عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:29 PM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة



الفصل الثامن


(1976)
هبَّةُ يناير تؤجِّل إعلانَ الاستسلام

مقدمة
في استقبال العام الجديد، كان كافة المسئولين في القطاع الاقتصادي ـ كما أوضحنا ـ يدركون خطورة التردي الحادث في جبهة الدَّيْن الخارجي، وخطورة النتائج التي تترتب على ذلك. وزير التخطيط سجل علنًا (25 نوفمبر) أن المركز النهائي المتوقَّع في نهاية 1975 (قبل العالم الخارجي)، وبعد استنفاذ كل إمكانيات المواجهة، يشير إلى فجوة تبلغ 545.9 مليون جنيه، ما زالت مكشوفة ويلزم تدبير موارد إضافية لمواجهتها، وقدر الوزير أن الفجوة المكشوفة خلال عام 1976 تتسع إلى نحو 790 مليون جنيه(1). صحيح أن وزير المالية حاول في نفس الفترة (11 ديسمبر)، وفي نفس المناسب (عرض الخطة والموازنة أمام مجلس الشعب) أنه يوحي بأننا كدنا أن نعبر نقطة الاختناق؛ إذ "راعينا تدبير المبالغ اللازمة لسداد التسهيلات المصرفية التي ستُستَحقُ حتى آخر ديسمبر 1975 في مواعيد استحقاقها" (2)، ولكن وزير المالية، كان يذكر هنا نصف الحقيقة، ويخفي نصفها الآخر؛ ففي تقديرات الموازنة النقدية (التي تصدر عن وزارة المالية، ولكن لا تنشرها). كان واضحًا أن متأخرات الديون المصرفية محدودة نسبيًا بالفعل (32.9 مليون دولار)؛ بسبب الإجراءات الخليجية، ولكن كان واضحًا أيضًا أن المتأخرات (التي تراكمت خلال شهرَي نوفمبر وديسمبر) بلغت في الالتزامات العامة والودائع وتسهيلات الموردين 497 مليون دولار، ويهبط الرقم إلى 318 مليون دولار في حالة إمكان الاتفاق على تأجيل سداد ودائع كويتية وعراقية وليبية (3). (والمتأخرات تعكس طبعًا الفجوة التمويلية).
المهم، أكَّد وزير التخطيط موقفَه التحذيريّ ـ والتحليلي أيضًا ـ حين سجَّل في تقرير آخر "أن الأزمة الاقتصادية ليست بطبيعتها أزمة يعالجها الحصول على مواردَ سائلة، تغطي ميزان المدفوعات، بل هي أزمة متعددة الجوانب؛ يُزيد تعقيدَها، أنَّ أبعادها سياسية واجتماعية واقتصادية، وأن جذورها تمتد إلى سياسات اتُّبِعت، وقرارات اتُّخِذت على مدى عدة سنوات، ومن ثم، فإن حلولها يتعين أن تكون حلولاً جذرية، ليست من قَبيل المسكِّنات، أو مجرد جرعات نقدية سائلة ترد إلينا من الخارج" (4). وقد نختلف مع وزير التخطيط في تصوره (الذي لم يعلِنه صراحة) للحلول المُرشَّحة، ولكن يظل المدخل الذي أشار إليه هامًا، فالمشكلة المركبة تتطلب حلاً مركبًا، ومجموعة من السياسات المتكاملة، إلا أن هذا التحليل ـ رغم صدوره عن وزير مسئول ـ لم يكن أكثر من كلام. وبالتالي تركزت الجهود العملية ـ خلال العام ـ على الاستمرار في محاولة الحصول على موارد سائلة لمواجهة العجز في الالتزامات الخارجية ـ ومن دول الخليج بالذات، ولكن في ذلك العام (1976) كان التحرك المصري الرسمي إلى دول الخليج يهدف إلى برنامج للمعونة لا يتحدد بطريقة "تبدو" عشوائية، ولا يرتبط بتقلصات وذبذبات حادة في التوقعات والتنفيذ خلال السنة الواحدة.
كان التحرك المصريُّ يهدِفُ إلى برنامج ذي أهداف والتزامات واضحة لعدد من السنوات، وقالت القيادة المصرية إنه يؤدي إلى خروج الاقتصاد المصري من عثرته تمامًا. وكان هذا البرنامج يستند إلى إطار الخطة الخمسيَّة (76 ـ 1980)، التي أُعلِن أن البنك الدولي وافق على واقعية تقديراتها. إلا أن الأطراف الخارجية (وتتبعها دول الخليج) كانت تهدف ـ خلال نفس العام ـ إلى شيء مختلف.
أولاً ـ الإطار السياسي العام:
قبل الاستطراد.. لا بد من وقفة لتذكر الإطار السياسي:
فقد شهدت الفترة التالية للاتفاقية الثانية لفصل القوات (أي: في الربع الأخير من عام 1975) أعنفَ هجوم شنَّه الساداتُ على الاتحاد السوفيتي، ونشير ـ بشكل خاص ـ إلى خطاب 29 سبتمبر (أي: في نفس الشهر الذي وُقِّعَت فيه الاتفاقيةُ). في هذا الخطاب عرض الرئيس - لأول مرة - عديدًا من القصص حول "مأساة" العلاقات المصرية السوفيتية منذ أيام عبد الناصر (وهي القصص التي عاد إليها وكررها طوال السنوات التالية في عديد من المناسبات).
وكانت الذُّروة في الخطاب، حين قال إنه كان في حرب أكتوبر يحارب الأمريكان من الإمام والروس من الخلف. شهدت هذه الفترةُ - أيضًا - بداية لدعم الموقف الأمريكي في أفريقيا (أنجولا) ـ وشهدت ابتعادًا مصريًّا عن التدخل المباشر والصريح في الأزمة اللبنانية ـ ومحاولات غير ناجحة لتوثيق العلاقات مع الرياض (مشروع مارشال العربي) ـ ويبدو أن الرئيس كان "يتوقع الكثير في تحريك القضية بعد زيارة الولايات المتحدة" (5)، وظلت التوقُّعات قائمة في أوائل 1976، ويبدو أنها اعتمدت على اتصالات ووعود تبددت بعد ذلك؛ حيث صرَّحَ كيسنجر بأن محاولات استكشاف إمكانيات التحرك لتسوية شاملة في الشرق الأوسط، توقفت تمامًا منذ أواخر مارس؛ بسبب الأزمة اللبنانية التي استنزفت كل الطاقات.
وقد شهد عام 1976 على مستوى المنطقة العربية كلها تقلُّصاتٍ سياسيةً عنيفة، من أول العام إلى نهايته، ولكن حكمها - بشكل عام - ترقب نتيجة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة. كان مفهومًا أن الدور الأمريكي سيُستَأنفُ بعد الانتخابات، وكان طَبَعيًّا أن تتحرك ـ خلال السنة ـ كلُّ الأطراف المعنية؛ لتحسين مواقفها النسبية، وبالفعل تحركت الأطراف العربية (كل طرف في اتجاه)، وتحرك الاتحاد السوفيتي، ولكن كان الرصيد الإيجابي ـ في الحساب الختامي ـ من نصيب الولايات المتحدة وإسرائيلَ.
إن عرضنا للتطورات السياسية يتركز على ما يرتبط مباشرة بالدور المصري خلال عام 76، ومن هنا نشير، بشكل خاص، وفي إطار الحديث عن تمزق العلاقات العربية، إلى التوتر الدائم والمتصاعد في العلاقات المصرية ـ الليبية، الذي انعكس في تهديدات متكررة من القيادة المصرية بضرب ليبيا. وتدهور العلاقات المصرية الليبية (كما هو الشأن في كل الصراعات الأخرى بين الأقطار العربية) له مبررات محلية (موضوعيَّة أو غير موضوعية)، ولكن من المؤكد أن القوَى الخارجية تسعى بدأب إلى تعميق الخلافات، وإلى توجيه الصراعات المحلية على النحو المحقق لمصالحها.
وفي حالة العلاقات المصرية ـ الليبية بالتحديد، فإن الولايات المتحدة صاحبة مصلحة استراتيجية في إضعاف النظام الليبي، وكانت تسعى باستمرار لتوصيل العلاقات السياسية بين مصر وليبيا إلى المستوى الذي يمتنع معه أن تكون ليبيا ضمن المصادر المُحتملة لإقراض الاقتصاد المصري بشروط ميسرة؛ حتى تحتكر العملية دولُ الخليج، وقد وضح أن الأمور تمضي في هذا الاتجاه بنجاح، حين نُشر في القاهرة عن قيام القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية بالتخطيط والإشراف على تنفيذ خطة دعم القوات الموجودة على الحدود الغربية، والشمالية الغربية لمصر (12 أغسطس)، وتأكدت المخاطر مع رفض كافة الوساطات، وكانت هذه التطورات نذيرًا لما تمّ في مرحلة لاحقة.
ولكن أهم التطوّرات في ساحة العلاقات العربية، تمثَّل في "لعبة لبنان" الدامية. ولسنا بصدد تحليل هذه الأزمة ومراحلها، ولكن نكتفي بتسجيل النتائج التي قد تكون موضع اتفاق عام (كما بدَت في ذلك العام، وكما تفاقمت في الأعوام التالية).
تحلُّل المجتمع اللبناني، وتحلُّل مؤسساته المركزية الموحَّدة، إضعاف الوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، كقوة ضغط على العدو الصهيوني، تحقق توسُّع إسرائيلي من نوع جديد؛ بالهيمنة الفعلية على مزيد من الأراضي، ثم بالمشاركة الصريحة - كقوة من قوى الصراع السياسي - داخل قطر عربي (من خلال الجيش الإسرائيلي، و"المعونات"، والمستشارين السياسيين والعسكريين) ـ استنزاف قوى وموارد سوريا ـ اشتعال الصراع السياسي الحاد بين دولتي المواجهة: مصر وسوريا من جهة، وبروز تناقض بين سوريا والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى. ولا شك أن المستفيد النهائي من هذه المأساة كان إسرائيل والولايات المتحدة؛ خاصة وأن الجهود الأمريكية أفلحت في منع الاتحاد السوفيتي من استعادة
أو توثيق علاقاته بالمنطقة، رغم تناقضات الأزمة التي كانت تساعد على ذلك.

وكان واضحًا أن اتفاقية الفصل الثاني للقوات، قد حققت هدفها تمامًا في شق الصف العربي، وخاصة في الجبهة المصرية ـ السورية. ولكن بعد الاتفاقية، وضُح أن الولايات المتحدة (وإسرائيل) نجحتا أيضًا في استخدام الأزمة اللبنانية؛ لكي تزيد الصراع المصري السوري اشتعالاً، كان السادات يعلم أن التحرك الأمريكي، من أجل خطوة جديدة في ساحة الصراع العربي (أو المصري) - الإسرائيلي، سيتوقف خلال 1976، ولكن تصرف حيال الأزمة اللبنانية ـ في تلك الفترة ـ منْ تصوَّر أن الموقف الأمريكي من الأزمة، يهدِف إلى إضعاف المركز النسبي للنظام المصري، في حسابات التسوية، عندما يحل موعد التحرك الجديد. وانعكس هذا التصور في هجوم حاد على القيادة السورية، وفي مزايدة على الموقف من القضية الفلسطينية، ومنظمة التحرير.
وبعيدًا عما لا نعرفه عن أنشطة المخابرات المركزية، فإنه يمكن بالعين المجردة ملاحظة أن دمشق أصبحت (طوال ما يقرب من ثلثي العام) مسرحًا لنشاط سياسي واسع، ومركزًا لاتصالات دولية نشطة مع السعودية والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وفي حدود ما نُشر، نلاحظ أنه كان هناك حرصٌ دائم على لفت نظر السادات إلى هذه الظاهرة.. في حديث معه، دار الحوار مثلاً على النحو التالي:
"س: ما لم تستطِعْ أن تحققه أنت، استطاع أن يحققه الرئيس الأسد، أو على الأصح هو في طريقه إلى تحقيقه، دولة كونفدرالية من السوريين والأردنيين والفلسطينيين، فإذا دخل اللبنانيون أيضًا..
(وهنا قاطعني السادات قائلاً): "هنا ندخل في المحاور: خصوصًا إذا كانت هذه الدولة الاتحادية ستحكم من حزب البعث. من الأفضل أن يبقى الرئيس الأسد في الإطار الثلاثي: السوري والأردني الفلسطيني؛ بذلك يستطيع حل مشكلة الفلسطينيين. أما التطلع إلى أبعد من ذلك، فهذا خطأ خطير، اللهم إلا إذا كانوا يريدون إقامة وحدة كالوحدة القائمة بيننا وبين سوريا وليبيا.
س: أنا شايف العملية ماشية بين سوريا والأردن.
جـ: أنا وحدوي بطَبعي، ولكنْ أنصح ألا يحاول أحدٌ أن يلبس ثوبًا أكبر منه؛ لأنه في النهاية سيفشل، وستزيد مصائبنا أكثر مما هي موجودة الآن في الأمة العربية"(6).
في حديث آخر، كان رئيس تحرير ريدروز دايجست يسأل: إن صحف الغرب تعطي انطباعًا عامًا عنك يا سيادة الرئيس، بأنك رجل الدولة والزعيم الحقيقي في الشرق الأوسط، وبعد تدخل سوريا في لبنان، بدا الرئيس السوري حافظ الأسد أنه أكثر نشاطًا في حل المشكلة اللبنانية، وقد يكون هذا وهمًا. ولكن ما رأي سيادتكم؟
جـ: حقًا إن هذا سوء تقدير مُحزن للغاية" (7).
وفي مناسبة ثالثة، صرح السادات، بأن ما يحدث في لبنان هو "على ما يبدو أن السوريين يريدون استغلال الفرصة ليظهروا بمظهر الزعماء في العالم العربي، ولكن ثبت فشل ذلك" (8).
وكان طَبَعيًّا أن يترتب على هذا التصور (كما أشرنا)، تحرك مصري نشِط في اتجاه دعم ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية، بكافة أشكال الدعم. بدأ التحرك السياسي في هذا الاتجاه منذ أواخر 1975، وتكررت التصريحات حول المنظمة باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وحول "اعتدال" عرفات، ردًا على التحرك السوريّ، وعلى التقارب السوري الأردني، وبعد أن كانت القاهرة المؤيد الأول لتمثيل الملك حسين للفلسطينيين، أصبح حسين موضعًا لهجومها. "إن نتائج انتخابات الضفة الغربية، تعني رسالة محددة إلى حسين وإسرائيلَ، برفض أي ممثل للشعب الفلسطيني سوى منظمة التحرير" (9).
وكان طَبَعيًّا أيضًا أن يواكب كل هذه المواقف تعبيرٌ من القيادة المصرية عن ضيقها بموقف الولايات المتحدة من الأزمة (كما تصورته)، وقد تكرر هذا فعلاً في مناسبات مختلفة خلال العام، فالشعار الذي ردده السادات كثيرًا: "ارفعوا أيديكم عن لبنان"، كان مشفوعًا في كل مرة بتوضيح أنه لا يقصد فقط سوريا. كذلك انعكس ضيق القيادة المصرية في التلويح بأنها ستتجه إلى جنيف بعد الانتخابات الأمريكية، ثم في التظاهر بمدّ حبال الود مع الاتحاد السوفيتي بين الحين والآخر. ولكن ظل التحرك المصري ـ بطبيعة الحال ـ أسيرًا ومراهنًا، طوال الوقت على منهج السلام الأمريكي المرتقب؛ ولذا أسفرت الالتزامات والاتصالات السرية، وأسفرت الضغوط والوعود، عن تخبط وتناقض في تصرفات القيادة المصرية. وكان سهلاً في النهاية على الإدارة الأمريكية احتواء القلق المصري، وإبطال أي مفعول له.
بالنسبة للعلاقات المصرية ـ السوفيتية، على سبيل المثال، أعلن السادات في استقبال عام 1976 بأنه مدّ فترة التسهيلات البحرية الممنوحة للسوفييت حتى عام 1978 "إعرابًا عن عرفاننا بالجميل، ولكن التوازن لا يعني منحَ الولايات المتحدة تسهيلاتٍ مشابهة؛ فليس لديّ نية الإقدام على هذه الخطوة"(10). وبعد شهر تقريبًا (من الإدلاء بهذا الحديث) أشار السادات إلى أن السوفييت يرفضون إجراء عَمرة لموتورات الطائرات، "إنهم يمارسون الضغط، وعملية الضغط تشتد أكثر وأكثر، وقد قررنا ألا نلجأ إلى أساليب التشهير والشتائم، وتعليماتي للجميع هي العمل على التفاهم وحفظ العلاقات" (11). ولكن بعد شهر آخر تقدَّم بمشروع قانون بإنهاء المعاهدة المصرية السوفيتية، وأعلن بعد هذا إلغاءَ التسهيلات الخاصة بالأسطول السوفيتي. وقد أثارت هذه القرارات المفاجئة ـ أيامها ـ تساؤلاتٍ كثيرة، ونعتقد الآن أن هذه القرارات كانت استجابة لمطالب سابقة ومباشرة، قدمتها الإدارة الأمريكية في إطار المفاهيم العامة للسلام الأمريكي، وموعد التنفيذ كان بعد الهزيمة الأمريكية في أنجولا؛ ولتحسين موقف فورد في المرحلة الأولى من معركة الانتخابات، ووسط السعي للحصول على قروض ميسرة.
ولكن حدث مع تطورات العام المتلاحِقة، أن عاد السادات (بعد شهر ونصف) إلى إعلان:
"إن مصر لا تريد لعلاقات الصادقة التاريخية أن تنقطع مع أي طرف، ولكنَّ مصر حريصة أيضًا على استقلالها وحريتها في اتخاذ القرار.
إن مصر لا تريد دخولاً في معركة أو تصعيدًا مع السوفييت، لن نرد إلا على نطاق توضيح الحقائق"(9).
واستمرت القيادة المصرية في هذا الموقف طويلاً (نقصد بضعة أشهر)، وربطت به العودة إلى الطرح السوفيتي حول مؤتمر جنيف باعتبار أنه "هو وحده الذي يمكن أن يؤدي إلى إيجاد حل سلمي لأزمة الشرق الأوسط" (12). وفي هذا الجو كانت توجَّه إلى السادات أسئلة من قبيل: "ألا يقلقك تغلغل السوفييت في البلاد حولك؟" وكانت إجابته: "حسنًا، لأسباب كثيرة؛ أحب ألا أجيبَ على هذا السؤال" (13).
ثم أعلن بعد ذلك في خطاب عام: "لقد استقبلتُ السفير المصري قبل سفره إلى موسكو، وحملته تعليماتي التي أعلنُها اليوم أمام جماهير الشعب المصري: إني حريص على أن تكون العلاقات مع الاتحاد السوفيتي كأحسن ما يكون" (14). واستمر نفس الخط في خطاب 23 يوليو، وسْط دفاع حار عن إنجازات الناصرية.
وقد تحرك الاتحاد السوفيتي في المقابل بتوقيع بروتوكول التجارة لعام 1976 بعد تأخر طويل (في 29 أبريل)، وأذاعت الحكومة السوفيتية بيانًا حول أزمة الشرق الأوسط، أكدت فيه من جديد مواقفها التقليدية. ولكن مع المحددات (التي ذكرناها) على الموقف المصري، ظلت العلاقات فاترةً، فلم يحدث حل لأيٍّ من المشاكل الأساسية، وحين زار كوسجين المنطقة، اقتصرت الزيارة على بغدادَ ودمشق.
يكمل الصورة أن نتابع التطورات داخل الولايات المتحدة في ذلك العام، هناك، كان المَزاد التقليدي على تأييد إسرائيل، متصاعدًا بين الجمهوريين والديمقراطيين. وحين أُعلِن برنامجا الحزبين، كان هناك اتفاق واضح حول الموقف في الشرق الأوسط على النحو التالي:
الالتزام بالدفاع عن إسرائيل وضمان بقائها ضمن حدود "آمنة" ويمكن الدفاع عنها.
تزويد إسرائيل بما تحتاجه من مساعدات اقتصادية.
تزويد إسرائيل بما تحتاجه من السلاح؛ ليس فقط لحماية نفسها، وإنما أيضًا ـ وهذا هو المهم ـ لتكون قوة رادعة في المنطقة ـ أي: لتأديب الدول العربية (وربما الأفريقية) كلما لزم الأمر.
الالتزام بتواجد عسكري أمريكيّ في شرق البحر الأبيض؛ لحماية إسرائيل، ومنع الاتحاد السوفيتي من التدخُّل لصالح العرب.
الضغط على العرب للدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.
تحذير العرب من أي حظر بترولي في المستقبل، وإلا اعتُبِر ذلك عملاً عدوانيًّا.
التصدِّي لإجراءات المقاومَة العربية ضد إسرائيل(15).
ويبدو من هذا، أنه لم يرد في أي من البرنامجين التزامٌ، أو حتى ذكر، عن المسائل الآتية: قرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967 ـ الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في 1967 ـ حقوق (أو حتى اسم) الشعب الفلسطيني. ولكن كانت لبرنامج الحزب الجمهوري ميزةُ أنه أشار إلى إنجازات محددة حققها في اتجاه الخط المعلن، فقد سجل "أن إسرائيل تسلمت تجهيزات عسكرية في السنتين الأخيرتين تمثل 40 % من مجموع ما حصلت عليه منذ نشأتها في عام 1948". وفي نفس الوقت نجحت إدارة الجمهوريين في إعادة الاتصال بالدول العربية، وقامت بتحقيق تقدم هائل في العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الدول العربية الأكثر اعتدالاً. وقد حرص فورد على التظاهر بأنه حريص على "توازن" علاقاته مع أطراف الصراع أثناء سنة الانتخابات، فأعلن كيسنجر (مارس) أن قرار بيع أسلحة إلى مصر يتمشى مع مصالح السياسية القومية الأمريكية، (وكان المقصود قرار بيع 6 طائرات نقل عسكرية هيروكليس إلى مصر). أصرّ فورد على القرار، وأوضح كيسنجر أن الأمر يتعلق بصفقة واحدة لا تلزم الولايات المتحدة ببرنامج طويل الأجل، لتزويد مصر بمعونات سلاح.
وفي يونيو بدأ تنفيذ العقد. ولكن في المقابل، أعلن فورد (أكتوبر) عن صفقة جديدة من الأسلحة المتطورة لإسرائيل (قبل الانتخابات بثلاثة أسابيع، وفي حضور إيجال ألون وزير الخارجية الإسرائيلي). ولم يكتفِ فورد بإعلان إرسال كميات جديدة، بل أيضًا نوعيات جديدة من الأسلحة لم يتسلح بها بعدُ الجيش الأمريكي، وتضمنت الصفقة الإسراع بتسليم كميات كبيرة من نوعيات أخرى، كانت إسرائيل قد حصلت على أصناف منها بالفعل في حرب أكتوبر وما بعدها، واتخذ فورد هذا القرار، رغم أن خبراء وزارتي الخارجية والدفاع (في الولايات المتحدة) كانوا يرون أن إعطاء إسرائيل هذه النوعيات النادرة من الأسلحة، سيزيدها تفوقًا بدرجة طاغية، ومن شأن هذا أن يخلخل التوازن الإقليمي رأسًا على عقب.
ولكنْ رغم كل ذلك كان الرئيس السادات، وكل المتطلعين إلى دور أمريكي نشِط، يصوتون في الانتخابات الأمريكية لصالح فورد (الجمهوريين) وليس كارتر (الديمقراطيين). من البداية كان موقف السادات واضحًا؛ فقد سبق أن وصف فورد بعد سالزبورج بأنه فلاح مستقيم الشخصية، وفي يناير كان يصرح بأنه "لا كيسنجر ولا الرئيس فورد بعد توليه، أخلف معي أي وعد" (16).

وفي آخر مارس "طلبتُ من الرئيس فورد أن يأتي قبل الانتخابات، وسنتعامل طبعًا مع أي رئيس مُنتخَب، ولكن فيما أراه، فإن الرئيس فورد لديه فرصة عظيمة لكي ينجح في الانتخابات" (17). وقُبيل الانتخابات، كان السادات أكثر صراحة: "إذا أعيد انتخابُ الرئيس فورد؛ سأكون – بجد- سعيدًا، أما انتخاب كارتر، فهذه إرادة الشعب الأمريكي، وعلينا أن نتعامل معه" (18). ولا شك أن الحزب الجمهوري أكثر تحررًا من النفوذ الصهيوني، ولكن يبدو أيضًا أن القيادة المصرية، ومن يعنيهم الأمر في العالم العربي، كانوا قد تلقوا وعودًا معينة من فورد.
و.. في أكتوبر، كانت الانتخابات الأمريكية تدخل مرحلتها الحاسمة، وكان الفُرقاء العرب قد أثخنتهم الجراح، وإسرائيل كانت فَرِحة بالنتائج التي حققتها وتُسرب أخبارًا كثيرة عن ترسانتها الذرية. وفي هذا الجو، نجحت الاتصالات في عقد مؤتمر قمة سداسي (بدلاً من رباعي) بناء على إصرار القاهرة على دعوة لبنان وفلسطين، بالإضافة إلى مصر وسوريا والسعودية والكويت، انعقد المؤتمر في الرياض (14 ـ 18 أكتوبر), أعقبه مؤتمر القمة الشامل في القاهرة (25 أكتوبر)، فتشكلت قوات الردع العربية لصون السلام في لبنان.. وعلى مستوى العلاقات الثنائية بين مصر وسوريا، عادت العلاقات الطبيعية، وتوقفت الحملات الإعلامية، وعُيِّن الفريقُ الجمسي قائدًا عامًا للجبهة المصرية السورية. ولكنَّ إجراءاتٍ من هذا النوع، كانت تعجز ـ بعد كل ما حدث ـ عن تدارُك الانهيار.
بقي أن نذكِّر في ختام هذه الجولة، بأن الموقف المصري كان طوال الوقت، وحتى آخر هذا العام، يؤكد على رفض المفاوضات المباشرة، كان السادات يقول مثلاً: "كيف يمكن أن أجتمع مع رئيس وزراء إسرائيل، في حين أنه يحتل جزءًا من أرضي؟ من يقول هذا؟! إن هذا يعني أنني سأجلس على مائدة المفاوضات، لمجرد التوقيع على الاستسلام؛ لأنه سيأتي ليقول: إذا لم تقبلوا هذا وذاك؛ فإننا سنظل في مواقعنا، وهذه طريقتهم معنا" (18).
أيضًا كان الموقف صريحًا من الاعتراف والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل، لا يمكن أن تتحقق مباشرة بعد كل هذه الحروب والمرارات ـ وبالنسبة للقضية الفلسطينية، ذكرنا أن موقف القيادة المصرية تحدد على نحو واضح في ظل الأزمة اللبنانية، ونذكر أن السادات أكد أن "القضية الفلسطينية في مصر في أيد أمينة، وستظل في أيد أمينة؛ لسبب بسيط، هو أننا نعلم أن إسرائيل قادرةٌ على أن تُصفِّى المنطقة كلها عندما تخرج مصر من المعركة. وعندما تصفى المنطقة، سترتد علينا لتصفيتنا في مصر؛ فالمصير العربي واحد، وهذا هو الحساب البسيط الذي يجعل خروجنا من المعركة كارثة علينا جميعًا؛ فبقدْر مسئوليتي عن الشعب المصري، أنا مسئول عن القضية القومية، ومسئوليتي نفسها هي التي تمنعني من التضليل والضحك على الناس، ولو أردنا أن نختار الطريق السهل غير المسئول، لكنا رضينا بإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، وأخذنا كل شيء" (9).

ثانيًا ـ المرحلة الأولى من الهجوم الاقتصادي تتعثر:
(1) أسطورة مشروع مارشال العربي:
من خلال هذه التطورات السياسية، ولدعمها، عملت الولايات المتحدة على تطوير هجومها الاقتصادي.
أ ـ في الفترة التالية لاتفاقية فصل القوات الثانية، وأثناء عام الترقُّب ـ 1976 ـ كان متوقعًا أن تمتد عمليات إعادة ترتيب الأوضاع وتوازنات القوى، إلى البناء المصري والبناء الاقتصادي. وبصيغة أخرى: كان متوقعًا أن يكثف الهجوم من القوى الخارجية بمشاركة القوى المحلية المنتفعة والعملية التي تضاعف وزنها الاجتماعي ونفوذها السياسي. وكان الهجوم يهدِف ـ في هذه السنة ـ إلى نتائجَ حاسمة. ويبدو في المقابل أن القيادة المصرية كانت تصدِّق حكاية مشروع مارشال، وأن دول الخليج ستساعد الاقتصاد المصري ـ أثناء فترة الانتظار ـ بتدفقات غزيرة ومنتظمة، ويبدو أن القيادة المصرية، كانت قد تلقت وعودًا أمريكية وسعودية محددة في هذا الاتجاه؛ لأنها تحركت في البداية بثقة شديدة، لم تلبث أن تهاوت أمام الحقائق المرة، والتي لم تكن جديدة في الواقع ـ بعد تجارب العامين السابقين، بل وبعد التعثر في اتصالات أواخر 1975 (بعد الاتفاقية)، ورغم رحلة السادات إلى الولايات المتحدة.
في يناير 1976، كان مقررًا أن يزور ممدوح سالم السعودية والكويت والإمارات، وصرح السادات بأنه "إلى هذه اللحظات، الأخوة العرب في كل مرة اتصلنا بهم قاموا بالواجب، لكن المشكلة أكثر شوية؛ ولهذا رئيس الوزراء سيضع الصورة الكاملة أمام الزعماء العرب"(19). إلا أن الزيارة تأجلت، وفي 28 يناير كان ممدوح سالم يعلن بيانًا مفاجئًا بمجلس الشعب، يحمل عددًا من الإجراءات الاقتصادية (20). والإجراءات كانت مباغتة، وإعلانها بدا شاذًا؛ لأن مجلس الشعب كان قد انتهى بالكاد من مناقشة ميزانية وخطة 1976؛ ولذا سجلت اللجنة الخاصة لدراسة البيان "أن اللجنة يحق لها أن تتساءل، وسوف يسألها الشعب الواعي، ما الذي طرأ جديدًا على الموقف المالي والاقتصادي، فحتّم إلقاء البيان الجديد، وما جاء به، وما سبقه مِن إجراءات وقرارات اقتصادية، ولم يكن قد مضَى على اعتماد الخطة والموازنة سوى أقل من شهر؟ وما الذي منع الحكومة من أخذ كل هذه الإجراءات عند إعداد الخطة والموازنة، وقد كانت أمامها كل ملاحظات لجان الرد على برامجها، وملاحظات وتوصيات الأعضاء التي قد أُبدِيت عند مناقشتها؟ ما الذي كان يمنعها من تعديل مشروع الموازنة الذي تقدمت به للمجلس، على ضوء ما كان واضحًا أمامها من رؤية حقيقية للمركز المالي والاقتصادي؟ (....) إن الحكومة فيما انتهت إليه من قرارات، ترمي إلى ضغط الإنفاق الحكومي الذي سيتوفر منه حوالي 100 مليون جنيه، كان المجال متسعًا لتقريرها وتقرير المزيد منها عند إعدادها لمشروع الموازنة العامة، وقد كان العجز المادي كان واضحًا كما جاء في البيان المالي الذي ألقاه السيد الدكتور وزير المالية عن السياسة المالية".
إن الإجراءات التي قررتها الحكومة، "وتلك التي تضمنها البيان الحالي، تُعتبر في الحقيقة تعديلاتٍ في أبواب الموازنة التي لم يكن قد جفَّ مدادُها بعدُ، والتي يجري حاليًا تبليغُها للقطاعات المختلفة بعد إقرارها من المجلس" (21).
ولا نعتقد أن اللجنة (ورئيسها أحمد فؤاد) كانت تجهل فعلاً سبب هذه الهرولة، التي يراها ـ من لا يعرف ـ حركة غريبة غير مبررة، فقد أصبح معروفًا ـ إلى حد ماـ للقريبين من الصورة، أن الضغوط الخارجية تُلجِئ الحكومةَ إلى مثل هذا الموقف، وسبق أن أشرنا إلى حالة مماثلة في صيف 1975 (في عز أزمة مع الدائنين).
وفي حالة يناير 1976 معروف أن دول الخليج أصرت على تسوية الموقف مع صندوق النقد، قبل زيارة رئيس مجلس الوزراء، وقبل أية محادثات؛ ولذا كان لا بد من موافقة سريعة على بعض توصيات الصندوق (22). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت الحكومة تدرك أن أسلوب استجابتها للتوصيات، يُحدث ردود فعل معارضة، وهذه قد
لا تعني فقط إطالة الوقت في المناقشة ـ بينما السرعة مطلوبة ـ ولكن قد تعني منع صدور القرارات أصلاً على النحو الذي تقدمت به الحكومة. والعناصرُ الوطنية والمستشعرة للمسئولية ـ داخل الجهاز التنفيذي ـ كانت تخشَى بشكل خاص من مزايدة أنصار الصندوق، المطالبين بالاستسلام دون قيد أو شروط. والمثال هنا هو تقرير اللجنة المكلفة بالرد على بيان الحكومة.

بيان الحكومة كان يبدو - من صياغته واستطراداته الطويلة - أنه يستشعر الحرج من منظره؛ سواء لأنه طرح بعد 25 يومًا فقط من موافقة مجلس الشعب على مشروع قانون خطة التنمية، وعلى مشروعات قوانين ربط قانون خطة التنمية العامة للدولة، وما تلا ذلك من الموافقة على التعديلات التي أدخلتها الحكومة على مشروع الموازنة، أو كان الحرج بسبب الإجراءات المقترحة نفسها؛ ولذا حرصت الحكومة ـ بالكلام ـ أن تكون الإجراءات متوازنة؛ أي: تصيب الفئات الداخلية المختلفة، فقد رفعت سعر البنزين قبل إلقاء البيان؛ تنفيذًا لشرط مباشر من صندوق النقد؛ حيث طلبت الحكومة تسهيلات ائتمانية (50 مليون دولار) من حساب التسهيلات الخاصة التي رتبها الصندوق للدول التي تضررت من ارتفاع أسعار النفط، واشترط رفع سعر البنزين أولاً، فتقرر هذا. وأعلنت الحكومة في المقابل زيادة الرسوم على الملاهي والخمور، وقبل إلقاء البيان المفاجئ، وإعلان إجراءات جديدة في جلسة علنية، وعقدت جلسة سرية لإعلان بيان رسمي (لأول مرة) عن حجم الديون الخارجية المصرية (شاملاً الديون العسكرية)، وكان الهدف إفهام أعضاء مجلس الشعب أن الموقف خطير، وفي الجلسة العلنية تناولت الإجراءات إحكام الحصار حول زيادة بند الأجور في الموازنة العامة ـ الالتزام بتحقيق وفْر مالي بنسبة 20 % من اعتمادات مجموعتي المستلزمات السلعية والخدمية ـ تخصيص 10 % من الموازنات النقدية للتمويل من خلال السوق الموازية باستثناء هيئة السلع التموينية ـ الحد من مشاركة القطاع العام في الإسكان ـ ولمعادلة هذه الإجراءات (شعبيًّا) وعدت الحكومة بأن توسيع السوق الموازية لن يؤثر في أسعار السلع الرئيسَةِ، وأعلنت رفع الأتاوة التي تفرض على كازينوهات القمار من 25 % إلى 50 %، وزيادة الرسوم المفروضة على المراهنات إلى الضعف، ووعدت بتقديم مشروعاتٍ جديدة لتطور النظام الضريبي قبل نهاية فبراير؛ بحيث تخضع الدخول الطُّفيلية للضريبة، ويخفف العبء على الطبقات غير القادرة ـ أيضًا تحدث البيان عن حظْر استيراد الدولة والقطاع العام لسيارات الركوب الفاخرة، ومحاربة الإسراف في الإنفاق المظهري، والعمل بحزم على مقاومة الانحراف، وتثبيت الأسعار.
أعلنت الحكومة بيانها المتعجل، وما تضمَّن من إجراءات. وبعد دهشة وسخرية لجنة الرد من منظر الهرولة والارتباك، تبنَّت اللجنةُ نفس رأي صندوق النقد الدولي ومن معه، فقالت: إن هذه الإجراءات غير كافية، "وقد آن الأوان لأنْ تتقدم الحكومة بسياسة اقتصادية متكاملة تتضمن مشروعات القوانين المالية والنقدية والاقتصادية التي تضع هذه السياسة موضع التنفيذ"، وتضمنت مقترحات اللجنة في هذا الاتجاه ما يلي:
2 ـ تطوير السوق الموازية:
بحيث تتطور إلى سوق عالمية للنقود، يتحدد فيها سعرُ الجنيه المصري؛ طبقًا لظروف العرض والطلب، على أن يُسمح للاستثمارات بالدخول بهذا السعر، وكذلك إعادة تحويل رأس المال وأرباح مشروعات الاستثمار، مع ما يقتضيه ذلك من إعادة النظر في سياسة دعم الأسعار، ووضع برنامج للتخلص منها تدريجيًّا؛ بحيث تتمشَّى الأجورُ مع الإنتاج.
التقدم بالتشريعات الخاصة بالرقابة على النقد بما يحقق سياسة الانفتاح وتحرير الجنيه المصري، والنظام المصرفي في قبول الودائع الأجنبية واستخدامها في التمويل الداخلي، وتمويل التجارة الخارجية؛ طبقًا للأسس المصرفية المتعارَف عليها.
طرح بعض أسهم شركات القطاع العام التي ترى الحكومة زيادة رءوس أموالها، أو مشاركة القطاع الخاص في نشاطها (وكانت الحكومة مجمدة عمليًّا للقرار الصادر في هذا الشأن).
إعداد قانون لسوق الأوراق المالية بما يمكنها من الارتباط بأسواق المال العالمية، وما يقتضيه ذلك من نشر موازنات شركات القطاع العام، وتوزيع أرباح أسهم القطاع الخاص فيها، فور اعتماد موازنتها، وإلغاء القرار الوزاري الخاص بتحديد نسب أرباح بعض شركات القطاع العام.
إعفاء أرباح أسهم الشركات الجديدة من ضريبة إيرادات القيم المنقولة لفترة ما؛ تشجيعًا للقطاع الخاص للاستثمار فيها.
تطوير القطاع العام، ورفع يد الوزارات عن إدارة قطاعاته عن طريق الأمانات الفنية (أي: حتى العلاقة الشكلية، بين الوزير والشركات من خلال مجالس القطاعات، مرفوضة).
إجراء دراسات تفصيلية عن سعر الفائدة ووسائل جذب المدخرات للمشاركة في مجالات الاستثمار المتاحَة.
في مجال الإصلاح المالي ترى اللجنة أن الإنفاق العسكري ليس كله إنفاقًا على التسليح والتدريب، وإنما هناك نفقات إدارية أخرى، ومن الواجب أنْ تعمل الحكومة على ترشيد الإنفاق في هذا المجال. (وهذا الكلام لا غُبار عليه لو أُخِذ ببراءة، ومنفصلاً عن سياق الأحداث. ولكن في الجو السائد من حيث الاعتماد على حل أمريكي سليم، وبعد اتفاقية فصل القوات، الترشيد هنا مقصود به الخفضُ الفعلي للإنفاق العسكري مع استخدام التعبيرات الدبلوماسية "والعلمية" لتمرير قرارات خطيرة، وفي القطاع الاقتصادي بالذات تستخدم كلمة "الترشيد" بمعنى الخفض الفعلي والشديد، كما هو الحال مع ترشيد اعتمادات الدعم).
هكذا زايدت اللجنةُ على الحكومة في تبني توصيات "صندوق النقد". ويلاحظ أننا لم نذكر البند رقم (1) في "توصيات" اللجنة وقد تعمدنا ذلك؛ لأنه في الحقيقة نتيجة للتوصيات السابقة، وهو منقول أيضًا عن "توصيات" الصندوق. بنص البند (1) على "إعادة جدولة الديون مع العالم العربي والشرقي؛ بحيث لا تتعدَّى أقساطُ هذه الديون 10 % من حجم الصادرات، مع إعطاء فترة سماح لا تقل عن خمس سنوات". واللجنة كانت تعلم أن إعادة الجدولة مع العالم الشرقي مسألة سياسية لا تقبل الحل في الظروف التي قِيل فيها هذا الكلام؛ ولذا كان المقصود إعادة جدولة الديون الغربية، وتحويل الديون المصرفية بالذات إلى ديون طويلة الأجل، وهو أمر يمكن حدوثه ـ كما يقول الصندوق ـ إذا نفذت الحكومة السياسات التي نصت عليها اللجنة بكل الوضوح.
واللجنة لم تخفِ من ناحيتها هذا المفهوم؛ فقد ذكر ممدوح سالم في بيانه أنه سيقوم "بمشيئة الله، بزيارة قريبة لبعض الدول العربية الشقيقة؛ للتباحث مع الإخوة المسئولين فيها، حول معاونتنا في تطبيق برنامج طويل الأجل، يسمح باستمرار معدلات التنمية، ومواجهة الأعباء والمتطلبات القومية"، وأضاف أن الأوضاع الاقتصادية تحظى بثقة الهيئات الدولية والدول الغربية، فكان رد حقيقة مؤكدة إذا ما تَمَّ الأخذ بالتوصيات والآراء التي أشرنا إليها" (أي: آراء اللجنة المنقولة عن توصيَّات الصندوق).
ب ـ على أية حال، حدث ـ بعد هذه الإجراءات ـ أن أُلغيت زيارة ممدوح سالم، واستبدلت بها زيارةٌ على مستوى أعلى، فسافر الرئيس السادات بنفسه إلى دول الخليج (20 فبراير)، وقيل إن هذا الاستبدال، تحقق بناء على طلب من السعودية. وقبل بدء المرحلة بفترة كافية، أُرسل إلى وزراء المالية في دول الخليج ملفٌ كامل عن برنامج إصلاح المسار الاقتصادي وخطة التنمية، وأحيطت الزيارة بضجة إعلامية كبيرة، وأُعلن أن المباحثات كانت مكثفة، وسادها الودُّ والتفاهم، ورقص الملك خالد والرئيس السادات معًا رقصة السيف، وجاء في البيان المشترك أن الملك خالد قرَّر تقديم عون مالي مباشر وفوري قدره 300 مليون دولار؛ لمواجهة المتطلبات العاجلة لمصر.
ومع عودة السادات من رحلة الخليج، أذاعت السعودية (29 فبراير) أنها وجهت الدعوة إلى وزراء مالية دول الخليج، لعقد اجتماع في الرياض؛ لدراسة برنامج تمويل صندوق دعم الاقتصاد المصري، وتوالت بعد هذا الاتصالاتُ؛ فسافر ممدوح سالم للاجتماع بوزراء مالية دول الخليج في الرياض، وبعد رئيس مجلس الوزراء، قاد المباحثاتِ وزيرُ المالية المصريُّ. كان اللقاء الأول (11 مارس) بمدينة الخبر (قرب الدَّمام بالمملكة السعودية)، وصرح السادات - بعد هذه الاتصالات - بأن الصندوق سينشأ فعلاً وفق الاتفاق الذي توصل إليه أثناء زيارته لدول الخليج، وقال: "إن البنك الدولي، سيقوم بدور استشاري من أجل تصحيح مسارنا الاقتصادي" (23).
كذلك نُقِل عن المصادر الرسمية، أنها تقبل مشاركة صندوق النقد والبنك الدولي في إدارة صندوق الدعم، وقيل إن الرئيس السادات اقترح أيضًا إضافة دافيد روكفلر ورجال البنوك الغربيين (24). وبالفعل وقعت اتفاقية هيئة الخليج للتنمية في جمهورية مصر العربية في الرياض في (أول أبريل) وهي الاتفاقية التي تنظم العمل وتحدد رأس المال. وحددت الاتفاقية رأسمال الهيئة بمبلغ 2000 مليون دولار (40 % قدَّمته السعوديةُ ـ 30 % الكويت ـ 15 % الإمارات العربية ـ 15 % قطر).
وجرت محادثات مع وزير المالية المصري عقب توقيع الاتفاقية، وعبَّر هذا عن خيبة الأمل في المولود الجديد، ودافع الوفدُ المصري ـ في الاجتماعات الرسمية المختلفة ـ عن وجهة نظر تبلورت على النحو التالي:
إن احتياجات الاقتصاد المصري من النقد الأجنبي خلال سنوات الخطة 76 ـ 1980 تُقدَّر بحوالي 20 بليون دولار، وسيمكن للحكومة المصريَّة تدبيرُ حوالي 8 بلايين من الدولارات من الدول الأجنبية والمؤسسات الدولية، أما المبالغ الباقية (12 ألف مليون دولار) فإن الحكومة المصرية ترى أن الدول العربية المشتركة في الهيئة، يمكنُها تغطية هذا التمويل على مدى السنوات الخمس، إذا كان المقصود مساندة جادة، ودفعة قوية تمكِّن من عبور الأزمة الاقتصادية.
وبالنسبة لمكونات المعونة طالبت الحكومة بزيادة المكون النقدي. وبشكل عاجل، طلبت أن تواجه دول الخليج مشكلة تغطية العجز في ميزان المدفوعات المصري في الفترة الباقية من عام 1976، والذي قدِّر بحوالي 506 مليون من الجنيهات (1290 مليون دولار) على أساس أن عام 1976 هو أول عام من الخطة الخمسيَّة التي توافق هيئة الخليج على تمويلها. وكانت الحكومة المصرية تلحّ على إيضاح موقف دول الهيئة من هذا المطلب بسرعة؛ حتى يمكن للسلطات المصرية أن تتصرف في ضوء ما تقرره هذه الدول.
وسواء بالنسبة للقروض النقدية أو لقروض المشروعات، طولِبت الهيئةُ بأن تتوسع في تقديم القروض بشروط أكثر يسرًا من قروض الدول الأجنبية الأخرى. وفي كل الأحوال، ينبغي أن تكون هيئة الخليج مصدر تمويل إضافي، وليس بديلاً لما تقدمه أية صناديقَ أو جهاتٍ عربية أخرى.
وأخيرًا طلبت الحكومة المصرية أن تمثل في اجتماعات الهيئة بشكل دائم؛ حتى يمكن عرض صور الموقف المصري كاملة؛ من حيث المشروعات، واحتياجات التمويل والمشاكل والصعوبات (25).
إلا أن هذه المطالبات كانت بعيدة تمامًا عن ذهن من صمموا الهيئة؛ ففي مقابل 12 بليون دولار طلبتها الحكومة المصرية، أصرت الهيئةُ على أن رأسمالها لن يتجاوز 2 بليون دولار. وفي مقابل المعونات النقدية والشروط الميسرة، جاءت هيئةُ الخليج كمجرد مؤسسة تجارية استثمارية، تعمل في أرض جمهورية مصر العربية. ولكننا نتوقف قليلاً عند المطلب الأخير، فأمر عجيبٌ حقيقة، أن يُستبعدَ ممثلُ مصر من عضوية هيئة دولية وظيفتها العمل داخل الاقتصاد المصري بهدف الدعم والتنمية، وقد جرى العمل في مختلف اللقاءات، على أن يُدعَى وزيرُ المالية المصري ليشرح رأي حكومته، ثم ينصرف ليُعقد مجلسُ المحافظين (الذي يتألف من وزراء مالية دول الخليج) اجتماعًا مغلقًا، وقد يدعو المجلسُ الوزيرَ المصري مرة أخرى، أو لا، حسب الحاجة لأي إيضاحات، ولكن في كل الأحوال، كان على الوزير أن ينتظر حتى يُعلن بالقرارات النهائية! (26) وقد ذكرنا أن الجانب المصري طلب مشاركة الهيئات الدولية ورجال البنوك الغربية في إدارة الهيئة (بالإضافة إلى عضوية مصر التي كان مفروضًا أنها بدَهيَّة).
ورغم خلافنا الجذريِّ مع الخط العام للسياسة الاقتصادية، فإننا نتفهم هذه الأطراف معًا في مؤسسة واحدة، وفي مواجهته؛ إذ كان أسلوب العمل الجاري يعطي الفرصة لكل طرف لكي يبدو كما لو كان يتصرَّف بمعزل عن الآخرين. وقد يلقي عليهم مسئولية التقصير، رغم توافر الأدلة على قيام شبكة من الاتصالات، ونوع من الإدارة الموحدة غير المعلنة، تحكم حركة كل الأطراف. والشيخ محمد أبو الخيل (وزير المالية والاقتصاد الوطني السعودي) اعترف منذ البداية بأن هيئة الخليج لن تعمل بشكل مستقل، فحين سُئل عن علاقة الهيئة بمنظمات التمويل الدولية، أجاب بأنه "ستكون هناك علاقة بالضرورة، على الأقل كدور خبرة وخبراء، ولكن نوع وطبيعة وحدود العلاقة، لم يتقرر بعدُ"(27)، ولكن أيًّا كان الشكل، فإن قيام علاقات وثيقة بين هيئة الخليج والهيئات الدولية، والمؤسسات الأجنبية الخاصة، أمرٌ مؤكد. وقد أراد الجانب المصري أن يكون طرفًا أصيلاً في هذه العلاقات أو في هذا الكونسورتيوم الدولي. ولكن اتفاقية إنشاء هيئة الخليج أصرت على إبعاده، ونصَّت في نفس الوقت على مشروعية التنسيق مع الهيئات الدولية. وهيئة الخليج ـ كما نعرف ـ تعبر عن دول معروفة ارتباطاتها السياسية، ومعروف مستوى كفاءتها الفنية والاقتصادية والإدارية، وكلمة التنسيق في هذه الحالة مجرد صيغة مهذبة، تعني قبول الهيئة فعليًّا لقيادة الهيئات الدولية؛ ولذا كان الاحتفاظ الشكلي باستقلال هيئة الخليج عن جهات أجنبية، واستبعاد أية أعضاء من خارج دول الخليج عن مجلس المحافظين "الرسمي"، مجرد ذريعة لإبعاد العضو المصري.
على أيَّة حال. كانت القضية العاجلة خلف زيارة السادات لدول الخليج (في فبراير) التوصل إلى اتفاق طويل
أو متوسط الأجل حول المعونات، وأيضًا برنامج واضح يحدد الالتزامات النقدية لعام 1976. ولكن الهيئة
لم تحقق طموحات "مشروع مارشال" بالنسبة للخطة الخمسية، والـ 300 مليون دولار التي أعلن عنها بعد زيارة السعودية؛ كمعونة نقدية عاجلة، كانت عودة لممارسات 1975: تقديم جرعات تمنع الموت ولا ترد العافية. وإضافة إلى ذلك، فإنها لم ترد أصلاً في انتظار تشكيل هيئة الخليج. والهيئة ـ بكل عيوبها ـ تباطأت إجراءات إنشائها (بعد توقيع اتفاقيتها)، ثم تباطأت في العمل واتخاذ القرارات (بعد قيامها). صرَّح الشيخُ محمد أبو الخيل بأنه "تم بحث كل شيء، وفي نهاية هذا الشهر (أي أبريل) تكون إجراءات قيام الصندوق قد انتهت"(26)، وصرَّح في حديث لاحق بأنه "لا بد من الإسراع؛ حتى يكون هناك وضوح أمام المخطط المصري عن مدى مساهمة الصندوق، كما يكون هناك وضوح أمام الدول المساهمة في الصندوق بما عليها خلال السنوات المقبلة (...) وقد تم التعرف بشكل مسهب على برنامج السنوات الخمس المصري. كما تناولت المناقشات الوضع الاقتصادي ومصادر التمويل الأخرى المتاحة لمصر، كما تعرفنا على الجدوَى الاقتصادية للمشروعات المصرية، والهدف كله تحديد خطوات إنعاش الاقتصاد المصري، وأشهد أن الوفد المصري كان جاهزًا، وعرض كل الأوضاع بعلمية شديدة، وكانت وجهة نظره موضع البحث الجاد أيضًا" (27).

ولكنْ مرَّ أبريل ومايو ويونيو ويوليو، وتعددت اللقاءات والاتصالات، قبل توقيع اتفاقية تنظيم التعامل بين جمهورية مصر العربية وهيئة الخليج (القاهرة ـ 21/ 8/ 1976) وكان لا بد من مرور أربعة أشهر أخرى، لتوقع الهيئة مع الحكومة المصرية أول اتفاقية قرض (250 مليون دولار ـ 17/ 12/ 1976). ولم يكن في الأمر لغز ـ لمن يريد أن يفهم ـ فالولايات المتحدة والهيئات الدولية، كانت تثبت من جديد أنها تملك مفتاح العملية، ولا يمكن "للمعونات" النفطية أن تتدفق إلا بأمرها، وكثمن لتنفيذ شروطها. إن متابعة التطورات في الاتصالات والمباحثات مع الولايات المتحدة وصندوق النقد ـ في نفس الفترة يكشف تمامًا أسباب مسلك دول الخليج طوال عام 1976، بل ويكشف دلالة كل خطوة اتخذتها هذه الدولُ.
(3) الوجه الآخر لموقف الخليج أو موقف أمريكا وصندوق النقد:
أ ـ تحرك القيادة العليا:
حصل السادات على وعود أثناء زيارته لدول الخليج، ولكن كان على الوعود (رغم هُزالها بالنسبة للآمال) أن تنتظر. فبعد أيام من إعلان "الرياض" عن فكرة صندوق الدعم، وصل إلى القاهرة جون جنتر (كان رئيس عمليات الشرق الأوسط في صندوق النقد)، واجتمع مع وزراء القطاع الاقتصادي والفنيين؛ تمهيدًا لزيارة ويتيفين (رئيس مجلس إدارة الصندوق آنذاك).
ووصل ـ في نفس الفترة ـ روبنسون (وكيل الخارجية الأمريكية للشئون الاقتصادية) على رأس وفد من الخبراء، واجتمع أيضًا مع رئيس مجلس الوزراء، والوزراء المعنيين؛ تمهيدًا لزيارة وليم سايمون (وزير المالية الأمريكي). وكذلك حضر رابين هانز (نائب رئيس البنك الدولي) وقابل نفس المسئولين؛ تمهيدًا لزيارة روبرت مكنمارا (رئيس البنك).
تحركت القيادات العليا للهجوم الاقتصادي (في شهر مارس) معًا، في ظل وعد خليجي غير محدد بإنشاء صندوق لدعم الاقتصاد المصري، وجاء قادة الهجوم يحددون الشروط سلفًا. وصل وليم سايمون في البداية، وقابل الرئيس السادات وكل المسئولين. ولا نعلم تفاصيل محادثاته مع أعلى المستويات، ولكن يقال (وهذا معقول) إنه أكد بوضوح ارتباط الدور الأمريكي المرتقب بعد الانتخابات؛ بإسراع الحكومة المصرية في إحدى التغييرات والسياسات الاقتصادية المُقترَحة، وانتقد بشدة تباطؤ الخطوات المنفذة في هذا الاتجاه، وكرر وعد الحكومة الأمريكية بالسعي بإنشاء كونسورتيوم من الدول الغربية والخليجية، ووعد "بالتوسط" لدى دول الخليج بالذات؛ للإسهام في حل سريع لمشكلة السيولة الخارجية، ولكن فقط في حالة "تعاون" السلطات المصرية مع صندوق النقد. أيضًا طلب سايمون إنهاء التزام مصر بأحكام المقاطعة العربية للشركات الأمريكية المتعاملة مع إسرائيل (وترددت في هذا المجال أسماءُ جنرال موتورز وجنرال إليكتريك وفورد وجوديير) (28).
ومعروفٌ أن فورد كان من المزايدين في الانتخابات الأمريكية، حول موضوع إنهاء المقاطعة العربية للشركات المتعاملة مع إسرائيل، وكان يفخر بأن إدارته قادت أول مبادراتٍ لتحطيم المقاطعة، (29) وكان طبَعيًّا بالتالي أن يطلب فورد من القيادة المصرية - باعتبارها الرائدة بين "المعتدلين" - أن تتعاون معه في إنهاء المقاطعة؛ لدعم موقفه الانتخابي، وكخطوة في اتجاه "العلاقات الطبيعية بين دول المنطقة"، تكمل الخطوات المُتخَذة وفق اتفاقية الفصل الثاني للقوات. وقد اتخذت الحكومة المصرية في هذا الأمر موقفًا وسطًا خلال 1976، فلم تسمح بإقامة مشروعات استثمارية للشركات المُدرَجة في قوائم المقاطعة، ولكن أبلغت الجهات التنفيذية سرًا بعدم التقيد بأحكام المقاطعة في العطاءات والتوريدات(30)، وكذلك قبلت في اتفاقياتها مع وكالة التنمية الدولية (جزئيًّا) هذا التسليم صراحة. وقد ذاعت أيام زيارة سايمون أنباءُ لقائه مع عدد من الاقتصاديين والفنيين المصريين؛ إذ روعتهم الطريقة الحادة التي تحدث بها، والنقد المرُّ (غير الدبلوماسي) لتجارب التنمية المصرية؛ ولِتردد الحكومة المصرية في التخلص الكامل من نتائج هذه الممارسات.
بعد عملية التحضير التي قام بها سايمون، وصل وينيفين (15 مارس) وأعاد نفس الاتصالات مع القمم المصرية المسئولَة، وانتهت إلى ضرورة التزام الحكومة ببرنامج زمني محدد "لإصلاح المسار الاقتصادي" بشكل جذري وفق "توصيات" الصندوق، واتفق بالفعل على المبادئ الأساسية لمشروع خطاب النوايا، الذي تتقدم به الحكومة المصرية إلى إدارة صندوق النقد. أمَّا بالنسبة لمكنمارا، فقد تأجلت زيارته؛ انتظارًا لنتائج صاحبيه.
هكذا كان شهر مارس مليئًا بالحركة (ولا ننسى أن إلغاء المعاهدة المصرية السوفيتية الذي بدا مفاجئًا، كان في 15 مارس). وكان طبَعيًّا أن ترافق هذا النشاط معاودةُ الاتصال بدول الخليج، فسافر ممدوح سالم، ثم وزير المالية (كما ذكرنا)، ولم تسفر هذه الزيارات عن أيَّة نتائجَ؛ لأن صندوق النقد لم يكن قد أطلق بعدُ الضوءَ الأخضر، وعبَّر السادات في هذه اللحظة عن حرج الموقف، فتخلى عن تفاؤله، وعن ذكر مشروع مارشال، وقال إن علينا أن نعمل ونشقى ونكد ونعرق؛ حتى نتخطى مشكلة العجز المالي، ونقيم الأساس لبناء جديد تمامًا. إن المرحلة القادمة، سوف تتطلب برنامجًا شاملاً للتقشف في كل مظاهر الحياة، وعلى الحكومة أن تقدم برنامجًا في هذا الاتجاه، ويناقشه كل الشعب (27 مارس)(31).
ونذكر أن اتصالات ومباحثات مارس، تمّت في ظروف أعلن فيها أن مصر متأخرة عن سداد التزاماتها لمدد تتراوح بين 32 و45 يومًا (32). وبعد إذعان السلطات المصرية (في مستوياتها الأعلى) للمطالب الأساسية لصندوق النقد ـ في مباحثات ويتيفين ـ وقعت اتفاقية إنشاء هيئة الخليج في أول أبريل. ثم وصلت ـ بعد أيام بعثة الصندوق (برئاسة جنتر)؛ لإجراء محادثاتها الدولية (أو مشاوراتها حسب تسمية الصندوق)، وصدر تصريح في الرياض بأن إجراءات إنشاء صندوق الدعم (أو هيئة الخليج) تنتهي في آخر أبريل (أي: بعد انتهاء الصندوق من مشاوراته بنجاح). كانت بعثة الصندوق تتوقع محادثات سهلة (بعد جولة مارس التمهيدية)، وشارك في المحادثات من الجانب المصري ـ كالعادة ـ رئيس الحكومة، وكافة الوزراء والفنيين المعنيين في القطاع الاقتصادي (33). ولكن ثبت للبعثة خطأ ما توقعت، وامتدت المحادثات حتى 16 مايو.. أن يدعم موقفه باللجوء إلى الرأي العام؛ إذ كشفت بعض الصحف اليومية في صفحاتها الأولى "التوصيات" التي يصر الصندوق على سرعة تنفيذها" (44). وكان النشر كافيًا بالفعل لإثارة قلق شديد في الأوساط الوطنية. ولكن ارتفعت المتأخرات في نهاية أبريل 359 مليون دولار (أي: أثناء المباحثات)، ووضح أن الضغوط الخارجية لم تعد تقبل إلا قرارًا صريحًا بالاستسلام، وعلى نحو يصعب الرجوع عنه، وحسب تعبير البعثة "كانت مناقشات ومشاورات عام 1976 موجهة على أساس الاتفاق المشترك بين ممثلي الجانب المصري والبعثة، على أن ما كان مطلوبًا هو عملية إعادة صياغة رئيسية للبنية الاقتصادية.
وقد اعترف ممثلو الجانب المصري والبعثة، بأن الإصلاحات الضرورية واسعة، وأنها ينبغي أن تنفذ عبر سنوات، ولكن قدرت البعثةُ أنه لا بد من إجراءاتٍ جوهرية تعطي قوة الدفع المطلوبة لعملية الإصلاح" (35).
ب ـ مباحثات الصندوق ومشروع خطاب النوايا:
اعتمادًا على تقرير البعثة، يتضح أن المناقشات تناولت التالي:
الخطة الخمسيَّة: المحادثات التفصيلية حول الخطة وتمويلها مهمة متروكة للبنك الدولي، ولكن التغييراتِ البنيويةَ، والأخذَ بالسياسات النقدية التي يطالب بها الصندوقُ - مدخلٌ ضروري. "أوضحت تقديرات بعثة الصندوق أنه ترتب على التزامات السداد الكبيرة الناشئة أساسًا من الاقتراض القصير الأجل الذي تم مؤخرًا، أنه أصبح ضروريًّا أن تتجاوز التدفقات الرأسمالية الإجمالية 7 بليون جنيه في الفترة 76 ـ 1980 كزيادة من المدخرات الأجنبية؛ بهدف الوصول إلى الخمسة بلايين جنيه المطلوبة. وفقط في حالة تغيير جوهري في الجو الاقتصادي في مصر، يصبح ممكنًا جذبُ التدفقات الرأسمالية بالحجم والنوع المطلوبين". وهذا الكلام كان حكمًا ثبت صدقه، بالنسبة لنتائج أيَّة اتصالات مع دول الخليج (وغيرها)". لا "مساعدات" قبل التغيير الجوهري في الجو الاقتصادي، أو قبل الحصول على "شهادة حسن السير والسلوك" من الصندوق.
وحتى بالنسبة لخطة عام 1976، أوضحت البعثة أنها يمكن أن تحقق أهدافها، إذا توفر نقد أجنبي كافٍ لمقابلة احتياجاتها من واردات من مدخلات الإنتاج. ويشير هذا ـ بمفهوم المخالفة ـ إلى أنه في حالة عصيان الصندوق؛ لن تتوفر موارد النقد الأجنبي، ولن تُنفَّذ الخطةُ.
سياسات الأسعار: أعادت البعثة مقولتها التقليدية، بأن هيكل الأسعار والأجور لا يقدم ـ في الوضع المصري ـ موجهًا مناسبًا لتخصيص الموارد على نحو كفء، ولا بد من إعادة ترتيب الأسعار النسبية؛ حتى توجه الموارد من القطاع الداخلي إلى القطاع الخارجي، ومن الاستهلاك إلى الاستثمار، ووافق الجانب المصري على ضرورة إحداث إصلاحات أساسية، ولكنْ رأى أنه "مع أخذ حجم المشكلة في الاعتبار، يصبح ضروريًّا أن تمتد العملية الإصلاحية عدة سنوات".
سياسات النقد الأجنبي: اتفق الجانب المصري مع بعثة الصندوق على ضرورة الإصلاح الشامل في الأنظمة النقدية والتجارية، وأكفأ الوسائل لتحقيق ذلك توحيدُ سعر الصرف عند مستوى مناسب، وإزالة القيود عن التجارة والمدفوعات الجارية، ولكن "بينما يعلن ممثلو الجانب المصري هذا باعتباره هدفًا نهائيًّا لهم، فإنهم يعتقدون أن التوحيد المبكر سيؤدي إلى زيادات غير مقبولة في الأسعار، و (أو) في اعتمادات الدعم". وقد ركزت المناقشات بعد ذلك على البديل الممكن لتوحيد سعر الصرف، وكان أهم الاقتراحات، استبدال السوق الموازية بسوق تجارية للنقد الأجنبي تكون أكثر شمولاً. وعبرت البعثة عن رأيها التقليدي العجيب في أن هبوط الصادرات المصرية إلى الغرب، يرجع إلى مجرد ارتفاع سعر الجنيه في السوق الموازية.
وفي اتجاه الضغط للخفض الفوري في سعر الصرف، دارت مناقشات طويلة حول سعر الصرف المطبق على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وقالت البعثة إنه لن تحدث تدفقات كافية، طالما أنها تقيّم بالسعر الرسمي، واعترف الجانب المصري بأن تدفقات الاستثمار المباشر
لم تكن كافية، ولكن بسبب التعقيدات الإدارية، وليس سعر الصرف، ومع ذلك؛ قال ممثلو الجانب المصري إن هذه المشكلة كانت موضع دراسة فعلاً في ذلك الوقت.

السياسات المالية والنقديَّة: اتفق ممثلو الجانب المصري مع بعثة الصندوق، على أن خفض قائمة الدعم مفتاح الإصلاح الجذري لعجز الموازنة، ولكنهم قرروا أن التعديلات في هذا المجال ينبغي أن تتم على أساس انتقائي وحذِر، وليس بإجراء شامل وسريع كما يرى الصندوق.
* * * * *
ولكن إلى جانب الخلافات البادية حول النقاط السابقة، سجل تقرير البعثة ارتياحه الجزئي للانتصارات التي أحرزت قبل المحادثات وأثناءها.
فرحبت البعثة بالتطورات الإدارية في القطاع العام، فقد أصبح إلغاء المؤسسات العامة نافذا في 31 مارس، وانتقلت السيطرة على أغلب القرارات الخاصة بالإنتاج وبعض القرارات الخاصة بالاستثمار إلى يد الشركات، ولكن ظلت أسعار المنتجات الرئيسية تحدد مركزيًا وظلت الشركات ممنوعة من التخلص ممن تعتبرهم عمالة زائدة. وبدءًا من ميزانيات 1977 كان مقررًا أن يزداد وزن معيار الربح في تقييم أداء الشركات.
وبالنسبة للأسعار، أشار ممثلو الجانب المصري إلى أن تعديلات سعر الصرف والتجارة التي تمت كانت بهدف تغيير هيكل الأسعار لصالح القطاع الخارجي، وكذلك تم إلغاء الدعم لعدد من المواد الأقل أهمية بهدف إصلاح الاختلالات السعرية. وكان الجانب المصري يشير في ذلك إلى الإجراءات المعلنة بغتة في 28 يناير. وقد شملت هذه الإجراءات (إلى جانب تعديلات الموازنة كما ذكرناها) تخفيضًا لسعر الجنيه في السوق الموازية، فأصبح منذ بداية فبراير يساوي 1.56 دولار، وصحب ذلك توسع في عمليات السوق الموازية، فحولت 275 مليون دولار من واردات القطاع العام السلعية إلى هذه السوق. وفي 21 مايو (بعد نهاية المباحثات بأيام) أعلنت الحكومة انصياعها لبعض المطالب الجديد للصندوق، فعدلت الموازنة للمرة الثانية، وشملت الإجراءات خفض سعر الجنيه في السوق الموازية للمرة الثالثة إلى جنيه = 1.46 دولارًا، وفي نفس الوقت حول ما قيمته 800 مليون دولار أخرى من واردات القطاع العام السلعية إلى هذه السوق. وبذلك أصبح متوقعًا أن يتم 37 % من كل مدفوعات العملات القابلة للتحويل بسعر السوق الموازية، والتي قُدرت بحوالي 4392 مليون دولار (مع استبعاد حوالي 255 مليون دولار من الاستيراد بالتمويل الذاتي). وكانت النسب المقابلة عام 1975 لا تتعدَّى
9% من قيمة واردات السلع والخدمات بالعملات القابلة للتحويل؛ إذ كانت السوق منحصرة - إلى حد كبير - في مدفوعات الخدمات، وبعض واردات السلع الوسيطة، وأساسًا لاستخدام القطاع الخاص، ومن ناحية أخرى، تحررت أيضًا ـ نتيجة إجراءات مايو ـ قائمة الصادرات التي تتم عبر السوق الموازية، والتي ظلت مجمدة إلى ما قبل الإجراءات.

ولكن ينقلنا هذا إلى القضية الأكثر سخونة: السوق التجارية؛ فبعثة الصندوق حددت ـ في المباحثات ـ ملامح هذه السوق كما يلي:
- سياسة مرنة لسعر الصرف؛ بحيث تحدد التغيرات الواسعة في هذا السعر وفق العرض والطلب.
- نظام تراخيص عامة ومفتوحة.
- تحرير التبادلات غير المنظورة من القيود.
- تحويل بعض الصادرات من السوق الرسمي إلى السوق التجاري، ويُستثنَى فقط القطنُ الخام، والأرز والبترول.
- كحد أدنَى، تحويل كل الواردات من سعر الصرف الرسمي إلى سعر السوق، باستثناء السلع التموينية الأساسية التي تستوردها الحكومة.
- تقييم تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بسعر السوق التجارية.
وسجل تقرير بعثة الصندوق أن موضوع السوق التجارية تحور، وتطورت تفاصيله، خلال نقاش طويل. وفي تلك الأيام كانت السلطات عاجزة عن إنشاء السوق التجارية على الفور. وكان هذا - إلى حد كبير - بسبب إدراكها أن الموارد المتاحة لدعم هذه السوق لا تكفِي. وقد عبرت البعثة عن تفهمها هذا الأمر. ولكنها أعلنت أن السوق ـ من وجهة نظرها ـ سيحسِّن وضع النقد الأجنبي حتى في المستقبل المباشر، وكان هذا التوقع يحتاج معتوهًا، أو مغلوبًا على أمره، لكي يصدقه.
وقد أثبت الصندوق أن الجانب المصري عبر عن نيته في إنشاء السوق التجارية حالما يمكن ذلك، وأنه سيتخذ في الأثناء عددًا من الإجراءات التي ينبغي أن تصاحب إنشاء هذه السوق. ولا شك أن هذه الموافقة المبدئية على إنشاء السوق التجارية كانت علامة انهيار خطير في الموقف الرسمي المصري في جبهة سعر الصرف، وقد فهمت بعثة الصندوق أن التنفيذ لا بد أن يكون خلال عام 1976، ولكن سجلت البعثة رأي الجانب المصري في أنه ينبغي مؤقتًا إبقاء بعض السلع الوسيطة والاستثمارية (المخصص لها في موازنة النقد الأجنبي حوالي 370 مليون جنيه) عند السعر الرسمي باعتبار أنها ذات وزن كبير في تكلفة المعيشة، ولكن "سمح لقطاعين فقط (البترول والنقل) أن يحتفظا بتسديد وإرادتهما من السلع الوسيطة والاستثمارية بالسعر الرسمي". وكانت هذه الموافقة المبدئية على السوق التجارية أهم نجاح حققه الصندوق في المُباحثات، وأهم ما تضمنه مشروع خطاب النوايا الذي وقعه ممدوح سالم بعد المشاورات.
ورحبت بعثة الصندوق بانصياع الحكومة ـ بشكل متزايد ـ لإنهاء اتفاقيات التجارة والدفع؛ كأداة لضبط تجارتها الخارجية. في بداية 1974 كان هناك ثلاثون اتفاقية (منها 18 اتفاقية مع دول أعضاء في الصندوق). تم إنهاء 6 اتفاقيات خلال عامي 1974، 1975، وحتى أغسطس 1976 كان قد تم إنهاء 6 اتفاقيات أخرى، وتم اتفاق على إنهاء 3 اتفاقيات إضافية، وكانت الحكومة تنوي إعلان عدد آخر من الحكومات برغبتها في إنهاء اتفاقياتها معها.
ونذكر هنا أن موضوع إنهاء الاتفاقيات بهذا المعدل، كان موضع مناقشات ودراسة داخل الجهاز التنفيذي المصري قبل مجيء بعثة الصندوق، وتلقى وزير التجارة (زكريا توفيق) تقريرًا هامًا في هذا الشأن أعدته وكالة الوزارة بالاشتراك مع وكالة وزارة المالية لشئون النقد الأجنبي، ومعروفٌ أن التقرير طالب بضرورة الحرص على نظام الاتفاقيات وخاصة مع الدول الاشتراكية (36).
ولم يشِر تقرير البعثة إلى قانون تنظيم عمليات النقد الأجنبي، ولكن ينبغي أن ـ نتناوله هنا ما دمنا بصدد إحصاء الانتصارات التي أحرزها صندوق النقد. ونذكر بالمناسبة أن القانون السابق للنقد، لم يكن قد صدر أثناء ثورة يوليو، وقوانينها الاشتراكية، بل كان قانونًا صادرًا أيام الملك فاروق وحكومة إسماعيل صدقي باشا (القانون 80 ـ يوليو 1947)، ورأى مشرع ذلك الزمان أن ظروف الاقتصاد المصري تقتضي ضرورة سيطرة الحكومة على استعمال الأرصدة الإسترلينية، التي تجمعت للبلاد خلال فترة الحرب، ووضع موارد البلاد من العملة الأجنبية - بصفة عامة - تحت تصرف السلطات النقدية في مصر (37). وحين واجه الاقتصاد المصري أخطرَ اختناق في موارد النقد الأجنبي، وتطلبت الحالة أقصى درجات التخطيط، ومنتهى الإحكام في تحديد أولويات الاستخدام، وفي الالتزام بهذه الأولويات، قِيل إنه "أصبح من الضروري تحريرُ المعاملات النقدية من القيود التي تغُلّ يدها، وأصبحت الحاجة مُلِحَّة إلى نظرة جديدة إلى النظام النقدي، بما يحقق المرونة الكافية"(38). فصدر القانون 97 لسنة 1976، الذي سمح للشخص الطبيعي أو المَعنِيّ من غير الجهات الحكومية ووحدات القطاع العام، بالاحتفاظ بكل ما يئول إليه أو يملكه من نقد أجنبي، من غير عمليات التصدير السلعي والسياحي، وأعطى له الحق في استخدام هذا النقد في أيَّة عملية من عمليات النقد الأجنبي، عن طريق المصارف المعتمدة، الجهات الأخرى المرخَّص لها بالتعامل، وأباحت اللائحة التنفيذية للقانون الاحتفاظ بهذا النقد الأجنبي بكافة أشكاله؛ خارج البلاد أو داخلها؛ سواء لدى المصارف أو كحيازة شخصية، وعدم قيام إلزام باستيراده إلى البلاد، أو عرضه على المصارف المعتمدة. وبملاحظة الخط الصاعد لحصيلة النقد الأجنبي المتولدة عن غير المصادر التقليدية؛ تتضح خطورة إطلاق التعامل العشوائي في الموارد الجديدة والمتنامية للنقد الأجنبي، وآثار ذلك على زيادة متاعب ميزان المدفوعات.
وبالنسبة لحصيلة التصدير السلعي، كانت المادة الرابعة من القانون 80 المعدَّل تنص على أن كل من يرخص له بتصدير بضاعة، تُسترَد قيمتُها في مدى ثلاثة أشهر من تاريخ الشحن، ويتم عرض هذه الحصيلة على وزارة المالية، إلا أن المادة الثالثة من القانون الجديد ألغت وجوبية هذا الإجراء، واكتفت بأن أجازت للوزير المختص تجنيب كل - أو جزء من - ما يتحقق من نقد أجنبي من عمليات التصدير السلعي والسياحي؛ وفقًا للشروط والأوضاع التي يصدر بها قرار من الوزير المختص، في إطار موازنة النقد الأجنبي. كذلك أجيز للبنوك فتح حسابات خاصة بالنقد الأجنبي، ومنح ائتمان بالنقد الأجنبي لصالح جهات ووحدات في مصر يتحقق عن نشاطها نقدٌ أجنبي، وأعطت اللائحة للبنك المركزي حق التعامل الآجِل في العملات الأجنبية، وأجازت للبنوك المعتمدة إبرام عقود شراء وبيع العملات الأجنبية بالأجل. كما سُمِح لهذه المصارف أيضًا بتصدير واستيراد أوراق النقد، بالإضافة إلى شراء وبيع الذهب والمعادن الأخرى الثمينة لصالح عملائها، وأصبح استيراد وتصدير الأوراق المالية المصرية والأجنبية والتعامل فيها الذي يرتب حقًا أو التزامًا بالعملة الأجنبية يتم مباشرة ـ دون موافقة مسبَّقة ـ عن طريق المصارف والجهات المعتمدة.. وفي ظل تحلل السيطرة المركزية على القطاع المصرفي (بما في ذلك البنوك المؤممة) يعني ذلك إطلاق يد البنوك في تلقِّي الودائع بالنقد الأجنبي، وعقد القروض، وتحديد استخدامات واستثمارات هذه الموارد وفْق المعايير التي يراها كل بنك، وكل هذا حدٌّ لمدى وفعالية الموازنة النقدية، كأداة هيمنة مركزيَّة.
والحقيقةُ، أن الحكومة ترددت كثيرًا في التقدم بقانون النقد الجديد، فمنذ أوائل 1975 كانت تدرس الموضوع (تحت إلحاح الجهات الخارجية ومعاونيها في الداخل) ثم سوفت، حتى تكثفت الضغوط، وكان لا بد من الإذعان.
وبالنسبة للقروض الخارجية، أبدت بعثة الصندوق شكها حول قدرة الحكومة المصرية على الالتزام بقاعدة
ألا يتجاوز الاستخدام من القروض المصرفية أكثر من 75 % من المسدد، ورحبت البعثة باستجابة الحكومة لتوصية إنشاء وحدة خاصة للإشراف على عمليات الدين الخارجي؛ بحيث يكون شرطًا من شروط التعاقدات المتوسطة
أو الطويلة الأجل التي تعقدها الحكومة، أو تعقد بضمان الحكومة، الحصول أولاً على موافقة هذه الوحدة. وفي الظروف القائمة، لم يكن ذلك مجرد عملية تنظيمية عاديَّة، فهو خطوة باتجاه تيسير إدارة صندوق النقد (أو من يُنيبه) للدَّين الخارجي المصري، وهو خطورة أيضًا باتجاه فك عرى المركزية في الجهاز التنفيذي، وتدعيم استقلالية البنك المركزي قبل الحكومة.

أيضًا رحَّبت البعثة بإجراءات مايو لتعديل الموازنة العامة للمرة الثانية، وقد أدخلت الموازنة المعدلة إجراءاتٍ ضريبية كان العاجل جدًا منها والأهم، احتساب التعريفة الجمركية على الواردات وفْق سعر الصرف الذي تم به الاستيراد. قبل ذلك كانت التعريفة الجمركية وفقًا للسعر الرسمي للجنيه. والإجراء الجديد كان يعني زيادة التعريفة بالنسبة لمعظم السلع المستوردة، عن طريق السوق الموازية بمعدل 75 % تقريبًا. قالت البعثة إن القرار يؤدي إلى الحد من الواردات الكمالية، ويحقق دخلاً إضافيًّا للحكومة (حوالي 60 مليون جنيه) وما لم تذكره البعثة، هو أن القرار كان كسبًا لنقطة هامة في جولات الصندوق؛ لانتزاع الاعتراف الرسمي بالسعر المُخفض للجنيه.
وشملت إجراءات تعديل الموازنة العامة، خفض اعتمادات الدعم في بعض المواد (بدءًا من أول مايو): دعم الدقيق ـ الذرة ـ السمسم ـ اللحم ـ البُن ـ الحلاوة الطحينية. وكان مقدرًا أن يؤدي هذا إلى خفض الإنفاق الحكومي بأكثر من 30 مليون جنيه سنويًا. وقد رحبت بعثة الصندوق بكل هذه الإجراءات (تنفيذًا لمطالبها) بدءًا من إجراءات يناير التي اعتبرتها ثانوية، إلى إجراءات مايو، ولكنها سجلت أنها جميعًا أقل مما كان متوقعًا، وقالت: إنه إذا أرادت الحكومة ـ في هذه الظروف ـ أن تحصر اقتراضها من الجهاز المصرفي المصري ضمن حدود معقولة، ستجد نفسها مُضطرة إلى زيادة الاعتماد على الاقتراض الخارجي بحوالي 50 % لتمويل الاستثمارات المستهدفة. ومع ذلك، أشادت البعثة بالتزام الحكومة ـ حتى كتابة التقرير ـ بالخطة الائتمانية (وأبدت شكها في استمرار ذلك) (39)، وحثت البعثة على سرعة إقرار قانون الضرائب المحول إلى مجلس الشعب، وسجلت أن الجانب المصري يدرس رفع معدلات الفائدة على الإيداع والإقراض؛ حسب "التوصيات". ومعروف أن البنك المركزي سبق أن قرر رفع أسعار الفائدة على الودائع الادّخارية (بشرائحها المختلفة) في حدود 1 % اعتبارًا من أول يناير 1976، ولكن الصندوق كان حانقًا على هذه الزيادة الضئيلة.
* * * * *
والحقيقة أن النجاحات التي حققها الصندوق في النقاط السابقة، وصفَّق لها، لم تُنتزع بسهولة؛ فقد فهمنا من تقرير البعثة أن رجال الصندوق كانوا مضطرين إلى التلويح "بالعصا الغليظة" عند كل نقطة. كانت البعثة تكرر باستمرار ما معناه: أنتم معرِضون للاختناق، ولن يُنقذَكم أحدٌ إلا إذا وافقتم على مطالبنا. أشرنا إلى هذا المعنى في الحديث عن الخطة الخمسيَّة، وخطة عام 1976. وعند الحديث عن السياسات المطلوبة لسعر الصرف والتجارة، أنهت البعثة عرض وجهة نظرها، بأن العجز في ميزان المدفوعات كبير جدًا "وبما أن التوقعات تشير إلى انخفاض حاد في المِنح والقروض المُقدَّمة للحكومة، فإن وضع ميزان المدفوعات حَرِجٌ، وأثناء الأشهر الأولى من العام، كان هناك تراكُم كبير من المُتأخِّرات في السداد".
وأضافت البعثةُ أن المتأخرات في المدفوعات الجارية كانت قد انخفضت خلال النصف الثاني من 1975، ولكنها بدأت ترتفع مرة أخرى في أوائل 1976، وكان في نية الحكومة أن ينخفض - إلى حد كبير - مستوى المتأخرات في المدفوعات الجارية، كانت قد انخفضت خلال النصف الثاني من 1975، ولكنها بدأت ترتفع مرة أخرى في أوائل 1976، وكان في نية الحكومة أن ينخفض إلى حد كبير مستوى المتأخرات خلال الـ 12 شهرًا القادمة، وأيضًا أن ينخفض الاقتراض المصرفي، "ولكن مثل هذا الخفض يعتمد على توافر تمويل خارجي مناسب ذي أجل أطول". وفي التقييم النهائي للموقف، قيل: "لا بد من الاعتراف بأن نجاح برنامج الإصلاح يعتمد على الحصول على مستوى مناسب من المساعدات بشروط ميسرة لميزان المدفوعات، وأن الكميات المطلوبة خلال السنوات العديدة المُقبلة، تتجاوز بدرجة كبيرة ما قد يُقدم وفقًا للترتيبات المالية مع الصندوق. ومثل هذه المساعدة، ستظل ضرورية، حتى مع افتراض تبني سياسات مُثلى، إذا أرادت مصر أن تتجنَّب النواقص المعوقة في المدخلات المستوردة، وتخفض المتأخرات على المدفوعات الجارية، وتقلل الاعتماد الحالي الثقيل على الاقتراض القصير الأجل من البنوك الأجنبية. وفي الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك وسائلَ لسد هذه الفجوة التمويلية".
الحكومة تحاول وقف تراجعها:
في الإطار السياسي العام، وبانصياع دول الخليج "لتوصيات" الصندوق لها بالانتظار، "والعصا والجزرة"، كان لا بد أن تتراجع الحكومة، وسافرت بعثة الصندوق في مايو ـ بعد المباحثات الطويلة ـ راضية عمّا أنجزت ـ ولكن حدث في الأشهر التالية أن عادت الحكومة المصرية تحاول التخلُّص من بعض ما التزمت به في المباحثات، وفي مشروع خطاب النوايا، فقد أسفرت المناقشات المغلقة والمفتوحة ـ أحيانًا ـ عن تحفظ كافة المسئولين من الإسراع في إنشاء السوق التجارية. نُوقشت القضية مثلاً في اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب، في جلسة استماع، فأعرب كل الفنيين والاقتصاديين الحاضرين عن معارضتهم، وكان وزير المالية حاضرًا، ولم يخفِ تضامنه، وكتب على لسان ممدوح سالم أنه يتحفَّظ أيضًا على تحديد موعد لقيام هذه السوق (40)، وكان يُشاع عن زكي شافعي وزير الاقتصاد، أنه موافق باعتباره مسئولاً عن المباحثات بشأنها مع جون جنتر، ولكنه صرَّح (يونيو) بوقوفه الصريح إلى جانب المعارضين وقال: "قيام السوق الآن خطر، ولم أحدد من قبل موعدًا لقيام السوق، ولست مسئولاً عن تحديد موعد، ونحن لم نرتبط أصلاً مع صندوق النقد الدولي على موعد لقيام هذه السوق، كل الذي وقعناه مع صندوق النقد اتفاق بضمان السعر في السوق التجارية"... "نحن لم نحدد موعدًا، ولا يمكن قيام السوق التجارية الآن إلا بضمان سعر الجنيه المصري. في الاقتصاد كل شيء محسوب، وقبل أن نكون قد استكملنا حساباتنا، فإنه لا توجد قوة تضغط علينا، ولن نخضع لسيطرة أحد، بل ستقوم السوق في الوقت الذي نراه مناسبًا لنا، وفي ضوء ما تسفر عنه حساباتنا نحن" (41).
إلا أن هذه اللهجة، لم تكن لِتُرضي الصندوق ومن خلفه، وكان لا بد أن يدفع الوزير ـ بعد فترة ـ ثمنَ هذا "التطاول"، ولكن لفت النظر بالمناسبة، أن زكي شافعي سُئل في حديثه السابق عن حقيقة ما أعلن عن لسانه عن زيادة المقررات للمصريين المسافرين للخارج، وكانت إجابته أنه
لم يعلن شيئًا، وأن عندنا مليون مسافر بين حج وسياحة ومهمة، ولو أخذ كلُّ مسافر 1000 أو 3000 جنيه إسترليني كما قيل، يكون المطلوب توفير بليون أو 3 بليون جنيه إسترليني لهذا الغرض.. ثم أضاف الوزير "كل الذي حدث في هذا الشأن، أن صندوق النقد الدولي أوصى بزيادة مقررات المصريين المسافرين للخارج، ولم تحدد أيّة أرقام".. إذن، انكشف على الملأ أن الصندوق أصبح يتدخل ويوصي في تفاصيل التفاصيل!

و.. كان على صندوق النقد (بعد هذا الموقف الجديد من الحكومة) أن يواصل قيادة الضغط الاقتصادي المنظم من خلال لعبة "المعونات". ونعود إلى حيث توقف بنا الحديث مع هيئة الخليج والمباحثات الدولية في النصف الأول من العام. ذكرنا أن بدء عمليات الهيئة ظل مؤجلاً في انتظار نتائج المباحثات الأمريكية ومباحثات الصندوق. ويحسن أن نضيف أن تحويلات الدعم العربي (المنح) خلال النصف الأول من عام 1976 لم تتجاوز 393 مليون دولار (مقابل 785 مليون دولار في الفترة المقابلة من عام 1975). وفي نفس الوقت كان إيداع الودائع (حوالي 150 مليون دولار) بمعدل لا يسد اتساع الفجوة التمويلية الناشئ عن الهبوط في حجم الدعم. وقد يبدو التنسيق بين مختلف التحركات النقدية من متابعة ترمومتر التسهيلات المصرفية، خلال الفترات المتتالية في عام 1976، على النحو التالي: (42).
جدول (1)
تطورات الديون المصرفية خلال 1976ـ بالمليون دولار
الفترة
المستخدَم
(1)
المدفوعات
صافي المستخدم (1) ـ (2)
(2) أساسي
فوائد
يناير/ مارس
أبريل/ يونيو
يوليو/ سبتمبر
أكتوبر/ ديسمبر
184.2
140.1
128.2
169.1
99.9
179.9
105.6
144.2
9.4
9.9
7.1
5.4
84.3
39.8
22.6
24.9


ويُلاحظ أن فترة أبريل/ يونيو هي وحدها التي شهدت هبوطًا في صافي المستخدم من التسهيلات المصرفية، ويلاحظ أن هذه الفترة كانت فترة كتابة مشروع خطاب النوايا، وفترة شروع الحكومة في التنفيذ الفعلي لبعض "التوصيات"، وحين وضح تباطؤ التنفيذ، وعدول الحكومة عن بعض ما التزمت به، وخاصة موضوع السوق التجارية، بات متوقعًا أن النصف الثاني من عام 1976 سيشهد محاولات ترويض عنيفة في المجال الاقتصادي. ولعبت هيئةُ الخليج في هذا المجال دورًا بالغ الأهمية؛ فقد انخفض الدعم، وانخفضت الودائع على أساس أن التدفقات الجديدة ستأخذ شكل قروض منتظمة من هذه الهيئة. وقد ذكرنا كيف بدأت الهيئة، وكيف تلكأت، وأوضح السادات (في 14 يونيو) أنه
لا يدري إذا كانت الأخبار من الهيئة مشجعة أو غير مشجعة، "وستتضح الصورة بعد زيارة رئيس الوزراء".

ورحلة ممدوح سالم جاءت بعد تأجيل موعد اجتماع وزير المالية المصري مع وزراء مالية الخليج في القاهرة. كان موعد الاجتماع يوليو، وطلب وزراء الخليج تأجيله دون تحديد لموعد آخر؛ ولذا كانت رحلة ممدوح سالم تهدف إلى معاودة المناقشة حول ترتيبات "المعونات" النفطية، ومن ناحية أخرى، كانت الرحلة تعبيرًا عن قبول القيادة المصرية لطلب السعودية والكويت، بأن تبتعد عن التدخل في المشكلة اللبنانية ومهاجمة سوريا. وعبَّرت القاهرة عن قبول هذا الشرط السياسي بفكرة عقد اجتماع لرؤساء وزراء الدول الأربع في الرياض؛ لبحث التطورات في الساحة العربية، ولكن يبدو أن السعودية ألحَّت على حضور السادات بنفسه لمناقشة هذه المواضيع، فصرح بأنه ذاهب ليتشاور مع زملائه في السعودية "قبل الاجتماع المقبل لرؤساء وزراء الدول الأربع، وهناك مسائل أخرى - لا بد أن أبحثها - خاصة بصندوق الدعم العربي، (43). وحدث بالفعل أن بُحِث في الرياض (21 يونيو) موضوعٌ الصندوق أو هيئة الخليج، ولكن حدث أيضًا أن تحولت المناقشات السياسية إلى قبول السادات للاجتماع المباشر مع حافظ الأسد، على عكس ما كان يرغب في تلك الفترة (وفقًا لحساباته في الأزمة اللبنانية كما ذكرناها).
فقط بعد نجاح هذا الضغط السياسي، وبعد الاتصالات على أعلى مستوى؛ حضر وزراء مالية الخليج، في الموعد الذي كان قد أُلغِي (17 يوليو)، ولكن لم يكن بيدهم ـ رغم ذلك ـ إلا الاتفاق الرباعي بإنشاء هيئة الخليج برأسمال لا يتعدى 2 بليون دولار، ودون التزامات محددة بالنسبة للقروض النقدية (تمامًا كما كان الأمر في البداية). فعاد السادات إلى لقاء الملك خالد في حدة لمناقشة الأمر، (وكان معه النُميري بعد مساعدته في إفشال محاولة الانقلاب ضده). وأرسل وزير المالية المصري مذكرة إلى وزراء مالية السعودية والكويت والإمارات العربية وقطر، وحددت المذكرة مطلبَ مصر العاجل في الحصول على 1000 مليون دولار (على أساس أن العجز في موازنة النقد الأجنبي عن النصف الثاني من عام 1976 يبلغ حوالي 1250 مليون دولار). ولكن لم تتلقَ الحكومةُ المصرية ردًّا على هذا المطلب العاجل، ولم تحدث أية اتصالات بشأنه؛ بحجة أن الإجابة ستعلَن في اجتماع وزراء المالية يوم 18 أغسطس (44). وهنا فَقَد الساداتُ أعصابه، فوجه ـ لأول مرة ـ نقدًا علنيًّا إلى دول الخليج، وقال إن الصندوق لا يكفي الاحتياجات ولا يوفر السيولة المطلوبة (45). ويبدو أن دول الخليج، اتخذت هذا الخطاب ذريعة لمزيد من المراوغة، فأفهموا الخبراء المصريين (خلال اجتماعات "الرياض" لوضع مسودة اتفاقية تنظيم التعامل بين الهيئة ومصر) أن لقاء وزراء المالية في 18 أغسطس قد يتأجَّل، وقيل إن دولتين من أعضاء الهيئة، لم تُصدِّقا بعدُ على قانون اتفاقية إنشاء الهيئة (الموقعة منذ أبريل). قطر اعتبرت المسألة شكلية، والكويت كانت تنتظر عرض الأمر على مجلس الأمة الكويتي. وقد اضطر السادات إلى الاعتذار المتلعثم علنًا عمّا بَدَر منه، فافتعل مناسبة ليتحدث حديثًا طويلاً في الموضوع: "السعودية، الله يرحمه فيصل، ثم من بعده الملك خالد، ما قصروا إلى هذه اللحظة أبدًا "...) لكني أقول إليهم: "إننا نمرُّ بأزمة، ونحن أيضًا حساسون ولنا كبرياء، وما نطلبُه هو قروض، ما بنطلبش معونة، ويمكن الحساسية الزايدة لموقفنا هي اللي خلتني أقول إنه الأسلوب اللي يسير عليه الصندوق العربي باثنين مليار دولار اللي قرره إخواننا كل ده غير كاف.. ليه؟ علشان إخواننا يعيدوا حساباتهم مرة أخرى، ويعيدوا حساباتهم على ضوء إن الكلمة الصغيرة اللي قد كده تجرحنا (....) عملية الصندوق "مع إنهم - مشكورين - بيقدموا 2 مليار النهاردة على 5 سنوات. أنا بأقول لهم: دا ما هواش كافي؛ لأن ظروفنا والناس المختصين عندنا مستعدين يضعوا كل شيء بوضوح للعالم كله؛ لأن لما دخلنا على الاقتصاد علشان نصلحه، ما بنخبيش حقائق أبدًا عن حد.. ليه؟ عشان يبقى العالم كله على قناعة من موقفنا.. وإذا كنت تحدثت عن الصندوق في جامعة الإسكندرية وقلت إنه ما يكفيش، ليس معنى هذا أبدًا أنني أطعن إطلاقًا فيما قدموه ويقدمونه، ولكن "إحنا لنا كرامة ولنا إباء، وده ما يزعلش؛ لأن ده إحنا منهم وهم منا" (46). وبعد هذا الكلام بأيام، قال صحفي كويتي للسادات إن الدول النفطية لديها التزامات تجاه لبنان وسوريا، فهل هذا التبرير، أو هذا الشرح، كافٍ تجاه طلب مصر؟ ورد السادات بأن رقم الـ 10 أو 12 بليون دولار "غير مُبالَغ فيه، فإذا وافقت الدول النفطية معنا فشكرًا لهم، وإذا كانوا لا يريدون ذلك؛ فلهم الخيار، لن نشكو شُحَّهم أبدًا (....) إنني لا أريد أن أفتح قضية جانبية، فالدول النفطية إذا كانت تريد الوقوف معنا فهذه احتياجاتنا، وإذا كانت لا تريد فذلك خيارها، ولن يحز في نفوسنا شيء" (47).
والحقيقة أن كل مُتابع لخلفيات الصورة، ولطبيعة لعبة المعونات المشروطة التي يقودها صندوق النقد، كان
لا بد يدرك أن موقف دول الخليج لن يتزحزح؛ فتقرير بعثة الصندوق عن مباحثاتها في القاهرة صدر في أوائل أغسطس، وقد جاء في ختام التقرير تقييم البعثة عن تطورات الموقف. جاء في هذا التقييم أنه "في أبريل وأوائل مايو 1976، اتخذت في الواقع بعض إجراءات هامة. وأثناء المناقشات حدد ممثلو الجانب المصري الإجراءات الأخرى التي تتخذ فورًا، وتلك التي يمكن تأجيلها حتى أواخر 1976. وفي تقدير أعضاء البعثة مثل هذا البرنامج مجموعة سليمة من الإجراءات حققت تقدمًا كبيرًا نحو إعادة صياغة البنية الاقتصادية، وقدمت إشارة واضحة إلى أن الحكومة المصرية كانت تنوي معالجة بعض الإجراءات المُشار إليها (السوق التجارية في المقام الأول ـ المؤلف)، وقررت أن تنقص - إلى حد ما - من مدى بعض الإجراءات المُتخذَة في أوائل مايو (المقصود أنه بعد التوسع في التعامل بسعر السوق الموازية، أُلزمت الوزاراتُ والهيئات الحكومية المختلفة، باستخدام الاعتمادات المخصصة لهذه الجهات في امتصاص أثر ارتفاع تكلفة الواردات بسعر السوق الموازية على الأسعار المحلية ـ المؤلف). وقد أشارت السلطات إلى أن نوايا سياستها تبقى بلا تغيير، ويتوقع خلال بضعة أشهر أن تُستأنف المناقشات؛ تطلعًا إلى صياغة برنامج يمكن أن يقدم الأساس لطلب اتفاق مساندة، يتضمن استخدام موارد الصندوق زيادة على تسهيلات شريحة الائتمان الأولى. وفي الأثناء تستمر الاتصالات الوثيقة بين السلطات المصرية وأفراد البعثة.

وقد انعكس هذا التقييم في قرار مجلس مديري الصندوق الذي بارك الخطواتِ المتخذة من الحكومة المصرية
بلا حماس، وقال إن المطلوب كثير. وكما نعلم من بروتوكولات العمل في الصندوق، كان تراجع السلطات المصرية عن بعض ما التزمت به، يعني تعديلاً أو خروجًا عن شروع خطاب النوايا الذي أملته بعثةُ الصندوق، ويترتب على ذلك (كما في التقييم) تأجيل مجلس المديرين لإصدار اتفاق مساندة، أي: تأجيل تقديم قروض من صندوق النقد، إلى أن تذعن الحكومة المصرية "للتوصيات" الكاملة في مفاوضات مقبلة.

ومعروفٌ أن تأجيل أو وقف اتفاق المساندة، هو إبلاغ رسمي لكل جهات التمويل المعنية، بأن تتوقف عن تقديم "المساعدات"، وبالتالي كان طبَعيًّا أن ترفض هيئةُ الخليج كل المقترحات المصرية. وقد نضيف أيضًا إلى ما سبق، أن العلاقات بين دول الخليج وصندوق النقد الدولي، أوثقُ من أن تُحرَّك بالإشارات، والتوجيهات غير المباشرة، فكل الدلائل تسيغ لنا أن نفرض أن الصندوق على صلة مؤسسية مستقرة مع دول الخليج، وتطور المباحثات المصرية مع صندوق النقد، كان يبلغ بانتظام إلى دول الخليج، والتصرُّف المطلوب كان يبلغ بانتظام أيضًا ووضوح.
المهم، رفضت هيئة الخليج كل المقترحات المصرية،
ولم يكن أمام الحكومة، إلا أن توقع على اتفاقية التعاون مع هيئة الخليج في 21 أغسطس، متضمنة كل النقاط الأساسية التي كانت تعترض عليها، ثم تقاعست الهيئة - رغم هذا - عن تقديم أيَّة قروض، وفي نهاية أغسطس كانت المتأخرات قد قفزت إلى 757 مليون دولار (بزيادة تقرب من 400 مليون دولار على مستوى نهاية أبريل)، ونشر في ذلك الوقت، أن وزير المالية أرسل تقريرًا خطيرًا عاجلاً إلى اللجنة العليا للتخطيط، أي: يرأسها رئيس مجلس الوزراء- حول الأزمة التي تواجه تمويل الموازنة العامة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من العام. ومنذ نهاية أغسطس حتى أوائل أكتوبر زادت المتأخرات 50 مليون دولار أخرى في حساب التسهيلات المصرفية وحده؛ وبذا أصبحت المتأخرات الجارية أكثر من 800 مليون دولار (منها 200 مليون دولار ودافع مع ليبيا والسعودية، و170 مليون دولار تسهيلات موردين و100 مليون دولار قروض حكومات، بالإضافة إلى التسهيلات المصرفية) وظلت الحكومة المصرية تنتظر ردًّا من هيئة الخليج ولا مجيب؛ لأن الصندوق لم يعد يقبل الحلول الوسط، وكان يهدف إلى إحداث التغيير الحاسم بلا إبطاء.

وكانت الضغوط الخارجية تتكامل مع نتائج الانفتاح الداخلي في ظل إدارة خرِبة؛ الفوارق الطبقية تتزايد باضطراد، معدلات ارتفاع الأسعار تسحق أصحاب الدخول الدُّنيا والمتوسطة (وخاصة أصحاب الأجور والمرتبات في الحكومة والقطاع العام). نقد السياسة الاقتصادية أصبح موقف كل القوَى والفئات الوطنية) ومن بينهم معظم المسئولين الشرفاء في القطاع الاقتصادي). القلاقل الاجتماعية توالت، وبلغت ذروة منذرة حين صحت القاهرة يوم إعلان نتيجة الاستفتاء على رئيس الجمهورية (17 أكتوبر) على إضراب شامل لعمال النقل شلّ العاصمة، والحكومة التي تعارض في الإذعان لتعليمات صندوق النقد؛ إذعانًا كاملا، لم تكن تعتمد على أي جهد محلي. بدت الحكومة وكأنها تعتمد في معارضة هذه التعليمات وما يترتب عليها من مصاعبَ، على مساعدة أخوة الخليج. وقد يكون هذا التصور فجًّا، ولكن بالفعل بدت الحكومة بهذا المنظر، فتحركها لتحسين الموقف الاقتصادي، ولرفع كفاءة الإدارة الاقتصادية ـ بأي شكل ـ كان مشلولاً تمامًا، رغم الإعلان الواسع ـ وبمبادرة الرئيس في أول مايو ـ عن بدء الثورة الإدارية (استجابة لمطلب الهيئات الدولية). كان التحرك الوحيد للمسئولين باتجاه التحالف مع دول (الخليج ضد مبالغة الحكومة الأمريكية في الشروط المقدَّمة، وباتجاه استخدام أموال الخليج في نوع من الهجمات المضادة التكتيكية؛ للحد من الغزو الإمبريالي، وكان لا بد لهذا التحرك أن يفشل، وثبت أن دول الخليج في هذه الظروف ترفض (أو لا تستطيع) الخروج على "توصيات" الحكومة الأمريكية والهيئات الدولية، بضرورة فرض تغييرات حاسمة وفورية على بنية الاقتصاد المصري. ولم تقبل هذه الجهات ما تذرعت به الحكومة المصرية لتأجيل الإجراءات المطلوبة إلى ما بعد انتخابات مجلس الشعب (في أواخر أكتوبر). كان المسئولون يقولون إن الإعداد لهذه الانتخابات يتطلب الابتعاد عن الهزات السياسية التي قد تؤثر على نتيجة الانتخابات. وانتخاب مجلس "متعاون" شرط لإصدار التشريعات المناسبة في السنوات القادمة. ولكن هذه الحُجة كانت أيضًا مرفوضة.
ثالثًا ـ المرحلة الثانية للهجوم من أجل الحسم:
"خطتي الجديدة: إن إحنا لا بد أن نستكفي بالطعام ما عدا القمح (....) وإن شاء الله أنا مدي تاريخ محدد: أكتوبر اللي جاي - إن شاء الله - بالنسبة للأكل، وسيظهر أثر هذا كله، بدءًا من أكتوبر وطالع إن شاء الله" (46)... كان هذا كلام الرئيس، ولكن ما حدث فعلاً "من أكتوبر وطالع" كان سلسلة من المتاعب والانهيارات.
في الخارج: كانت الانتخابات الأمريكية في مراحلها النهائية، وانتهت بفوز جيمي كارتر (3 نوفمبر). في العالم العربي: توقَّف الصراعُ المصري السوري الفلسطيني حول الأزمة اللبنانية (ولكن بعد خسائرَ جسيمة، وجراح لا تندمل). وفي الداخل: شهد أكتوبر تحركًا وتصاعدًا في العمل السياسي أثناء الحملات الانتخابية لمجلس الشعب، وكان السخط الشعبي على الأوضاع الاقتصادية يكشف عن أنيابه. والولايات المتحدة (والهيئات الدولية) التي دبرت عملية الإبطاء في تقديم قروض سهلة، ومنعت أيَّة ترتيبات عامة لإعادة جدولة الالتزامات، كانت ترقب التراكُم الناتج في الديوان الصعبة والمتأخرات، ويبدو أنها قررت أيضًا "بدءًا من أكتوبر وطالع" اقتحام المواجهة الحاسمة (استعدادًا لما بعد الانتخابات الأمريكية). ونلحظ التعبير عن هذا، في لإعطاء صورة مفجعة، ولكن من حقنا أن نفترض - مع ذلك - أن الاتصالات التي لا نعلمها، كانت تحمل ضغوطًا وإنذاراتٍ أشد خطرًا. ونفترض بالتحديد أن الاتصالات السريَّة مع الحكومة الأمريكية، كانت تؤكد بحسم (ضمن أمور أخرى) على الربط بين الانصياع لتعليمات "إصلاح المسار الاقتصادي"، وبين التحرك الأمريكي المرتقب.
(1) مع البنك الدولي (إهانة مكنمارا للمسئولين المصريين):
أ ـ يلزم في حالة البنك الدولي، أن نصل إلى صدام أكتوبر، بعد عرض سريع لتطورات العلاقة؛ فبعد زيارة روبرت مكنمارا للقاهرة في أوائل 1974، ظل البنك الدولي يرسل بعثاتِه لدراسة الموقف، وتقديم "التوصيات" المُتسقة مع "توصيات" صندوق النقد، ولكن تعاقداته مع الحكومة المصرية لم تتجاوز 85 مليون دولار (1874)، و77 مليون دولار (1975)، وقفزت إلى 157 مليون دولار (1976). ومع تزايد الاتفاقيات، كان نفوذ البنك في الوزارات المختلفة يتعاظم، وكانت سيطرته المباشرة تتأكد على الوحدات المستفيدة من المقروض، وعلى القطاعات المختلفة (راجع الفصلين الثاني والرابع).
ولكن مع القرار السياسي للبنك بإعطاء أولوية خاصة لمصر عام 1976 (كما يبدو في حجم القروض) كان لا بد من تدخل مباشر على مستوى الاقتصاد الكلي لصياغة سياسات التنمية والسياسات الاقتصادية للأجل الطويل والمتوسط. ولم يكن اختيار البنك لعام 1976 اختيارًا عشوائيًّا، فهو على صلة عضوية بخطة الهجوم الشامل، وبعد عمليات التحضير التي تمت خلال العامين السابقين.
ومهمة البنك الدولي ـ كمهمة الصندوق ـ على صلة بكافة الوزارات، ولكن يركز الصندوق على وزارتي المالية والاقتصاد، ويركز البنك على وزارة التخطيط. وحين وصلت بعثة الصندوق في أبريل، كانت هناك بعثة من البنك الدولي قد سبقتها بأيام برئاسة ووتر تيمز، ومهمتها القيام بمباحثات مُكثَّفة مع وزير التخطيط الجديد، ومع معاونيه في الوزارة، (ومع الفنيين في الوزارات الأخرى طبعًا). وزير التخطيط (محمد محمود الإمام) كان يتصوَّر أن الاستراتيجية العامة "تستمد من نصوص الدستور الدائم، ومن معالم الاستراتيجيَّة الحضاريَّة الشاملة التي أقرَّها الشعب عند استفتائه على ورقة أكتوبر"، ورتَّب على ذلك ضرورة التمسك بحتمية الحل الاشتراكي، وضرورة دعم القطاع العام والمحافظة على دوره القائد، مع إزالة القيود التي حدَّت من انطلاق القطاع الخاص نحو الاستثمار البناء، دون استغلال، أو جري وراء المجالات الطفيلية ـ كذلك أوضح الإمام ضرورة توفير متطلبات السلام الاجتماعي، مما يُحقق التوازن بين كافة فئات المجتمع؛ سواء في مراحل إنشاء الدخل أو توزيعه أو إعادة توزيعه ـ أيضًا مراعاة التوازن في العلاقات مع مختلف الدول والتكتلات الدولية، والتعامل مع الأشقاء العرب تعاملاً متكافئًا لا يخلق العلاقات مع مختلف الدول والتكتلات الدولية والتعامل مع الأشقاء العرب تعاملاً متكافئًات لا يخلق محاورَ أو تصنيفات، وبالتالي فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي، بما يتوافق مع أهداف الدولة من حيث سرعة استيعاب التكنولوجيا الحديثة، وإمكان الخروج إلى مختلف أسواق العالم بكفاءة تنافسية عالية ـ لقد أصبح من المتعذِّر علينا، أن نعيش في هذا العالم، ونحن نفكر من سنة إلى أخرى، وقد بدأ الاهتمام الجاد بالتخطيط الطويل الأجل عندنا مع ورقة أكتوبر، وتبنِّي الدولة لفكرة رسم خريطة مصر لسنة 2000، وأكدت ورقة أكتوبر على أنه إذا أريد حقًا أن تكون استراتيجيتنا الحضارية الشاملة للمستقبل، قائمة على أسس مدروسة، تربِط بين الأهداف المنشودة، وتجعل خطونا نحو التقدم متوازنًا؛ فإن حاجتنا سوف تكون أشد إلى الالتزام بمبدأ التخطيط. وفي مفهومه للتخطيط، أكدَّ الوزير أيضًا ما جاء في ورقة أكتوبر؛ ففي ظل سياسة الانفتاح، يظل القطاع العام هو الأداة الأساسية لتنفيذ أيَّة خطة للتنمية؛ ذلك أن القطاع العام هو وحده الذي يمكن أن تلزمه الخطة إلزامًا مباشرًا.
.. كان الرجل ـ بهذا الكلام ـ بعيدًا فعلاً عمَّا آل إليه الحال، فقد مرت مياه كثيرة منذ ورقة أكتوبر، والالتزام بما جاء بها، أصبح تمسكًا بماضٍ يورِد صاحبه التهلكة.
فلا حتمية التحول الاشتراكي أصبحت مقبولة، ولا التوازن في العلاقات الدولية أصبح محتملاً، والكلام عن الدور القيادي للقطاع العام في التنمية، وعن إلزامه بالخطة يتضمن أسلوبًا في تخصيص الموارد وفي تحديد الأسعار، يتعارض تمامًا مع توجيهات السادة الأجانب، وهو عودة لتأكيد استقلال القرار، ومحاولة لاستخدام الاستثمار الأجنبي وفق التخطيط الوطني.. وكل هذا انتهى عصرُه.

لقد كان من المهام الأساسيّة المُلقاة على عاتق وزارة التخطيط في رأي الوزير "استكمال الخطة الخمسية 76 ـ 1980 وفقًا للإطار المبدئي الذي سبق أن طرح في بداية هذا العام، ومع ربط الخطة بمراحل تنفيذ السياسات الاقتصادية اللازمة للإصلاح المالي والاقتصادي، وإعداد إطار هذه الخطة ومناقشته؛ تمهيدًا لعرضه في أوائل العام المقبل على مجموعة استشارية تضم الدول الراغبة في التعاون الاقتصادي مع مصر، والمؤسسات المالية والإقليمية والدولية، وفي مُقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ـ وسوف "يؤدي ربط الخطة الخمسية بالسياسات الإصلاحية، إلى مراعاة ما سبق أن أشرنا إليه، من ضرورة استخدام الأساليب غير المباشرة؛ لتوجيه القطاعات الاقتصادية العاملة خارج نطاق القطاع العام" (48). ولكن أصحاب المجموعة الاستشارية، يطلبون أن تسود الأساليب غير المباشرة في توجيه الاقتصاد القومي كله، وليس في توجيه "القطاعات الاقتصادية العاملة خارج نطاق القطاع العام" فقط، كما يقول الوزير". وكان لا بد أن يفرض هذا الموقف ـ حسب "توصيات" البنك الدولي ـ قبل اجتماعات المجموعة الاستشارية؛ لتنظيم تدفق رءوس الأموال الخارجية.
ب ـ كان وزير التخطيط على وشْك الانتهاء من صياغة الخطة الخمسية (وفق المفاهيم التي حددها) أثناء الاتصالات مع بعثة البنك الدولي، ولاحظت البعثة طبعًا أن الخطة تنشأ على أساس مخالفة تمامًا لما توصي به؛ ولذا أسرعت بكتابة تقريرها، وأرسلت نسخته الأولى إلى الوزير؛ لكي تتلقَّى تعليقاته عليه، "ولكي تكون آراء البعثة متاحة للوزارة أثناء الإعداد لمشروع إطار الخطة، الذي ندرك أنه مُحدَّدٌ له أن يكتمل في الأسبوع القادم" (49). وبمعرفتنا بأساليب هذه الجهات في التعبير، يبدو أن المقصود كان إعلام الوزير بأن الخلافات في وجهات النظر واسعة، ومطلوب من الوزير أن يكتب بوضوح أنه يختلف جذريًّا مع مفاهيم وسياسات البنك الدولي، وهذا أمر له حسابات سياسية معقدة. والمطالبة بأن تكون آراء البعثة موضع اعتبار خلال أسبوع واحد، رغم خلافها الواضح مع وجهة نظر المسئولين المصريين، يعني عملية المطالبة بإذعان الجانب المصري دون مناقشة،
أو تأجيل إعلان مشروع الخطة إلى حين بحت الخلافات، وقد أخذ بالاختيار الثاني فعلاً.

والتقرير الميداني لبعثة البنك الدولي يمثل في الواقع صياغة متكاملة لرؤية البنك الدولي المتطورة حول استراتيجية التنمية، فهو يصدر عن رؤية التنمية كعملية تغيير متكاملة، (سياسية/ اقتصادية/ اجتماعية، ثقافية) وليس كمجرد برنامج استثمار عيني ومالي، وهو يطالب الدولة بتدخل كفء ونشط في إدارة الاقتصاد القومي، "ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا تكاملت وزارة التخطيط داخل إطار مصمم جيدًا لتنسيق السياسات القومية". ولكن في تحديد الأهداف، وفي تحديد السياسات المطلوبة خلال الخطة الخمسية؛ لتحقيق هذه الأهداف، يتبلور طبعًا الخلاف بين مفهوم التنمية المستقلة، ومفهوم الإدارة الرشيدة لنمط التنمية التابعة، وقد أوضح التقرير ـ بصدق على ما أعتقد ـ أن استمرار وزارة التخطيط في عملها وفق المفاهيم القديمة، أصبح "يتم بشكل متزايد في فراغ؛ لأن أدوات السيطرة تضعف أو تتهاوَى، ومحاولاتها في الموازين السلعية، وفي تخصيص اعتمادات الموازنة والنقد الأجنبي، تقل جدواها. إن القرارات المطلوبة الآن ذات طبيعة مختلفة".
ج ـ وقد توالت المحادثات مع البنك الدولي حول "إعلان السياسة" الذي طلبه البنك من الحكومة المصرية؛ كشرط لإعداده للقاء المجموعة الاستشارية التي تبحث تمويل خطة التنمية الخمسية (16 دولة أوروبية غربية، والولايات المتحدة واليابان، وبعض الدول العربية). ذهب مسئولون مصريون إلى واشنطن، وعادت بعثة من البنك الدولي لزيارة القاهرة، وتقرر أن يقود وزير الاقتصاد (زكي شافعي) استكمال المباحثات في مانيلا أثناء اجتماعات محافظي البنك وصندوق النقد. وفي أكتوبر (شهر المواجهة الحاسمة) كشفت صحيفة مصرية أن "الاجتماعات بين مسئولي القطاع الاقتصادي في مصر، والمسئولين في البنك الدولي هذا العام، من النوع الساخن جدًا.. بل كان من الممكن أن تنقلب بالفعل إلى مشادة"... وحين "تم بعد ذلك الاجتماع بين مكنمارا والوفد المصري، يمكن القول بأن اللغة التي استخدمها (مكنمارا) كانت من النوع الحاد" (50). ومعروفٌ أن خبراء البنك الدولي يعقدون عادة اجتماعًا تمهيديًّا بين خبراء البنك الدولي وبين المسئولين عن السياسات الاقتصادية والمالية في الدول المختلفة، وذلك قبل الاجتماع مع رئيس البنك. وفي الاجتماع التمهيدي مع الجانب المصري، ذاع أن الحوار مع منير بنجنك (نائب رئيس البنك المسئول عن الشرق الأوسط) تناول قلق خبراء البنك من تأخر الجهات المصرية في سحب الأموال التي ارتبط البنك بتقديمها إلى المشروعات المصرية، وقال إن سحب هذه الأموال كان حوالي 10 ملايين دولار شهريًّا في العام السابق، ولكنه هبط في عام 1976 إلى حوالي 4 ملايين دولار شهريًّا. وفي اللقاء مع روبرت مكنمارا أثار هذا قضيةَ التعثر في إحداث التغيرات الاقتصادية المطلوبة، وبالنسبة للبطء في استخدام قروض البنك الدولي، هدد مكنمارا بأن هذا الاتجاه يؤثر على سياسة منح القروض لمصر، وقال إنه لا يجد سببًا مقنعًا للتأخير، وإذا كانت مصر لا تملك مشروعات جديدة، أو إذا كانت مشروعاتها ناقصة الدراسة، فإن جميع الدول النامية تحتاج إلى مثل هذه الأموال لتمويل بعض مشروعاتها. وتوسع مكنمارا في دائرة تهديده، فقال إن البنك الدولي إذا غير سياسته تجاه مصر، فإن جهات الإقراض الأُخرى (وضمنها الصناديق العربية طبعًا) ستتضامن معه.
وقد أوضح تقرير مصري رسمي حول هذا الموضوع(51)، أن المستخدم من قروض البنك الدولي من 1969 حتى أغسطس 1976، لم يتجاوز بالفعل نسبة 25 %، وإذا استُبعِدت القروض التي وقعت في النصف الأول من 1976 وقيمتها 152 مليون دولار، ولم تنتهِ الإجراءات الطبيعية واللازمة لبدء استخدامها، ترتفع نسبة لاستخدام إلى 30 %، ولكنها تظل مع ذلك منخفضة، وفسر الجانب المصري هذا الانخفاض بأسباب محلية، وأسباب يسأل عنها البنك الدولي. وبالتأكيد، فإن شروط الاتفاقيات مع البنك مركبة ومعطلة بتعقيداتها، فضلاً عنها البنك الدولي. وبالتأكيد، فإن شروط الاتفاقيات مع البنك مركبة ومعطلة بتعقيداتها، فضلاً عن أنها مهينة، وأهم من ذلك أنها موظفة لخدمة استراتيجية مضادة (راجع الفصلين الثاني والرابع). وكل هذه الاعتبارات، دفعت كثيرًا من الفنيين الوطنيين ـ في المستويات المختلفة ـ إلى الاعتراض والخلاف مع ممثلي البنك، فأضاف هذا تعقيدات أخرَى في مجال التنفيذ. ولكن من المؤكد كذلك أن كفاءة التنفيذ في مصر قد انحطت في السنوات الأخيرة، ومن المؤكد أيضًا أن تبخر المدخرات المحلية، والذي انعكس في معدل توافر المكون المحلي للاستثمارات المستهدفة (عادة نسبة المكون الأجنبي إلى المكون المحلي = 1: 1.5) كان عاملاً أساسيًّا لتخلف معدلات الاستخدام للقروض الخارجية، وضمنها قروض البنك الدولي، وأصبحت المنافسة حادة بين مشروعات هذه القروض، وأولويات الاستثمار الأخرى، على تخصيص موارد التمويل المحلي المحدودة. وقد تصورت القيادة المصرية أن تدفق القروض والمنح النقدية، يمكن أن يساعد في خلق المكون المحلي بالمعدلات المطلوبة، وهذا أسلوب خطر بطبيعة الحال، ولكن المهم الآن أن هذه القروض والتحويلات لم تتدفق على النحو المتوقع، وما وصل منها بدد بأشكال مختلفة، وكانت تعليمات الصندوق تضغط في اتجاه تغيير العلاقات السعرية، وتعلن أن الخطوات المطلوبة تستهدف ـ ضمن ما تستهدف ـ خفض الإنفاق الجاري العام، وزيادة المدخرات. وفي مرحلة المواجهة باتجاه الحسم، والتي بدأت في أكتوبر، أهان مكنمارا وزير الاقتصاد المصري، وهدد بخفض قروض البنك الدولي، بحجة تبدو أنها في دائرة المسئولية المباشرة للبنك عن تنفيذ المشروعات التي ارتبط بتمويلها، ولكنها في الحقيقة ترتبط من حيث الموضوع، بضغوط الصندوق "لإصلاح المسار الاقتصادي"، وترتبط - من حيث التوقيت - بساعة الصفر المشتركة للمرحلة الثانية من الهجوم.
على أيَّة حال، يبدو أن مكنمارا كان متجاوزًا لكل الحدود. وتقول جريدة الأهرام إنه أدرك ذلك. أدرك أنه كان حادًا جدًا. ولكنه لم يتمكن من الاعتذار؛ لأن الوزير المصري والوفد المرافق كانا قد عادا إلى القاهرة، بكل المرارة التي يمكن تصورها.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس