عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 02:40 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع

د ـ الخطوة الحاسمة ـ اتفاقيات الخليج: في الطريق إلى المجموعة الاستشارية، كانت الخطوة التالية بعد توقيع خطاب النوايا وإعلان السياسة، التوجه إلى دول الخليج، والعلاقة بين توقيع الحكومة على الوثيقتين، وبين هذا التوجه إلى الخليج، حددتها الأجزاء المحذوفة من خطاب النوايا الذي عرضناه، وهي تتضمَّن ـ أساسًا ـ نقطتين خطيرتين، وكانت النقطتان شرطين أساسيين لنجاح رحلة الخليج، ولإصدار اتفاق المساندة من مجلس إدارة صندوق النقد (41).
* النقطة الأولى التي حُذِفت من خطاب النوايا أشار إليها القيسوني على النحو التالي: "كان اتفاقنا مع الصندوق (أي خطاب النوايا الذي وقعه) لمدة عام، حصلنا بمقتضاه على قرض قيمته نحو 150 مليون دولار، يُسدَّد على خمس سنوات. كما حصلنا منه أيضًا على مبلغ آخر بقدر بنحو 44.4 مليون دولار من صندوق الضمان Trust fund التابع للصندوق، ونرجو أن نعقد مع الصندوق اتفاقًا في العام المُقبل لمدة ثلاثة أعوام، بما يزيد عن ثلاثة أضعاف هذا المبلغ (42) والرجل ـ كالعادة ـ يعرض الحقائق في صياغات مُضللة، فاتفاق ثلاث السنوات - وفق هذه الصياغة- أملٌ تتمنى الحكومة المصرية أن يقبل الصندوق تحقيقَه؛ فتحصُل على أكثر من 600 مليون دولار. وحقيقة الأمر أن الصندوق اشترط لتقرير اتفاق المساندة وتقديم التسهيل الائتماني، أن يكون خطاب النوايا عن العام 77/ 1978 مرتبطًا بالتزام الحكومة المصرية بمواصلة السياسات الرامية إلى إعادة تشكيل البنية الاقتصادية، حتى تمام العملية.
ولم يكتفِ الصندوقُ في هذا المجال ـ بطبيعة الحال ـ بكلام مُبهَم قابل للتأويل، فتَحدَّدَ الإطارُ العام للبرنامج المطلوب، وتحددت معالم جدول زمني للتنفيذ خلال سنوات ثلاث. وتوفيرًا للمرونة؛ ترك لمباحثات عام 1978 أن تصوغ رسميًّا هذا البرنامج في خطاب نوايا جديد، يغطي كل التزامات الفترة الممتدة، مع تحديد أدق لبرنامج السنة الأولى 1978/ 1979. وهذا الموقف من الصندوق مفهومٌ تمامًا؛ ففي مرحلة الهجوم الشامل لفرض الاستسلام الكامل، والتي بدأت عام 1976، وبعد الانتصار الجوهري الذي تبلور في الإجراءات المختلفة، وفي الالتزامات الواردة في خطاب النوايا (77/ 1978) وفي إعلان السياسة، كان طبَعيًّا أن يضمن الصندوق استمرار العملية بلا مراوغاتٍ تستفيد من أية مفاجآت سياسة. ويتدعم هذا الإنجاز باستراتيجية التنمية التي أُلزِمت الحكومةُ بتبنِّيها وفق إعلان السياسة مع البنك الدولي، والذي يغطِّي تقريبًا نفس فترة الاتفاق المُستهدَف مع صندوق النقد.
* قبل تناول النقطة الثانية التي أخفتها الحكومة، نذكر أن انعقاد المجموعة الاستشارية، مفروضٌ أنه خطوة نحو تدبير الاحتياجات التمويلية لخطة التنمية، وبالتالي كان طبَعيًّا أن يقال إن هذه المجموعة لن تنعقد إلا بشرط؛ أن تتم تسوية مشكلة الدين السائر (أي الدين القصير الأجل)، ومشكلة المتأخرات، التي تُمثل إشهار إعسار المدين، وقَضاءً على أهليته في عقد قروض خارجية جديدة. وأوضحنا في الفصل السابع فشلَ محاولات القيادة المصرية للتوصل إلى حل هذه المشكلة، من خلال اتصال مباشر مع الدول النفطية، يهدف إلى تحويل كل رأسمال هيئة الخليج (2000 مليون دولار) إلى قروض نقدية تواجه عجز العمليات الجارية. وترتبت على هذا الفشل كارثةٌ بالغة الخطورة مع بداية 1977، ولا تقارن أبعادُها بالاختناقات الشديدة التي واجهت ميزان المدفوعات المصري في الأعوام السابقة، وزاد من وطأة الكارثة، موضوعُ الودائع التي تدفَّقت من دول الخليج (أثناء 1975 بالذات) وهي ودائع تحت الطلب، واستخدمت المطالبة بسحبها كأداة للضغط الساحق في أواخر 1976 وأوائل 1977. وقد حدث أن توجه القيسوني إلى دول الخليج؛ للتباحث حولَ مشكلتَي الديون القصيرة الأجل والودائع.
بدأت رحلاته إلى الخليج في 20 آذار/مارس. وبعد مباحثات طالت بعضَ الشيء، قال: "إن الله - سبحانه وتعالى- قد وفقنا إلى حل هاتين المشكلتين"؛ إذ قبلت دولُ هيئة الخليج، المطلبَ الذي سبق أن رفضته مِرارًا وبإصرار، "فأقنعنا المسئولين عن الهيئة، بتوجيه رأس المال كله إلى التعاون؛ لمواجهة العجز في الميزان الحسابي". وبالنسبة للودائع، أفهمنا المسئول المصري أنها كانت مشكلة وهمية "فالواقع أنني عندما تكلمت بشأنها؛ سواء مع سمو الأمير فهد ابن عبد العزيز، أو مع الشيخ محمد أبي الخيل وزير المالية السعودي، أو مع سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، أو مع الأخ عبد الرحمن العتيقي وزير مالية الكويت، لم يكنْ هناك أي تردد منهم إطلاقًا في العمل على مساعدتنا، وهناك نقطة يجب أن نذكرها في هذا الصدد؛ لأننا في كثير من الأحيان، ننتقد الإخوة العرب، هي أنه وحينما ذكرت لهم أن هذه الودائع مُستحقة علينا، ونحن لا نقبل أبدًا، ولا من سياستنا أن نؤجِّل سداد ما علينا عُنوة واقتدارًا، وكل ما أريده هو أن أستأذن في تأجيل سداد هذه الودائع، فكان الرد: هل طالبكم أحدٌ بسدادها؟ إذا كنتم لا تستطيعون السداد فأجلوه، فقلت لهم: إننا لن نستطيع أن نسددها هذا العام،
أو العام القادم، أو العام الذي يليه، فقالوا: هل طالبناكم بشيء؟ (كذا)! وما دمنا لم نطالبكم بالسداد؛ فمن الأفضل ألا تتحدثوا في هذا الموضوع. ومن ثم، فنحن لم نتحدث عن هذه الودائع، والإخوة العرب أيضًا فعلوا نفس الشيء" (43).

* كيف تحققت كل هذه المعجزات؟!
يمكن أن نقول - بشكل عام، وعلى ضوء التجارب التي عرضناها - إن توقيع القيسوني على خطاب النوايا وإعلان السياسة، قبيل رحلاته "المُوفَّقة" إلى دول الخليج، كان مدخلاً لنجاح المباحثات. وهذا صحيحٌ؛ فقد استهدف مخطط الإغراق في الديون، خلق وضع ضاغط على الحكومة المصرية؛ كي تتمثل لتعليمات صندوق النقد الدولي. ونذكر أن مذكرة بول ديكي (الفصل الثامن) أوضحت أن الأمر يتطلب عقد صفقة متكاملة: فتتخلَّى حكومةُ مصرَ عن إدارة الاقتصاد القومي، مقابل تخفيف عبء الديون الخارجية. "ودون هذا المنهج، سنُسلم أنفسنا - عمدًا وبلا شك - إلى الإفلاس في 1977"، وقد فرطت الحكومة في استقلالها بالقدر الذي طلبه الصندوق في خطاب النوايا، وبالتالي كان متوقعًا ومفهومًا أن تصدر التعليمات إلى جهات التمويل؛ كي تقدم قدرًا موازيًا من التيسير في أزمة الديون. ولكن ما قبلته الحكومة من نوايا للعام 1977، وما بعده، لم يكن قد تحول بعدُ إلى سياسات منفذة؛ فبالتالي كان الأمر يتطلب أن تظل أداة العقاب مشهرة فوق الرقاب، إلى أن يتم التنفيذ الكامل، ويرتبط بهذا أن يتحول الخضوع الحكومي إلى وضع مؤسسي، بدلاً من أن يكون لحظة ضعف عابرة، أي: تتشكل سلطة (فعلاً وليس مجازًا) فوق الإدارة المحلية، ولها الصلاحيات والقدرة على التقرير، والمتابعة الدقيقة، وتوقيع العقاب المناسب في حالة المخالَفة. وقد أشارت إلى هذا الهدف أيضًا مذكرة ديكي، وتمكَّن الصندوقُ من انتزاع موافقة رسمية من الحكومة على ذلك في عام 1977، ولكن حذفت هذه الفقرة ـ لخطورتها ـ من خطاب النوايا الذي وصل إلى يدنا.
قامت صيغة هذه السلطة، على الأسس نفسها التي وردت بمذكرة ديكي؛ فالقروض النقدية "المُيسَّرة" تديرها جهات عيّنها الصندوقُ (وهي بالتحديد، مؤسسة مورجان ستانلي إنترناشيونال، وبنك تشيز مانهاتن). وهذه الجهات تتولَّى باسم صندوق النقد الصلاحياتِ التنفيذية في التفتيش والمتابعة وتُقدِّم تقاريرها إليه، ولا تفرج عن أية دفعة من القروض "الميسَّرة" إلا بعد موافقة الصندوق. وقد أثبت الصندوق ـ بكل الوضوح ـ تبعية استخدام القروض النقدية (التي تديرها هذه الجهات) لمواصلة الصندوق تقديم تسهيلاته المقررة في اتفاق المساندة، فإذا لاحظ الصندوقُ - من تقارير المتابعة (الصادرة عن المؤسسات التي عينها)، وبعد اتصالاته المباشرة ومباحثاته مع السلطات المحلية - أن هناك خروجًا أو تقاعسًا عن تنفيذ تعليماته؛ يتوقف عن تقديم تسهيلاته الائتمانية، وتتبعه الجهات الأخرى، فيعود الاقتراض المصرفي والاختناق، أو يشل النشاط الاقتصادي المصري الذي تضاعف اعتمادُه على الخارج بعجز مكشوف (نشرح هذه النقطة على نحو أكثرَ تفصيلاً في فقرة تالية).
إلا أن سلطة الصندوق لا تقف ـ في الواقع ـ عند حد الامتناع عن تقديم تسهيلات ائتمانية جديدة؛ فمع إلزام الحكومة بنوايا الصندوق الممتدة لأربع سنوات؛ بدءًا من عام 1977، تم ربط دائرة القروض النقدية المُيَسرة، بحلقة القروض المقدمة من مجموعة البنك الدولي، وبحلقة القروض المقدمة من وكالة التنمية الأمريكية، في سلسلة واحدة تمكن هذه الجهات من إصدار قرار موحد لاسترداد أموالها في أية لحظة، إذا رأى صندوق النقد (ومَن خلفه) أن هناك ضرورة لمثل هذا العقاب، وطبعًا تسلمت هذه الجهات الحقَّ القانوني في بيع كل أصول الدولة المصرية؛ لاسترداد ما لَها من ديون (انظر الفصل الرابع).
وفق هذا الترتيب الذي التزمت به الحكومة المصريةُ ـ في سريَّة مُطلقة ـ كان على رئيس المجموعة الاقتصادية، أن يتجه إلى دول الخليج؛ باعتبارها الطرف الذي كُلِّف بتدبير القسم الأكبر من الاحتياجات التمويلية للصفقة؛ فهي من ناحية صاحبة الودائع، وهي من ناحية أخرَى، مصدر القروض النقدية المطلوبة. وبالفعل بدأت رحلات القيسوني ـ كما قلنا ـ في 20 آذار/ مارس، وأعلن بعد ثلاثة أيام أن دول الخليج قبلت - من حيث المبدأ - تقديمَ قرض نقدي يبلغ حوالي 1500 مليون دولار من خلال هيئة الخليج، وكان هذا مجرد تأكيد على أن تعليمات الصندوق قد صدرت لهذه الدول، فقبلت فكرة تحويل كل رأسمال الهيئة إلى دعم احتياجات ميزان المدفوعات؛ لأن رأسمال الهيئة 2000 مليون دولار، سبق استخدام 250 مليون منها لهذا الغرض بعد أحداث كانون الثاني/ يناير، وكان التفاوض قائمًا على قدم وساق؛ لكي تضمَن الهيئة قرضًا آخر بإدارة ووكالة مجموعة تشيزمانهاتن، قيمته 250 مليون دولار. ولكنْ
لم تكن مهمة المباحثات الحصول على الموافقة المبدئية على أوجه استخدام رأسمال هيئة الخليج، فهذه الموافقة كانت معروفة بالقطع للوفد المصري قبل مغادرته للقاهرة، وكانت المباحثات تهدف ـ في الأساس ـ إلى تضمين اتفاقيات القروض تفاصيلَ ما أجمله صندوق النقد في خطاب النوايا، وخاصة صلاحيات ستانلي مورجان، وتشيزمانهاتن، وكان من حُسن التكتيك أن يكلف "الإخوة" في الخليج بهذه المهمة.

وصحيحٌ أن الإطار العام لهذه الصلاحيات كان محددًا، ولكن يبدو أن المفاوض المصري فوجئ بجسامة ما قُدِّم إليه في هذا الإطار، فطالت المباحثات، واضطر القيسوني ـ في مرحلة من المراحل ـ إلى إرجاء المباحثات للتشاور مع القاهرة، واجتمع بالفعل مع الرئيس السادات، وتشكلت لجنةٌ خماسيةٌ لدراسة قرض هيئة الخليج الكبير وشروطه واستخداماته (44). ولكن كان على القيسوني أن يعود في النهاية إلى الرياض مسرعًا، وكان ممكنًا - بعد ذلك - أن يواصل الجولة في دول الخليج الأخرى؛ لكي تعلن السعودية والكويت الموافقة على تدوير الودائع (5 نيسان/ أبريل)، أي تتأجل المطالبةُ بها دوريًّا كل سنة وحتى 1980، حسب انتظام الحكومة المصرية في تنفيذ التزاماتها الممتدة مع صندوق النقد الدولي (راجع الفصل الثالث).
· إن اتفاقية هيئة الخليج، واتفاقية تشيزمانهاتن، هما نقطة تحول هامة في المسار المصري نحو التبعية الاقتصادية. وأرجو أن يعود القارئ إلى التحليل الذي قدمناه للاتفاقيتَين (الفصل الثالث)، ولكن بوسعنا الآن أن ندرك ـ على نحو أعمقَ ـ خطورة ما سبق أن لاحظناه في ذلك التحليل، فتطور الأحداث يفسر لماذا أصدر رئيس الجمهورية في 6/ 11/ 1976 قانونًا بخصوص قرض تشيزمانهاتن ينص على مجرد قيمة القرض وسعر الفائدة وأجَل السداد، وحين أعلن نص الاتفاق بعد ذلك في مجلس الشعب ثبت أن الاتفاق، لم يوقَّع
إلا في 26/ 4/ 1977. فالمسألة هنا لم تكن مجرد خلاف في المواقف التفاوضية بين تشيزمانهاتن والسلطات المصرية، ولكنْ كان يرتبط أيضًا بحقيقة أن توقيت الاتفاق والتوقيع، كان جزءًا من الخطة العامة التي وضعها الصندوق، فالاتفاق في المرة الأولى كان في إطار إذعان الحكومة لمطالب الصندوق، في مقابل احتواء أزمة الديون، سيتحقق قبل نهاية 1976، وحين ثبت خطأ هذا التقدير، تأجل تدخل تشيزمانهاتن وهيئة الخليج إلى ما بعد انتزاع خطاب النوايا في آذار/ مارس 1977. وبشكل عام بوسعنا الآن أن نفهم الاتفاقيتين على ضوء تشابكهما الفعلي مع الخطوات الأخرى (كخطاب النوايا والمجموعة الاستشارية) بل ومع مجمل التطورات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي أدت إليهما. وبالتأكيد لم يكن ممكنًا أن نتوصل - عند تحليلنا السابق للاتفاقيتين - إلى دور صندوق النقد في التخطيط العام وإحكام الخِناق، فدور الصندوق لم يكن مُجسَّدًا بالحجم الصحيح في النصوص المنشورة للاتفاقيتين. وهذا طَبَعيٌّ وفقًا لمنهجه في العمل السري. وقد سبق أن أشرنا (الفصل الثالث) إلى أن الحكومة ناورت وأخفت عن مجلس الشعب قسمًا هامًا من نصوص اتفاقيتَي هيئة الخليج وتشيزمانهاتن، كما أوضحنا هنا، فإن المقابل لهذا القسم المخفي، قد استُبعد أيضًا مما كشفته الحكومة (أمام دائرة محدودة جدًا) من خطاب النوايا.

لقد حدث بالفعل، أن كلفت هيئة الخليج بتدبير الأموال، ولكن تولي إدارة العملية بنك دولي (تشيزمانهاتن) من ناحية، ومؤسسة ستانلي مورجان إنترناشيونال من ناحية أخرى، تحت قيادة صندوق النقد، وكان مستحيلاً أن تختفي تمامًا معالم هذا التصميم من نصوص الاتفاقيات المنظمة لشروط واستخدامات القروض، فقد نشر مثلاً ضمن نصوص اتفاقية قرض هيئة الخليج الكبير (1475 مليون دولار) أنه "يتوقف التزام الهيئة وفق هذه الاتفاقية على اقتناعها؛ استنادًا إلى المذكرة التفسيرية، وعلى أساس تقييمها بمساعدة صندوق النقد باحتياجات ميزان المدفوعات المصري، والإجراءات التي اتخذتها حكومة مصر لتحقيق توازن ميزان المدفوعات، وإعادة هيكلة دَينها الخارجي الإجمالي، وتعبئة مواردها من النقد الأجنبي، واتباع سياسات اقتصادية سليمة". ومع هذا النص (الذي لا يعبر تمامًا عن حجم وطبيعة دور صندوق النقد)، قالت الاتفاقية إن الهيئة "تقدم القرض عن طريق، إضافة مبالغَ إضافية إلى الحساب الفرعي للمقترض (أي: حكومة مصر) لدى بنك فيدرال ريزرف طبقًا للإجراء الذي اتفق عليه بين الهيئة ومؤسسة مورجان ستانلي الدولية". ولكن حَذفت الحكومةُ من الوثائق المقدمة إلى مجلس الشعب، ومن نصوص الاتفاقيات التي نشرت في الجريدة الرسمية"- كلَّ ما يفصِّلُ الدور المسند إلى مؤسسة مورجان ستانلي هذه، وكذلك كل ما يحدد دور بنك تشيزمانهاتن ليمتد (الذي يتولى إدارة قرض الـ 250 مليون دولار). وإذا كانت الصلاحيات المخولة لهاتين المؤسستين غير معروفة بدقة حتى الآن، فإن القدر المتيقن منه، يؤكد أن لهما وضعًا مؤسسيًّا مُعترفًا به داخل الجهاز المصري، يتابع بشكل مباشر الموازنة العامة والموازنة النقدية. وفي الاجتماع الثاني للمجموعة الاستشارية في باريس (14 ـ 16 حزيران/ يونيو 1978) كان الوفد المصري الرسمي يضم حامد السايح وزير الاقتصاد، وعبد الرازق عبد المجيد وزير التخطيط (على رأس تسعة من كبار المسئولين في القطاع الاقتصادي)، وأحمد هلال وزير الصناعة والبترول (على رأس سبعة من كبار المسئولين في قطاعه)، وإبراهيم شكري وزير الزراعة (على رأس ثلاثة من كبار المسئولين في قطاعه)، ونعيم
أبو طالب وزير النقل والمواصلات (على رأس ثلاثة من كبار المسئولين في قطاعه)، وريتشارد دبس رئيس بعثة ستانلي مورجان (وكان وفد المؤسسة يتألف من دانييل موريس نائبًا للرئيس، ونورنا صاروفيم، وأحمد فودة).. أي حتى شكليات الاستقلال السياسي والاقتصادي، لم تَعُدْ مرَاعاةً. وهذا أيضًا من الأسرار التي لم تعلن داخل مصر(45).

على أيَّة حال، أذعنت الحكومةُ للمطالب المقدمة عن طريق دول الخليج، وقبلت تسليم سلطاتها إلى صندوق النقد (والمؤسسات المعاونة). وعاد نائب رئيس الوزراء المصري من جولاته في الخليج مصرحًا بأنه "عائد من رحلته مشحونًا بطاقة من التفاؤل بالنسبة للإسهام العربي الواسع في التنمية المصرية" (44). ولم يكن التفاؤل بلا أساس؛ فقد أنجز الرجل ما كُلِّف به، وأبلغ صندوق النقد رسميًّا بالتزام الحكومة المصرية بنتائج مباحثاتها في الخليج. ووفقًا للبروتوكول، كان ينبغي أن يعتمد الصندوق هذه النتائج (باعتبارها امتدادًا لالتزامات الحكومة المصرية في خطاب النوايا) قبل قبول الأطراف الأخرى التوقيع على الاتفاقيات مع الحكومة المصرية. وتعبيرًا عن هذا البروتوكول، اعتمد مجلس إدارة الصندوق خطاب النوايا (الموقع في أوائل آذار/ مارس) بعد رحلة القيسوني الناجحة في الخليج، وأعلنت ترتيبات المساندة في 20 نيسان/أبريل، وعلى أثَر هذا وقعت اتفاقية تشيزمانهاتن في 26 نيسان/أبريل، ووقعت بعدها الاتفاقية مع هيئة الخليج في 5 أيار/مايو، ومع الضوء الأخضر الذي أطلقه الصندوق، وصل منير بنجنك (نائبُ رئيسِ البنك الدولي) إلى القاهرة حاملاً رسالة خاصة للرئيس السادات من "روبرت مكنامارا" حول المجموعة الاستشارية، وأعلن أن البنك الدولي أرسل الدعوات إلى الجهات "الصديقة" المشاركة في المجموعة، وأرفق البنكُ مع الدعوة، المذكراتِ المقدَّمة من الحكومة المصرية حول الاقتصاد المصري ومشاكله، وخطوات "إصلاحه"، وما نُفِّذ منها تحت إشراف صندوق النقد، ومع المذكرة تعليق من البنك يشيد بجدية مصر في الإصلاح، ويعبر عن ثقته في المستقبل (46).
بقي أن نشير إلى أن عمليات تحويل الدَّين السائر إلى دين ثابت، لم تقتصرْ على الترتيبات السابقة، كانت أموال دول الخليج المصدر الأول، ولكن كان مطلوبًا أيضًا إعادة جدولة تسهيلات المورِّدين وبعض من قروض الحكومات، وقد تكفَّل صندوق النقد بذلك أيضًا بعد توقيع الحكومة المصرية لخطاب النوايا، ولكن كان على الرئيس السادات أن يذهب بنفسه لإنهاء المهمة أثناء زيارته لفرنسا وألمانيا الاتحادية (أوائل نيسان/ أبريل)، وهو في طريقه إلى مباحثات الولايات المتحدة، التي أسفرت عن زيادة المكون السلعي في القروض الأمريكية لعام 1977.
كذلك ذهب رئيس مجلس الوزراء (ممدوح سالم) إلى إيران للغرض نفسه. ولم تُعلَنْ شروط هذه الصفقات؛ كجزء من سياسة إخفاء الجوهر الخطير لاتفاقيات "التيسير"، ولكن من حقنا أن نفترض أنها أضافت دعمًا لسلطة صندوق النقد.
ونذكر أننا طلبنا من القارئ (الفصل الأول) أن يحتفظ في ذاكرته بتجربة مصر في القرن الماضي، وبعد كل التطورات التي تابعناها منذ 1974، لا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى أي تدخل من جانبنا، لشرح التشابه العجيب بين ما حدث أيام الخديو، وما حدث أيامنا، وكيف استُخدِم الإغراقُ في الديون لتقويض الاستقلال. سنقتصر فقط على التذكير بأنه حدث أيام الخديو أن أدَّت مرحلةُ الإغراق في الديون (وخاصة الدين السائر) دورها المقصود في الإرباك وانتزاع التنازلات المتفرقة، وحين وصل الاختناق إلى الذروة، بدأ التدخل الخارجي مرحلةَ التسلط المنظم والمتزايد لإدارة الاقتصاد القومي باسم احتواء الأزمة وتيسير حلها، وفرضت البعثاتُ الدولية وصايتها على الموارد والإنفاق؛ لضمان حق الدائنين، مقابل تحويل الدين السائر إلى دين ثابت، فائدته أقل وأجله أطول، وتيسير سداد الالتزامات بالنسبة للدين الثابت (وهذا ما يقابل في أيامنا "إعادة جدولة"). وقد أُطلِق على هذه الصفقة أيام الخديو: "قانون التصفية". وهذا بالدقة ما تكرر في آذار/ مارس ـ نيسان/ أبريل 1977.
لقد ورث صندوق النقد الدولي على - مستوى العالم كله- النموذج الأولي الذي مثلته في مصر بعثاتُ كييف وفييه وجوشن وجوبير، أثناء السبعينيات من القرن الماضي. ولاحتواء الدين السائر الجديد (بعد أن أدَّى أهدافه)، تقدم صندوق النقد – كما تقدمت بعثاتُ القرن التاسع عشر - بمشروعاتٍ لتحويل الديون القصيرة الأجل، إلى ديون ذات فائدة أقل، وأجل أطول، وللاتفاق مع أصحاب الديون المتوسطة والطويلة الأجل على تيسيرات في السداد، وكما امتدت وتشعبت مهامُ بعثاتِ القرن التاسع عشر بواسطة الخبراء والمستشارين أصحاب المرتبات العالية، والذين عُيِّنوا في كل المجالات والوزارات، وعلى رأسها وزارات القطاع الاقتصادي، امتدَّت أيضًا وتشعَّبت مهام الهيئات الدولية في أيامنا هذه، وبثت خبراءها ومستشاريها للإشراف على الموازنة العامة والموازنة النقدية، ومجمل النشاط الاقتصادي والتنمية. ويُذكر أن بيت روتشيلد (في قانون التصفية الأول) تولي تمويل عملية تحويل الدين السائر إلى دين ثابت في القرن التاسع عشر، وقد تولَّت المهمة (في قانون التصفية الثاني) هيئةُ الخليج، ولكن يبدو مؤكدًا أن بيت روتشيلد (أو ما يمثله) كان مشاركًا أيضًا هذه المرة من خلال ستانلي مورجان وتشيزمانهاتن (ولا نقول صندوق النقد). ومؤكد بالتالي، أنه لم يعد في مصر سر اقتصادي واحد
لا تعرفه الولايات المتحدة و.. إسرائيل. وقد نُشير في هذا الإطار إلى أن منير بنجنك الذي نظم عقد المجموعة الاستشارية وترأس اجتماعها يهوديٌّ (من أصل تركي). وفضلاً عن دوره الفعّال، فإن موقعه هذا كان رمزًا لطبيعة ما تحقق.

هـ... ثم عُقدت المجموعة الاستشارية: تم لقاء المجموعة الاستشارية الأولى في مقر البنك الدولي في باريس، وحضرته وفود من 25 دولة ومؤسسة دولية هي: البنك الدولي ـ كندا ـ فرنسا ـ ألمانيا الغربية ـ إيران ـ إيطاليا ـ اليابان ـ الكويت ـ هولندا ـ قطر ـ المملكة العربية السعودية ـ دولة الإمارات العربية ـ المملكة المتحدة ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ البنك الأفريقي للتنمية ـ الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ـ الصندوق الخاص للأوبك ـ برنامج الأمم المتحدة للتنمية (47).
وكان مقررًا أن يتم لقاء المجموعة الاستشارية في نيسان/ أبريل 1977، "ثم رُؤي - لعدة أسباب - تأجيلُه لشهر أيار/ مايو". هذا ما قاله نائب رئيس الوزراء المصري، والأسباب العدة التي لم يذكرها؛ هي أن توقيع الحكومة المصرية على صكوك الاستسلام المختلفة، تأخَّر بعض الوقت، وبعد خمسة أيام من توقيع اتفاقية الـ 1475 مليون دولار مع هيئة الخليج، انعقد في 11 و12 أيار/ مايو اجتماع باريس.. هذا الربط لا نضيفه من عندنا، ولكن أعلنه منير بنجنك (نائب رئيس البنك الدولي ورئيس اللقاء) بطريقته الخاصة، فقال في كلمته الافتتاحية (48): إن كافة الأطراف المعنية وصلت إلى أن المساعدات يمكن أن تحول وتُستخدَم بكفاءة أعلى؛ إذا اجتمع كل مقدمِي المساعدة الأساسيين، مع ممثلي الجانب المصري على فترات معقولة؛ لمناقشة إسهاماتهم في تنمية اقتصاد مصر، وحل مشاكلها الاقتصادية؛ ولتأكيد هذا المعنى، "طلبت" الحكومة المصرية من البنك الدولي، أن ينظم مجموعة استشارية، تتم من خلالها هذه المناقشاتُ والإجراءات، "ووافقت" الحكومة المصرية على أنه لا بد من اتخاذ "بعض الإجراءات المعينة في مجال الإدارة الاقتصادية" قبل الاجتماع الأولى للمجموعة، وأعلنت الحكومة "من ناحيتها" أنها ستتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد ـ قبل الاجتماع ـ حول سياسات اقتصادية محددة للأجل القصير، وكذلك أخذت تُعِد إطارًا لاستراتيجية خطةٍ متوسطة الأجل. وفي هذه الأمور، حدث تقدم كبير في الأسابيع الأخيرة، فوقَّعت الحكومةُ خطاب نوايا مع صندوق النقد (4 آذار/ مارس) ـ ووافق مجلس مديري الصندوق، على ترتيب مساندة (21 نيسان/أبريل)" ـ (لاحظ كلمات: طلبت، ووافقت، ومن ناحيتها.. يكاد المريب يقول: خذوني!) وأضاف منير بنجنك أن "الاحتياجات التمويلية لمصر كبيرةٌ، ولكن هذا الدعم المؤقَّت، واستخدامه بكفاءة من قِبَل مصرَ، سيجعل إحداث تحسُّن أساسي في الوضع الاقتصادي أمرًا ممكنًا عام 1980". (لتفسير حكاية عام 1980 ـ عام الرخاء ـ انظر الفصل العاشر).
وقد كان ضروريًّا في عام 1977 تخصيصُ نسبة أكبر من المساعدات النقدية السلعية في حُزمة المساعدات المقدمة ولكن في السنوات القادمة، ستزداد تدريجيًّا نسبةُ مساعدات المشروعات. وقد حدثت تطوراتٌ هامة لتيسير المشكلة العاجلة؛ فأولاً تم التوصل إلى اتفاق أساسي بين مصر وهيئة الخليج، وسنسمعُ من المندوبين الحاضرين هنا عن تفاصيل هذا الاتفاق. وبالإضافة أحدثت الولايات المتحدة بعض التغييرات في ترتيب برنامج مساعداتها؛ بحيث تزيد معدلات استخدام هذه المساعدات، وسيشرح وفد الولايات المتحدة هذه الخطوة. وكل ذلك كان في اتجاه مواجهة الاحتياجات العاجلة في عام 1977. وكان طبَعيًّا أن يختم منيرُ بنجنك كلمته بتذكير الحكومة المصرية بأن "1978 على الناصية، وكل المندوبين الحاضرين هنا، يحتاجون إلى معرفة الحجم المستمر والتركيبة المحددة لاحتياجات مصر".
بعد هذه الكلمة الافتتاحية، تلا منير بنجنك رسالة الرئيس أنور السادات إلى روبرت مكنمارا (رئيس البنك الدولي) ردًّا على رسالة الأخير إلى الرئيس (مع قرار صندوق النقد بترتيبات المساندة) ولإبلاغه عن الاجتماع الوشيك للمجموعة الاستشارية. ولم تكن رسالة الرئيس إجراء في نطاق المجاملات، ولكن في إطار تأكيد الإطار العام للسياسة المصرية وتحالُفاتها الدولية، ولمسارها الاقتصادي كما التزمت به، بلسان المسئول الأول في الدولة. كان نص الرسالة كالتالي (والتشديد على بعض الكلمات مضافٌ من المؤلف):
عزيزي مستر مكنمارا،
لقد رأيت رئيس المجموعة الاستشارية مستر بنجنك، وتلقيت منه معلوماتٍ مفصلة عن خلفية المجموعة، وعن الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه، وأكون سعيدًا إذا نقلتم أطيب تمنياتي في هذه المناسبة إلى أعضاء المجموعة، فكافة المندوبين الذين يلتقون في باريس، يمثلون أقطارًا تُعتبر مصر أقرب أصدقائها، ومنظمات متعددة الأطراف تتمتع بعلاقات ممتازة ومستمرة معها. لقد أبدى الجميع اهتمامهم العظيم بتنمية اقتصاد مصر، على النحو الذي أثبتته - مؤخرًا من جديد - الاتفاقياتُ الأساسية التي صدق عليها، أو التي في طريق الإنهاء.
إننا نرحب بنوعَي الدعم اللذين أُتِيحا لنا: أولاً: مساعدة ميزان المدفوعات، ستُعيننا في التغلب على أكثر الصعاب التي نواجهها استعجالاً، والتي وجدت بلادي والأقطار الشقيقة الأخرى نفسها في داخلها. ثانيًا، نحن نولي - بنفس القدر - اهتمامًا كبيرًا بمساعدات المشاريع والسلع التي تعتبر استثمارًا للمستقبل، وتعين في الإعداد للخطوات الأسرع جدًا في التنمية الاقتصادية التي تهدِف سياستُنا إلى حفزِها. وخلال السنوات القليلة القادمة، ومع تحسُّن الموقف في منطقتنا، يكون طبَعيًّا أن نولي بالتدريج اهتمامًا أكبر بهذا النوع الأخير من التعاون.
لقد راجعت إعلان السياسة الذي قدمه إليكم د. القيسوني نائب رئيس مجلس الوزراء، ونحن نشعر أنه يحدد بوضوح إطار استراتيجية مصر للتنمية، والإصلاحات الاقتصادية، وأهداف النمو عبر فترة خطة الخمس سنوات التي تنتهي 1980.
إن اتفاقيات التعاون والتمويل التي تم التصديقُ عليها، والتي سيتم التباحث بشأنها في المستقبل، تحتل مكانًا هامًا في السياسة الخارجية والاقتصادية لمصر. وإنني أوليها اهتمامًا مباشرًا شخصيًّا. وقد أصدرت التعليمات الضرورية بتقديم تقارير إلى فترات منتظمة، عن التقدم المحقق وعن أية صعاب يواجهها تنفيذ هذه الاتفاقيات.
مع أطيب تمنياتي الشخصية، ومع شكري للعمل المفيد الذي يقوم به البنك الدوليُّ بالتعاون مع حكومتي.
* * *
* بعد تلاوة هذه الوثيقة، طلب رئيس المجموعة الاستشارية (منير بنجنك) من عبد المنعم القيسوني "أن يقدم وجهات نظر الحكومة عن الوضع الاقتصادي الجاري، وأولوياتها الاقتصادية، والسياسات المتبعة للتغلب على مشاكلها القصيرة الأجل، ولتنفيذ استراتيجيتها في التنمية". وكان مطلوبًا ـ في الواقع ـ من قائد المجموعة الاقتصادية في الحكومة المصرية، أن يفضل ما أجمله الرئيس السادات، وبالتالي كان مطلوبًا أن يعلن في حضور كل المندوبين التزام الحكومة المصرية بما سبق أن وُقِّعت عليه في الاتفاقيات المختلفة، وأن يضيف كل ما يؤكد الالتزام، فتقدم ممثل الحكومة المصرية إلى المنصة ليقول:
* كان ضروريًّا أن نكسر الحلقة المفرغة التي بدا أن مصر ستتردَّى فيها، "وكان لا بد من تبني برنامج طموح من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية، التي تمكِّن بلادنا من الوقوف على أقدامها بحزم، ومن استخدام كل إمكانياتها على نحو صحيح، ورفع مستوى المعيشة لشعبها، واحترام التزاماتها كلما حل موعد سدادها، واحتلال موقعها الطبيعي في مجتمع الأمم".
* وقد شرعنا في تجهيز البرنامج المطلوب بتصميم حازم، وإصرار شديد. إن حكومتنا وشعبنا يؤيدان بحزم هذا البرامج، ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، ومجلس الوزراء، يعطونه الدعم الكامل.. وبعون الله، سنحقق أهدافنا".
* ونحن نعتقد أن كل هذه الأهداف، يمكن أن تحقق حين يسود السلامُ، ونحن نطلب السلام لكل المنطقة، سلامًا مع العدل والكرامة.. لقد أعلنا نوايانا في هذا المجال، وعقدنا العزم على العمل مع المجتمع الدولي باتجاه هذا المقصد، وينبغي الإشارةُ إلى أنه في كافة الخطوات التي اتخذناها منذ بداية عام 1977 كان رئيس الجمهورية يعطي وقتًا كافيًا لمناقشة المشاكل الاقتصادية، ولتصميم السياسات الاقتصادية، ولمتابعة تنفيذها، رغم العبء الثقيل الذي يتحمله في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية. وهو يعطي أيضًا قسمًا كبيرًا من وقته في محاولة التوصل إلى سلام عادل وكريم؛ حتى يمكِّن بلاده من توجيه نسبة كبيرة من مواردها للتنمية الاقتصادية".
* ومن الضروري أن نوضِّح سياساتنا واتجاه خطونا، (في العشرين عامًا الأخيرة أو ما يقرب من ذلك (أي بدءًا من 1957)، وخاصة منذ التأميمات الشاملة في عام 1961، تبنينا سياسة للإدارة المركزية، ولنظام الحزب الواحد، ومجموعة من الإجراءات الاشتراكية التي تصادمت في بعض الأحيان مع معتقداتِنا وتقاليدنا العريقة. إن تاريخنا وتقاليدنا تشير إلى أننا في الأساس شعب متدين (وفي الحقيقة كانت منطقتنا مهد الأديان الرئيسَة). لقد اعتمد اقتصادنا - لفترة طويلة - على نهر النيل، واستلزم ذلك إدارة الدولة، وتدخلها في الري وتوزيع المياه، وفي الصرف.. إلخ. ولكن بجانب الأنشطة الحكومية، ازدهر القطاع الخاص بشكل عام"... "لقد آمنا بعمق بضرورة المزيج الملائم بين الأنشطة الحكومية والأنشطة الخاصة. وهذه هي أكثر السياسات قبولاً لدى شعبنا، وهذه هي السياسة التي نتبناها، إننا نؤمن بكرامة الإنسان، وبحريته في اختيار دينه ومُعتقداته ومهنته".
* وفي المجال الاقتصادي يمكن تلخيص هذه السياسة على النحو التالي:
ينبغي أن تكون الأنشطة الرئيسَة للقطاع العام في مجال الهياكل الارتكازية، فينبغي أن تتولى الحكومة أمرَ الطرق، النقل، المواصلات، مياه الشرب، الكهرباء، الري، إلى جانب الصحة والخدمات التعليمية، وتقديم الإسكان الشعبي الرخيص.
ينبغي أن يتولَّى القطاع الخاص الهيكلي الذي يقوم على هذه الهياكل الارتكازية في الزراعة والصناعية والتجارة، بالإضافة إلى المهن المتنوعة؛ فالقطاع الخاص يملك القدرة الخلاقة، وحافز الربح، وإمكانياته الفذَّة.
ومع ذلك، فإن التزاوج بين القطاع العام والقطاع الخاص في مجالات معينة من هذه الأنشطة، ليس مستبعدًا، وقد يحتفظ القطاع العام بمِلكيته الحالية لمشروعات معينة، مع إمكانية بيع جزء من حقوقه إلى العاملين في المشروع، ولكن يجب أن تكون إقامة المشروعات الجديدة مسئولية القطاع الخاص في الأساس.
وحتى انعقاد المجموعة الاستشارية، لم تكن الحكومة قد انتهت بعدُ من إقرار القانون، الذي يمنح المستثمر المصري مزايا قانون استثمار المال العربي والأجنبي، ولم تكن الحكومة قد انتهت بعدُ من تعديل قانون 43 على النحو الذي يطلبه المستثمرون الأجانب؛ ولذا تطَلَّب الأمرُ تأكيدًا خاصًا على التزام الحكومة في هذين الموضوعين؛ "فقد أعلنا نيَّتنا الصارمة بالتوسع الملموس في القطاع الخاص المصري، ومشروع القانون الذي يعطي كل التشجيع الضروري، قُدِّم بالفعل إلى البرلمان، وكذلك تم تشجيع الاستثمار العربي والأجنبي، الذي بدأ من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادي، ومشروع القانون الجديد الذي أزاح المعوقات المختلفة لهذا الاستثمار، وعامله بأفضل سعر للصرف، هو بالفعل في المرحلة النهائية من المناقشة في البرلمان، وتمت الموافقة عليه من كل اللجان البرلمانية المعنية"، "وقد تمت الموازنة على إقامة سُلطة عُليا تملك الصلاحيات الضرورية للتغلب على الروتين، والموافقة على الاستثمارات، والحد بشكل جذري من كل السيطرة والتدخلات البيروقراطية (...) وقد قررنا تغيير القوانين الخاصة بالبحث عن المعادن؛ حتى نشجع عمليات بحث سريعة ومربحة من خلال مشروعات مشتركة بين القطاع العام والشركات العربية والأجنبية" (49).
* * *
لا شك أن رسالة الرئيس، وخطاب نائب رئيس مجلس الوزراء، أبهجا الحاضرين، والفقرات الكثيرة التي أسقطناها من خطاب القيسوني كانت تكرر التزام الحكومة بكل ما سبق أن سجلناه عن اتفاقياتها مع الجهات المختلفة؛ إذ رأينا أن نقتصر على الالتزامات الجديدة، وعلى تبيان اللهجة العامة، وحتى تلك الفترة كان يصعب الحديث بهذه اللهجة داخل مصر، ويتعذر الإفصاحُ عن كل النوايا التي صرّحت بها الحكومة في الاجتماع.
* * *
* وكان على ممثلي الجانب الآخر أن يتكلموا، فقد تلا رئيس الوفد الأمريكي نص الخطاب الذي أرسله وزير الخارجية (فانس) الذي "أشاد بالسياسة السليمة المعتدلة التي تتبعها مصر سياسيًّا" (42). وبعد القيسوني قدم ممثل صندوق النقد الدولي (جنتر) تقييمًا لموقف الحكومة المصرية. قال الرجل إنه ـ التزامًا بمبدأ المَيْزة النسبية ـ سيركز على مجموعة الأمور الاقتصادية والتمويلية التي يهتم بها الصندوق في المقام الأول، "والتي يملك المتحدثُ بعض معلومات عنها" (أرأيت التواضع؟!). وصرح جنتر بأن "مهمة الصندوق مساعدة مصر في صياغة سياساتها، وبواسطة توفير جزء من التمويل الضروري". ولحسن الحظ حدث حلٌّ لمشكلة تمويل العجز في ميزان المدفوعات قُبَيل اجتماع المجموعة الاستشارية؛ نتيجة لترتيب المساندة من صندوق النقد، وللاتفاق مع هيئة الخليج، وكان برنامج المساندة لعام واحد خطوة هامة نحو إصلاح السياسة، ولكن ـ كما أشار د. القيسوني ـ فإن الحكومة تنتوي إعداد برنامج مناسب (يُنفَّذ في أعقاب البرنامج الأول)، لقاء ترتيب ممتد للتسهيلات. وهذا البرنامج يغطي فترة سنتين أو ثلاث، ومن شأنه أن يزيد إمكانيات التمويل من الصندوق، وإذا تحققت السياسات التي يتوقعها الصندوق؛ سيختفي عجزُ المدفوعات، ويتوطد إطار التنمية الاقتصادية.
وقد أوضح جنتر أن رضاءه عمَّا تحقق، لا ينفي أن النوايا التي لا زال مطلوبًا من الحكومة أن تعلنها رسميًّا، وبشكل متكامل لا زالت كثيرة، وإطار هذه النوايا ـ كما جاء على لسان جنتر ـ لم يخرج عمَّا أعلنت الحكومة نيتها بخصوصه بعد ذلك، في خطاب النوايا الذي وقعه ممدوح سالم (أيار/ مايو 1978) وقد ذكّر ممثل الصندوق الحكومة المِصرية ـ كما فعل ممثل البنك الدولي ـ بأنها تحتاج إلى تمويل أجنبي ميسر بكمية كبيرة، ولكن تقدير الاحتياجات والالتزامات "يتوقف على السرعة التي يمكن لمصر أن تُنفذ بها تعديل سياساتها"... وإذا "كان متوقعًا أن تقل – بحدة - حاجةُ مصر إلى تمويل ميزان مدفوعاتها عبْر عدد من السنوات التالية، فإن هذه الاحتياجات يُتوقَّع أن تكون كبيرة عام 1978" (50).
وتكلم عن البنك الدولي وليم هامفري، فاستعرض اطراد الزيادة في قروض البنك الموقعة مع مصر، وقال إنها "تعكس حكمنا بأن مصر تبدأ في اتخاذ الإجراءات المطلوبة لحل مشاكلها الاقتصادية الصعبة، ولإقامة أهليتها للاقتراض على أساس أصلب.. وإذا تواصلت التطورات في الاقتصاد المصري في نفس المسار الذي نُوقش في هذا الاجتماع، فإننا نأمُل أن نزيد دعمنا في المستقبل كلما صار الاقتصاد أكثر قوة وتحملاً لحجم أكبر من الإقراض ذي الشروط الأشد.. وبالإضافة إلى جهودنا في الإقراض، فإننا نخطط للاستمرار في مناقشاتنا مع السلطات المصرية ـ ودائمًا بالتشاور المباشر مع صندوق النقد ـ حول السياسات والتطورات الاقتصادية الشاملة، وسنواصل أيضًا حوارنا حول القضايا القطاعية الهامة" (51).
وقد وجه أعضاء الوفود عديدًا من الأسئلة إلى الوفد المصري، وأحاطت الأسئلة والاستفسارات بكافة القضايا، بدءًا من خطة التنمية وأولوياتها وموعد الانتهاء منها، إلى سياسة القروض، وقروض المشروعات، وأسباب التأخر في استخدامها، وانتهاءً بتنظيم الأسرة والتعليم، وأكدت الوفودُ المشتركة على ضرورة دعم القطاع الخاص وتقديم تسهيلات موردين، عن طريق ترتيبات تجارية لمنح هذا القطاع ميزات تفضيلية، وأثارت الوفود أنه لا ينبغي أن يُسمح للقطاع العام بالتدخل الكبير في تحديد دور القطاع الخاص، وأبدت بعض الدول رغبتها في التعاون مع الحكومة المصرية في تنشيط القطاع الخاص.. إلخ.
وقال القيسوني إنه يسعده أن يحيط "مجلس الشعب الموقَّر بأن الروح التي سادت اجتماعات المجموعة الاستشارية؛ مثل تلك التي سادت الاجتماعات التي سبقتها في الدول العربية الشقيقة، وفي الولايات المتحدة، والدول الأخرى التي زُرناها خلال الشهور الأربعة الأخيرة، كانت روح مودة وصداقة واحترام". ولكنَّ بعض المراقبين، وعددًا ممن حضروا الاجتماعات، لم يلمَس هذهِ الروح على ما يبدو، وعبَّر باسمهم لطفي عبد العظيم (رئيس تحرير الأهرام الاقتصادي) حين كتب أنه "واضح للأسف الشديد لكل مراقب للأحوال الاقتصادية، أننا نمر بحالة يمكن لنا أن نطلق عليها ـ دون مبالغة ـ أنها حالة ذعر اقتراضي (...) بل إن الدراسات التي ينطلق منها تحركنا الاقتصادي، يبدو أنها تصور أزمة مصر الاقتصادية، على أنها أزمة سيولة عارضة لا غير. (....) ومن ثم، فلا داعي للدهشة عندما يقف المسئولون المصريون في باريس، ليقدموا كشف حساب للسيد منير بنجنك نائب رئيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وعندما يقوم أعضاء المجموعة الاستشارية بامتحان المسئولين المصريين فيما يتعلق بسياسات تنظيم الأسرة والتعليم، والأجور وتنظيم القوَى العاملة وسياسة إنتاج الأغذية، والمواد الأولية اللازمة للزراعة، كما ناقشوا المسئولين في (تصورهم) لكيفية تغلب الحكومة المصرية على مشكلة عدم سرعة استخدام المساعدات والقروض المقدمة لها، وفي موقف الحكومة من القطاع الخاص.. إلخ (52)" هذا الوصف أكدَّه بصراحة بعضُ من حضر المجموعة الاستشارية الأولى، وقالوا إن الأسئلة التي انهالت عليهم، ممن يفهم ومن لا يفهم، جعلتهم يشعرون أنهم بالفعل أمام امتحان مهين (53).
وماذا بعد نجاح الوزراء في الامتحان؟ ماذا بعد ثبوت أن ترويض الدولة المصرية قد أتى فعلُه؟ لم يكن مقررًا ـ كما قلنا ـ أن يلتزم الحاضرون بأي شيء محدد قبل مصاعب السنوات القادمة، وحسب تعبير القيسوني، فإن "الوفد المصري قد ركز في البيانات التي ألقاها، وفي مناقشاته مع الوفود، على أن المعونات التي تطلبها مصر ليست لسنة واحدة فقط، بل ستستمر لمدة أربع سنوات.... ولهذا فإن مهمة الوفد من أجل إقناع الوفود المشتركة، كانت أصعبَ كثيرًا مما لو كانت المساعدة مطلوبة لمرة واحدة". ولكن
لم تكن المسألة تتعلق بالإقناع؛ إذ لم يكن واردًا أصلاً تقرير برنامج منتظم لتدفق "المعونات" في السنوات التالية، كان الهدف معاينة نتائج "المعونات" التي قدمت في السنوات السابقة، وتقديم التهنئة لصندوق النقد وللبنك الدولي على نجاحهما الباهر.


(4) تحركات وتوضيحات بمناسبة المجموعة الاستشارية:
أ ـ بعثة موللر:
في مواجهة الغزو الاقتصادي الخارجي أثناء القرن التاسع عشر، حاول الخديو أن يلعب على التناقض بين القوَّتين العُظميين في ذلك الزمان: إنجلترا وفرنسا. وفي عصرنا، حرصت الولايات المتحدة أن تبعد عن الميدان كل القوَى الأخرى، من أجل مزيد من إضعاف الموقف المصري في مواجهة الغزو الجديد. ولم يقتصر مخطط الحكومة الأمريكية على إبعاد الاتحاد السوفييتي، ولكن شمل أيضًا أوروبا الغربية بمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية المتميزة، قبل تطورات الشرق الأوسط. واحتكار الولايات المتحدة لمفتاح الحرب والسلام في المنطقة مسألة مفهومة وواضحة ـ كخط عام ـ ولكننا نشير في السياق الحالي إلى الموقف الحاسم من بعثة موللر، وتقريرها الشهير، بمناسبة ما ذكرناه عن الخطوات المختلفة التي أدَّت إلى المجموعة الاستشارية.
فمع انتفاضة 18 كانون الثاني/ يناير 1977، قبلت دول الخليج والجهات الأخرى مطلب الحكومة المصرية، بالاحتكام إلى خبراء غربيين حول المستقبل المرشح للاقتصاد المصري، وحول السياسات التي يصرّ عليها صندوق النقد الدولي. وبالفعل صدر في 18 كانون الثاني/ يناير بيانٌ من حكومة ألمانيا الغربية، وبموافقة الرئيس السادات ينص على التالي: "بِناءً على طلب رئيس جمهورية مصر العربية، عبر المستشار الاتحادي لجمهورية ألمانيا الاتحادية عن استعداده لإرسال الوزير الاتحادي السابق بروفيسور د. أليكس موللر؛ كمستشار شخصي للرئيس المصري أنور السادات؛ تنفيذًا لاتفاق التعاون الفني بين الحكومتين في 27 حُزيران/ يونيو 1973". وتحددت مهمة موللر ـ بشكل أساسي ـ في تقرير يُرفع إلى الرئيس، واستعان الرجل بفريق من المعهد الألماني للتنمية (برلين) (54). وكان متوقعًا أن تستغرق المهمة عامًا كاملاً، ولكن اقترح موللر ـ نتيجة لظروف أحداث كانون الثاني/ يناير ـ أن ينتهي من إعداد تقريره في أيلول/ سبتمبر، وفرغ منه فعلاً في 30 حزيران/ يونيو، بفضل "التعاون النموذجي مع السلطات الحكومية المصرية، ولجنة المجتمعات الأوروبية Commission of the European communities وبفضل النصائح المُقدَّمة من الخبراء البارزين في المجالات المتخصصة". كما كتب موللر، "وقد أمضيت مع د. تاك بضعةَ أيام في واشنطن أثناء شهر نيسان/ أبريل لإجراء مباحثات تتعلق بمصر مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إنها خبرة واسعة، وثروة من المعلومات، ونهج من انفتاح العقل نادرُ الوجود، وقد أعطانا ذلك معونة أساسية على طول الطريق، وكان من الحماقة ألا يُستفاد من الآراء الخبيرة بالمصالح والاهتمامات المصرية المتوافرة في هاتين المؤسستين، فدُون هذه المساعدة، لا يستطيع أي فريق أن يجد ويجمع كل علاقات التشابك، والحقائق والأسباب للصعاب القائمة، بطريقة تسمح باستخدامها بوعي كامل "ولكن بعد هذا التصريح الخطير، بأن أكمل المعلومات والتحليلات حول الاقتصاد المصري لا تتوافر إلا في واشنطن، كتب موللر أنه "إذا كانت بعضُ النقاط الواردة في التقرير، والتي تبدو في حاسمة، لا تعكس آراء أولئك الذين عاونونا ـ وينطبق هذا على كل واحد منهم ـ فإنني أرجو أن يكون في ذهنكم (الحديث موجه إلى الرئيس السادات) أن الرأي الذي يكوَّنُه المرءُ لنفسه، ينبغي أن يكون العامل الوحيد الذي يحدد فهمه للوضع الاقتصادي والمالي المصري، والاقتراحات المشتقة منه". وهذه الفقرة عبرت ـ بأقل قدر من الدبلوماسية ـ عن الخلاف الكبير بين نظرة البعثة الأوروبية، ونظر الولايات المتحدة والهيئات الدولية الخاضعة لهيمنتها. ولكن مع النفوذ الأمريكي الطاغي، وبعد التطورات المتلاحقة والحاسمة من كانون الثاني/ يناير إلى أيار/ مايو، كان لا بد من وأْد تقرير موللر (الصادر في آخر حزيران/ يونيو) فور ولادته، فمنع من التداول (حتى في الدوائر المسئولة الضيقة)، ومنع استخدامه في المباحثات والمحاورات الاقتصادية في الداخل والخارج، بل وعبر الرئيس عن نقد علني لبعض محتوياته في اليوم التالي لتسلمه.
عالج التقرير عددًا كبيرًا من القضايا (55)، وبالتأكيد تمثل المعلومات والتحليلات الواردة فيه مرجعًا رئيسًا لأي باحث في الاقتصاد المصري، ولكن المتوافر لدينا فقط، هو عرض مختصر للنتائج الأساسية التي توصل إليها التقرير، بقلم رئيس البعثة: موللر (56)، وهذا العرض يكفي -على أيَّة حال- لتبين النظرة المتميزة من أوروبا الغربية.
من البداية لا تخفي البعثةُ تحيزاتها السياسية؛ "فالتنمية الاقتصادية لمصر ـ كما يقول موللر ـ لا يمكن أن تُحَقَّق إلا إذا كان هناك تقسيم للعمل، وتعاون مع باقي العالم، وبالتحديد الأقطار العربية، وأوروبا الغربية، والولايات المتحدة". وواضح هنا أن استبعاد الدول الاشتراكية لا يمكن أن يكون قائمًا على أسس اقتصادية محايدة، ولاحظ أيضًا الترتيب الوارد للعلاقات الدولية المقترحة (داخل إطار التحالف الغربي) والذي يضع أوروبا الغربية قبل الولايات المتحدة.
كذلك، لم تخفِ البعثةُ تحيزها الصريح لمفهوم الانفتاح، "إن سياستكم للانفتاح التي أعلنتموها حين تسلمتم مسئولية بلادكم، كانت قادرة على إدخال تغير اقتصادي واجتماعي، سيضع اقتصاد مصر على أساس جديد خلال بضع سنوات، وكنتيجة لهذه السياسة؛ تولدت قوة دفع في بعض قطاعات الاقتصاد المصري، وهذا يبرر ـ في تقديري ـ الأملَ بأن مصر ستكون قادرة على اللحاق بالأقطار الأكثر تطورًا، وستدعم استقلالها الاقتصادي واعتمادها على النفس. والهدف من هذا التقرير هو معاونتها عبر الطريق المختار، وإزالة العقبات التي لا زالت تخل باستمرار وتوازن التنمية"... و"في المدَى القصير والمتوسط، سيكون الدعم السياسي والمالي المقدم من الأقطار الأخرى ذا أهمية بالغة ـ حسب ما جاء في التقرير ـ من أجل تنفيذ السياسة المصرية الجديدة؛ لأنه يمكن أن يوفر لمصر فرصة الوصول إلى النمو الاقتصادي القادر على التواصل ذاتيًّا، بعد عبور مثل هذه المرحلة من التدعيم".
ومطلوب من الحكومة المصرية أن تحسن التخطيط والكفاءة التنظيمية للإدارة، ولا بد من إصلاح الأوضاع المالية؛ إذ أن الاستخدام الكفء للمساعدات الخارجية، لا يقل أهمية عن تقديم هذه المساعدات. ونقد موللر في هذا الاتجاه المساعدات (القروض) الموجهة للاستهلاك أو للمشروعات التي لا تستجيب للأحوال والإمكانيات القائمة في مصر.
ومن أجل إعادة التكامل بين الاقتصاد المصري ونُسُق العلاقات الاقتصادية الدولية ـ وللبدء في عملية إقامة توازن بين حركة التجارة وحركة المدفوعات ـ ولإزالة عدم اليقين الكامن حول الإجراءات المُحتمَلة بخفض سعر الصرف،
أو للإلغاء من جانب واحد لالتزامات خدمة الدين بواسطة الحكومة المصرية، اقترح التقريرُ إلغاء التقسيم الثلاثي في سعر الصرف (السعر التشجيعي ـ والسعر السائد في السوق الحرة ـ والسعر الرسمي) وينبغي أن يحل محل ذلك وباضطراد سعر موحَّد واقعي، وعبر موللر أيضًا عن اعتقاده بأن استعادة التكامل مع الاقتصاد العالمي باضطراد، تستوجب رغبة متزايدة للتعاون بين مصرَ وصندوق النقد العربي. وللأسف لم تتسعْ رسالة موللر للإفصاح عن تصوره الخاص بمراحل توحيد سعر الصرف عند مستوى أدنى، وعن اختلافات هذه المراحل، عن مقترحات وممارسات صندوق النقد الدولي، وكذلك يلفت النظر الدور الهام المرشح لصندوق النقد العربي، الذي كان قد بدأ بالكاد اجتماعاتِه في نيسان/أبريل 1977، رغم أن قدرته الفعلية على المساعدة تبدو محدودة، ولكن قد يعكس ذلك تطبعًا إلى دور أكثر استقلالاً للمال النفطي عن السيطرة الأمريكية، ويتيح لأوروبا الغربية منفذًا، ويلاحَظُ أن ألمانيا الغربية كانت قد أرسلت في الفترة نفسها مستشارًا اقتصاديًّا خاصًا للملك خالد.

وبالنسبة للتوصيات الخاصة باستراتيجية التنمية، قال موللر إنها "بُنيت على أساس الظروف الخاصة بالبلاد، وقد يشير ذلك إلى أنه في كافة المسائل المتعلقة بالترتيبات الاقتصادية للتنمية، ينبغي الأخذ بمنهج براجماتي، وفي القطاعات المتنوعة للاقتصاد ينبغي اختيار تشكيلة الأدوات الموجهة التي تبشر بأقصى نجاح قبل الأهداف الموضوعة في هذه المرحلة الحرِجة من تعديل الوجهة. إن تشكيلة الأدوات الموجَّهة، والأدوات الحافزة، ستختلفُ وفقًا للقطاع، ولفرع الصناعة المعنية، وستكون أيضًا عُرضة للتغير عبر الزمن. إن سياسة التنمية المصرية ينبغي – إذًا - أن تكون متمايزة إلى حد بعيد". وهذا المفهوم في قضايا محددة، ولكن
لا ننسَى طبعًا أن السياسات المختارة وفق منهج براجماتي تظل مربوطة ـ عند موللر ـ بأهداف تلتزم بها؛ سواء في العلاقات الدولية، أو في التنمية المنفتحة.

في قطاع الصناعة: "يركز في السياسة الصناعية الحالية على دعم فروع الصناعة القائمة والتوسع فيها، وعلى الزيادة في متحصلات النقد الأجنبي في أقصر وقت ممكن. وهذا النسق من الأهداف ينبغي أن يتسع ليشمل:
استراتيجية التوسع المطرد في قطاع السلع الرأسمالية المهمل حتى الآن، والذي لا يمكن دونه الوصول إلى مستوى أعلى من التصنيع (وهذه إضافة هامة، تختلف عن التوصيات والممارسات التقليدية للبنك الدولي وغيره).
الاستمرار في استراتيجية إحلال الواردات، مع الزيادة المتوالية في قدرة الصناعة المصرية على المنافسة الدولية من خلال إدخال مناهج الإنتاج القائمة على الربح وتطبيق التكنولوجيا الحديثة.
مراجعة مفهوم مصر للمناطق الحرة بما يمكن من اتخاذ إجراءات تقلل ـ في الأجل القصير ـ التدفقات الخارجية من حصيلة مصر من النقد الأجنبي التي ترتبط بمنطقة التجارة الحرة، وبما يؤكد (في الأجل الطويل) صياغة تصور مقنع لتنمية مناطق التجارة الحرة الصناعية (وهذه النقطة
لم تتعرض لها بالنقد تقاريرُ البنك الدولي).

استراتيجية للتوسع في العمالة الصناعية، وهي تتطلب بالضرورة البدء بتشجيع الحِرَف والصناعات الصغيرة.
وفي قطاع الزراعة، تقدمت البعثة الأوروبية أيضًا بتصورات معقولة؛ إذ استخدمت بلا تحيزات سياسية واجتماعية مشوهة، فالتخصيصات الاستثمارية لهذا القطاع ينبغي أن تزيد، وينبغي أن تكون الأولوية لاستخدام الأرض القديمة على نحو أكفأ، ويتطلب ذلك إدارةً حازمة للمساحة المزروعة، ولمنع تفتت الأرض الزراعية من خلال الوراثة (وهذه النقطة الأخيرة لم تتناولها تقارير البنك الدولي على أهميتها، ولكن هذا الالتفات إلى شرط منع التفتت، يمكن أن تُفسده الأفكار المسبقة والتحيزات الأيديولوجية، عند اقتراح السياسات الملائمة لهدف منع التفت) ولا نعرف للأسف طبيعة السياسات التي اقترحتها بعثةُ موللر في هذا المجال، ولكنها سجلت خلافًا آخر مع آراء البنك الدولي حول استصلاح الأراضي؛ فقد رفضت أن تكون الأولوية لاستصلاح أراضٍ جديدة، وهذا لا خلاف فيه، ولكنها رفضت معالجة الاستصلاح والأرض القديمة كبديلين (كما يفعل البنك الدولي) ولكن كاتجاهين متكاملين.
وبالنسبة لخفض الدعم للمواد الغذائية الرئيسَة سجلت البعثة الأوروبية أهم خلافاتها مع صندوق الدولي حول التكتيكات المقترحة؛ فقالت إن هذا الخفض "يمكن فقط أن يتخذ بحذر، وفي خطوات صغيرة؛ حيث إن هذا الدعم يمثل أهم أداة اجتماعية سياسية تملكها الحكومة المصرية الآن". بل أشارت البعثة إلى أن "إنفاق الموازنة العامة، الموجَّه للدعم سيرتفع جزئيًّا بخفض قدر من دعم المدخلات، وفي الوقت نفسه، يمكن التخلص من بعض المبالغات في نسق الدعم. والقضاء النهائي على دعم الغذاء يشترط ـ مقدمًا ـ اقتصادًا ناميًا، وقدرة للإدارة على تطوير سياسة اجتماعية متمايزة، موجهة إلى المجموعات المتنوعة المحدودة الدخل، ولكن طالما أن الاقتصاد راكدٌ، والإنفاق على الغذاء يمثل الجانب الأعظم من الإنفاق الاستهلاكي للمجموعات المنخفضة الدخل، سيظل الدعم ضمانًا ضد الجوع والقلاقِل الاجتماعية".
وقد ركز التقريرُ على أهمية تطوير الهياكل الارتكازية (كالبنك الدولي) لجذب المستثمرين، وإنجاح سياسة الانفتاح. وفي الإسكان أضاف اهتمامًا خاصًا بإقامة مساكن شعبية لمجموعات السكان الأكثر فقرًا.
"فقط بنمو الاقتصاد، يمكن خلق الظروف المطلوبة لحل المشاكل الاجتماعية للبلاد. ومن ناحية أخرى، تتطلب التنمية الاقتصادية جوًا من السلم الاجتماعي. وإذا تُرك تسيير النشاط الاقتصادي للسوق، في مجرى سياسة الانفتاح، فإن المكونات الاجتماعية السياسية للسياسة الاقتصادية لا بد أن تتدعم، وينطبق هذا على وجه الخصوص على:
- تغطية الاحتياجات الأساسية للمجموعات المنخفضة الدخل من السكان بأسعار مقبولة (الغذاء، الإسكان، الملبس، الصحة).
- تحسين وضع العِمالة.
- مشاركة أكبر من المؤسسات التعددية (النقابات، والجمعيات المهنية) في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمصر.
- تطويع التأمينات الاجتماعية والرفاهَة الاجتماعية وفق هيكل المجتمع الذي يزداد تمايزًا؛ نتيجة سياسة الانفتاح".
اهتمامنا بعرض رؤية بعثة موللر وتوصياتها، يهدِف ـ ضمن ما يهدف ـ إلى تأكيد أن تعليمات صندوق النقد والبنك الدولي، لا تصدر عن نظريات علمية مقدسة (لمن لا زال محتاجًا إلى تأكيد)، وإنما تتشكل وفقًا للأهداف الاستراتيجية؛ فالخلاف بين توجه موللر وتوجه الهيئات الدولية، ليس خلافًا فنيًّا في الأساس، وإنما خلافٌ سياسي؛ فأوروبا الغربية (كاليابان) مصلحتها أوضح في تحقيق تسوية شاملة مقبولة من كل الأطراف العربية الرئيسَة، وخاصة من الأطراف العربية التي يُقال عنها: "معتدلة"، واعتمادها الرئيسي على النفط العربي، يجعلها أكثر حرصًا على استقرار المنطقة، وأقل ميلاً لركوب المخاطر فيها. ويرتبط بذلك تقديرُ أوروبا الغربية واهتمامها (آنذاك) بالدور المُحتمل للرئيس السادات في التوصل إلى تسوية مقبولة من الأطراف العربية "المعتدلة"، ومُتسقة مع المصالح الغربية الاستراتيجية من المنظور الأوروبي، ودراسة موللر عبرت في الجانب الاقتصادي عن السياسات الملائمة لهذا التصور، فاختلفت عن السياسات الاقتصادية المقترحة من الولايات المتحدة وتوابعها. ولم يخفِ موللر هذه الحقيقة، فكتب: إن "مصر تلعب دورًا مركزيًّا في صراع الشرق الأدنَى، إن هذا البلد ـ مع رئيسه السادات ـ يبغي المعاونة في إقامة حالة من السلام، تكون مقبولة من الجميع، وهي لذلك تحتاج إلى الترتيب الاقتصادي والمالي والنقدي، الذي تسعَى جاهدة إلى تحقيقه، والرغبة في تقديم إسهام معين من أجل الغايات المُستهدَفة كان الحافز ـ غير السهل بالتأكيد ـ خلف عملِنا".
إن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تحدثا كثيرًا في نموذجِهما ـ للانفتاح ـ عن ترشيد الأداء الاقتصادي، وعن حرصهما على الاستقرار الاجتماعي، ولكن ليس بالإلحاح
أو بالمضمون الذي سجله موللر في نموذجه للانفتاح. فموللر عبَّر ـ بوضوح ـ عن حرصه على ارتباط مصر بالسوق الغربية، وما يستتبعه من تحرير للأسعار المحلية من سيطرة الدولة، أقل جدًّا من حرصه على استمرار دعم السلع والخدمات الضرورية لمجموعات السكان الأكثر فقرًا، ولو أدى ذلك إلى زيادة أعباء الموازنة العامة (مع توحيد سعر الصرف). بل إن منطق موللر يؤدي إلى استمرار تحكم الدولة في الأسعار لأجل طويل، والحقيقة أنه لم يستخدم الأسعار أبدًا كمَعطِيّ مفروض على الإدارة المصرية، ولكن باعتبارها متغيرات في قبضة الحكومة، تستخدمها لأسباب اجتماعية أو تنموية. وقد يمثل هذا موقفًا خاصًا لموللر (وفي الحقيقة هناك تشابهٌ كبيرٌ بين توجهه العام وبين توجه ميردال)، ولكن الطبيعة الخاصة للبعثة، والمناصب الرسمية التي تقلَّدها موللر في بلده، تجعلنا نرجِّحُ أن اعتبارات السياسة العامة، كانت الموجه الأول لتحليلاته واقتراحاته. ووفقًا لهذا الموجه كان الاستقرار الداخلي في مصر ـ بدورها المرشح في استقرار المنطقة ـ مسألة تعلو في أهميتها على أي اعتبار آخر، "وسيظل الدعم ـ كما قال ـ ضمانًا ضد الجوع والقلاقل الاجتماعية". وفي مقابل ذلك وضعت الولايات المتحدة تبعية الأسعار المحلية للأسعار العالمية (أي تحرير الأسعار المحلية من تحكم الدولة) في الموضع الأول من الاهتمام والتركيز؛ لأن جدولها الزمني لتحرير الأسعار يرتبط بالجدول الزمني للتحرك من أجل تسويتها لصراع الشرق الأوسط، وتحرير الأسعار من تحكم الدولة أداة هامة في تطبيع العلاقات المستهدَف. ومن هذا المنظور كانت الولايات المتحدة على استعداد لقبول بعض المخاطر تجفل منها أوروبا الغربية. وقد لاحظنا أيضًا أن موللر أبدَى خوفًا من أن تؤدِّي أزمة الديون إلى قيام الحكومة المصرية بإلغاء من جانب واحد لالتزامات خدمة الدين، وهذا الموقف يشيرُ على التخوف من أن يؤدي الضغط والاستفزاز المتصاعد إلى احتمال أن تعود الدولة المصرية إلى السياسات المستقلة الراديكالية. وفي المقابل، نعلم أن الولايات المتحدة وضعت هدف تحقيق السيطرة الكاملة ـ عبر تصعيد أزمة الديون ـ فوق أيَّة مخاطر مُحتملة (وبالتأكيد كانت المخاطر محسوبة، وبناء على معلوماتها وتقديراتها السياسية) ـ وأخيرًا لاحظنا أن موللر وجه نقدًا واضحًا إلى تجربة
بور سعيد الحالية باعتبارها استنزافًا لموارد النقد الأجنبي، وفي وقت تزداد فيه خطورة الدين الخارجي، وأيضًا باعتبارها مدخلاً للتوتر الاجتماعي. وموللر كان محكومًا ـ في هذا النقد ـ بالنظرية نفسها العامة التي تعزف عن ركوب المخاطر، وتضع الأولوية للاستقرار الداخلي، والحد من السياسات التي تساعد على انتكاس تجربة السادات في الانفتاح والتبعية للغرب، ولكن كانت بور سعيد ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ حاجزًا من المصالح والبشر ضد تجدد القتال؛ ولذا خلت تقاريرُ صندوق النقد والبنك الدولي من أي نقد لقُرحة بور سعيد، رغم كثرة الكلام عن ترشيد الأداء الاقتصادي، بل إن من حقنا أن نُوقِن بأن الولايات المتحدة كانت سعيدة بالأثر السلبي لبور سعيد على ميزان المدفوعات؛ لعلاقة ذلك بتكثيف الضغوط من خلال أزمة الديون وبالتالي كانت الولايات المتحدة (لظروفها ومنظورها وحساباتها) أكثر استعدادًا ـ في هذه النقطة أيضًا ـ لركوب مخاطرة محسوبة، ولا شك أن إسرائيل كانت تركِّب كل هذه المواقف.

على أيَّة حال، رغم تسارع موللر في إعداد تقريره (من كانون الأول/ ديسمبر إلى أيلول/ سبتمبر إلى حُزيران/ يونيو) كانت القيادة المصرية أسبق منه، كانت المجموعة الاستشارية قد انعقدت وانفضت، وأثبتت الولايات المتحدة (ومن معها) أن حساباتهم حول قدرة السلطة المصرية على المقاومة كانت صحيحة.
ب ـ احتمال عودة الأزمة:
بعد اعتماد "قانون التصفية الثانية" في لقاء المجموعة الاستشارية، تصور الكثيرون ـ نتيجة الضجة الإعلامية ـ أن أزمة ميزان المدفوعات والديون الخارجية، حلَّت على نحو حاسم. ونذكر أن القيسوني غضِب واحتدَّ حين قال حلمي مراد في مجلس الشعب: إنه لا يرجو أن يكون واضحًا؛ حتى لا يعيش الناس في أمَانٍ غير حقيقية، أن الجهود التي بذلت حتى الآن، كانت لمجرد إحلال دين طويل الأجل، محل دين قصير الأجل (43).
غضب القيسوني يومها، رغم أن الكلام مجرد وصف صحيح، ورغم أنه أيضًا وصفٌ غير كامل؛ فبعيدًا عن الشروط المُهدَرة للاستقلال، كانت التسويات،
أو كان ضمان صندوق النقد للتسويات، لا يغطي إلا فترة ترتيبات المساندة التي تنتهي في آذار/ مارس 1978. أي
لم يسفر "قانون التصفية" عن ترتيبات تضمن انتظام تمويل العجز المكشوف في ميزان المدفوعات بعد آذار/ مارس 1978، بدلاً من العودة بتوسع إلى القروض المصرفية؛ ولذا حذر منير بنجنك (في اجتماعات المجموعة الاستشارية) من أن "عام 1978 على الناصية"؛ أي من احتمال تجدد الأزمة، إذا لم تحصل مصر ـ مرة أخرى ـ على "تمويل أجنبي ميسر بكمية كبيرة".

وكان التحذير موجهًا للحكومة المصرية في المقام الأول. ومفهوم الآن ـ على ضوء ما عرضناه ـ أن الصندوق مستعد لمد فترة ضمانه لتشمل باقي 1978 وما بعدها، في حالة ربط ترتيبات مساندة ببرنامج الثلاث سنوات، تنفذه الحكومة تحت إشرافه وسيف عقوباته. وكل هذا كان مجهولاً؛ ولذا فوجئ الكافة حين صرح القيسوني (ولم يكن قد مر شهر على غضبته السابقة) بأن خطر الديون المصرفية والمتأخرات، يهدد الاقتصاد المصري مرة أخرى.
سُئل: لقد تصور البعض أن الأزمة مضت وولّت، وأنه بعد توفير احتياجات هذه السنة من النقد الأجنبي؛ نتيجة للقروض التي تم الحصول عليها، لم تعد هناك مُشكلة. فأجاب: هذا تصور خاطئ. القروض لا تحل المشكلة. إنما تساعد على حلها. وماذا عن السنين المقبلة؟ هل تضمن أن تتوافر لنا القروض التي توافرت لنا هذه السنة؟ إن الذين يتصورون أننا اجتزنا مشكلتنا الاقتصادية بواسطة هذه القروض، يخطئون. إن هذه القروض تساعدنا على تجنب حالة الاختناق التي كانت تهددنا في 1977، ولكنها لا تحل أزمتنا، ولا تُنهي مشكلتنا.
سُئل: هل زال شبح الديون القصيرة الأجل الآن، بعد استخدام قروض هيئة الخليج في تسديد الجزء الأكبر منها؟ أجاب القيسوني: لا، الشبحُ لا يزال قائمًا، والسبب الاتجاه المتزايد نحو الاستهلاك، والسلع الاستهلاكية تُمَوَّل عادة بمثل هذه القروض (57).
كان الكلام مفاجئًا، وحتى في إطار ما ذكرناه، يحتاج تفسيرًا؛ لأن تاريخ الإدلاء بالتصريح: حزيران/ يونيو 1977، أي أثناء فترة ترتيبات المساندة المقدمة من صندوق النقد. ولكن هذا ـ بالتحديد ـ هو التفسير؛ إذ حدث أن مولت الحكومةُ المصرية بعض وارداتها السلعية (سلع تموينية أساسًا) من قرض هيئة الخليج دون إذنٍ من "السلطة الجديدة"، فعُوقبت على الفور بوقف حقها في السحب على القرض؛ حتى تنتهي تسوية المشكلة مع صندوق النقد، وفي الأثناء لم يكن هناك مفر من العودة للتسهيلات المصرفية، وعودة المتأخرات(58)، وكان هذا أول استعراض عضلات للسلطة الجديدة.
على أيَّة حال، أدرك الجميع بعد تصريح القيسوني أن التسوية (بعيدًا عن قسوة الشروط) هشة جدًا، وتنذر بعودة الاختناق في أيَّة لحظة. ويزيد الإحساس بهذا الخطر لدى من يعلم حجم الفجوة المتوقعة في ميزان المدفوعات، في السنوات التي لم تشملها بعد أية ترتيبات. وكمعلومات وأرقام محددة، فإن احتياجات النقد الأجنبي خلال 1977 كانت بالفعل كبيرة بدرجة استثنائية، وقد تضافرت الجهود منذ بداية الانفتاح؛ لكي تتحقق هذه النتيجة؛ بحيث أصبح عام 1977 منذرًا بكارثة محققة ـ كما قالت مذكرة ديكي؛ إذ تراكمت الخصوم القصيرة الأجل عند نهاية 1976، رغم التزام الحكومة بخفض استخدامها للتسهيلات الائتمانية في تلك السنة إلى 1400 مليون دولار (بعد أن كان المستوى عام 1975 حوالي 1800 مليون دولار ـ انظر الفصل الثامن). ورغم خفض الاستيراد (عشوائيًّا) بأكثر من 25 % من الواردات المستهدَفة، والسبب ـ وسط السياسات السائدة ـ كان الهبوط الحاد والمتعمد في التدفقات الرأسمالية (أي في "المساعدات")، فوصلت المتأخرات إلى حوالي 450 مليون دولار في آخر 1976، وأصبح إجمالي الخصوم القصيرة الأجل المورثة إلى عام 1977 (الديون المصرفية بآجال أقل من سنة + تسهيلات الموردين قصيرة الأجل + متأخرات الفوائد والأقساط المستحقة للديون المتوسطة والطويلة الأجل) حوالي 1350 مليون دولار.. إذا أمكن تأجيلُ أو إعادة جدولة 1135 مليون دولار ودائع يحل أجلها عام 1977 (863 مليون للكويت + 250 مليون للسعودية + 22 مليون لليبيا) هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، قالت الهيئات الدولية للسلطات المحلية: إنها ينبغي أن تسمح بزيادة الاستيراد خلال عام 1977 إلى مستوى يعلو ما تحقق في العام السابق، (ويتضمن هذا تقدير العجز في ميزان العمليات الجارية
بـ 1850 مليون دولار)، وكانت الحجةُ أن الهبوط الاضطراري الذي تحقق في ذلك العام، أدَّى إلى نقص المتوفر من مدخلات الإنتاج والسلع الرأسمالية، بالإضافة إلى انخفاض مستوى المخزون من معظم السلع، ولا بد من تعويض هذا كله خلال 1977.

على هذا النحو تمت تقديرات احتياجات مصر من النقد الأجنبي في مباحثات قانون التصفية عام 1977. وبإضافة التزامات الديون المدنية للدول الاشتراكية كان الإجمالي حوالي 4.7 بليون دولار. وفي مقابل هذه الاحتياجات كانت القروض المتعاقد عليها فعلاً للمشروعات حوالي 2100 مليون دولار، وللسلع 600 مليون دولار، والتمويل النقدي الذي أمكن تدبيره كان حوالي 500 مليون دولار، والمبالغ المُتفَق عليها وفق قرارات مؤتمر الخرطوم حوالي 155 مليون دولار. وقدرت الهيئات الدوليةُ أن خط الإمداد هذا، يمكن أن يُستخدم منه 1475 مليون دولار فقط. وإذا أضيفت تقديراتُ المنح الخاصة (75 مليون دولار)، والاستثمار الأجنبي الخاص (100 مليون دولار)، ومستويات الاستخدام العادي لتسهيلات الموردين (315 مليون دولار) تصل الموارد المتاحةُ من النقد الأجنبي إلى 1965 مليون دولار. ويصبحُ عرض النقد الأجنبي أقل بالتالي من الطلب بحوالي 2.7 بليون دولار خلال عام 1977. وحول تدبير هذا العجز دارت المباحثات. كان رأي الهيئات الدولية أن خَفْض إجمالي الاقتراض الخارجي في ذلك العام ـ باحتياجاته المُلحة وغير العادية ـ لا يمكن تحقيقُه إلا بقدر ضئيل، وبالتالي، فإن التحسُّن المستهدَف في الموقف، يكون في مجال هيكل الديون بتمويل الخصوم القصيرة الأجل القائمة، وتقليل الاعتماد على التسهيلات الائتمانية المصرفية. والتحرُّك في هذا الاتجاه، يبدأ بتأجيل سداد الودائع، فتنكَمِش الفجوة التمويلية إلى 1.6 بليون دولار، واقترحت لمواجهتها حزمة من القروض الجديدة "الميسرة"، تعتمد أساسًا على قدر كبير من القروض النقدية (هيئة الخليج) (59).
في إطار هذه التقديرات تحددت معالم وشروط الصفقة الممتدة، أو فرض الاستسلام في مقابل أن يصدر صندوق النقد تعليماته للجهات المعنية بإطفاء حريق 1977. وقد تغيرت تفاصيلُ هذه التقديرات في مصادرَ أخرى، ولكن ظلت الصورةُ العامة حتى عام 1980 في الإطار التالي (جدول رقم 1).






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس