عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2011, 11:30 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


أوربا قبل الحروب الصليبية



لن نستطيع أن نفهم حقيقة الحروب الصليبية ولا دوافعها وبواعثها بدون إطِّلاع دقيق على الحياة التي كانت تعيشها أوربا في ذلك الوقت ، ولا ينبغي أن يكون ذلك على المستوى السياسي فقط ، بل يجب أن يشمل أيضًا المستوى الاقتصادي والديني والاجتماعي؛ لنأخذ فكرة كاملة عن الأحوال هناك ، ومن ثَمَّ نفقه هذا التوجُّه الأوربي الشامل لغزو العالم الإسلامي الشرقي .




- الخلفية الدينية :

في هذه الحقبة التاريخية وفي القرون التي سبقت الحروب الصليبية ، وخاصةً القرن التاسع والعاشر الميلادي ، وكذلك الحادي عشر الذي تمت فيه الحروب الصليبية ، كان للكنيسة سيطرة كبيرة على مجريات الأمور في أوربا ، ولم تكن هذه السيطرة فكرية ودينية فقط، بل كانت سياسية واقتصادية وعسكرية أيضًا .

لقد كان في إمكان الكنيسة أن تسحب الثقة من الملوك والأمراء ، فتنقلب عليهم الأوضاع ، ويرفضهم الخاصَّة والعامَّة ، ومن ثَمَّ فالجميع ينظر إلى رأي الكنيسة بقدرٍ كبير من الرهبة والتبجيل ، ويكفي للدلالة على قوة البابا في ذلك الوقت أن نذكر موقفًا للبابا جريجوري السابع مع الإمبراطور الألماني هنري الرابع .. لقد كان الإمبراطور الألماني هو أقوى ملوك أوربا في زمانه ، ومع ذلك فقد غضب عليه البابا في أحد المواقف ، ورفض الإمبراطور الاعتذار للبابا ، فقام البابا بسحب الثقة منه ، وأعلن حرمانه من الرضا الكنسي ، وبالتالي حرمانه من الجنة كما يزعم ! وبدأ الناس يخرجون عن طوعه ، بل وكاد أن يفقد ملكه، فنصحه مقربوه بالاعتذار الفوري للبابا ، فماذا يفعل الإمبراطور الألماني الكبير ؟! لقد قرر أن يأتي من ألمانيا إلى روما ماشيًا حافي القدمين ! وذلك حتى يظهر ندمه الشديد على إغضابه للبابا , ثم كانت المفاجأة أن البابا رفض أن يقابله لمدة ثلاثة أيام كاملة ، فبقي الإمبراطور خارج الكنيسة في المطر والبرد الشديد حتى سمح له البابا بالمقابلة ، فما كان من الإمبراطور إلا أن ارتمى على الأرض يُقَّبل قدمي البابا ليصفح عنه !!

لقد كان هذا هو الحل الوحيد أمام الإمبراطور العظيم ليحتفظ بملكه !

وكانت الكنيسة الكبرى هي كنيسة روما ، والبابا يستطيع أن يتحكم في كل كنائس أوربا الكاثوليكية ، ومن ثَمَّ يستطيع السيطرة على الأحداث في البلاد المختلفة ، ولم تكن الكنيسة مكان عبادة أو معلِّم للأمور الدينية فقط ، إنما كانت مؤسَّسة ضخمة تُؤدَّى إليها سنويًّا الأموال الغزيرة ، ومن ثَمَّ فإنها كانت تملك الإقطاعيات الكبيرة في أوربا ، بل وكانت تملك الفرق العسكرية التي تدافع عن هذه الإقطاعيات ، وكانت الكنيسة تتحالف مع فرق عسكرية أخرى عند الحاجة ، ومن هنا أصبحت الكنيسة تمثِّل الحاكم الحقيقي لمعظم دول أوربا الغربية ، وإن لم يكن هناك إتحاد بالمعنى المفهوم بين هذه الدول .

ومع كون الكنيسة تحتل في هذا الوقت هذه المكانة الكبيرة إلا أن القساوسة كانوا على درجة كبيرة من الجهل والتخبط ، ولم يكن لهم في الغالب أي كفاءة دينية أو إدارية أو قيادية ، ولم يكن هذا فقط ، بل إن معظم البابوات في القرن التاسع والعاشر الميلادي كانوا على درجة كبيرة من الفساد الأخلاقي ، سواء في قضايا المال أو في قضايا النساء
, وكثير منهم قُتل في حوادث أخلاقية مخلَّة ، مع أنهم جميعًا كانوا يدَّعون الرهبانية ، ويعلنون اعتزالهم مُتَع الحياة ، ويشيعون الزهد في الدنيا ، ويمتنعون عن الزواج ، ثم يرتكبون بعد ذلك أبشع جرائم السرقة ، وكذلك الزنا ؛ وصدق الله - عزوجل - إذ يقول في كتابه واصفًا هذا التحريف والتبديل الذي أضافه هؤلاء القساوسة في دينهم فشقوا على أنفسهم ، وما إستطاعوا الالتزام بما فرضه بعضُهم على بعض، يقول تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا .

وليس خافيًا على أحدٍ ما حدث منذ عدة سنوات عندما أمسكوا بجيمي سواجارت مع بعض العاهرات في أحد فنادق نيوأورليانز الأمريكية ، وكان جيمي سواجارت قسيسًا من الذين يقيمون المناظرات مع الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات رحمه الله ، ثم أَبَى الله إلا أن يكشف أوراقه أمام الجميع ، فلا يمر أحدٌ الآن على الفندق الذي أمسكوه به إلا ويتذكر قصة هذا الدعيّ جيمي سواجارت .

ومع هذا الوضع السيئ للبابوات والقساوسة إلا أنهم كانوا يسيطرون على الأوضاع في أوربا ، وكان يساعدهم في ذلك السطحية والجهل والتخلف عند معظم شعوب أوربا آنذاك ، وكذلك مفهوم الدين عند هذه المجتمعات البدائية ، حيث كان الدين عندهم قائمًا على الخرافات والأباطيل، وكانت تسيطر عليهم فكرة الأشباح والأرواح والخوارق مثلما يحدث في مجتمع ريفي بسيط ، وكان هذا الوضع المتدني يساعد البابوات والقساوسة في السيطرة على عقول الناس عن طريق نشر الإشاعات والأوهام ، وعمليات غسيل المخ التي تمحو كل فرصة للتفكير عند الشعوب .

ومن الأفكار المهمة التي أشاعها البابوات والقساوسة في القرن الحادي عشر - أي قبيل الحروب الصليبية بقليل - أن الدنيا على وشك الانتهاء ، وأن يوم القيامة قد اقترب جدًّا ، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح عليه السلام ، أي أن هذه الإشاعة بدأت تنتشر في سنة 424هـ = 1033 - تقريبًا وما بعدها ، وكانوا يفسِّرون كل الظواهر الكونية والطبيعية في ذلك الوقت على أنها أدلة على صدق الإشاعة ، ومن ذلك مثلاً ثورة بركان فيزوف في إيطاليا ، أو حدوث بعض الصواعق أو الزلازل .

وكان لإنتشار مثل هذه الشائعات الأثر في إحداث حالة من الوجل والرعب والهلع عند عموم الناس ، وخوفهم المفرط من ذنوبهم ، وبروز دور البابوات والقساوسة والكنيسة بصفة عامة لإنقاذ الناس من هذه الضغوط ، ومساعدتهم على التخلص من هذه الذنوب ، وضرب رجال الدين على هذا الوتر بشدة، واستغلوه في توجيه الناس إلى ما يريدون ، وقد كان من أهم الوسائل للتخلص من هذه الذنوب دفع الأموال للكنيسة ، وهو الأمر الذي تطور بعد ذلك إلى صكوك الغفران ، التي ثار عليها بعد ذلك بقرون مارتن لوثر مؤسِّس البروتستانتية .

غير أن هناك وسيلة أخرى أشاعها البابوات والقساوسة للتخلص من الذنوب لها علاقة كبيرة بموضوعنا ، وهو التشجيع على رحلات الحج إلى أرض فلسطين مهد المسيح ، وذلك للتكفير عن الذنوب ، وكانت رحلات الحج التكفيرية هذه تستغرق من الناس جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاَ ، قد يصل إلى سبع سنوات، وكانت هذه الرحلات بديلاً عن دفع المال الكثير للكنيسة ، ومن ثَمَّ رغب فيها الفقراء الذين لا يستطيعون شراء رضاء الكنيسة ، ومن هنا توالت رحلات الحج لفلسطين ، والتبرك بالآثار هناك، وأصبحت هذه الرحلات ثقافة عامة عند الناس ؛ ولذلك إنتشر إسم فلسطين ، وصار متداولاً بين عموم الناس . ولا شك أن هذا مهَّد نفسيًّا لقبول فكرة الحروب الصليبية بعد ذلك ، فهي تذهب إلي مكان مألوف محبوب سمع الناس كثيرًا عنه ، بل وشُجِّعوا على الذهاب إليه ، بل إن فلسطين صارت حُلمًا لكثير ممن يريد الذهاب للتخلص من ذنوبه قبل انتهاء الدنيا ، غير أنه يفتقد الطاقة البدنية أو المالية ليقوم بالرحلة ، وكل هذا - لا شكَّ - أدي إلى تضخيم حجم فلسطين في عيون الغربيين .


وتشير الكثير من المصادر والوثائق أن إستقبال المسلمين الذين يحكمون الشام وفلسطين لهؤلاء الحجاج كان استقبالاً طيبًا جدًّا ، ولم يثبت أي محاولات تضييق عليهم كما يحاول البابوات أن يشيعوا ؛ لكي يسوِّغوا فكرة الهجوم على فلسطين لتسهيل رحلات الحج لنصارى أوربا , فهذه الخلفيات الدينية المعقدة من رغبة حثيثة للكنيسة للسيطرة على عقول الناس وأموالهم ، ومن خوف مطَّرد عند الشعوب من فناء الدنيا وكثرة الذنوب ، ومن حبٍّ جارف لهذه الأرض التي وُلد بها المسيح ، والتي بسبب الرحلة إليها ستُغفر الذنوب .. كل هذا وغيره مهَّد لفكرة الحروب الصليبية وغزو فلسطين .



ولعل الخلفيات التي يجب أن تضاف إلى هذه الأمور السابقة ، والتي تفسِّر ولع الغرب بقضية فلسطين خصوصًا والشرق عمومًا ، هي ظهور رغبة عند بعض بابوات روما لضم الكنيستين الغربية الكاثوليكية والشرقية الأرثوذكسية تحت سقف واحد ، يحكمه الكاثوليكيون بالطبع ، وكان الذي تبنَّى هذا المشروع بقوة هو البابا جريجوري السابع، وهو البابا السابق مباشرة للبابا أوربان الثاني الذي وقعت في عهده الحروب الصليبية .

وكان من ضمن الخطوات التي أخذها البابا جريجوري السابع لإتمام هذه الخطوة الفريدة أن بدأ يحسِّن من علاقاته مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين , وهو الإمبراطور الذي سيعاصر الحروب الصليبية ؛ مما جعل المراسلات بينهما مستمرة ، ومما حدا - بعد ذلك - بالإمبراطور البيزنطي أن يستغيث بالغرب الكاثوليكي لنصرته ضد السلاجقة المسلمين ، وذلك مع شدة كراهية هذا الإمبراطور الأرثوذكسي لكل بابوات وملوك وشعوب أوربا الكاثوليكية .

ولعل الخلفيات التي ذكرناها سابقًا تفسِّر بوضوح الحميَّة المتناهية التي كانت عند الغرب للمشاركة في الحملات الصليبية ، ومع ذلك فليست الخلفية الدينية هي الخلفية الوحيدة عند الشعوب الأوربية آنذاك، ولكن كانت هناك عوامل أخرى مؤثرة جدًّا ، مثل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .




- الخلفية الاقتصادية :

عاشت أوربا عدة قرون تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة ، فمع خصوبة الأرض إلا أنها مليئة بالغابات ، وإستصلاح الأراضي وزرعها يحتاج إلى فنٍّ وجهد وتقنية ، ولم يكن هذا متوفرًا في هذه البيئات الجاهلة ، وخاصةً في المناطق الشمالية ذات الصقيع القارس ، هذا فوق ضعف المواصلات وانقطاع الطرق ؛ مما كان يمنع وصول الغذاء من مكان إلى مكان ولو بغرض التجارة ، ومن ثَمَّ فإن نقص الإنتاج المحلي من الغذاء كان يعني ببساطة المجاعة القاتلة ! وكانت هذه المجاعات تستمر أحيانًا سنوات ، مما يؤدِّي إلي فناء قرى ومدن ، وكان إنتشار الأمراض وإنعدام العلاج يساهم في موت المزيد والمزيد ، وكل هذه الأمور جعلت الفقراء والفلاحين يضيقون ذرعًا بحياتهم ، ويشعرون بالإحباط الدائم واليأس المستمر ، فإذا أضفت لكل ذلك الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الفلاحون أدركت مدي المعاناة التي كانوا يعيشونها .

وفي أخريات القرن الحادي عشر ، وخاصةً في السنوات العشر التي سبقت الحروب الصليبية حدثت مجاعات رهيبة قاتلة ، خاصةً في شمال فرنسا وغرب ألمانيا ، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من الجيوش من هذه المناطق ، التي كان لا بد لها من أن تهرب إلى أي مكان به طعام وشراب ، ولو كان هذا المكان على بُعد مئات وآلاف الأميال ، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا !

وعلى النقيض من هذه الصورة ، كانت هناك صورة مغايرة تمامًا عند بعض الإقتصاديين في أوربا ، وخاصةً في الجنوب الأوربي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ، فقد إزدهرت التجارة البحرية في ذلك الوقت وأفاد تجَّار الجنوب الأوربي من وجودهم على السواحل في التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله ، بل تجاوزوه إلى داخل آسيا وإفريقيا .. وكان من أبرز الموانئ التي ظهرت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية موانئ إيطاليا ، وخاصةً جنوة وبيزا ، فكانت هذه الموانئ تمثِّل قوة اقتصادية مؤثرة في هذا الوقت ، وكانت القوة الاقتصادية المنافسة الوحيدة هي قوة الاقتصاد الإسلامي ، وكانت لهذه القوة مراكزٌ مهمة في الشام ومصر والمغرب ، وكذلك في الأندلس , وكان هذا التنافس دافعًا للموانئ الإيطالية أن تتربص بالمسلمين قدر إستطاعتها ، ودفعها ذلك إلى تجهيز الحملات العسكرية لإخراج المسلمين من صقلية ، وتمَّ لهم ذلك كما مر بنا ، وخرج المسلمون خروجًا نهائيًّا من صقلية سنة 484هـ = 1091 - بعد حكم 270 سنة ، وهذا يسبق الحروب الصليبية بسبع سنوات فقط ، ولا شك أن هذا جعل الطريق البحري آمنًا إلى حد كبير !




تجار البندقية كان لهم دور كبير في تمويل هذه الحملات !
Click this bar to view the full image.

ومن هنا حرص تجار إيطاليا على دعم الحملات الصليبية المتجهة للشرق ، فهم بذلك سيقضون على منافسهم الوحيد ، ومن ناحية أخرى سيفتحون سوقًا هائلاً لتجارتهم في هذه البقاع الإسلامية .

وهكذا كان هناك شبه اتفاق بين المطحونين الكادحين الجائعين ، وبين الإقتصاديين والأثرياء المتخمين لغزو العالم الإسلامي والمشاركة في الحروب الصليبية !




- الخلفية السياسية :

في القرن الخامس الميلادي، وبالتحديد في سنة 476م ، سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية العتيدة، وذلك تحت الضربات الموجعة للقبائل الجرمانية الشمالية ، وهي قبائل همجية عنيفة لم تنظر بأي عين من الاعتبار للحضارة الرومانية المتميزة ، بل سعت إلى التدمير والإبادة , وفي غضون قرنين من الزمان ، كانت القبائل الجرمانية قد إنتشرت في كل أوربا، وكان هذا الإنتشار مصحوبًا بنشر الأفكار الجرمانية العنيفة ، والسلوك الإجرامي عند عامة الناس .

ثم شهد القرنان التاسع والعاشر الميلادي - قبل الحروب الصليبية بقرن من الزمان - عدَّة هجمات ضارية على أوربا ، سواء من الفايكنج القادمين من إسكندينافيا أو من المسلمين القادمين من الأندلس أو الشمال الإفريقي ، وهذا ساعد في زيادة الروح القتالية عند عموم الناس ، وتحول الأوربيون إلى الشكل العسكري ، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل ..


الفارس المقاتل , أضحت هي الصوره المثالية لأي أوروبي بالعصور الوسطي !


ونتيجة نمو هذا الفكر العسكري داخل أوربا ، كان لا بد للقوى المختلفة أن تصطدم معًا ، فبدأ الصراع بين الدول الأوربية المختلفة بغية التوسع والسيطرة ، ثم قُسِّمت الدول إلى إقطاعيات منفصلة متصارعة فيما بينها ، وعلى كل إقطاعية أمير قد يدين بالولاء أو لا يدين للملك العام على الدولة ، وكوَّن كل أمير ميليشيات عسكرية خاصة به ، وعمَّت الفوضى كل أرجاء أوربا ؛ مما أدى إلى فَقْد الكنيسة السيطرة على هذه القوى الكثيرة والمتناحرة .

وكان الوضع أشد ما يكون ترديًا في فرنسا ، حيث فقد ملك فرنسا السيطرة كُلِّيَّةً على البلاد ، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات ، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة ، كلٌّ منها له جيشه الخاص , أما الوضع في ألمانيا فكان أفضل حالاً ، حيث ظهر فيها ملك قويّ هو هنري الثالث ، ثم إبنه هنري الرابع ، وذلك في القرن الحادي عشر وقبيل الحروب الصليبية مباشرة ؛ وهذا أدى إلى تماسك الوضع نسبيًّا في ألمانيا ، وإن كان هناك خلاف خطير نشأ بين هنري الرابع والبابا في روما كما مر بنا , كان له توابع سنراها مع سير الأحداث .

وفي إنجلترا ظهر ملك قوي أيضًا هو وليم الفاتح ، ولكن وضع إنجلترا الاقتصادي كان سيئًا جدًّا ؛ مما جعلها مشغولة تمامًا بنفسه .. أما الدويلات النصرانية في شمال الأندلس، فكانت تبذل كل طاقتها في حرب المسلمين هناك .

وتأتي القوة العسكرية الأخيرة في غرب أوربا متمثلة في إيطاليا ، وكانت في الواقع قوة كبيرة ، خاصةً في المناطق التي يسيطر عليها النورمانديون في جنوب إيطاليا ، وبالذات بعد ظهور زعيم قوي جدًّا هناك هو روبرت جويسكارد ، الذي كانت له أحلام توسعية هائلة وصلت إلى حروب مباشرة مع الدولة البيزنطية العتيدة ، وقد إستطاع هذا القائد أن يُسقِط البلقان البيزنطية تحت سيطرته ، بل وبذل أولى المحاولات لإحتلال أنطاكية التي كانت في حوزة البيزنطيين ثم المسلمين ، وكان الذي يبذل هذه المحاولات هو إبنه شخصيًّا وهو الأمير بوهيموند ، الذي سيكون بعد ذلك أحد أمراء الحملة الصليبية الأولي .

كما صاحب ظهور هذه القوة الإيطالية المتنامية نمو سريع لأسطول بحري عسكري لميناء البندقية الإيطالي ، وصار له أثر مباشر في تغيير سير الأحداث في حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله .

إذن فالوضع السياسي في أوربا كان يضم عددًا كبيرًا من العسكريين المتصارعين ، والمتنافسين على تقسيم البلاد عليهم ، ولما كانت أوربا ضيقة وطبيعتها الجبلية والثلجية معوِّقة ، كان التفكير في التوسع خارج أوربا، كما فكر في ذلك روبرت جويسكارد زعيم النورمانديين الإيطاليين، كما سيحدث بعد ذلك في الحروب الصليبية .




- الخلفية الاجتماعية :

لم تكن الشعوب الأوربية في ذلك الوقت شعوبًا مستقرة ، بل كانت تعيش حياة البدو الرُّحَّل ، حيث ينتقلون من مكان إلى مكان سعيًا وراء الطعام أو الأمن ؛ وهذا أدى إلى عدم وجود روح الاستقرار والتمسُّك بأرض معينة , ولعل هذا سهَّل كثيرًا على الناس أن يتركوا أوربا بكاملها ، ويتجهون إلى فلسطين بحثًا عن نظام حياة أفضل وأسعد .

وكان الفلاحون في أوربا يعانون بطش أمراء الإقطاع ، ولم يكن للفلاحين أدنى حقوق ، بل كانوا يباعون مع الأرض ، ويستغلون تمام الاستغلال لجلب الرفاهية لمالك الإقطاعية ، وهذا ولَّد عندهم شعورًا بالحقد تجاه ملاَّك الأراضي وملاَّكهم ، ولكن لم يكن لهم فرصة ولا حتى حُلم في الخروج من أزمتهم ..

وفوق هذا الأسى الذي كان يعيشه معظم الشعوب فإن الجهل كان مُطبِقًا على الجميع ، وكانت الأمية طاغية ، ولم يكن هناك أي ميل للعلوم ، وهذه الحالة المتخلفة جعلت من السهل جدًّا السيطرة عليهم بأية أفكار أو دوافع ، ولم يكن عندهم من القدرة العقلية والذهنية ما يسمح لهم بتحليل الأفكار المعروضة عليهم ، أو ما يمكِّنهم من الاختيار بين رأيين متعارضين ، وهذا كله - ولا شك - سهَّل مهمة إقناعهم بترك كل شيء ، والتوجه للحرب في فلسطين !

هذه الخلفيات التي بحثناها ، وضحت لنا أن المجتمع الأوربي كان مكوَّنًا من طوائف شتى , دينية وسياسية واقتصادية وشعوبية ، وكل هذه الطوائف لها أهدافها ومطامعها ، تصغر أو تكبر بحسب حجمها ، وسيكون من العجيب حقًّا أن تظهر شخصية تجمع أهداف هذا الشتات في هدف واحد ، وتدفعهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم المادية والعقلية في اتجاه واحد ؛ فيخرج الجميع , كلٌّ يبحث عن غايته ، وكلٌّ يسعى لتحقيق سعادته .

تُرى من هي هذه الشخصية ؟ وكيف جمعت هذا الشتات ؟ وما هي البواعث الحقيقية للحروب الصليبية ؟ وهل هي حرب سياسية أم اقتصادية أم دينية ؟ ..











آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس