عرض مشاركة واحدة
قديم 05-29-2009, 12:11 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: ملامح شخصية الخليفة العباسى (عبد الله المأمون) فى حكايات ألف ليلة وليلة

وبالعودة إلى الحكاية السّابقة » حكاية المأمون وزواجه بخديجة «، يمكن القول إنّ خديجة لن تكون في قصر الخليفة المأمون إلاّ جارية كما حدّد لها والدها الحسن أن تكون. وستنحصر مهمّة هذه الجارية في كونها سلعة جميلة باهظة الثّمن، ينحصر دورها في التّرفيه عن الخليفة جنسيّاً، وفي تبديد كآبته بصوتها الجميل جداً. وعندما تتحوّل العلاقات الإنسانيّة بين أفراد المجتمع إلى علاقات جنسيّة و سلعيّة، فإنّها تساهم في تأبيد عبودية المرأة، وفي تأبيد تخلّف المجتمع، وبالتّالي في استمرار علاقات القوّة والسّيطرة والتحكّم(35) في المجتمع الذي يقوم، في تركيبته السياسيّة و الاجتماعيّة، على التباين الطبقي الحادّ و على امتلاك القويّ فيه لكلّ شيء.
و إذا كان الخلفاء و الملوك و الأمراء في الليالي، أو في المدينة العربيّة الإسلاميّة يستطيعون امتلاك أجساد النساء بالسطوة و الإرهاب و الأموال، فإنّه ليس من الضروري أن يمتلكوا أرواحهنّ وعواطفهنّ، و و تطلعاتهنّ الجنسيّة الأخرى صوب رجال من خارج القصر. فعلى سبيل المثال يشير أبو فرج الأصفهاني إلى أنّ الخليفة المأمون اشترى المغنيّة المتميّزة عريب بمائة ألف درهم(36)، لكنّه لم يستطع أن يمتلك روحها التوّاقة إلى عشيقها محمد بن حامد، فقد كانت تحتال للخروج من قصر المأمون و زيارة عشيقها في منزله، على الرغمّ من أنّ المأمون: » حبسها في كَنيف مظلم شهراً لا ترى الضوء، يُدخَل إليها خبز و ملح و ماء من تحت الباب في كلّ يوم «(37)، علّه يمنعها من لقاء عشيقها محمد بن حامد، إلاّ أنّه لم يستطع، و بعد أن أفرج عنها، أن يكبح جموحها و توقها الجنسيّ لهذا العشيق، فقد كانت تخرج من قصره، إذا هبط الظلام و تتوّجه إلى دار عشيقها محمد بن حامد. و يروي أحمد بن حمدون عن أبيه: أنّه كان خارجاً في ليلة ظلماء ذات رعود و بروق، بأمر من المأمون، لإيصال رسالة من رسائله، فـ » برقت بارقة فأضاءت وجه الراكب، فإذا عريب، فقلت: عريب؟ قالت: نعم، حمدون؟ قلت: نعم. ثمّ قلت: من أين أقبلتِ في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: و ما صنعت عنده؟ قالت عريب: يا تكش(38)، عريب تجيئ من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مَضْرب الخليفة و راجعة إليه، تقول لها: أيّ شيء عَملتِ عنده؟ صَلَّيت معه التراويح؟ أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارست شيئاً من الفقه، يا أحمق تعاتبنا، و تحادثنا، و اصطلحا و لعبنا، و شربنا و غنيّنا، (...) و انصرفنا، فأخجلتني و غاظتني و افترقنا. «(39).
إذا كان إسحاق الموصلّي، في الحكاية السابقة، هو الذي وصف للمأمون جمال خديجة بنت الحسن، قائلاً: » جارية كأنّها البدر الطالع «(40)، فإنّه في الواقع التاريخيّ هو الذي وصف له جمال الجارية عريب، و شجّعه على شرائها، فما كان من المأمون إلاّ أن أمر كاتب نفقاته إبراهيم بن رباح أن يشتريها(41). و يبدو أنّ أفعال و مواقف ندماء الخلفاء و عبر تاريخهم الطويل كانت مكرّسة لخدمة الخلفاء، فبالإضافة إلى أنّهم ندماء ظرفاء مُرفّ*هون ـ بكسر الفاء ـ عن الخليفة، فإنّهم دلاّلون له على النساء الجميلات المتميّزات في دولته. و حتّى يستطيع النديم الوصول إلى مكانة مهمّة عند الخليفة أو الملك، عليه أن يتحلّى بمجوع من المزايا الأخلاقيّة، و منها أن يكون ذكيّاً، فـ » الذكاء أوّل ما يجب أن يتّصف به من يخالط السلطان و يلازمه لأنّ صحبة السلطان لا تليق بذوي الجهل، و ذكاؤه عدّته للخروج من كثير من المتاعب التي قد يتعرّض لها. و لذا ينبغي أن يكون جليس السلطان و أنيسه جامعاً لخصال كثيرة أهمّها: » العقل، فإنّه رأس الفضائل، و العلم، فإنّه من ثمار العقل «.و إذا كان العقل أهمّ صفات فهذا يعني أنّه يجب أن يكون قادراً على ان يفهم ما يريده الملك الذي يجالسه و يقرّبه، و لذلك قيل: » ينبغي للنديم أن يكون كأنّما خُلِق من قلب الملك، و يتصرّف بشهواته، و يتقلّب بإرادته، لا يملّ المعاشرة، و لا يسأم المسامرة. «. «(42).
و يبدو أنّ إسحاق الموصليّ كان جامعاً لخصال كثيرة تؤهله لأن يكون نديماً متميّزاً عند المأمون و مفضلاً على غيره من الندماء الكثيرن الذين كانوا يحضرون مجلسه، فقد » كان عالماً فقيهاً و شاعراً مجيداً، و أديباً أريباً، و نديماً جمّ الظرف حلو الشمائل، و جليساً لطيف المعاشرة (…) لا يستغني عنه الخلفاء. و راوية يروي أخبار القدامى و المحدّثين بل و كثيراً ما كان يصحح خطأ من ينسب الأشياء إلى غير قائليها. و كان مغنيّاً عارفاً بفنّ الغناء تمام المعرفة، و عازفاً ماهراً، و ملحناً بارعاً. «***(43).
و تشير حكاية: » الجواري المختلفة الألوان «، إلى دور النديم في تقديم الجواري للخليفة و تعريفه بهنّ من خلال أوصافهنّ المثيرة، و قدراتهنّ على المسامرة و المنادمة، و حفظهنّ الشعر، و بالتالي تحريض الخليفة على شرائهنّ. فقد كان من جملة ندماء الخليفة المأمون في الحكاية نديم يسمّى محمد البصري، و ذات ليلة يسأله المأمون أن يحدّثه بشيء لم يسمعه قط، فقال: » يا أمير المؤمنين أتريد أن أحدّثك بحديث سمعته بأذني أو بأمر عاينته ببصري؟ فقال المأمون: حدّثني يا محمد بالأغرب منه . «(44). و لأنّ النديم يعرف أنّ أهمّ ما يزيل هموم الخلفاء و يثيرهم في مجتمع عباسيّ منفتح على ثقافات العالم و نسائه و جواريه هو الحديث عن النساء فقد قرّر محمد البصري أن يكون حديثه عن الجواري الجميلات، يضاف إلى ذلك أنّ محمداً البصري عندما ينقل للمأمون أخبار النساء، فإنّ مكانته بين الندماء ستزداد عند المأمون، و سيقرّبه أكثر، نظراً لشغف الخلفاء بالنساء شغفاً لا يقاوم، و بالتالي إيثارهم لكلّ نديم يكون دلاّلاً لهم على هاته الجواري. فالبؤرة المركزيّة للحكاية التي سيحكيها محمد المصري للمأمون تضمّ » ستّ جوار كأنّهنّ الأقمار (…) و كنّ حسان الوجوه كاملات الأدب عارفات بصناعة الغناء و آلات الطرب «(45). و كانت هاته الجواري مختلفات الألوان و مملوكات لرجل يمانيّ، انتقل من اليمن و حمل ماله و جواريه، و استقرّ ببغداد مستمتّعاً بالأيام الجميلة، و الطعام و النبيذ و الطرب، و بهاته الجواري المثيرات، ذوات الأصوات و الألحان الشجيّة، القادرة على أن تجعل المكان ينفلت من سكونيّته، ليرقص تحت وقع هذه الألحان: » فأخذت [إحدى الجواري] العود، و أصلحته، و رجّعَت عليه الألحان حتّى رقص المكان «(46).
و يستمرّ النديم محمد البصري في وصف هاته الجواري و قدراتهنّ المتميّزة على المناظرة فيما بينهنّ و بين سيّدهنّ حول مفاهيم الجمال اللونيّ و الجنسيّ، و متى تكون المرأة مثيرة جماليّاً و متى لا تكون. ومن خلال المناظرة تُظهر هاته الجواري المغنيّات معرفة عميقة بأشعار الغزل التي قيلت في أوصاف المرأة المثيرة، ولون بشرتها، ثمّ تقدّم كلّ منهنّ نفسها إلى سيّدها على أنّها هي النموذج الجماليّ المثالي الذي يجب على الرجال أن يبحثوا عنه و يظفروا به(47). و ما إن ينتهي النديم محمد البصري من سرد الحكاية، قائلاً(48): » فما رأيت يا أمير المؤمنين في مكان ولا زمان أحسن من هؤلاء الجواري الحسان. «، حتّى يكون المأمون استُثير و انفجرت رغبات الامتلاك لديه، و قرّر أن يضمّ الجواري إلى حوزته، لاستكمال لذّاته بهاته النسوة التي لا يجود الزمان بمثلهنّ مرّة أخري. يقول المأمون(49) لنديمه محمد البصري: » و هل يمكنك ان تشتريهن لنا من سيّدهنّ؟ فقال له محمد: يا أمير المؤمنين قد بلغني أنّ سيّدهنَ مغرم بهنّ و لا يمكنه مفارقتهنّ. فقال المأمون: خذ معك إلى سيّدهنّ في كلّ جارية عشرة آلاف دينار، فيكون مبلغ ذلك الثمن ستين ألف دينار، فاحملها صحبتك و توجّه إلى منزله و اشتريهنّ منه. «.
لقد عُرِف عن المأمون في فترة حكمه أنّه كان شغوفاً بالموسيقى، و السماع إلى أصوات المغنّين من الرجال و النساء، و من شدّة شغفه بالغناء فقد كان في بعض الأحيان يدعو سائر المغنّين في بغداد للمثول بين يديه، و منذ الصباح الباكر(50)، ليفتتح يومه بإشعال طقوس الموسيقى، و كان في مجلسه يجلس مكللاً وسط المغنيّات الجميلات، إذا كان يُجلِس عشر مغنيّات عن يمينه و عشراً عن يساره(51) و كان يسرف في الإنفاق على هؤلاء المغنيّات وعلى غيرهنّ، فقد كانت نفقاته على مسرّاته ستّة آلاف دينار كل يوم(52). و من هنا ليس بعيدا، في الحكاية، أن يأمر المأمون بشراء جواري الرجل اليماني بستّين ألف دينار، في حين أنّ فقراء بغداد يعانون الفاقة و الجوع(53). ففي عصر الخلفاء العبّاسيين، على الرغم من الازدهار و الثراء الذي عرفته الدولة العبّاسيّة فقد » تردّى الشعب في هوّة من الفقر أشدّ عمقاً لكي يقدّم إلى الخليفة نفقات متارفه في بغداد. و كان من الطبيعيّ أن تُبتّز الأموال الضروريّة لإشباع موظفيّ الدولة و نفقات البلاط من جيوب الشعب. «(54)، ما دام هذا البلاط غارقاً في حمّى الترف و الملذّات و امتلاك النساء.
وفي الحكاية السابقة يرسل المأمون نديمه محمد البصري إلى الرجل اليمانيّ، و يعلمه برغبة الخليفة بشراء الجواري، و لأنّ الرجل اليمانيّ يعيش في بغداد غير بعيد عن جلاوزة الخليفة و سطوتهم، فإنّه يضطّر مُكرْهاً إلى بيع الجواري، و لأنّ راوي الحكاية هو محمد البصري نديم الخليفة المأمون، أو هو الراوي الذي لا يخرج عن طوع السلطان أو المُهيَّأ لأن يكون نديماً له فإنّه لا يستطيع أن يضع الرجل اليمانيّ موضع الرافض لعملية البيع، فيضطّر عندها إلى أن يقول إنّ عمليّة البيع تمّت » لأجل خاطر أمير المؤمنين «(55). فهو يعرف مسبقاً إلى أيّ مدى سوف يكون الخليفة باطشاً و مستبدّاً في حال لم تتمّ عملية البيع، و هو يعرف أنّه في ظلّ الخلفيّة المعرفيّة التي فرزتها السياسة العباسيّة من ظلم و استبداد مطلقين، و من كون الخليفة هو الآمر و الناهي، و ظلّ الله على الأرض؛ لا يمكن لأيّ رجل كان، و مهما كان ثريّاً أو سلطويّاً، أن يردّ طلب الخليفة، وهذا الرّاوي متأكدُ من أنّ الخليفة المأمون قد يلجأ إلى قتل الرّجل، أو تدبير مكيدة له، ثم مصادرة أمواله و جواريه، إذا رفض بيع هاته الجواري، عندها اضطرّ الرّاوي النّديم إلى تحقيق منطق التّصالح بين الرّعيّة والسّلطة، انطلاقاً من وجوب طاعة الرّعيّة للسّلطان، وجعل بطله اليمانيّ يتخلّى عن الجواري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يستطيع الرّاوي أن يضع الخليفة أمير المؤمنين في حالة أرق و غضب، لأنّ من مهمّته أن ينادمه و أن يزيل أرقه. وعلى المستوى البنائيّ لا يستطيع الرّاوي فيما إذا قتل اليمانيّ أن يفكّ عقدة حكايته، ويجعل مسار سرده ينمو ليحقّق غاية وظيفيّة أخرى، وهي الوصول إلى فكرة عدل المأمون و حلمه، كما سيظهر في آخر الحكاية.
و تاريخياً تشير سيرة المأمون إلى أنّه كان باطشاً وسفّاكاً، على الرّغم من حلمه وكرمه وعفوه، وتقديره للعلوم و العلماء. ويروي علي بن الحسين المسعوديّ(56) الخبر الآتي: » وغلب على المأمون الفضل بن سهل(57)، حتى ضايقه في جارية أراد شراءها، فقتله، وادّعى قوم أن المأمون دسّ عليه من قتله. «، و إذا كان المأمون، تاريخيّاً، يقتل وزيره الفضل بن سهل لأجل جارية أراد شراءها فليس بمستبعد حكائيّاً أن يقتل الرّجل اليمانيّ ـ لا يذكر الرّاوي اسماً له ـ فيما إذا امتنع عن بيع جواريه الحسان. وتقول الحكاية: إنّ الجواري عندما وصلن » إلى أمير المؤمنين هيّأ لهنّ مجلساً لطيفاً، وصرن يجلسن فيه معه وينادمنه، وقد تعجّب من حسنهنّ و جمالهنّ و اختلاف ألوانهنّ وحسن كلامهنّ، وقد استمر على ذلك مدّة من الزّمان. «(58).
ولأن للمرأة أهميّة خاصّة، لا تعادلها أهميّة أخرى، عند الرّجال في التّاريخ العبّاسيّ و ألف ليلة وليلة، باعتبارها ضروريّة جدّاً لإقامة طقوس المسرّات، فإنّ الرّجل اليمانيّ ما استطاع صبراً على مفارقة جواريه، وحنّ إليهنّ، وأرسل كتاباً إلى الخليفة المأمون، يشكو فيه ما عنده من لوعة وحزن وشوق عارم لهذه الجواري، ويقول فيه(59) :

فعلى الستّة[كذا] الملاح سلامي
وشرابي ونزهتي وطعامي
ذاهب بعدهنّ طيب منامي
ليتني ما خلقت بين الأنامي[كذا].
قد سلبت ستّ ملاحٍ حسان
هنّ سمعي وناظري وحياتي
لست أسلو من حسنهنّ وصالاً
آه يا طول حسرتي وبكائي


ولأنّ الرّاوي في هذه الحكاية هو راوٍ سلطويّ مؤدلج لخدمة فكرة العدل والكرم و المروءة عند الخلفاء المسلمين، اضطّر وحتى يُظهر الخليفة المأمون في صورة الرجل الكريم العادل، إلى أن يرجع هاته الجواري إلى سيّدهنّ. يقول(60): » فلمّا وقع ذلك الكتاب في يد الخليفة المأمون، كسا الجواري من الملابس الفاخرة وأعطاهنّ ستّين ألف دينار وأرسلهنّ إلى سيّدهنّ، فوصلن إليه وفرح بهنّ غاية الفرح، أكثر مما أتين به من المال، وأقام معهنّ في أطيب عيش و أهنأه [كذا]، إلى أن أتاهم هادم اللّذات ومفرّق الجماعات. «.
وإذا أخذنا بمنطق التّجارة المكرّس في ألف ليلة وليلة الذي يعتبر المرأة سلعة، تتحدّد قيمتها بقدرتها على إشعال طقوس المسرّات، و مجامر أجساد الخلفاء والملوك، فإنّه يمكننا القول: إنّ ما قدّمته الجواري السّت من ترفيه ومسرّات وغناء، خلال المدة التي بقين فيها في قصر الخليفة المأمون، يعادل كل ما دفعه المأمون لصاحبهنّ اليمانيّ من أموال، وربما لا يعوّض خسارة صاحبهنّ في فقدانه لهنّ، نظراً لما سبّب له هذا الفقدان من حسرات وآلام، فهو ليس بحاجة إلى المال، لأنّه من أصحاب الثّراء الواسع(61)، كما يؤكّد الرّاوي في أوّل الحكاية.
إذا كان الرّاوي في حكاية » إبراهيم بن المهديّ مع ابن أخيه المأمون « قد صوّر المأمون في صورة الحاكم الحليم والعاقل، و الكريم الذي يعفو عند المقدرة، فإنّ راوياً آخر في حكاية » المأمون ورغبته في هدم أهرامات مصر « قد صوّره في صورة الرّجل الجاهل بقيمة الآثار التّاريخيّة و الجماليّة، وعلاقة هذه الآثار بفكر الأمم والحضارات التي أنتجتها، فهو في هذه الحكاية يصمّم على هدم أهرامات مصر، التي بناها الفراعنة: » حُكي أنّ المأمون ابن هرون الرّشيد لمّا دخل مصر أراد هدم الأهرام ليأخذ ما فيها (…)، فلمّا حاول هدمها لم يقدر على ذلك مع أنّه اجتهد في هدمها، وأنفق على ذلك أموالاً عظيمة، ولم يقدر على هدمها وإنّما فتح في إحداها طاقة صغيرة. ويقال إنّ المأمون وجد في الطّاقة التي فتحها من الأموال قدر الذي أنفقه على فتحها لا يزيد ولا ينقص فتعجّب المأمون من ذلك، ثم أخذ ما هناك ورجع عن تلك النيّة. «(62).
وإذا كان الرّاوي قد غطّى هدر المأمون لأموال الدّولة الإسلاميّة، وعبثه بها، في محاولته لهدم صرح حضاريّ وعمرانيّ، يُعتبر آية في الرّوعة و الجمال والهندسة المعماريّة، من خلال المال الذي وجده في الكوّة المفتوحة، والذي يشكّل تعويضاً عن الأموال المهدورة في عمليّة الهدم، فإنّ صورة المأمون هنا لا تتّفق مع صورته في المواضع الأخرى التي يبدو فيها حاكماً عاقلاً، وذوّاقاً للأدب والفنّ والجمال والموسيقى، كما يؤكّد بعض رواة اللّيالي، بل تتباين معها تبايناً واضحاً، لأنّ المأمون يبدو في هذه الحكاية رجلاً مستهيناً بالإرث المعرفيّ والعمرانيّ الذي تركته الحضارات السّابقة على الحضارات الإسلاميّة، هذا الإرث الذي يدلّ على عظمة هذه الحضارات، ودورها التّاريخيّ في مسيرة البشريّة و تطوّرها.
ويبدو أنّ لهذه الحكاية خلفيةّ مرجعيّة تاريخيّة سجّلتها المصادر التّاريخيّة. إلاّ أنّ هذه المصادر تذكر أنّ الخليفة العباّسيّ الذي أمر بهدم أحد هذه الأهرامات هو الخليفة هرون الرّشيد، وليس ابنه المأمون. ويروي هذه الحكاية المسعودي قائلاً(63) :
» إنّ الرّشيد لما دخل مصر، فرأى الأهرام أحبّ أن يهدم بعضها ليعلم ما فيه، فقيل له إنّك لا تقدر على ذلك، فقال لا بدّ من فتح شيء منه، ففتحت الثّلمة المفتوحة بنار توقد وخلّ يرشّ ومجانيق يرمى بها وحدّادين يعملون ما فسد منها وأنفق عليها مالاً عظيماً فوجدوا عرض الحائط قريباً من عشرين ذراعاً، فلمّا انتهوا إلى آخر الحائط وجدوا خلف النّقب مَطْهَرَة(64) خضراء فيها ذهب مضروب وزن كل دينار أوقيّة من أواقينا، وكان عددها ألف دينار فعجبوا من ذلك ولم يعرفوا معناه، فأخبروا بذلك الرّشيد، وأتوه بالذّهب والمطهرة فجعل يعجب من ذلك الذّهب، و من جودته وحسنه وحمرته، ثم قال ارفعوا إليّ حساب ما أنفقتموه على هذه الثّلمة ففعل ذلك فوجوده بأزاء ذلك الذّهب الذي أصابوه لا يزيد ولا ينقص. «.
إذا كان النصّ السابق الذي يرويه المسعودي صحيحاً، فإنّه يمكن القول: إنّ راوي الحكاية في ألف ليلة وليلة يجهل بعض الحقائق التّاريخيّة، أو بتعبير آخر تختلط عليه هذه الحقائق، فهو إمّا يجهلها، وإمّا يعمل فيها تحريفاً، وكما يحلو له، إذ يجعل المأمون يهدم الهرم بدلاً من أبيه هرون الرّشيد. ويبدو أنّ هذا التّحريف في بعض الأحيان عائد إلى جهل الرّاوي بالعصور التّاريخيّة والأدبيّة للدّولة الإسلاميّة. فعلى سبيل المثال نجد الرّاوي في حكاية
» عبد الملك بن مروان و القماقم السليمانيّة «، يذكر أن الشّاعر الجاهليّ النّابغة الذّبيانيّ كان حاضراً في مجلس عبد الملك بن مروان، يستمع إلى حكاية القمام السليمانيّة التي يرويها طالب بن سهل للخليفة عبد الملك(65). وهذا خطأ تاريخيّ واضح، لأنّ النابغة الذّبيانيّ توفيّ سنة 604م(66)، أي قبل هجرة النبيّ محمد (ص) إلى المدينة سنة 622م، في حين أنّ الخليفة
عبد الملك بن مروان ولد سنة 26هـ/646م(67)، وبُويع له بالخلافة في مدينة دمشق في شهر رمضان سنة 65هـ/685م(68). فكيف يستطيع الشاعر النّابغة أن يكون حاضراً في مجلس الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان؟ .
__________________





منقول







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس