عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:31 PM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

صندوق النقد الدولي (المذكرة الحادة والمنذرة لممثل الصندوق):
بعد العودة للقاهرة، كانت في انتظار الوزير وزملائه في القطاع الاقتصادي مواجهة أخرى ساخنة، ولحسن الحظ؛ فإن نص الوثيقة الذي يسجل هذه المواجهة تحت يدنا، وهو نص لا بد من اطلاع القارئ عليه كاملاً (انظر المُلحق في آخر الفصل)؛ ولذا نقتصر هنا على بعض الإشارات والملاحظات.
كان من مهمة الوفد المصري في مانيلا ـ بالإضافة إلى مباحثات البنك ـ استئناف المباحثات مع خبراء صندوق النقد الدولي حول المقترحات التي قدمها الصندوق حول الإصلاح الضريبي والأداء في الإنفاق الحكومي، وحول النظام النقدي والسياسة النقدية الخاصة بإصلاح العجز في ميزان المدفوعات المصري، وكانت هذه المباحثات حامية أيضًا ومثيرة، وبعد عودة الوفد بأيام تلقى وزير الاقتصاد مذكرة من بول ديكي، ممثل صندوق النقد الدولي في القاهرة (الذي يشغل مكتبًا مخصصا له في وزارة الاقتصاد)، وأرسل ديكي صورة من المذكرة إلى وزير المالية ووزير التخطيط.
أـ وأهمية النص الأولى، أنه صريح جدًا في أسلوبه؛ فهو مجرد من أيَّة تغليفات دبلوماسية يلجأ إليها في صياغة الوثائق العلنية، ومجرد من الصياغات شبه الدبلوماسية في الوثائق ذات المستوى المتوسط من السريَّة. هذه الوثيقة تمثل في الواقع أعلى مستوى من السرية وصلت يدنا إليه (ولكنها رغم هذا لا تمثل المستوى الأعلى)، ونستطيع أن نتأكد الآن أن ممثلي الولايات المتحدة والهيئات التابعة وشبه التابعة، أصبحوا في وضع من يخاطبون المسئولين المصريين كمستوى رئاسي يصدر التعليمات، ويقولون بصراحة إنه سيوقع العقاب في حالة المخالفة؛ فالمذكرة لا تستخدم التعبير الدبلوماسي الشهير: التوصيات؛ فبول ديكي لم يذكر في الرسالة السرية جدًا، أنه يوصي بكذا، إنه لا يستخدم إلا كلمات: يجب ـ يلزَم ـ لا بد ـ ومن الضروري.
ب ـ كذلك تؤكد الوثيقة ـ أكثر من غيرها ـ الاستنتاجات والانطباعات حول مدى تدخل الأجانب في أمور الإدارة الداخلية. نعلم أن المراكز الأجنبية لتجميع المعلومات، تعلم أكثر من أي مراكزَ مصرية مقابلة، ليس فقط بسبب تنظيم وتحليل أكفأ للبيانات، ولكن أيضًا لأن حجم البيانات المتاحة للجهات الأجنبية أكبر، ولكن كان البعض يتصور أن مهمة الأجانب قد تقتصر على تجميع المعلومات والبيانات والتقارير بعد حدوثها، أو يتصور ـ على الأكثر ـ أن العلاقات مع جهة؛ كالصندوق تأخذ شكل مواجهة دورية كل سنة، أو كل فترة، فيما يسمَّى مشاورات. ولكن مذكرة ديكي تثبت أنهم أصبحوا مشاركين في المطبخ اليومي نفسه، أي في المناقشات والأبحاث اليومية التي تتحول إلى أرقام وبيانات وقرارات وسياسات، فهم يشتركون مثلاً ومباشرة، في تحضير الموازنة العامة، وفي تعديلها قبل أن تعلن أمام مجلس الشعب، بل إن المناقشة الحقيقية والمؤثرة مع وزارة المالية، تصدر عن صندوق النقد وليس عن أيَّة جهة أخرى، وأقصد بالمناقشة الحقيقية المناقشة التي تسهم في مختلف مراحل صنع القرار، المناقشة التي يمكن أن تُحدث تغييرًا أساسيًا في هيكل الإيرادات المقترح أو هيكل الإنفاق، فالقانون يمنع هذا الحق عن مجلس الشعب، وينص على أن المجلس يجب أن يقبل الموازنة العامة، ككل أو يرفضها ككل، ومن الناحية العملية، لم يحدث أن أدخل مجلس الشعب تعديلاً أساسيًا واحدًا في الموازنة، ولكن الصندوق يمارس كل ذلك ومن موقع تأثير قوي. كذلك أقصد بالمناقشة الجادة للموازنة العامة أن وزارة المالية تتعمد تقديم الموازنة بصيغة يستحيل فهمها، وتستحيل بالتالي مناقشتها بجدية، إن الأرقام متداخلة ومليئة بالتكرار، إلى الحد الذي يصعب معه مجرد تحديد الحجم الإجمالي للإنفاق العام، أو الحجم الإجمالي للإيرادات العامة، وكانت هذه القضية مثارًا لتعليقات وشكاوَى عديدة من الاقتصاديين، والمتخصصين في المالية العامة، وأعضاء مجلس الشعب، ويثبت الآن (وهذا خروج مؤقت عن مذكرة ديكي) من تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إن هذه الجهات سلمت المفتاح السري للغز الموازنة العامة الذي احتكرته وزارة المالية في السابق، والمحظوظون الذين يطلعون على التقارير الخاصة بهذه الهيئات، هم الوحيدون القادرون على فهم الموازنة خارج أكليروس وزارة المالية.
على أيَّة حال، نقول إن مذكرة ديكي ألقت ضوءًا كافيًا على ما آلت إليه العلاقات بين الصندوق وأصحابه، وبين المسئولين المصريين. ولا ينتقص من القيمة التاريخية للمذكرة، قولُ ديكي: إن "هذه الأفكار تمثل فقط وجهات نظري الشخصية، ولا تحمل تفويضًا رسميًّا من صندوق النقد الدولي"؛ إذ أعتقد أن هذه العبارة هي الجملة الدبلوماسية الوحيدة في المذكرة، ويكشف زيفها أن كاتب المذكرة نسي (أثناء السرد) عبارته السابقة (أو لعله قصد هذا)، فسجل في مواضعَ أخرى، ما يشير إلى أنه يعبر مباشرة عن الرأي الرسمي للصندوق، ومثال ذلك ما جاء عند اقتراحه تسريع التوسع في السوق الموازية؛ فقد سجل أن هذا أمر هام جدًا من وجهة نظر الصندوق، وهذه الخطوة ينبغي أن تُتخذ في الحال.. ومع ذلك؛ فإننا لو افترضنا أن ديكي يتحدث باسمه الشخصي، ومع ذلك يقول: "يجب ولا بد"، وإذا كان ديكي
لا يزيد عن كونه مجرد ممثل للصندوق في القاهرة؛ فكيف يكتب ويتحادث – إذًا - مديرُ عمليات الشرق الأوسط،
أو رئيسُ مجلس مديري الصندوق؟

ج ـ المسألة الثالثة في المذكِّرة أنها أكدت حقيقة الاستنتاج بأن شهر أكتوبر شهد تصعيدًا خطيرًا في مواقف القوى الضاغطة الأجنبية، وأنها استهدفت تحقيق السيطرة الكاملة على صنع القرار الاقتصادي، وعلى تسليم الجانب المصري دون قيد أو شرط في كل القضايا الأساسية التي ظلت محل مفاوضة ونزاع:
بدأت المذكرة بأن الأحوال الاقتصادية تدهورت بشدة منذ مشروع خطاب النوايا (أي منذ مايو)، وعلى ذلك طلب ديكي بصراحة تجاوز ما قبلته الحكومة في مشروع الخطاب، وطلب إجراءات جديدة أشد، بحجة أن الحكومة امتصت سياستها لتثبيت الأسعار الارتفاع الطبيعي والمتوقع في الأسعار المحلية؛ نتيجة التوسع في السوق الموازية. والخطورة الأولى من هذا التصرف ـ من وجهة نظر الصندوق ـ الابتعاد عن مفهوم تحرير الأسعار الذي يطالب به، وبالتالي الحد من جدية التوجه نحو خفض سعر الجنيه، ويرتبط بهذا تردد الحكومة في تعديل قانون استثمار بالمال العربي والأجنبي فيما يتعلق بأن تتم تحويلات الأموال وفق هذا القانون (من وإلى مصر) بسعر السوق الموازية.
وعلى ذلك، طلبت المذكرة أو قررت، اتخاذ إجراءات مباشرة وجذرية: فلا بد من خفض فوري لسعر الصرف الرسمي، وقد سمح الصندوق للحكومة بتغطية موقفها شكليًا، ولكن على ألا يعني هذا تخليًا عن المضمون الحقيقي للخفض المستهدف في سعر الصرف، وإذا حاولت الحكومة مثل هذا التحايل؛ سيفرض الخفض الصريح في الحال. "وقد تضمن مشروع خطاب مايو، خطواتٍ معينة نحو هذا الهدف، ولكن المنهج الوارد في مشروع الخطاب ينبغي تطويره"؛ بحيث يصبح أكثر شمولاً وسرعة على النحو الذي حددته المذكرة بالتفصيل اللازم، وحددت موعدًا أقصى للتنفيذ هو أول يناير (أي: خلال شهرين تقريبًا من كتابة المذكرة). ولا بد أن تمتنع الحكومة عن الإجراءات التي تخول دون تأثير هذا الاستيراد بسعر السوق الموازي على الأسعار المحلية، بل ولا يحق لها أن تنقل هذا التأثير على مراحلَ.
قررت المذكرة أيضًا ـ تأكيدًا لمضمون الخفض الشامل لسعر الصرف ـ أن تحسب قروض المشروعات بسعر السوق الموازية، ويعدل قانون الاستثمار (خلال أسابيع) في نفس الاتجاه، "وإذا أثبت أن ذلك صعب، فإن هذا العامل وحده يقودني إلى استنتاج أن خفض (السعر الرسمي) جملة وفورًا أمرٌ حتمي".
سحبت المذكرة موافقة الصندوق السابقة على السوق التجارية، بعد قراره الجديد بالتوسع في السوق الموازية ونقل أغلب التعاملات إلى سعرها (شاملاً التحصيلات والمدفوعات غير المنظورة). ويجب إدخال مرونة متزايدة في سعر الصرف في السوق الموازية، وإنشاء قائمة مفتوحة للسلع التي يمكن استيرادها عن طريقها، ويحسن إدخال السلع الضرورية ضمن نظام الاستيراد المُقترَح.
وبالنسبة للميزانية العامة، رأى الصندوق أن القبول بالحد الأدنى من معونات دعم الأسعار (أي الإبقاء على إعانات الخبز والدقيق فقط) لا يؤدي إلى الاستقطاعات المطلوبة في الإنفاق الحكومي. ومطلوب بالتالي تحرير كامل للأسعار مقابل زيادة في الأجور 15 %، أي زيادة محسوسة يبدو منظرها مغريًا، ولكن لا تكفي طبعًا لمواجهة زيادة الأسعار المترتبة على إلغاء الدعم بشكل كامل، خاصة وتقديرات الصندوق في نفس المذكرة (حتى في وجود الدعم) إن الأسعار ترتفع بمعدل سنوي 20 %.
وعن السياسات النقدية والائتمانية كان القرار زيادة سعر الفائدة 4 % فورًا أو 2 % مع إلغاء الضريبة، ثم يضاف إليها 2 % أخرَى في يونيو 1977.
د ـ والآن ماذا لو رفضت الحكومة تنفيذ كل هذا؟ إن صندوق النقد كأيَّة سلطة لا بد أن يملك صلاحية الإلزام والعقاب، وإلا فقد وضعه كسلطة، وأصبح مطالبًا بتغيير لهجة يجب ولا بد؛ ولذلك كان طبَعيًّا أن تنتهي المذكرة بالتهديد الصريح.
فالمشكلة الرئيْسَةُ التي تواجه الاقتصاد المصري عام 1977، هي تمويل العجز الكبير في ميزان المدفوعات. والمتأخرات في هذا العجز (1976) تتزايد، ويستلزم الموقف قرضًا كبيرًا لإعادة التمويل.
وقد زادت المتاعب هذا العام؛ لأن حجم الدعم المالي من الخارج لم يكن مناسبًا، ويقول الصندوق بصراحة إن من أسباب نقض الدعم فشل الحكومة في تنفيذ تعليمات الصندوق، أي أنه كان عقابًا.
وبالنسبة للفترة المُقبلة (التي دبّر الصندوق وأعوانه أن تكون غاية في الحرج) فإن مهمة الحصول على القرض الكبير المطلوب تسلم فورًا لبيت أمريكي (مثل مورجان ستانلي) أو بنك دولي، ويتم التنسيق بين عملية إعادة التمويل، وبين التوصل إلى اتفاق المساندة مع الصندوق، ويعني هذا بوضوح أن عملية إعادة التمويل، مفتاحُها لدى الصندوق. والبيت الأمريكي أو البنك الأمريكي هو بيت خبرة، يستعين به صندوق النقد الدولي، ليس فقط في الاتصال بالممولين المحتملين، ولكن أيضًا للإشراف المباشر على قضايا الموازنة والدين الخارجي، وقبول مصر لدور هذه المؤسسة الأمريكية شرط الحصول على اتفاق المساندة. ورضاء المؤسسة الأمريكية عنا ورضاء الصندوق يحددان استجابة من يتوقع منهم تقديم معونات عندما يجتمعون في كونسرتيوم في يناير 1977. "ودون هذا المنهج؛ ستُسلمون أنفسكم - عمدًا وبلا شك - إلى الإفلاس عام 1977" (هكذا قالت المذكرة بالنص).
هـ ـ المسألة الأخيرة في المذكرة، أنها لم تكن مجرد كلام في الاقتصاد، فآراء الصندوق في السياسة الداخلية ظهرت في أكثر من موضع. وأهم المواضع ما جاء في الختام من "أن برنامجًا إصلاحيًا بالوصف السابق يتطلب قيادة سياسية قويَّة جدًا، وتنسيقًا يقظًا". وهذا المطلب قُبِل في ظرف يعلم فيه صندوق النقد أن القيادة السياسية مترددة في قبول إجراءات أقل من المقترحة في المذكرة؛ خوفًا من رد الفعل الشعبي، ويعلم أيضًا عن تناقضات بين المسئولين في القطاع الاقتصادي، وعن خلافات حول المقبول والمرفوض من المطالب المقدمة؛ ولذا كان المطلب الأخير ـ في هذا الجو ـ يعني نقدًا مباشرًا للقيادة، وأنها ليست قوية جدًا، وليست في مستوى الموقف، كما أن مطلب التنسيق اليقِظ يعني إقصاء المعارضين.. مُنتهى الوقاحة!
المستثمرون الأجانب (تقرير الشركات العابرة للجنسية):
أـ بعد هذه الوثيقة، نعرض وثيقة أخرى بالغة الأهمية تتعلق بالاستثمارات الأجنبية. ونسبق العرض بخلفية عن تطورات هذا القطاع. أوضحنا في الفصل السابق أن نتائج قانون 43 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة حتى آخر 1975 ـ كانت مثبطة للآمال، ولأقصى حد. ولذلك صرَّح وزير الاقتصاد أننا "يجب ألا نبالغ في الحديث عن الاستثمارات الأجنبية الخاصة، وأنه لا مفر من الاعتماد على أنفسنا، ولن تحل مشكلة الاستثمار إلا على حساب الشعب المصري"، وأضاف عن المناطق الحرة أن "البعض تصور خطأ أن أهم ما في المنطقة الحرة هو إنشاء مشروعات لتخزين البضائع الأجنبية، فاتجه الكثيرون في بورسعيد إلى تأجير الأرض كمخازن للسلع الأجنبية، وهذا سوف يشجع عمليات التهريب، ولكننا نهدف من إنشاء المناطق الحرة إلى إقامة مشروعات صناعية، وليس هدفها تخزين البضائع فقط". وتحدّث وزير المالية في نفس الاتجاه فقال: "إننا منذ 1971 ونحن نعلن عن تشجيع الاستثمار الأجنبي، ولكن الطلب كله على الأرض والعقارات وعمليات مضاربة لا حصر لها" (53).
وإحجام المستثمِرين الأجانب عن أيَّة مشروعات جادة حتى نهاية العام الثالث من الانفتاح، كان الوجه الآخر المكشوف لإفلاس الدعايات التي صاحبت هذه السياسة. فغالبية المواطنين لم تكن تعلم أو تتابع التدخلات الخطرة لصندوق النقد من خلال لعبة الديون، ولكن كان مكشوفًا لكل ذي عينين، انفجارُ الأسعار (من ناحية) وامتناع المشروعات الجديدة التي قيل إن المستثمرين الأجانب سيملئون الأرض بها (من ناحية ثانية)، وفي البداية، قيلت تبريرات للظاهرة الأخيرة غاية في السذاجة، من قبيل أننا لا نحسن التعامل مع المستثمرين، وفنادقنا لا توفر غرفًا خالية وإقامة مريحة، "والأهم من ذلك، أنهم بعد حضورهم لا يعرفون إلى أين يتجهون، ومن يقابلون؟ فلا مكان معلوم يتجه إليه المستثمرون، ولا أجهزة على مستوى عال تستقبلهم، وترشدهم إلى ما يطلبون، وإلى ما هو مطلوب للبلاد". وأغرب ما في هذا الكلام، أنه لم يكن يقال بغرض الضحك على ذقوننا، ولكن كان المسئولون يصدقون فعلاً أن هذا هو سبب إحجام المستثمرين، فتركز البحث ـ كما قال عبد العزيز حجازي ـ على إيجاد "عمارة نوفر فيها لهيئة الاستثمارات كل متطلباتها من أجهزة الاتصالات والجوازات وتراخيص العمل.. إلخ"(54). وتم العثور على العمارة المناسبة، وكلفت مؤسسة فورد بدراسة تأثيث مبنَى جهاز التعاون الاقتصادي العربي والدولي، وأسلوب تسكين الموظفين في الأدوار المختلفة؛ بحيث تعد في كل دور استراحة وغرف يتناقش فيها الموظفون مع المستثمرين منعًا لدخول المكاتب. وتقرر أن يخصص الدور الأول لممثلي الإسكان، والجوازات والجنسية، ومستشار للضرائب، وكل الأجهزة التي يرى أن لها اتصالاً بعمليات المستثمرين تسهيلاً لعملهم، وتقرر أيضًا تخصيصُ بعض الغرف لاجتماعات المستثمرين أنفسهم، ويساعدهم فيها موظفو الآلات الكاتبة، وأيضًا أعدت "تلكسات" للاتصال بالخارج.. إلخ" (55). ولكن مع كل هذه التجهيزات الفنية، والتطويرات الإدارية (التي استكملت في عهد ممدوح سالم) ظل المستثمرون الأجانب محجمين، فألقيت المسئولية في خيبة الآمال العريضة على عاتق البيروقراطية المصرية، وعقليتها "المنغلقة" والبيروقراطية المصرية كانت بريئة من ذنب هذه النتيجة، وسبق أن ذكرنا كيف دفع ممدوح سالم الاتهام عنها في آخر 1975 (الفصل السابق). ولكن ظل الاتهام قائمًا؛ لأنه "كان وسيلة من المستثمرين الأجانب لمحاولة الضغط على جهاز الاستثمار عند المفاوضة حول الشروط الموضوعية"، كما صرح نائب وزير الاقتصاد (56) أي أن الإلحاح على مسألة البيروقراطية، كان مجرد وسيلة للابتزاز، وإرهاب الفنيين المصريين الذين يحرصون على أفضل عائد للاقتصاد الوطني من الاستثمار الأجنبي. وللحقيقة، ظل هؤلاء الفنيون ـ بقيادة زكي شافعي ـ يدافعون عن موقفهم الوطني. وفي سبتمبر كان رئيس هيئة الاستثمار يوضح أن "رفض أي مشروع يتم بِناءً على قواعدَ ثابتة ترتبط بظروف الاقتصاد المصري واحتياجاته؛ لأن فتح الأبواب بغير قواعدَ، هو نظام غير معروف في أي مكان من العالم، وكل دولة تراعي ظروفها، واحتياجاتها الحقيقية، والمشاكل التي تعترضها، وإلا أدت سياسة الاستثمارات دون ضوابط، إلى الإضرار بالاقتصاد القومي"، وحدد عبد المنعم رشدي أسبابًا خمسة لرفض المشروعات:
طلب المشروع لحصة من النقد الأجنبي تلتزم بتوفيرها الدولة، في حين أن إحدى المشكلات الاقتصادية الحرجة التي يعاني منها الاقتصاد المصري هي ندرة النقد الأجنبي والاختلال في ميزان المدفوعات.
أسباب تتعلق بسمعة المستثمر الأجنبي؛ فبعض الشركات صاحبة العروض غير معروفة عالميًا، ومثلاً عندما تتقدم شركة لإقامة مشروع لتجميع الساعات في مصر، وتكون هذه الشركة غير معروفة على الإطلاق، وجب في تلك الحالة على الأقل حماية المستهلك المصري.
كما أنه من غير المعقول الموافقة (حاليًا على الأقل) على إقامة مشروعات تنافس الإنتاج المحلي المتوفر، والقادر على سد احتياجات الاستهلاك المحلي والتصدير للخارج.
عدم جدية الدراسات الاقتصادية التي يقدمها المستثمر حول مشروعه، وانخفاض حجم المشروع، وعدم تقديمه لخبرات تكنولوجية، تعوض النقض في رأس المال، وبالإضافة إلى أن بعض المشروعات المقدمة تستخدم آلات ومعدات قديمة لا تساعد على تطوير ودعم الصناعة المصرية.
ومن أهم الأسباب ما يتعلق بضرورة حماية الصناعة المحلية والمستثمر الوطني؛ ولذلك ترفض المشروعات التي يمكن أن يقوم بإنشائها رأس المال الوطني بكفاءة عالية.
وأشار عبد المنعم رشدي إلى أن سياسة تقييم المشروعات تتطور تبعًا للظروف الاقتصادية، فأوضح أن الهيئة كانت ترفض أيامها المشروعات التي يقل رأسمالها عن 200 ألف جنيه، وكان الحد الأدنى المقبول يرتفع على 500 ألف جنيه تبعًا لطبيعة نشاط المشروع، ويتم التجاوز عن شرط رأس المال إذا قدم المشروع تكنولوجيا متقدمة، أو خبرات فنية تستفيد منها الصناعة المصرية، وهيئة الاستثمار لم تكن تمارس الرفض بمفردها؛ إذ تشترك فيها هيئةُ التصنيع كجهة خبرة فنية، بالإضافة إلى الوزارات التي يدخل في اختصاصها نشاط المشروعات، وقد رفضت مثلاً وزارة الصحة في ذلك الوقت أي مزيد من الاقتحام لقطاع الصناعات الدوائية، ورفضت وزارة الصناعة أي اقتحام القطاع الغزل والنسيج، إلا بشروط حامية للإنتاج الوطني (راجع الهامش للتفاصيل) (57).
إلا أن هذا الموقف كان لا بد أن يتهاوَى تدريجيًا أمام الهجمات المنظمة. انهارت في فترة لاحقة كل الخطوط الدفاعية، فانفتحت كل القطاعات أمام المستثمرين الأجانب بلا ضوابطَ، وقطاعا الصناعات الدوائية، والغزل والنسيج (المذكوران في الفقرة السابقة) نموذجان مُحددان، وفي قطاع الغزل والنسيج بالذات لم تكن العملية مجرد اختراق، ولكن تهديدًا بتصفية الصناعة الوطنية العريقة (مشروع العامرية). ولكن في المرحلة التي نتناولها الآن كان الصمود تضعضعه الضغوط العامة للهيئات الدولية، وكان المستثمرون من ناحيتهم يلتفون حول معارضة هيئة الاستثمار، ووزير الاقتصاد، بالاتصال المباشر بالوزراء "المتفاهمين"، الذين فتحوا مكاتبهم وقلوبهم لمقابلة أي مستثمر أو آفاق؛ بحجة التغلب على الروتين والبيروقراطية، والقرارات السياسية وتدخلات أصحاب النفوذ كانت تضغط وتحسم في بعض الحالات، وأذكر في تلك الفترة، أنني سألت زكي شافعي كيف وافق ـ رغم مفاهيمه المعروفة حول الانفتاح المطلوبـ على مشروعات مثل ومبي، وسفن أب، فأجاب وزير الاقتصاد بصراحة كاملة، وللنشر على لسانه، أنه "لم يوافق على مثل هذه المشروعات، ولا يدري كيف وافق عليها، وأن الانفتاح - في عرفه - لا يعني أن أفتح الباب أمام المشروعات للمطاعم ولصناعة مياه غازية. لقد رفضنا نحو 20 مشروعًا بإنشاء مطاعم. ويُشاع أن شركة البيبسي كولا الأمريكية تطلب أخذ الشركة المصرية، وواقع الحال أننا
لم نتلقَّ طلبًا رسميًّا، وابتداء، فإنني أرفض إعطاء المصنع المصري للشركة الأمريكية" (58).

ب ـ لم تكنْ البيروقراطيَّة المصرية معطلة – إذًا - لمشروعات نافعة. ومع ذلك، فإن المشكلة المطروحة للبحث في أواخر العام الثالث من الانفتاح، لم تكن متمثِّلة في رءوس أموال أجنبية تنهمر، وبيروقراطية تعوق، المشكلة أن رءوس الأموال لم تقرر أن تفِد أصلاً.. وقبل أيَّة إعاقة.
عرضنا نتائج 1975، وأوضحنا أن العدد الإجمالي للمشروعات التي وافقت عليها الهيئة حتى 31 ديسمبر كان 368 مشروعًا يصل رأسمالها إلى 1220.4 مليون جنيه، ونضيفُ هنا أن البيانات عن الموافقات حتى آخر 1976 بلغت 534 مشروعًا رأسمالها 1629.6 مليون جنيه (59) وإذا جاز تأليف سلسلة من هذه الأرقام، تكون الموافقات الجديدة أقل عددًا وقيمة خلال عام 1976 عنها في 1975، فعدد الموافقات الجديدة 166 وإجمالي رأسمالها 409.2 مليون جنيه. ولكننا أشرنا في الفصل السابق، إلى أن معدل الاستثمار الفعلي، هو ما يعوَّل عليه؛ ولذا يمكن أن نسقط مثلاً من موافقات 1975 ـ عددًا من مشروعات المناطق الحرة (يبلغ عددها 28 مشروعًا ورءوس أموالها 701 مليون جنيه) باعتبارها مشروعات لم تتخذ أيَّة إجراءات تنفيذية طوال عامي 75 و1976. وإذا حذفنا هذا القدر؛ يهبط رقم موافقات عام 1975 إلى شيء حول 419 مليون جنيه فقط.
وحتى بالنسبة للمبلغ الأخير، أشرنا في الفصل السابق إلى أن الاستثمار الفعلي كان حوالي 11 مليون جنيه، ومن هذا المبلغ كان الاستثمار الفعلي داخل البلد 5.5 مليون جنيه في 22 مشروعًا. وقد عُدِّلت البياناتُ المُعلنة عام 1976 هذه الأرقام، فالاستثمار الفعلي داخل البلد، قيل إنه 7.9 مليون جنيه (وليس 5.5 مليونًا). والأفضل ـ حاليًا ـ أن نبتعد عن المُقارنات التفصيلية، ونكتفي بالصورة النهائية للمتابعة، والتي تُغطي كل الفترة من بداية تطبيق القانون 43 حتى آخر ديسمبر 1976، ووفقًا لذلك يكون إجمالي الإنفاق الاستثماري داخل البلد 86.9 مليون جنيه (منها 42.9 مليونًا نقد أجنبي) في عدد 149 مشروعًا، يبلغ إجمالي رأسمالها 254.7 مليون جنيه. وضمن هذه المشروعات كان 65 مشروعًا، قد بلغ فعلاً مرحلة الإنتاج، ورأسمالها الإجمالي 35.2 مليون جنيه (منه 25.3 مليون جنيه نقد أجنبي).
أمَّا عن الموافقات بنظام المناطق الحرة الخاصة، فإن عدد المشاريع 66، إجمالي رأسمالها 758.4 مليون جنيه (منه 740.5 مليونًا نقد أجنبي)، وذلك في مناطق القاهرة والإسكندرية والسويس، وأثبتت المتابعة أن البيانات الواردة عن الاتفاق الاستثماري الفعلي، اقتصرت على 30 مشروعًا، رأسمالها 34.8 مليون جنيه، والإنفاق الاستثماري الفعليّ في هذه المشروعات حتى آخر 1976 كان لا يتجاوز 7.3 مليون جنيه، أي: بنسبة أقل من 1 % من إجمالي رأس المال، ولو أن النسبة تتحسن طبعًا إذا استبعدنا مجموعات المشروعات التي لم تثبت أي قدر من الجدية، ولم تبدأ أيَّة خطوة تنفيذية.
وبالنسبة لمشروعات المناطق الحرة العامة، بلغ عدد المشروعات المُوافَق عليها 139 مشروعًا، رأسمالُها الاجتماعي حوالي 167.7 مليون جنيه (منه 153.6 مليون جنيه نقد أجنبي) موزعة ـ بالترتيب التنازلي لرأس المال ـ كالتالي:
المنطقة الحرة بالإسكندرية ـ المنطقة الحرة ببور سعيدـ المنطقة الحرة بالقاهرة ـ المنطقة الحرة بالسويس، وكشفت المتابعة أن 13 مشروعًا استثماريًّا في المنطقة الحرة ببور سعيد، ورأسمالها 11.1 مليون جنيه، بدأت الإنتاج، كذلك كان 81 مشروعًا في نفس المنطقة في مراحلَ مختلفة من التنفيذ (إجمالي رأسمالها 47.8 مليون جنيه) أمَّا في المناطق الحرة العامة الأخرى ـ وخاصة خارج القاهرة ـ فإنها
لم تكن قد بدأت تقريبًا أيَّة خطوة تنفيذية.

وإجمالاً، يكون الإنفاق الاستثماري (داخل البلد وبنظام المناطق الحرة) لا يتجاوز كثيرًا 100 مليون جنيه خلال عامين ونصف العام. وإذا كان هذا الرقم يشير إلى تحسن ملموس في معدلات التنفيذ المالي خلال 1976 (بعد الاتفاقية الثانية لفصل القوات، كما صرَّح زكي شافعي) (60). إلا أن المعدلات تظل واضحة الانخفاض بالنسبة للتوقعات الأولى، وتزداد قتامة الصورة إذا تابعنا التوزيع القطاعي للمشروعات، وإذا لاحظنا أيضًا متوسط الحجم للمشروع. فبالنسبة لمشروعات (داخل البلاد) التي وردت بيانات الإنفاق الاستثماري بها، نجد أن رأس المال الموجه لمشروعات الإسكان (الفاخر طبعًا) أو رأس المال الموجه لمشروعات السياحة، أكبر من إجمالي رأس مال المشروعات الصناعية. ونسبة رأس المال الموجه إلى الإسكان والسياحة والمقاولات والنقل والثروة الحيوانية (أي أن القطاعات التي لا تمثل بطبيعتها مهارات تكنولوجية رفيعة (كانت 71 % من الإجمالي، ومشروعات المناطق الحرة الخاصة لم تكن صورتها تختلف، فمن بين المشروعات تحت التنفيذ كانت مشروعات التخزين والخدمات 66.6 % والباقي للصناعة.
وكذلك يلاحظ أن متوسط رأسمال المشروع الصناعي داخل البلد كان 0.8 مليون جنيه (وهو يقل عن متوسط رأس مال المشروع الواحد في قطاع الخدمات). وفي مشروعات المناطق الحرة الخاصة، كان متوسط المشروع الصناعي حوالي 1.5 مليون جنيه، ويعكس هذا أن الاستثمار الأجنبي لم يتوجه على مشروعات صناعية أساسية.
ج ـ والآن.. ما هو السبب في هذه الخيبة؟ هيئة الاستثمار شرحت رأيها في المعوقات فقالت إنها:
صعوبة الحصول على الأراضي اللازمة لإقامة المشروعات.
غياب المرافق العامة أو صعوبة مدِّها إلى مناطق المشروعات الجديدة، وعدم ملاءمة المرافق العامة القائمة في بعض الأحيان لطبيعة بعض الصناعات، وقصور خدمات الاتصالات التليفونية والتلكس.
عدم توافر العمالة الفنية أحيانًا، أو عدم التحديد الكامل لشروط الاتفاق مع المستثمرين، الأمر الذي تترتب عليه مشاكلُ عند بدء التنفيذ الفعلي.
ارتفاع تكاليف إقامة المشروعات، وتكاليف الإنتاج؛ نظرًا لتغير بعض بنود التكاليف التقديرية للمشروعات.
سرعة التطور التكنولوجي، قد تستلزم إعادة الدراسة للمشروع وتأخير التنفيذ.
عدم توفر البيانات الكافية اللازمة لبعض المشروعات عن السوق المحلي أو الأسواق المجاورة، مما يصعب إعادة الدراسات والتنبؤات، وقد يتعذَّر الوصولُ إلى نتائجَ يُعتمد عليها.
هذه هي المعوقات التي تقول هيئة الاستثمار إن إدراكها، ودراسة أفضل الوسائل لتذليلها، أو التغلب على ما يمكن حله منها، يمثل دفعة طيِّبة لتنفيذ المشروعات القائمة، أو التوسع فيها، وتسهيل إقامة المشروعات الجديدة وجلب المزيد منها".
وهذه المعوقات صحيحة، وهي عقبات بوجه أي برنامج للنمو الاقتصادي، وليست في وجه المستثمرين الأجانب وحدهم، ولكن تضخيم وزن هذه المعوقات، هو الأمر غير الصحيح، إن البنود من (1) إلى (3) في مجموعة المعوِّقات المذكورة تقع – في قسم كبير منها - داخل مسئولية الحكومة المصرية، ولكنْ هل تمثِّل هذه المعوِّقات اعتبارًا مفاجئًا للمستثمرين الأجانب، ومانعًا لا يمكنهم اجتيازُه؟ وكيف تنهض الحكومة بنصيبها من المسئولية في حل هذه المشاكل؟! لقد تساءل اقتصاديّ مصريّ: "كيف أمكن إعادة بناء العواصم الأوروبية المُهدَمة بعد الحرب الكبرَى، وكيف تحولت لندن وبرلين وروما وغيرها إلى عواصمَ مزدهرة؟ ومع ذلك فلا مرافقُنا - والحمد لله - ولا مدننا الكبرى تعرضت لآثار الحروب الثلاثة التي خاضتها مصر خلال ربع قرن، اللهم إلا موانئ منطقة السويس التي تكفَّلنا وحدنا، وبمساعدة بعض أصدقائنا القادة العرب - بإعادتها كما كانت، بل إلى أفضلَ مما كانت. ومع ذلك، فإننا لا نفتأ نلوم أنفسنا، ويتملكنا الشعورُ بالذنب، ونعِد بإصلاح هذه المرافق بأسرع وقت (....) كيف لنا بإعداد ذلك كله، وهو يتطلب من الموارد المالية الوفيرة، ومن الوقت الطويل ما لا تستطيع أجهزة الدولة أن تنهضَ به. وفيم كانت – إذًا - فلسفةُ الانفتاح الاقتصادي؟ أليست هي دعوة إلى الممولين العرب، ثم إلى سائر المستثمرين الأجانب - أن يُقبلوا إلينا؛ لنبدأ معًا في إنشاء نهضة اقتصادية واسعة؟ (....) إن المرافق اللازمة للمشروعات نوعان: الأول يختص بالمشروع مباشرة؛ كإيواء العاملين ورعايتهم الصحية، وتدريبهم، وهذه يتحملها المشروع الكبير عادة، والمستثمرون في بلادهم يعرفون هذه الحقيقة. أما النوع الثاني، فهي شبكة الاتصال الخارجي؛ كالتليفونات وأجهزة التلكس وغيرها. وهي مرافق عامة تنهض بها الدولة عادة. وتدبر الأموال اللازمة لها من قروض تُطرح للاكتتاب العام في شكل سندات على الدولة، ويكتتب فيها إما أصحاب المشروعات، أو سائر الممولين (....) وإننا لا يجب أن نستمع إلى هذا النقد الجائر من المستثمرين على استحياء، كأننا المسئولون - وحدنا - عمَّا آلَت إليه حالتنا الاقتصادية" (حسن زكي أحمد) (61).
هذا عن البنود من (1) إلى (3) فهي ليست مانعًا، ويتصور أنه بالإمكان حلها بإجراءات مشتركة، وهي لا تقدم بالتالي تفسيرًا كافيًا لخيبة الأمل. أما البندان (4)، (5) فإنهما يمثلان مسئولية المستثمر، أي مستثمر: خاص أو عام، في بلده أو خارج بلده، أي أن هذا النوع من العوائق لا يفسر بطء معدل الاستثمار الأجنبي في مصر بالذات. وأعتقد أن هذا ينطبق أيضًا على البند الأخير رقم 6 ـ وباختصار، فإنني أود ألا أصدق أن المسئولين عن هيئة الاستثمار يتصورون فعلاً أن المعوقات التي ذكروها هي الصعوبات الأساسية، وقد يكون الغرض من ذكرها مجرد محاولة من جانبهم لدفع الاتهام الذائع بأن بيروقراطي الهيئة هم العائق الأساسي. وقد شاركنا من ناحيتنا في دفع هذا الاتهام عنهم. ولكننا نؤكد ـ في نفس الوقت ـ أن الأسباب الحقيقية لأحكام المستثمرين الأجانب لا تكمن أبدًا في العرض السابق، ودليلُنا في ذك هو رأي هؤلاء المستثمرين أنفسهم. وينقلنا ذلك إلى تناول الوثيقة الهامة في هذا الموضوع.
د ـ كانت قضية أحجام المستثمرين الأجانب، والأمريكيين بشكل خاص، قد نُوقشت في اجتماع مجلس رجال الأعمال المصريين والأمريكيين (أكتوبر 1975) (62)، وتقرر أن يشكل الجانب الأمريكي لجنة عمل تدرس المشاكل التي تعترض الاستثمار في مصر من وجهة نظر رجال الأعمال الأمريكيين، وبالفعل قامت اللجنة باتصالات مباشرة مع أكثر من 50 شركة أمريكية من الشركات ذات النشاط الحالي في مصر، أو من الشركات ذات النشاط المحتَمل.
واتصلت أيضًا بعدد محدود من الشركات في كندا وألمانيا الغربية والمملكة المتحدة، وكانت ملاحظات الأخيرين، كما سجلت اللجنة في تقريرها، متشابهة إلى حد كبير مع ملاحظات الأمريكيين.
وهذا التقرير صريح جدًا، وحين قدم في أكتوبر 1976، كان مظاهرة ضغط إضافية، في شهر المواجهة بهدف الحسم، وكان إثباتًا إضافيًّا على أن المستثمرين الأجانب يتحركون في إطار الاستراتيجية السياسية لدول الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وأنهم متحالفون تمامًا مع جهود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذا الكلام حين نستنتجُه من الأحداث (العالمية والمحلية) يختلف معنا البعضُ، ويتصور أن تحليلاتنا واستنتاجاتنا مُتحيَّزة. لقد ذكرنا أن البعض يتصور أحيانًا الشركات العابرة الجنسية العملاقة حسب خبرته بصاحب مخبز أو صاحب ورشة أحذية، مع أن المسألة تختلف تمامًا تمامًا؛ فهذه الشركات لها استراتيجيات على مستوى عالمي، ولا تحركها مجرد حوافز الربح السريع والعاجل، مثل هذه الحوافز قائمة وفعالة، ولكن بعد توفر شروط أخرى أهم. وكل هذا سنسمعه الآن من أصحاب الشأن، سنعرضه كما كتبوه بخط أيديهم.
ويمكن أن نبدأ عرضنا لتقرير المستثمرين الأمريكيين، بما سمي في التقرير: "نظرة أجنبيَّة إلى الاقتصاد المصري" (63)، هذه النظرة تعكس "كيف يمكن أن يرى اقتصادي في شركة أمريكية متعددة الجنسية ذلك الاقتصاد، وهذه النظرة العامة تُستخدم عمومًا في المرحلة المبدئية، التي يتقرر فيها ما إذا كانت (الشركة) تستثمر - أو لا - في بلد ما. إنها نظرة
لا تتوجه إلى مشاكلَ معينة، أو بياناتٍ عن الصناعة
أو الشركة أو تفاصيل المشروع؛ فكل هذه الأشياء ينبغي تقييمها أثناء مراحلَ تالية من عملية صنع القرار".

وتقول هذه النظرة بالنسبة لمصر إنه "بينما الإمكانيات الطويلة الأجل طيبة؛ فإن الاستحواذ عليها يتوقف بشكل حاسم على أربعة عواملَ أساسية:
- استقرار سياسي متواصل داخل مصر.
- سلام في الشرق الأوسط.
وبتحديد أكثر غياب الحرب بين مصر وخصومها المحتمَلين (مثل إسرائيل وعلاقات طيبة مستمرة مع دول الخليج، التي أصبحت مصر معتمدةً عليها بدرجة حيوية؛ من أجل مساعدات مالية بشروط ميسَّرة.
تغييرات أساسية في السياسات الاقتصادية، وتحسينات ملحوظة في الهياكل الارتكازية والمؤسسات الاقتصادية.
تدفُّق كبير لرأس مال خارجي".
وتؤكد هذه النظرة الاقتصادية العامة للشركة المتعددة الجنسية، أن المعوقات التي تصورتها هيئة الاستثمار مسألة ثانوية. قد يفيد أن نلقي مزيدًا من الضوء على النقطة الأولى الخاصة بالاستقرار السياسي، فالتقرير يسجل في موضع آخر أن من الأمور التي تُثير اهتمامًا مباشرًا ومنتشرًا في دوائر المستثمرين الأجانب المُحتملين مسألة "التوجَّه الغربي المستمر للحكومة المصرية، ومستقبل الرئيس أنور السادات، فهم يشعرون أن الرئيس السادات كان مسئولاً شخصيًّا عن توجه مصر نحو الغرب، وأنه يحصل على دعم لهذه السياسة من المستويات العُليا للحكومة المصرية. وتحت هذا المستوى، فإن التعاطف مع الأهداف الجديدة أقل جدًا رغم علامات تفهم جديدٍ من بعض قيادات الجهاز الإداري".
ويضيف التقرير أن كثيرًا من المستثمرين يشكون في احتمال التخلص سريعًا من المفاهيم والمؤسسات التي سادت خلال العشرين عامًا الماضية، ويشكون في أن يتمكَّن الرئيس السادات من حل المشاكل الحادة المباشرة، وهم "يهتمون بما إذا كان ممكنًا أن تواصل مصر توجهها الغربي، في حالة إذا لم يكن (السادات) قادرًا على ذلك، وهم يتساءلون أيضًا عما إذا كان باستطاعة مصر أن تواصل توجهها الغربي في حالة ترك الرئيس لمنصبه" (64).
ولإيضاح هذا الكلام؛ فإن المقصود بضمان الاستقرار السياسي هو أن تتحول السياسات القائمة "المرحِّب بها" من اختيارات شخصية للرئيس ومعاونيه المقربين، إلى مؤسسات راسخة لها قدرة ذاتية على الاستمرار، وإفراز وفرض نفس النوع من السياسات، في حالة أي تغيُّر في أشخاص القيادات الحاكمة أو ميولها، وهذه المؤسسات تتطلب تغييرًا شاملاً في الأوضاع الموروثة من مرحلة الاستقلال الاقتصادي
(أو الانغلاق)، وهي بالضرورة مؤسسات (شبكة من العلاقات) اجتماعية مناسبة، ومؤسسات سياسية تتعدد وتتنافس من خلالها مراكزُ إصدار القرارات، وهذه خلفيَّة أحاديث الرئيس الدائمة عن دولة المؤسسات. ويُباع هذا الحديث عن دولة المؤسسات ـ عادة ـ باعتباره ديمقراطية، ولكن لا ينبغي أن نخلط بين هدف القوَى الخارجية في تحويل الدولة المركزية القويَّة (التي أقامها محمد علي
وعبد الناصر) إلى مؤسسات ضعيفة متناثرة، وبين مفهوم الديمقراطية الممارسة في الغرب، والتي تطورت مع تكامل التنمية المتمركزة حول ذاتها. تعدد مراكز السلطة في مثل بلادنا آلية دائمة؛ لضمان السيطرة الخارجية من خلال "فرِّقْ تسُدْ"، وفي التاريخ المصري الحديث، كان هذا مطلبًا دائمًا أيام الخديو إسماعيل (راجع الفصل الأول). وبعد دستور 1923، كان هناك القصر، وعدد من الأحزاب "المعتدلة"، والصحف، والأزهر، وأجهزة الأمن المحلية، والمؤسسات الاقتصادية "الحرة".. إلخ، وكان المندوب السامي يلعب بالكل؛ لضمان الولاء وتعظيم السيطرة، دون التجاء ـ بقدر الإمكان ـ إلى الاستخدام المباشر للقوات العسكرية للاحتلال.

مطلب المستثمرين الأجانب إذن: إعادة صياغة الجهاز السياسي والتنفيذي، على نحو يحقق "الاستقرار السياسي" في التبعيَّة.
و... نعود بعد هذا التوضيح والاستطراد، إلى "نظرة أجنبية للاقتصاد المصري"، فبعد العوامل الأربعة المذكورة، ينتقل اقتصادي الشركة المتعددة الجنسية إلى اختلالات الاقتصاد المصري، ويشير إلى فجوة النقد الأجنبي وفجوة المدخرات المحلية، ويقول إنها عوارضُ للآتي:
اختلال هيكلي خطير.
سوء تخصيص للموارد، وقد نشأ الأخير - إلى حد بعيد - من الأسعار المحكومة إداريًّا، ولا تعكس على نحو صحيح عامل الندرة. والمثل الأساسي في ذلك هو سعر الصرف المحدد بأعلى من قيمته، ويسهم بالتالي في إساءة تخصيص موارد النقد الأجنبي، والمثل الآخر هيكل سعر الفائدة الذي
لا يعكس انخفاضُه الشديد التكلفةَ الحقيقية لرأس المال، ولا يشجع مستوى كافيًا من المدخرات الخاصة.

ينتقل اقتصادي الشركة المتعددة الجنسية بعد هذا إلى فجوة النقد الأجنبيّ التي ساءت بحِدة منذ 1974، ثم اختلال الميزانية وفجوة المدخرات. ويقول إن السبب هو زيادة الإنفاق العسكري وتزايد اعتمادات دعم الأسعار، كما أنه يرجع من ناحية أخرى إلى انخفاض الكفاءة والأرباح في المشروعات الصناعية العامة؛ بسبب تركيبة قوانين العمل وضوابط الأسعار، والإدارة المركزية الشديدة للاقتصاد، التي تحرم المديرين من المرونة اللازمة لاتخاذ القرارات.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس