إسرائيل تضمين الاتفاقيات شروطًا قاطعة، وملزمة، تتعلق بحجم وتسليح القوات المسلحة المصرية (143)، ولا ينبغي أن ننسَى أن هذه النقطة المحورية كانت نصًّا فُرض دائمًا على مصر بعد كل هزيمة كبرى. حدث هذا في اتفاقية 1841 التي كسرت تجربة محمد علي، وحدث هذا بعد كارثة الديون وانكسار الثورة العرابية (أي بعد الاحتلال الإنجليزي عام 1882).
وبالنسبة للعلاقات الخالية من التوتر، ينبغي أن تُفهم على أنها تعني محاولة إقامة محور ثابت، بديلاً عن المحور الإسرائيلي الإيراني، والروابط الاقتصادية والسياحية، هي ضمان استمرار هيكل مشوه وتابع للاقتصاد المصري. والأمن الإسرائيلي لا يعتمد ـ في التحليل الأخير ـ على مجرد مناطق منزوعة السلاح؛ فأساس الاطمئنان الاستراتيجي لإسرائيل (بالنسبة لمستقبل هيمنتها، وليس لأمنها فقط)، يقوم على عزل مصرَ عن الأمة العربية، وعلى أن تكون مصر ضعيفةً عسكريًّا، ومُشوَّهة، وتابعة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. ويبدو أن المستقبل، سيكشف عن تنازلات عديدة تمت في هذا الاتجاه ـ دون أن تعلن ـ مقابل السيادة الناقصة على سيناء وإخلاء المستوطنات. وما أُعلِن على مراحلَ بالنسبة لترتيبات البترول، ثم مياه النيل، والمشروعات المشتركة في سيناء، أمثلة على هذا التصور.
ز ـ بقيت - بعد كامب دافيد - محاولاتٌ من القيادة المصرية لتحسين موقفها، فتوالت التصريحات حول ضرورة الربط بين مراحل انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، وبين مراحل المشروع المهلهل للحكم الذاتي. أيضًا توالت التصريحات حول أن الاتفاق المصري ـ الإسرائيلي لا يأتي قبل التزامات مصر العربية. ولكنْ مع مزيد من تدهور ميزان القوى، لم يكن ممكنًا انتزاع مكاسبَ جديدة، ومع التطورات الدرامية في إيران؛ أصبح التوصل السريع إلى عقد معاهدة، مسألةً بالغة الإلحاح في استراتيجية الولايات المتحدة، وانعكس ذلك أيامها في رحلة براون (وزير الدفاع الأمريكي) ليطرح "فكرة إقامة حلف غير رسمي، يضم كلاً من مصر والسعودية والأردن والسودان وإمارات الخليج وإسرائيل". وكان هذا في إطار ما أُسمِي في بعض الصحف الإسرائيلية: "الخط الأمريكي الجديد الذي كشف الأمريكيون أنفسهم عنه". ويتميز هذا الخط الجديد ـ "ربط الجانب الأمريكي بين محادثات السلام الإسرائيلية ـ المصرية، وبين إقامة جهاز دفاع استراتيجي جديد في الشرق الأوسط" (144). وقد نجحت إسرائيل في توظيف المأزق الأمريكي لتحقيق شروطها كاملة، فجاءت المعاهدةُ ـ بتدخُّل مباشر من كارتر ـ مطابقة هذه الشروط (145)، وتبخرت التصريحات والاعتراضات المصرية، وانحصرت المشاكل في مضمون "تطبيع العلاقات".
* * *
و.. إذا أردنا في النهاية بلورة الاحتمالات المختلفة التي شهدتها منطقتنا، في إطار الصراع العربي الإسرائيلي على ضوء المسيرة التي حاولنا أن نتابعها، نقول الآتي:
- كان هناك مشروع لفرض السلام الإسرائيلي، بعد هزيمة 1967، أوقفه الصمود العربي، والرفض الإيجابي للهزيمة العسكرية، الذي بلغ ذروته في حرب 1973.
- ـ مشروع السلام الأمريكي - السوفيتي (أو السوفييتي- الأمريكي) بمشاركة الأطراف المحلية القادرة. كان هذا المشروع احتمالاً ممكنًا بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر، أجهضته الولايات المتحدة وإسرائيل والقيادة المصرية، مع أطراف عربية أخرَى.
- مشروع السلام الأمريكي. وقد فهم أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر، وفي الفترة التالية لها، أن التحرُّك الأمريكي يستهدف هذا الحل، ولكل مجمل التطورات، وعلى رأسها الدور الصهيوني، أسقط هذه الصيغة.
- السلام الأمريكي - الإسرائيلي، وهو ما كرسته معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (وملاحقها المنشورة وغير المنشورة)، التي وقعها كارتر مع رئيس مصر وإسرائيل. هذه الصيغة لم تستقر بعدُ، ويحاول طرفاها فرض مضمونها الأساسي على كل الأمة العربية، وعلى المجتمع الدولي.
وعنوان كل مشروع من المشروعات الأربعة السابقة يقصد تحديد القوة أو القوَى التي تملك قرار الحرب والسلم في المنطقة. وتملك بالتالي نوع الاستقرار المحقق. ويُستنتج من هذا، أن كل احتمال من هذه البدائل يتضمن تشكيلات بنيوية مناسبة (سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية). وبمقياس الأرض، وهو - بعدُ - هام في الصراع العربي الإسرائيلي (حيث إننا في مواجهة مشروع توسعي استيطاني)، يبدو أن البديل الأول كان يستهدف الاحتفاظ بكل الأراضي التي استولى عليها عام 1967، وفرض تسوية ـ مع الزمن ـ على أساس هذا الأمر الواقع، ونعتقد أن المشروع الثاني كان من شأنه استرداد كل الأراضي التي احتُلَّت عام 1967 (على الأقل). والمشروع الثالث كان يَعِد بعمليات انسحاب جوهرية من أراضي 1967، والمشروع الأخير لم يكن قادرًا على انتزاع شيء أكثرَ من سيناء، وبالكاد.







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس