عرض مشاركة واحدة
قديم 06-07-2011, 02:35 PM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

ويتطلب تقليصُ هذه الفجوات:
بالنسبة للنقد الأجنبي: التوسُّع في السوق الموازية على النحو الوارد في توصيات صندوق النقد والبنك الدولي ـ كل التدفقات إلى الداخل أو إلى الخارج، المتعلقة بالاستثمار الأجنبي الخاص، ينبغي أن تتم بسعر السوق الموازية.
معدلات الفائدة المحلية والادخار الخاص: مطلوب زيادة معدلات الفائدة عن الزيادة التي قررت حديثًا، كذلك يمكن زيادة المدخرات المحلية إذا اتخذت إجراءات لإعادة فتح وتوسيع سوق الأوراق المالية.
ميزانية الحكومة والمدخرات العامة: مطلوبٌ زيادة الإيرادات، والنقص الأخير في الدخل الضريبي يرجع إلى حد كبير إلى المتأخرات في التحصيل، وإلى التهرُّب. "ونحن نعلم أن المتأخرات قد انخفضت، ولكن لم يُقضَ عليها بعدُ". وبالنسبة للإنفاق، فإننا لا نتوقع خفض الحجم المطلق للإنفاق العسكري، ولكن نأمل أن يسمح التحسن في الجو السياسي؛ بخفض في معدل نموه، أما الاتفاق على دعم الأسعار فيمكن خفضه. تمت خطوات، ولكن مطلوب بوضوح إجراءات إضافية، لا بد أيضًا من زيادة مدخرات القطاع العام. نحن نعلم أن المؤسسات العامة أُلغِيت ولكن مطلوب تحقيق مزيد من اللامركزية تمنح مديري الشركات حرية الحركة فيما يتعلق بالأسعار والعمالة، ومطلوب زيادة الإنتاجية من خلال الحوافز.
وبالنسبة للزراعة لا بد من إعطائها الأولوية؛ بهدف زيادة الإنتاج الزراعي، ولا ينبغي التركيز على التوسع الأفقي، ولكن على التوسع الرأسي، ويستلزم هذا حل عديد من المشاكل (ارتفاع منسوب المياه الجوفية وما يصاحبها من ملوحة ـ فقدان الطمي ـ نقص الحوافز السعرية وخاصة لمنتجي القطن ـ إدارة غير مناسبة للتربة ومياه الري ـ ائتمان غير كافٍ للمزارعين ـ وقد يكون مطلوب أيضًا زيادة استخدام الأسمدة وتحسين نوعية المدخلات وتحسين الخدمات والتسويق.
التحكم في السكان: الضغوط السكانية تعوق التنمية، الجهود السابقة لم تكن كافية، ولا بد من تكثيف الجهود.
طبعًا (النظر العامة لاقتصادي الشركة المتعددة الجنسية)، عالجت القضايا السابقة بالتفضيل، (وقد أغفلت التفاصيل، ولكن أصررتُ على تسجيل النقاط الأساسية كلها؛ حتى يتضح مفهوم الشركة المتعددة الجنسية) في التطبيق، وحتى ندرك أنهم يشترطون تنفيذ كل توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفقط بعد أن يتأكدوا (عبر تقارير وزارات الخارجية وتقارير الهيئات الدولية) أننا نفذنا.. فقط بعدها يمكن أن يفكروا في القدوم.
على أيَّة حال، كانت الفِقرة الأخيرة من التقرير، تحفِزُ السلطاتِ المصرية على الاستمرار في طريقها؛ فهي تسجل "أن السلطات المصرية اتخذت - حديثًا - عددًا من الإجراءات للتخفيف من المشاكل الاقتصادية، وهذه ـ بوضوح ـ خطوات في الاتجاه الصحيح، ولكن بعض الإجراءات مقصور بشكل ملحوظ، في المدى وفي التوقيت، عن تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي تبدو ضروريَّة".
العرض السابق، حدد نوع العلاقات الدولية المطلوب استمرارها بالنسبة لمصر، وحدد سياسة مصر في الشرق الأوسط، ومع أي أطراف عربية تتحالف، واشترط ضماناتٍ معينة في السياسة الداخلية.. ثم تناول السياسة الاقتصادية العامة، وأعلن وقوف المستثمرين بحزم إلى جانب كل تبليغات الهيئات الدولية. بقيت النقطة الخاصة بالمستثمرين مباشرة؛ وهي قانون رقم 43، وهي نقطة (عند الشركات العابرة للجنسيَّة) تلي ما تقدم من حيث ترتيب الأولوية؛ فبعد القرار الأولي بالاستثمار في بلد ما، يبدأ البحث فيما إذا كانت قوانين الاستثمار مناسبة أم لا، وهذه النقطة كانت الموضوع الأساسي للتشريح الدقيق في التقرير محل العرض، وتمت المعالجة طبعًا بما يتلاءم ويثري الإطار العام السابق. يطالب التقرير بالتالي:
لا بد من حسم كل المنازعات القائمة حول التأميمات السابقة بأقصى سرعة.
قائمة المقاطعة للشركات المتعاملة مع إسرائيل: مطلوب توضيح موقف الحكومة المصرية وإعلان المستثمرين المحتملين به. وإذا استمرت القائمة؛ فإن السلطات الحكومية ينبغي أن تدرس موقف كل شركة على حِدة، "ونحن نعتقد أن هناك بعض الشركات الأمريكية، تعتبر قائمة المقاطعة بالنسبة لها، العاملَ الأساسي خلف عدم استثمارها في مصر".
سعر النقد الأجنبي: تتفق لجنة العمل مع توصيات صندوق النقد في هذا الشأن، وتدعم موقفه، من زاوية أن تخفيض السعر الرسمي للجنيه أساسي جدًا لتشجيع الاستثمار الأجنبي؛ ولذا يوصي التقرير بتعويم الجنيه "ونحن ندرك أن التعويم يسبب مشاكلَ عديدة لمصر، ولكنه قد يكون الإجراء الأهم من بين كل ما يمكن أن تتخذه الحكومةُ لاجتذاب الاستثمار الأجنبي" (65).
وإذا قررت الحكومة غير ذلك، فإنه يجب تعديل قانون 43 بحيث ينص على توحيد سعر دخول، وخروج رأس المال، وكذلك السعر الذي يتم تحويل الأرباح. مع ملاحظة أن هذا التوحيد إذا تم عند السعر الرسمي لن يحل مشكلة المستثمر الأجنبي، الذي يرَى أن تحويلاته قد حُسِبت بأقل من قيمتها الحقيقية، وقد ثبت أن السعر الرسمي لم يجذب المستثمرين فعلاً، خاصة وهم يتوقعون - بعد فترة - خفض هذا السعر الرسمي؛ ولذا ينبغي أن يكون السعرُ الموحَّد عند مستوى السوق الموازية، أو السوق التجارية إذا أُنشِئَت.
لم يقتنع كثيرٌ من المستثمرين بتعليق لأحد المسئولين في الإدارة الأمريكية قال فيه: "إن معظم الشركات في الولايات المتحدة، تطالب الحكومة المصرية بالالتزام بتوفير كميات معينة من النقد الأجنبي الذي تحتاجه لاستيراد المواد الخام وقطع الغيار، وأيضًا لتحويل الأرباح، ولا يبدد أن الكثيرين يُدركون تمامًا المشاكل الاقتصادية القاسية في هذا البلد، واعتماده الكامل على المساعدة الخارجية، التي لا تُقَدَّم وفق التزام طويل الأجل".
(ويبدو لبعض حَسَني النية، أن موقف الشركات غريب، وأن عدم استعدادها لتفهم وضع الحكومة المصرية أمر شاذ؛ فقد تصور البعض أن الاستثمار الأجنبي يمثل إضافة لرصيدنا من النقد الأجنبي، لا أن يلزمنا بتوفير احتياجاته من النقد الأجنبي).
على أيَّة حال ـ يوصي التقرير بتعويم الجنيه؛ باعتباره الحل الأمثل، وفي هذه الحالة يتنافس المستثمرون على شراء كمية النقد الأجنبي المحدودة. ويصبح المستثمر هو صاحب القرار، فيما إذا كان يستطيع شراء النقد بالسعر الجاري والمحتمل أو لا.
والحل البديل لذلك، أن ترصدَ الحكومةُ كمية معينة من النقد الأجنبي للاستخدام في قطاعات معينة، يمكن أن تقوم بها مشروعات مشتركة، أو استثمارات أجنبية أخرَى، وقد تعاني بعض شركات القطاع العام بسبب هذا الإجراء (كما يعترف التقرير).
ويوصي التقرير أيضًا في هذا المجال بإقامة صندوق يضمن توفير النقد الأجنبي اللازم لاستيراد أي سِلَع تحتاجها العملية التمويلية، ويمكن للصندوق أن يسحب على النقد الأجنبي الذي توفره الحكومة المصرية أو قروض الولايات المتحدة والهيئات الدولية (وهي قروض تسددها في النهاية الحكومة المصرية بالنقد الأجنبي!)، فإذا كان المستثمر عاجزًا عن الحصول على النقد الأجنبي اللازم لشراء المواد الخام، أو تصدير أرباحه، أو سداد التزامات قروضه الخارجية، أو إذا كانت الحكومةُ المصرية غيرَ قادرة مؤقَّتًا على تزويد المستثمر باحتياجاته من النقد الأجنبي؛ فإن الصندوق يمكن أن يقوم بهذه المهمة.
ويوصي التقرير بالإضافة على ذلك بفتح الباب أمام المُستثمرين لإعادة استثمار أرباحهم كلها لو أرادوا،
بلا عقبات.

الإحلال محلّ الواردات: القانون 43 ولائحته التنفيذية، يركزان على صناعات التصدير، ويتطلبان من أي مشروع استثمار أجنبي ـ باستثناء الصناعات الأساسية ـ أن يغطي نفقاته الجارية من النقد الأجنبي، وهذا يعني استبعاد الصناعات التي لا تصدَّر. ولكن بالنسبة لمعظم الشركات، يبدو أن الحافز الأكبر للاستثمار في مصر هو السوق المحتمل لمصر نفسها. فهي تعرض سوقًا كبيرًا لمستهلكين أصحاب احتياجاتٍ مُركبة إلى حد ما. وهناك عديد من أنماط المنتجات الناقصة، وبعض صناعات القطاع العام مستهلكة ومنخفضة الكفاءة، وبالتالي يمكن منافستها، والقطاع الخاص غير متطور. كل هذه العوامل معًا، تمثل حافزًا هامًا لكثير من أنواع الاستثمار في مصر.
ومن ناحية أخرى، فإن الآفاق أمام المُصدِّرين ليست مشرقة تمامًا؛ إذ إن مصر ينقصها رأس المال والمعدات الرأسمالية (!) والمواد الخام، وسُمعَتُها سيئةٌ في الصادرات الصناعية؛ ولذا قال أحد المستثمرين المحتملين: إنه لا يمكن أن يخاطر بسمعة شركته وأسواقه في البلاد الأخرى، بتصدير بضائعَ مصنوعةٍ في مصرَ تحمل اسمه (66).. وبالتالي فإن إحلال الواردات يمكن أن يكون الحل.
ويوصي التقرير بأن تضع الحكومة خطة للتنمية الاقتصادية، تشمل مجموعة من السياسات والأهداف للقطاع الخاص "ونحن نعتقد أنه يكون مفيدًا للحكومة، أن تبحث عن مساعدة خارجية لتطوير خطتها".
ويوصِي أيضًا "بإنشاء مجموعة استشارية صغيرة، تساعد في تطوير وتنفيذ الخطوط الاقتصادية، والأولويات التي تنطبق على الاستثمار في القطاع الخاص في مصر، وينبغي أن تساعد المجموعة في ترجمة الأهداف الاقتصادية إلى برامجَ عملية لحفز الاستثمار الأجنبي، وينبغي أن تقدم النصح حول عملية الاستثمار، وينبغي أن تشتمل على أُناس أصحاب خلفية اقتصادية وخبرة أعمال، وقد تتألف من 3
أو 4 مصريين (اثنان على الأقل من القطاع الخاص) وعدد مماثل من الخارج، يشمل واحدًا أو اثنين من رجال المال
أو الأعمال الأمريكيين. ويجب أن ترفع المجموعة تقاريرها إلى أعلى مستوى مناسب ـ قد يكون مكتبُ رئيس مجلس الوزراء (67).

تعديل قانون 43 ـ حيث لا يعكس منهج غربلة واختيار المشروعات في نطاق المجالات المسموح بها، أو في إطار الخطة أو السياسة العامة. إن التقرير يوصي بأن "يسمح بالاستثمارات أوتوماتيكيًّا في أي مجال من مجالات الاقتصاد المصري، باستثناءات محددة لقطاعات؛ مثل الدفاع والمرافق العامة التي تمثل حقيقة ظروفًا خاصة. في كل المجالات الأخرى، يُرجح أن يكون الاستثمار الأجنبي حافزًا للعمالة, ومُدخلاً للخبرة التكنولوجية الأجنبية، وتكنيك الإدارة، ومؤديًّا إلى آثار مفيدة بالنسبة للاقتصاد المصري. وهذا المنهج (المقترح) سينهي عدم اليقين والارتباك الذين يواجههما كثير من المستثمرين المُحتملين إذا حاولوا أن يحددوا أي أنواع الاستثمار، سيوافَق عليها من هيئة الاستثمار، وسينهي التأخير الكبير الذي يواجهه المستثمرون؛ كنتيجة لمراجعة الهيئة لتفاصيل مقترحات الاستثمار"(68).
يرتبط بهذا طبعًا مُراجعة شاملة لوظائف وتنظيم وأعضاء هيئة الاستثمار؛ سواء لإحداث تغيُّيرات رئيسَة، أو لإنشاء منظمات جديدة تحل محلها.. وبشكل عام، فإن البيروقراطية المصرية عبءٌ ثقيل. وقد وصفها مسئول في الإدارة الأمريكية بهذه الطريقة "إذا طلب أن أصف حالة مصر في كلمة واحدة، فإن الكلمة ينبغي أن تكون انفصام الشخصية (شيزوفرانيا). فالرئيس السادات وبعض مَن في حكومته، يحاولون تحويل الاتجاه من الاشتراكية إلى نوع من الاقتصاد الحر، بينما البيروقراطية المُتحصنة في خنادقها، تحاول الإبقاء على الوضع الراهن" (69).
بعد كل هذا، جاءت التوصية بتوسيع وتطوير الهياكل الارتكازية التي يتصور البعض عندنا أنها المشكلة الأساسية (70).
إن الحكومة المصرية، لا تفهم تمامًا أن رجال الأعمال الأجنبي يتوقع في العادة عائدًا سنويًا يتراوح بين 10 و20 % سنويًا على استثماره داخل بلده، وإذا تحمَّل مشاق ومخاطر الاستثمار في مكان آخر، فإنه يتوقع بلا شك عائدًا أعلى، فإذا أخذنا في الاعتبار معوقات الاستثمار التي لا بد أن يتغلب عليها المستثمر المحتمل في مصر، وكذلك معدل العائد الذي يمكن أن يحصل عليه في مكان آخر، فإن مصر لا بد وأن تقدم مستوى من الربح يعتبره المستثمر مناسبًا، وإلا فإنه لن يستثمر (71).
صناعات القطاع العام: الشركات الأجنبية تنظر إلى القطاع العام باعتباره منافسًا، أو باعتباره شريكًا محتملاً ـ وبالنسبة لاعتباره منافسًا، فإن المستثمر الأجنبي يخشى أن تقدم الحكومة للقطاع العام مزايا لا يتمتع هو بها، وقد صرَّح أحدُهم لمجموعة العمل صاحبة التقرير، أن المزايا والحوافز التي تقدم إلى شركات القطاع العام، تعطيه ميزة ظالمة، تحرم منها شركات القطاع الخاص، إن هذا الجو من "الصناعات التي تديرها الدولة وتسعى إلى العمل جنبًا إلى جنب مع المشروعات الخاصة، هو أمر لا يرغب معظم رجال الأعمال الأمريكيين في مُسايرته" (72).
وبالنسبة لاعتبار القطاع العام شريكًا محتملاً، يقول التقرير إن أحد رجال الإدارة الأمريكيين (وله خبرة كبيرة بمصر) أعلن أنه مقتنع اقتناعًا جازمًا بأن صناعات القطاع العام ككل، قد تفضِّل إبعاد الاستثمار الأجنبي الخاص عن مصر، وهي تستخدم نفوذها لهذا الغرض، وفي رأيه أن مخاوفهم الرئيسَة تشمل أن المشروعات المشتركة، قد تكشف انخفاض الكفاءة في صناعات الدولة، وقد تنافسها حول المواد الخام النادرة والنقد الأجنبي، وقد تستنزف بعضًا من إداراتها العُليا.
ويشير التقرير من الناحية الأخرى ـ إلى أن كثيرين من المستثمرين المحتملين لا يفضلون أيضًا مشاركة القطاع العام، وكما صرح أحدهم، فإنه "يبدو أن هناك محاولة لتشجيعنا على الاشتراك في مشروعات مشتركة مع القطاع العام، حتى رغم علمهم - على ما يبدو - بأن القطاع العام له مشاكل مزمنة. إن القطاع العام هائل في حجمه، وله مشاكلُ رئيسَة بإعداد العمالة الزائدة، وبانعدام الأهلية في الإدارة، وانعدام الكفاءة بشكل عام، نحن لم نشهد أي دليل على توفر فنّ إدارة جيد بينهم، ونحن نعتبر أيَّة محاولة للعمل معهم مسألة لا يُرجَى منها أي خير" (73).
ولكن المستثمرين المحتملين يطلبون مع ذلك مشاركة الآخرين للحصول على تمويل لمشروعاتهم؛ ولذا يوصي التقرير بإنشاء مكتب موحد، يقدم المعلومات للمستثمرين عن مصادر رأس المال، وعن شروط الحصول عليها. والمكتب المقترح متفرع من وكالة تشجيع الاستثمار (التي يقترحها التقرير لتحل محل هيئة الاستثمار)، ولكن ينبغي أن يستخدم هذا المكتب المؤسساتِ الخاصة في مهمته، وينبغي أن يساعد على ترتيب استثمارات ثلاثية الأطراف (أي باشتراك العرب مع الأجانب والمصريين)، والجانب الأمريكي مستعد للمساعدة في إنشاء هذا المكتب.
وأيضًا لا بد من توسيع مشاركة القطاع الخاص، ولا بد أن تساعد الحكومة هذا الاتجاه، بتنمية المدخرات الفردية، وقد يتطلب هذا تعديل القوانين الضريبية، وقد يتطلب أيضًا استعانة الحكومة المصرية ببعض الاقتصاديين الأجانب، وكذلك لا بد من تشجيع بورصة الأوراق المالية.
تعديل القوانين: فلا يكفي تعديل قانون 43؛ إذ إن هناك قوانين أخرى، على رأسها قانون العمل (رغم أن قانون الاستثمار قلل من عبئِه على شركات الاستثمار إلى حد ما). فالمستثمرون يواجهون مشكلة كبرى؛ تتمثل في تقييد حريتهم في تسريح غير الأكفاء، أو تسريح العمال الزائدين في حالة خفض الإنتاج. كذلك يشكو المستثمرون من القيود المفروضة على الأجور والمكافآت، ولا بد من مراجعة القواعد المنظمة لهذه الأمور؛ حيث "إنها تنتمي إلى مناخ اشتراكي غير تنافسي" (74).
الضرائب: الإعفاء الضريبي المُقرَّر في القانون 43 غير كافٍ (من 5 إلى 8 سنوات) والمطلوب أن يحسب هذا الإعفاء منذ بداية تحقيق المشروع للأرباح، والضرائب المفروضة على تحويلات الخبراء لا بد من تخفيضها، وإذا تناقض ذلك مع المعدلات المفروضة على قرنائهم من المصريين، تعدل هذه المُعدلات أيضًا.
أخيرًا أشاد التقرير بالمادة 7 من القانون 43 التي تنص على أنه "لا يجوز تأميم المشروعات أو مصادرتها، ولا يجوز الحجز على أموال هذه المشروعات أو تجميدها، أو مصادرتها أو فرض الحراسة عليها من غير الطريق القضائي". ولكن التقرير كان واقعيًّا، فأثبت أن هذا النص غير دستوري، وبالتالي فإن هذه المادة "بلا معنَى، ويجب أن تعدل؛ بحيث نشير إلى ما تطلبه الدستور من تعويض عادل، وتنص على أن التعويض وفقًا لأهداف قانون 43 يعني تعويضًا ناجزًا وفعالاً ومناسبًا عن الملكية (....) ومن الطبَعيّ أن يؤدِّي التعارض بين أي صياغة للقانون 43، وبين المواقف التي تتخذها مصر في المحافل العامة الأخرى، سيؤدي إلى سوء فهم من قبل المستثمرين المتوقعين، وسيكون إخلاص مصر محل مساءلة" (75). ويعني هذا أنه مطلوب من الحكومة المصرية أن تتضامن مع الشركات المتعددة الجنسية في حالة أي صراع ينشب بين الشركات، وبين دولة تدافع عن حقوقها بالتأميم أو بالضرائب، أو حتى بمحاولة إخضاع الشركات للقانون والمراقبة. وقد يطلب ـ اتساقًا مع قانون 43 ـ أن تصوِّت الحكومة المصرية في الأمم المتحدة، ضد قرار مثل "ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية" الذي نص على أمور كثيرة لا ترضَى عنها الشركاتُ العابرة للجنسية (1974).
وخلاصة ما سبق، أن الشركات العابرة للجنسيَّة كشفت بجلاء كامل، أنها لا تُستثمَر إلا في دول مضمون خضوعها للدول الغربية، وللولايات المتحدة بشكل خاص (في حالة كالحالة المصرية). وكشف التقرير أيضًا محاولة بعض السياسيين والفنيين الوطنيين الدفاعَ عن حد أدنى من استقلال الإرادة، كان السبب الأساسي خلف الإحجام عن الاستثمار في مصر. وكانت الشركات صريحة إلى النهاية، ولم تترك شيئًا للخيال؛ فبعد استقرار التغيرات الجذرية في السياسة العامة، كان مطلوبًا في الجانب الاقتصادي: اتخاذ موقف واضح من المقاطعة العربية ـ الالتزام بالسياسات الاقتصادية التي يُمليها صندوق النقد، وعلى رأسها خفضُ سعر الصرف ـ إلغاء أيَّة ضوابطَ أو توجيه باسم الخطة أو السياسة العامة، أو حماية الصناعة الوطنية ـ مساعدة المستثمرين في تصفية القطاع العام، ودورُه القائد أو المتميز، وفي إطار المطلب الأخير، اشترط المستثمرون الأمريكيُّون: منع قصر بعض المجالات على القطاع العام أو القطاع الوطني، وفتح كل المجالات أمام المستثمِرين الأجانب بلا تخطيط أو أولويات من السلطة المركزية ـ إضعاف المركز التنافسي للقطاع العام بمزيد من فك الروابط التنظيمية باسم اللامركزية (مقابل احتفاظ الشركة العابرة للجنسية، بعلاقاتها التنظيمية على مستوى العالم، وبقيادتها المركزية) ـ تخلي الحكومة المصرية عن أيَّة رعاية خاصة لشركات القطاع العام؛ من خلال السياسة السعرية وما أشبه.
وفي مقابل ذلك، مطلوبٌ من الحكومة أن تحابيَ شركاتِ المُستثْمرين الأجانب، بضمان حصة من النقد الأجنبي، كافية لاحتياجاتها، على حساب القطاع العام وقدرته على الإحلال والتجديد والتوسع، وعلى توفير المُستَلزمات.
وإن قطاع الاستثمار الأجنبي يطلب من السياسة العامة تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية؛ بحيث يحل القطاع الأجنبي محل القطاع العام في قيادة الاقتصاد القومي. ولكن يبدو من الشروط السابقة، ومما جاء في التقرير، أنه
لا يحاول تحقيق ذلك من خلال تجاوز الوزن النسبي للقطاع العام القائم؛ كطاقة منتجة، أي لا يحاول أن يكون إضافة إلى الأصول التي راكمَها الاقتصاد المصري (أثناء الستينيات وأوائل السبعينيات). ولكن يسعى ـ كلما واتته الفرصة ـ أن يكون بديلاً، ويسعى إلى "تصفية جسدية" لأكبر عدد ممكن من وحدات القطاع العام المنتجة، يتحقق ذلك جزئيًّا عبر الشروط السابقة، وتتأكد النتيجة من خلال تركيز المستثمرين الأجانب على السوق المحلي، وعزوفِهم عن الصناعات التصديرية التي تتطلب مهارات فنية وتنظيمية عالية، وتتأكد نفس النتيجة من خلال تفضيل القطاع الخاص المحلي (بقدراته المحدودة) كشريك في المشروعات المنتفعة بالرعاية الخاصة، وبمزايا القانون 43. وكل هذا لا يتحقق دون التخلص من الأشخاص والمؤسسات المعارضة للغزو (في هيئة الاستثمار أو القطاع العام أو الحكومة) ـ وفي المقابل تنشأ إدارة أمريكية/مصرية لشئون القطاع الجديد القائد، إدارة سياسية تنظيمية في قلب الجهاز التنفيذي المصري، وتتبع مباشرة أعلى مستوياته ـ و... بعد كل هذا، لن تتدفق مواردُ مالية كبيرة؛ فالمستثمرون الأجانب، يعوِّلون على الممولين العرب، وعلى الموارد المحلية، وتتضمن الأخيرة إعادة استثمار جزء من أرباحهم المتحققة بالعمل المصري والسوق المحلي، والتي لا ينبغي أن تقل عن 25 ـ 30 %.

في الفترة الأولى من الانفتاح، كان كثيرٌ من الاقتصاديين الوطنيين يطرح أيضًا صيغة: المال العربي + التكنولوجيا الغربية + قوة العمل المصرية، ولكنْ لم يكن مقصدُهم من هذه الصياغة، أن قوة العمل المصرية مجرد يد منفذة؛ فقوة العمل المصرية تشمل بالضرورة الإدارة، وكان من المسلمات في ذهن كافة الوطنيين، أن عملية التنمية بعواملها الاقتصادية المرشحة، تتحقق تحت القيادة السياسية والاقتصادية المصرية، ولكن جاءت الشركات العابرة للجنسية، لتطلب احتكار دور المنظم والقائد لكل العملية؛ لقاء حِفنة من الدولارات، ولقاء بعض من التكنولوجيا التي تحدد في مدى ملاءمتها، فتشكل الاقتصاد المصري وفْق مصالحها ومصالح دولها. ووفق موقعنا من خريطتها لتقسيم العمل الدولي، ولتقسيم العمل داخل منطقة الشرق الأوسط (التي تشمل - طبعًا - مصر والعرب من جانب، وإسرائيل من الجانب الآخر).
رابعًا ـ التنمية أو تشوُّهات البنية الاقتصادية والاجتماعيَّة:
(1) قطاع البنوك:
أ ـ كافة المشاكل والشروط السابقة، لم تحُلْ دون اندفاع المستثمرين الأجانب نحو قطاع معين ووحيد، هو قطاع البنوك. منذ صدر القانون 43 والبنوك الأجنبية تتدافع بحمية عجيبة لانتزاع مواقعَ متتالية. في عام 1975، أي بعد أقل من عام، صرَّح عبد المنعم القيسوني بأنه "لا بد من وضع بعض الضوابط؛ بحيث لا نفتح الباب تمامًا... فليس معقولاً أن نعطي موافقات لإنشاء 100 بنك في مصر؛ لأن الاقتصاد المصري لا يحتمل هذا العدد، كما أن هذه البنوك سوف تتقاسم العمليات ثم تُفلس" (76). طبعًا لم يكن القيسوني يقصد الرقم 100 بالذات؛ فهو يتهكَّم على ظاهرة التزاحم التي بدت غريبة.
والنتيجة النهائية هذه الظاهرة (حتى آخر ديسمبر 1976) أن عدد البنوك، التي وافقت عليها هيئةُ الاستثمار، وصل إلى 25 بنكًا حسب بيانات البنك المركزي (77) (كان عدد البنوك الأجنبية قبل تأميمات 1956: 32 بنكًا) ومن بين البنوك الحاصلة على الموافقات، تم تسجيل 19 بنكًا لدى البنك المركزي، حتى آخر 1976 (مقابل 9 بنوك فقط حتى آخر ديسمبر 1975). وقد بدأ 13 بنكًا في مزاولة النشاط المصرفي بالفعل، والباقي كان يستكمل الترتيبات. والبنوك المسجلة تنقسم إلى بنوك تجارية ذات رأسمال مشترك، وكان عددها ثلاثة ـ وإلى بنوك استثمار وأعمال عددها 16 ـ و13 فرعًا لبنوك أجنبية. وقد عبَّر زكي شافعي (في بداية العام) عن أمل المسئولين الوطنيين وقلقهم، من نتائج هذه العملية، فصرح بأن "المفروض أن تعاون البنوك الأجنبية مصرَ في تمويل تجارتها الخارجية عن طريق تزويد البلاد بالتسهيلات المصرفية بالشروط المُيسَّرة، والمفروض أيضًا، وخاصة البنوك التي تتخذ شكل بنوك الاستثمار، أن تنشط في إنشاء الشركات المساهمة لإدارة المشروعات الواردة في الخطة، (وهذا لم يتحقق) أمَّا بالنسبة للبنوك المشتركة،
فلم يكن القصدُ منها أن تستحوذَ على جانب من العمليات المصرفية التي تقوم بها البنوك الوطنية، ولكن كان القصد أن تدخلَ في عمليات مصرفية جديدة، وبصفة خاصة التمويل المتوسط الأجل للمشروعات الصناعية والزراعية، وذلك بالإضافة إلى توسيع آفاق العمل المصرفي؛ بتعزيز العادة المصرفية، وتحقيق زيادة صافية بالودائع، وليس مجرد الاستحواذ على جانب من ودائع البنوك المصرية (78). هكذا تكلم الوزير في بداية 1976، ولكن، هل متصور أن تكون النصائح، والتذكير بالمصلحة الوطنية للدولة المُضيفة، محركًا وموجهًا للبنوك، بدلاً من متطلبات التخطيط الاستراتيجي لهذه المؤسسات، وبدلاً من حوافز الربح؟ إلى حوافز الربح الأعلى والأسهل، تطلب من هذه البنوك مثلاً
ألا تُضيعَ وقتها لنشر الوعي المصرفي، واكتساب زبائن جدد. إن توسيع دائرة المتعاملين مع المصارف يدعو ـ مثلاًـ إلى فتح أفرع للبنوك في المناطق النائية، وتحمل المخاطر والخسائر المحتملة لهذه الفروع لعدد من السنوات، فما هو الداعي "لوجع القلب" هذا؟ إن الربح الأعلى والمضمون يتحقق بجهد أقل، إذا استولت البنوك الأجنبية على الزبائن الجاهزين المُتعاملين مع البنوك الوطنية، إن البنوك الوطنية هي التي بذلت جهدًا طوال السنوات السابقة؛ لتوسيع دائرة التعامل المصرفي، فشقت الطريق إلى مواقعَ جديدة، ونشرت وعيًا مصرفيًّا، وتحملت متاعب الريادة وخسائرها، وربت أثناء ذلك كادرًا فنيًّا مؤهلاً، ثم أتت البنوك الأجنبية كي تتسلم كل هذا "على الجاهز"، وتستحوذ على العملاء والودائع والكادر الفني، ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك رغم كل النصائح؛ لأن الربح الأعلى والأسهل هدفٌ هام لمشروعات الاستثمار الخاص، ولكن أهم من اعتبارات الربح ـ كما قلنا ـ مجموعة الأهداف الاستراتيجية للبنوك الدولية؛ ففي نطاق المثال الذي أشرنا إليه عن تمركز البنوك الأجنبية في المواقع التقليدية للسوق النقدي والمالي، كان هذا التمركز يضمن فعلاً أرباحًا عالية ومضمونة، ولكن أهم من ذلك أنه يضمن تواجدًا في عاصمة النشاط الاقتصادي والسياسي (القاهرة).

على أيَّة حال، شهد عام 1976 النتائج العملية الأولى لنشاط البنوك الأجنبية، وكل ما حذر منه الاقتصاديون ورجال البنوك الوطنيون، بدأ يتجلى كأمر واقع وملموس، فتوالت صيحات الفزع، فصرح حامد السابح مثلاً (وكان رئيسًا للبنك الأهلي المصري) بأن "الظروف التي تواجهها البنوك المصرية، لا تمكنها في المدَى القصير المحدد من تطوير نفسها لتنافس البنوك الأجنبية" (79). وقد أعدَّ أستاذ مصري، يعمل بجامعة بيركلي الأمريكية - تقريرًا في هذا الشأن لحساب أحد البنوك الأجنبية (مارس 1976)، واشتملت الدراسة على مقارنة بين أساليب، ومعدلات الأداء في البنوك المصرية والبنوك الأجنبيَّة، وجاء في التقرير أن وقت صرف الشيك في البنوك المصرية والبنوك الأجنبية، وجاء في التقرير أن وقت صرف الشيك في البنوك المصرية يتراوح بين نصف ساعة و4 ساعات أحيانًا، وفي البنوك الأجنبية لا يزيد هذا الوقت عن نصف دقيقة ـ فتح الحساب في البنوك الوطنية، يستغرق يومًا أو أكثر، بينما لا يستغرق فتح الحساب في البنوك الأجنبية نصف دقيقة ـ صرف الشيك من بنك فرعي (خلاف المركز الرئيسي) يستغرق أحيانًا أكثر من شهر، بينما يصرف في البنوك الأجنبية في نفس اليوم ـ الدورة المُستندية والحسابية في البنوك المصرية معقدة، وتعتمد في خطواتها على الموظفين، بينما في البنوك الأجنبية الدورة سريعة، وتعتمد على الآلات (80). وقد نعتقد أن بالأرقام قدرًا من المبالغة، وأيضًا فإن الدراسة تعتمد في معدلاتها عن البنوك الأجنبية - على معدلات البنوك العاملة في الولايات المتحدة، وليس حتمًا أن تعمل فروعها في مصر بنفس الكفاءة، ولكن تبقَى هذه المؤشرات ـ رغم التحفظات السابقة ـ نذير شؤم بالنسبة لنتائج المنافسة المتوقعة بين بنوك القطاع العام من جهة، وبين البنوك المشتركة وفروع البنوك الأجنبية من جهة أخرى.
في فبراير سنة 1976، نشر أن البنك الأهلي فقد 100 من خِيرة العاملين، وبنك مصر فقد 50 من أكفأ كوادره.. استقالوا ليعمَلوا في البنوك الأمريكية.. وفي نهاية العام، سجل تقريرٌ رسميٌ (غير منشور) للبنك المركزي المصري تقييمًا عامًا لما تحقق، فقال: إن "هذه البنوك (الأجنبية) بدلاً من أن تصبح مركز (جذب) الأموال إلى مصر، تحولت إلى مراكز (طرد) إلى الخارج".
وأثبت التقريرُ مسألةَ أن هذه البنوك، عملت على استنزاف الخبرات المصرية، وأوضح أنه على الرغم من انقضاء ما يقرُب من عام ونصف على ممارسة بعض هذه البنوك لنشاطها في مصر، إلا أنها لم تحققْ نتائجَ لها وزنُها في مجال جذب رءوس الأموال من أسواق النقد العالمية. وإنما اعتمدت أساسًا على مواردها الذاتية، وعلى الموارد المتاحة من السوق المحلية، بل شاركت بنوك القطاع العام التجارية في الاحتفاظ بمدخرات المصريين، وودائع بضع شركات القطاع العام من العملات الأجنبية. ولم تأخذ هذه البنوك دورها بعد أن تمويل مشروعات التنمية الاقتصادية في البلاد، فباستثناء بعض عمليات محدودة لتمويل بعض وحدات القطاع العام أو الشركات المشتركة، وجهت تلك البنوك الجانب الأكبر من مواردها للإيداع لدى مراكزها الرئيسية وفروعها والمراسلين في الخارج، أو تقديم التسهيلات المصرفية قصيرة الأجل من 90 إلى 180 يومًا لبنوك القطاع العام لتمويل عمليات التجارة الخارجية (81). ويعني هذا التقييم أن العملية اتخذت – فعلاً - نفسَ المسار الذي توقعه الاقتصاديون الوطنيون، ويعني أن النتائج الفعلية في آخر العام، حققت كل ما حذر منه وزير الاقتصاد في أول العام.
ب ـ وقد جاء التعبير الرقمي عن هذا التقييم في تقرير علني للبنك المركزي (الجزء الثاني من التقرير السنوي). ورغم أن البنك تعمَّد في هذا التقرير تجنب أي تعليق صريح عن دلالة الأرقام، صدرت التعليمات بسحب هذا الجزء من التداول، على أثر احتجاجات وتدخلات من كل الجهات الخارجية التي يعنيها الأمرُ، وليس فقط من البنوك الأجنبية(82).
سجَّل التقريرُ السنوي ما يلي: (83).
البنوك التجاريَّة المشتركة (تتعامل بالجنيه المصري وهي: تشيس الأهلي ـ مصر الدولي ـ المصري الأمريكي) ـ بلغ مجموع المراكز المالية لهذه البنوك حوالي 103.3 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1976 مقابل 18 مليون جنيه فقط في آخر ديسمبر 1975، أي بزيادة قدرها 85.3 مليون جنيه، بنسبة 473.9 %. ويتضح من جدول المركز المالي المجمع للبنوك التجارية المشتركة، أن أرصدة الودائع كانت في آخر 1975 ـ 11.8 مليون جنيه، فوصلت في آخر 1976 إلى 80.6 مليونًا (بزيادة 583 %) وأصبحت الودائع تمثل 78 % من إجمالي الموارد المتاحة عام 1976 (مقابل 65.5 % في العام السابق). ويقول البنك المركزي أن حوالي 50% من أرصدة الودائع عام 1976 كان بعملات أجنبية (40.5 مليون جنيه). ويضيف البنك أن أرصدة ودائع القطاع الخاص مثلث 70.5 % من الإجمالي، تليها أرصدةُ الودائع المقابلة للمعونة الأمريكية (24.8 %) ثم قطاع الأعمال (4.7 %)، ويلاحظ أن أرصدة العالم الخارجي التي بلغت 2.1 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1975 سُحِبت بالكامل خلال العام الحالي.
وقد زاد رأس المال بمبلغ 3 ملايين من الجنيهات؛ إذ زاد رأس مال البنك المصري الأمريكي (2 مليون جنيه) وبنك مصر الدولي (مليون جنيه)، ورغم هذه الزيادة، هبطت الأهمية النسبية لرأس المال؛ كأحد مصادر التمويل من 13.9% إلى 5.3 % بين عامَي 1975 و1976، وذلك نتيجة مباشرة لنمو الودائع.
وتعني الأرقام السابقة أن أعمال البنوك المشتركة تتضاعف بمعدلات غير طبيعية. وللمقارنة، فإن نسبة الزيادة في الميزانية المُجمَّعة للبنوك التجارية التابعة للقطاع العام،
لم تتعد 21.8 %، ونسبة الزيادة في الودائع كانت 20.3 %، ونسبة الودائع الأجنبية (334.9 مليون جنيه) إلى مجموع الودائع 14.1 %، صحيح أن البنوك المشتركة في مراحلها الأولى، ومعدلات النمو في السنة الأولى لا يُقاس عليها؛ (لأن الزيادات تُنسب في هذه الحالة إلى أرقام البداية المحدودة)، ولكن حتى إذا أخذنا في الاعتبار، تظلُّ معدلات النمو في البنوك المشتركة خطيرةَ الدلالة، خاصة ومعدل النمو المقابل في البنوك التجارية التابعة للقطاع العام، يكاد يكون صفرًا؛ إذ إن النسب التي ذكرناها عن هذه البنوك محسوبة بالأسعار الجارية، والمُعدَّل السنوي للتضخم لا يقل عن 20 %، إن معدلات النمو البالغة الارتفاع في البنوك المشتركة، أثارت أشد القلق أيضًا؛ لأنها ترجِع في جانب الموارد إلى الودائع الخاصة بشكل أساسي، ونمو الودائع الخاصة في هذه البنوك بمعدلات تزيد عن معدل النمو العام في المدخرات الخاصة، لا بد يعني جذبًا لهذه الودائع على حساب بنوك القطاع العام، وهو ما عبَّر عنه التقريرُ السري للبنك المركزي، من أن هذه البنوك "شاركت (والصحيح أنها زاحمت) بنوكَ القطاع العام التجارية في الاحتفاظ بمدخرات المصريين". وهذا الاتجاه ليس مؤقتًا، وقد تصور البعض أن القرار الخاص بقصر تعامل القطاع العام على البنوك الوطنية، يكفي لصد الهجوم الأجنبي، وهذا تصور غير صحيح؛ فالبنوك الأجنبية والمؤسسات الدولية، تلِحُّ وتضغط من أجل إلغاء هذا القرار، وقد عودتنا هذه الجهات على النجاح فيما تسعى له، وبالفعل سجل تقرير البنك المركزي أن هذه البنوك تخطت فعلاً محاولة الحصار هذه، وحدث أن نقلت بعض شركات القطاع العام ودائعها من البنوك الوطنية إلى هذه البنوك.

ومع ذلك، فإن ودائع قطاع الخدمات العام، وقطاع الأعمال العام، في البنوك التجارية المؤمَّمة، كانت تمثل 403% من مجموع الودائع، بينما مثلت ودائعُ قطاع الأعمال الخاص 7.8 % والقطاع العائلي 36.7 %، ومجموعهما معًا 44.5 %، وهذا الرصيد السهل الحركة، تملك البنوك الأجنبية كل وسائل اجتذابه.
والصورة في بنوك الاستثمار والأعمال، لم تكن تختلفُ؛ فبالنسبة لبنوك الاستثمار والأعمال المشتركة (بنك مصر/ إيران للتنمية ـ بنك القاهرة/ باركليز الدولي) نجد أن إجمالي المركز المالي المجمع كان 27.1 مليون جنيه (آخر ديسمبر 1976) مقابل 13.8 مليون جنيه (آخر ديسمبر 1975)، بزيادة 96.4 % وقد زادت الودائع من 1.8 مليون جنيه إلى 13.6 مليونًا خلال نفس الفترة وأصبحت في عام 1976 تمثل حوالي 50 % من الموارد المتاحة. وتمثل وحدات القطاع الخاص حوالي 71 % من إجمالي هذه الودائع. كذلك شكلت الودائع الادخارية حوالي 71 % من إجمالي الودائع مقابل 29% ودائع تحت الطلب.
وبالنسبة لفروع البنوك الأجنبية (وعددها ثمانية؛ منها بنك واحد يعمل حاليًا بالمناطق الحرة) بلغ إجمالي المركز المالي المجمع لها حوالي 135.2 مليون جنيه في آخر 1976 مقابل 39.8 مليونًا في آخر 1975، بزيادة 240 %. وقد استبعد جدول البنك المركزي ميزانية بنك مانيوفاكتشرزها نوفر ـ ترست كومباني ـ 30 مليون جنيه ـ من الإجمالي السابق، وبالتالي كانت الزيادة وفقًا لبيانات الجدول بنسبة 250 %، وبالنسبة للودائع كانت أرصدتها 20.8 مليون جنيه، فوصلت في 1976 إلى 51.3 مليونًا بزيادة 146.6 %، وكانت الودائع موزعة بين الودائع الجارية (21.1 مليون جنيه) والودائع الادخارية (30.2 مليون جنيه) ورغم زيادة ودائع العالم الخارجي من 17.1 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1975 على 30.4 مليون جنيه في آخر 1976، هبطت نسبتها إلى إجمالي الودائع من 82.2 % إلى 59.3 %، بينما ارتفعت أرصدة ودائع القطاع الخاص من 3.7 مليون جنيه (بنسبة 17.8 %) إلى 19.9 مليون جنيه (بنسبة 38.8 %).
ج ـ إلا أن الصورة العامة لا تكتمل إلا بعرض استخدامات البنوك الأجنبية للموارد التي اعتصرتها أساسًا من السوق المصري. وقد حققت هذه البنوك أرباحًا طيبة من عملياتها خلال 1976. نذكر أن المستثمرين الأجانب طالبوا في التقرير الذي عرضناه (في الصفحات السابقة)، بأن يحققوا ربحًا حافزًا على المخاطرة. وبالتأكيد فإن قطاع البنوك الأجنبية نموذجي من هذه الزاوية؛ فإنشاء البنك لا يفرض على المستثمر الأجنبي مخاطرةَ القدوم برأس مال كبير، إن السلعة التي يتعامل فيها البنك هي المال، ولكنه لا يوفر المال عن طريق رأسماله، ولكن أساسًا من إيداعات الآخرين، وقد حصلت البنوك الأجنبية من خلال تعاملها في أموال المصريين أساسًا ـ كما أوضحنا ـ على معدلات ربح طيبة؛ فنسبة ربح البنوك التجارية إلى رأسمال هذه البنوك، وصلت في 1976 إلى 41.8 %، والنسبة في بنوك الاستثمار والأعمال المشتركة، وصلت - في نفس العام - إلى 7.6 وكانت في العام السابق 1.7 %، والنسبة في فروع البنوك الأجنبية كانت 13 %. ونحن نعلم أن البنوك الأجنبيةـ وفقًا لقانون 43 ـ مُعفاة من الضرائب لخمس سنوات، ولكن "لوحظ أنها لم تستغل الأرباح المرتفعة والإعفاءات، في دعم مركزها المالي وزيادة احتياطياتها؛ فقد لجأت إلى تحويل أرباحها أولاً بأول، كما لو كانت في مُهمة موقوتة، ولا تخطط للبقاء بعد فترة السنوات الخمس" كما قال أحد المسئولين في القطاع الاقتصادي، (ولكننا لا نعتقد طبعًا أن هذا هو التفسير الصحيح).
إلا أن الاستخدامات التي ولدت هذه المعدلات من الأرباح، بدت شاذة جدًا؛ فالبنوك الأجنبية لم تكتفِ بالإحجام عن فتح منافذَ ادخارية جديدة، أو عن تنشيط الجهد الاستثماري، ولم تقتصر المأساةُ أيضًا على اعتصار هذه المعدلات العالية من الأرباح، دون مخاطرة ولا تكنولوجيا ولا أي شيء؛ فأبعاد المأساة تتضح أكثر، حين نُشير إلى البيانات الواردة في التقرير السنوي للبنك المركزي، ورغم أن البيانات عامة جدًا وصماء، فإن دلالتها قاطعة:
ففي البُنوك المشتركة نجد أن مجموع التسهيلات الائتمانية التي قدَّمتها هذه البنوك كان في عام 1976 لا يتجاوز 31.1 مليون جنيه (وإذا استبعدْنا حساباتِ تمويل وزارة المالية التي بلغت حوالي 16 مليون جنيه، أو ما يعادل 80% من أرصدة الودائع المقابلة للمعونة الأمريكية)، فإن التسهيلات الائتمانية لقطاع الأعمال كانت 15.1 مليون جنيه، أي 14.6 % فقط من إجمالي ميزانيات هذه البنوك المُجمعة. وكانت التسهيلات موجهة أيضًا، فقد استأثر القطاع الخاص بحوالي 83 %، والأهم من كل ذلك، أنه بينما بلغت التسهيلات الائتمانية لكل قطاع الأعمال 15.1 مليون جنيه، نلحظ أن التوظيف الأساسي كان لدى البنوك في مصر والخارج؛ فالأرصدة لديها مثلت 54.3 مليون جنيه أو 52.6 % من إجمالي الأصول أو التوظيفات) ويستلفت الانتباهَ - بشكل خاص - أن أرصدة هذه البنوك في الخارج كانت 46.5 مليون جنيه أو 45 % من إجمالي الأصول، وكانت 9.7 ملايين عام 1975.
وفي بنوك الاستثمار والأعمال المشتركة لم تتجاوز قيمة الاستخدامات في شكل قروض وسلفيات 1.1 مليون جنيه (أي 4.1 % فقط من إجمالي التوظيفات)، وكان التركيز على التوظيف لدى البنوك في مصر والخارج؛ حيث بلغت الأرصدةُ المُستَحقَّةُ على البنوك 22.8 مليونَ جنيه في آخر 1976 (أي 84.1 % من إجمالي الموارد، والأهم أن المراسلين (أي البنوك) في الخارج كانوا أصحاب النصيب الأعظم في هذا النوع من التوظيف، فنصيبهم كان 19.9 مليون جنيه (أو 73 % من إجمالي التوظيفات)، وذلك مقابل 9.8 ملايين عام 1975.
وفي فروع البنوك الأجنبية، كانت أرصدة القروض والسلفيات 6.6 ملايين جنيه بنسبة 6.3 % فقط من إجمالي الاستخدامات، منها 4 ملايين مُنحت إلى الأفراد و1.4 مليون جنيه إلى قطاع الأعمال غير المنظم (أي: إلى القطاع الخاص الصغير) وما تبقَّى (حوالي مليون جنيه) قدم إلى الشركات الأخرى. أمَّا الأرصدة المستحقة على البنوك في مصر والخارج، فكانت 82.4 مليون جنيه (78.3 % من إجمالي الاستخدامات، وكان نصيب البنوك في الخارج بالذات 70.4 مليون جنيه (66.9 % من الإجمالي) وكان الرقم المقابل عام 1975: 28.2 مليون جنيه.
إن هذه الأرقام العامة تجسد النتيجة التي سجلها التقرير السري والصريح للبنك المركزي المصري، حين قال: "تلك البنوك وجهت الجانب الأكبر من مواردها للإيداع لدى مراكزها الرئيسَة وفروعها، والمراسلين في الخارج، أو تقديم التسهيلات المصرفية قصيرة الأجل (من 90 إلى 180 يومًا) لبنوك القطاع العام لتمويل التجارة الخارجية". ولكن كيف نفسِّر هذا النشوء العجيب في أوجه الاستخدام، والذي بلغ الذورة في توظيف الموارد في الخارج، وليس في الداخل؟ كيف أصبحت مصر مركزًا لإعادة تدوير البترول ـ دولارات إلى أوروبا والولايات المتحدة؛ مثل السعودية والكويت؟! إننا نختلف مع تفسير البنك المركزي ـ في تقريره غير المنشور ـ حيث قال: إن إحجام البنوك عن العمل في الداخل لا بد يترتب عليه عمل في الخارج، فهذه توتولوجيا. والسؤال يبقى بالتالي معلقًا: لماذا الإحجامُ عن العمل في الداخل؟ يقول التقرير: "إن البنوك قدمت للعمل بالبلاد، قبل أن يكون المناخ الاقتصادي مُهيئًا بالدرجة الكافية للاستفادة من طاقتها، ومما يمكن أن تقدمه لدفع عجلة النمو"؛ سواء لانخفاض تدفق رأس المال الأجنبي للاستثمار في مصر عن المعدلات المتوقعة، أو لأحجام القطاع الخاص عن ارتياد مجال التصنيع تفضيلاً لأعمال الوساطة التجارية، ومُؤدَّى هذا الكلام للبنك المركزي، أن البنوك الأجنبية اندفعت إلى السوق المصري بهذا الحجم والحماس؛ نتيجة سوء التقدير، وهذا كلام قد تروِّجه البنوك الأجنبية؛ لتبرير اتجاهاتها الشاذة، ولكنْ عيبٌ جدًا أن يبتلع البنكُ المركزي هذا الطُّعم، وإذا صدقنا أن البنوك الأجنبية اندفعت في العام الأول نتيجة المبالغة الخاطئة في إمكانيات السوق المصريَّة، فكيف نفسر استمرارها في التدافع، بعد انكشاف الصورة، واتضاح الأحجام لدَى المستثمرين الأجانب وحالة القطاع الخاص المصري؟! ثم هل صحيح أن الاقتصاد المصري
لم يكنْ يُمثِّل طلبًا فعالاً كافيًا على موارد البنوك؛ بحيث اضطرت إلى توظيف أموالها في الخارج؟! أعتقد، بعد كل ما ذكرنا في الفصول والصفحات السابقة، أن الاتجاه الذي اتخذته البنوك الأجنبية، لم يكن مفاجأة غير منتظرَة، وتفسيرها الحقيقي كالتالي:

تدافعت البنوك، واستخدمت الضغوط السياسية وغير السياسية لسرعة الحصول على الموافقات من هيئة الاستثمار، ونشطت بشكل محموم، وبأيَّة تكلفة، لتدبير المقار، وتجهيزها، وللبدء فورًا في العمل. ومن السذاجة أن نتصور السذاجة في موقف وتقديرات البنوك الدولية، بل ونتصور أن الغفلة وسوء التقدير، لم يصيبا بنكًا أو بنكين، وإنما كلَّ البنوك في كل أنحاء العالم، وخاصة البنوك الأمريكية! لقد قرأنا "كيف يرى اقتصاديٌّ - في شركة متعددة الجنسية - اقتصادَ بلد ما؟". ووضُحَ أن قرار الاستثمار في بلد ما، هو قرار سياسي في الأساس. ووفق هذا المفهوم؛ كان التدافع نحو قطاع البنوك قرارًا سياسيًّا استراتيجيًّا، وأصحابه كانوا يذكرون تمامًا أن دورهم هو دور طليعة اقتحام، وليسوا جزءًا من تدفق عام للاستثمارات الأجنبية، لم تكن مفاجأة لشبكة البنوك الدولية أن زملاءهم في الشركات العابرة للجنسية، لن يتقدموا لإسهام واسع في المشروعات؛ فهذه المسألة كانت مفهومة تمامًا عند رجال البنوك، ومرتبة، وكان دورهم بالتحديد أن يساعدوا في تمهيد الأرض لمرحلة تالية، يتمكن فيها المستثمرون الأجانب من القدوم، وفق شروطهم الخاصة.
وفقًا لهذه المهمة؛ كان مطلوبًا أن تتقدم البنوك بأقصى سرعة - ومهما كان الثمن - نحو هدف السيطرة على قطاع التمويل، بقدراته الحاكمة في حركة الاقتصاد المصري؛ فكلما زادت حصتها من الودائع؛ زاد حجم القطاع الاقتصادي المعتمد على استخدامات الموارد في هذه البنوك، وكُلما زادت قدرة البنوك الأجنبية على إحداث ضغوط واختناقات وحوافزَ، تساعد الأدوات والمؤسسات الأخرى في جهودها لتشكيل الأوضاع.
وفي مرحلة الانتقال، كانت على البنوك الأجنبية مهام مباشرة؛ هي أن تُسهِم في لعبة الإغراق في الديون وزيادة متاعب ميزان المدفوعات، وكذلك في اكتساب العملاء، وليس تقديم تسهيلات مُيسَّرة للتجارة الخارجية، ومساعدة مشروعات التنمية (كما نصحها المسئولون الطيبون). وقد لعبت البنوك الأجنبية دورها المرسوم بكفاءة؛ فحرمت الاقتصاد الوطني من مدخرات بالنقد الأجنبي، ووظفتها في الخارج في لحظة معاناة من أزمة سيولة حادة في النقد الأجنبي، وحين أدَّى ذلك إلى تزايد الحاجة إلى مصيبة الاقتراض المصرفي؛ تقدمت هذه البنوك لتسهم في توفير هذا التمويل الخطر، أي أن البنوك الأجنبية استخدمت الموارد النقدية لمصر في تعميق أزمتها، وليس في التفريج عنها. وبالتأكيد أسهمت هذه البنوك (على الأقل من خلال توزيعها الانتقائي للائتمان) في فتح كثير من الأبواب المُغلَقة.
(2) برنامج التنمية في التنفيذ:
أ- بعد الحديث عن التغير البنيوي الذي مثله اختراق العدو لقطاع المصارف، نستطرد إلى باقي جوانب الصورة العامة؛ لتوضيح مدى نجاح الجهود الخارجية في تحقيق هدفها النهائي: التغيير الكامل لبنية الاقتصاد الوطني، وعلاقاته الاجتماعية. ويساعدنا في ذلك متابعة ما تحقق في برنامج التنمية لعام 1976، وقد عبَّرت وزارة التخطيط عن عدم رضائها؛ إذ خلُصت إلى "أنه - وإن كانت الإجراءات التي اتُّخِذَت بموافقة السلطات المحلية، ولقيت تقدير المنظمات الاقتصادية، قد ساعدت على إنهاء العام الماضي، بصورة مكَّنت الاقتصادَ من مواجهة احتياجاته الأساسية؛ الداخلية والخارجية، رغم تزايد أعباء الأخيرة ـ إلا أنه من المتوقَّع ألا تحقق خطة 1976 الأهداف الموضوعةَ لها بالكامل، الأمر الذي يعني أيضًا ضرورة دفع عملية التنمية في عام 1977 بما يعوض ما لم يتم تحقيقه في عام 1976؛ بحيث يمكن تحقيق أهداف الخطة الخمسية في السنة الأخيرة منها"(84). ويعترفُ تقريرٌ آخر بأن "الظروف التي أحاطت بتنفيذ خطة عام 1976 لم تساعدْ التخطيط على تحقيق أسلوب المتابعة العيني والمالي المستهدف (...) وفي ظل التطورات السريعة التي كانت تتوالَى خلال تلك الفترة؛ على الصعيدين المحلي والدولي" (85).
ويعني هذا الكلام، أن التوصل إلى معرفة نتائج الخطة - بقدر معقول من اليقين ـ أمرٌ متعذِّر، باعتراف التخطيط. والمقصود بالتطورات المتسببة في هذه النتيجة: تتابع التفاؤل والتشاؤم حول احتمالات التمويل الخارجي، وما صاحب هذا من تغيُّرات مطردة في السياسات الاقتصادية؛ إذعانًا للمقرضين ـ على نحو ما أوضحنا في هذا الفصل.
ونذكر أن الاستثمارات المستهدفة لذلك العام، كانت قد قسمت إلى شريحتين؛ كمحاولة لمواجهة الفجوة التمويلية الخارجية، وكانت تُقدَّر بحوالي 2400 مليون جنيه، و"كان الترجيح السياسي يؤكد إمكانية استكمال عناصر المواجهة لتلك الفجوة خلال الأشهر الأولى للعام" (86).
ومع فشل "مشروع مارشال"، ورغم الزيارات والمباحثات، تأكَّد أن تنفيذ الشريحتين مستحيل. كان مجلس الشعب قد وافق على استثمارات الشريحة الأولى، وأثناء العام أصدر قانونًا بالصرف على الشريحة الثانية في حدود 100 مليون جنيه تم توزيعها على جهات الإسناد، وبذا أصبح إجمالي الاستثمارات المستهدفة والمعتمدة نحو 880 مليونَ جنيه. "إلا أن البيانات الواردة من جهات الإسناد، أوضحت أنه تم تنفيذ استثمارات تُقدر بنحو 1251 مليون جنيه (1168 مليون جنيه في القطاع العام و83 مليونًا في القطاع الخاص) بخلاف استثمارات الشريك الأجنبي في البترول، وفي خط سوميد" (85).
واعتمدت تقارير المتابعة على هذا الرقم دون أي تبرير للتناقض الذي عبرت وزارة التخطيط عن تنبهها له. وبالمناسبة أيضًا، فإن بيانات الحساب الختامي لموازنة عام 1976 أظهرت حجم الاستخدامات الاستثمارية للجهاز الحكومي والقطاع العام بنحو 1358 مليون جنيه (مقابل 1168 مليون في متابعات التخطيط).
وكما كان الحال مع العام السابق، أشاد البنك الدولي بنتائج التنمية الانفتاحية خلال 1976، بلا مناقشة أو تحليل، فاعتمد على البيانات الأولية من وزارة التخطيط؛ ليكتب أنه برغم متاعب النقد الأجنبي في عام 1976، "تمكن الاقتصاد من مواصلة النمو بمعدل يبلغ نحو 6.5 % بالأسعار الثابتة". واضطر تقرير البنك على الاعتراف بحقيقة أن هذا النمو "يرجع - إلى حد كبير على أيَّة حال - إلى زيادة الإنتاج في قطاع البترول؛ بسبب تشغيل حقول البترول في سيناء لعام كامل، والتي تمت استعادتها في نوفمبر 1975 بالإضافة إلى زيادة الإنتاج من حقول البحر الأحمر)، وإلى استخدام القناة لعام كامل لأول مرة. وفي الحقيقة، يُقدر أن أكثر من 40 % من الزيادة في القيمة المضافة، يأتي من هذين القطاعين، ويتوقع أن يكون النمو في القطاعات الأخرى الرئيسَةِ أكثر تواضعًا، ولكن ينظر محترمًا، إذا كانت الزراعة تنمو بحوالي 3 %، والصناعة بحوالي 8 % (أي فوق المتوسط العام ـ المؤلف) والتجارة والخدمات الأخرى بحوالي 7 %" (87). والحقيقة أن معدل 6.5 % لا يبدو محترمًا على الإطلاق ـ حتى من ناحية المنظر الخارجي ـ إذا كان 40% من هذه الزيادة يرجع إلى القناة والبترول (أي إلى الاعتبارات السياسية التي أدت إلى اتفاقية الفصل الثاني للقوات)؛ ولذا أعلنت وزارة التخطيط في تقرير المتابعة المبدئي أن معدل الزيادة الحقيقية في الدخل المحلي الإجمالي بلغ 9.8 %. وهذا الكلام بالغ الشذوذ، وتكفي نظرة إلى جدول الموازنة القومية في مشروع الخطة وفي تقرير المتابعة؛ لتبين التضارب الذي لا يصدق بين الأرقام الواردة في الجدولين، والتي جرت على أساسها الحسابات والمقارنات لمختلف المتغيرات. ويكفي أن الناتج المحلي الإجمالي المثبت في مشروع الخطة كمستهدف لعام 1976 (= 4778 مليون جنيه) أصبح في تقرير المتابعة الناتج المحلي المحقق عام 1975 ـ في بعض المواضع ـ وظل في مناسبات أخرى (في نفس التقرير) رقمًا مستهدفًا لعام 1976 كما كان الحال في مشروع الخطة (88).
إن تضارب البيانات في بعض الحالات، نفهمه على أنه راجع إلى تعدد مراكز المعلومات، واختلاف الأساليب الإحصائية، والخلل التنظيمي... إلخ، ولكن في حالتنا هذه يصعب اعتماد شيء من قبيل ما ذكرنا، سببًا لتفسير التعارض.
على أيَّة حال، سنعتمد على الأرقام النهائية للمتابعة، وقد اعتمدت هذه - بشكل نهائي - أن الناتج المحلي الإجمالي المُقدَّر بـ 4778 مليون جنيه هو ناتج عام 1975، وارتفع عام 1976 إلى 5268 مليون جنيه، وبالتالي تحققت زيادة قُدرت بحوالي 489 مليون جنيه (بأسعار 1975 ـ أي بالأسعار الثابتة)، وكان معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي 10.2 %. وهذا المعدل منظره مفرح ولا شك، لولا أننا نلاحظ أنه يزيد عن المعدل الذي كان مستهدفًا في مشروع الخطة، والذي قُدِّر على أساس افتراض استثمار الشريحتين بالكامل، فبالأسعار الثابتة، كان مستهدفًا أن يكون المعدل في حدود 5 % (89)، فكيف يتضاعف المعدل باستثمار أقل؟ ورغم أن دخل القناة انخفض عمَّا كان مستهدفًا؟ ومع ذلك، حتى إذا اعتمدنا كل الأرقام والمعدلات النهائية لوزارة التخطيط، فإن إبعاد أثر القناة والبترول يهبط بالزيادة المتحققة في الناتج المحلي إلى حوالي 150 مليون جنيه (بأسعار 1975)، ويصبح المعدل الفعلي للنمو 3.1 % فقط لا غير، إذا وافقنا على أن معدل التضخم (الذي تحسب معدلات النمو بالأسعار الثابتة وفقًا له) هو 5 % وليس 20 % وإذا كان الأمر كذلك، يصبح لا مجال للفخر بأن معدل الزيادة الحقيقية في الإنتاج المحلي الإجمالي كان 9.1 % وأنَّ معدل الزيادة في الدخل المحلي الإجمالي 10.2 %، وبالمناسبة، لا مجال أيضًا للزعم والفخر بأن هذين المُعدَّلين يشيران إلى خفض نسبة المستلزمات المستخدمة في الإنتاج من 52.2 % عام 1975 إلى نحو 48 % خلال عام 1976 مما يعكس "رفع كفاءة تشغيل الوحدات الإنتاجية"، فهذا الانخفاض في نسبة المستلزمات المستخدمة إلى إجمالي الإنتاج، يرجع ببساطة إلى حقيقة أن حوالي 70 % من زيادة الناتج المحققة كان بسبب دخل القناة والبترول، والقطاعان ـ بطبيعتهما ـ
لا يحتاجان إلى نسبة مستلزمات مرتفعة.

وقد دلَّت بيانات المتابعة النهائية أن هيكل الدخل المحلي الإجمالي واصل - خلال عام 1976 - تغيَّره في صالح مجموعة قطاعات التوزيع، ويعلق التخطيط على ذلك بأن "هذا التغير ليس تغييرًا هامًا؛ بسبب ما تتميز به مجموعة القطاعات السلعية من وزن كبير في الأهمية النسبية في الاقتصاد القومي، وخاصة قطاعي الزراعة والصناعة". وهذا التعليق مضلل؛ لأن التغير حسب البيانات المعلنة كان محدودًا بالفعل إذا نظرنا إليه من زاوية المقارنة بين الأهمية النسبية لجملة القطاعات السلعية في الدخل المحلي الإجمالي بين عامي 1975 و1976 ولكن ينبغي أن نتذكر اختلال العلاقة بين القطاعات السلعية نفسها؛ بحيث زاد دخل البترول بمعدل 47.7 %، وزاد دخل الصناعة والتعدين بمعدل 8.1 % (أي أقل من معدل النمو الإجمالي للدخل ـ 10.2 % ـ) وزاد دخل الزراعة بمعدل 1.5 % فقط، وبالتالي لولا حقول أبي رديس؛ لكان انخفاض الأهمية النسبية للقطاعات السلعية محسوسًا ومكشوفًا.
ولكن يتطلب الأمر تجاوز هذه الوقفة عند المحيط الخارجي لبعض المتغيرات الاقتصادية، لا بد من نظرة أكثر نفاذًا إلى مكونات التغير في البيئة الاقتصادية، ونُشير إلى التالي:
ب ـ قضية الاستهلاك العائلي: ولا نعرض هنا للحسابات القومية، ونسبة الاستهلاك النهائي للناتج، فهذه مسألة منذرة قد أشرنا إليها، ومقصدنا هنا، الإشارة إلى التطورات الحادثة في الاستهلاك العائلي، وفي مكوناته بين الفئات الداخلية المختلفة. والدراسات الكمية المتكاملة في هذا الموضوع غير قائمة، وهي ترتبط بغياب الدراسات عن إعادة توزيع الدخل، ولكن أكَّد تقريرٌ مقدَّمٌ من محمد محمود الإمام (وزير التخطيط) للمناقشة في اللجنة العليا للتخطيط (أغسطس 1976) أنه حدث انكماش في متوسط استهلاك الفرد من السلع الضرورية، وعزا التقرير ذلك إلى أن فتح باب الاستيراد بلا ضوابط، أدَّى إلى تزايد الاستيراد من السلع الترفيهية، الأمر الذي قلل من المُخصص للاستهلاك الشعبي، رغم كل جهود الحكومة في الإعانات التي تتحملها السلع الشعبية؛ سواء المستورد منها أو المنتج محليًّا (90).
وأشار تقرير المتابعة أيضًا إلى قصور العرض من السلع الأساسية، وأكد جدول 13 في التقرير أن السلع غير المدعمة ساهمت بنصيب كبير في دفع معدلات الاستهلاك إلى درجاتها العليا، وظهر ذلك بوضوح في مجموعات الأقمشة والملابس، والأثاث والتجهيزات المنزلية، وسائر السلع والخدمات الترفيهية، وأوضح التقرير أن هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى ظهور طبقات جديدة من الأفراد ذات دخول عالية، وارتفاع مستوى معيشة بعض الطبقات الأخرى". وفي الواقع لا يمثل غياب الأرقام في هذا المجال مشكلة (ثم من قال إن الأرقام عندنا تعكس الحقيقة؟!) فما يهُمنا حاليًا، هو مجرد تسجيل حالة كيفية، حول التغير في نمط الاستهلاك؛ فمع انتشار المحاكاة لأنماط الاستهلاك الكمالية والشاذة في الدول النفطية المجاورة، ومع تساقط رذاذ هذا النمط من أصحاب الدخول العالية في الداخل، ومع موجة الإعلانات المكثفة من الشركات العابرة للجنسية عن كل "فنونها وإبداعاتها"، ابتلعت السوق فيض الاستيراد الاستهلاكي منذ بداية الانفتاح، والذي تحقق عبر الاستيراد الرسمي، والاستيراد الممول ذاتيًّا (دون تحويل عملة)، وعبر بور سعيد التي بدأت تمارس نشاطها رسميًّا ـ كمدينة حرة مع بداية 1976. إن سياسة التصنيع لإحلال الواردات في الستينيات انقلبت إلى سياسة الاستيراد لإحلال الصناعة الوطنية في سني الانفتاح.
وإعادة صياغة المستهلك المصري على هذا النحو اكتملت أبعادُها، والآثار المترتبة على ذلك آثار استراتيجية: إحكام علاقة الاعتماد على الدول الغربية، التي تزودنا وحدها بالسلع التي عوَّدونا إدمان استهلاكها ـ وحتى عند التفكير في مشاريعَ صناعية، أصبحت نفس هذه السلع، والطلب المشوه الذي خلقته - حافزًا موجهًا لتخصيص الموارد باسم إحلال الواردات ـ ارتفاع معدلات الاستهلاك بشكل عام، زاد التعرض للغرق في الديون لأغراض جارية ـ إعادة توزيع الدخل (عبر كل الآليات الملائمة) على نحو يتسق مع أنماط الاستهلاك المفروضة، مع كل التوترات الاجتماعية المترتبة على ذلك (91).
ج ـ أولوية المشروعات الممولة من الخارج: يقول تقرير المتابعة: إن عدم التزام القطاعات في تنفيذ الاستثمارات المعتمدة في الخطة؛ سواء بالتجاوز في بعض القطاعات، أو التقصير في البعض الآخر، أصبح أمرًا تقليديًّا، ومما لا شك فيه أن حفظ التناسق بين نمو القطاعات المختلفة، مطلوب لتوازن الخطة؛ حيث إن الخطة وحدةٌ مترابطة، لا يمكن تجزئتها، وإلا اختل التوازن بين القطاعات المختلفة". وهذا الكلام التبريري غير مقبول، فصحيحٌ أنه جرت العادة على خروج جهات الإسناد عن حدود المهام المقررة، وبدرجة تَزيد عن المسموح به باسم مرونة التنفيذ، وصحيح أن هذه الظاهرة استمرت وتزايدت قبل عصر الانفتاح، ومع منهج برامج الاستثمار السنوية الذي حل محل التخطيط المركزي الجاد بعد تجربة 60/ 1961 ـ 64/ 1965، ولكن هامش الخروج على البرامج المستهدفَة، ظل مع ذلك في حدود لا تقارَن بما وصلت إليه الحالُ بعد الانفتاح، وفي عام 1976 أصبح الخروج على البرامج، على نحوٍ يجعل الحديث عن وجود خطة تضبط حركة الاستثمار لغوًا لا معنى له، وقد نقلنا عن تقرير المتابعة، اعترافَه بأن المتابعة المالية والعينية لما تحقق خلال عام 1976 كانت أمرًا مُتعذرًا، واستحالة المتابعة هي الوجه الآخر لفقدان أيَّة سيطرة على إصدار القرارات، قبل الانفتاح، كان مدى الخروج على البرامج المستهدفة لا يقارن ـ كما قلنا ـ بما حدث عام 1976، ولكنَّ هذا الوجه من المقارنة يظل ـ رغم خطورته ـ فارقًا كميًّا، والوجه الأخطر في الموضوع أن الخروج على الالتزام، كان يمثل في المرحلة السابقة ـ وفي التحليل النهائي ـ اختلالات تنظيمية، والتغلب عليها كان في حدود القدرة المحتملة للمخطط المصري، ولكن الخروج الواسع على الالتزام بدءًا من عام 1976، كان معبرًا في المقام الأول عن خضوع الوحدات والقطاعات الاقتصادية لقرارات من خارج المؤسسة المصرية (قرارات الممولين الأجانب). وهذا الفارق النوعي بين حالتي الخروج على الالتزام، يجسد الفارق بين احتمال التنمية المستقلة، وبين السير باتجاه التنمية التابعة.
كان مشروع الخطة قد أشار إلى إعطاء أولوية للمشروعات الممولة ولو جزئيًّا من الخارج، والتمويل من الخارج شمل مشروعات الاستثمار المباشر، وقروض الحكومات والبنك الدولي، وأيضًا تسهيلات الموردين، وواضحٌ ذلك في عمليات تطوير القناة التي حَظيَت - منذ البداية - بالأولوية الأولى لدى جهات الإقراض الخارجي؛ فقد قفزت الاستثمارات المنفذة إلى 115 % مما كان مستهدفًا، ولكن يمكن أن يقال إن حالة القناة، ليست مجرد تدخل مقرضين؛ فهي تمثل أولوية سياسية خاصة، مُتفقًا عليها بين الحكومة الأمريكية والحكومة المصرية، وهذا صحيح، ولكن سنجد أن وزارة السياحة نفذت استثمارات تبلغ 197 % من الاستثمارات المقررة (والسياحة المجال الأول الذي تدفق إليه المستثمرون). ووزارة الري بلغت استثماراتها المنفذة 142 % من المقرر (بسبب قروض وكالة التنمية الدولية وهيئة التنمية الدولية لمشروعات الصرف في الوجهين البحري والقبلي) ـ وكان المستهدفَ زيادةُ فرص العمل في قطاع الزراعة بنحو 67 ألف مشتغل، ولكن التوسع في الميكنة الزراعية - نتيجة الاستيراد على القروض الأمريكية - أدى إلى توفير استخدام 214 ألف مشتغل، أي لم تمتنع الزيادة المستهدفة فقط، ولكن انخفض عدد المشتغلين أصلاً في قطاع الزراعة بنحو 150 ألف عامل. ومفهومٌ أن استخدام تكنولوجيا كثيفة رأس المال، بدل تكنولوجيا كثيفة العمالة - ليس أمرًا مطلوبًا
أو مرفوضًا في حد ذاته؛ فالأمر يتقرر وفق خصوصية كل حالة، ووفق تشابكاتها مع المتغيرات الاقتصادية المختلفة، وحين يتعلق الأمر بقطاع اقتصادي أساسي ـ كقطاع الزراعة ـ مفروض أن تخضع الدراسة والقرار لجهة التخطيط المركزي، وفي حالتنا هذه، لم يحدث
ما حدث؛ نتيجة حاجة القطاعات الاقتصادية الأخرى مثلاً على يد عاملة، بل أدَّى هذا النقص في عمالة القطاع الزراعي إلى زيادة البطالة الصريحة والمُقنعة في قطاعات أخرى، فيلاحظ مثلاً أن قطاع الخدمات انتفخ بحوالي 100 ألف، وقطاع التجارة بحوالي 100 ألف خلال 1976، أيضًا لم يحدث ما حدث نتيجة التقدُّم المحلي في تصنيع الآلات الزراعية؛ ولكن فقط لأن القروض الأمريكية لا بد أن تُستخْدَم؛ ولأن استخدام آلات أمريكية بالذات، من أدوات ربط قطاع الزراعة بالولايات المتحدة.

نفس الاتجاه نلحظُه في قطاع النقل، حدث انخفاض في نقل البضائع بالسكة الحديد بنسبة 10.2 % من حجمه في عام 1975، وفي المقابل زادت حركةُ نقل البضائع عبر الطرق (اللواري والمقطورات) بمعدل 8.7 % عن عام 1975، ومعروفٌ أن اقتصاديات النقل بالسكة الحديدية أفضل؛ ولذا يعكس هذا الاتجاه ـ إلى حد ما ـ فرضَ تفضيلات الموردين والمُقرضين الأجانب، لدعم أنشطة القطاع الخاص.
وقطاع التعمير شهد العجب. استثمارات وزارة الإسكان والتعمير زادت عن المُستهدف بنسبة 236 %، وفي قطاع التعمير، حدث أنْ قررت الحكومة ضغط استثمارات هذا القطاع إلى نحو 83.1 مليون جنيه (مقابل 243 مليونًا عام 1975)، ويبدو أن هذه العملية كانت محلاً لمعركة خلف الكواليس؛ فقد لوحظ أن مشروع خطة 1976 لم يضعْ التعمير بين الأولويات (كما كانت الحال في خطة 1975)، بل لم ترِد أيَّةُ إشارة صريحة للتعمير، وأثناء مناقشة مشروع الخطة قال وكيل مجلس الشعب (جمال العُطيفي) أنه حاول أن يستخلص نصيب منطقة القناة "من بين الاعتمادات المختلفة والمبعثرة أيضًا في شتَّى الأبواب"، وتصور أن المُخصص للتعمير يبلغ حوالي 300 مليون جنيه، وانتقد بشدة ارتفاع الرقم ـ إذا كان صحيحًا ـ "فلقد أمَّنا سكانَ منطقة القناة، وأعدنا توطينهم، وأقمنا لهم بعض المشروعات، ولكن يجب أن يكون هناك نموٌ متوازن في المجتمع كله" (92). وقد أعلنَ أيامها وزيرُ التخطيط أن الرقم الصحيح حوالي 80 مليون جنيه، وكان مفهومًا من السياق أن هذا المبلغ يدخل في إطار الشريحة الأولى، وبالفعل أوضحت هذه الحقيقة الموازنة النقدية، (وكان المكون الأجنبي 28 مليون جنيه). وأوضحت الموازنة النقدية أيضًا أنه مطلوب توفير 60.9 مليون جنيه كمكون أجنبي لاستيراد سلع وسيطة (خشب ـ حديد تسليح ـ أسمنت) للوصول باستثمارات قطاع الإسكان والتعمير ـ ضِمن الشريحة الثانية ـ إلى الهدف المقرر في الخطة(93). ويعني هذا أن القسم الأكبر من استثمارات التعمير أُجِّل إلى الشريحة الثانية (التي لا تتوفر موارد لتمويلها)، ويبدو أن السلطات لجأت إلى هذا الإجراء لاستخدام التعمير كقطب جاذب لتمويل أصحاب "المساعدات" الخارجية، للأولوية السياسية التي توليها الولايات المتحدة وتوابعها لهذا القطاع، وبالتالي تضمن السلطات مددًا خارجيًا يسد جزءًا من الفجوة التمويلية الممثلة في الشريحة الثانية. ولكن حدث أن الجهات الخارجية ظلت تغُلُّ يدها عن الإقراض، فأصرت السلطات المركزية على أن الإنفاق الاستثماري في قطاع التعمير منحصرٌ في نطاق ما تقرر للشريحة الأولى (83 مليون جنيه)، ولكن "ظل الأمر - طوال السنة - مثارًا للنقاش حول إمكانية زيادة هذا الحجم" (هذا ما سجله التقرير المبدئي للمتابعة، دون أن يشرح طبيعة النقاش أو الجهات المتناقشة). ولكنَّ "الشركاتِ المُسنَدَ إليها مشروعات التعمير، استمرت فعلاً في العمل بمعدلات تماثل معدلات 1975 (في بداية 1976) ثم أخذت تتناقض كرد فعل طبيعي لنقص التمويل، إلا أن المحصلة كانت في النهاية تجاوزًا للحجم المقرر في الخطة؛ حيث بلغ ما نُفِّذَ من استثمارات نحو 170 مليون جنيه، مؤدِّيًا إلى تجاوز في الخطة، ومستحقات للشركات تعوق حركتها" (94). ويعني هذا ـ في رأينا ـ أن شركات المقاولات كانت تتلقَّى تعليماتها من جهة أخرى غير الحكومة، والسلطات المركزية لم تكن تملك حيالها شيئًا، وفي قطاع ـ كالتعمير ـ ذي مدلول استراتيجي واضح، وذي أثر بيِّنٍ على التوازنات القومية!
قطاع الصناعة والتعدين: هذا القطاع يستحق وقفة خاصة باعتباره قلب القطاع العام، "وكان" قائدًا لعملية التنمية. ونبدأ بأن القطاع الصناعي خضع لنفس الاتجاه الذي تناولناه في القطاعات الأخرى. كانت الاستثمارات المقررة بالخطة 196.7 مليون جنيه، والمنفذ 352 مليون جنيه (نسبة التنفيذ 179 %)، و"ترجع الزيادات في الاستثمارات المنفذة عن المقرر، إلى الإسراع في تنفيذ بعض المشروعات؛ نتيجة لورود المعدات السابق التعاقد عليها، والتي ترد على تسهيلات، بأكثر مما كان مقررًا لها" (95). ويوضح الجدول (2) أهم المشروعات التي حدث فيها تجاوز، بناء على تعليمات الجهات الخارجية.
وعمومًا كانت نسبةُ التنفيذ إلى الاستثمارات المقدرة 174.9 % في الصناعات الغذائية، و477.3 % في الصناعات الكيماوية، و341.9 % في صناعة الغزل والنسيج، فهل يمكن مع هذا المدى من التجاوز أن نعتبر أنه لا زالت هناك خطة وأهداف مقررة؟ واللغز غير المُفسَّر، هو أن كل هذا التجاوز في إجمالي استثمارات الصناعة والتعدين (179 %)، والذي ارتفع بنسبة استثمارات هذا القطاع في الهيكل العام للاستثمار، من 24.3 % (مستهدَف) إلى 28.1%، ترتب عليه معدلُ نمو في دخل الصناعة يقل عن معدل النمو العام، وهبوط بالتالي في إسهام الصناعة والتعدين في الدخل المحلي الإجمالي من 17.8 % إلى 17.4 % (1976)، رغم أن الاستثمارات كانت موجهة أساسًا للاستكمال والإحلال والتجديد، وليس للبدء في مشروعات جديدة، ووفقًا لأرقام المتابعة الكمية (أي: بالوحدات المنتجة) حققت بعض الصناعات زيادات متفاوتة. وحقق البعض الآخر نقصًا في حجم الإنتاج عن عام 1975. ففي الخامات المنجمية، حقق الملح والفوسفات زيادة، وحقق خام الحديد نقصًا (ـ 10.7 %) ـ الصناعات الغذائية (سكر مكرر/ جبن أبيض/ مسلي صناعي/ علف حيوان/ مياه غازية/ بيرة/ سجاير) حققت كلها زيادات كمية ـ الغزل والنسيج حققَ زياداتٍ باستثناء غزل الحرير (ـ 10 %) ـ منتجات الصناعات المعدنية، تحقق نقصًا في التالي: زهر خام ( 16.9 %) قطاعات صلب ثقيلة (8.6 %)/ شرائط ألواح على البارد ( 16.8 %)/ حديد تسليح (ـ 25.5 %)/ مواسير صلب ملحومة طوليًّا (ـ 11.1 %)/ فيرسيليكون (ـ 6.4 %). وفي المقابل تحققت زيادات في بعض المنتجات الأخرى ـ المُنتجات المعدنية (أسطوانات بوتاجاز ـ ماكينات كهربائية) حققت زيادة والماكينات غير الكهربائية (عدادات مياه) نقص إنتاجها (ـ 7.9 %) ـ صناعة وسائل النقل: اللواري (ـ 2 %)/ سيارات ركوب نصر (ـ 9.5 %)/ كابلات وأسلاك كهربائيّة (ـ 21.7 %)، وفي المقابل زاد الإنتاج من الأوتوبيسات والتليفزيون والتليفونات والثلاجة الكهربائية ـ المنتجات الكيماوية: الأسمدة الأزوتية 15.5 % (ـ 87.3 %) وزاد إنتاج إطارات السيارات والجرارات ـ منتجات الفحم الكوك (ـ 2.4 %) ـ مُنتجات الأسمنت والزجاج المسطح زادت.
جدول (2)
المُقرَّر والمُنفَّذ في مشروعات الصناعة عام 1976 بالمليون جنيه

المقرر
المنفذ
نسبة المنفذ إلى المقرر
قطاع الصناعات الكيماوية
مشروع يوريا أبي قير
البطارية الثالثة
قطاع الغزل والنسيج
شركة الدقهلية للغزل
الشركة الشرقية للكتان
قطاع الصناعات الغذائية
مشروع الملح والصودا
مصنع قها الجديد
قطاع الصناعات المعدنية الأساسية
مشروع المواسير الملحومة حلزونيًّا
مشروع الفيروسيليكون
مشروع كابلات الضغط العالي
قطاع التعدين:
فوسفات الحمراوين
-
0.7
0.2
0.2
0.3
-
0.6
3.0
0.3
2.8
19.9
3.9
4.7
3.3
1.6
1.4
5.7
4.2
1.3
3.9
517.1 %
2127.9 %
1775.7 %
526.3 %
872.3 %
140.0 %
497.4 %
137.9 %


ولا شك أن أسباب الزيادة والنقص في كل حالة، تتطلب دراسة تفصيلية تخرج عن إطار بحثنا، ولكن يُلاحظ أن نقص الإنتاج شمل صناعات أساسية وثقيلة. وعمومًا كانت الأسباب متباينة لانخفاض الإنتاج في بعض الصناعات؛ فأحيانًا كان هناك نقص في المستلزمات وقطع الغيار؛ بسبب الخلاف مع السوفيت، وعزوف الغرب عن الإمداد (كان هذا شرطًا صريحًا كما بيّنا في الفصلين الثاني والرابع، ضمن شروط وكالة التنمية الأمريكية والبنك الدولي). وأحيانًا كان نقص الإنتاج لافتعال اختناقات يستفيد منها الموردون والمستوردون.
ولكن من المؤكد أيضًا ـ وفي المقابل ـ أن زيادة الإنتاج لم تكن في كل الأحوال مما يدعو للارتياح؛ فمع التوسع العشوائي أو "المخطط" في قطاع الاستيراد، كانت الزيادة في بعض المنتجات لا تمثل توسعًا مفرحًا، بقدر ما مثلت تعلية للمخزون الراكد؛ ولذا تجددت صيحات الاحتجاج والتحذير من قيادات القطاع العام الصناعي، واضطر وزير الصناعة في ذلك الوقت (عيسى شاهين ـ وهو انفتاحي مشهور ومن عائلة انفتاحية) إلى التصريح بأن "الحماية نظام مشروع لحماية الاقتصاد القومي ككل" (96).
د ـ و.. مسألة أخرى تتعلق أيضًا بمحنة قطاع الصناعة وانخفاض كفاءته؛ فالهيئات الدولية لا تمَلّ من الحديث والضغط "لتحرير" الأسعار من الضغوط المركزيَّة؛ باعتبار هذا الإجراء مبدأ مُقدسًا للنظام الاقتصادي الرشيد، والهيئات الدولية طالبت وضغطت؛ لكي يقترب هيكل الأسعار المحلية من هيكل الأسعار في أسواق الدول الغربية، وهذه الهيئات قررت في نفس الوقت، أنه يمكن الخروج على المبدأ المقدس في مجال وحيد: "إن الوضع الجديد سيتطلب تخلصًا من أغلب هذا الجهاز (جهاز الضوابط الإدارية والتوجيهات المختلفة الأنواع) واستبدال إجراءات أقل مباشرة وأكثر تعقيدًا به.
في هذا البناء المتحرر ستعتمدُ الحكومة أساسًا على سياسات مالية، نقدية، سعرية، وسعر صرف من أجل تحقيق أهدافها. وبعض الأهداف قد تظل على أيَّة حال محتاجة إلى وسائل مباشرة، فسياسة الأجور مثلاً يمكن أن تُدار بشكل مباشر" (97). وكان هذا يعني مطالبة الدولة باستخدام سُلطاتها القانونية والقمعيَّة لإبقاء سعر قوة العمل وحدها، وفي القطاع العام وحده، عند مستوى لا يتناسب مع ما يمكن أن يفرضه التعامل الحر في السوق، ورغم المطالبة باقتراب هيكل الأسعار للسلع المادية، والخدمات من هيكل الأسعار في أسواق الغرب، تبقى سلعةُ قوة العمل وحدها دون هذا المستوى بكثير، وتعترف الهيئاتُ الدوليةُ أن ناتج هذه السياسة "أدَّى إلى زيادة الأجور في القطاع الخاص؛ مما يتمشَّى تقريبًا مع مستوى الأسعار، بينما تحققت الأجور في القطاع العام" (رغم زيادتها بحوالي 4 % في أول مايو 1976) (98)، والأرقام الإجمالية اللازمة للمقارنة بين متوسط الأجر للعاملين في شركات الانفتاح وشركات القطاع العام غير متوافرة، أو لا يرتكن إلى دقتها (99)، ولكن من المؤكد أن مرتب الموظف حديث الخبرة في بنك من البنوك الأجنبية، كان يزيد عن مرتب المدير العام لشركة الحديد والصلب المصرية! وهذا التشوُّه الفظيع في هيكل الأجور والمرتبات - خدمَ المخططات الأجنبية في اتجاهات مُختلفة: فقد تسبب من ناحية في استنزاف الكوادر المدرَّبة والموهوبة في القطاع العام، والتي كان من الطبيعي أن تتجه إلى موطن الدخل الأعلى، والمرتبة الاجتماعية الأفضل، حتى لو كانت الوظيفة الفعلية أقل فائدة اجتماعية (من حيث القيمة الإنتاجية). والمقصود بالمرتبة الاجتماعية الأفضل ليس فقط ما يُسبغه الدخل الأعلى، ولكن أيضًا ما رسخته الحملة الإعلامية المركزة، من أن القطاع العام والصناعة الوطنية رمز الفشل وانحطاط الكفاءة، والعمل في المؤسسات الأجنبية رمز النجاح والتفوق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كانت الأجور المرتفعة في الشركات الانفتاحية، عاملاً لتوثيق الروابط مع أبناء المسئولين المهمين، فعائلات المسئولين كانت رافدًا هامًا للتعيين في هذه الشركات. ولكن حدث ـ في نفس الوقت ـ أن كان مستوى الأجور المنخفض في القطاع العام عاملاً ضاغطًا على مستوى الأجور في الشركات الانفتاحية نفسها، فرغم ارتفاع هذا المستوى ـ بالمعايير المصرية ـ يظل هناك حرص من هذه الشركات، على ألا يلتقي مستوى متوسط الأجر في المشروعات العاملة في مصر، مع مستوى العاملين في مشروعات بالخارج.
على أيَّة حال، يهمنا في السياق الحالي، الاتجاه الأول: اتجاه استنزاف الكفاءات الفنية من القطاع العام، والقطاع العام الصناعي بالذات. إن التكلفة الحقيقية لتكوين وتدريب قيادات القطاع العام الصناعي هي مئات الملايين من الجنيهات التي أنفقت في استثمارات، تربت هذه الكوادرُ في إنشائها وإدارتها، وقد أصبح عاديًّا أن تتخلَّى هذه القيادات عن مواقعها (لأسباب مختلفة) لكي تشاهَد بعد فترة في مكاتبَ استشارية، أو تجارية، أو في شركات استثمار تقتصر مهمتها على إقامة مبانيَ سكنية (وهي مهمة يحذقها أي مقاول)، وفي أحسن الحالات، كانت تهجر شركاتٍ عملاقة مُعقَّدة لتعمل فيما يشبه الوِرَش الصغيرة، لقاء أجر أكبر. إن هذا التبديد للثروة البشرية أصبح من أخطر معاول الهدم للصناعة الوطنية التي أقيمت خلال عقود من النضال، وخاصة خلال الستينيات.
إلا أن تبديد الثروة البشرية لم يتحقق فقط على يد الانفتاح في الداخل؛ فقد تضافر الانفتاحُ الخارجي لتأكيد النتيجة؛ سواء بتصدير رأس المال البشري ـ بلا تخطيط وطني
أو حساب ـ للدول العربية، أو بالهجرة إلى الدول الغربية، والعمل في الهيئات الدولية، كان عبد العزيز حجازي (الرئيس السابق لمجلس الوزراء) يتمنى على الله أن نسعى وننجح في تصدير البَشر كما نسعى في تصدير البطاطس، وممدوح سالم كان لا يترك مناسبة إلا ويفاخر بأنه يمضي على الدرب، ويشجع العملية.

ويبدو أن النجاح في هذا الجانب كان الإنجاز الأكبر للحكومات المتعاقبة، في عام 1973 كانت تحويلات المصريين العاملين في الخارج تبلغ 86 مليون دولار ـ في عام 1974 وصلت إلى 205 مليون دولار ـ في 1975 كانت 535 مليون دولار ـ في عام 1976 أصبح 761 مليون دولار.. تحققت – إذًا - نبوءة حجازي، ولم تناقش هذه التحويلاتُ متحصلاتِنا من تصدير البطاطس أو حتى الأرز، بل حلَّت (عام 1976) محل القطن (خامًا ومُصَنَّعًا) كمصدر أول للنقد الأجنبي.
هـ ـ التعامل مع العالم الخارجي:
استطرادًا للنقطة الأخيرة، نلقي نظرة إجمالية على تطور العلاقات الاقتصادية الدولية خلال عام 1976. ومع استبعاد تحويلات العاملين في الخارج، نلحظ في حساب تصدير الخدمات زيادة ملحوظة في متحصلات قناة السويس والسياحة، وكانت هذه الزيادة المتوقعة من العوامل التي استند إليها تفاؤل القيادة السياسية، عند استقبالها لعام 1976، واستخدمت هذه الزيادة المتوقَّعة (إعلاميًا وعلى نطاق واسع) لتسويق اتفاقية الفصل الثاني للقوات. ولكن حدث أن تضمنت النتائج النهائيةُ لميزان المدفوعات عددًا من "المُصادفات"، فقد انخفضت متحصلات قناة السويس عما كان مقدرًا في خطة 1976 (122 مليون جنيه بدلاً من 140)، وصحيح أن الزيادة المحققة في بند السياحة عوضت هذا النقص، ولكن واصلت المنح المقدمة للاقتصاد المصري هبوطها مع استلاك دخل القناة وبترول أبي رديس. هبطت المِنح (أساسًا من دول الخليج وحصة محدودة من الولايات المتحدة) من المستوى الذي بلغته عام 1974، إلى مستوى منخفض في عام 1976. كان النقص بحوالي 250 مليون جنيه (حوالي 640 مليون دولار)، وهذا النقص في الدعم (بالإضافة إلى النقص في دخل القناة عن المتوقع) كان متقاربًا (أو أكثر قليلاً) من مجمل الزيادة المحققة عام 1976 في الدخل السياحي وفي رسوم القناة وفي فائض الميزان النفطي ـ وبالتالي لم تؤد اتفاقية الفصل الثاني إلى النتائج الإيجابية (التي قيل عنها الكثير) في ميزان المدفوعات.
ونذكر أن عرضنا السابق أوضح انهيار الترجيحات السياسية حول مشروع مارشال العربي، وكانت الترجيحات تؤدي إلى تحقيق أهداف الاستثمار (بشريحتيه)، والتوصل إلى خفض العجز الجاري إلى 1200 مليون جنيه (مقابل 1400 مليون جنيه عام 1975)، ولكن الأوهام حول مشروع مارشال، لم تتبددْ في حدود أنها لم ترتفع بالتحويلات الخليجية عن المستوى المحقق عام 1975، أو بمعنى الفشل حول اتفاق طويل الأجل للمعونات، ولكن وصل انهيار الأحلام إلى حد انخفاض الحجم المطلق للتدفقات النقدية ـ بأشكالها المُختلفة ـ عام 1976، فالودائع التي بلغت 1400 مليون دولار (1975) لم تتجاوز 275 مليون دولار (1976)، (200 مليون الكويت + 50 مليون إمارات + 25 مليون قطر + لا شيء السعودية) ولم تتقدمْ دول الخليج لضمان الحكومة المصرية للاقتراض من الأسواق النقدية الدولية (كما حدث عام 1975)، وإيران عزفت خلال 1976 عن التقدم بأي قرض جديد، ومبالغ الدعم (الهبات) انخفضت كما أوضحنا بأكثر من مقدار الزيادة في القناة والسياحة والبترول، وعمومًا، فإن دولَ الخليج العربيَّةَ، بدلاً من الإسهام في مشروع مارشال، أحدثت خفضًا حادًا في مجمل إمدادها، تمامًا كما توعَّدت الهيئات الدوليةُ، فبدلاً من حوالي 2570 مليون دولار عام 1975، وصل المستوى إلى 840 مليون دولار فقط عام 1976 (أي إلى 32 % من حجم تدفقات العام السابق)، والقروض المتوسطة والطويلة الأجل من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية oecd ومن أوروبا الشرقية قدرت بحوالي 665 مليون دولار، أي كانت هذه التدفقات الرأسمالية، أقل أيضًا مما كانت تقدره السلطاتُ المصرية، وصافي التدفقات المستخدمة من هذا المصدر كان محدودًا؛ سواء بسبب ضخامة التدفُّقات العكسيَّة؛ سدادًا لأعباء الديون القديمة؛ أو لأن قسمًا كبيرًا من القروض كان مقيدًا بمشروعات، وبالتالي كان السحب على هذه التسهيلات بطيئًا. وحتى بالنسبة (للمعونة) الأمريكية التي كان مفروضًا أن تسهم إسهامًا محسوسًا في تمويل العجز الجاري، من خلال تمويل واردات استهلاكية ووسيطة في حدود 400 مليون دولار (وفقًا لاتفاقيات القروض السلعية مع وكالة التنمية)، حدث أن هذا التقدير لم يتحقق؛ حيث اتجهت اعتمادات المعونة بنسبة أكبر من المقرر إلى المشروعات الاستثمارية، وكانت النتيجة الحتمية لكل هذا (في ظل السياسات الانفتاحية الأخرى) أن ازدادت حدةُ الاختناق في العلاقات الخارجية للاقتصاد المصري، واستخدمت التقلُّصات والاختناقات في المراحل المختلفة من المفاوضات مع الجهات الدولية طوال العام، كما أشرنا.
وبالنسبة للصادرات السلعية، كانت الحصيلة بالعملات الحرة (حسب البنك المركزي نحو 308 مليون جنيه مقابل 168 مليون جنيه فقط عام 1975 (بزيادة 83.3 %)، ولكن ظلت هذه الحصيلة لا تغطي الواردات السلعية بالعملات الحرة (نحو 1239 مليون جنيه) رغم انخفاضها عن عام 1975 (كانت حوالي 1372 مليون جنيه)، وكانت كل التحويلات، وفائض العمليات غير المنظورة، أعجز من أن تسد هذه الفجوة الكبيرة والسفيهة. والحقيقة أن الصادرات إلى الأسواق الغربية ـ رغم زيادتها ـ كانت أقل من الأرقام المُستهدَفة، وبالتأكيد لم يكن متوقعًا - في كل الأحوال - أن تتوسَّع الصادرات إلى هذه الأسواق إلى حد يتناسب مع أهداف الاستيراد منها (والتي يقرر تقرير المتابعة المبدئي أنها كانت أهدافًا تزيد عن الحاجة)؛ فالأسواق الغربية لم تتخذ قرارًا بزيادة حصتها من القطن المصري. وهي ترفض منتجات الصناعة المصرية. والنفط الخام (ومشتقاته) كان السلعة الوحيدة التي تُباع بالكامل بالعملات الحرة (وخريطة تسويق الغربية)، ولكن حدث أن تضمن اتفاق التجارة بين مصر والهند تبادل منتجات الحديد والصلب الهندية والقمح، مقابل النفط الخام المصري (500 ألف طنًا سنويًّا) والفوسفات الخام والأرز (100). ويعكس هذا أن النفط المصري واجه أيضًا الموانع في الأسواق الغربية (هل يمكن أن يكون كل هذا مجرد صُدفة؟).
صاحب هذا الوضع أن استمر اتجاه عام 1975 حيث فاقت الصادرات إلى الدول الاشتراكية حاجتنا إلى الاستيراد منها، (فزيادة الاستيراد ممنوعة سياسيًّا)، واستُخدِم هذا الفائض ـ كما في العام السابق ـ "سدادًا للديون بمعدلات أسرع مما كانت تتوقعها هذه الدول نفسها" (101). ومن الطريف أن عام 1976 بالذات شهد مطالبات مجددة، ومحادثات رسمية طويلة، كان الجانب المصري يلح أثناءها على جدولة الديون، أي إبطاء معدلات السداد.
والخلاصة أن هذا الموقف في عام 1976 أدى إلى نفس نتيجة العامين السابقين: تدهور الميزان التجاري وميزان العمليات الجارية مع الدول التي تتوسع في الاستيراد منها، دون زيادة مكافئة أو مقاربة في التصدير، بالإضافة إلى تراكم الالتزامات الناشئة عن استخدام القروض والتسهيلات المصرفية، وتسهيلات الموردين. ولكن على عكس ما حدث عام 1974 شحت الموارد الإضافية السهلة، ولعبة استخدام التسهيلات المصرفية لسد الفجوة التمويلية، كانت قد استنفذت أغراضها في الإغراق والإرباك، فتوقفت البنوك الأجنبية عن سخائها الشاذ، وعادت إلى المستويات الطبيعية من الإقراض. وهذا الترتيب كانت البنوك قد بدأته عام 1975، ولكن تكفَّلت الموارد الاستثنائية (الودائع العربية والقرض الإيراني) بمواجهة الالتزامات، وخاصة في سداد الديون القصيرة الأجل لدى البنوك الغربية. ولكن حين انقطعت هذه الموارد عام 1976، اضطرت الحكومة إلى مد يدها للاقتراض المصرفي مرة أخرى، فزاد صافي الاقتراض بحوالي 250 % عن الرقم المقابل عام 1975. ولكن البنوك الأجنبية لم تكن لتسمح بعودة اللعبة، فنضبت موارد التسهيلات المصرفية مع التأخر في السداد الذي تواصل وتصاعد في النصف الثاني من العام، فبلغ في نوفمبر نحو 92 يومًا ـ ونضبت في نفس الوقت تسهيلات المورِّدين مع التأخير في السداد بنحو 6 شهور، وبالتالي فرض على السلطات المصرية فرضًا أن تخفض أهدافها الاستيرادية (من السلع الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية)، وخاصة في النصف الثاني من عام 1976. كان مستهدفًا أن يكون الاستيراد خلال العام 1488 مليون جنيه، فانخفض إلى 1016.5 مليون جنيه، وانخفض عجزُ العمليات الجارية من 1204.5 مليون جنيه (كما كان مستهدفًا) إلى 593 مليون جنيه، دون أن يمثل الخفض ظاهرة صحيحة، أو محاولة ترشيد. "إن هذا الموقف فرض على الاقتصاد المصري سنة 1976، وكان مرجعه عجز الموارد ومصادر الاقتراض أساسًا، وكان من نتائجه زيادة خطورة الموقف في عام 1977؛ نظرًا لضخامة التركة الاقتصادية التي ورثها هذا العام"(101).
ولكنْ رغم كل هذه المصاعب، لم يكن ممكنًا للحكومة ـ بالتعليمات الخارجية والضغوط الداخلية ـ أن تعود إلى التحكم في مجال التجارة الخارجية والاستيراد، بل زادت الفوضى، وخرجت العملية عن يد أيَّة إدارة (راجع التطورات الفعلية في مجال التجارة الخارجية ـ الفصل السادس). وانفتح باب آخر لاستنزاف النقد الأجنبي النادر من خلال المدينة الحرة: بورسعيد (102). وبالتالي تحقق خفض الواردات في ذلك العام بقرارات جُزافية، أو حسب وزن "مراكز القوى" التي يتم الاستيراد بواسطتها، فتضاعفت الاختناقات والارتباكات.



خامسًا ـ تأجيل موعد إعلان الاستسلام:
1- التطورات السياسية:
أ ـ في ختام هذا الفصل، نعرض التطوراتِ السياسية والاقتصادية المُكثَّفة في نهاية العام:
شهد شهر أكتوبر ـ كما ذكرنا ـ هجومًا عنيفًا على الجبهة الاقتصادية؛ بهدف انتزاع انتصار حاسم، ونفس الشهر شهد المعركة الانتخابية لمجلس الشعب، وكانت مسرحًا لتحرك دعائي سياسي نشِط من قوَى المعارضة, خاصة في المدن الرئيسَة، وعبَّر هذا التحرك عن سَخَط الجماهير والقوى الوطنية على سياسة الانفتاح (103). وظل أثر هذا النشاط باقيًا ومنذرًا في الشارع المصري.
وفي أواخر الشهر (28 أكتوبر) توجَّه الناخبون إلى صناديق الاقتراع للجولة الأولى من انتخابات مجلس الشعب. وحين أُعلِنت النتائجُ النهائية، كان حزب الحكومة (حرب مصر العربي الاشتراكي في ذلك الوقت) قد حصل على أكثر من 80 % من مقاعد المجلس. ولكن كان التنقيب خلف هذه الواجهة يكشف أن حزب الحكومة حصل في القاهرة والإسكندرية على 31 مقعدًا فقط من 58 (أي بالكاد على الأغلبية: 53 %). والقاهرة والإسكندرية هما المقياس الحقيقي للوزن السياسي المؤثر. وقد تحققت هذه النتيجة في المدينتين رغم تدخل الجهاز التنفيذي (بأشكال مختلفة) لإنجاح مرشحي الحكومة. ونُشير - في هذا السياق - إلى دلالة فوز أبي العز الحريري بمقعد العمال في نفس دائرة ممدوح سالم (دائرة كرموز ـ الإسكندرية). وأبو العز خاض معركة سياسية صريحة، ونجح على أساس أنه معارض عنيد لسياسة الحكومة (من موقع اليسار) (104). ونذكر أيضًا أن كل أعضاء الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي، سقطوا في الانتخابات.
ب ـ أثناء نفس الفترة (أوائل نوفمبر) كانت الأطراف المختلفة، تستعد لاحتمالات الفصل الجديد من التحرك السياسي، والتحرك في المجالات الأخرَى، بعد اكتساح الديمقراطيين للانتخابات في الولايات المتحدة، على مستوى الرئاسة (بفوز جيمي كارتر)، وعلى مستوى مجلس النواب والشيوخ في الكونجرس، وعبرت القيادة المصرية عن قلقها من نتائج الانتخابات الأمريكية، بمظاهر التقرب التقليدية من الاتحاد السوفيتي، فاجتمع وزيرُ الخارجية المصري (إسماعيل فهمي) مع أندريه جروميكو في صوفيا (أول اجتماع بينهما منذ أبريل 1975)، وكان طبَعيًّا أن يتشدد السوفيت - أثناء المحادثات - لتحديد شروطهم لتحسين العلاقات (105). ولكن أظهرت القيادة المصرية - رغم ذلك -اعتدالاً في ردود فعلها؛ ففي جلسة افتتاح مجلس الشعب (11 نوفمبر) قال السادات: "إننا لنقرر أن يدنا دائمًا ممدودةٌ إلى كل دولة صديقة، خصوصًا إذا كان بيننا تاريخ وتعاون وتفاهم طويل، طالما أن الطرف الآخر يحترم إرادتنا، ويقيم معنا علاقاتٍ صريحةً ومتوازنة" ـ في نفس الخطاب أرسل تحية مُتحفظة إلى كارتر بمناسبة انتخابه، "ونرجو أن يكون مُتفهِّمًا لعدالة القضية؛ حتى تتطور العلاقات مع أمريكا بالمنطقة إلى أحسن" ـ وبالنسبة للعالم العربي، قال السادات: إن المبادئ التي تحكُم سياسة مصر هي الإيمان، بأن التضامن العربي هو الأصل، وأشاد بعودة العلاقات بين "أصحاب قرار 6 أكتوبر التاريخي"، أي: بين مصر وسوريا.
(2) اشتداد الضغوط الاقتصادية:
ويبدو أن القيادة المصرية تصوَّرت أن دور "الرياض" ودول الخليج في التمهيد لمرحلة التحرك السياسي مع الولايات المتحدة، والذي انعكس في اتصالات ومؤتمرات جمع الشمل بين القاهرة ودمشق، يمكن أن يمتد إلى الدعم الاقتصادي؛ لتحسين الموقف السياسي للمفاوض المصري. وعبَّر الساداتُ عن هذا المعنى بصراحة (13 نوفمبر) فقال إن دول الخليج "أنشأت بالفعل صندوقًا لتزويدنا بمليارَي دولار خلال السنوات الخمس القادمة، وأنا في حاجة إلى 10 مليار؛ ولهذا السبب أقوم الآن ببحث الموضوع برُمَّته مرة أخرى معهم" (106).
وكما نعلم، كان الاقتصاد المصري في حالة إعمار شديدة خلال هذه الفترة، والجهات الأجنبية (وعلى رأسها صندوق النقد) تُستخدَم هذه الحالة لانتزاع الاستسلام، ولا تقبل أيَّة مساومة. وقد عبَّر التشكيل الوزاري الجديد (برئاسة ممدوح سالم) عن مدَى استجابته لهذه الضغوط، بالتغييرات التي أصابت المسئولين في القطاع الاقتصادي، (وهي تغييرات طالبت بها مذكرة بول ديكي ـ ونعلم أن المستويات الأعلى من ديكي حدَّثتْ المستوياتِ الأعلى من السلطة المصرية في هذا الأمر بصراحة أكبر).
وجاءت المجموعة الاقتصادية في التشكيل الوزاري الجديد، برئاسة عبد المنعم القيسوني، وهو رجلٌ اعتبرته الإدارة الأمريكية باستمرار مُتفاهمًا" (107)، وأوضح الرئيس في حديثه إلى وفد من أعضاء الكونجرس الأمريكي أن اختيار القيسوني وزملائه كان مقصودًا؛ باعتبار أنهم "من المعروفين باتجاهاتهم الاقتصادية الليبرالية" (106) وللحقيقة كان تركيب المجموعة متجانسًا، باستثناء وزير التخطيط (محمد محمود الإمام) الذي كان من عدم التوفيق أنهم احتفظوا له بموقعه؛ فهو ليس مجرد تكنوقراطي ذي كفاءة رفيعة، ولكنه صاحب نظرة وطنية شاملة لقضايا التنمية، وهو بحكم ذلك صاحب دراسات هامة تَدحض المفاهيم الانفتاحية، وكان شجاعًا في مواصلة الدفاع العلني عن تحليلاته واستنتاجاته بعد اختياره للوزارة.
على أيَّة حال، بعيدًا عن قضية وزير التخطيط (الذي تخلصوا منه بعد فترة) كان منظر المجموعة الاقتصادية، والصلاحيات التي خُوِّلت لها - نذيرًا بأن لحظة الاستسلام قد حانت. ولا ينفي هذا أن المجموعة الاقتصادية جددت الاتصال بهيئة الخليج؛ على أمل الحصول على أيَّة إمدادات لتحسين موقفها أمام الصندوق، وتدعمت الاتصالات بزيارة حسني مبارك (نائب رئيس الجمهورية) في أواخر نوفمبر إلى دول الخليج العربية وإيران، ولكنْ لم تسفر كل هذه المحاولات عن شيء.
في 11 ديسمبر ألقى ممدوح سالم بيانه عن برنامج الحكومة، فأكد في السياسة الخارجية التوازن بين الدولتين العُظمَيَين، وأنهما يَتحمَّلان معًا مسئولية العمل على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال صيغة مؤتمر جنيف، مع ضرورة حضور منظمة التحرير الفلسطينية. وكان الرئيس السادات قد أعلن في خطاب نوفمبر: "إننا نعرف جميعًا، ونحس جميعًا، بكل ما يشكو الشعب منه من مشكلات في حياته اليومية، وقد كلفت رئيس الحكومة الجديد، أن يقدم لكم بيانًا مُفصلاً لما لدى الحكومة من حلول واتجاهات حول هذه القضايا جميعًا".
وفي هذا المجال، لم يقصر فعلاً رئيس الحكومة، فقال أحلى الكلام والأماني حول الغذاء والإسكان والنقل والمواصلات ـ ترشيد الزيادة السكانية ـ خطة خمسية للتنمية ـ الإصلاح الإداري ـ العدل الاجتماعي ـ الحد من التضخم. واحتوى بيان الحكومة - كذلك - على عرض إنشائي عظيم لمشكلات ابتلاع الاستهلاك لمعظم الناتج ـ تعثر نشاط القطاع العام ـ ضعف مساهمة القطاع الخاص ـ ظواهر الاستغلال والمضاربة والتلاعب بقوت الشعب ـ التهرب من الضرائب ـ الإثراء غير المشروع ـ الانحراف بسياسة الانفتاح عن أهداف زيادة التنمية، وخلق فرص العمل واستجلاب التكنولوجيا الحديثة.. إلخ (108).
ولا شك أن الكلام كان ممجوجًا، وكان واضحًا أيضًا أنه غير جاد؛ فرئيس الحكومة، كان ينتقد السياسات الانفتاحية التي مُورست تحت رئاسته لأكثر من عام ونصف. وسيد مرعي (رئيس المجلس والمسئول الكبير) أدلى أيضًا بدلوه، فحين هاجم العضو اليساري أبو العز الحريري كلَّ نتائج سياسة الانفتاح، وطلب "إعادة النظر في هذه السياسة في مجالاتها المختلفة" علق سيد مرعي: "إنني للحقيقية أشارك السيد العضو أبا العز الحريري بالنسبة لنظرته في الانفتاح الاقتصادي (...) إن الانفتاح يجب أن يتم في إطار خطة التنمية من أجل المجتمع؛ ولذا فإن بعض المظاهر التي نراها اليوم، هي في حقيقتها مظاهر مؤقتة أرجو أن تزول قريبًا"(109).
من أخذ الموضوع على محمل الجد ـ من أعضاء مجلس الشعب ـ كان مشروعًا أن يناقش بيان الحكومة على أساس أن الحالة مزدهرة، وبالتالي لم يكتفِ هؤلاء بالوعود المسرفة التي قدمها رئيسُ مجلس الوزراء، ولكن طالبوا بالمزيد. قال بيان الحكومة: "إنها سوف تعمل - في إطار استراتيجية واضحة الأهداف والأولويات - على توزيع الأعباء بين الجيل الحاضر، الذي يجب ألا يتحمل وحده كل أعباء التحرير وإعادة البناء، وبين الأجيال القادمة التي سوف نضمن لها - عن طريق جهود التنمية - المستقبلَ الكريم". ويعني هذا التزامًا صريحًا من الحكومة، بأنها لن تعمد إلى إجراءات تقشفيَّة، ولكن لجنة الرد لم يعجبها هذا الكلام، فطالبت بمزيد من الوعود "فاللجنة تخشَى أن يغري التزام الحكومة بتوزيع الأعباء على الأجيال، فتترك هذا الجيل يعاني من المِحنة أكثر مما يُحتمل" (110).
إلا أن القيادات الواعية في مجلس الشعب، كشفت أنها بصدد وعود جوفاء، فأوضح خالد مُحيي الدين (مقرر حزب التجمع) أن "معظم الأهداف المحددة في البيان طموحة أكثر من اللازم، ولا تستندُ على إمكانيات فعلية للتنفيذ، وليس محددًا بالنسبة لكل منها الوسيلة أو الوسائل الكفيلة بتنفيذها". وتحدث أعضاء آخرون في نفس الاتجاه، وتساءلوا عن حقيقة الموارد التي تعتمد عليها الحكومة لتمويل مشروعاتِها (111).
ولكنْ حتى هذه القيادات السياسية، لم تكن تعلم أن كذب الحكومة ليس بمعنى المبالغة في الوعود، ولكن بمعنى أن الصورة معاكسة تمامًا لما أظهرته الحكومة؛ إذ لم يكن لدى الحكومة ما تقدِّمُه للناس، ولكن كانت تبحث في الحقيقة عمَّا ستأخذه. ولم يكن هناك من يعرف في تلك الأيام الوقائع التي كشفناها في هذا الفصل (خارج دائرة محدودة في قمة الجهاز السياسي والاقتصادي). لم يكن معروفًا أن حالة الإعسار (التي نشأت عن سياسة الانفتاح) كانت في أعلى ذروة، أثناء وعود ممدوح سالم الورديَّة، وأثناء مناقشات مجلس الشعب. وفقط بعد حوالي العام من هذه المناقشات، أعلنت الحكومة الصورة الحقيقة: "التأخير في السداد وصل في بعض الأحيان في أواخر 1976 وفي بداية 1977 إلى 120 يومًا في التسهيلات المصرفية، وإلى 180 يومًا في تسهيلات الموردين.. وقد بلغت المتأخرات المُستَحقة علينا في أواخر 1976 حوالي 185 مليون جنيه من التسهيلات المصرفية، وحوالي 37 مليون جنيه من تسهيلات الموردين وأكثر من 20 مليون جنيه من الالتزامات الأخرى، وعلاوة على هذه المتأخرات في التسهيلات المصرفية وتسهيلات الموردين، كانت هناك طلبات استيراد سلعي معلقة في البنوك التجارية وفي البنك المركزي بلغت نحو 141 مليون جنيه، رغم أن بعض الواردات المطلوبة، كانت وارداتٍ مهمة مثل واردات التموين والسلع الوسيطة.. إلخ، وإذا أضفنا رقم الواردات السلعية المعلقة إلى رقم الديون المستحقة والمتأخرة علينا في نهاية 1976 لتبين لنا أن حجم المتأخرات من الديون وحجم الموقوفات من طلبات الاستيراد، كان يقرب من 400 مليون جنيه (حوالي 1025 مليون دولار) اضطررنا إلى مواجهته سنة 1977 (112).
هذه الوقائع حَول الإعسار (أو الإفلاس) لم تكن معروفة، والفشل لدى دول الخليج في سد الفجوة التمويلية التي أعلن عنها في بداية العام (راجع بداية الفصل) لم يكن معروفًا. وحتى حين أعلنت الحكومة بيانها (الذي سجلناه) حول الموضوع في آخر 1977، لم يكنْ الإعلان كاملاً؛ إذ حرصْت الحكومة على إخفاء موضوع الودائع العربية، والتأخر في سداد التزاماتِنا منها.
المسألة الأخرى التي لم يعلمْها المتناقشون في حينها، هي أنه بينما كان مجلس الشعب يناقش كلام الحكومة كما
لو كان جدًا، كان البحث الفعلي (وفْق المعلومات الكاملة)، وكان تقرير السياسات، يتحقق سرًا - في خط مخالف، وفي موقع آخر - بين بعثة صندوق النقد الدولي برئاسة جون جنتر، وبين المجموعة الاقتصادية برئاسة نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية.

وقد استمرت المباحثات في شهر ديسمبر 12 يومًا. طلب الصندوقُ في المباحثات تسليمًا كاملاً بكل مطالبه الأساسية على الفور، وبدءًا من ميزانية أول يناير 1977، وأوضحت البعثة أن التسليم هو الثمن الوحيد المقبول لتقديم معونات نقدية عاجلة، تحل مصيبة متأخرات الديون، وبمعنى آخر كان المطروح هو التسليم أو الجوع والأزمات التموينية، فضلاً - طبعًا - عن وقف تحرك البنك الدولي لعقد اجتماع المجموعة الاستشارية، أي تأجيل الاتصالات الدولية حول تمويل الخطة الخمسيَّة (وقد تأجَّل الاجتماع بالفعل ـ كإجراء مؤقت ـ من يناير إلى مارس، في انتظار تصرُّف الحكومة)، ويبدو أن جنتر عاد إلى واشنطن، والجانب المصري لا زال يعارض في بعض الشروط؛ إذ ظلت هناك آمال حول مبادرة سعودية، تُتيح هامشًا للمناورة، فَجَرَت اتصالات عبْر قنوات رسمية وغير رسمية.
وفي 30 ديسمبر، كان السادات يربط خيوط الموقف معًا، (فدعمًا لموقفه مع سوريا) قال: "نحن كعرب جميعًا مسئولون عمَّا حدث في لبنان، وأنا منهم، وأنا لا أبرِئُ أحدًا منا.. نحن جميعًا خسرنا، والرابح الوحيدُ هو إسرائيل، ولكن الحمد لله بعد لقاء الرياض والقاهرة، عاد التضامن بأقوَى مما كان". (وللتفاهُم مع السعودية) حيَّا موقف الأمير فهد في قضية أسعار النفط؛ بمعنى أنه قرار سياسي لإعطاء الرئيس الأمريكي فرصة، وقال: "علينا - وفي مقدمتنا السعودية - أن نضع الصورة الحقيقية أمام جيمي كارتر (...) وفي تقديري أن الأمير فهد، كفيل بأن يقوم بهذا من أجل دخولنا كأمة عربية على سنة حافلة هي سنة 1977". وأضاف بعد هذا، أنه متفائل جدًا بكارتر "فحين أعرف أن لكارتر خلفيةً دينية، وأنه مؤمن، أسعد كل السعادة؛ لأن المؤمن يَحكمُه الخلق والمبادئ، والذي أخاف منه وأخشاه، ذلك الذي لا تحكمه الخلق والمبادئ. وبالعكس أنا أرحب جدًا بكارتر، وهذا جزء من حساباتي، وهناك حسابات أخرى كثيرة لم يحِن الوقت بعدُ للكلام عنها". وفي النهاية ربط السادات كل ذلك برسالة للعرب، يقول فيها ـ من جديد ـ إنه يريد "مشروعًا مثل مشروع مارشال. أنا لا أطلب معونات دون مقابل، أنا أطلب قروضًا فقط، وأدعو إخواننا العرب أن يأتوا ليشاركوني كما شاركتْ أمريكا أوروبا. أقول لهم تعالوا أحيوا كل شيء وأنتم شركائي" (113).
ولكن الدعوة لمشروع مارشال العربي في آخر العام، لم تكن أسعد حظًا من الدعوة لهذا المشروع في بداية العام. صحيح أن الاتفاقية الأولى مع هيئة الخليج وقعت في 25 ديسمبر، ولكن هذا التوقيع لم يكن بمثابة رد من الخليج على الاتصالات المصرية؛ فالرد الحقيقي جاء من ويتيفين رئيس صندوق النقد الدولي، الذي أرسل إلى ممدوح سالم وجهة نظر الصندوق النهائية فيما يجب اتخاذه من قرارات وإجراءات (بعد المشاورات مع جنتر في واشنطن)، وجاء في الرسالة أنه يقدر الصعوبات السياسية التي تُحيط ببعض الإجراءات الواجب اتخاذها، ولكنه يراها ضرورة تسبق انعقاد مجلس مديري الصندوق لتقرير مساعدة مصر خلال هذا العام، والعامين التاليين (114). وفي انتظار رد الحكومة، ظل استخدام القرض النقدي لهيئة الخليج معلقًا.
ولكن يحسُن أن نختم حديثنا عن هيئة الخليج (في هذا الفصل) بتسجيل ملاحظة هامة حول تطور الديون المصرفية والمتأخرات؛ فالتوقف عن سداد الالتزامات يخضع أيضًا لقواعد وبروتوكولات؛ ولذا يلاحظ في الموازنات النقدية أن ديون الولايات المتحدة والهيئات الدولية ـ مثلاً ـ لها أولوية في السداد، ولا تحدث فيها متأخرات. ولكن يحدث ذلك مع جهات أخرَى؛ ضمنها الجهات العربية. وفي قطاع الديون المصرفية (أصعب أنواع الديون والمرشح أكثر من غيره لتراكم المُتأخِّرات) وصلت مبالغ الديون القائمة في نهاية 1976 إلى 2297 مليون دولار (شاملاً المبالغ غير المُستخدَمة)، والمبالغ القائمة في نهاية 1976 إلى 2297






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس