عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 03:02 PM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

ب ـ إن هذا الحرص من الشركات الأجنبية على التوسع في قطاع المقاولات، سببه واضح؛ فالإنشاءات تمثل مكونًا (أو مدخلاً) كبيرًا في الاستثمارات؛ أي يتولى قطاعُ الإنشاء تنفيذَ قسم رئيسي من الاستثمارات، وتختلف نسبة الإنشاء في الاستثمار الكلي، وفقًا للقطاع الذي تم الاستثمار فيه؛ ففي بعض الأحيان، يمكن أن تكون هذه النسبة ما بين 25 و30%، وفي الأغلب تكون 40 ـ 45 % على الأقل، وليس من غير المألوف أن ترتفع النسبة إلى 60 %. إلا أن الأهمية الحاكمة لقطاع المقاولات، لا ترجع فقط إلى هذا الارتفاع في نسبة الإنشاءات إلى الاستثمار الكلي، ولكن أيضًا إلى مضمون الدور الأساسي، الذي تمثله عمليةُ الإنشاءات في إقامة مشروعات التنمية. وفي إطار هذا الدور تحكم سرعة ودقة الأداء، إنجاز المراحل الأخرى من المشروع الاستثماري؛ ففي المشروعات التي تتضمن إنشاءات، يحدث عادة أن تبدأ المراحل الأخرى بعد الانتهاء من القسم الأكبر من أعمال الإنشاء، وفي بعض الأحيان لا يمكن نقل التجهيزات إلى موقعها، إلا بعد الانتهاء الكامل من هذه الأعمال (213). وخلاصة القول، إن قطاع المقاولات (الذي يتولى أعمال الإنشاء) يسيطر على التنفيذ العيني لبرامج الاستثمار، كما تسيطر البنوك على التنفيذ المالي للمشروعات (الفصل التاسع)؛ ولذا كان طبيعيًّا أن تسعى القوى المخططة، للسيطرة على حركة الاقتصاد المصري وعلى اتجاهات نموه، إلى قيادة قطاع المقاولات، تمامًا مثلما عملت في قطاع البنوك.
وقد استخدمت هذه القوى كل الضغوط الممكنة؛ حتى تمكنت من تعديل قانون 43، وسُمح لها باختراق قطاع المقاولات رسميًّا في قانون الاستثمار المُعدل (قانون 32). وكما اندفع رأس المال الأجنبي ـ بعد القانون 43 ـ نحو البنوك، اندفع بعد القانون 32 إلى المقاولات.
  • وبعض المسئولين المصريين كان لا يُخفي فرحته بهذا الاتجاه، ويطالب بحفزه؛ فوزير الإسكان (مصطفى الحفناوي) تحدث عن تفاقم مشكلة الإسكان، وقال إنه من أجل الإسراع في مواجهة المشكلة "قررنا أن نستدعي شركاتٍ أجنبية؛ لتبنيَ فورًا.. وقد وافق رئيس الوزراء على ذلك، وتم إعلان عالمي عن مناقصة عالمية للشركات التي تشعر بأن لديها الخبرة لتتقدم.. لتبني مساكنَ شعبية، وليس مساكن فاخرة، وهذا يحدث لأول مرة" (214) (لاحظ رنة الفخر في تعبير "لأول مرة"). وقد شارك رئيسُ مجلس الوزراء (مصطفَى خليل) في الترحيب بهذا الاتجاه، وأعلن أن الترتيبات تستهدف قيام الشركات الأجنبية ببناء 100 ألف وحدة سكنية أثناء عام 1980 (215)، والتوسع في هذا الاتجاه، الذي بدأ مع مشروع التليفونات، أسماء الرئيس السادات، ومن بعده حامد السباح (وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية والتعاون الاقتصادي): أسلوب "الاقتحام" للمشاكل (216).
وتعبيرًا عن هذا الترحيب، وتقديم الحوافز؛ نُفذ ابتداء من أول 1978، قرارٌ بإلغاء أوامر التكليف لشركات القطاع العام، وقرار بإلغاء السقف الذي كان مفروضًا على مقاولات القطاع الخاص (217)، ولكن قدمت للشركات الأجنبية امتيازات لا يطولها القطاع المصري (خاص أو عام)، حتى وصل الحال إلى حسين أحمد عثمان (شقيق عثمان أحمد عثمان، ورئيس غابة أو شركة المقاولون العرب، ورئيس لجنة الإسكان في حزب الحكومة). حسين أحمد عثمان اضطر إلى الشكوى من عدم معاملة المقاولين المصريين، بنفس أسلوب التعامل مع المقاولين الأجانب.
فالمقاول الأجنبي عند التعاقد، تُوفَّر له الشروطُ الدولية المتعارف عليها، وإذا حدث تأخير من الجانب المصري في تنفيذ الشروط، فإنه يكون ملزمًا بدفع تعويضات عن ذلك، وهذا لا يحدث بالنسبة للشركات المصرية". وفي كل الأحوال لا تتلكأ الجهاتُ الحكومية في سداد التزاماتها للشركات الأجنبية، بينما تتراكم المتأخراتُ على هذه الجهات في تعاملها مع الشركات المصرية؛ فتنشأ أزمة سيولة (218). ويضيف مصدر آخر أن الشركات الأجنبية تتمتع بالإعفاءات الضريبية على معداتها المستوردة، وبحرية التعامل بالنقد الأجنبي؛ مما يمكنها من استيراد احتياجاتها من الخامات التي لا تتوافر في السوق المحلي. بينما يتوفر النقد الأجنبي للشركات المصرية من خلال حصة النقد الأجنبي المحدودة التي تخصصها الدولة لشركات المقاولات، وهي مرتبطة بما هو متاح، واستخدام هذه الحصص، كثيرًا ما يتعثر؛ لأنها تُعطى في شكل تسهيلات موردين، وليست في صورة نقد أجنبي حر. والبنوك الأجنبية تحابي - طبعًا - الشركاتِ الأجنبية في التسهيلات الائتمانية بالنقد الأجنبي. وهي (أي الشركات الأجنبية) مستندة - بطبيعة الحال - إلى مراكزها الرئيسية في الخارج. وقد لجأت الدولةُ إلى إعطاء الشركات المصرية حق التصرف في 50 % من حصيلة النقد الأجنبي التي تحققها من عملياتها في الخارج (قرار وزير الاقتصاد رقم 316 لسنة 1976) لتغطية فجوة التمويل الأجنبي، ولكن شركات القطاع العام المصرية تطالب بحرية التصرف في كل حصيلة النقد الأجنبي التي تحصل عليها (أسوة بالسياحة وشركات التجارة). وهذا مطلب مستحيل، ومجرد قرار
الـ 50 % كان يعني مزيدًا من تصفية السيطرة المركزية على حصيلة النقد الأجنبي، وقد صدر هذا القرار ـ كما يقول وكيل أول وزارة الاقتصاد لشئون النقد ـ "رغم الظروف النقدية التي تتطلب تغذية مجمع النقد الأجنبي لدى البنك المركزي والبنوك التجارية بموارد قطاع المقاولات من النقد الأجنبي بصفة مستمرة" (219).

· المهم، بدأت صيحات الفزع ترتفع في قطاع المقاولات المصري. علَت الشكوى من المعاملة غير المتكافئة، وكانت شكوى القطاع العام ـ كالعادة ـ أشد؛ "فالقطاع الخاص (مصري وأجنبي) ليس أمامه غير أحد طريقين لاكتساب الخبرات: الطريق الأول أن يدِّرب جيلاً جديدًا، وهذا يستغرق وقتًا، أو يحصل على هذه الخبرات من العاملين بشركات القطاع العام عن طريق إغرائهم بالمرتبات العالية" (220). وقد اضطر أحدُهم إلى تذكير المسئولين بالماضي الجميل؛ "فالقطاع العام له دور قومي مهم؛ فهو يقوم بالأعمال التي يرفضُ القطاع الخاص - أو يتخوف من - تنفيذها كبناء الدُّشم أثناء حرب الاستنزاف وغيرها، ولا أعتقد أن أي شركة قطاع خاص، كانت ستقبل القيام بهذا العمل" (220)، (ولا أدري إن كانت هذه الحجة أصبحت ـ في ظروفنا ـ في صالح القطاع العام أو ضده!). على أيَّة حال، حسين عثمان (وهو ذو روابط عضوية مباشرة مع القطاع الخاص) مُصِرٌّ على أن التحدي يواجه كل القطاع المصري في المقاولات (عام وخاص). "وإذا وفرت للمقاولين المصريين نفس المعاملة التي يعامل بها الأجانب؛ من حيث التمويل والتنفيذ وشروط التعاقد؛ يمكن توفير 40 % من التكاليف، و50 % من المبالغ التي تُصرف بالعملة الصعبة.. والمقاولون المصريون؛ سواء كانوا تابعين للقطاع الخاص أو العام، يستطيعون أن ينفذوا خطة المقاولات بالكامل، ولو تضاعفت هذه الخطة" (218).
جـ ـ ولكن أعتقد أن الشركات الأجنبية لا تهدف في هجمتها الشرسة، إلى التصفية الجسدية لكل القطاع المصري في المقاولات. التصفية الجسدية لبعض الوحدات احتمال قائم، ولكنَّ الأهم هنا ـ كما في المجالات الأخرى ـ التصفية المؤسسية، أي تصفية شركات المقاولات المصرية (وخاصة القطاع العام) كمؤسسة مستقلة، واستيعابها وإعادة تشكيلها في البنية التابعة للسيطرة الخارجية، وقد تحدث القيسوني في هذا الاتجاه حين اقترح "من أجل رفع الكفاءة الإنتاجية لأجهزة مقاولات القطاع العام: النظر في إسهام الأفراد في ملكية هذه الشركات، مع إعطاء أولوية للعاملين في كل شركة؛ استهدافًا لزيادة رءوس أموالها، ولدفع معدلات الإنتاج، عن طريق إيجاد حوافزَ للربح والعمل" (221). ولكن ـ كما في القطاعات الأخرى ـ لم يكن هذا الأسلوب واعدًا بنتائجَ سريعة؛ ولذا تحركت الجهودُ الخارجية للسيطرة على قطاع المقاولات عبر طرق أخرى عديدة.
· ونُشير إلى أن اختراق قطاع المقاولات؛ بهدف السيطرة لم يحدث عام 1977؛ فالصحيح أنه حدث نجاح حاسم عام 1977 مع نجاح الهجوم العام في مختلف الجبهات، وتتويجًا للجهود الهائلة التي بذلت في قطاع المقاولات ـ على وجه التحديد ـ منذ 1974. لقد تتبعنا طرفًا من هذه الجهود في فصول سابقة؛ فمن خلال التوسع غير المخطط لأعمال شركات القطاع العام في الأقطار العربية (حوالي 50% من طاقة هذه الشركات)، ومن خلال الانتقال الواسع غير المنظم لعمال الإنشاء بتعاقدات فردية إلى هذه الأقطار؛ بدأ الحديث المُلح حول كيفية سد الفجوة التي انكشفت في قطاع الإنشاءات (222). والتركيز على مشروعات التعمير في منطقة القناة، جعل الفجوة في مشروعات المناطق الأخرى أكثر اتساعًا، وبالتالي تكثفت الشكوى من عجز قطاع المقاولات، الذي تسبب في تخلف معدلات الاستثمار العيني المستهدفة، وتفاقمت الأزمة بالممارسات المحققة في التعمير وخارج التعمير، والتي تسببت في تحلل شركات القطاع العام، وتحلل إدارتها المركزية، فزالت - إلى حد كبير - أية علامات مميزة بين شركات القطاع العام ومقاولي القطاع الخاص، وأصبحت المقاولات من أوسع الأبواب المفتوحة لنهب المال العام، وكان طبيعيًّا أن يرتبط ذلك بمزيد من تدهور التنفيذ العيني، وزيادة التكلفة المالية.
  • والجهات الخارجية التي تابعَت كل هذه التطورات وشجعتها، هاجمت أيضًا، وبتركيز، قصورَ قطاع المقاولات، وربطت شكواها - من القصور - بهجوم حاد وإنذارات؛ بسبب البطء في استخدام القروض المقدمة، وكما كتب البنك الدولي، "فإن أي مناقشة حول تحسينات الهياكل الارتكازية، أو حول الاستثمار عمومًا في الحقيقة، لا تكتمل إلا بتأكيد الدور الحيوي لقطاع الإنشاءات (....) ويبدو واضحًا أن قطاع الإنشاء يمكن أن يكون فرملة لخطط البلاد الطموحة في الاستثمار، فما لم تتزايد بسرعة طاقة الإنشاء؛ تكون النتيجة الوحيدة لمحاولات التسريع في تنفيذ المشروعات زيادة في تكلفتها" (223).
ولكنْ لتحقيق التزايد في طاقة الإنشاء، لم يذكر التقرير (أو التقارير الأخرى) شيئًا عن تنظيم العمل في الخارج،
أو عن مضاعفة خطة تدريب عمالة جديدة، أو عن محاربة الفساد والتخريب، (رغم علم الجهات الخارجية بحقيقة أبعاده). لقد حاولت بعضُ مؤسسات الدولة ومسئوليها، دعمَ القطاع العام في المقاولات، والتصدي للفساد المنظم؛ فالرقابة الإدارية أعدت مذكرة، كشفت أنّ جميع رؤساء مجالس إدارات شركات المقاولات في القطاع العام يشاركون ـ بشكل أو آخر ـ في شركات مقاولات خاصة. وأمكن تقسيمُ أشكال المشاركة إلى خمسة:

1- فهناك مجموعة من قيادات الشركات العامة شكلت شركات خاصة باسم الأبناء.
2- وهناك قيادات أسهمت كشركاء موصين في شركات مقاولات قطاع خاص، دون أن يكون لهم حق الإدارة (تحايلاً على القانون).
3- مجموعة مرخص لها بمزاولة الأعمال والاستشارات الهندسية.
4- مجموعة تعمل في بعض شركات القطاع الخاص خارج البلاد.
5- مجموعة تعمل في بعض الشركات التي أنشأها العاملون بـ "المقاولون العرب". (للتفاصيل انظر الهامش) (224).
وقد طلب رئيس مجلس الوزراء (ممدوح سالم آنذاك) من وزير الإسكان والتعمير (حسب الله الكفراوي ـ ابن شقيقة عثمان أحمد عثمان) بحث هذا الموضوع، فتقدم برده وأحيل إلى اللجنة الوزارية للإنتاج. وفي نفس الفترة كانت هناك مذكرة للعرض على نفس اللجنة مقدمة وزارة الكهرباء والطاقة في شأن مزاولة بعض رؤساء وأعضاء مجالس إدارات شركات الإسكان لأعمال خاصة، وأوضحت الوزارة أنها تستغل عن طريق هذه الشركات الخاصة. وقدمت توصيات محددة للعلاج الحاسم؛ إذ يحدث عند طرح مناقصة لعملية معينة، أن تمتنع عن هذه الشركات الخاصة عن الدخول، وبالتالي ترسو هذه العملية بمبلغ ضخم على إحدى شركات القطاع العام التي تحيلها بدورها من الباطن إلى إحدى هذه الشركات الخاصة، وبمبالغَ تزيد كثيرًا عما كان يمكن أن تحصل عليه هذه الشركة الخاصة لو أنها اشتركت في المناقصة مباشرة، وفي منافسة حقيقية. وعلى سبيل المثال، نفترض أن هناك مناقصة لعملية ما قيمتها الفعلية نصف مليون جنيه، فيحدث هنا أن تمتنع الشركات الخاصة عن دخول المناقصة؛ لترسو على إحدى شركات القطاع العام بمبلغ مليون جنيه، وحينئذ تقوم هذه الشركة بإسناد تنفيذ نفس العملية من الباطن لإحدى هذه الشركات الخاصة بمبلغ 750 ألف أو 800 ألف جنيه (ويحدث هذا كثيرًا في شركة "المقاولون العرب" التي تستأثر بأكثر من 50 % من حجم المقاولات في مصر بأسعار مبالَغ فيها، ثم تُسند التنفيذ من الباطن إلى الشركات الخاصة التي ألفها بعض الأقارب والمحظوظين في "المقاولون العرب").
وهناك الشكل الآخر، والأكثر صراحة الذي تترك بمقتضاه شركات القطاع العام (بتبريرات مختلفة) مناقصة عملية معينة للشركات الخاصة لترسو العملية على إحداها بأضعاف المبالغ التي يجب أن تنفذ بها، وتتولى القيادات توزيع الأنصبة في هذه العمليات (225).
* إن هذه الشبكةَ التي خربت قدرات قطاع المقاولات، واستنزفت أموال القطاع العام، دفعها وباركها عثمان أحمد عثمان، حين كان على رأس القطاع بنفسه (في وزارة الإسكان والتعمير) ثم حين ترك منصبه لابن شقيقته، وقد صدرت قرارات متوالية من رئيس مجلس الوزراء (ممدوح سالم) لتقطيع أوصال هذه الشبكة، ولكنها لم تنفذ أبدًا؛ لأنها أقوى منه (226). والمهم الآن، أن الهيئات الدولية تعرف كل هذا، ولكن لم تُشِر إليه أبدًا، وليس على سبيل السهو؛ ولكن لأن تجاهل قضية الانتقال غير المنظم لقوة العمل، وتجاهل أثر الفساد والاستنزاف المتزايد على الإنتاجية وتكلفتها، خدم عديدًا من أغراض هذه الجهات، كما أنه برر الضغط والإلحاح على تطوير قطاع المقاولات، وزيادة طاقته، من خلال تكنولوجيا كثيفة رأس المال، ومن خلال "مواهب وقدرات" المقاولين الأجانب. والتوسع في استخدام تكنولوجيا ذات رأسمال كثيف في عمليات الإنشاء، مسألةٌ لا تدعو إليها حاجة ملحة في معظم المشروعات، وهي لا تتلاءم مع وضع اقتصادي تتوفر فيه العمالة (في حالة تنظيم وإعداد جيدين)، ولا يتوفر فيه النقدُ الأجنبي، ولكن البدائل التي ترشحها الهيئات الدولية، تتفق مع هدف السيطرة على هذا القطاع الحاكم (بالتكنولوجيا أو بالملكية المباشرة)، وتتفق مع هدف إرهاق ميزان المدفوعات، وامتصاص الموارد.
وقد حدث - على أيَّة حال - أنْ لجأت الحكومة المصرية إلى التوسع في الميكنة؛ ففي مرحلة الاعتراض على فتح باب المقاولات أمام الاستثمار الأجنبي، وفي مرحلة الإغراق في الديون، وقعت الحكومة المصرية عقودًا مع بعض الشركات الأجنبية لإنشاء 10 مصانع للمساكن سابقة التجهيز (عام 1975)، بلغت تكاليفها الإجمالية 60 مليون جنيه، وقدر لكل مصنع أن ينتج في السنة مع بدء نشاطه 2000 وحدة سكنية، وبعيدًا عن اعتراضنا المبدئي على التوسع في ميكنة قطاع الإنشاء بغير ضرورة ملحة، وبعيدًا عن الحقيقة التي انكشفت حول أن الشركات صدرت إلينا مصانعَ تنتمي إلى "الجيل الأول" الذي انقرض استخدامه منذ بداية الستينيات، فإن مصانع المساكن السابقة التجهيز، نموذج مجسد لما يسمونه "التكنولوجيا غير الملائمة"، وترتب على هذا أن بقيت المصانع معطلة فترة طويلة، وفي السنة الأولى للإنتاج
لم يكن متوقعًا أن يزيد إنتاج المصنع الواحد عن 300 وحدة سنويًّا (وليس 2000)، ومع تحسن الحال يرتفع الرقم إلى 700 أو 800 وحدة، وبتكلفة تزيد عن تكلفة البناء العادي(227). "سحر التكنولوجيا" لم يكفِ – إذًا - لزيادة كفاءة قطاع الإنشاءات.. ومع الضغوط الأخرى المساعدة، كان
لا بد من دعم هذه الخطوة بتعديل قانون الاستثمار ودعوة المقاولين الأجانب ليفِدوا بأنفسهم.

(3) قطاع البنوك:
تواصل الهجومُ لاستكمال السيطرة على القطاع المصرفي. وتوالت صيحاتُ التحذير وعلامات الاستفهام من رجال البنوك الوطنيين، ومن الاقتصاديين المصريين (على اختلاف اتجاهاتهم) حول طبيعة الدور الذي تلعبه البنوك الأجنبية؛ فقد استمرت هذه البنوكُ، واتسعت وفق نفس الخطوط التي بدأت بها في عام 1975 و1976 (راجع الفصلين السابع والثامن).
· في تقرير البنك المركزي حول البنوك المشتركة وفروع البنوك الأجنبية، قيل: إنه "يستخلصُ من الدراسة التفصيلية التي أعدها البنك المركزي، من واقع البيانات الدورية التي قدمتها هذه البنوك إلى البنك المركزي حتى آخر ديسمبر 1977 ما يلي:
استمرار ظاهرة ارتفاع مستوى الأرصدة المُحتفَظ بها لدى المراسلين في الخارج بالنسبة للبنوك المشتركة أو المراكز الرئيسية لفروع البنوك الأجنبية، وتمثل 53 % من جملة التوظيفات في آخر ديسمبر 1977.
على الرغم من الزيادة في القيم المُطلقة والأهمية النسبية لأرصدة التسهيلات الائتمانية، إلا أنها لم تجاوز 18 % من جملة التوظيفات في آخر ديسمبر 1977، بعد استبعاد المبالغ المخصصة لتمويل حسابات وزارة المالية، وهو ما يعكس ضآلة حجم التوظيف في قروض وسلفيات وخاصة للقطاعات المحلية، فيما عدا التمويل الذي قدمته بعض فروع البنوك الأجنبية للبنك المركزي المصري.
قامت بعض البنوك بالاكتتاب في سندات التنمية بما قيمته 3.4 مليون جنيه فقط، ولم تجاوز أرصدة الاستثمارات في المشروعات المختلفة 1.2 مليون جنيه في آخر ديسمبر 1977، موزعة بين بنك مصر إيران للتنمية (مليون جنيه) وبنك "أبو ظبي" الوطني (0.2 مليون جنيه). وقد نوهت بعضُ البنوك في تقاريرَ أُرسلت إلى الإدارة العامة للرقابة على البنوك، إلى قيامها بإجراء الدراسات لعدد من المشروعات؛ بغرض المساهمة في رأسمالها و/ أو تقديم القروض والتمويل اللازم لها، ونظرًا لما يتطلبه تأسيس هذه المشروعات من وقت؛ فلم تظهر- بعدُ - المراكز المالية لهذه البنوك أرقامًا ذات وزن لمساهمتها أو تمويلها لهذه المشروعات.
تمثل أرصدة الودائع 63 % من جملة موارد البنوك، جلها من السوق المحلي؛ بما يعكس اعتماد البنوك عليها كمصدر أساسي للموارد، دون تحقيق نتائجَ ملموسة في مجال استجلاب رءوس الأموال من أسواق النقد العالمية وتوظيفها في مصر، بل شاركت بنوك القطاع العام في الاحتفاظ بمدخرات المصريين وودائع بعض شركات القطاع العام من العملات الأجنبية، وفضلاً عن ذلك، فلم يظهر اطلاع بنوك الاستثمار والأعمال بدورها المنشود في تمويل أغراض التنمية الاقتصادية في البلاد.
وفي ضوء ما تقدم، فقد رأى البنك المركزي التوصيةَ لدَى الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، بالتوقف عن منح موافقات جديدة لتأسيس بنوك؛ انتفاعًا بأحكام قانون الاستثمار لفترة، ولتكن عامين مثلاً، يتم بعدها إعادةُ تقييم نشاط البنوك القائمة، ومدى الحاجة لتأسيس المزيد منها" (228)، (كل التشديد من المؤلف).
وشهدت المؤتمراتُ حول الانفتاح، واللقاءات مع المستثمرين، دعمًا من الاقتصاديين المصريين، ومن غالبية المسئولين في القطاع الاقتصادي، لموقف البنك المركزي المصري (229)، وقد علق مثلاً محمد علي رفعت، على حقيقة أن البنوك المنتفعة بقانون الاستثمار توظف الجانب الأكبر من أموالها في أسواق مالية في الخارج. فأوضح أن مصر
لا تفيد شيئًا من هذا النمط من توظيف الأموال "ولو في صورة ضرائبَ على الأرباح. وهنا يخالج الفاحص المتأمل في قضية القطاع المصرفي المستحدث، خاطرُ المشفق من أخلاقية الإعفاءات الضريبية، التي تتمتع بها مشروعات هذا القطاع (...) إذ إن المفروض أن تلك الإعفاءات تستند أخلاقيًّا ووطنيًّا ومصلحيًّا، إلى استثمار المال المُعفَى في داخل مصر. فإذا لم يكن ذلك الإنتاج الضخم الذي يتحدث عنه تقريرُ هيئة الاستثمار - صادرًا عن استثمار محلي؛ انتفع به الاقتصادُ الوطني؛ فلماذا إذن، ولمصلحة مَنْ يُعفَى من الضرائب بكافة أنواعها؟" (230). وقد نشرت الصحف ـ في المقابل ـ دفاعًا متهالكًا لممثلي البنوك الأجنبية عن موقفهم (131)، ولكن يبدو أن السياسة التي التزمت بها هيئةُ الاستثمار، تبنَّت موقفَ البنوك الأجنبية، فتجاهلت مطلب إعادة التقييم، ولم تدرس مشروعية الإعفاءات الضريبية والحوافز المقدمة، وتجاهلت بالتالي توصية البنك المركزي بالتوقف عن منح موافقات جديدة؛ إذ يلاحظ أن عدد الموافقات لإنشاء فروع لبنوك أجنبية وبنوك مشتركة، كان 35 في آخر 1977، ارتفعت إلى 37 في آخر 1978، ووصلت إلى 40 بنكًا 30/ 9/ 1979، رغم أن التقرير السنوي للبنك المركزي عن عام 1978 (الصادر في يوليه 1979) أكد في متابعته الانتقادية، أن البنوك الأجنبية تواصل نفس المخطط (232).

وبعض البنوك حصلت على موافقات، ولكن لم تُسجَّل لدى البنك المركزي، وبعضها سُجِّل ولم يبدأ النشاط بعدُ. وعدد البنوك التي زاولت نشاطها بالفعل، تطور على النحو التالي: 7 (حتى آخر 1976) ـ 21 (حتى آخر 1977) ـ 28 (حتى آخر 1978). ولا تتضمن هذه الأرقام البنك العربي الأفريقي، والمصرف العربي الدولي، والمصرف الاتحادي العربي، وبنك فيصل الإسلامي (233). فهذه بنوكٌ تعمل في مصر ولا تخضع للتسجيل لدى البنك المركزي المصري. ومعروف أن أعمال البنوك الأجنبية تواصل التوسع بمعدلات أعلى كثيرًا من معدلات البنوك الوطنية (234)؛ ولذا تتزايد المساحة التي تسيطر عليها مباشرة في القطاع المصرفي. فنسبة هذه البنوك من مجموع المراكز المالية لوحدات الجهاز المصرفي كانت 9.6 % (عام 1976) ـ زادت إلى
14.1 % (عام 1977) ـ ووصلت إلى 20 % (عام 1978). وارتفعت نسبة الودائع التي تستحوذ عليها (خلال نفس السنوات على التوالي) من 7.7 % إلى 12 % إلى 15.8 % (235).

وكافةُ ملاحظات البنك المركزي (ومن معه) حول هذه البنوك التي تستقطب المدخرات المصرية والكوادر المدربة بشكل متصاعد سريع، ملاحظات تؤيدها الأرقام؛ فنسبةُ الودائع إلى إجمالي المركز المالي (= 100) كانت على النحو التالي (جدول 11):

جدول رقم (11)
أرصدة الودائع: إجمالي المركز المالي

1976
1977
1978
بنوك تجارية مشتركة
بنوك استثمار وأعمال
في مجموع البنوك الأجنبية
78 %
40.4 %
50.3
75.2 %
46.5 %
56.3 %
64.8 %
42.8 %
50.9 %


ومعروفٌ أن الودائع معتصرة أساسًا من السوق المصري، وحتى في بنوك الاستثمار والأعمال، كان مجموع الودائع يتألف عام 1976 من 63 مليون جنيه من عملاء محليين + 54.3 مليون جنيه من عملاء آخرين ـ عالم خارجي. (ولا يعني هؤلاء العملاء الآخرين، عملاء غير مصريين بالضرورة)، ولكنْ حدث - على أيَّة حال - في عام 1978 أن وصلت ودائع العملاء المحليين إلى 3.9 مليون جنيه. وودائع العملاء الآخرين إلى 61 مليون جنيه. ويُلاحظ أيضًا أن موارد بنوك الاستثمار والأعمال زادت من خلال الأرصدة المستحقة للبنوك في مصر من 38.1 مليون جنيه (1976) إلى 43.1 مليون جنيه (1977) إلى 115.1 مليونًا (1978). وقد واصلت البنوك الأجنبية نفس الاتجاه في توظيف مواردها، والذي تعرض للنقد عام 1976. فأرصدة البنوك التجارية المشتركة لدى البنوك (في مصر والخارج) استأثرت بما يقرب من 50.9 % من جملة الاستخدامات الرأسمالية (خلال 1976)، و56.6 % (خلال 1977)، و55.7 % (خلال 1978) (236). أمَّا بنوك الاستثمار والأعمال، فاستأثرت أرصدتها لدى البنوك (في مصر والخارج) بنسبة 58 % ـ و70 % ـ و64.5 % في نفس السنوات على التوالي (237).
وهذا الاستمرار في استنزاف المدخرات المصرية بالنقد الأجنبي، وتوظيفها في الخارج، انعكس في انخفاض نسبة ما تستخدمه هذه البنوك من مواردها في تقديم التسهيلات الائتمانية للأنشطة الاقتصادية المحلية، وبالتالي كانت نسبة أرصدة الودائع (باعتبار الأخيرة = 100) كما في الجدول (12):

جدول رقم (12)
أرصدة القروض: أرصدة الودائع

1976
1977
1978
بنوك تجارية مشتركة
بنوك استثمار وأعمال
بنوك تجارية قطاع عام
38.6 %
41.2 %
79.4 %
37.9 %
44 %
67.8 %
46.2 %
52.5 %
65.6 %

ولا تتغير الصورة كثيرًا، عند احتساب نسبة الأموال الموظفة إلى الودائع. (المقصود بالأموال الموظفة إضافة مجموع استثمارات هذه البنوك إلى مجموع القروض التي قدمتها)، وذلك كما في جدول (13).
جدول رقم (13)
الأموال الموظَّفَة: الودائع
1976
1977
1978
البنوك التجارية المشتركة
بنوك استثمار وأعمال
بنوك القطاع العام التجارية
38.6 %
44.3 %
86.1 %
39 %
48 %
77.1 %
48.6 %
67.8 %
79.4 %

وقد أشرنا إلى أن بنوك الاستثمار والأعمال، تعتمد - في جزء كبير من مواردها المحلية - على الاقتراض من البنوك في مصر (إلى جانب الودائع المصرية)، وإذا حسبت (نسبة الأموال الموظفة من بنوك الاستثمار) إلى (الودائع + للبنوك العاملة في مصر دون المستحق للبنك المركزي؛ سواء عن عمليات التمويل أو العمليات الخاصة)، نجد أن النسب الواردة في الجدول (13) تنخفض إلى: 31.6 % ـ 34.3% ـ 36.2 % في السنوات الثلاث على التوالي. ويبدو الفرق واضحًا بين هذه النسب، والنسب المقابلة لبنوك القطاع العام التجارية. ويعكس هذا الفرق التباين الشديد بين أرقام الاستثمار لبنوك القطاع العام، وبين أرقام الاستثمار للبنوك الأجنبية. ولم يكن الفارق ـ في هذا المجال ـ ملموسًا بين البنوك التجارية الأجنبية، وبين البنوك الأجنبية المتخصصة في الاستثمار والأعمال. وحتى في اكتتاب البنوك في سندات التنمية بالدولار الأمريكي التي أصدرتها الحكومة المصرية، كان نصيب كل البنوك الأجنبية
لا يتجاوز 10 مليون جنيه، واعتمدت الحكومة بشكل أساسي على البنوك التجارية للقطاع العام، التي زادت اكتتاباتها في هذه السندات (في عام 1978 وحده) إلى حوالي 259.2 مليون جنيه.

وتفسير كل هذه النتائج لا زال قائمًا على نفس الأسس التي حددناها (الفصل الثامن). وبدأ بعض التكنوقراطيين يكتشفون هذا التفسير؛ "فهذه البنوك معظمها فروع لبنوك أجنبية في الخارج. ولا تستطيع أن تصنع قراراتها منفردة، ولكنها تؤمر وتعمل في إطار السياسة العامة للمراكز الرئيسية لها. بل إن القرار السياسي - وليس القرار الاقتصادي - هو المؤثر في توجيه عمليات البنوك" (238). والقرار السياسي والقرار الاقتصادي لا زال يؤجل الانغماس الواسع للشركات الأجنبية (وضمنها البنوك) في عمليات الاستثمار المباشر، ومع هذا التأجيل تتسق كل النتائج المشكو منها، وعلى رأسها استمرار توظيف هذه الأرصدة المتزايدة من النقد الأجنبي (والمعتصرة من السوق المحلي) في أسواق النقد الخارجية. إن التأجيل ليس انتظارًا سلبيًّا، ولكن عمل نشط لإعداد المسرح بالشروط المناسبة، وتشارك البنوك الأجنبية بنشاط في هذا العمل (مع الجهات الأخرى) من أجل إعادة تشكيل هيكل الاقتصاد المصري وبنيته. فهذه البنوك تعزف عمدًا على توفير الائتمان للمواقع القادرة على استيعاب طاقتها التمويلية؛ لأن هذه المواقع تتمثل في قطاع الأعمال العام (الذي لم يتغير مضمونه بالكامل بعد). وهذا موقف سياسي، أو موقف من نوع النسق الاقتصادي المستهدَف على مستوى الاقتصاد الكلي، وليس موقفًا تحكمه دراسات الجدوَى للمشروعات، وما أشبه.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس