عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 03:23 PM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

هذه الضغوط على أسعار القطاع العام، مارست فعلها في إطار الضغط الرئيسي المتمثل في شبح تجدد أزمة الديون الخارجية؛ ولذا التزمت الحكومة بأن ترفع يدها رسميًّا عن أسعار القطاع العام، وأن تُدار الشركات على أسس تجارية بحتة، فتعكس أسعارُ منتجاتها التكلفةَ المحددة للإنتاج مع هامش مناسب من الربح. والتزمت أيضًا بالاتجاه إلى تحرير الأسعار الزراعية من تدخلها. وحدث أن تلكأت السلطات في تنفيذ هذا البند أو ذاك، أمام الخوف من ردود الفعل السياسية، ولكنْ مع الثقة بالنفس بعدما تحقق في مايو 1977، ومع "العصا والجزرة"، كان الصندوق يتمكن عادة من تصحيح المسار نحو تحقيق أهدافه الأساسية.. (انظر الفصل التاسع: صندوق النقد يغضب ثم يتساهل، الفصل العاشر: ميزان المدفوعات والديون).. وللتذكرة، فإن التسليم في الجبهة الاقتصادية كان في مايو 1977 كما قلنا، وبعد هذا التاريخ بأشهر قليلة، كانت رحلة القدس. وللتذكرة أيضًا، فإن تكنيك الهجوم الخاطف والإرباك، كان ناجعًا، ولكن تكنيك السرية والكذب والمناورة، لم يكن أقل نجوعًا.
البنك الدولي يتسلم مهامَّه: كانت التعليمات الخارجية تقضي بمنع قيام مشروعات جديدة، إلى حين الانتهاء من إعادة ترتيب البيت؛ أي إلى حين انتهاء صندوق النقد من مهمته. ومع انتزاع الصندوق لخطاب النوايا، كان البنك الدولي ينتزع بدوره "إعلان سياسة" يلزم الحكومة باستراتيجية تنموية تابعة. هناك من يركز على مهاجمة الانفتاح؛ باعتباره انفتاحًا استهلاكيًّا، وليس انفتاحًا إنتاجيًّا. وهذا الوجه تشوه زائد بالفعل، ولكنه كان ضروريًّا في المرحلة الأولى؛ مرحلة إشاعة الفوضى والإرباك وتقويض النسق القديم. ولا يدهشنا أن تتجه المخططات الخارجية في المرحلة التالية إلى توجيه اهتمام أكثر بالنواحي الإنتاجية، ويمكن أن ترتفع أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر؛ ولذا فإن ما يزعج في المقام الأول، ليس كون الانفتاح استهلاكيًّا أو إنتاجيًّا، الإزعاج الحقيقي هو في جوهر التوجه الاقتصادي نحو هيكل تابع وبنية تابعة، وهو ما تعبر عنه بصراحة استراتيجية البنك الدولي ومن معه (الفصل التاسع: خطوة إعلان السياسة، الفصل العاشر: الخطوط العامة لاستراتيجية التنمية التابعة).
ففي قطاع الزراعة هناك ـ على سبيل المثال ـ جهد تنموي، ولكن في أي اتجاه؟ هناك حرب على القطن في إطار الدعوة لتغيير الهيكل المحصولي. والسبب الحقيقي للحرب، هو أن القطن تحول إلى مؤسسة وطنية مستقلة تتشابك روابطها في الداخل. فمدخلاتها المختلفة مصرية، والصناعة الوطنية تستهلك جزءًا كبيرًا من مخرجاتها، والتسويق الداخلي والخارجي يتم عبر القطاع العام، وتتجه أغلب الصادرات أيضًا من القطن الشعر ومن الغزول والمنسوجات إلى الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية. وتقليص المساحات المزروعة قطنًا وتقطيع أوصال مؤسسة القطن يتحقق ـ كما قلنا ـ في إطار الدعوة لتغيير الهيكل المحصولي، فتنتشر الدعوة إلى ما يسمى مشروعات الأمن الغذائي، وهي ـ في حقيقتها ـ دعوة لزيادة مساحات البرسيم، وإنتاج الدواجن، والخضر والفواكه والزهور. والأسلوب الذي يتحقق به هذا التحول يعني في واقع الأمر أن تحل محل القطن أنشطة تسيطر المؤسسات الأجنبية على مدخلاتها (وخاصة من حيث الخبرة الفنية) وعلى مخرجاتها (من حيث التسويق الخارجي)؛ الأولى تقدمها الولايات المتحدة، وبالثانية تهيمن عليها إسرائيلُ. والأراضي المستصلحة كان مفروضًا أن تكون النموذج الطليعي لزراعة حديثة مستقلة، فأصبحت النموذج الطليعي لهذا النمط التابع، وهي طليعية في هذا الاتجاه بمعنى أن تبعيتها كاملة، فكلها تزرع محاصيل غير تقليدية، وقسم كبير منها لا يسيطر الأجانب عليه من خلال المدخلات والمخرجات فقط، ولكن بالاشتراك المباشر أيضًا في إدارة الشركات المنتجة. ينطبق هذا على الأراضي المُستصلَحة في الوادي، وينطبق كذلك وبطبيعة الحال على الأراضي المستصلحة في سيناء. وفي هذا الإطار تتم أيضًا دراسات مكثفة حول ما يسمَّى ترشيد استخدام مياه الري.. لكن نصدر بعضه إلى إسرائيل ـ ويواكب كل هذا ربط أعيان الريف بالخارج؛ سواء مع تغيير الهيكل المحصولي على النحو الذي أوضحناه، أو مع "تحرير" الأسعار، الذي يعني عودة قسم هام من الفائض الزراعي إلى أيديهم، بدلاً من الذهاب إلى الخزانة المركزية، وينعكس هذا في زيادة دخولهم وإنفاقهم الاستهلاكي، وبالتالي في ربطهم أيضًا ـ كقرنائهم في المدينة ـ بنمط الاستهلاك المستورد (الفصل العاشر ـ قطاع الزراعة).
وفي قطاع الصناعة، تدرك المخططات الخارجية أن التصفية الجسدية لكل منشآت القطاع العام مستحيلة. وتدرك أيضًا أن إنهاء ملكية الدولة للشركات المنتجة، مسألة صعبة وتحتاج وقتًا. وباختصار تدرك المخططات الخارجية أن انفراد القطاع الخاص (الأجنبي والمصري) بملكية وسائل الإنتاج الصناعي، هو تصور غير واقعي في الأجل المتوسط؛ ولذا كان المخططُ الموضوع ذا شُعَب مختلفة. فمن ناحية صدرت التعليمات بوقف المشروعات الجديدة، وفي الوقت نفسه، قُدِّمت كل الحوافز لتنشيط القطاع الخاص في مجال الصناعة؛ بهدف زيادة حجمه المطلق، ووزنه النسبي، (وثبت أن نتائج هذا الحفز لن تكون ناجعة في الأجل المتوسط). وبالنسبة للقطاع العام القائم فعلاً"، فإن تصفية بعض وحداته أمرٌ واردٌ؛ بحجة أنها غير اقتصادية أمام المنافسة الأجنبية من السلع المستوردة، أو المُنتَجة من مشروعات الاستثمار الأجنبي في مصر، وتتمتع بإعفاءات وتيسيرات كبيرة. ولكن أهم من ذلك، أن تسيطر إدارة أجنبية على قسم كبير من المشروعات؛ سواء من خلال مشاركة رمزية في رأس المال، أو من خلال التحكم في المدخلات التكنولوجية والتمويلية (عبر البنوك) أو من خلال السيطرة على التسويق الخارجي، (بشرط إنتاج ماركات عالمية تتطلب إشراف الشركات العابرة للجنسية على عملية الإنتاج). وفي كل الأحوال، فإن شركات القطاع العام فُرِض عليها أن تعمل وفق معاييرَ تجارية بحتة؛ أي وفق معايير الربح والخسارة فقط، وهي معايير تحكمها - إلى حد بعيد - الأسعار العالمية، وبالتالي تعمل هذه الشركات وتحدد أنشطتها وتوسعاتها، وفق توجيهات هذه الأسعار المتحيزة، والتي تسهم في إفراز نمط معين من تقسيم العمل الدولي. إن شركات القطاع العام في هذه الحالة تمثل مضمونًا مخالفًا تمامًا لمضمون القطاع العام في المرحلة الناصرية؛ كقطاع قائد للتنمية المستقلة، إنها قطاع يتألف من وحدات مبعثرة تابعة للخارج، ولا يجمعها بماضيها إلا الملكيةُ الإسمية للدولة. وهذه مسألة مؤقتة أو شكلية كما يقول البنك الدولي نفسه.
لقد وصل القطاعُ العام إلى هذه النهاية، بعد مواجهات متصلة مع خبرة قياداته. وقد هزمت المقاومة من خلال التطورات السياسية العامة، ومن خلال التطورات الاقتصادية الإجمالية التي فتحت باب الاستيراد والتهريب (من بورسعيد وغيرها) بلا حساب، وخفضت سعر الصرف، وحلت المؤسسات العامة (أداة التخطيط والتكامل القطاعي). وهُزِمَت المقاومة أيضًا من خلال عمليات التطهير المتتابعة لقيادات القطاع العام المتمرسة، ومن خلال التشهير الإعلامي بإنجازاتهم وكفاءاتهم، ثم من خلال استنزاف المهارات بمستوياتها المختلفة بالهجرة، أو بالعمل في المشروعات الانفتاحية بأجور أعلى (انظر الفصول من السادس إلى العاشر. وخاصة العاشر: قطاع الصناعة).
أمَّا عن القطاع المصرفي بموقعه الحاكم، فإنه ظل لسنوات متتالية، المجالَ الوحيد الذي تدفق عليه المستثمرون الأجانب بهِمَّة ملحوظة، ويقفز الحجم المطلق لأعمال البنوك الأجنبية، ويتزايد بالتالي الوزن النسبي لها ضمن النشاط الإجمالي للجهاز المصرفي المصري، على حساب التراجع النسبي للبنوك الوطنية. ويعني هذا أن البنوك الأجنبية تستحوذ على حصة متزايدة من مدخرات المصريين بالنقد الأجنبي وبالجنيه المصري (وهي المصدر الأساسي لمواردها)؛ كي تتولى توظيفها وَفْق مخططات قيادتها في الخارج. إنها لم تسهم حتى الآن على نحو نشط في تمويل مشاريع إنتاجية، وتوظف أغلب ودائعها في الخارج، ولكن هذا الموقف قد يتغير بدرجة أو أخرى في مرحلة تالية، ونرى أنه حتى في حالة تغير هذا الموقف، يظل جوهر التشوه والخطورة قائمًا؛ لأن استخدام موارد هذه البنوك في تمويل المشروعات سيظل انتقائيًّا وخاضعًا في معاييره لمنطق استمرار التنمية في الخط التابع للقرارات الخارجية.
والخطير في قطاع البنوك أيضًا، أن بنوك القطاع العام تتحور أيضًا في معاييرها ووظائفها، إلى صورة لا تختلف كثيرًا عن البنوك الأجنبية؛ سواء بسبب ضغوط المخطط العام، أو أمام اعتبارات المنافسة مع البنوك الأجنبية العاملة في مصرَ؛ من حيث معدلات الفائدة، أو من حيث أوجه التوظيف الأعلى عائدًا، في ظل الهيكل العام للأسعار المتحيزة (الفصول من السادس إلى العاشر: بند البنوك الأجنبية).
نُشير في السياق نفسه، إلى قطاع المقاولات الذي فتح رسميًّا عام 1977 أمام الشركات الأجنبية، فلم تتردد لحظة في التدافع. والنقطة المحورية هنا هي أن البنوك تتحكم في التوجه التنموي، من خلال تمويلها للمشروعات، وشركات المقاولات الأجنبية تتحكم في التوجه التنموي، من خلال قيامها بالتنفيذ العيني للإنشاءات (الفصلان التاسع: تعديل قانون الاستثمار، والعاشر: قطاع المقاولات).
بقي أن نتناول القطاعات الرائدة (النفط ـ القناة ـ السياحة ـ العاملون في الخارج). هذه القطاعات خططت الجهات الخارجية لتنميتها بشكل أو آخر، واحتفت كل سنة بنتائجها. وزعمت - على ضوء هذه النتائج - أن الناتج المحلي الإجمالي ينمو بمعدلات غير مسبوقة، وبشرت بأنها ستنهي متاعب مصر عام 1980 (وأسماه الرئيس السادات عام الرخاء). ويُلاحظ في هذا التوجه التنموي التالي: أولا: أن القطاعات الرائدة لا تمثل جهدًا تنمويًّا إنتاجيًّا، بل إن بعضها ينمو على حساب قدرة القطاعات الإنتاجية المحلية على النمو (ويتمثل هذا بشكل حاد في قطاع العاملين في الخارج). ثانيًا: استمرار هذه الأنشطة أو نموها يعتمد بالدرجة الأولى على قرارات خارجية، وهذا تأكيد لتبعية هيكل الاقتصاد المصري للخارج. ثالثًا: هذه القطاعات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتقييد القرار المصري بدخول حرب جديدة مع إسرائيل. ولا يعني هذا مجرد مزيد من تأمين الحدود الجنوبية للعدو الصهيوني في حالة أي عدوان يشنه على إخواننا في الشرق أو الشمال من إسرائيل، ولكنه يعني أيضًا قدرة العدو على ابتزاز مصر؛ بسبب ترددها أمام التكلفة الاقتصادية العالية لقرار الحرب. إن دخل هذه القطاعات أصبح مكونًا أساسيًّا من ناتجها المحلي الإجمالي، وأصبح المصدر الرئيسي لحصيلتها من النقد الأجنبي. وعلاقة هذه القطاعات بالحرب والسلام، هي على النحو التالي: علاقة القناة واضحة، وعمليات توسيعها وتعميقها لم تؤدِّ فقط إلى زيادة دخلها (وزيادة الخسائر المترتبة على إغلاقها بالتالي)، ولكن توسيع مجراها أدى كذلك إلى زيادة كفاءتها كعائق أمام عبور القوات المسلحة المصرية إلى سيناء، مع التواجد العسكري الرمزي شرق القناة ـ علاقة السياحة بقضية الحرب والسلام واضحة أيضًا. فهذا القطاع النامي يتوقف ازدهاره على سيادة حالة من انعدام الاشتباكات المسلحة، بل ويرتبط قسم كبير من ازدهاره يتعاون مصري ـ إسرائيلي في هذا المجال ـ قطاع النفط: يلاحظ أن جهود الشركات تركز على منطقة البحر الأحمر وسيناء؛ أي: على منطقة المواجهة. إن مخطط الشركات لا يهدف حتى الآن ـ كما
لم يهدف في المرحلة الناصرية ـ إلى زيادة الإنتاج بحيث تتحول مصر إلى مصدر كبير للنفط، والكميات المنتجة تظل في المنطقة التي يهددها اندلاع حرب ـ قطاع العاملين في الخارج يرتبط أيضًا ومباشرة بقضية الحرب والسلام، فمع الاستعداد للحرب بعد يونيو 1967، كان طبيعيًّا أن تفرض القيود على انتقال العمالة الفنية، ويفرض التجنيد الإجباري لسنوات طويلة على الشباب. واعتماد هذه الإعداد الكبيرة على فرص العمل في الخارج، واعتماد الاقتصاد المصري المتزايد على تحويلاتها، يمثل قوة ضغط مؤثرة ضد احتمال الحرب وما يرتبط بها من إجراءات مقيدة.

ويجرنا الحديث عن هذا القطاع الأخير إلى الإشارة إلى أن انتقال العمالة المصرية ـ بالتدافع الفوضوي الذي تحقق ـ لم يؤدِّ فقط إلى استنزاف مواقع الإنتاج، ليست النتيجة ـ في المقام الأول نقصًا كميًّا في قوة العمل المدربة، أخطر من ذلك تشوه المراكز العصبية في المجتمع المصري.. تشوه قيمها، وتشوه روابطها الإنسانية والوطنية والقومية. وهذا التشوه ـ إذا استمر ـ أكبر ضمان ضد الحرب، وما تتضمنه من التزام وتضحيات. هذا التشوه نفسه حدث في تعمير منطقة القناة ومناطقها الحرة، فأصبح الوجود البشري المشوه في هذه المنطقة بمثابة خط دفاعي يحمي إسرائيل من قرار مصري بالحرب، والتشوه حدث أيضًا من خلال قطاع السياحة وأسلوب ممارسته.. من هذا الجانب أيضًا، ترتبط قضية "القطاعات الرائدة" بقضية الحرب والسلام. (انظر الفصل العاشر: القطاعات الرائدة).
هناك سؤال مشروع بعد عرضنا السابق: كيف تحقق كل هذا التحول في التوجه المصري بسهولة نسبية؟ حدثت مقاومة - بطبيعة الحال - على مستوى الشارع (بلغت الذروة في يناير 1977)، وتواصلت مقاومة البيروقراطيين والتكنوقراطيين الوطنيين من مواقعهم داخل جهاز الدولة، وبطريقتهم الخاصة، وقد اعتقد أن مقاومة هؤلاء كانت أكثر فاعلية في إعاقة الغزاة.. ولكن كل هذا لا يتناسب مع حجم وطبيعة ما تحقق.. وهذا هو السؤال.. ليس السؤال كيف ولماذا هزمت الثورة الناصرية؟ فأيَّة ثورة يمكن أن تنتكس لأسباب من خارجها أو داخلها، وقد حدث هذا كثيرًا، ولا غرابة في مثل هذه الظاهرة. ولكن أن تُقتَلع من الجذور دون مقاومة ضارية من القوى التي عبرت الثورة عن مطامحها القومية أو المصلحية المباشرة؛ فهذه هي الظاهرة التي تُثير علامة الاستفهام وعلامة التعجب.
ولا يتسع المجال هنا لمناقشة الاجتهادات التي حاولت تفسير هذه الظاهرة. يكفي أن أشير بسرعة إلى تفسيري الخاص. وأبدأ بالاعتراف بسلبيات كثيرة في بنية الناصرية وممارساتها، وعن المسئولية الجزئية لهذه السلبيات في النتيجة الحاصلة، ولكن اختلف مع الانتقادات التقليدية في تضخيمها لهذه النواقص، وبالتالي في أن تكون وحدها تفسيرًا لحالة أننا واجهنا تصفية سهلة، وليس هزيمة وسط مقاومة عنيفة. ويتأكد خلافي مع الانتقادات التقليدية على نحو خاص؛ لأنها ـ حتى في تعدادها لأوجه القصور ـ لا تتناول نقطة الضعف الرئيسية في البنية الناصرية بالاهتمام الواجب، أقصد الصدع الخطير في قمة السلطة بين عبد الناصر وقيادة القوات المسلحة قبل 1967. فالتردد الطويل (أو العزوف) من عبد الناصر في حسم هذا الصراع، كان على صلة بكل أوجه القصور الأخرى (الأقل أهمية)، وكانت النتيجة المترتبة على هذا التردد ما حدث في يونيو 1967، أكبر كارثة أصابت النضال العربي، والإنسان العربي في تاريخنا المعاصر.
ورغم الجهد الخارق الذي بذله عبد الناصر ـ بعد وقوع الكارثة ـ في إعادة بناء القوات المسلحة، ورغم إدارته للصراع تمهيدًا للجولة العسكرية بدرجة عالية من الكفاءة، كان من حظ الرجل، أن ينتقل إلى جوار ربه، قبل أن يكمل مهمته، فمات عبد الناصر مورثًا للأمة هزيمة بالغة المرارة، ولا زالت حصيلتها، تجثم على أنفاسنا حتى الآن. وبعد اختفاء عبد الناصر من مسرح الحياة، كانت حرب أكتوبر على يد السادات. وقد اكتسب السادات - بهذه الحرب - سمعةً عالية؛ باعتباره قائد الحرب المشرفة، وباعتباره السياسي القادر على اتخاذ القرارات، والقادر على التمويه، وعلى إخفاء نواياه، وأصبح مفهومًا - على ضوء ذلك - أن تساند الجماهير عديدًا من خطوات السادات وإجراءاته، حتى وإن بدت شاذة، ومعارضة لكل ما يُعتبر مسلماتٍ؛ سواء بدافع مصداقية القائد المنتصر، أو بتصور أنهم أمام جولة جديدة من حملات التمويه والخداع.
لقد لعب الإعلام (الذي سيطرت عليه بسرعة العناصر الموالية للولايات المتحدة) دورًا بارزًا ومنظمًا في التضليل والتشهير بالناصرية، ولكن رغم كل الإمكانيات التي يملكها الإعلام الحديث، لم يكن ممكنًا تحقيق ما تحقق، لولا الدور الحاسم والفريد الذي لعبه الرئيس السادات شخصيًّا في تشكيك الناس في كل المسلمات؛ في الذاكرة، في التاريخ الذي عاشوه، وفي التجارب التي لمسوها ورأَوها. وهذا أسلوب يستخدم مع الأفراد، فيصل بهم إلى شلل كامل في الإرادة،
أو الجنون. وقد تم هذا على مستوى شعب بأسره.

إلا أن الدور السياسي والتضليلي، لم يكن يكفي وحده؛ فمفعوله كان سيبطل بعد فترة قصيرة، خاصة وأن تصفية الناصرية لا تنحصر فقط في دائرة التوجه الاستقلالي العام؛ أي دائرة المواجهة العربية المباشرة مع الاستعمار والصهيونية؛ فالتصفية تمتد بالضرورة إلى المؤسسات الداخلية، وإلى تهديد المصالح المباشرة لفئات اجتماعية عريضة. وهنا يأتي استخدام آخر للمال النفطي، وتكمُن فيه الإجابة الأساسية عن سؤال: لماذا صفيت الناصرية بهذه السهولة؟ إن الانتقال غير المنظم لقوة العمل المصرية والعربية؛ تزاحمًا خلف حِفنة من المال النفطي، هو ـ في تقديرنا ـ المسئول الأول عن تصفية الناصرية بكل أبعادها، وكجزء من التحلل العام في جسد الأمة العربية ومقاومته. هذا الدور الخطِر للمال النفطي حللناه بشكل كافٍ في الكتاب (الفصل العاشر: القطاعات الرائدة. تصدير العمالة)؛ ولذا نقتصر - في هذه الخلاصة - على مجرد الإشارة والتشديد.. والتشديد مقصود منه أن نهاجم أزمتنا الراهنة في عمقها الحقيقي.
و.. أخشى أن يتصور القارئ أننا أنهينا الكتاب والتحليل ـ في الفصل العاشر ـ بنظرة تشاؤمية؛ فالصحيح ـ كما أعتقد ـ أنني استخلصت من التحليل نظرة واقعية لطبيعة ما يواجهنا من مخططات خارجية، ومن نواقصَ وتشوهات في بنيتنا الاجتماعية، بل والمجتمعية (كأمَّة عربية وليس كمصر فقط). والمسار الذي أوصلنا إلى النتائج الحالية، لم يكن حتمًا أن نصل إليه مع إدارة مختلفة للصراع (بكل ما يتضمنه ذلك من علاقات داخلية وخارجية مغايرة). إن النتائج التي وصلنا إليها جزءٌ لا يتجزأ من مفهوم السلام الأمريكي ـ الإسرائيلي، وأغلب الظن أن الاتفاقيات ربطت بين ابتعاد القوات الإسرائيلية عن سيناء، وبين استمرار المسار الاقتصادي (والمسارات الأخرى المصاحبة)، الذي يضمن بقاء مصر خاضعة وضعيفة؛ أي يضمن الأمن والتوسع
للمشروع الصهيوني، وكسر هذا المسار يتطلب مساندة عربية قوية لأي تحرك مصري.. وكل هذا لا يدعو للتشاؤم؛ لأن بوسعنا أن نتغلب على أنفسنا وعلى أعدائنا، وأن ننهض بإذن الله، إذا وعينا أبعاد الصراع ومسرح العمليات، ومَلَكنا الإرادةَ.

عادِل حُسَيْن
كل الشكر لك
استفدت بكل قيمته
جعل الله فيه الفائدة لكل
باحث ولخير مصر
نووووووووووووور







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس