عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2011, 02:47 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
جلال داود

الصورة الرمزية جلال داود

إحصائية العضو







جلال داود غير متواجد حالياً

 

افتراضي بيت العز يا بيتنا

بيت العز يا بيتنا
***
كنتُ أول مَن أطلق صرخة ميلاد جديد في بيتنا ..
فأنا الأولى في ترتيب الأسرة ...
يَلِيني في الترتيب أخي ( محمود ) المشاكس ..
على الأقل بالنسبة لي ..
طالما تعاركنا و تلاسناَّ ...
أبي كان يقف إلى جانبي دائماً .. حتى لو كنتُ مخطئة .. ثم ينفرد بي ليريني الخطأ في تصرفي ..
طريقته في معالجة أخطائي قادت خطواتي طوال حياتي ..
و أمي تقف إلى جانب ( محمود ) .. و لكنها في النهاية تحتضنني و هي تتمتم :
( ربنا يخليك .. إنتي بِنتِّي و أختي و حبيبتي ) ..
فأنْدَسُّ بين أحضانها ناسية كل مناكفات أخي
أحيطها بذراعيَّ الصغيرتين و أنا أستمريء مداعبتها لضفائر شعري.
أتَذَكَّر تلك الأيام .. و رغم أنها بعيدة و موغلة في البُعْد و ترقد في ركن بعيد بالذاكرة .. إلا أن الدموع تأبى إلا و أن تندلق أمام زوجي و أبنائي ..
ترتيبي الأُسري فَرَضَ علي أن أكون بالفعل إبنة و أخت لأمي في آنٍ واحد..
تجرَّعْتُ طعم المسئولية منذ نعومة أظافري ...
المرة الوحيدة التي صرخ فيها أبي في وجه أمي .. أُغْمي عليّ ..
لم أتحمل فكرة أن يغضب أبي على أمي .. مجرد غضب .. ناهيك عن صراخ و تشنج ..
يومها عرفت ما يكِنُّه أبي لنا .. ..
فعندما فتحتُ عيني بعد نوبة إغمائي.. رأيتُ دموعه تنزلق غزيرة و هو يُقبِّل جبيني و يضمني إلى صدره في جزع ..
كنت أتنقل بين إخوتي أستذكر لهم دروسهم ..
كل يوم من أيام النتائج كان يوم إختبار لي.
رسوب أيٍ منهم في مادة واحدة كانت تجلب لي نظرة عتاب صامتة من أمي و أبي ..
نظرة كنتُ أتمنى أن لا أراها ، فقد كانت تملؤني إحساساً بالإحباط و خيبة الأمل.
فأضاعف تعنيفي لإخوتي فخافوني و هابوني رغم حبهم الشديد لي.
في البداية كنت أتذمر من ثقل هذا العبء ، و لكن بمرور الأيام عرفت حكمة أبي و أمي ..
فبعد موتهما ، صرتُ الملاذ الآمن لإخوتي ، شقيقاتي و أشقائي ..
يهرعهون إلي في كل كبيرة و صغيرة ، حتى مَنْ تزوج منهم ...
و بنفْس الصبر الممتد الذي أدمنته ، أعالج كل الأمور صغيرها و كبيرها بكل أناةٍ و روية ..
أزواج شقيقاتي يكرهونني و يحبونني في آنٍ واحد ..
و زوجات أشقائي يتحاشيْن عرض مشاكل بيوتهن علي ، و لكنهن في النهاية يأتين رغماً عنهن .. فوجهي الودود و صبري اللامحدود يجبرهن على ذلك ..
لا تنفك ذكرى أمي و أبي المجيء و الذهاب أمام مخيلتي ..
أبي كان مشهوداً له بالكرم ، بل الكرم حد البذخ ، بيتنا كان لا يخلو من الضيوف ..
أقاربنا من ناحية أمي ..
و من ناحية أبي ..
و من أصدقائهما القدامى ...
كمْ أشتاق لروتين حياتنا ذاك ..
فكل شيء كان محسوباً بدقة...
الغداء يكون على ( الطبلية الخشبية ) بمجرد أن يدخل أبي و هو يمازح ( نجوى ) آخر العنقود ..
ثم يجتاح السكون كل أرجاء البيت عند دخول أبي غرفته ليأخذ قيلولته ..
تدب الحياة في البيت من جديد ما أن يصحو أبي و هو يغني و هو ياخد ( حماماً ) ..
( ديوان ) أبي كان واحة وارفة ..
فأحياناً نسمع أحد الأقارب ( يلقي على مسامع الحضور بيتا من الشعر أو كوبليه من أغنية ) .. و أبي يجامله ( الله .. الله .. عظمة على عظمة ) ..
و أحياناً نسمع قهقهته لنكتة قالها أحدهم بصوت خفيض ..
و أحياناً تتعالى الأصوات و تنخفضف عند فض نزاع أسري دائما ما كان أبي يكون فيها الفيصل ..
أول مرة أسمع أبي يقول : ( على الطلاق لو ما رجعتَ عن كلامك ، أنا لا أعرفك و لا تعرفني بعد اليوم ) .. فقد حاول أحد أبناء العمومة أن يخرج محتجاً بعد أن رفض حكم أبي في مشكلة أسرية ..
شعرت بخوف غامض من كلمة الطلاق .. و نظرت إلى أمي فوجدتها تبتسم و هي تقول في ثقة :
هو أبوك يقدر يطلقني ؟ دة تهويش .
منذ ذلك اليوم و أنا أقول لأبي عندما تلوح نُّذُر حل مشكلة في الديوان : بابا ، أرجوك أوعى من التهويش.
شهر رمضان كان مرتَّباً بعناية في بيتنا .. لم يكن أبي يلبي أي دعوة للإفطار إلا فيما ندر .. بينما كان بيتنا معظم أيام الشهر المبارك يعج بالضيوف ..
كان يحرص على أن تكون كل الأصناف متوفرة ..
يقف مع أمي في المطبخ يحادثها و هي منهمكة في عملها ..
يسهر .. و ينام .. و يتسحر و يصلي الصبح حاضراً و يذهب إلى عمله في موعده ..
كنا نحسبه أحياناً لا ينام أبداً .. كان يفعل كل شيء دون أن نعرف كيف يتسنى له ذلك خلال اليوم.
عَوَّدَنا على أن يأخذنا كلنا لشراء ملابس و مستلزمات العيد .. لا يتذمر و لا يكل و لا يمل ..
يأتي بخروف الأضحى بنفسه ..
يصلي صلاة العيد و يتابع الذبح و السلخ و التقطيع و التكسير.
( صلاح ) أصغر الأشقاء ، عندما فاتحني في أمر زواجه ، بكيت بكاءاً مراً حتى أشْفَق علي ..
فقد كنت أتمنى أن يكون أبي و أمي على قيد الحياة حتى نجلس سوياً للتشاور كما فعلا في كل زيجاتنا.
رغم أن زمن أمي و أبي لم يكن ذلك الزمن الذي أتاح للفتاة كامل الحرية في كل أمورها ..
إلا أن أبي كان يعيش زمناً غير زمانه ..
كل من تقدم لنا .. كان يقول له : أسمع راى البت بالأول ..
ثم يحرص على إن يكون المتقدم مرغوباً فيه من صاحبة الشأن..
ثم بعد ذلك يحدِّث بقية الأســــرة ( تحصيل حاصل ) في زمـن كان لرجـال الأســــرة الكلـمة الأولى و الأخيرة في الرغبة بالزواج من بنات العمومة أو من عدمها.
هذا الأمر خلق مشاكل عدة لأبي مع أشقائه ..
و لكنه كان حاسماً و لا يتراجع عن كلمة الحق .. لذا كان يهابه الجميع ..
تركْنا لشقيقي صلاح بيت الأسرة ليسكن فيه مع زوجته ..
يوم عرسه الذي إحتفلنا به في بيت الأسرة .. و بينما كان الكل غارقاً في الفرحة ..
كنت أجوب أركان بيتنا ..
كأنني أستنشق عبق أمي .. و رائحتها المميزة.
أتخيلها تحمل ( المبخرة ) و هي ترش على الجمرات ( بخورها المفضل ) و هي تتمتم بأدعية و أوراد خاصة بها ..
في غرفة أبي و أمي لا زال الدولاب يقبع في مكانه .. و بداخله ترقد بعضاً من ملابسهما.
و ( سجادة ) الصلاة معلقة لا تزال بمسمار على الجدار .. و تعانقه مسبحة أمي العتيقة المصنوعة من خشب الصندل.
و صورة بالأبيض و الأسود أُلْتُقِطَتْ لهما في القاهرة عندما ذهبا بجدّي في رحلة علاج ..
كم كانت تحب فستانها الأخضر هذا.
إلتقطتْ أذناى صوتاً هامساً كصوت أمي يهمس في أذني مندلقاً من المجهول : ( الله يسعدك بأولادك و يديك العافية .. عافية منك لله و الرسول و دنيا و آخرة ..)
خنقتْني عبرة .. و وقفتْ دمعات على أطراف المآقي سرعان ما إختزلتها بتكملة تجوالي في البيت الذي تجرعنا فيه هناءاً بنكهةٍ لن تزول.
و طافت بمخيلتي حينئذٍ إبتسامة أبي التي كانت تنساب دائماً لتؤكد كلام أمي ..
دلفتُ إلى المطبخ .. حيث تلقيتُ أولى دروس أمي في التدبير المنزلي ..
لك الله يا أمي .. و كأنها أمامي تتذوق طبيخها .. ثم تعطيني أيضاً لأتذوق و هي تنظر إلي منتظرة حكمي ..
عندما وصلتُ إلى طرف الصالة التي كانت تجمعنا عندما لا يكون هناك ضيوف ..
وجدت أخي ( محمود ) جالساً في الظلام .. لم أتبيَّن ملامحه في البداية .. حسبْته ضيفاً من الذين أتوا للعرس .. و لكن عندما سمعت صوت نحيبه المكتوم .. عرفته .. فأسرعت نحوه ..
محمود ؟ في إيه ؟؟؟
لم يمهلني .. بل إرتمى في حضني كطفل صغير .. فهو أيضاً فاضت شجونه فتجول في مرتع الصبا الحميم..
فأخذته في حضني في عناق طويل و طويل جداً .. أهدهده كطفلٍ منتحب.
ثم بلا سابق موعد .. وجدت أن كل شقيقاتي و أشقائي قد إجتمعوا في نفس الصالة ..
هذا يقول للآخر : يا أخوانا عيب كدة .. الناس برة فرحانه بعرس صلاح ..
ثم لا يتمالك نفسه فيروح في بكاء ... فيعانق هذه ..
و هذه تأخذ ذاك لتضع رأسه في حجرها .. بينما تمسح دموعها ..
لم يستفيقوا إلا عندما صرخت فيهم : كفاية .. كفاية
و هو صوت يعرفونه جيداً و طالما إمتثلوا له ... فساد صمت طويل قطَعَتْهُ ( نجوى ) بزغرودة يشوبها بقايا بكاء أتتْ بالعريس صلاح و هو يقول : الناس كلها بتسأل عليكم ..
فخرجنا في في إثر بعضنا البعض تسْبِق إبتساماتنا بقايا الإنفعال ..
و أنا أردد همساً و أطياف الماضي تعربد في خيالي :
بيت العز يا بيتنا ...بيتنا يا بيت العز ..

***

جلال داود ( الرياض )






آخر مواضيعي 0 لهفي عليك يا أرض الكنانة
0 قال وقالت ( في إعتلاج أهل الهوى )
0 بيوت من الشِعرِ ونوافذ من تعليق
0 لإسمك حروف
0 قالت لا تعْجَب
رد مع اقتباس