عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2011, 11:33 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

- حصار أنطاكية




تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى ، بل لا نبالغ إن قلنا أنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره ، وذلك لمميزات خاصَّة تفوقت بها هذه المدينة على غيرها .


فهي أولاً : مدينة رئيسية منذ قديم الزمان ، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون .

وثانيًا : هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا ، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح إسم المسيحيين ، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل : ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً , وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له .

وثالثًا : وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا ، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح ، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة .

ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات ، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين ؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان ، بل ومن العراق ، ليستوطنوا في هذه المنطقة ، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين ، وصارت المدينة إسلامية آمنة ، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها .

ورابعًا : فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم ، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة ، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين .

وخامسًا : تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام ، بل من أحصن مدن العالم آنذاك ، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم ..

ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله عزوجل لهذه المدينة ، فضلاً عن القلاع والحصون ؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق ، ويحدها من الغرب نهر العاصي ، وهي محاطة أيضًا من الشمال بمستنقعات وأحراش .. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب ، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة ، فضلاً عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم !

سادسًا : تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى ، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام ، كما أن بقاءها بما فيها من جنود و حامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة ؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها .

سابعًا : هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية ، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا .

ثامنًا : التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا ، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس ، وأيضًا من النصارى الأرمن ؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم ، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل ، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا إضطهاد عنصري .

تاسعًا : التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ) أول نوفمبر سنة 969م ، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس ، وأحدث سقوطها دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين ، وهي في نفس الوقت المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي ، كما أن الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها ، وأخرجت الباقي ، وهجَّرتهم خارجها ، وإستقدمت جموعًا هائلة من المسيحيين ليعيشوا فيها ، وظل الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر ، أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ) 1071م ؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن ، مما أدى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد ، بل إن العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة .. وقد أدى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن - على كراهيتها لهم - لمقاومة السلاجقة ؛ وهذا أدى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة ، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر ، وخرجوا عن تبعية الدولة البيزنطية ، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها ، وإستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م ، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ) 1078م إستطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها ..

غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط ، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم ، وذلك في سنة (477هـ) 1085م ، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة , ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة ، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي ، والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة ؛ وهذا التاريخ القريب - كما نرى - أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف ، فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة : المسلمين بقيادة السلاجقة ، والدولة البيزنطية والأرمن ، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية !

عاشرًا وأخيرًا : أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند ، الزعيم النورماندي الشرس , فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا ، وبالتحديد في سنة (473هـ) 1081م لإسقاط أنطاكية ، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه ، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة ، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص ؛ ولذلك فإن بوهيموند لم ينس أنطاكية أبدًا ، ويأخذ القضية كثأر قديم ، ويضحِّي بكل شيء من أجل إستحواذها ، وليس في ذهنه دين ولا صليب ، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج ، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له ، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية , إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا ، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية !

هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا ، وهي محطُّ أنظار الجميع ، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة .

- مَن الذي يحكم أنطاكية في ذلك الوقت؟

كان يحكمها أحد العسكريين التركمان الأشداء ، وهو ياغي سيان ومن خلال إستعراض قصته سنجد أنه كان من الزعماء السياسيين والعسكريين المتميزين ، وكانت له حكمة بالغة في التراتيب الإدارية ، والمواقف السياسية ، والقتال الحربي ، وإن لم يكن متحليًا بالأخلاق الإسلامية الرفيعة ، فليس عنده مبدأ معين فقد يصادق إنسانًا ويعاديه في يوم آخر لتعارض المصالح ، وهو في قتاله لا يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولكن يقاتل من أجل حب البقاء ، وحب التملك والسيطرة ، وحب الكرسيِّ ، وما إلى ذلك من أمور الدنيا .

وهذه النوعية من الحكام - مع كفاءَتها السياسيَّة والعسكريَّة - لا تصلح للحفاظ على هيبة المسلمين طويلاً ، فهم - لا شكَّ - يسقطون وتسقط معهم الشعوب التي قبلت بهم، وتسقط كذلك المدن والدول التي يحكمونها , إن النصر في المفهوم الإسلامي لا يكون إلا من عند الله ، والله لا ينصر إلا من نصره، يقول تعالى : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ .. ويقول أيضًا : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .

وهذا الذي لم يضع نصر الله في حساباته لا ينصره الله أبدًا، وإن قعد في كرسيِّه عشرات السنين ، وإن تعلَّم علوم الحرب والسياسة، وفَقِه في أمور القيادة والإدارة .

ولعلنا إذا راجعنا قصة ياغي سيان نفهم طبيعته ، ومن ثَمَّ نفهم قصة حصار أنطاكية ,
لقد كان ياغي سيان قائدًا من القوَّاد المهرة للسلطان السلجوقي الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان الذي قاد دولة السلاجقة العظام ، وهي التي كانت تسيطر على فارس والعراق وأجزاء من الشام من سنة 464هـ إلى سنة 485هـ (من 1072 إلى 1092م) ، وكان أخو ملكشاه وهو تتش بن ألب أرسلان يحكم الشام ، وحدث قتال بين تتش وسليمان بن قتلمش زعيم سلاجقة الروم الذي حرَّر أنطاكية بعد إحتلال دام 119 سنة من الدولة البيزنطية ، وذلك في سنة (477هـ) 1085م، وكانت نتيجة قتال تتش وسليمان أن قُتل سليمان ، وذلك في سنة (478هـ) 1086م، وهكذا صارت أنطاكية من أملاك تتش ، غير أن ملكشاه نزع أنطاكية من ملك أخيه وأعطاها إلى ياغي سيان ، وذلك في سنة (479هـ) 1087م وهذا - لا شك - أوغر صدر تتش تجاه ياغي سيان ، ولكن قوَّة ملكشاه منعت تتش من إتخاذ أي موقف تجاه ياغي سيان ، ومرت السنوات ومات ملكشاه في سنة (484هـ) 1092م ، أي بعد خمس سنوات من ولاية ياغي سيان على أنطاكية ، ومع أننا توقعنا صدامًا قويًّا بين تتش وياغي سيان على أنطاكية ، إلا أن ياغي سيان إستطاع بحكمته وسياسته أن يتقرب إلى تتش مما جعله يُقِرُّه على أنطاكية ، بل وبدأ ياغي سيان يخطب لتتش في أنطاكية , ثم إشترك ياغي سيان مع تتش في حرب بركياروق بن ملكشاه إبن أخي تتش ! وإنخذل ياغي سيان أثناء القتال ؛ مما أدى إلى هزيمة تتش وقتله في سنة (488هـ) 1095م ، ليعود ياغي سيان إلى حكم أنطاكية منفردًا ، ويتولى أولاد تتش حكم الشام بالتقاسم ، فيأخذ رضوان بن تتش حلب ، ويأخذ دقاق بن تتش دمشق ..

وكعادة هذا الزمان دار الصراع بين الإخوة بغية التوسع والتملك ، وأسرع كل زعيم يضم إليه ما حوله من مدن، وطمع رضوان زعيم حلب في أنطاكية القريبة ، فحدث بينه وبين ياغي سيان شقاق وصراع ، إنتصر فيه ياغي سيان وبقي محتفظًا بأنطاكية ، ثم دارت حرب مباشرة بين رضوان زعيم حلب ودقاق أخيه زعيم دمشق وذلك في سنة (489هـ) 1096م ، وللعجب الشديد فإن ياغي سيان إنضم إلى رضوان ! وحاول رضوان احتلال دمشق ولكنه فشل في ذلك , ثم مرت الأيام وأراد دقاق أن يغزو حلب ، فإنضم ياغي سيان في هذه المرة إلى دقاق في الحرب ضد رضوان ، غير أنهم لم يتمكنوا من غزو حلب !

إنه كان يعيش حياة الجنود المرتزقة الذين يقاتلون في جيشٍ بغية درهم أو دينار ، فإذا دفع الطرف الآخر أكثر إنضم إليه ونسي ولاءَه الأول .

إنَّ هذه القصة لا تعطينا فقط انطباعًا عن طبيعة حاكم أنطاكية ياغي سيان ، بل تعطينا إنطباعًا أوسع وأشمل عن طبيعة ذلك الزمن بأسره ، فهؤلاء هم الحكام في منطقة الشام يوم غزو الجيوش الصليبية .

وليست المشكلة في الحكام فقط، فهؤلاء الزعماء لا يقاتلون بمفردهم في الحروب ، إنما يقاتلون بجيوش ، ومن وراء الجيوش شعوب ، ولا شك أن هذه الجيوش التي لا تعرف لها قضية، وهذه الشعوب التافهة المغيَّبة تستحق ما يحدث لها من نكبات وأزمات .

وهكذا عندما جاءت الجيوش الصليبية حول أنطاكية في أكتوبر سنة (460هـ) 1097م ، كان ياغي سيان حاكمًا للمدينة منذ عشر سنوات كاملة ، وعلى خلاف وشقاق كبير مع أقرب المدن إليه وهي حلب ، والعلاقة بينه وبين المدن الأخرى عَلاقات فاترة لا تقوم إلا على المصالح والمنافع الدنيوية ,, وجاء الصليبيون بحدِّهم وحديدهم ! وأحكموا قبضتهم حول المدينة !



وقف الجيش النورماني الإيطالي بقيادة بوهيموند أمام الجهة الشمالية للمدينة عند باب بولس، ووقف جيش جودفري بوايون في الجهة الشمالية الغربية في مواجهة باب الجنينة ، ووقفت بقية الجيوش وعلى رأسها روبرت وستيفن وهيو والأمير ريمون الرابع كلهم من الناحية الغربية أمام باب الكلـــب , وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الناحية الشرقية والجنوبية كانت محاطة بالجبال العالية ؛ ولذلك لم يكن عندها جيوش ..

وغني عن البيان أن الدولة البيزنطية كانت تشارك في هذا الحصار بسرية بيزنطية على رأسها قائد محترف هو تاتيكيوس Tatikios ؛ وذلك لكي يحفظ حق الدولة البيزنطية في المدينة بعد سقوطها .

وكان بالمدينة - كما مرَّ بنا - عددٌ كبير من النصارى الأرثوذكس والأرمن ؛ تقول الرواية اللاتينية أنهم خرجوا من المدينة بمجرَّد قدوم الجيوش الصليبية ، وأمدوهم بأسرار كثيرة عن مداخل المدينة ومخارجها ووسائل الدفاع وكميات المؤن وأعداد المقاتلين ، وما إلى ذلك من معلومات تسهِّل فتح المدينة ..

وكان ياغي سيان قد أعدَّ المؤن الكثيرة التي تكفي الحياة المدنية لمدة طويلة من الزمن وكذلك إستعد الصليبيون بكميات من المؤن جمعوها من القرى المجاورة عن طريق السلب والنهب ، كما وصل إلى ميناء السويدية عند مصب نهر العاصي - وهو ميناء قريب جدًّا من أنطاكية - أسطولٌ جنويٌّ يحمل إمدادات مهمة للصليبيين ..

وفوق ذلك فميناء اللاذقية القريب أيضًا كان قد وقع تحت سيطرة القرصان البولوني ونمار ، وكان يمد الصليبيين بما يحتاجونه من مؤن , وهكذا أغلق الصليبيون الطرق المؤدية إلى أنطاكية وسيطروا على الموانئ الغربية ، ولم يعد أمام المسلمين المحاصَرين إلا ما هو داخل المدينة من مؤن وسلاح .

ومن داخل المدينة المحاصَرة أرسل ياغي سيان رسائل تطلب النجدة من زعماء الإمارات الإسلامية المجاورة وما من شك أنه لم يستطع أن يرسل رسالة إلى رضوان أمير حلب نظرًا للخيانة القريبة التي فعلها ياغي سيان بإنضمامه إلى دقاق بعد أن كان محالفًا لرضوان ؛ لذلك أرسل ياغي سيان إلى دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة أمير حمص ، وهما يقعان على بُعد أكثر من مائة وأربعين كيلو مترًا من المدينة ، بل إنه أرسل إلى كربوغا أمير الموصل التي تقع على بُعد سبعمائة كيلو متر ، وكذلك إلى بركياروق سلطان سلاجقة فارس وهو أبعد وأبعد ، ولم يتمكَّن كما ذكرنا من طلب المساعدة من حلب التي تقع على مسافة أقل من ستين كيلو مترًا من أنطاكية !!

ومرت الأيام ثقيلة على الطرفين ؛ فالمدينة المحاصَرة لا يصل إليها أي إمداد خارجي ، وكذلك الصليبيون يمرون بأزمة واضحة ؛ إذ إن الجيوش هائلة ، والمؤن ليست كافية في هذه المنطقة المحدودة ، وهم لا يستطيعون الابتعاد كثيرًا عن أنطاكية؛ لكي لا يعطوا فرصة للمحاصَرين أن يخرجوا , وقد حدث ذات مرة أن إبتعدت بعض الجيوش الصليبية للإغارة على بعض القرى ، فخرج ياغي سيان لقتال الجيوش المتبقية ، وكاد ينتصر عليهم لولا مهارة بوهيموند وسيطرته على الموقف حتى عودة بقية الجيوش ..

وهكذا صار الحصار صعبًا على الصليبيين كما كان صعبًا على المسلمين ، غير أنه كان على الصليبيين أشق وأصعب ، وخاصةً أن الحصار بدأ في (490هـ) 21 من أكتوبر 1097م ، وقد دخلت الأشهر الباردة ، وهم في العراء يعانون الجوع والبرد .

وبعد مرور أكثر من شهرين على الحصار جاءت نجدة إسلامية من دمشق على رأسها دقاق السلجوقي ، ومن حمص وعلى رأسها جناح الدولة حسين بن ملاعب ، وإلتقوا مع الجيش الصليبي في منطقة جنوب أنطاكية عند البارة في آخر ديسمبر (490هـ) 1097م ، وكان الجيش الصليبي يبحث في هذا المكان عن إمدادات غذائية ، ودارت معركة ظهر فيها تفوق المسلمين وإن لم يحقِّقوا نصرًا حاسمًا ، ومع ذلك فقد قرر دقاق الانسحاب والعودة إلى دمشق ليؤمِّن مدينته ، ويدرس الموقف من جديد! وفي هذه الأثناء أرسل له الصليبيون رسالة يسكِّنونه فيها ويخدِّرونه ، إذ قالوا له أنهم ما جاءوا إلى هذه المناطق إلا لتحرير المدن الشمالية التي كانت ملكًا للدولة البيزنطية مثل الرها وأنطاكية ، وأنهم ليس لهم حاجة في دمشق ما دامت لا تقاتلهم وقد أقنعت هذه الكلمات دقاق فترك أنطاكية تواجه مصيرها ، وسكن في مدينته ..

وهكذا عاد الموقف صعبًا من جديد ، ولكن مع بدايات السنة الميلادية الجديدة ودخول شهر يناير (491هـ) 1098م ، وإشتداد البرد وقلة الزاد بدأت الأزمة تتفاقم جدًّا في المعسكر الصليبي ، بل نشأت الفوضى بين الجند ، وظهرت الاعتراضات هنا وهناك , بل ظهرت دعوات بفك الحصار ، بل وأشد من ذلك بدأت تظهر حالات هروب من المنطقة بكاملها ، وكانت المفاجأة أنه كان على رأس الهاربين بطرس الناسك الذي كان يُجمِّع الجيوش في فرنسا قبل ذلك ، مما يؤكِّد عدم وجود البُعد الديني تمامًا في رؤيته ، ولقد جدَّ تانكرد في إثره حتى عثر عليه وهو في طريقه للقسطنطينية ، وأجبره على العودة للبقاء مع الجيش الصليبي ، وكانت عودته عودة مخزية مشينة ، وضَّحت أهداف الحملة الصليبية تمامًا .

كان بوهيموند النورماني يرقب كل هذه الأوضاع ، ويحاول أن يوظِّف الظروف لخدمة مآربه الخاصة، ومطامعه الكبيرة في الحصول على أنطاكية لصالحه هو ، وكان يعلم أن الأمراء الصليبيين سينافسونه فيها ، كما أن صديقه الإمبراطور البيزنطي لن يسمح له بأخذ أنطاكية ، التي تعتبر من أهم المطامع البيزنطية في المنطقة , فماذا يفعل بوهيموند إزاء هذا الوضع ؟!

لقد كان داهيةً على أعلى مستوى ، وكان ماكرًا إلى أبعد حدود المكر !

لقد أعلن بوهيموند - وهم في هذه المرحلة الحرجة من الحصار - أنه ما عاد يطيق البقاء في هذه الظروف، وأن عنده ارتباطات كبيرة خاصَّة بمملكته في إيطاليا ، ومن ثَمَّ فهو سيسحب جيشه من الحصار ، ويقفل راجعًا إلى إيطاليا ..

لقد كانت هذه كارثة بالنسبة للجيوش الصليبية ! فالجميع يعلم أن أقوى الفرق مطلقًا هي فرقة بوهيموند ، ولعله هو أمهر القادة وأقدرهم على وضع الخطط الحربية وأصبرهم على القتال، وعودة بوهيموند إلى إيطاليا كانت تعني بالنسبة لهم فشل الحملة الصليبية ، وضياع كل المكاسب المتحققة والمرجوة ، وضياع كل ما جرى إنفاقه حتى هذه اللحظة من أموال وأرواح وأوقات .

لقد كان تهديدًا يحمل كارثة للصليبيين ، وكان بوهيموند القائد الماكر يعلم قيمته في الجيش ، ولم يكن في قرارة نفسه يفكر في العودة ، فإنه ما جاء إلى هذه البلاد نصرة للرب ، ولا حماية للحجيج ، ولا صداقة للإمبراطور البيزنطي ، إنما جاء من أجل أنطاكية وأنطاكية فقط فموقفه هذا لم يكن إلا لعبة سياسية خطيرة ، ولكنه لعبها بدرجة عالية من الاحتراف !

دبَّ الهلع في قلوب زعماء الجيوش الصليبية ، وإلتفوا حول بوهيموند يتوسلون إليه ألا يتركهم ، ثم اجتمعوا على منحه أنطاكية له خالصة دون مشاركة في حال سقوطها ، فتحقق له ما يريد ؛ ومن هنا قرر البقاء والعمل معهم بكل طاقته !! وهكذا سيطر بوهيموند على الموقف مع زعماء الحملة الصليبية .

لكن بقيت له مشكلة ، وهي وجود السرية البيزنطية بزعامة تاتيكيوس ، وإتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم أنطاكية إلى الدولة البيزنطية ، ويمين الولاء والتبعية الذي أقسمه لهذا الإمبراطور قبل ذلك ..ماذا يفعل في هذه الالتزامات ؟!

لقد بدأ بوهيموند في إستفزاز القائد البيزنطي تاتيكيوس ، وبدأ ينكر أي جهود بيزنطية في المساعدة ، بل بدأ يفعل ما هو أخطر إذ أشاع أن هناك تنسيقًا سريًّا بين تاتيكيوس والأتراك المسلمين ، وأن هناك خيانة للقضية الصليبية ، وهذا قد حدث قبل ذلك عند إسقاط نيقية ، فلماذا لا يحدث الآن ؟

أثارت هذه الإشاعات غضب تاتيكيوس ، فأسرع إلى الزعماء الصليبيين يشكو لهم ، غير أنهم وجدوها فرصة للتخلص من الالتزامات تجاه الدولة البيزنطية ، وقالوا أن الدولة لم تساعدهم في أزمتهم بشيء يُذكر ، ومن ثَمَّ فهي البادئة بنقض الاتفاقية ، وفي هذا مبرر للصليبيين ألا يلتزموا باتفاقيتهم , وهنا شعر تاتيكيوس بالخطر على نفسه ، فإنتهز الفرصة وهرب ليلاً إلى قبرص عن طريق ميناء السويدية وهكذا تحقق هدف بوهيموند في إبعاد الدولة البيزنطية عن الساحة على الأقل عند لحظات سقوط أنطاكية ، وبذلك يضمن أن تكون له لا لغيره ! وبدأ بوهيموند من جديد ينسق الجيوش ، ويرسل الفرق هنا وهناك للإتيان بالمؤن والغذاء ، وأخذ يبثُّ الحماسة في قلوب الجنود الصليبيين وزعمائهم ..

في هذه الأثناء وفي (491هـ) يناير سنة 1098م حدث أمر غيَّر كثيرًا في سير الأحداث ، وأضاف قوة ملموسة إلى المعسكر الصليبي ؛ لقد جاءت سفارة من دولة مصر تعرض التفاهم والتفاوض مع الجيش الصليبي لتحقيق مصالح مشتركة !!

لقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم العبيديين المعروفين بالفاطميين ، وهم كما ذكرنا من الشيعة الإسماعيلية ، وكانوا على خلاف كبير مع السلاجقة السُّنَّة ، وكذلك مع الخلافة العباسية السُّنِّيَّة ؛ ففكر هؤلاء العبيديون في التعاون مع الصليبيين لحرب السلاجقة السنة!! وكان الخليفة العبيديّ في ذلك الوقت هو المستعلي بالله ، وإن كانت الأمور كلها في يد الوزير الأفضل بن بدر الجماليِّ .. وكان عرض الدولة العبيدية يشمل الاتفاق مع الصليبيين على تقسيم الشام بينهما ، فيأخذ الصليبيون أنطاكية ومدن الشمال ، بينما يأخذ العبيديون بيت المقدس وكان العبيديون بالفعل يسيطرون على بيت المقدس حيث قاموا بإحتلاله سنة (491هـ) 1097م ، حينما كان السلاجقة مشغولين بحرب الصليبيين في آسيا الصغرى ..

لقد كانت هذه السفارة تحمل البشريات للجيش الصليبي ، بينما كانت طعنة نافذة في صدر - بل في ظهر - الأمة الإسلامية !!
لقد كان لها من الآثار السلبية ما يخرج عن حدِّ التخيل :

فأولاً : رفعت هذه السفارة جدًّا من معنويات الجيش الصليبي ؛ إذ علموا أنهم يتعاملون مع أمَّة ضائعة ، ليس لها من همٍّ إلا التملك والثروة ، وأنهم على استعداد لبيع بعضهم البعض ، ولو كان المشتري هم الصليبيون ..

وثانيًا : سيؤدِّي هذا الجهد العبيديّ إلى تشتيت السلاجقة السُّنَّة ، وإحداث الإضطراب بين صفوفهم ؛ فالصليبيون سيهاجمون من الشمال، والعبيديون من الجنوب .

ثالثًا : سيأمن الصليبيون من هجوم الدولة المصرية التي كانت تملك جيشًا كبيرًا ، إضافةً إلى أسطول بحري قوي ، كان من الممكن أن يغيِّر الموقف في أنطاكية وغيرها لو كان يملكه مخلصون للمسلمين .

رابعًا : وهو أمر مهم جدًّا أن هذه السفارة تعني الاعتراف من الدولة المصرية لهذا الكيان الجديد القادم على أرض المسلمين ، وأن له الأحقية الشرعية في أرض أنطاكية وعندها لا يجوز للمسلمين أن يطالبوا بهذه الأرض ، فقد أعطوها في مقابل أرض بيت المقدس ، وسينسى الناس بعد ذلك أن كلتا الأرضين مسلم !!

لقد كانت خيانة بكل المقاييس !

ولقد أظهر الصليبيون الترحاب بالسفارة مع أنهم يعزمون تمامًا على أخذ بيت المقدس، بل ويعلنون ذلك جهرةً في كل محافلهم، ولكنهم قبلوا بهذا الطرح مؤقتًا , وسوف يتجاهلونه مستقبلاً كما تجاهلوا وعودهم للدولة البيزنطية ، وهو ما يسمى في أعرافهم سياسة ، ولكنها - للأسف - سياسة لا تنجح إلا مع الأغبياء أو العملاء ! ولقد كان كثير من زعماء المسلمين في ذلك الوقت من أحد هذين الصنفين أو منهما معًا ! كان هذا هو موقف الدولة العبيدية الشيعية .

وماذا كان موقف رضوان بن تُتش حاكم حلب ؟!

إن موقفه خطير جدًّا ؛ فهو وإن كان على خلاف مع ياغي سيان إلا أنه يعتبر أنطاكية من ممتلكاته الشخصية وأن ياغي سيان إستولى عليها ، ومن ثَمَّ فالصليبيون الآن يأخذون جزءًا من ميراثه ، فوق أنهم قريبون جدًّا منه ، وقد يتوجَّهون إلى حلب بعد سقوط أنطاكية ؛ لذلك إنتهز رضوان فرصة قدوم طلب نجدة من ياغي سيان بعد أن يَئِس ياغي سيان من دقاق وغيره ، فأسرع بتجهيز جيش لملاقاة الصليبيين ، وصاحبه في حملته أمير حماة وبعض القوات من ديار بكر ، واجتمعت كل القوات في حارم على بُعد ثلاثين كيلو مترًا شرق أنطاكية .

إنهم لم يخرجوا ليحفظوا دين الإسلام وأرضه وأعراض المسلمين !! بل خرجوا حفظًا لأملاكهم، أو ذرًّا للرماد في العيون وهذه النوعية من الجيوش لا تُنصر عادةً !

تم الاتفاق بين رضوان من ناحية وياغي سيان من ناحية أخرى على الخروج في وقت متزامن من حارم وأنطاكية لحرب الصليبيين من الشرق والغرب ، فيقع بذلك الصليبيون في كمين بين الفريقين ..

الخطة محكمة ، لكن القلوب مريضة والأجساد عليلة !

تسربت أنباء الخطة عن طريق نصارى حلب إلى الجيش الصليبي ، فخرج بوهيموند بنفسه على رأس فرقة صغيرة من الفرسان تبلغ سبعمائة فارس فقط ، وترك جيشه محاصِرًا لأنطاكية ، وإلتقى بوهيموند بهذه الفرقة الصغيرة مع جيوش حلب وحماة وديار بكر عند بحيرة العمق في شرق أنطاكية , وللأسف الشديد فإن كثرة الجيوش الإسلامية لم تغنِ عنها شيئًا ، وإذا بالقلة الصليبية تسيطر على الموقف بسرعة ، وأسرعت الجيوش الإسلامية بالفرار ، وقُتل منهم عدد كبير ، وقطَّع بوهيموند رءوسهم ، وحملها على أسِنَّة الرماح ، وعاد مسرعًا إلى أنطاكية في هذه الأثناء كان ياغي سيان قد خرج لحرب الجيوش الصليبية بعد إبتعاد بوهيموند ، إلا أنه - للأسف - هُزم هو الآخر فدخل مسرعًا إلى حصونه ، ثم جاء بوهيموند وألقى بالرءوس المقطَّعة داخل أسوار أنطاكية ؛ ليرسل رسالة رعب إلى ياغي سيان وشعبه ..

إستمر حصار أنطاكية ، بل وبدأ الصليبيون في بناء قلعة مجاورة على تل قريب من أسوار أنطاكية لإستخدامها في قصف أسوار أنطاكية ، والتحصن بداخلها من السهام المسلمة , وأثناء بناء القلعة ، وفي (491هـ) 4 من مارس سنة 1098م وصل أسطول إنجليزي إلى ميناء السويدية يحمل كميات كبيرة من الزاد والسلاح وآلات الحصار ؛ مما رفع معنويات الجيش الصليبي جدًّا ، ثم تمَّ لهم بناء القلعة في (491هـ) 19 من مارس 1098م ، وبذلك صار الحصار مشددًا بشكل أكبر وأخطر ..

جدد ياغي سيان استغاثته بسلطان سلاجقة فارس بركياروق، وكذلك بواليه على الموصل كربوغا ، وقد استجاب كربوغا لنداء ياغي سيان ، وجهَّز جيشًا كبيرًا ، ولكنه - للأسف - قرر أن يحاصر الرها ويحاول إسقاطها قبل أن يأتي إلى أنطاكية ، والذي دفعه إلى ذلك قرب إمارة الرها - وعلى رأسها الداهية بلدوين - من إمارة الموصل، فخَشِي كربوغا إن أخذ جيشه وذهب إلى أنطاكية وهي على بُعد أكثر من سبعمائة كيلو متر من الموصل , أن يهجم بلدوين على الموصل الخالية من الجيوش , وهكذا أضاع هذا الأمر عدة أسابيع من كربوغا ، وهو في محاولة فاشلة لإسقاط الرها ، ولم يتحرك في اتجاه أنطاكية إلا في (491هـ) أواخر شهر مايو 1098م .

أثار قدوم كربوغا في الطريق إلى أنطاكية الفزع في الجيش الصليبي , فالأخبار تقول أن جيشه كبير ، والصليبيون قد تعبوا من طول الحصار ، فقد مرت عليهم حتى الآن أكثر من سبعة أشهر ، وهم مرابضون أمام أسوار أنطاكية ، وفي هذه الحالة السيئة وفي يوم 2 من يونيو 1098م قرر ستيفن دي بلوا الإنسحاب من المعركة ليأسه من فتح أنطاكية ، وأخذ معه عدد كبير من الفرنسيين ، وإتجه إلى ميناء الأسكندرونة ليقفل عائدًا إلى فرنسا ..

لقد تأزم الموقف جدًّا على الفريقين !

لكن في هذه الأثناء لعبت الخيانة دورها ؛ لقد ظهر في أنطاكية رجل أرمني الأصل تظاهر بالإسلام إسمه نيروز أو فيروز ، وتبادل الرسائل السرية مع الأرمن الموجودين في الجيش الصليبي ، وكان كثير من الأرمن من أهل أنطاكية خرجوا من المدينة عند بدء الحصار وانضموا إلى الجيش الصليبي ، وقال هذا الرجل الأرمني : إنه يعلم أسرارًا قد تسهِّل فتح حصون أنطاكية , لقد كان هذا الرجل مقربًا من ياغي سيان ، وكان ياغي سيان يوليه حراسة عدد من أبراج أنطاكية المهمة وصلت هذه المعلومات إلى بوهيموند شخصيًّا ، فتكتمها عن بقية الزعماء الصليبيين ، وتراسل مع هذا الأرمني الذي طلب مالاً وإقطاعًا في البلد بعد سقوطها ، فأقره بوهيموند على ذلك ، جمع بوهيموند زعماء الحملة الصليبية وأعاد على أسماعهم خطورة الموقف ، وتيقن مرة ثانية من أنهم سيسلمونه أنطاكية إذا تم فتحها ، ثم بدأ يحدِّد لحظة الهجوم وساعة الصفر ، وكانت في (491هـ) صباح يوم 3 من يونيو 1098م أي بعد يوم واحد من رحيل ستيفن دي بلوا ومن معه من الفرنسيين ، فتح نيروز الأرمني الأبواب في برجه وفي بعض الأبراج المجاورة ، بل إن بعض الروايات تذكر أنه قتل أخًا له ؛ لكي لا يكشف قصة المؤامرة ، وهكذا إنسابت الجيوش الصليبية الهائلة داخل المدينة مع الساعات الأولى من الصباح , أسرعت الأرمن في داخل المدينة بالإنضمام إلى الصليبيين ، وأدرك ياغي سيان المؤامرة بعد فوات الأوان ، وقرر الهروب في مجموعة من الأتراك ، غير أن الأرمن من أهل أنطاكية أحاطوا به وقتلوه ، وحملوا رأسه إلى الصليبيين ؛ لتسقط بذلك كل عزيمة عند الشعب المسلم والجنود على حد سواء .



وسادت موجة من الذعر هائلة في داخل أنطاكية ، وإنطلق الصليبيون يستبيحون المدينة بعد الحصار الطويل ، وقتل من الرجال والنساء والأطفال ما يخرج عن حد الإحصاء ، وسبيت أعداد هائلة من النساء والأطفال , وسرعان ما إرتفعت أعلام بوهيموند النورماني على أسوار أنطاكية وأبراجها .

لقد كان سقوطًا مروعًا هزَّ العالم الإسلامي بأسره ، كما هزَّ العالم المسيحي ، إنها المدينة القديمة الجميلة الحصينة التي تحمل تاريخًا إسلاميًّا مسيحيًّا طويلاً ، ثم إنه السقوط المروع بعد حصار أكثر من سبعة أشهرٍ متصلة ، ثم إنها المذبحة الهائلة التي سقط فيها عشرات الآلاف من المسلمين !

وأسرع الصليبيون لدفن الجثث المتراكمة ؛ لئلا تنتشر الأوبئة في المدينة فتُهلِك الجيش بأكمله ، وبدءوا أيضًا في الانتشار في الحصون والأبراج ، وسيطروا سيطرة كاملة على مداخل المدينة ومخارجها ..

وفي هذه الأثناء كان كربوغا يتحرك بجيشه من الرها بعد أن يَئِس من إسقاطها ، ثم توقف في مرج دابق على بُعد 650 كيلو مترًا تقريبًا من أنطاكية ، حيث عقد إجتماعًا مع بعض رءوس الإمارات من الأمراء والملوك ليكوِّن جيشًا كبيرًا لإنقاذ أنطاكية ، وكان جيش كربوغا هذا مرسَلاً من قِبل بركياروق سلطان السلاجقة وأقوى الشخصيات السلجوقية في ذلك الوقت ؛ لذلك أذعن لكربوغا عدد كبير من الأمراء منهم دقاق صاحب دمشق ، وأرسلان تتش صاحب سنجار ، وجناح الدولة أمير حمص وغيرهم ، غير أن رضوان صاحب حلب رفض الخروج في جيش فيه أخوه دقاق عدوه اللدود !!

وهكذا خرج الجيش السلجوقي الكبير إلى أنطاكية ، ووصل إليها بعد حوالي ستة أيام من سقوطها ، وحاول كربوغا إقتحام المدينة ولكنه فشل لحصانتها ، فقام بضرب الحصار حولها ، لتنقلب الآية ؛ فالصليبيون داخل أنطاكية محصورون ، والمسلمون من خارجها مُحاصِرون لها ! وقد بدأ هذا الحصار في 8 من يونيو 1098م ..

وعاش الصليبيون معاناة حقيقية ، فالمدينة كانت قد خلت تقريبًا من الغذاء بعد حصار المسلمين بها مدةَ سبعة أشهر متصلة ، وشعر الصليبيون بالندم لقدومهم إلى الشرق ، وقد صاروا على أبواب مجاعة مهلكة ، وقد اضطروا إلى أكل الميتة وورق الشجر !
ماذا يفعل الصليبيون في هذا الموقف العصيب ؟

لقد فكَّر الصليبيون في الاستعانة بالإمبراطور البيزنطي ؛ إنها حياة المصالح .

إنهم يحتاجون إليه الآن ، فلا مانع عندهم من التزلف مرة ثانية ، والتملق ، والنفاق!
ووجدها الإمبراطور البيزنطي فرصة لإمتلاك أنطاكية المحبوبة ، فخرج بنفسه على رأس جيش كبير مخترقًا آسيا الصغرى صوب أنطاكية ، لكنه في الطريق وصلته أنباء بكبر حجم الجيش السلجوقي ، وبكونه مؤلَّفًا من أكثر من إمارة ، فخاف على نفسه وسلطانه ، وقال : إن حماية القسطنطينية والبيزنطيين أعظم عنده ألف مرة من حماية أنطاكية والصليبيين, فقرر الرجوع فجأة ، وعبثًا حاول رسل الصليبيين إثناءه عن رأيه ، ولكنهم فشلوا !!

إن القضية ليست دينية أبدًا ! إن كل زعيم من هؤلاء لا يهتم إلا بملكه وعرشه ! وساء وضع الصليبيين أكثر؛ وبعد 4 أيام فقط من الحصار بدأ الصليبيون يتركون مواقعهم الأمامية في المقاومة من الإجهاد والتعب ، ويتجهون إلى البيوت في داخل المدينة وهذا يوضِّح روح اليأس والإحباط التي سيطرت على الصليبيين ، وواجه بوهيموند الموقف بصلابة نادرة , إنه يرى حُلمه ينهار ، ويرى أنطاكية الجميلة تضيع من يده بعد كل هذا الجهد ، بل يرى حياته وحياة جنده على مقربة من النهاية ، فماذا فعل بوهيموند ؟! لقد أحرق الدور والبيوت الداخلية ، وذلك في (491هـ) يوم 12 من يونيو 1098م ؛ ليجبر الجنود على تركها والعودة إلى مواقعهم الأمامية ..

لقد كان قائدًا من طراز عجيب ! ومع ذلك فالقبضة الإسلامية محكمة حول أنطاكية ، وكان من الممكن أن تكون نهاية جيوش الصليبيين بكاملها ، لولا الأحداث المؤسفة التي حدثت في داخل الجيش الإسلامي !! ليتيقن المسلمون من الحقيقة القائلة : "إن أعداءنا لا يُنصرون علينا بقوتهم ، ولكن بضعفنا ! ".

ماذا حدث في الجيش الإسلامي ؟! لقد شعر كربوغا أن جيشه وإن كان كبيرًا إلا أن جيوش الصليبيين أكبر، ولو حدث وخرج الصليبيون للقتال فقد تدور الدائرة على المسلمين إن طال الحصار ، ففكر كربوغا أن أفضل طريقة لتقوية الجيش الإسلامي هي إعادة فتح التفاوض مع رضوان بن تتش أمير حلب لينضم إليهم بجيشه ؛ فجيش حلب كبير ، ورضوان نفسه كفاءة عسكرية معروفة ، والأهم من ذلك أن حلب مدينة قريبة وغنية جدًّا ، وتستطيع إمداد الجيش الإسلامية بالمؤن اللازمة والسلاح وأدوات الحصار .

كانت هذه فكرة كربوغا ، وهي فكرة صائبة لا شك ، لكنها لا تصلح مع هذه الزعامات الفارغة , إن الأمر وصل إلى إثارة قلق دقاق نفسه ، وغضب من كربوغا ، وحدث الشقاق والخلاف في الجيش المسلم ، وأعلن دقاق عن رغبته في العودة إلى دمشق ، وخاصةً أنه كان يخاف من توسع العبيديين في جنوب الشام ، وهذا - ولا شك - خلق جوًّا من التوتر في الجيش الإسلامي وأضاف إلى هذا التوتر خوف جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص من إنتقام يوسف بن أبق أمير الرَّحبة ومَنْبِج الذي كان مواليًا لرضوان ، فإعتبر جناح الدولة وجوده في الجيش الإسلامي عداءً لرضوان وحلفائه ، ومن ثَمَّ عاش في توتر كبير أثَّر في معنويات الجيش بكامله ..

لقد ذاق المسلمون ثمرات الوَحْدة المؤقتة التي حدثت بينهم ، وإنكمش الصليبيون داخل أنطاكية ، وكانوا على أبواب الهلكة، والآن ها هم يتفرقون ليذوقوا ويلات التشتُّت والتشرذم ! يقول تعالى: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

ثم زاد الطينة بلة ، وعظمت الكارثة بظهور فتنة عنصرية في الجيش ، حيث نشأ خلاف بين العنصر التركي والعنصر العربي في الجيش ، وكان على رأس الأتراك كربوغا قائد الجيوش وأمير الموصل ، وكان على رأس العرب أمير إسمه وثاب بن محمود المرداسي، وثارت فتنة زكَّاها رضوان من بعيدٍ برسائله المحفزة للتركمان ضد العرب ! يقول رسول الله :"إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ ، مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ" .

كان هذا هو الوضع في الجيش الإسلامي ! ونعود إلى داخل أسوار أنطاكية ؛ لقد شعر بوهيموند - رغم عناده وإصراره - بقرب النهاية , فأرسل في يوم 27 من يونيو 1098م - بعد تسعة عشر يومًا من الحصار - سفارة إلى كربوغا من رجلين أحدهما بطرس الناسك ، يعرض عليه فك الحصار وتأمين الجيوش في سبيل رحيلها , وعلى الرغم من التفكك الذي كان في جيش كربوغا إلا أنه خاف أولاً من خيانة بوهيموند وهي خيانة متوقعة ، ثم إنه شعر بضعف الصليبيين فطمع في القضاء عليهم تمامًا في معركة فاصلة .

ويبدو أنه لم يقدر مدى الضعف الذي يسيطر على جنود الجيوش الإسلامية وقادتها وهكذا رفض كربوغا السفارة ، ومن ثَمَّ لم يعد أمام بوهيموند إلا قرار الحرب ، والحرب السريعة قبل أن يهلك الجيش الصليبي من الجوع .

نظر بوهيموند في جيشه فوجد حالتهم النفسية في الحضيض ، فأراد أن يرفع من معنوياتهم ، ويرسخ عندهم مفهوم النصر الأكيد في المعركة القادمة، فماذا فعل ؟! لقد أشاع بواسطة كاهن من أهل مرسليا اسمه بطرس برتولوني أن القديس أندراوس الرسول ظهر لهذا الكاهن في الحلم ثلاث مرات ليدله على مكان في كنيسة القديس بطرس بأنطاكية ، دفنت فيه الحربة التي طعن بها المسيح عليه السلام ، وأنهم إذا حفروا ووجدوا الحربة فإنهم يحملونها أمام جيوشهم، وهذا الجيش يتحقق له النصر لا محال ! ثم كان من بوهيموند أن أمر الكاهن وبعض الرهبان بالحفر للبحث عن الحربة المزعومة، ثم أخرجوا حربة من الحَفْر، وقالوا: إن هذه معجزة، وإن هذا الجيش منصورٌ ..

وبالطبع فإن هذه قصة لفَّقها بوهيموند وأتباعه لتحميس جيشه ، ولا يُقِرُّ عامة المؤرخين بصدق هذه الحادثة ، ولا غرابة فهؤلاء القساوسة الذين لفَّقوا الحكاية يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وعندنا في عقيدتنا يقينٌ أن المسيح عليه السلام لم يُقتل أصلاً ، يقول تعالى : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ .

فهذه الحربة - ولا شك - فِرْية أرادوا بها رفع معنويات المقاتلين الصليبيين ، وقد تحقق لهم مرادهم، وعادت لكثيرٍ من الجند الحماسة ، وقرروا الخروج من اليوم التالي مباشرة لحرب المسلمين .

وفي صبيحة اليوم التالي 28 من يونيو 1098م بدأ الصليبيون في الخروج من المدينة للقتال ، وأشار المسلمون على كربوغا أن يبدأ في قتالهم قبل أن يكتمل خروجهم ، إذ كانوا يخرجون في جماعات صغيرة، غير أنه رفض وأصرَّ على اكتمال خروجهم ثم يبدأ بقتالهم ؛ يقول بعض المؤرخين : إن هذا ضيَّع عليه فرصة قتالهم منفردين , ولكن يبدو أنه كان يريد خروجهم بالكامل حتى لا يبقى أحد منهم بداخل المدينة متحصنًا، فخشي إن قاتل الجماعات الصغيرة التي تخرج أن يمتنع بقية الجيش من الخروج ، ومن الواضح أن كربوغا كانت تملؤُه الثقة بالنفس والاعتزاز بالأعداد التي معه ، وأغراه حالة البؤس التي كانت عليها الجيوش الصليبية بعد الحصار الطويل ، وأيضًا طلبهم منه أن يرفع الحصار كل ذلك أدى إلى تركه لهم حتى إكتمل عددهم ، ورتبوا صفوفهم تحت قيادة كل زعمائهم، وكان ريمون الرابع يتقدمهم وهو رافع للحربة المزعومة .

ودارت معركة شرسة جدًّا أمام أسوار أنطاكية ، وكانت الغلبة في البداية للمسلمين ، لكنَّ الصليبيين كانوا يقاتلون قتال حياة أو موت ، وعلى العكس كان المسلمون يقاتلون للحفاظ على ملكهم وثرواتهم ، ومَن قاتل على هذه النوايا فهو لا يريد أن يموت ، وهي نوايا لا تصلح أبدًا لجيش مسلم يريد الانتصار , وما أعظم ما قاله رسول الله وهو يحفز جيشه ليلة بدر على القتال في صبيحة اليوم التالي ! فكان يقول لهم : "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"

إنه في هذا الموقف لا يشجعهم على الحفاظ على حياتهم ، لكن يشجعهم على بذلها في سبيل الله ، ولا يجعل همهم غنائم العدو أو بلاده، ولو كانت هذه البلد هي مكة المكرمة ، ولكن يجعل همهم دخول الجنة , وشتَّان بين كل ما رأيناه من رسول الله في ليلة بدر، وما حدث في يوم 28 من يونيو 1098م ؛ إذ ما لبث الزعماء المسلمون أن تزعزعوا ، وبدأ كل منهم يحاول النَّأْي بنفسه وجيشه ، وكان من أوائل الذين فروا التركمان بما فيهم دقاق ملك دمشق ، وثبت جناح الدولة فترة ثم أسرع بالفرار هو الآخر ، ثم فرَّ في النهاية كربوغا نفسه ، وأسرع المسلمون في كل إتجاه ، وكانت الأوامر من قادة الصليبيين ألا يلتفت الجيش إلى الأسلاب والغنائم وإنما يتتبعون المسلمين ، وهكذا تمت مطاردة شرسة لمسافة ثلاثة كيلو مترات شرق أنطاكية حتى حصن حارم , قُتل فيها عدد كبير من المسلمين ، ثم عاد الصليبيون ليجمعوا ما لا يحصى من الغنائم والمؤن والسلاح ، ووصل كربوغا في فراره إلى الموصل ، وكذلك دقاق إلى دمشق .








آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس