عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:21 PM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

البنك الدولي إن "الحكومة تَعتبر المحافظة على ثبات أسعار سلع الاستهلاك الأساسية - أمرًا حيويًا في سياستها الاقتصادية والاجتماعية. وهي تشير إلى الاضطرابات التي فجرتها الظروف الاقتصادية المتدهورة التي سبقت تغيير الحكومة (في أبريل 1975) وهي غير مستعدة (وهذا أمر مفهوم) للمخاطرة بحدوث اضطرابات اجتماعية بقيامها بتخفيض الإعانات الخاصة بتكاليف المعيشة" (26).
وترتب على هذا الالتزام، أن ارتفع صافي الخسارة لهيئة السلع التموينية في ميزانية 1975 إلى 418 مليون جنيه (وكان 330 مليونًا عام 1974). وقد أُنشئ في وزارة الخزانة في موازنة 1975، صندوق يجمع اعتمادات الدعم التي كان بعضها يتناثر في أقسام أخرى من الموازنة، بعيدًا عن هيئة السلع التموينية، ووفقًا لأرقام هذا الصندوق كان الاتفاق الفعلي لهذا الغرض 622.1 مليون جنيه (موازنة 1975) وقدر أن الإنفاق المقابل (في موازنة 1974) كان هو 355.5 مليون جنيه(27)، وإذا أضيف إلى هذا الدعم المباشر الذي تتحمله الدولة في القطاع الاقتصادي يصبح الرقم 188 مليون جنيه 1973 (حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي)، ويقفز إلى 715 مليون جنيه عام 1975 (حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي) (28).
وكان على الميزانية العامة، أن تتحمل في نفس الفترة إنفاقًا عسكريًا مرتفعًا؛ فاستهلكت نفقات الدفاع نسبة كبيرة عام 1974 من إجمالي الإنفاق الحكومي المركزي الجاري (39%). وصحيح أن الزيادة في ميزانية 1975 قدرت بحوالي 20 مليون جنيه فقط (وكان هذا يعني خفض اعتمادات الدفاع بالقيمة الحقيقية)، وصحيح أيضًا أن نسبة الدفاع من إجمالي الإنفاق الحكومي المركزي الجاري انخفضت إلى 35% (29)، ولكنها ظلت تمثل عبئًا شديدًا على الإيرادات. ومع المنطق السائد والمتنامي للسياسة الانفتاحية، امتنع على الحكومة – كما في عام 1974 – تحقيق زيادة حقيقة ومناسبة في الإيرادات المحلية، وفي نفس الوقت
لم تتدفق "المعونات" – الخارجية بالحجم المُتمنَّى، وبالتالي كانت الزيادة في الاستهلاك الحكومي (بما في ذلك نفقات الدفاع) خلال 1975 بنحو 7%، وبإضافة نفقات خفض تكاليف المعيشة إلى الاستهلاك الحكومي قفزت الزيادة إلى حوالي 23% فوق مستوى العام السابق. ويعني هذا أن اعتمادات الدعم كانت من الأسباب الهامة للعجز الجاري المتزايد للميزانية العامة (من 500 مليون جنيه/ 1974 – إلى 1094 مليون جنيه/ 1975 – أرقام حقيقية)، وواصلت الحكومة لجوءها إلى الجهاز المصرفي لسد العجز؛ خروجًا على الخطة الائتمانية الموضوعة.

كان حجم الاقتراض من الجهاز المصرفي مُقدَّرًا – وفق كتاب وزارة المالية إلى البنك المركزي – بنحو 125 مليون جنيهًا في كل من السنة المالية 1974 والسنة المالية 1975، إلا أن التطورات الفعلية أفصحت عن تجاوز تلك الحدود بدرجة كبيرة، ولا سيما خلال عام 1975؛ حيث حقق صافي مطلوبات الجهاز المصرفي من القطاع الحكومي طفرة كبيرة، وبلغ في آخر ديسمبر 1975 ما مجموعه 2691 مليون جنيه مقابل 1706 مليون جنيه في نهاية ديسمبر 1974، أي بزيادة بلغت 985 مليون جنيه خلال 1975. كذلك استحوذت شركات القطاع العام على نصيب هام ومتزايد من إجمالي التسهيلات الائتمانية التي يمنحُها الجهاز المصرفي، وبما يجاوز الحدود المرغوبة للتوسع الائتماني، ولا شك أن اختلال الموازنة العامة كان سببًا رئيسيًا لتزايد اعتماد الكثير من شركات القطاع العام على الائتمان المصرفي في مجال تمويل نشاطها (سواء لنقص رأس المال المعتمد لبعض الشركات عند إنشائها، أو بسبب قصور الاعتمادات المقررة بموازنات الجهات الحكومية عن الوفاء بقيمة الالتزامات المستحقة عليها لشركات القطاع العام، مما يسبب مشكلة سيولة لدى هذه الشركات).
ب- إن مواصلة التمويل بالعجز، وعلى هذا النطاق الرهيب، كانت سياسة عابثة أو حمقاءَ؛ فمحاولات الحكومة للتحكم في الأسعار (المُتَمثلة في اعتمادات الدعم) ينفيها هذا الاقتراض الحكومي الواسع من الجهاز المصرفي، وما نتج عنه من آثار تضخيمية. وتحليل الزيادة في مطلوب الجهاز المصرفي من الحكومة، كان يثبت دور الرصيد المكشوف في حسابات وزارة المالية لدى البنك المركزي. وقد سجل البنك المركزي – بحق – أن "هذه التطورات تُشير إلى مدَى أهمية الحاجة إلى ترشيد أسس وضع الموازنة العامة للدولة، وإحكام الضوابط على الإنفاق الحكومية بصفة عامة. كل ذلك مع تنمية الموارد السياديَّة؛ حتى يجيء العجز الممول عن طريق الجهاز المصرفي متسقًا مع تقديرات التوسع الائتماني الآمن التي تستهدف المحافظة على قدر مناسب من الاستقرار النقدي بالبلاد".
وقد كان طبيعيًّا أن تتأثر كمية وسائل الدفع (أي: البنكنوت المتداوَل خارج البنوك)، والعملة المعاونة، والودائع الجارية) بما طرأ على حجم الائتمان المصرفي كان إجراء تضخُميًّا
لا يقل في أثره عن طبع المزيد من أوراق البنكنوت، ولكن يلاحظ مع ذلك أن الجانب الأكبر من الزيادة في وسائل الدفع الجارية تمثل في تصاعد البنكنوت المتداول خارج الجهاز المصرفي بنحو 195.4 مليون جنيه. "وهو ما يعكس أحد مظاهرات التيارات الضخمة"(30) (زادت كمية البنكنوت المتداول بنسبة 20.9%، والإنتاج القومي الحقيقي زاد بحوالي 9% - إذا صدقت البيانات الرسميَّة بخصوص الإنتاج والناتج).

ج- هذه السياسة كانت استمرارًا لموقف الحكومة في العام الأول من الانفتاح – وأدَّت إلى مزيد من ضعف الموقف المصري في مواجهة مطالبة صندوق النقد الدولي بإلغاء الدعم، فموقف السلطات لم يكن متسقًا، والدعم ظل محاصرًا بجملة السياسات الانفتاحية المقوّضة – عمليًا – لهدف حماية هيكل الأسعار المحلي. وبالتالي تداعت في عام 1975 – كما تداعت في العام السابق – محاولات السيطرة على ارتفاع الأسعار، رغم الدعم، ورغم مصيبة التوسع في الاستيراد لتوفير قدر من المقابل السلعي للسيولة المحلية.
وهذا التوسع كان مصيبة؛ لأنه تحقق – إلى حد كبير وكما نعلم – من خلال التوسع في الاقتراض، ومن الجهاز المصرفي بالذات، وإلى الحد الذي زاد فيه العجز في صافي الأصول الأجنبية لدى البنك المركزي والبنوك التجارية مُجتمعة، من 165 مليون جنيه (1973) إلى 219 مليون جنيه (1974) إلى 1043 مليون جنيه خلال عام 1975. ولأول مرة في تاريخ مصر الاقتصادي، زاد العجز في صافي الأصول الأجنبية عن حجم الصادرات السنوية، وكانت وزارة التخطيط محقة حين علقت بأنه "من الواضح أن مثل هذا الاتجاه لا يمكن أن يستمر" (31). لنا عودة على أية حال إلى هذه القضية. والمهم الآن هو أنه حسب الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين (في الحضر) كانت الزيادة في عام 1975 عن العام السابق بنسبة 9.9%، وكانت الزيادة في بند الطعام والشراب (وزنه في ميزانية الأسرة 52.5%) تصل إلى 12.0% (32).
ورغم ارتفاع المعدلات الرسمية، فإن كافة المسئولين في القطاع الاقتصادي، كانوا يسخرون صراحة من هذه المعدلات، وفي تقدير شبه رسمي لوزارة الاقتصاد، كانت الزيادة في الأسعار خلال السنوات 1971/ 1975 أكثر من 120%، إذا أخذنا في الاعتبار أن الزيادة الأساسية حدثت في عامي 1974، 1975، يمكن أن نقول حسب هذا التقدير: إن المعدل كان في كل من هذين العامين أكثر من 30%، مع ملاحظة أن انفجار التضخم أدى إلى سيولة عالية جدًا لدى الفئات الطفيلية؛ بحيث تسارعت إعادة توزيع الناتج المحلي بين الطبقات المختلفة على نحو أكثر تشوهًا، وبالتالي كان عبء ارتفاع الأسعار قاسيًا على الفئات التي تدهور نصيبها النسبي من الناتج.
(2) جبهة سعر الصرف:
أ- أصر صندوق النقد الدولي في مشاورات 1975 على التحرك السريع باتجاه خفض قيمة الجنيه المصري، وأصرَّت الحكومة من جانبها طوال العام، على أنها لا تهدف ولا توافق على المطالبة بخفض سعر الصرف الرسمي، وبالإسراع في إطلاق حرية التحويل، وأكدت موقفها بإبطاء التوسع في التعامل من خلال السوق الموازية عن المدى الذي طالب به صندوق النقد. وقد صرح وزير المالية (أحمد أبو إسماعيل) بأن صندوق النقد طالب فعلاً بخفض سعر الصرف، "وكان رأينا أننا إذا خفضنا قيمة العملة حاليًا فهذا معناه أننا نرفع أسعار السلع جميعًا، والحكومة الحالية جاءت من أجل المحافظة على الأسعار وتخفيضها" (33).
ووصف وزير الاقتصاد (زكي شافعي) الحديث عن إطلاق التعامل في الجنيه المصري قائلاً: "هذه جريمة"!.. "هذا يحدث عندما يكون الاقتصاد في حالته الطبيعية. أما الآن فهو جسم مريض، فكيف أحكم عليه؟" (34) ورئيس الحكومة أعلن نفس الموقف حين طلب عضو في مجلس الشعب بتحويل السوق الموازية إلى سوق حرة. يومها رد ممدوح سالم بأن "السيد العضو تحدث بأسلوب اقتصاد حر في موضوع سعر الجنيه المصري. ويتم التعامل به على أساس سعره الحقيقي في السوق الحرة. وسوف ينتج عن هذا أن يصل سعر الجنيه إلى 60 أو 65 قرشًا، في حين أن الجنيه المصري ما زالت قوته الشرائية في مصر الآن، ورغم انخفاض سعره، تزيد على جنيهين أو ثلاثة جنيهات إسترلينية في بريطانيا، وتزيد على خمسة دولارات في الولايات المتحدة الأمريكية. إن التعامل بالسعر الحقيقي سوف يترتب عليه ارتفاع سريع جدًا في الأسعار، والمرحلة غير مواتية لتقويم الجنيه المصري، حتى يصل إلى سعره الحقيقي، ويجب التدرج في ذلك. إن الجنيه المصري سوف يعود إلى قوته الحقيقية في التعامل الخارجي، إذا توازن في ميزان مدفوعاتنا، وما زال هناك خلل في ميزان المدفوعات يبلغ 1400 مليون جنيه" (35).
إلا أن هذا الموقف عارضه خلال 1975، كما عارضه في العام السابق، مجمل السياسات و"المؤامرات" التي أدت إلى تفاقم العجز القومي قبل العالم الغربي.
ب- ميزان السلع والخدمات: كانت خطة 1975 – بالنسبة للصادرات السلعيَّة – تستهدف تصدير ما مقداره 683.6 مليون جنيه (دون حصة الشريك)، وكانت التقديرات الأولى أن المنفذ لم يتجاوز 493 مليونًا، بنقص 27.9% عن المستهدف. وتركز التخلف في صادرات السلع الزراعية، وكان القطن من أبرز الأمثلة (ولنقص الكميات أكثر منه بسبب السعر). وقد انخفضت الواردات السلعيَّة في المقابل، فحيث كان المستهدف حوالي 2130 مليون جنيه، بلغت تقديرات الموازنة النقدية للمنفذ حوالي 1791 مليون جنيه، بنقص 16% (36)، ولكن هذه التقديرات تعدلت كثيرًا في الأرقام الفعليَّة المعلنة. والتعديلات أمرها مفهوم إذا كانت لتدقيق حسابات المنفذ، ولكن من الغريب أن الأرقام المستهدفة، هي التي أصابها التعديلُ الأكبر في البيانات النهائية لوزارة المالية، فقيل: إن المستهدف للصادرات السلعية كان 466 مليون جنيهًا فقط (وليس 684 مليون جنيه)، والرقم الفعلي 492 مليون جنيه، وبالتالي لم يحدث قصور، وإنما تجاوز لأهداف الخطة. وبالنسبة للوارِدات السلعية، تعدلت الأرقام كذلك، فقيل إن المستهدَف استيرادُه كان 3363 مليون جنيه، والمنفذ فعلاً كان 1825، وبالتالي نقصت الوارِدات الفعلية عن هذا المستهدف "الجديد" بنسبة 19.3%.
* على أيَّة حال، إذا اعتمدنا ما أعلنته الموازنات النقدية كأرقام فعلية، تكون قيمة الصادرات السلعية (عام 1975) قد هبطت إلى 466 مليون جنيه (حوالي 1260 مليون دولار) عام 1974. وفي نفس الفترة قفزت قيمة الوارِدات السلعية إلى 1825 مليون جنيه مقابل 1579.6 في عام 1974. ولكن قد يحسن أن نعتمد في المقارنة بين الأداء الفعلي للسنوات المختلفة على مصادر البنك المركزي (راجع هامش رقم 36). وفي هذه الحالة تتعدَّل الأرقام على النحو التالي – جدول (1):


جدول (1)
الميزان السلعي لعامَي 1974 و1975
بملايين الجنيهات
1974
1975
صادرات سلعية f.o.b
وارِدات سلعية c.i.f.
العجز
653.9
1357.5
-703.6
612.8
1691.1
-1078.3

وفقًا لجدول (1) تكون الصادرات قد نقصت عن العام السابق بنسبة 6.3% والواردات زادت 24.6%، واتسع العجز بنسبة 53.3%. لقد تجاوزت قيمة العجز في الميزان السلعي (في عامي 1974، 1975) إجمالي الحصيلة من صادرات مصر السلعية، ولكن كان التجاوز في السنة الأولى بنسبة 7.6%، وفي السنة التالية 76%. وكان واردًا في مشروع الموازنة النقدية (لعام 1975) أن تتجاوز قيمة الواردات الاستهلاكية وحدها )594 مليون جنيه) كل حصيلة الصادرات السلعية (466 مليون جنيه)، وتم هذا فعلاً حسب بيانات المتابعة للموازنة النقديَّة، ومع هذا لم يتخذ أي إجراء لمواجهة هذا الوضع الشاذ والخطير، وكان يتعذر في الحقيقة عمل شيء جاد؛ لأن المسألة لا تواجه بإجراء واحد سحري، وإما ترتبط بحزمة سياسات مستقلة رشيدة، تتناول الإنتاج والاستهلاك والتجارة الخارجية (من العوامل التي حدَّت من زيادة الصادرات السلعية – على سبيل المثال – أن الاستهلاك ابتلع قدرًا من الفائض المحتمل تصديره). كل الحزمة من السياسات المُتبعة (الانفتاح) كانت تؤدي إلى حتمية الانهيار.
وكان طبيعيًّا أن تتجدد مع "هوجة" التوسع في الاستيراد أزمات التكدُّس المتزايد في ميناء الإسكندرية، بل ما ترتب على ذلك من ارتباكات في حركة السحب، وفي عمل الوحدات الاقتصادية، وأيضًا بكل ما ترتب على ذلك من أعباء تحمَّلتها أسعار الاستيراد (37)، ونمت من خلال كل هذا شبكةُ النهب والفساد المنظم (كما أوضحنا في الفصل السادس).
* لقد اتخذ البعض من ارتفاع أسعار الواردات عام 1974 سببًا لقفزة الاستيراد في تلك السنة. وسبق أن رفضنا ذلك. ولكننا على أية حال – في العام الثاني من الانفتاح – أمام حقيقة أن أسعار الواردات في عام 1975 كانت أقل – بوجه عام – عنها في العام السابق، فيما عدا الواردات الاستهلاكية التي ارتفعت أسعارها ارتفاعًا طفيفًا (حوالي 3%)، وإجمالاً كان الرقم القياسي لأسعار الواردات ثابتًا في العامين، وتحسن معامل التبادل (ولو بدرجة طفيفة) على النحو التالي – جدول (2).
جدول (2)
شروط التجارة 1973 – 1975 (38)
1969/ 1970 = 100
1973
1974
1975
الرقم القياسي لسعر الصادرات
الرقم القياسي لسعر الواردات
معامل التجارة
الرقم القياسي لحجم الصادرات
الرقم القياسي لحجم الواردات
120
121
100
95
108
213
239
89
73
140
216
239
90
66
235

ومع ذلك استمر التوسُّع في الاستيراد، بنفس الإصرار، وبمعدل بالغ الارتفاع، رغم النقص في حصيلة وكم الصادرات. لقد أصبح التوسع في الاستيراد - إذن - متغيرًا "مفلوت العيار"، يمضي في طريقه لا يلوي على شيء: ارتفعت الأسعار، ثبتت الأسعار، زادت الصادرات، قلت الصادرات، وصلت "المعونات"، وقفت "المعونات".. في كل الأحوال لا بد أن تتسع الوارِدات! ويقول تقرير المتابعة لوزارة التخطيط: إن الواردات خلال عام 1975 "تزايدت بوجه عام تزايدًا ليس من اليسير تفسيره مع ما تحقق في عام 1974، ولا مع تحقق من الأهداف الإنتاجية والاستهلاكية وأهداف التنمية". فالواردات الاستهلاكية زادت عن عام 1974 – وفْقًا للتقرير – بنسبة 23%، والوارِدات من السلع الوسيطة زادت بنسبة 38% "ومعنى ذلك أن هناك اتجاهًا توسُّعيًّا واضحًا في الواردات الاستهلاكية، يتعدَّى الزيادة الكلية في الاستهلاك، وأن هناك زيادة في الواردات الوسيطة لا تتمشى مع الزيادة المتحققة في الإنتاج القومي، والتي
لا تتعدى 10% على أقصى تقدير.

"ولا يجد التخطيط تفسيرًا لذلك، سوى تراكم المخزون من السلع المستوردة. وهناك أمثلة واضحة على ذلك – كما هو الحال بالنسبة للقمح والدقيق والأخشاب والورق، إلى غير ذلك" (39). وهذا ليس تفسيرًا. إنه نتيجة تتطلب التفسير؛
إذ كيف يتم التوسع في الاستيراد بهدف تراكم المخزون في دولة تقترض من المصارف الأجنبية بفوائدَ باهظة؛ لكي تقتات؟ كيف نفسر تدفق الواردات التي تستوعبها، والتي
لا تستوعبها، بلا توقف، بل بتسارع، وأيًّا كانت الظروف، إلا بأن هناك من يخطط لإغراق مصر في الديون، ويستخدم في هذا كل الأدوات المحققة للهدف؟

* وكان مفهومًا أن التوزيع الجغرافيّ (أو السياسيّ) لتجارة مصر الدولية، يخضع أيضًا للمخطط (أو المؤامرة). وفي هذا النطاق، أحدث مزيدًا من الاختلال حسب الجدول (3) – (المصدر: الموازنة النقدية).
جدول (3)
توزيع التجارة الخارجية عام 1975
بين دول العملات الحرة ودول الاتفاقات بملايين الدولارات
مستهدف
مُحقَّق
عملات حرة
اتفاقات
إجمالي
عملات حرة
اتفاقات
إجمالي
1- الموارد
* زراعة
* صناعة
* غير منظورة
2- الاستخدامات
* وارِدات سلعيّة
* غير منظورة
682.8
108
226.8
308
4841.8
4734
107.8
859.2
455.9
362.3
41
1104.6
1058
46.6
1542
563.9
629.1
349
5946.4
5792
154.4
595
81.7
213.8
299.5
4178.4
4075
103.4
995.6
508.6
455.7
31
619.5
598
21.5
1590.6
590.6
669.5
330.5
4797.9
4673
124.9

ويتضح أنه حدث فائض في ميزان العمليات الجارية مع دول الاتفاقيات (الدول الاشتراكية أساسًا) بلغ 376 مليون دولار، بدلاً من العجز المستهدَف وقدرُه 246 مليون دولار. وحدث هذا بسبب الزيادة في الصادرات مع نقص الواردات عمَّا كان مستهدفًا. ولم تستخدم الزيادة في الصادرات لاستيراد احتياجات سلعية، ولكنَّ استخدمَ الفائض الكبير في الميزان لسداد الديون لدول الاتفاقيات، بمعدل أعلى من توقعات هذه الدول الدائنة (في فترة يطالبها فيها المسئولون المصريون، بإعادة جدوَلة الديون!). وفي نفس الوقت توسع الاستيراد من الدول الغربية، دون زيادة في التصدير إلى أسواقها، وأدى هذا إلى مزيد من تدهور الميزان بالعملات الحرة، فبينما كان إجمالي الموارد بالعملات الحرة يغطي 22.5% فقط من المدفوعات عن الواردات السلعيَّة بذات العملات (عام 1974) تدنَّت النسبة (المنخفضة أصلاً) إلى 14.6% (عام 1975) بكل ما ترتب على ذلك من تراكم الديون والالتزامات المستحقة للدول الغربية. ويصف تقريرُ وزارة التخطيط، الإسراعَ في تحسين ميزان المدفوعات مع دول الاتفاقيات - بأنه "الإسراع غير المخطط". من قال إنه غير مُخَطط؟!
ج- عجز العمليات الجارية والرأسمالية وتراكم الديون: نبدأ بالتقييم العام، والتحذير الأمين الذي قدَّمه البنكُ المركزي المصري؛ فقد أثبت أنه "إذا كانت الحاجة تدعو إلى تدبير التمويل الخارجي اللازم لمقابلة هذا العجز الجاري؛ فقد كان يتعين على البلاد في الوقت ذاته الوفاء بقيمة التزامات متعلقة بأقساط قروض وفئات استحقّت خلال العام لمصالح الحكومات الأجنبية، والهيئات والمؤسسات الدولية وغيرها. هذا إلى جانب تسديد المستحق من التسهيلات المصرفية التي حصلت عليها البنوك التجارية المصرية من البنوك الأجنبية، والتي بلغت قيمتها 780 مليون جنيه، بِخلاف قيمة الفوائد المستحقة وعليها وقدرها 75 مليون جنيه، وكذلك تسديد مبلغ 132 مليون جنيه من مُستحقَّات المورِّدين في الخارج"... "ويتضح من هذا العرض لمركز المعاملات مع الخارج خلال 1975، مدى العجز الكبير الذي نجم عن العمليات التي تم إجراؤها بالعملات الحرة؛ ذلك أن حصيلة الصادرات السلعية والخدمية بهذه العملات، إلى جانب تحويلات الدعم العربي، تقصيرًا كثيرًا عن مواجهة المدفوعات بالعملات لاستيراد السلع الاستهلاكية والاستثمارية اللازمة للبلاد وأداء الخدمات، بالإضافة إلى الوفاء بالالتزامات العديدة الناشئة عن استخدام القروض والتسهيلات المصرفية وتسهيلات الموردين" (40)، وطالب البنك المركزي بضرورة "الحد من الاعتمادات على التسهيلات المصرفية التي جاوز المُستخدَم منها حدود الأمان بما لا يتناسب مع الموارد المتاحة للبلاد من النقد الأجنبي، وما قد يترتب عليه من صعوبات في الوفاء بها في مواعيد استحقاقها؛ مما يضر بسمعة الجهاز المصرفي، ويسيء إلى الثقة الواجب السعي إلى دعمها في اقتصاد البلاد" (41). وكانت هذه الصيحة من المحاولات اليائسة للتكنوقراط الوطنيين لوقف الانهيار.
* ندخل بعد هذا في تفاصيل وأزمات مواجهة الالتزامات. في سنة الانفتاح الأولى تمخَّضت الوعود الأمريكيَّة والغربيَّة حول تدفق المعونات والقروض الميسرة عن لا شيء. وفي عام 1975 بدأت "البشائر"، فتضاعفت ارتباطات الحكومات الغربية والهيئات الدولية، كانت 294.8 مليون دولار عام 1974، فقفزت إلى 897 مليون دولار عام 1975. وارتفع نصيب الولايات المتحدَّة من صفر إلى 401 مليون، ولكن كما كانت هذه الالتزامات مجرَّد أرقام في العام الأول من الانفتاح ظلَّت كذلك مجرد أرقام في العام الثاني؛ إذ كان السحب على هذه القروض بالغ البطء، وبالتالي لم تسهم في تخفيف أعباء التمويل الخارجي، بل استمرت حسابات القروض المتوسطة والطويلة الأجل مع الدول الغربية والشرقية تظهر نتيجة سالبة، أي كان التدفُّق العكسي (من مصر إلى الخارج) سدادًا لأعباء الديون القديمة، أعلى من تدفقات القروض الجديدة إلى مصر (إذا استبعدنا القرض الإيراني وودائع الدول العربية)، تمامًا كما كان الحال في عامي 1973 و1974.
وبالنسبة لحصيلة الدعم العربي (منح نقدية لا ترد) انخفضت في عام 1975 إلى 988 مليون دولار (مقابل 1264 مليونًا في العام السابق)، وهذه الحصيلة غطَّت 40% فقط من العجز في ميزان السلع والخدمات (مقابل 78% في العام السابق)، وإذا أضيفت التسديدات الرأسمالية، يكون الدعم العربي قد واجه 28% من التزامات مصر المالية الخارجية (مقابل 55% عام 1974). ولكن قد تُضاف إلى هذا الدعم الودائع العربية في البنك المركزي (1400 مليون دولار) وضمان قرض نقدي مقدم للبنك المركزي (180 مليون دولار)، ونضيف هنا أيضًا القرض النقدي الإيراني (320 مليون دولار)، وينتج عن إضافة هذه القروض إلى تحويلات الدعم، أن إجمالي السيولة الموفَّرة – بشروط يقال إنها ميسرة – زاد كثيرًا عن إجمالي العام السابق، ولكن هيكل هذه الموارد أصبح يتألف من قروض إلى جانب المنح، والمنح بالتحديد أصبحت أقل، حتى من حيث الحجم المُطلق. وصحيح أن هذه الموارد لم تواجه كل العجز، ولكنها غطت جزءًا هامًا منه، فقررت الحكومة – بناء على طلب صندوق النقد – أن تضبط الكمية الجديدة من التسهيلات المصرفية المفتوحة؛ بحيث لا تتجاوز في أيَّة فترة 75% من الكميات التي تقع إجالها وتستحق السداد في الفترة (42). وبالتالي هبطت الالتزامات الجديدة خلال عام 1975 إلى 1789 مليون دولار، مقابل 2327 مليون دولار في عام 1974 وهبط صافي استخدام التسهيلات المصرفية (الصافي – الاستخدام – تسديدات أساس الدين) من 585 مليون دولار إلى 129 مليون دولار عام 1975 (وفي قول آخر 88.7 مليون دولار) (43). ولكن ينبغي أَلا نُخدَعَ في مصطلح "صافي الاستخدام" الذي قد يضللنا عن الحجم الحقيقي للكارثة، فانخفاض صافي التسهيلات المصرفية، قد يؤدِّي إلى تخفيف العبء المورث لعام 1976 (وقد تحقق هذا بفضل القروض النقدية الكبيرة من الدول الخليجية العربية وإيران خلال عام 1975) ولكن وصل مع ذلك استخدام التسهيلات المصرفية إلى 2225 مليون دولار أثناء عام 1975 مقابل 1545 مليونًا في العام السابق بزيادة 47%؛ لسداد الالتزامات التي حلت آجالها خلال العام (996 مليون دولار كأساس + 193 مليون دولار فوائد – والرقمان المقابلان في العام السابق 960 و113) (44). ولكن رغم هذا التفسير هللت السلطات المحلية والهيئات الدوليَّة لخفض صافي التسهيلات.
* وكان أحمد أبو إسماعيل (وزير المالية) يفاخرُ في نهاية العام بأنه "مع الاستعانة بالقروض الطويلة الأجل، المُقدَّمة من الحكومات والمؤسسات الدولية بشروط ميسرة، أمكن تقليل الاعتماد على استخدام التسهيلات قصيرة الأجل لتمويل الواردات؛ بحيث لا يتجاوز ما يعادل استخدامه منها 75% من المسدد؛ مما يؤدي إلى تخفيف أعباء الالتزامات تدريجيًا خلال السنوات القادمة، وتخفيف أعباء الفوائد المرتفعة التي يتم تحملها؛ نتيجة استخدام هذا النوع من الائتمان".
إلا أن واقع الحال كان بعيدًا جدًا عن هذه الصورة الورديَّة الزائفة؛ فعبْر السياسات الرسمية، أو الممارسة كأمر واقع، شُلَّت سيطرة الدولة على إدارة الاقتصاد، وإدارة التجارة الخارجية، ومع "تحرير" الاستيراد، أو مع فوضى التوسع في الاستيراد غربًا (رغم قصور الموارد من العملات الحرة) انهار ميزان المدفوعات في العام الأول من الانفتاح. وصاحب هذا امتناعُ القروض الميسرة، فلم يبقَ لمواجهة الانهيار غير الدعم العربي، والغرق في الديون المصرفية، وفي عام 1975 نجح "المخطط" في تحقيق مزيد من التوسع في الاستيراد، وبالتالي في إحداث مزيد من العجز في ميزان السلع والخدمات، وأصبح على السلطات مواجهة هذا الانهيار الجديد، بالإضافة إلى الالتزامات الأجنبية التي حلت آجالها خلال العام، وقد عبْر تقرير لوزارة التخطيط (حول متابعة النصف الأول من عام 1975) عن فزع الوزارة من هذه التطورات، فنبَّه إلى أن هناك اختلالاً أساسيًّا وخطيرًا في التوازن الاقتصادي العام؛ حيث تتعدَّى الأعباء القومية الموارد الذاتية بنسب قدرها بنحو 50% (45)، وقد عدلت هذه النسبة في تقرير "تال" إلى 39.3%، ولكنْ تظل هذه النسبة "تعطي دلالة واضحة عن تطور خطير في الثغرة الاقتصادية التي تواجهها مصر قبل العالم الخارجي" (46)، فقد اتسعت الثغرة، أو العجز القومي (العجز القومي = عجز الميزان الجاري للسلع والخدمات + الالتزامات الأجنبية المستحقَّة خلال العام) حسب تقرير الوزارة على النحو التالي:
(بالمليون جنيه)
1972
1973
1974
1975
العجز القومي
نسبته إلى الناتج القومي %
545
15.8
662
17.7
1214
27.3
2061
39.3

ولم يكن ممكنًا مواجهة كل هذا بالاغتراف من مَعين البنوك الأجنبية إلى ما لا نهاية. لقد نقل الرئيس السادات عن وزير الاقتصاد المصري (في أواخر 1970) أنه شبَّه حاله في مواجهة سداد الالتزامات المتلاحقة والمتنافسة، بأنه "كمِن يلبس طاقية هذا لذاك"، وكان الوزير – حسب رواية الرئيس– يقصد أنه يُضطر إلى الاقتراض من جهة ليسدد لجهة أخرى. وهذه العملية المتصورة تسارعت جدًا في عامي 1974، 1975 وأصبح الوزير المسئول، في حاجة إلى مهارة لاعب السيرك الذي يحرك "الطواقي" بسرعة مجنونة؛ بحيث لا تكاد - من السرعة - ترى يديه
أو الطواقي. مع ذلك، فإنه حتى بالنسبة للاعب السيرك،
لا يمكن تجاوز سرعة معينة، وإلا ارتبكت الحركة، ووقعت الطواقي، وكان هذا هو حال الحكومة عام 1975. ولم يصل الأمر إلى مجرد انكشاف الحال أمام البنوك الخارجية، وتراكم المتأخِّرات، وتوقف البنوك بالتالي عن تقديم تسهيلات جديدة، ولكن وصل الارتباك إلى حد أن البنك المركزي
لم يتمكن من تقديم بيانات معتمدة عن تطور حركة التسهيلات المصرفية المسحوبة، والمسددة خلال الفترات المختلفة أثناء عام 1975(47)، وفي غير هذا من أمور الديون المصرفية تضاربت بيانات البنك المركزي بشكل مذهل. لقد أدت البنوك الخارجية دورها المرسوم خلال العام الأول من الانفتاح
(أو الغزو الاقتصادي)، ومطالبتها بمُستحقاتها في العام الثاني– فضلاً عن أنها إجراء طَبَعيٌّ من مؤسسات مالية – يخدم هدف الضغط على المَدين. وطالما أن المطلوب هو ترويض المدين وليس إزهاق روحه، أو إجباره على التمرد، كان طَبَعيًّا أن تصدر الإشارة للموارد النفطية؛ كي تتدخل للإنقاذ، ولتخفيف العبء. وهذه الموارد كانت تفِد في التوقيت، وبالقدر، الذي يحدده صندوق النقد الدولي ومَن خلفه، حسب الاعتبارات السياسية وقبول الشروط الاقتصادية. ولا ننسى أن مكون المنح داخل الأموال النفطية قد انخفض، وبالتالي كان الجزء الأكبر من هذه الأموال مجرد استبدال لجزء من الدين المصرفي، بدين آخر ذي فائدة أقل، ولا نقول ذي مدة أطول؛ لأن الودائع مثلت 100% من التدفقات "المنفذة" لدول الخليج العربية، و74% من إجمالي تدفقات هذه الدول وإيران معًا، والودائع نوع من القروض يحدد الدائن أجله باختياره، فهي ودائع تحت الطلب (انظر الفصل الثالث).

* والخلاصة؛ أن حصاد العملية عام 1975 كان تمكين التوسع المجنون في الاستيراد من التواصل، واستفادة الجهات الأجنبية المهاجمة من لحظات الأزمات الحادَّة مع البنوك الأجنبية من أجل فرض الشروط، والمعونات العربية التي ذهبت لسداد التزامات البنوك؛ لتفرض الإفلاس والخراب... وبمعنى آخر، أنقذ المدين من الغرق، ولكن لم ينتشل، وأفهم أن الحبل الممدود إليه، يمكن أن يُسحب عند أيَّة بادرة تمرُّد. وينبغي أن نعي - في هذا الإطار - مقولة البنك الدولي عن المعونات النفطية بأن "هذه الأموال تساعد في تيسير تحول مصر إلى الاقتصاد المفتوح" (48).







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس