عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2011, 02:58 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة00 الفصل التاسع


الفصل العاشر
(1974/ 1979)
التَغيُّراتُ الهيْكليَّة والبِنيَويَّة، والسَّلام الأمريكي الإسرائيلي

أولاً ـ المُعدَّلات والمفاهيم:
(1) أكذوبة "مُعجزة" النمو الاقتصادي:
تابعنا في فصول سابقة تطور المفاهيم، وتطور التصورات حول استراتيجية التنمية، باتجاه إعادة صياغة هيكل الاقتصاد المصري وبنيته (من خلال الجهد التنموي)، على نحو يُحقق الاستقرار في التبعية (راجع الفصول من السادس إلى التاسع). وكشفنا ـ في الأثناءـ زيف الادعاء بارتفاع معدلات النمو التي حققها "الانفتاح" (أو الغزو الاقتصادي الخارجي). في التقرير الشهير للبنك الدولي عن إدارة الاقتصاد المصري في مرحلة وخلص البنك الدولي إلى نتيجة عامة تقول: "أنه إذا كان ضروريًا أن نجد علاقة وحيدة بين (معدلات النمو) وبين متغير آخر، فإن المرء قد يحدد هذا المتغير، على سبيل القطع تقريبًا، باعتباره مدى توافر النقد الأجنبي" (1). والمقصود هنا أن انقطاع القروض الأمريكية في أواخر الخطة الخمسية الأولى، كان السبب في بطء معدلات النمو أثناء الفترة التي تلتها، والمقصود بالتالي إثبات أن انتظام القروض الأمريكية والغربية، الشرط الحاكم لارتفاع وانتظام معدلات النمو، وهذه الأُطْروحة كانت تتطلب من البنك الدولي (ومن معه) اعتبار أن الاستنزاف البشري والعيني والمالي للحرب، كان سببًا ثانويًّا في انخفاض معدلات النمو في السنوات التالية لحرب 1967 ـ من ناحية ـ وكانت تتطلب الإصرار على أكذوبة أنه حدثت "معجزة" في معدلات النمو بعد "الانفتاح" ـ من ناحية أخرى. ولن نعيدَ ما ذكرناه حول حقيقة هذه المعدلات في السنوات 1974 و1975 و1976، ولكن نضيف أن حقيقة معدل النمو المُحقق عام 1977 لم تكن أفضل حالاً.
لقد قيل إن معدل النمو العام في الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الثابتة) وصل إلى 8.3 % (أي تجاوز ما كان مستهدفًا في مشروع الخطة: 8 %). ونشير ـ في هذا الصدد ـ إلى الديماغوجية التي أحاطت بهذا المعدل؛ كي نكشف مرة أخرى حقيقة الخبراء الدوليين، وحقيقة أن التقارير الدولية تهتم بالدعاية السياسية لخدمة أغراضها، وليس بالدقة العلمية؛ ففي بيان حامد السايح أمام المجموعة الاستشارية (يونيو 1978)، والذي أقرَّه بالضرورة قبل إلقائه البنك الدولي، قال: "إن مصر استطاعت أثناء 1977 أن تحقق معدلاً حقيقيًّا (أي بالأسعار الثابتة) للنمو بلغ 8.3 في المائة". وعلق على ذلك بأن "هذا المعدل لم يسبق أن تحقق من قبل". وقد صدَّق على ذلك البيان الصادر عن اجتماع المجموعة (أيضًا بعد أن اعتمده البنك الدولي بالضرورة)، فسجَّل "أن الاجتماع لاحظ بارتياح أن معدل النمو لعام 1977 كان عند 8.3 في المائة (لاحظ الدقة الشديدة في رصد الـ 0.3) وهذا يثير الارتياح جدًا" (3). والطريف في الموضوع أن هذا المعدل ـ في حالة صدقِه ـ كان يمثل تراجعًا (يثير القلق) بالنسبة للمعدلات التي قيل إنها تحققت في العاملين الماضيَين (1975 و1976)، واعتمدتها تقارير الهيئات الدولية، فمعدل النمو الذي نُسب إلى هذين العاملين كان أعلى من 9 في المائة، وبالتالي لم يكن معدل 8.3 في المائة شيئًا فريدًا، أو مثيرًا لكل الارتياح الذي عبَّرت عنه مجموعة باريس. ولكن الدعاية لنتائج "قانون التصفية" في عام 1977، كانت مسألة ضرورية.
وواقع الحال أن المعدل المنسوب إلى عام 1977 (كمعدلات الأعوام السابقة) كان يتعارض مع كل البيانات والمؤشرات الصادرة من الجهات المسئولة. فحين أُعلِن مشروع خطة 1977، أوضح وزير التخطيط أيامها (الإمام) أنه ينبغي تدارك النواقص الخطيرة التي صادفت التنمية في عام 1976 (التي قيل عنها أيضًا إنها حققت معجزة)؛ فقد انتقَد الوزيرُ "أن خطة 1976 بُنيت على أساس توقعات بأن تتوفر خلال السنة موارد إضافية من الأخوة العرب بوجه خاص، ومن الدول الصديقة بوجه عام (يقصد مشروع مارشال العربي).. غير أن عدم تحقق الموارد بقدر كافٍ أدى إلى تنفيذ نسبة محدودة من الشريحة الثانية، الأمر الذي أثر على معدلات تحقق الأهداف، وعلى متطلبات تنفيذ البرنامج الاستثماري للخطة الخمسية في مجمُوعها". وقال الوزير أن الأمر في عام 1977 ينبغي أن يكون مختلفًا، فأولاً يتطلب التخطيط العلمي السليم "أن الاستثمار للوصول إلى ما استهدفه مشروع الخطة الخمسية. وحتى لا نكون واهمين؛ فإن هذه الاستثمارات يجب أن تُبنى على موارد يمكن تحقيقها؛ سواء أكان ذلك من مدخرات قومية أم من معدات ومستلزمات التشييد، فإذا توافرت موارد إضافية خلال السنة، وهو ما يُرجَى أن يتحقق، فإن هذا يمكن أخذه في الحسبان في حينه". إلا أن هذه العوامل الضرورية، لم تتوفر خلال العام ـ كالعادة ـ فارتفع معدل النمو ـ كالعادة أيضًا ـ عما كان مُستهدفًا! وبعض هذه العوامل لم يتوفر من البداية، أي وفق هيكل مشروع الخطة نفسه؛ إذ لم تتمكن الحكومة من زيادة حجم الاستثمار ـ كما طالب وزير التخطيط ـ لتعويض القصور في عام 1976. صحيح أن إجمالي الاستثمارات المستهدف كان 1784.5 مليون جنيه، مقابل 1201 مليون في العام السابق، ولكن هذا الرقم المُستهدَف كان يتضمن مبلغ 389.3 مليون جنيه يمثل الفرق بين السعرين التشجيعي والرسمي للمكون الأجنبي والجمارك المستحقة على هذا الفرق، وباستبعاد هذا الانتفاخ المفتعل يهبط الرقم المستهدف للاستثمار إلى حوالي 1395.2 مليون جنيه، ولا تكون الزيادة في حجم الاستثمار بالنسبة لعام 1976 حوالي 48 % ولكن حوالي 16 % فقط.
أيضًا لم يتمكَّن مشروع الخطة من الاعتماد على موارد حقيقية؛ لكي تكون هناك خطة، وحتى "لا نكون واهمين"، كما قال الوزير بصدق. فالمدخرات المحلية المُستهدَفة كانت 845.5 مليون جنيه، مقابل 575 مليون عام 1976. ولكن إذا استبعدنا فروق السعر التشجيعي؛ يهبط الرقم هذه المرة إلى أقل من الرقم المقابل للمدخرات في عام 1976 ـ إلى 268 مليون جنيه فقط، مقابل 475 مليون جنيه في عام 1976. وبالتالي تراجعت نسبة الادخار المحلي في تمويل الاستثمارات إلى 15 % مقابل 40 % في العام السابق (4)، وكان هذا يعني زيادة الاعتماد على الخارج، ودون التزامات محددة سلفًا تغطي كل هذه الفجوة؛ بحيث تدخل كموارد حقيقية في يد المخطط.
إلا أن هذه الأوجه من القصور والاختلال، استفحلت ـ كالعادة ـ أثناء التنفيذ. فرغم الحجم المتواضع للاستثمار وللادخار المحلي المستهدَف، أعلن وزير التخطيط التالي (القيسوني) على ضوء نتائج الستة أشهر الأولى من عام 1977 "أن التوسع في الاستهلاك أهدر الموارد المُتاحة للاستثمار.. ولا يخفَى أننا نعطي الاستهلاك اهتمامًا يزيد عن اهتمامنا بالاستثمار والإنتاج... والمطلوب في هذه المرحلة أن نعطي الاستثمار، ونعطي الإنتاج، الاهتمام الأول، والاهتمام الأكبر". وحذر القيسوني من نتائج السياسة الحالية، كما تكشفت من المتابعة النصف سنوية، "فلو أهملنا الاستثمار، واستخدمنا الموارد المتاحة لنا الآن في الاستهلاك؛ فإننا سنجد أنفسنا مضطرين مرة أخرى إلى اللجوء للقروض قصيرة الأجل؛ وبذلك نعود إلى دوامة هذه الديون التي نعمل جاهدين على التخلص منها"(5). وأوضح تقرير وزارة المالية حقيقة هذا التخلف في الاتفاق الاستثماري (خلال الفترة التي تحدث فيها القيسوني). فسجل أن 27 في المائة فقط من إجمالي الاستخدامات الرأسمالية المُدرَجة في موازنة عام 1977 تم إنفاقها خلال الأشهر السبعة الأولى من ذلك العام، مقابل 35 في المائة تم إنفاقها خلال الفترة المماثلة من عام 1976، فعلى حين أن إجمالي الاستخدامات الرأسمالية كان يبلغ 1654.5 مليون جنيه، لم يتجاوز الإنفاق الفعلي 441.3 مليون جنيه، وفي مقابل ربط سنوي يبلغ 1196.5 مليون جنيه في عام 1976، ثم إنفاق 422.2 مليون جنيه في الأشهر السبعة الأولى من العام المذكور. ولم يتوقف الأمر على نقص الاستخدام الفعلي للاستخدامات الرأسمالية في موازنات الحكومة ووحدات الحكم المحلي والهيئات الاقتصادية والخدمية ومشروعات القطاع العام؛ إذ امتد النقص الملحوظ من الإيرادات الرأسمالية أيضًا، وأوضح تقرير وزارة المالية أن إجمالي المحصل الفعلي من الإيرادات الرأسمالية، بلغ 443.5 مليون جنيه من تقدير سنوي قدره 1645.5 مليون جنيه، بنسبة 27 في المائة، مقابل 406.5 مليون جنيه، من تقدير سنوي قدره 1196.5 مليون جنيه، بنسبة 34 في المائة، عن نفس الفترة من العام السابق(6). ولكن أعلن ـ كالعادة ـ عن قفزة في أرقام الاستثمار خلال الأشهر المتبقية من عام 1977؛ إذ قيل في تقرير المتابعة عن كل السنة: إن الاستثمارات الإجمالية (القطاع العام والخاص) التي تم تنفيذها، بلغت نحو 1636.3 مليون جنيه، أي بزيادة قدرها 43 مليون جنيه عن المعتمد أصلاً في خطة 1977 (دون المخزون السلعي). وأعلن أن القطاع العام (الذي ركز على متابعته تقرير وزارة المالية) نفذ استثمارات تقدر بنحو 1420 مليون جنيه بزيادة تقدر 81 مليون جنيه، وبنسبة 106 في المائة عن الحجم الاستثماري الأصلي المقرر له" (7).
ونذكر أن القيسوني ووزير المالية عبَّرا عن نقدهما الصريح لمختلف جهات التنفيذ. (الفصل التاسع) ووصل الحال إلى اعتراف القيسوني بأنه لم تعُدْ هناك خطةٌ (استمرارًا لما كان في الأعوام السابقة)، فقال: "إننا نفتقر إلى خطة تنمية واضحة محددة". و"الاستثمارات يجب أن تتحقق بطريقة مدروسة؛ وفقًا لخطة واضحة مفضلة، يُراعَى فيها التوازن المنشود بين القطاعات المختلفة؛ بحيث لا يتقدم قطاع على حساب قطاع آخر، أو تظهر صناعة دون أن نكون قد أقمنا الأنشطة المُكملة لها" (5).
وقد أكدت النتائج النهائية لآخر العام، حقيقةَ أن الجهد التنموي لم يحكمه فعلاً أي تخطيط، وحتى في حدود الأرقام الإجمالية، تتضح عشوائية المعدلات التي تحققت بها الاستثمارات في القطاعات المختلفة؛ قطاع الزراعة نفذ 92.7 % مما كان مُستهدَفًا. قطاع الصناعة والتعدين 138.4 % قطاع البترول نفذ 60.4 %. قطاع الكهرباء 100.1 % قطاع المقاولات 168.4 %. قطاع النقل والمواصلات والتخزين نفذ 70.2 %. قطاع التجارة والمال نفذ 61.4 %. قطاع الإسكان 93.4 %. قطاع المرافق 84%. الخدمات الأخرى 80.1 %.
وقد انعكس ذلك ـ بطبيعة الحال ـ في نمو الدخل المتولد من القطاعات المختلفة بمعدلات لا تمت بصلة للمعدلات التي كانت مستهدَفة. ولكن حدث ـ في النهاية ـ أن كان معدل النمو العام في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة ـ كما قيل ـ 8.3 %.
وبعيدًا عن المؤشرات السابقة التي تثير شكًا مشروعًا حول هذا المعدل المعلَن، سبق أن هاجمنا معدلات النمو المزعومة، من زاوية أن الأسعار الثابتة (التي يُحسب على أساسها ما يُسمَّى معدل النمو الحقيقي) تحدد وفق معدلات للتضخم تقل كثيرًا عن المعدلات الفعلية، وأشرنا أيضًا إلى النواقص المصاحبة للحسابات القومية، ونشهد أن صندوق النقد الدولي بدأ بدوره يثير هذه النقطة؛ إذ اعترف بأن "تطورات الناتج المحلي في مصر، وكذلك الحسابات القومية الإجمالية الأخرى، تعوقها بعض جوانب القصور الإحصائي، فسلسلة الأسعار الجارية تعاني من عدم الاتساق المرتبط بتحميلها بخدمات وقطاعات معينة. وهناك مصاعبُ إضافية فيما يتعلق بسلسلة الأسعار الثابتة ناشئة عن نقص الأرقام القياسية المناسبة لضبطها؛ ولذا يعتقد أن بيانات الحسابات القومية تبالغ في تقدير المعدل الحقيقي لنمو الاقتصاد" (8). وقد حاول الجهاز المركزي للمحاسبات تصويب هذا الوضع، وباستخدام أرقام قياسية قدرها، هبط معدل النمو عام 1977 من 12 % (بالأسعار الجارية) و8.3 % (بالأسعار الثابتة حسب كلام المسئولين) إلى 0.19 % (أي لم يحدث أي نمو تقريبًا) (9).
وعلى كل، فإننا لا نهدف إلا أن نهزم البنك الدولي في الساحة التي اختارها لنفسه، وبالمعيار الذي عينه للنجاح والفشل في قضية التنمية. ولكننا لا نضع أبدًا معدل النمو معيارًا أولاً. معدل النمو متغير تابع لهدف التنمية المستقلة (بمفهومها المركب ـ الفصل الخامس). ومن هذا المنظور نركز انتباهنا على المفاهيم الحاكمة للتنمية، وعلى محتوى النمو الاقتصادي الحادث ـ قبل معدله، وعلى ارتباط هذا الجهد التنموي بمُخططات التغيير الشامل للهيكل الاقتصادي والبنية الاقتصادية (10). ومن هذا المنظور نحاكم أداء القوى الخارجية. إن تغير السياسات المالية والنقدية (الذي تابعنا دور صندوق النقد في فرضه) يؤدي إلى التنمية التابعة ويدعمها، وهو في نفس الوقت يتدعم ويتعمَّق بهذه التنمية التابعة، والنشاط في هذا المجال يقوده ـ كما نعلم ـ البنك، الدولي وهو يرتبط ويوجه ـ في منطقتنا ـ بمتطلبات السلام الأمريكي ـ الإسرائيلي. وقد تابعنا تطور مفاهيم وممارسات التنمية عبر السنوات المتتالية، ونهدف في هذا الفصل إلى استكمال سلسلة الوقائع، وتشكيل نظرة عامة عن النتائج.
(2) الخطوط العامة لاستراتيجيَّة التنمية التابعة:
أ- في متابعة تطور المفاهيم، وصلنا إلى أن الحكومة المصرية وقعت في مارس 1977 على استراتيجية التنمية التي صاغها البنكُ الدولي. وبعد المجموعة الاستشارية الأولى بكل ما تضمنته، وما أضافه القيسوني أمامها، كان طبيعيًّا (في آخر العام) أن يبدأ وزير التخطيط الجديد في شرح ما آل إليه التخطيط ومفاهيمه وأولوياته، وفق هذه الاستراتيجية، فقال القيسوني: "يبدو من استقراء تطوير الاستثمارات أن بريق المشروعات الجديدة، كان يصرفنا عن المحافظة على المشروعات القائمة أو حتى عن استكمال المشروعات التي بدأناها.. ونرجو في خطة 1978 أن نركز تركيزًا قويًّا على هذا الموضوع، فمن مجموع استثمارات الحكومة والقطاع العام خصصنا لاستكمال المشروعات ما يزيد على 70 % من الاستثمار الكلي، وخصصنا حوالي 20% من الاستثمارات للإحلال والتجديد للمحافظة على الثورة القائمة، بينما لم تخصصْ أكثر من 10 % فقط من الخطة للمشروعات الجديدة" (11).
وهذا الكلام كان مثيرًا لدهشة الكثيرين؛ فلِلعام الرابع على التوالي، تظل الخطط أسيرة لما تسميه استكمالاً للمشروعات السابقة، وتمتنع عن إقامة مشروعات جديدة؛ استجابةً لطلب الجهات الخارجية وقف التوسع في القطاع العام الإنتاجي. وقد اعترف القيسوني بالتغير الهيكلي المستهدَف في نمط الاستثمار الحكومي ـ في الأجل المتوسط ـ وذلك "بتحديد أشد حزمًا لأولوليات المشروعات التي توجه إليها الموارد الاستثمارية؛ بحيث يتوسَّع القطاع العام في تنفيذ المرافق.. بينما يتحمل القطاع الخاص عبئًا متزايدًا من المشروعات الإنتاجية"، وفي كل الأحوال ينبغي "تركيز الاستثمارات العامة في قطاعات معينة، وفي عدد محدود من المشروعات؛ بحيث لا تتشتت المواردُ" (12).
وقد "استجابت خطة 1978 إلى كافة احتياجات القطاع العام لوجوب دعمه ورفع قدراته الإنتاجية؛ وذلك بتمكينه من مُستلزمات الإحلال والتجديد واستكمال مشروعاتِه، وكذا بتحديث معداته، والنهوض بمستواه التكنولوجي وتأهيله لأنْ يقدم للقطاع الخاص - المحلي والأجنبي - مبادراتِ جذب للمشاركة" (11). وكان مفروضًا أن يُستكمل هذا التوجه بتحديد السياسات المناسبة، وعلى رأسها التعادل التدريجي بين الأسعار المحلية والأسعار العالمية، وما يتضمنه ذلك من إجراءات أقل تكلِفة من سياسة الدعم الاستهلاكي الحالية (ويقال إنها أكثر فعالية) ولا بد أيضًا من الاعتراف بالوضع المؤسسي للجهات الخارجية في قلب أجهزة التخطيط المصرية، وقيل هذا باسم "الاستمرار في الحوار الاقتصادي المنظم مع الدول العربية والصديقة، والمنظمات الدولية؛ لتنظيم وتنسيق استخدام المعونات المُتاحة" (12).
وقد نذكر أخيرًا أن الإمام أطلق اسمًا محايدًا على مشروعات القناة والبترول (في مشروعه لخطة 1977)؛ إذ أسماها: "المشروعات التصديرية" فجاء القيسوني ليطلق عليها: "المشروعات الرائدة"؛ تمشيًّا مع استراتيجية البنك الدولي (ومن خلفَه)، وأضاف إليها السياحة (13). واختلاف التسمية لم يكن مسألة شكلية؛ فهو اختلاف في المفهوم،
أو في مضمون الدور المرشح لهذه القطاعات.

ب ـ فصلت وزارةُ التخطيط هذا الكلام ـ وغيره ـ في مجلدات سبعة عن الخطة الخمسيَّة الصادرة في أواخر 1977 (وخاصة المجلد الأول). ولكن ما دُمنا نبحث عن المفاهيم التي تتبناها الحكومة، فإنه يحسن أن نلجأ للأصل مباشرة، أي إلى تقرير البنك الدولي ذي المُجلدات الستة، والصادر في نفس الفترة (والمجلد الأول أيضًا هو الأهم لتعلقه بالنظرة العامة). ولا أعتقد أن المندوب الأمريكي في المجموعة الاستشارية الثانية كان مبالغًا أو مجاملاً، حين وصف دراسة البنك الدولي عن الاقتصاد المصري بأنها "من أفضل الدراسات الصادرة علن البنك في هذه المجال" (13). وفي الحقيقة، كانت الجهود التنموية التي رصدناها خلال عامي 1975، 1976، والتي تواصلت عام 1977؛ تعبيرًا عن الانتصارات المُتعاظِمة لاتجاهات البنك. صحيح كانت الإنجازات غير متكاملة أو متماسكة على النحو المبلور في التقرير المشار إليه (نوفمبر 1977). ولكن هذا يعكس المصاعب التي واجهها الصندوق أيضًا، في إعادة تشكيل الاقتصاد المصري. وإذا كنا نهدف إلى تشكيل صورة عامة لمجمل التغيرات الهيكلية والبنيوية التي تحققت، فإنه يفيد أن نبدأ بعرض المبادئ الأساسية للنموذج المتكامل والمستهدف الذي أوضحه البنك الدولي (14).
"المساعدات" الخارجية تلعب ـ كما يقول البنك ـ الدول الحاكم للتنمية؛ ولذا أكَّد مطلب إقامة علاقة مؤسسية مُستقرة بين الحكومة المصرية ومقدمي "المساعدات" "فأثناء العقد القادم، يُتوقع أن تتزايد أهمية تنسيق الأولويات بين مصر ومقدمي المساعدات؛ لأن قسمًا كبيرًا من الاستثمارات المتوقعة تموله المساعدة الخارجية. ويمكن أن يتحقق ذلك - إلى حد ما - من خلال إنشاء مؤسسة المجموعة الاستشارية؛ حيث يجد الجانبان فيها فرصة المناقشة حول استراتيجية التنمية، والأولويات القطاعية، والإمكانيات التمويلية المُتاحة" (15).
ومع زيادة الاعتماد على التمويل الخارجي للاستثمار "وبكل اعتبارات عدم اليقين في المنطقة، يظل التخطيط للأجل المتوسط، على سبيل القطع، تجربة غير مُتيَقَّن منها تمامًا. وقد يكون أكثر فاعلية تبنِّي نظام خطط خمسية متحركة" (16)، (أي بعد كل سنة يُضاف برنامج سنة جديدة للخطة؛ بحيث يظل الأفق الزمني للتخطيط دائمًا خمس سنوات).
وهذا المنهج لا يختلف كثيرًا عن منهج برامج الاستثمار السنوية التي درجنا عليها، ولكن يهمنا هنا أن نؤكد حقيقة أن البنك ربط هذا المنهج باعتماد التمويل على المصادر الغربية، وربط مواقف هذه المصادر بتطورات الأوضاع في المنطقة. ويفهم من هذا أن البنك استشرف أن هذه الأوضاع ستشهد تغيرات هامة وعميقة تؤثر في حجم التمويل الخارجي وتخصيصاته؛ ولذا كان ينبغي أن تمتنع الحكومة المصرية عن تحديد أهداف ثابتة لنمو اقتصادها خلال السنوات الخمس التالية لكتابة التقرير (أي 78 ـ 1982)؛ انتظارًا لنتائج التطورات المتوقعة. وأعتقد أن البنك، ومقدمي "المساعدات"، كانوا على حق في هذا المطلب؛ إذ تشهد هذه الفترة معاهدة السلام "وتطبيع" العلاقات مع العدو الإسرائيلي. وهذا هو المضمون الحقيقي لما أُطلق عليه يومًا: "مشروع كارتر"، وللاتصالات حول كونسورتيوم دولي بعد تحقيق السلام.
وكيف ينظر البنك، ومعه جهات التمويل الغربية، إلى الإمكانيات الكامنة في الاقتصاد المصري؟ يؤكد البنك أن الإمكانيات كبيرة في الأجل الطويل، ويتمثل ذلك في الدخل المتزايد المتوقع من البترول، وفي الإيرادات الناشئة عن توسيع قناة السويس، وعن التحويلات المتصاعدة بسرعة من المصريين العاملين في الخارج، وعن السياحة، أيضًا تملك مصر روابطَ ثقافية وسياسية مع الأقطار العربية صاحبة الفوائض المالية، وتملك موقعًا مناسبًا (في الشرق الأوسط، ولكن على مقرُبة من الأسواق الأوروبية، وتملك قوة عمل مُدرَّبة إلى درجة معقولة(17) والقضية الآن هي كيف تتحول هذه الإمكانيات إلى فعل وحقيقة؟
ويكفينا ـ في هذه المرحلة من التحليل ـ أن نشير إلى اهتمام البنك "بالقطاعات الرائدة" (البترول ـ القناة ـ السياحة)، التي تُزيد الدخل وحصيلة النقد الأجنبي، دون زيادة مناسبة في رقم العمالة، أو في المهارات الإنتاجية، بل يشيد البنك بالزيادة الكبيرة في تحويلات العاملين في الخارج، رغم أنها تعكس إلى حد كبير - مع بقاء كل شيء على حاله- زيادة في الدخل والنقد الأجنبي على حساب التدهور في الإنتاجية داخل الاقتصاد المصري. ونلاحظ أيضًا أن هيكل الاستثمار والنشاط الاقتصادي المُقترَح، يعتمد بالضرورة، أو وفق المخططات الموضوعة، على قرارات خارجية. فالبحث عن البترول وزيادة إنتاجه، يعتمد على إنفاق الشركات الأجنبية، وتوسيع القناة يعتمد على قروض يديرها البنك الدولي (وخاصة من الأقطار النفطية التي "تربطها علاقات ثقافية وسياسية" مع مصر، أي من الأقطار الخليجية الخاضِعة للغرب). وإمكانيات التوسع في السياحة تعتمد على الاستثمارات العربية الخاصة، وعلى القدرات التنظيمية للشركات الغربية. والعمالة المصرية في الدول النفطية أصبحت تمثل اعتمادًا متبادلاً (في هذا المجال)؛ بحيث يصعب على مصر أو على هذه الدول إصدار قرار بمنعها، ولكن تظل الدول النفطية ـ في الظروف الحالية ـ في موقع أفضلَ من حيث تحديد الأعداد المطلوبة ومستوى الدخول، وبالتالي في تحديد حجم التحويلات المُتاحة من هذا المصدر، بل وفي وضع قيود على التحويلات عند الضرورة. بقيت إمكانية الاستفادة من الموقع الجغرافي للتصدير إلى أوروبا، وهذه إشارة إلى صناعات تصديرية تعتمد في قيامها وإدارتها على الخارج، فالتمويل من "الأقطار التي تربطها علاقات ثقافية وسياسية مع مصر"، والتكنولوجيا لصناعات التصدير، تعتمد على الشركات العابرة للجنسية، وتنظيم العملية كلها، أو تأليف عوامل الإنتاج، يعتمد أيضًا على هذه الشركات (ومن خلفها)، وما نُقدمه في هذه الصناعات (حسب رواية البنك) لم يتجاوز الموقع والأيدي العاملة التي نسي أن يذكر ضمن مزاياها أنها رخيصة، ويبدو أنه نسي أيضًا، أن مصر يمكن أن تسهم بمنظمين وإداريين.
هذا الهيكل المقترَح للاستثمار والنشاط الاقتصادي، يعتمد على الخارج، وبمعنى آخر يعتمد تنفيذ البرنامج التنموي على رضاء الخارج عنا، أي على مدَى تنفيذنا لتعليمات الجهات صاحبة القرار. ومفهوم التبعية هنا واضح. وقد عبَّر البنك عن هذه التعليمات لأصحاب القرار حين أوضح "إن البنية الاقتصادية الحالية مُثقلة بالمؤسسات والسياسات والمناهج التي لا تعتبر مناسبة لاستخدام الظروف الجديدة على النحو الأفضل. وعلى ذلك سيتطلب تحول الإمكانية إلى فعل إصلاحات كبيرة في السياسة، وتغيرات بنيوية" (17).
والإصلاحات والتغيرات المطلوبة عملية مركبة، تشمل مواجهة للاختلال الأساسي في التوازن بين حجم السكان والموارد غير البشرية. وتشمل مواجهات للتغيير في قطاعات الصناعة والزراعة والتعليم.. إلخ، كما يقول البنك. ولكن في أي اتجاه، وبأي الوسائل؟ طبعًا لا بد من الانفتاح الكامل المُستنِد إلى تعليمات صندوق النقد، وهناك "قضايا أساسية تتعلق بوضع السياسات الاقتصادية وبالتنسيق بينها؛ وبسبب التغلغل الطويل والواسع للدولة في الاقتصاد، فإن هذه القضايا لا ينفع معها تحسين أو تحوير هذا الإجراء السياسي أو ذاك، فالمطلوب إجراء تكون غير فعالة إذا شرع فيها جزءًا جزءًا، ولكن قد يكون مستحيلاً أيضًا أن يتم التنفيذ بسرعة وبطريقة راديكالية" (18). إن الأمر يستلزم إدارة كُفْأَة لفترة انتقالية، يُستكمل أثناءها التحول المطلوب. "ويمكن اعتبار الفترة من 1973 على أنها تمثل بداية لمرحلة انتقالية طويلة نسبيًّا قد تستغرق عِقدًا" (19) (أي حتى أوائل الثمانينيات).
وحدد التقرير تصورًا واقعيًا لمدى الانفتاح وأشكاله في البنية الاقتصادية المصرية، وقال: "إنه يبدو واضحًا أن النسق الاقتصادي المصري سيظل مختلطًا، به قطاع عام كبير وقطاع خاص مدعم". ويمثل هذا التصور تطويعًا لنموذج البنك وفق متغيرات محلية لا يمكن تجاهلها. لقد أوضحنا أن البنك الدولي يسلم بإنشاء الدولة للهياكل الارتكازية وامتلاكها لها، وأيضًا لبعض الصناعات (الفصل الخامس). ولكن وفقًا للاستراتيجية الموضوعة لمصر يجري التوسُّع في قطاعات البترول والتعدين وقناة السويس، وهذه بالضرورة في إطار قطاع الدولة (وبهذا المعنى تملك السعودية والكويت مثلاً قطاعًا عامًا هائلاً). ولكن في الحالة المصرية هناك أيضًا مشكلة المواجهة الصعبة مع القطاع العام الموروث في مجال الصناعة التحويلية، ويقرر البنك الدولي "أن التخلي عن ملكية هذا القطاع غير ممكن من الناحية السياسية، كما أنه ليس هدفًا لسياسة الحكومة". وعلى ذلك تلجأ سياسة الانفتاح في الظروف المصرية، إلى النفس الطويل، وتجاوز الشكل إلى المضمون الفعلي، فمن ناحية تعمل التخصيصات الاستثمارية الجديدة إلى الحد من نمو القطاع العام، وخاصة في الصناعات التحويلية، وتتم مشاركة متزايدة بين القطاع العام والقطاع الخاص (أجنبي ومحلي)، ويعني هذا "انخفاضًا في الحجم النسبي للقطاع العام في الصناعات التحويلية". وبالنسبة لهذه الصناعات التي تبقى مملوكة للقطاع العام، "فإن مسألة الملكية قد لا تهم كثيرًا؛ فالاهتمام الحقيقي للانفتاح موجه إلى اقتراب أكثر انطلاقًا نحو الأسواق المحلية والخارجية، وإلى تدخل إداري أقل في حركة عوامل الإنتاج، وفي عمل الاقتصاد. وباختصار، حول إدارة الاقتصاد على مستوى الماكرو والميكرو.. إن هدف سياسة الانفتاح خلق نسق اقتصادي جديد، يتكافأ فيه القطاعان - العام والخاص - من حيث الوزن، وتحُدّ فيه الدولةُ بشدة من تدخلها في الاقتصاد". إن التحول إلى نَسَق الاقتصاد المختلط، لا يعني فقط تواجد "قطاع عام وقطاع خاص لهما قوة متقاربة، تمكِّن كلاً منهما من مراجعة وموازنة الآخر، ولكن يكفي أيضًا أن كليهما متفتح فيما يتعلق بتخصيص الموارد، وكليهما عادل بمعايير توزيع الدخل". ويؤكد البنكُ مرة أخرى، أن تحقيق كل ذلك "لا يُتوقع أن يكون سهلاً، ولا يتوقع أن يتم فورًا".. "ولا يمكن استبعاد احتمالات انتكاس السياسية.. وما لم تنفذ بعناية وتدرُّج، فإن الانفتاح يخلق توترات اجتماعية وسياسية، يمكنها إجبار الحكومة على التخلي عن هذه السياسة، أو على تعديلها جذريًّا" (20).
في الطريق إلى الاقتصاد المختلط، لا بد من دعم وحفز الاستثمار الخاص الأجنبي والمحلي (في إطار استراتيجية تنموية ملائمة). وقد أكد البنك في مجال الاستثمار الأجنبي على المطالب التقليدية للمستثمرين الأجانب، ولكن نلحظ إلحاحه على غزو قطاع المقاولات، "ففي الحقيقة، يحتمل أن تكون أوجه القصور في طاقة الإنشاء أخطر نقطة اختناق تواجه تسارع الاستثمار" (21).
وبالنسبة للقطاع الخاص المحلي، ركز التقرير على السياسات المالية والنقدية المطلوبة لزيادة معدل الادخار؛ فخفض معدلات التضخم يزيد جاذبية الأدوات التمويلية، وخَفْضُ الاعتماد على التمويل بالعجز، يقلل استنزاف القطاع الحكومي للائتمان، فيحرر الأرصدة من أجل استخدام القطاع الخاص المنتج. وكل هذا يؤدي إلى مدَّخرات إضافية. وأوضح التقرير أيضًا أن القطاع العام يسيطر حاليًا على كمية كبيرة من المدخرات الخاصة (من خلال النسق الضريبي، والتأمين الاجتماعي، ومدخرات صناديق البريد)، ومع نمو القطاع الخاص، وتزايد احتياجاته التمويلية، ينبغي أن تُطوِّر استراتيجية المدخرات - في المستقبل - آلياتٍ تُطلق سراح نسبة متعاظمة من هذه المدخرات الخاصة. وفي كل الأحوال يتطلب الهدف "استراتيجية متسقة لزيادة المدخرات، وتوسعًا عبر الزمن في تشكيله المؤسسات التمويلية، وزيادة في الأنماط المختلفة للأدوات التمويلية" (22). ومفهوم طبعًا أن زيادة المدخرات الخاصة، وتحريرها من سيطرة القطاع العام، هي الوجه الآخر لانطلاق الاستثمار الخاص في المجالات المُتاحة؛ سواء في مشروعات خالصة للمستثمرين المحليين، أو في المشروعات المشتركة (في المشروعات المشتركة يلجأ المستثمرون الأجانب أيضًا إلى استخدام المدخرات المحلية المحررة من سيطرة القطاع العام).
مع التحول نحو الاقتصاد المختلط "سيشهد العقد القادم تعقدًا متزايدًا دومًا في بنية الصناعة المصرية"، والاقتصاد المصري عمومًا. ويتطلب هذا جهودًا جادة؛ لتنسيق الاستثمار والجهود الإنتاجية في ثلاث مجالات: القطاع العام الذي أصبح وحدات متناثرة، والمشروعات المشتركة، والقطاع الخاص الذي يتوقع نماؤه. والتنسيق الأمثل يبدأ بتحديد السلطات لأهداف تأشيرية للإنتاج والاستثمار، مُستندة على دراسات الطلب لِكافة المنتجات الصناعية، وتتولَّى السلطات متابعة ما إذا كان الاستثمار سيزيد أو يقل في هذه الأنشطة، فيمكن تعويض النقص بتدخل القطاع العام، أو بتقديم حوافزَ سعرية إيجابية وسلبية حسب الحاجة.
ج ـ إن هذه المبادئ الواردة في نموذج البنك الدولي للتنمية التابعة، تؤكد التزام البنك بالمبادئ الستة التي أوضحنا أنها أساسية في أي تنمية (انظر الفصل الخامس): فبالنسبة لمبدأ الاعتماد على النفس، نلحظ أن مصر حَظيت بمعاملة خاصة، فتدفق عليها تمويلٌ خارجي بمعدلات غير طبيعية، ولكن كان ذلك تكلفة ضرورية لتحطيم النسق القديم، وللشروع في إعادة تشكيل البنية. ورغم أن المرحلة القادمة قد تتطلب أيضًا حجمًا من التمويل الخارجي المناسب الذي يزيد عن متوسط معدلات التدفق إلى الدول التابعة، فإن نموذج البنك الدولي كان حريصًا على تأكيد أن الاعتماد المتزايد على الموارد المحلية، ينبغي أن يكون الأساس (من خلال المدخرات الخاصة والقطاعات الرائدة) ـ وبالنسبة لمبدأ التنمية المُركبة، أوضح البنك تفهُّمه الكامل. فتركيز التقرير على الجانب الاقتصادي لم يوقعه في إغفال المفهوم المركب للتنمية، فعالج القضايا السياسية والسكانية، ومشاكل التحضر، والتعليم، والبنية الاجتماعية باعتبارها مكونات متكاملة ومتسقة لعملية التنمية الشاملة (وضمنها التنمية الاقتصادية) ـ ومبدأ القفزة الكبيرة متضمن بصراحة في الاستراتيجية لإعطاء الدفعة الضرورية لتنمية متواصلة في إطار التبعية (ومعبر عن هذه القفزة رقميًّا في التحديدات الأولية لمعدلات الاستثمار المستهدف ومعدلات النمو). وبالنسبة لمبدأ أو دور الدولة والتخطيط، أوضحنا التزام البنك بهذا المبدأ (شاملاً التدخل المباشر في شكل قطاع عام).
بقي مبدأ العلاقات الدولية، وأنها غير مواتية، ومبدأ إعادة توزيع الناتج، وبالنسبة للعلاقات الدولية تسجل هنا أن كثيرًا من الدراسات والكتابات الصادرة عن البنك،, أو بأقلام عدد من العاملين به، تُفيض في تشخيص العلاقات الدولية، على نحو لا يختلف مع وجهة النظر السائدة في الدول التابعة، ولكن في تقرير رسمي يحدد سياسات عملية مباشرة، وفي معركة ضارية لإخضاع بلد ذي أهمية خاصة في استراتيجية النظام الدولي الغربي، لم يكن هناك مجال لمثل هذا الكلام الذي يثير البلبلة في فترة تتطلب الحسم. ورغم أن المناقشة الموضوعية لسنوات الانفتاح، كانت تُفضي إلى كشف المصاعب التي حملها النظام الدولي للاقتصاد المصري، فإن التقرير ركز ـ بدلاً من ذلك ـ على نجدة النظام الدولي للاقتصاد المصري بعد احتداد أزمته (قانون التصفية عام 1977)، واكتفى بإشارة على استحياء إلى "أنه لا يوجد سبب ضروري يجعل قرارات السلطات (المصرية) متطابقة في كل النقاط مع آراء مقدمي المساعدات الخارجية" (23). ولكن يمكن أن نقول إن تقرير البنك تضمن منذ البداية تحذيرًا قويًّا من قسم معين من العلاقات الدولية، وهو قسم العلاقات مع الدول الاشتراكية، ولم يقدم هذا التقرير "الموضوعي" الاقتصادي، تفسيرًا اقتصاديًّا واحدًا لهذا الموقف.
لم يكن متوقعًا - على أيَّة حال - غير هذا الموقف من البنك الدولي. ولكنْ حدث أن أصرَّ البنك في هذا التقرير (كما في عديد من تقاريره ودراساته الأخرى، وكما في تقارير الصندوق) على أن يتضمن برنامج العمل المبدأ الذي تناوله خبراؤه أخيرًا بالدراسة، مبدأ عدالة توزيع الناتج. وهو دائم التحذير من النتائج التي أصابت الجماهير الفقيرة في مرحلة التحول إلى الانفتاح. ولا أتصور أن البنك يركز على هذا الجانب ـ بنفس الدرجة ـ في البرامج العملية التي يقدمها لبلاد تابعة أخرى، وأعتقد أن هذا التركيز في بلد كمصر يرجع إلى سببين: السبب الأول أن البنك (ومن معه) يتحركون في إطار استراتيجية السلام الأمريكي التي يتطلب نجاحها وجهًا مقبولاً للولايات المتحدة، واستقرارًا سياسيًّا واجتماعيًّا، والسبب الثاني، أن البنك ومن معه بصدد تحطيم تجربة للتنمية المستقلة، تدعمت شعبيتها بموقفها الإيجابي من الطبقات الفقيرة، وبالسقف الذي فرضته على الدخول والملكيات الكبيرة، وقد عبر تقرير البنك عن هذا الموقف بأن "المشكلة التي تواجه الحكومة، هي أن تصمم السياسات التي تواصل تنفيذ الانفتاح، وفي نفس الوقت تضمن استمرار الحماية المتواضعة الممنوحة حتى الآن، والتي تحُدُّ من عمل القوَى التي تفاقمت من فوارق الدخول. إن الصعوبة الكامنة هنا، هي أن الانفتاح، تترتب عليه إزالة عديد من أشكال التدخل الإداري التي تقررت من البداية لأغراض توزيعية، وسيتحتم على الحكومة أن تواصل المحاولة في إقامة توازن بين الأهداف المتعارضة للانفتاح من أجل نمو الإنتاجية، والتدخل من أجل توزيع عادل للدخل. ونأمُل أن تكتسب الحكومةُ مع الزمن قدرة متزايدة على الإمساك بتشكيلة مركبة من السياسات التي ينبغي أن تُنفذها لتحقيق الأهداف المتعارضة وللتوفيق بينها" (24). إلا أن الفشل الحالي في التوصل إلى هذه التشكيلة المركبة من السياسات، ليس فشلاً مؤقتًا، ولا يمكن تجاوزه في الأجل المتوسط أو الطويل مع اكتساب الخبرة اللازمة؛ لأن عدالة توزيع الناتج لا يمكن أن تتحقق في إطار هيكل وبنية نموذج التنمية التابعة. ونموذج البنك الدولي استخدم ـ باقتدار ـ المبادئَ الضرورية لإحداث تنمية في مصر، وفق المفاهيم العامة والنموذج العام للتبعية، وسبق أن أثبتنا أن مبدأ عدالة توزيع الناتج لا يتسق مع هذا النموذج (انظر الفصل الخامس). وأقصى ما تستطيعه السياسات ـ في ظروف غير متوافرة حاليًا في مصر ـ إدخال بعض التحسينات الهامشية. ولكن استخدم عامل (من خارج النسق المصري وسياساته) للتخفيف من حدة التناقضات الناشئة في هذا المجال نتيجة للانفتاح. ونقصد هنا استخدام عامل هجرة العمالة للدول النفطية العربية (انظر البند رابعًا في هذا الفصل).
إن الخطوط الأساسية لاستراتيجية البنك الدولي التقليدية وجهت تحرَّكه العام من البداية، قبل أن تتبلور بشكلها الخاص والمحدد في تقريره المشار إليه (على ضوء دراساته واتصالاته مع الواقع المصري ومسئوليه)، وقبل أن تتبناها السلطات المحلية رسميًّا، وقبل أن يتولى سلطة الإشراف الفعلي على تنفيذها عام 1977. وننتقل الآن إلى متابعة الوقائع التي شكلها تحرك البنك الدولي ـ بالتعاون مع المهاجمين الآخرين. ونبدأ متابعتنا للقطاعات الأساسية، بقطاع الزراعة (الذي لم يسبق أن تناولناه في الفصول السابقة). وتقييم التطورات في هذا القطاع، أثناء الستينيات وأثناء السبعينيات، تكتنفه الصعوبات وتتخلله الخلافات، ويدعونا ذلك إلى تحديد رؤيتنا لبعض المفاهيم.
ثانيًا ـ قطاع الزراعة:
(1) المعدلات ـ المفاهيم ـ الستينيات:
لا خلاف حول أهمية الدور الذي يلعبه قطاع الزراعة في التنمية الشاملة، ولكن حرص المسئولون في السنوات الأخيرة، على تكرار الحديث حول إهمال الإنتاج الزراعي في الستينيات، وحول تعديل الأولويات والثورة الخضراء بعد الانفتاح؛ بحيث ترسب انطباع عام بأن تغيرات هامة قد حدثت في قطاع الزراعة، أثناء إعادة تشكيل الاقتصاد القومي، وبدأ البعض ينتقد هذا التركيز الشديد على الزراعة، إلا أنَّ المتابعة الكمية للمعدلات العامة تُطمئِن ـ في الواقع ـ هؤلاء الخائفين من ظلم الزراعة للصناعة، فواقع الحال أن الإنتاج الزراعي لم يكن أسعد حالاً من الإنتاج الصناعي. كلاهما لم يحقق زيادة هامة. بل كان الإنتاج الزراعي أتعس حظًّا، والاهتمام بالتنمية في قطاع الزراعة في ظل الانفتاح كان يقل قطعًا عمَّا كان في الستينيات؛ ففي الخطة الخمسية الأولى (60/ 1961 ـ 64/ 1965) بلغت استثمارات قطاع الزراعة والري والصرف 355 مليون جنيه (أي 23 % من الاستثمار المُنفذ). وقد انخفضت هذه النسبة في السنوات التالية؛ بحيث أصبحت في حدود 13 % خلال السنوات الثلاثة الأولى من السبعينيات، ولم تتحسن الصورة تتجاوز 8 % من إجمالي الاستثمارات المنفذة في الفترة 1974 ـ 1977 (25)، وفي مشروع الخطة الخمسية 78 ـ 1982 استمر نفس الاتجاه، وقالت لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب: إنه تبين لها "ضآلة الاستثمارات المخططة لقطاع الزراعة والري؛ حيث بلغت 8.5 % من إجمالي الاستثمارات الخطة الخمسية... وذلك رغم توجيهات سيادة الرئيس بالاستراتيجية الحديثة؛ وهي الثورة الخضراء، وضرورة توفير الأمن الغذائي" (26).
ومعدلات النمو السنوي في الدخل الزراعي لم تعكس اتجاهًا مخالفًا؛ فالمعدل المحقق خلال الخطة الخمسية الأولى كان 3.5 %، وفي الفترة التالية وحتى بداية الانفتاح كان المعدل 2.5 %، وفي السنوات موضع الدراسة كان معدل النمو في الدخل الزراعي بالأسعار الثابتة كالتالي (27):

السنوات
1974
1975
1976
1977
معدل النمو
0.3 %
2.4 %
1.5 %
ـ 0.7 %

أي كانت المعدلات أقل مِن 1 % عام 1974،
ولم تتجاوز 2 % في عامَي 1975، 1976، وكانت بالسالب في عام 1977. وتقول التقديرات الأولية أن المعدل ارتفع إلى 3 % عام 1978، ويقول البنك الدولي إنَّه لا يمكن إغفال أثر زيادة استخدام المدخلات، وخاصة الأسمدة، ولكن الأداء الإنتاجي الأفضل ساعدته أساسًا ظروف جوية ممتازة على نحو غير عادي، وخاصة أثناء أشهر الصيف التي أثرت على إنتاج القطن، والأرز والذرة".

هذه الظروف الجوية أدت إلى "زيادة استثنائية عام 1978"، وهي ظروف لم تتكرر طبعًا عام 1979؛ "ولذا يحتمل أن يكون معدل النمو في القيمة المُضافة الحقيقية في الزراعة منخفضًا في عام 1979، رغم أن ظروفه كسُنَّة زراعية ـ كانت نسبيًّا جيدة" (28).
ونعود إلى تأكيد أن المعدلات العامة للاستثمار والنمو، لا تُعتبر - في منهجنا - المعيارَ الأول في تقويم النجاح والفشل، ولكن حرصنا على إثبات الحقائق السابقة؛ كي نؤكد أنه حتى بهذه المعايير، لم يحدث شيء مما يدعون. وينبغي بعد ذلك أن نبدد وهمًا آخر؛ إذ يبدو للمتابع للحوار حول قضايا الزراعة، أن هناك اتفاقًا واسعًا حول ضرورة الأمن الغذائي، ولكن هذا الاتفاق في صياغة الأهداف لا يمثل أي تقارب في تصور مضمون مشترك. والأمن الغذائي بالذات أصبح بفضل المسئولين المصريين شعارًا مهترئًا، ويعني ـ في إطار الممارسات العملية ـ عكس المقصود منه بداهَة. فمفهوم الأمن الغذائي، يقصد إلى تأمين حصول المجتمع على حاجاته الغذائية، وفي ظروف العلاقات الدولية الراهنة، يتضمن ذلك تحرر المجتمع المعين من تحكم الدول المسيطرة في إمداده بالمواد الغذائية؛ حتى لا يتعرض لضغوط تهدد استقلال إرادته. وبالتالي يعتبر الأمن الغذائي جزءًا من استراتيجية الاعتماد على النفس وإشباع الحاجات الأساسية، ونعيد أن الاعتماد على النفس لا يعني الاكتفاء الذاتي (من المواد الغذائية أو غيرها).
وفي المواد الغذائية بالتحديد يتعذَّر تحقيق الاكتفاء الذاتي في عديد من الحالات. ولكن يتطلب الأمر، في أيَّة محاولة للتنمية المستقلة، تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن الغذائي، وينبغي أن يكون تقليل الاعتماد على الدول المُسيطرة في الحصول على المواد الغذائية إلى الحد الأدنَى الممكن، هدفًا دائمًا في استراتيجية التنمية (29). وهذا التوجه لنمو الإنتاج الزراعي لا يتحقق ـ بطبيعة الحال ـ إلا في تشابك مع التنمية الشاملة المتمحورة حول ذاتها، وعبر زيادة الاعتماد المتبادل بين قطاعَي الزراعية والصناعة ـ بالذات ـ أثناء عملية التنمية الشاملة. فالأمن الغذائي لا يتحقق بمجرد زيادة إنتاج المواد الغذائية من التربة المصرية، إذا كانت الحبوب المُحسَّنة والأسمدة والمبيدات وأدوات الري ومواسير الصرف المُغطَّى وأدوات الحرث والدراس والحصاد.. مستوردة بالكامل (أو في الغالب) من الخارج. أيضًا
لا يتحقق الأمن الغذائي، إذا كانت المؤسسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المنظمة للنشاط الاقتصادي في قطاع الزراعة مرتبطة ـ بشكل أو آخر ـ بالخارج. وقد نذكر أن السيطرة الخارجية على الزراعة (في ظروف مصر الخاصة) لم تتحقق سابقًا ـ في الأساس ـ بإقامة قطاع إنتاجي أجنبي كبير (30)، وحين قيل إن مصر تابعة اقتصاديًّا، أو مزرعة قطن لـ "لانكشاير"، لم يكن مقصودًا أن الإنجليز أو الأجانب يملكون الأرض الزراعية أو يديرون مباشرة عمليات إنتاج القطن في المزارع المصرية، ولكن كان المقصود أنهم يسيطرون على مسار العملية؛ سواء بإعاقة قيام صناعة غزل ونسيج وطنية، أو بالسيطرة على مُدخلات ومخرجات زراعة القطن، وبالتحديد من خلال التحكم في الإقراض والتسويق المحلي والخارجي للإنتاج.

إن مراعاة هدف الأمن الغذائي في هيكل التركيب المحصولي المستهدف، ترتبط عضويًّا بهيكل النمو المُستهدف في قطاع الصناعة، وترتبط أيضًا بمراكز البحث الوطنية والمنوط بها استنباطُ توليفات وإبداعات تكنولوجية ملائمة، وترتبط بهيكل للخدمات ملائم، وترتبط بإنشاء مؤسسات وسياسات اقتصادية ملائمة. فزيادة الإنتاجية، وضمان الالتزام بالخطة العامة، وبالتركيب المحصولي الأمثل ـ وفق هدف الاستقلال (بمفهومه المركب) ـ يتطلب تجميع الزراعات في مساحات كبيرة، ويتطلب اتساق مصالح ووعي القوَى المسيطرة على المؤسسات (أو على علاقات الإنتاج) في الريف مع أهداف القيادة العليا للتنمية المستقلة، ويتطلب الأمر أيضًا سياسة سعرية مستقلة، تُستخدم في توجيه الإنتاج نحو الأهداف المحددة.
في إطار هذا المفهوم المركب للأمن الغذائي. يمكن أن نشير إلى محددات وإشكالات خاصة بالزراعة المصرية، لا يمكن إغفالها في فروض وحسابات تنمية مستقلة (وما تتضمنه من خطة ملائمة للأمن الغذائي). وأول هذه الإشكالات أن الموارد الطبيعية المُتاحة محدودة (الأرض الصالحة، والموارد المائية اللازمة)، فالأرض القابلة للاستصلاح قليلة، وفي حالة الاستخدام الأمثل لمياه الري لن يوفر إلا ما يكفي لتوسع جديد لا يتجاوز 3 مليون فدان. ويعني هذا أنه لا يمكن تحقيق أكثر من 50 % من التوسع الأفقي المطلوب لحفظ نصيب الفرد في مصر عن المستوى الحالي، أو لتحقيق الاكتفاء الذاتي سنة 2000. "فتحقيق الاكتفاء الذاتي في سنة 2000 ـ كما يقول الجبلي ـ يحتاج إلى زيادة المساحة المحصولية الحالية بنحو 11.3 مليون فدان، أو مضاعفة إنتاجية كل المحاصيل، وكلا البديلين أمر صعب التحقيق؛ نظرًا لمحدودية الموارد الأرضية والمائية الصالحة من جهة، وارتفاع الإنتاجية الحالية لمعظم المحاصيل المصرية من جهة أخرى" (31). ولكن لا يعني هذا أنه لا يوجد هامش واسع نسبيًّا لتعديل الهيكل المحصولي، ولزيادة الإنتاجية، وخفض التكلفة، ولكن يواجه كل ذلك، كما يواجه ترشيد استخدام مياه الري، بعقبات مؤسسية تحول دون إدارة الزراعة المصرية كقطاع منظم. وأبرز هذه العقبات تفتت الملكية، وأهم منها تفتت الحيازات (32)، وهذا هو التحدي الآخر الخطير الذي يواجه التنمية الزراعية والمصرية. إن المحدد الأول (الموارد) تفرضه الطبيعة لأجل يصعب التنبؤ بمداه، ولكن المحدد الثاني تفرضه أوضاع مؤسسية، يمكن تغييرها في ظروف سياسية مناسبة، ويستحيل ـ في نفس الوقت ـ أي بحث جاد حول الاستخدام الأمثل لإمكانيات قطاع الزراعة، دون مواجهة لهذا الإشكال: إشكال التفتت (33).
إلا أن المحددات الطبيعية تظل تمتع مصر، كما بينا، وفي أفضل الظروف، (وإذا استبعدنا العُمق العربي المحتمل للتنمية) من تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية (لو كان هذا مطلوبًا). وبالتالي، فإنه إلزام (وليس اختيارًا) أن يعني الأمن الغذائي ـ في الحالة المصرية ـ الحرص على مجرد زيادة الاعتماد على النفس (بالمفهوم المركب) إلى أعلى درجة ممكنة، ويرتبط بذلك هيكليًّا ـ من منظور الأمن الغذائي أيضًا، والتنمية المستقلة عمومًا ـ زيادة الاعتماد على الصناعة في تنمية الدخل والصادرات (بالمقارنة مع أقطار أخرى لها هيكل مختلف من الموارد الطبيعية).
إن تنمية الصادرات غير الزراعية ـ في الحالة المصرية ـ من المكونات الأساسية لخطة الأمن الغذائي، فإذا كانت زيادة الاعتماد على الخارج في الحصول على الغذاء مما يهدد استقلال الإرادة، فإن التهديد يتضاعف إذا شحَّ أيضًا النقد الأجنبي اللازم لاستيراد المواد الغذائية، وإذا أصبحت الحاجة للاقتراض لا ترتبط فقط بمشروعات استثمارية، ولكن من أجل تجنُّب المجاعة (34). ويترتب منطقيًّا على كل ما ذكرنا، أن الاستراتيجية الزراعية ينبغي ألا تُهمل التوسع الأفقي باسم المصاعب وارتفاع التكلفة،
أو باسم التوسع الرأسي ذي العائد السريع. وتزداد أهمية التوسع الأفقي؛ إذا أخذنا في الاعتبار التطلع إلى خلق نمط للزراعات الرائدة (35)، وأيضًا إذا أخذنا في الاعتبار أن المباني غطَّت حوالي 640 ألف فدان (في الفترة 64 ـ 1974).

إذا راجعنا ـ من هذا المنظور ـ تطوراتِ قطاع الزراعة في الستينيات، نقول إنها ارتبطت ـ بتعثر ـ بالتوجه العام نحو تنمية مستقلة، وللأسف لم تركز الدراسات حول هذه الفترة تركيزًا كافيًا على التقويم النقدي لهذا الارتباط، أي على متابعة التطورات في قطاع الزراعة من منظور النموذج المستقل والمتكامل للتنمية. ولكن كان التركيز على تغيرات الهيكل المحصولي، أو على تطورات التوسع الأفقي والرأسي، أو على قضايا التوزيع؛ كمجالات منعزلة للبحث، وبعيدًا عن محاولة استكشاف النَسَق الجاري إنشاؤه من كل ذلك(36). إن تطورات الستينيات تعثرت في بعض الأحيان، وكانت بغير حسم في أحيان أخرَى، ولكن تمخضت ـ رغم ذلك ـ عن إنجازات مادية، ومؤسسات وسياسات، تتضح أهميتها من منظور التنمية المستقلة عند مراجعة ما تم خلال سنوات الانفتاح. فعلى رأس الإنجازات العظيمة نذكر السد العالي الذي مثل مشروعًا أساسيًّا للتنمية المستقلة (المُتمحورة حول ذاتها) في الزراعة والصناعة. وفي الزراعة بالتحديد ارتبطت بالسد العالي أوسع مشروعات للاستصلاح (منذ عهد الخديو إسماعيل)، وكذلك زيادة المساحة المحصولية (37). ولم يكن ممكنًا إقامة السد العالي وما يرتبط به من مشروعات، وخاصة في الظروف التي اتخذ فيها القرار، إلا بإرادة مستقلة لدى المستويات العُليا للسلطة، وهذه الإرادة لم يكن يكفي لتجسيدها اتخاذُ اختيارات صحيحة وشجاعة في إطار العلاقات الدولية، ولكن تطلب الأمر تغيرات مناسبة في إدارة الاقتصاد المصري (على مستوى القُطْر، وعلى مستوى المشروع).
وبشكل عام كان الأمر يتطلب تدخلاً متزايدًا وكفُؤًا من الدولة. وإلى جانب السد العالي، كانت مشروعات الأسمدة والتراكتورات والمبيدات (والحديد والصلب والأسمنت أيضًا) ترتبط بتنمية زراعية مستقلة (38). وبالنسبة للأوضاع المؤسسية والسياسات، كانت إجراءات الإصلاح الزراعي المتوالية (المتعلقة بالملكية وعلاقات الإيجار) خطواتٍ تؤدي إلى تغيُّر بنية السلطة الحاكمة للريف باتجاه أكثر اتساقًا مع بنية وأهداف سلطة مركزية تحاول قيادة تنمية مُستقلة. ومحاولات التجميع (في أراضي الإصلاح ثم خارج الإصلاح) (39) والجمعيات التعاونية والتسويق التعاوني (40) كانت في اتجاه إحكام الالتزام بالهيكل المحصولي المستهدف من قبل سلطة التخطيط المركزي، وضبطًا لاتجاه الأسعار وفق المستويات المحددة بقرارات مركزية محلية، وكل هذا مرتبط بسيطرة الدولَة المتزايدة على مدخلات الإنتاج الزراعي، وبإمكانية استخدام أفضل للفائض العيني والمالي لقطاع الزراعة لصالح التنمية الشاملة المستقلة (41).
ومع ذلك كانت الإنجازات والمؤسسات والسياسات، مشوبةً بأوجه القصور والتناقضات. بعض الثغرات والتناقضات كان امتدادًا طبيعيًّا لنواقص التجربة العامة وتناقضات المرحلة الانتقالية إلى نموذج مستقل، والبعض الآخر، كان لوعورة القطاع الزراعي وظروف تطوره في إطار الوضع المصري والثورة المصرية (42). ويمكن أن نشير مثلاً في قطاع الزراعة، إلى فوضَى زحف المباني السكنية على الأراضي الخصبة، وإلى انخفاض معدل الاستصلاح والاستزراع. وإلى التردد في قرار إنشاء قطاع زراعي منظم (مجمعات زراعية صناعية) في الأراضي الجديدة، ويمكن أن نشير أيضًا إلى التخلف في مشروعات الصرف، وأثر ذلك على الإنتاجية في مساحات كبيرة من الأرض القديمة، وكذلك إلى تقاعُس الدولة عن التدخل الجاد باتجاه التعاون الإنتاجي، اكتفاء بالوقوف في إطار الخدمات(43). ونشير أخيرًا إلى أن ضبط الأسعار والدورة اقتصر على صغار الحائزين.
وإفلات الحائزين الكبار، وخاصة نحو الزراعات غير التقليدية، لم يكن جزءًا من تخطيط مركزي (44)، وتخلف المؤسسات والسياسات في الأسعار وتنظيم الإنتاج، كان يَعكس - إلى حدٍّ كبير - وزن كبار الحائزين في بنية الريف المصري، وفي السلطة السياسية المركزية. وليس مقصودًا هنا ـ في تقديرنا ـ أن التنمية المستقلة تتطلب ـ في كل الأحوال ـ تصفية كبار الحائزين كفئة اجتماعية، فما لم تدعُ ظروفٌ سياسية معينة إلى مثل هذا الإجراء؛ يكفي أن يوضع سقفٌ للملكية والحيازة، يتناسب مع محدودية الأرض الزراعية بشكل عام، ومع إنتاجية الأرض في المواقع المختلفة.
فمن ناحية، لسنا ضد الملكية الفردية للأراضي الزراعية من حيث المبدأ، ومن ناحية أخرى، فإن الحائزين الكبار يمثلون - عادة - مهاراتٍ فنية تنظيمية هامة. والمهم (والممكن في ظروف مواتية) تحييد الضغوط الممكنة لهذه الفئة الاجتماعية، والتي تحول دون اتساق السياسات باتجاه التنمية المستقلة. ويتطلب ذلك نضالاً متصلاً ضد الاتجاهات المنتشرة بين أفراد هذه الفئة (كما عند نظرائهم في المدينة) لتغليب مصالحهم وتطلعاتهم، على مصلحة المشروع العام. ويتضمن هذا النضال جهدًا سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا.
(2) التغيرات البنيوية نحو التبعية:
أ- بعد هذا التقديم السريع لمفهومنا عن التنمية المستقلة في قطاع الزراعة، ولإشكالاتها الخاصة في الظروف المصرية، وبعد تقييم ما تحقق في هذا الاتجاه أثناء الستينيات، يمكننا الآن متابعة التغير العميق (المستهدف والحادث) في هيكل وبنية الريف المصري. إن الغزاة الأجانب لم تكن مهمتهم حل مشاكل القطاع الزراعي من منظور التنمية المستقلة، وإجاباتهم على الأسئلة المطروحة، كان طبيعيًّا أن تختلف تمامًا عن نوع الإجابات التي قدمناها؛ فإجاباتهم للأسئلة كان طبيعيًّا أن تتسق مع هيكل وبنية الاقتصاد التابع الذي يستهدفونه، وكان طبيعيًّا بالتالي أن تتسق وتترابط مع توصياتهم في القطاعات الاقتصادية الأخرى. لقد طالب البنك الدولي ـ وله حق ـ بما أسماه: "تحولاً نوعيًّا في الزراعة" (45). وبشرنا تقريرُ البنك الدولي، بأنه يعتقد أن مصر يمكنها "أن تحقق معدلاً سنويًّا للنمو في إنتاجها الزراعي، يصل إلى 4 في المائة، لفترة تمتد حوالي عشر سنوات". إذا تمت التعديلات التي تقترحها بعثةُ البنك (46).
* وكما تكفَّلت جهات خارجية بوضع الخطط التفصيلية لتنمية القطاعات الأخرى (في إطار الاستراتيجية العامة المفروضة)، كان طبيعيًّا أن يتم التعاقد مع جامعة كاليفورنيا (مشروع أنساق التنمية الزراعية) لدراسة الإنتاج الزراعي وتحديد سياساته (تشارك وكالة التنمية الأمريكية في تمويل المشروع بما يعادل 12 مليون دولار). ويكمل هذا (مشروع إدارة القطاع الزراعي) ASIP؛ حيث تسهم الوكالة الأمريكية في تمويل أعمال التدريب اللازمة لتكوين مجموعة من المديرين المصريين والموجهين "من خلال أسلوب ASIP"، قادرة على تنفيذ السياسات الموضوعة. وهناك أيضًا حوالي 65 مشروعًا بحثيًّا تنفذ في إطار قانون فائض الحاصلات الزراعية (PL, 480), وكافة هذه الدراسات (كما في المجالات الأخرى) تقوم على الجهود الفنية والخبرات المتنوعة للباحثين المصريين في معاهد البحوث التابعة لوزارة الزراعة في كليات الزراعة بالجامعات المختلفة (لقاء مكافآت مغرية جدًا)، فيتوقف البحث العلمي المستقل، وترتبط المصلحة الاقتصادية المباشرة للباحثين (مستوى المعيشة المرتفع) بالولاء لمصادر التمويل الأجنبي، وتوظف الوقائع والنتائج البحثية وفق الإطار المستهدف. وهذه المسألة تخفَى على البعض (ليس بحسن نية في كل الأحوال)؛ ولذا يلزم تذكيرهم بأنه لا توجد تكنولوجيا أو توصيات فنية، غير مشروطة بالنسق الذي تعمل فيه. لقد تم ـ مثلاً ـ وضع برنامج طويل الأجل بمساعدة البنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية من أجل التوسع التدريجي في استخدام الميكنة في عمليات معينة؛ كالري والحرث والدراس والنقل، ولتنفيذ هذا البرنامج سيعتمد على دراسة التكنولوجيا المستخدَمة حاليًا في الزراعة المصرية، وعلى معلومات من المحافظات والمجالس المحلية والفلاحين، ولكن بأي هدف؟ ليس لتطوير التكنولوجيا المحلية، أو لإقامة صناعة وطنية تُمِدُّ الزراعة باحتياجاتها، ولكن "لأنه سيتم التركيز في المستقبل على أسلوب نقل التكنولوجيا الأمريكية المناسبة للتوطين في البيئة المصرية" (47)، ويتطلب هذا - بطبيعة الحال - "خلق جيل جديد من العاملين الذي يجيدون استخدام هذه الآلات وإنشاء وحدات صيانة لها، مع وجود جيل من الفنيين المتخصصين في إصلاحها" (48). وهناك أيضًا مشروع ركزت عليه وكالة التنمية الأمريكية، منذ فترة مبكرة، إصلاحها" (48). وهناك أيضًا مشروع ركزت عليه وكالة التنمية الأمريكية، منذ فترة مبكرة، يبحث "استخدام وإدارة المياه"، أي ترشيد مياه الري، مع وزارتي الري والزراعة، فهناك 8 خبراء أمريكيين يقيمون في مصرَ بصفة دائمة للإشراف على هذا المشروع، بالإضافة إلى خبراء آخرين يأتون بصفة دورية. وكانت الوكالة سخية فقدمت للمشروع مِنحة تصل إلى 8 ملايين دولار، ويقول المتحدث باسمها إنه "يأمل أن يتم تطبيق النتائج التي سوف نصل إليها على مستوى الجمهورية" (47)، ويدعم هذه النتائج ربط نظام الري المصري بالاستيراد من الولايات المتحدة؛ وفقًا لـ "مشروع مضخات الري" الذي تمول الوكالة الأمريكية بمقتضاه إنشاء مضخات في 34 محطة على طول النيل، في الوجهين البحري والقبلي، ووفقًا لـ "مشروع تجهيزات حفر قنوات الري". وأعتقد أن مصطلح "الترشيد" أصبح سيِّئَ السمعة في مصر ـ بشكل عام ـ ولكن بغض النظر عن هذا ينبغي ـ في كل الأحوال ـ أن نبحث عن الهدف من الأداء قبل البحث في ترشيد هذا الأداء. وبالنسبة لموضوع مياه الري، يمكن مثلاً أن نتساءل عن قيمة ترشيد الأداء، إذا كان تحقيق الوفر في استخدام المياه، ستستفيد منه إسرائيل؟ بنفس المنهج يكون الحكم على مشروع تحسين التربة في مساحة تزيد على 200 ألف فدان، يتولَّى البنك الدولي تمويل المكون الأجنبي له. وترتبط بذلك مشروعات الصرف المغطَّى التي عقدت بشأنها أربعُ اتفاقيات مع البنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية (141 مليون دولار) (49). هذه المشروعات
لا ينبغي أن نعزلَها عن سياقها ونقول: هل هي مُفيدة ـ في حد ذاتها ـ لزيادة الإنتاجية أم لا؟ فوفقًا لمنهجنا؛ ننظر إلى الاستراتيجية الزراعية، وإلى السياسات المتكاملة في مجموعها، فإذا كانت قروضُ الصرف المُغطَّى وفائض الحاصلات مرتبطة بشروط تحدد مجمل السياسة الزراعية على نحو مُتسق مع نموذج التبعية، فإن زيادة الإنتاجية للفدان ـ في هذا الإطار ـ لا تُعتبر نجاحًا يفخر به (50). وواقع الحال أن كافة الأبحاث والمشروعات، تستهدف فعلاً إرساء التبعية، يشمل ذلك المشروع الفرعي للبساتين (المنبثق عن مشروع أنساق التنمية الزراعية) الذي يشمل ذلك المشروع الفرعي للبساتين (المُنبثق عن مشروع أنساق التنمية الزراعية) الذي يشمل تطوير وتحسين الأصناف الحالية، واستخدام الوسائل الحديثة في الزراعة، تدعم هذا المشروع قروض سلعية من الوكالة تقدم إلى المزارعين من خلال بنك الائتمان الزراعي؛ للتوسع في زراعة الفواكه والخُضَر، ولدعم تعاونيات القطاع الخاص في تسويق هذه الحاصلات. ويتضامن هذا الدعم مع قرض البنك الدولي لتوفير تقاوي الخضر والفواكه للسوق المحلية. هناك أيضًا "مشروع تحسين الدواجن" ومشروع تنمية المزارع السمكية التي تنشئها الدولةُ بمساعدة الوكالة الأمريكية، وتملك للقطاع الخاص بقروض طويلة الأجل، وسنرى كيف تتسق كل هذه التوجهات مع نسق التنمية الزراعية التابعة.

ب ـ بعد هذا العرض للمفاهيم وتوجهات السياسة، نتابع أساليب ونتائج التنفيذ. وفي قطاع الزراعة (كما في القطاعات الأخرى) مدخل البنك الدولي (ومن معه) لتنفيذ مهامِّه، هو الالتزام بتعليمات الصندوق، أي رفع يد الدولة عن التدخل الإداري والسعري لتوجيه النشاط الاقتصادي. وانعكس ذلك، في قطاع الزراعة، في تضامن البنك الدولي مع صندوق النقد، للمطالبة برفع يد الدولة عن التدخل الإداري لتحديد المحاصيل المستهدفة، وبإنهاء سيطرة الدولة على الأسعار الزراعية. لقد لاحظ صندوق النقد "أن الإنتاج الزراعي نما بمعدل يقل عن معدل نمو السكان في السنوات الأخيرة (يقصد سنوات الانفتاح)؛ كنتيجة لمشاكلَ فنية واقتصادية"(51). وأوضح صندوق النقد أن المشاكل الفنية تشمل مشروعات الصرف وتوفير المدخلات المناسبة، وأن الحل الأساسي للمشاكل الاقتصادية، يمكن في اتباع تعليماته التقليدية. وترجمة هذا الطرح أن قروض البنك الدولي ووكالة التنمية (قروض المشروعات والقروض السلعية) لقطاع الزراعة مرتبطة باتباع تعليمات الصندوق؛ بحجة أنه لن يستفاد من أي تطويرات فنية إذا لم يضبط الأداء الاقتصادي، وترجمة هذا أيضًا؛ أن مشروعاتِ التنمية لا بد أن تُحكم بسياسات ومصالح البنية التابعة. والبنك الدولي لم يقصِّر في الترويج لإمكانيات جَعبته في تنمية الزراعة المصرية، "هناك الكثير مما ينبغي عمله في الأراضي القديمة، رغم إنتاجيتها العالية، ورغم المحددات البادية على الحد الكثيف. إن تحوُّل الزراعة على الأراضي القديمة، يمكن أن يُحقق نتائجَ بعيدة المدى، شاملة الصرف، وأنماط المحاصيل الجديدة، وطرق الري الجديدة، والتكنيك المحسِّن للزراعة، وكذلك ربط الأصناف الجديدة من الإنتاج الزراعي بالصناعة والصادرات" (45). ولكنْ لم يخفِ البنك (ومعه وكالة التنمية بطبيعة الحال)، أن "مساعداتِهما" ـ كما قال صندوق النقد ـ مرتبطة بشروط الأخير، وعبر عن ذلك في نصوص اتفاقيات القروض (راجع الفصل الثاني)، وسجل هذا أيضًا في كافة الوثائق التي صدرت عن هذه الهيئات (باسمها مباشرة، أو باسم الحكومة المصرية).
وفي تقريره الشامل، أثبت البنك الدولي أن نسق الأسعار المدار وطنيًّا يمثل "قيدًا رئيسيًّا على كمية ومستوى الإنتاج الزراعي، وتأثيره على مزارعي الوادي القديم، ومستوطني قُرَى الأراضي المُستصلحة يزداد سفورًا؛ حيث إنهم مرتبطون أيضًا بدورة محاصيل محددة إداريًّا. ومزارع الدولة الكبيرة في الأراضي المستصلحة، تُنتج وفقًا لدورة زراعية مقررة، وتكاليف التشغيل والخسائر تموَّل من الخزانة المركزية للحكومة" (52).
إن نسق الأسعار الوطني كان يحتاج فعلاً إلى تعديلات هامة؛ لكي تتسق المصالح (أو لكي تضيق الفجوة على الأقل) بين مصالح المزارع منعكسة في دخله، وبين مصالح المجتمع وتنميته المستقلة. وبمعنى آخر: كان مطلوبًا إعادة النظر في مستويات الأسعار للمحاصيل المختلفة؛ لاستخدامها كحوافزَ هامة وإضافية للالتزام باتجاه الأهداف المحددة.. ولكن ليس هذا مقصد الصندوق والبنك، فتدخل الدولة في تنظيم الدورة إداريًّا، أو بمساعدة الأسعار، مرفوض لديهم أصلاً، وقيل إنَّه بالضرورة يؤدي إلى انتكاس التنمية الزراعية، وحتى في مزارع الدولة، يؤدي إلى خسائرها،
ولم يشفع لهذه الخسائر مثلاً أن الأراضي لا زالت تحت الحدية الاقتصادية أو فوقها بقليل.

لم يذكر ذلك ولو باعتباره أحد العوامل. فقط أشير إلى تحديد الدورة، مع أن الأراضي المستصلحة ـ في حالة إدارتها عن طريق شركة أجنبية ـ ستخضع على ما أعتقد لدورة مناسبة محددة، عن طريق إدارة الشركة. على أيَّة حال، المطلوب من الدولة أن تُنهي نسق التدخل المركب في أسعار المدخلات والمخرجات، وأن تعمد "إلى نسق أكثر شفافية (أبسط) يعتمد على الحد الأدنى من الأدوات غير المباشرة" (53). وينبغي "على السلطات أن ترتب الأسعار المدفوعة للسلع الزراعية، وفقًا للأسعار السائدة في السوق الدولي، وسيعني هذا ارتفاعًا كبيرًا في أسعار بعض السلع الهامة، وإذا أريد لها أن تبقى منخفضة؛ يتطلب الأمر زيادة في اعتمادات الدعم من موارد الخزانة. ومن أجل تقليل هذا الاحتمال، يحسن أن يتم التحرك أولاً نحو نسق من معدلات الأسعار تتفق مع المعدلات السائدة في السوق العالمي. والمساواة بين مستويات الأسعار المحلية والعالمية للمنتجات الزراعية يمكن أن تتحقق في مرحلة تالية" (54).
وقد توالت الضغوطُ ـ في إطار الهجوم العام ـ لتحقيق هذه النتيجة، وجنبًا إلى جنب مع النتائج المحققة في جبهة أسعار القطاع العام الصناعي، تمكَّن الصندوق أيضًا من انتزاع انتصارات مشابهة في جبهة الأسعار الزراعية، فأعلنت الحكومة "أن هيكل الأسعار لم يقدم حوافز مناسبة للإنتاج الكفء.. وسنراجع سياسات التسعير الزراعي؛ بهدف خفض تشوهات التكلفة ـ السعر، وزيادة حوافز الإنتاج. وفي نيتنا ترشيد نظام التوزيع للمدخلات الزراعية؛ حيث إن النظام الحالي للتسعير والتخصيص أعاق الاستخدام الكفء" (55). (ويعني هذا زيادة الاعتماد على قنوات السوق، بدلاً من التدخل الحكومي). أعلنت الحكومة هذا الالتزام أمام صندوق النقد في برنامجها للسنوات الثلاث التالية ليونيو 1978، وفي برنامجها للسنة الأولى من هذا الاتفاق الممتد، التزمت بأن تنتهي من مراجعتها الكاملة لسياسات التسعير الزراعي خلال العام؛ "بحيث يمكن اتخاذ القرارات التي تحسن حوافز الإنتاج بدءًا من العام الزراعي 79/ 1980" (56). ولكن حتى أواخر عام 1978، لم تكن الحكومة قد انتهت من دراساتها (التي كان مفروضًا أن تنعكس نتائجها في الموازنة العامة). واضطرت بعثة الصندوق إلى التذكير بأن "انخفاض معدل النمو في الإنتاج الزراعي في السنوات الأخيرة، يُثير اهتمامًا جادًا"، وربطت كالعادة زيادة الإنتاجية بقضية الأسعار في المقام الأول، فجددت الحكومة التزامها بإنهاء الدراسات حول دعم مدخلات الزراعة وحول سياساتها في التدخل لتخصيص الموارد، وبتقديم أسعار مناسبة للمزارعين. وقد "اقترح خلال العام الجاري (178) عددٌ من التغيرات في الأسعار لكل من المخرجات والمدخلات؛ بهدف أن تكون الأسعار المدفوعة والتي يتسلمها المُزارعون أوثق صلة بأسعار السوق" (51). وقد اشتملت السياسة الزراعية بالفعل على تعديل للأسعار الرسمية للمحاصيل الزراعية، فتقررت في ميزانية 1979 زيادة أسعار شراء الحكومة لعدد من المحاصيل بحوالي
30 % (57) ولكن زادت في نفس الوقت أسعار بيع الأسمدة (حوالي 4 جنيهات للطن)، وكذلك نفقات المقاومة (حوالي 7 جنيهات للفدان). وبالتالي لم يحقق المزارعون زيادة محسوسة في دخولهم من بيع الحصص التي تتسلمها الحكومة (في موازاة الارتفاع العام في معدل التضخم)، ولكن ساعدت الزيادة على حفز موجة عامة لارتفاع الأسعار (وبمعدل أعلى) في الحاصلات التي تشق طريقها إلى السوق المرسلة. وبالتالي لم يتحسن الموقف الدخلي النسبي لأصحاب المحاصيل التقليدية، ولم تكن الإجراءات الحكومية حوافز لتوجيه الزراع ولزيادة إنتاجيتهم (كما زعم صندوق النقد) بالنسبة لمحاصيل أساسية؛ كالقطن وقصب السكر (وهذا أمر له مغزاه العميق كما سيجيء). كان المقصد مجرد تحقيق خطوة في اتجاه رفع يد الدولة عن إدارة الأسعار؛ بتقريب أسعار الشراء الحكومية من مستوى الأسعار في الدول المسيطرة. وقد أقر البنك الدولي بصحة ما فهمناه، وفسر ابتهاجه بالقرارات على أساس أنها مجرد "اعتراف حميد (من السلطات) بالمبادئ المتضمنة: أسعار مناسبة للمحاصيل، وخفض في دعم المدخلات" (58).

ج ـ مع هذا النجاح في ضبط الأداء الاقتصادي، يقوم البنك الدولي بمهامه المتميزة، مسلحًا بخطته وخبرائه وقروضه، ومتعاونًا مع وكالة التنمية الأمريكية. وقد لاحظنا أن الخطوط العامة للاستراتيجية ركزت في مُقترحاتها الفنية لتطوير القطاع الزراعي على مشروعات الصرف، وتحسين مدخلات الإنتاج. وتجاهلت إشكال التفتت في الحيازات كعائق أساسي؛ سواء في وجه الاستجابة المناسبة لتغير الأسعار، أو في وجه الاستخدام الأمثل للمدخلات المُحسِّنة، ولا نعتقد أن التجاهل يعكس تقييمًا اقتصاديًّا موضوعيًّا، يقضي بأن المشكلة
لا تستحق اهتمامًا. ولكن يبدو أن اتجاه البنك الدولي يتضمن اعتمادًا على النتائج المتولدة من مجمل السياسات الاقتصادية، والتي قد تحد من مساحة القطاع المفتت عن طريق التركز في الملكية والحيازة. فهذا هو البديل المناسب للبنية الاقتصادية والاجتماعية التابعة.

وللأسف، لا توجد ـ كما قلنا ـ بيانات إجمالية عن تطور الملكية والحيازة منذ منتصف الستينيات (59)، ولا عن تطور توزيع الأصول الإنتاجية الأخرى على الفئات الاجتماعية المختلفة، بل لا توجد أرقام إجمالي يرتكن إلى دقتها ـ بقدر مقبول ـ عن الزيادة العامة في الآلات المستخدمة في الزراعة، أو في الأنشطة غير الزراعية في الريف المصري، ولا توجد بيانات متكاملة حول التصورات في مستوى وأنماط المعيشة بين الفئات المختلفة، وبشكل عام لا توجد دراسات ميدانية اجتماعية كافية (60). وعلى ذلك فنحن نقتحم المجهول، ونركب مخاطرة كبيرة نسبيًا؛ إذ نحاول تتبع التطورات الحادثة فعليًّا في الريف، وسنُضطر إلى استخدام عدد من القروض، ونحاكم نتائجها على ضوء بعض دراسات العينات المحدودة.
والفرض الأول هو أن هناك اتجاه تلقائي وطبيعي للتمركز في ملكية الأرض الزراعية (كما في ملكية الأصول المنتجة في أي نشاط اقتصادي) في ظل سوق مرسل، وفي غيبة ميكانيزمات مضادة (من خارج السوق) لهذا الاتجاه. وإذا اعتمدنا على المقارنة بين هيكل ملكية الأراضي الزراعية قبل قانون 1952 للإصلاح الزراعي الأول، وبين الهيكل المقابل عام 1965 (بعد المعالجة المعقولة لمحمود عبد الفضيل) (61)، سنلحظ أنه بعد تنفيذ قانوني الإصلاح الزراعي، حدث تغير جذري وهام لصالح أصحاب الملكيات الصغيرة (5 أفدنة فأقل)، وهذه الفئة اكتسبت المساحات المضافة (أساسًا) عبر قرارات سياسية، وإجراءات منظمة. ولكن يلاحظ أيضًا أن ملكية الأراضي خارج نطاق الإصلاح الزراعي (أي المتداولة في السوق)، انتهت إلى اتجاه نحو تمركز الملكية في نطاق الفئة من 5 ـ أقل من 50 فدانًا، وداخل هذه الفئة كانت زيادة المساحة المضافة لدى شريحة 5 ـ أقل من 10 أقل من المساحة المضافة لدى الشريحة 10 ـ أقل من 20، والأخيرة أقل من المساحة المضافة إلى الشريحة 20 ـ أقل من 50 فدانًا. وقد حدث ذلك رغم أن سوق الأرض الزراعية لم تكن مُرسَلةً تمامًا؛ فبالتأكيد لم يكن الجو السياسي العام الذي أشاعه توزيع الأراضي، ومنع طرد المستأجرين، يشجع كثيرًا على تمركُز ملكية الأراضي الزراعية، وكذلك لم تكن لجنة تصفية الإقطاع مما يحفز على شراء الأراضي، ولا انحيازات السلطة المركزية لصغار الحائزين، ولا التأميمات والحراسات، أو الحديث الدائم عن الاشتراكية وتذويب الفوارق بين الطبقات. لم تَكنْ السوقُ مرسلةً إذن، وكانت عوامل الضغط على حركته التلقائية مؤثرة، ومع ذلك تم رصد الاتجاه الذي أشرنا إليه. ومن حقنا أن نتصور أن هذا الاتجاه يتسارع إذا خفت الضوابط والضغوط المفروضة على سوق الأراضي الزراعية. إن النتائج المستخلصة من (دراسة عينات واسعة نسبيًّا) حول توزيع ملكية الأراضي الزراعية في عام 1973 (62)، وتشير إلى تغير جسيم في هيكل الملكية، إذا قورنت هذه النتائج مع آخر إحصاءات رسمية في الموضوع ـ عام 1965 ـ كما في الجدول التالي:
جدول رقم (1)
تطور هيكل الملكية الزراعية
الملكية بالفدان
النسبة المئوية من الملاك
النسبة المئوية من المساحة
1965
1973
1965
1973
أقل من 5 أفدنة
5 ـ أقل من 10
10 فأكثر
94.5
2.4
3.1
85.6
7.8
6.6
57.1
9.5
33.4
26.1
11.2
62.7

وقد يدهشنا هذا المدَى من التغير، في فترة شهدت بعض التساهل (وخاصة بعد حرب 1967)، ولكن لم تشهد انقلابًا كاملاً في السياسات، بل حدث في تلك الفترة فرض سقف على ملكية الأسرة من الأراضي الزراعية. وقد نرى أن تقديرات 1973 هذه لا تقدم صورة صحيحة، ولكنها مؤشر لاتجاه متوقع في ظل قدر محدود من التساهل، وهي مؤشر يرجع تصورنا أن هذا الاتجاه قد تسارَعَ بعد التصفية شبه الكاملة للضوابط المفروضة على سوق الأراضي الزراعية، بل من حقنا أن نتصور أن الاتجاه للتمركز تسارع جدًا؛ لأن السوق ـ في فترة الانفتاح ـ لم يكن أيضًا سوقًا مُرسلاً. فالسرعة المُذهلة لتمركز الأصول والأنشطة الاقتصادية في مجالات كالاستيراد والمقاولات والتجارة الداخلية، لم تكن مجرد نتائج للسوق المرسلة، ولإطلاق آلياتها؛ فالسوق المرسلة لا تحقق وحدها هذه النتيجة، وبهذه السرعة، وحقيقة الحال أن السوق ازدادت تشوهًا بالتدخلات الأجنبية، وبتدخلات السلطة السياسية المصرية لمساندة البعض بشكل مباشر، وكان الأمر كذلك في قطاع الريف، وفي ملكية الأراضي الزراعية أو حيازتها. والسلطات المحلية ـ في المناطق الريفية ـ لعبت بلا شك دورًا هامًا في إطار التوجه العام للسلطة السياسية الجديدة، وفي إطار الارتباطات الوثيقة (والمعلنة الآن بلا رادع) بين رجال الإدارة المحليين، والفئات القادرة والعناصر المغامرة. ويبدو أن عدد الزاحفين من المدينة إلى الريف، لشراء الأراضي أو لحيازتها، قد زاد أيضًا لإقامة مزارع ومشروعات ذات إنتاج غير تقليدي، وشجع كل هذه العملية، أن إخلاء الأرض من صغار المستأجرين أصبح سهلاً نسبيًّا، فأصبح بوسع بعض الملاك الكبار أن يعودوا إلى أرضهم لزراعتها على الذمة، أو أن يؤجِّروها لمستأجرين قادرين على إقامة مشروعات ربحيتها عالية، وقادرين بالتالي على دفع إيجار أعلى. وسهولة طرد المستأجرين الصغار تحققت نسبيًّا الآن بعد تصفية الجميعات التعاونية التي بدأت من الناحية العملية بإحلال بنك القرية محلها في أهم وظائفها: الائتمان (63)، وبعد تصفية لجان فض المنازعات (القانون رقم 67 لسنة 1975)، ومع إطار الوضع السياسي العام الذي مال بتوازن القوى ضد مصالح صغار المستأجرين، وضد قدرتهم على الدفاع عن مواقعهم وحقوقهم القانونية.
وتشير دراسات متفرقة ومحدودة، إلى نتائجَ تتفق مع ما ذهبنا إليه ـ فبالنسبة للعلاقات الإيجارية، يتضح من عينة قرَى (في محافظة البحيرة) أن الإيجار الفعلي السائد كان 87 جنيهًا للفدان في السنة إذا زرع قطنًا ـ 40/ 50 جنيهًا لفدان البرسيم ـ 60 جنيهًا لفدان الأرز ـ 100 جنيه للفدان إذا زرع قمحًا وأرزًا (مع أن الإيجار القانوني، سبعة أمثال الضريبة، لا يزيد عن 24 جنيهًا للفدان في السنة). ولاحظت هذه الدراسة (وتاريخها 1976) أن "الاستئْجار بإيجار مرتفع، عادة ما يقع من جانب الملاك وأصحاب الحيازات الكبيرة، يستأجرون الأرض لتوسيع الرقعة التي يشغلونها، وخاصة في تربية المواشي" (64).
ويشير هذا، إلى أن أثر العوامل الاقتصادية في زيادة الإيجار، كان أكبر من أثر الضغط والقهر ضد صغار المستأجرين، وكان هذا مُتصورًا في إطار الأوضاع المؤسسية للمرحلة السابقة، فوفقًا لدراسة أخرى حول مجموعة قرى برج نور الحمص، كانت المشاكل المحورية التي بحثتها لجان فض المنازعات في جمعيات الائتمان (قبل إنهائها عام 1976) تدور حول العلاقات الإيجارية، "فعقد الإيجار الذي ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر، وفقًا لأحكام القانون، هو محور الصراع بين الطرفين؛ فكل منهما يجعل من هذا العقد وسيلة لتحقيق مصلحته؛ إذ إن المالك يحاول من خلاله أن يثبتَ عدم التزام المستأجر بشروط هذا العقد؛ كتأخيره في سداد الإيجار، أو تغييره لمعالم الأرض، أو قيامه بالتأجير من الباطن.. إلخ؛ لكي يحصل على حكم بطرده من "العين" أي من أرضه. كما أن المستأجر يعتبر عقد الإيجار هو الصيغة القانونية التي تضمن حقه في استغلال الأرض وتجعله في مأمن من استغلال المالك. ومن ثم، فإنه (أي المستأجر) يحاول جاهدًا أن يلزم المالك بتوقيع هذا العقد، فيما لو امتنع عن ذلك".
وقد أثبتت الدراسةُ أن قرارات لجان فض المنازعات (في قرَى العينة) كانت بنسبة 40.3 % لصالح الملاك، وجاءت بنسبة 59.7 % لصالح المستأجرين (65). وهذه النتيجة تؤكد الدور الهام للجان، وتعزز تصورنا، أن إنهاء هذه اللجان، وإضعاف الجمعيات التعاونية بشكل عام (من خلال بنك القرية)، كان ضربة مُوجَّهة للملاك والمستأجرين الصغار؛ فالقانون كان يوفر قدرًا من الحماية لحق صغار الملاك في إدارة جمعيات الائتمان (66).
ومهما قيل عن محاولات الأعيان لإفراغ هذا القانون من محتواه، ظل نص القانون (بما يمثله من اتجاه عام للسلطة المركزية)، وظل جو الانتخابات، وتصاعد الوعي السياسي العام لدَى صغار الحائزين، ظل كل ذلك عامل ضغط هام على تطلعات ومشاغبات الأعيان، وفي عينة قرى البحيرة، نجد أن الدراسة تُنقل على لسان صغار الفلاحين نقدهم الحار للموقف السلبي للجمعية التعاونية، فيقولون عن دور أعضاء مجلس الإدارة "إنه (ولا حاجة: يصالحوا الخلق على بعضها.. المرأة الغضبانة مع جوزها يصالحوها) ـ ومشاكل الزراعة والدواء وخلافه، ألا يساعدون في حلها؟ (بالنسبة للفلاحين، لا.. ومن يهابِر ـ أي: يعارض أو يصرّ على المطالبة بحقوقه ـ يقولون له: أنت ثورجي) ـ طيب ألستم أنتم الذين انتخبتموهم؟ الجواب (أيوه إحنا انتخبناهم، خُدعنا فيهم. المرة الجاية مش حاننتخبهم)" (64). هذه الصورة كانت تعكس الحال الفعليَّة في عديد من الجمعيات، ولكن حتى من هذه الصورة، نلمح وعيًا بالدور المُفترض من الجمعية أن تقوم به، وبأن هذا الدور هو معيار الحكم عليها بالنجاح
أو الفشل، وبإعادة انتخاب مجلس إدارتها أو عدم انتخابه، وبالتالي فإن مجرد وجودها واستمرارها كان رادعًا يحد من تجاوز القواعد الموضوعة، وبالتالي كانت جمعيات الائتمان ـ كمؤسسة محورية في الريف ـ وكانت لجان فض المنازعات، مما يتمنَّى الأعيان زواله؛ كي ينفردوا بالسلطة في القرى تمامًا ورسميًّا، وكي تطلق يد المؤسسات التقليدية القائمة على الملكية والثروة والعائلة الممتدة، تساندها الأجهزة الإدارية.

كان من حقنا ـ إذن ـ أن نتوقع أن إضعاف جمعيات الائتمان، وإنهاء لجان فض المنازعات، خطوة محسوبة في هذا الاتجاه، دعمت قدرة أعيان الريف والقادمين من المدينة، على حل مشاكل الصراع حول الإيجار والملكية بطريقتهم الخاصة وبشروطهم، فتسارع تمركز الملكية والحيازة.، وتعبيرًا عن الواقع الجديد كان منطقيًّا في عام 1979 أن يتغير قانون التعاون جذريًّا (67). أن التوسع في الحيازة (بزيادة الملكية وزيادة الأرض المستأجرة) كان يتحقق في الستينيات (غالبًا) نتيجة قدرة البعض على تحقيق تفوق اقتصادي (في مواجهة عوائقَ غير اقتصادية). وهو يتسارع الآن أيضًا بتأثير القوة الاقتصادية بعد أن تضاعف أثرها مرات عديدة (مع اتساع التمايز في الدخول وفي القدرة على الادخار والاستثمار)، وينعكس هذا في الأرقام الاقتصادية أصبحت تدفع في نفس الوقت وبشدة في اتجاه التمركز. وقد نضيف اعتبارًا آخر من خارج النسق المصري؛ إذ يبدو أن أعدادًا كبيرة نسبيًّا من صِغار الحائزين تميل الآن إلى التخلص من الأرض؛ من أجل الحصول على سيولة تكفي للسفر إلى الدول النفطية المجاورة. وتشير دراسة برج نور الحمصي إلى ما يؤكد هذه النتيجة (التمركز المتسارع)، "فاتجاه الحركة ـ كما قالت ـ أشار إلى أن أكثر فئات الحيازة بيعًا لأرضها كانت فئة أقل من فدان؛ حيث وصلوا إلى 160 حائزًا مقابل 35 فقط اشتروا أرضًا، وكانت النسبة الغالبة من البائعين من فئة أقل من ثلاثة أفدنة (72.6 %) من المشتغلين بالزراعة أساسًا، وليس لهم مهنة أخرى،
أو أي مصادر دخل أخرى واضحة على الأقل" (68).

إلا أن تمركز الأصول المنتجة لم يعد يتمثل فقط في مجرد مساحة الحيازة، فنحن نفترض أيضًا زيادة التمركز في الأصول المنتجة الأخرى؛ إذ هناك علاقة وثيقة ومفهومة بين تمركز ملكية الأرض وحيازتها، وبين تمركز هذه الأصول الأخرى (ويترتب على هذه العلاقة - بطبيعية الحال - مزيد من التشوه في توزيع الدخل في قطاع الريف). وقد تأكدت هذه العلاقة ـ قبل الانفتاح (69) ـ وسط احتكار الدولة للاستيراد، ورغم قدر من الضوابط على الائتمان المقدم لكبار الحائزين، وعلى بيع المنتج المحلي من الآلات الزراعية. فكيف يمكن أن يكون الحال مع فتح باب الاستيراد على مصراعيه أمام وكلاء الشركات الأجنبية العديدة، ومع تدفق الاستثمار الخاص لإقامة زراعات غير تقليدية ومشروعات على حيازات متنامية المساحة، ومع تحيز صريح في السياسة الائتمانية لما يُسمَّى بمشروعات الأمن الغذائي؟ نعتقد أن قدرة أصحاب الحيازات الكبيرة على تنويع الأنشطة، وعلى ملكية الآلات قد تضاعفت، ولكن يبدو من بعض المؤشرات أن هذه القدرة لم تعد حكرًا على أصحاب الحيازات الكبيرة، فبعض المشروعات؛0 كتربية الدواجن، والمناحل، أو زراعة الخضر.. إلخ لا تحتاج بالضرورة إلى مساحات كبيرة، والقدرة التمويلية وفَّرها الزاحفون من المدينة، وبعض العائدين من الأقطار النفطية. وبوسع هؤلاء أيضًا امتلاك جرارات، أو آلات ري، أو سيارات نقل، دون حيازات كبيرة بالضرورة؛ إذ يؤجرون هذه الآلات لجيرانهم. ووفقًا لبيانات مؤسسة الدواجن ـ على سبيل المثال ـ فإن هناك الآن 1700 مزرعة دواجن (قطاع خاص) تنتج فعلاً، و5600 تحت الإنشاء و1700 لا زالت في المراحل التمهيدية (70) (ولا تدخل في هذه الأرقام الشركات التي قامت لنفس الغرض وفق قانون استثمار المال الأجنبي). وحسب الخبرة والمشاهدات، فإن قسمًا كبيرًا من هذه المشروعات يديرها أصحاب حيازات صغيرة أو متوسطة. أيضًا نعتقد أن عددًا متزايدًا من أصحاب الحيازات المتوسطة كان مسهمًا في زيادة مساحة الفاكهة من 258 ألف فدان (1973) إلى 321 ألف فدان (1977). وفي زيادة مساحة الخُضر من 186 ألف فدان إلى 214 ألف فدان في نفس الفترة (من المساحة المحصولية الشتوية) ومن 374 ألف فدان إلى 452 ألف فدان (من المساحة المحصولية الصيفية) (71). وقد أكَّدت الدراسة الميدانيةُ في برج نور الحمص - العلاقةَ المنطقية بين الهيكل الحيازي للأرض وبين التركيب المحصولي وملكية الحيوانات الكبيرة؛ إذ تمكن المساحة الكبيرة للحيازة من زيادة متوسط نصيب الرأس من العلف الأخضر، وبالتالي تقل مشكلة الحصول على العلف اللازم لتغذية تلك الحيوانات، ولكن لم يثبت وجود نفس الرابطة بين حجم الحيازة وبين عدد الآلات المملوكة والمشاركة في الأنشطة الاقتصادية الأخرى، بل تبيَّن أن نسبة كبيرة من الآلات الزراعية (من جرارات وآلات ري) المملوكة في القطاع الخاص يمتلكها أفراد في الفئات الحيازية الدنيا، وحتى ثلاثة أفدنة، وبدَا من ذلك، أن ملكية هذه الآلات ليست للاستغلال في الأعمال المزرعية لمالك تلك الآلات، وإنما لتأجيرها ـ في الأساس ـ للعمل عند الغير، وتعتبر هذه الآلات من مصادر الدخل الرئيسية في قُرَى العينة (منطقة برج نور الحمص). كذلك لوحظ انحصار المناحل في الفئات الحيازية الدُّنيا، ولوحظ أيضًا مشاركة هذه الفئات في معامل الألبان. واستخلصت الدراسة من كل هذا "أن الحيازة الأرضية
لا تعبر عن القوة الاقتصادية للمزارع، ولا تمثل أهمية كبيرة في دخله، وخاصة في تلك الفئات الحيازية الدنيا" (72). وقد
لا يصدق تعميم هذه النتيجة على كافة أنحاء الريف، وأيضًا لا نقصد أن ظاهرة وجود فئة من أعيان الريف، لا تستند إلى حيازة واسعة، تعتبر ظاهرة جديدة، ولكن نعتقد أن هذه الظاهرة انتشرت بمعدلات أسرع في سنوات الانفتاح، رغم استمرار العلاقة التقليدية الوثيقة بين تمركز الحيازة وتمركز الأصول المنتجة الأخرى.

د ـ السؤال الآن هو: هل تستفيد الجهات الخارجية من تسريع النتائج السابقة، والتي تولدت من مجمل سياساتها العامة، وسياستها في القطاع الزراعي؟ وهل يفسر هذا الاتجاه إلى التمركز السريع، تجاهُلَ البنك الدولي لقضية التفتت؟ أعتقد أنه يسفر، دون أن يعني هذا اتهام البنك الدولي أو وكالة التنمية، بأنهما يسعيان إلى عودة نسق ما قبل 1952؛ إذ ليس من مصلحتهم اقتصاديًّا، أو سياسيًّا. وعودة طبقة من مالكي مئات وآلاف الأفدنة في الأرض القديمة، بمساحتها المحدودة وبكل الوقائع الاجتماعية التي صارت، مسألة مستحيلة عمليًّا. وبالتالي فإن المقصود بالتمركز هو توسع طبقة الأعيان عددًا ومساحة إلى آخر مدَى ممكن. وهذا التوجه يحد فعلاً من مشكلة التفتت، ولكن لا يُلغيها؛ فمن ناحية سيظل تيار التفتت عاملاً باستمرار من خلال الإرث، وسيظل هناك دائمًا من يتشبثون بحيازاتهم مهما كانت قزمية، ومن ناحية ثالثة، فإنه إذا كان العمل في الأقطار العربية قد دفع بعض صغار الحائزين إلى ترك الأرض، فإن بعض العائدين يستخدمون مدخراتهم في شراء مساحات محدودة (في دراسة بُرج نور الحمص كان البائعون من فئة 1 إلى 3 أفدنة ثلاثين بائعًا مقابل 60 اشتروا، معظمهم من العاملين في البلاد العربية كمدرسين أو كعمال)(73). قد يكون تيار التمركز ـ في مرحلة معينة ـ أقوى من التيار المضاد (تيار التفتت)، ولكن لن يلغيه، ولن يتواصل في تفوقه بلا حدود. وبالتالي فإن بديل الاعتماد على التمركز يعني استمرار قطاع مشوه ومعوق في الزراعة المصرية، بكل ما يعنيه هذا من تبديد للموارد الأرضية والمائية المحدودة.
إلا أن هذا البديل العاجز (من منظور الاقتصاد الكلي ـ الماكرو) يشكل البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية الملائمة لنموذج التبعية. التوجه في الستينيات لم يسفر عن أوضاع مؤسسية متسقة تمامًا مع خط التنمية الشاملة، ومع متطلبات الإدارة المركزية. ولكن ظل هذا التناقض (أو عدم الاتساق) محاصرًا بانتشار الملكيات والحيازات الصغيرة، وبما تمثله من وزن اجتماعي وسياسي متزايد. وبعض هذه الملكيات الصغيرة (مناطق الإصلاح) كان ارتباطه بالإدارة المركزية وثيقًا، ومحاصرًا بممارسات واحتمالات الأراضي الجديدة؛ كمزارع كبيرة تابعة للقطاع العام. وكانت سياسة التسعير تضمن مرور قدر من الفائض الاقتصادي في قنوات التخطيط المركزي. وكان أعيان الريف يمنعون جزءًا مهمًّا من فائضهم عن هذه القنوات (رسميًّا أو بالتحايل)، ولكن كان ممكنًا أن تتطور الأوضاع المؤسسية إلى إحكام الحصار السعري والضريبي، بل وإلى الإلزام بخطة عامة للتعاون الإنتاجي تحل تدريجيًّا المشاكل الناتجة عن التفتت. ولا ننسى أن الدولة كانت تحتكر الاستيراد والائتمان. وكان ممثلو التنمية المستقلة (أو الاشتراكية ـ حسب مصطلح تلك الفترة) في السلطة يسعون إلى إحكام الحصار؛ كي يستفاد من إمكانيات الأعيان وفق شروط المشروع الشامل لتنمية متمحورة حول ذاتها. وكان الأعيان ـ في المقابل يسعون إلى الإفلات من الحصار، وتصفيته إذا أمكن.
ونشير هنا إلى توصيات المجلس القومي للإنتاج والشئون الاقتصادية (مارس 1976)، فهي بمثابة برنامج لحزب الأعيان بعد انهيار مفاهيم التنمية المستقلة. لقد أفاض المجلس في شرح أهمية القطاع الخاص ودوره في النهوض بالإنتاج الزراعي، ويمكن تلخيص توصياته، في أنها مطالبة مُلحة برفع يد الدولة عن قطاع الزراعة (أسعارًا وتنظيمًا وإنتاجًا وتسويقًا وتصديرًا وتصنيعًا)، وبمعالجة النتائج التي ترتب على سياسات ما قبل الانفتاح (74).
إن المنظمين في القطاع الخاص، الكبار (بالمستويات المصرية) والأقزام (بالمقاييس الدولية)، تحت وهم أن تحررهم من إدارة الدولة يطلق المنافسة الحرة التي تعطي لكل ذي حق حقه. ومفروض ـ في الحقيقة ـ أن يمتلك المنتجون إحساس أنهم يحصلون على مقابلٍ عادلٍ لجهدهم وخبرتهم؛ فهو إحساس يفجر الإبداع والمبادرة، ولكن ينبغي أن يدرك هؤلاء (وهذا صعب) أن اللعبة في كل الأحوال محكومة، وأن التنافس ليس بلا ضوابطَ، والسؤال بالتالي هو: هل يكون التنافس في إطار النهضة العامة والتنمية الشاملة؟ أو في إطار ما يُسمَّى السوق؟ لن نعيد هنا أن السوق العادل، والمتوازن بالطبيعة، خرافة (الفصل الخامس)، ولكن نؤكد على حقيقة أن السوق المرسلة في بلد كمصر، في ظروف العلاقات الدولية الحالية، هو سوق تابع، إنه سوق لا تترابط أطرافه حول مركزه، ولكن تترابط أطرافه ـ في التحليل النهائي ـ مع أسواق الدول المسيطرة على العلاقات الدولية. الأسعار والدخول واتجاهات النمو لا تتحدد من داخل السوق المصري، ولكن تحكمها الضوابط الخارجية المفروضة على الأسعار المحلية وعلى التصدير والاستيراد. واللعبة ليست بالتالي حرة، ولهذا السبب كان طبيعيًّا أن تدعم القوى الخارجية مطالب أعيان الريف، فالنسق الذي ينشأ عن هذه المطالب مضمون أن يحكم ويضبط من جانب القوى الخارجية. ولماذا يصعب إقناع أعيان الريف بهذا المنطق؟ إنه صعب؛ لأن السوق التابعة مُرَتَّبةٌ على نحو يحقق مصالحهم المباشرة. وهذا أمر ينطبق على فئات اجتماعية متنوعة، ربطتها حركة السوق التابعة والمشوهة ـ عضويًّا ـ بِقوى السيطرة الخارجية. فالعمَّال الذين ارتبطت مصالحهم بشركات الانفتاح ـ من خلال الأجر الأعلى ـ يصعب إقناعهم برفض هذه الشركات التي ترفع الأجور؛ لأنها لا تعمل إلا في مشروعات تحقق أرباحًا عالية وسريعة، (مرتبطة إلى حد كبير بحركة الأسعار الموجهة من الخارج)، بغض النظر عن مدى أهمية هذه المشروعات بمنظور التنمية الوطنية الشاملة، ويصعب إقناعهم بأن الأجر الأقل في شركات القطاع العام كان أفضل؛ لأن استراتيجية التنمية المستقلة تختم إقامة مشروعات فترة حضانتها طويلة، وقد
لا تحقق ربحًا بعد بدء الإنتاج لفترة ما، وأنه ينبغي بالتالي أن تتحمل الشركات الرابحة بعض الأعباء، وينعكس هذا على مستويات الأجور. يصعب الإقناع بهذا بالنسبة للعمال والتكنوقراط (ولهذا يتم استنزاف المهارات بسهولة)، ونفس المنطق يسري على أعيان الريف.

في مرحلة تمزيق نسق الأسعار المُستقل (بكل ما صاحبها من ضغوط ومؤامرات لخلق أمر واقع) استفاد المهاجمون من ضغوط المُزارعين في نفس الاتجاه، والجو العام مكَّن كبار المزارعين (أصحاب الحاصلات غير المسعَّرة) من استخدام السيولة الزائدة في الاقتصاد؛ لتحسين موقعهم الدخلي النسبي، فزادت أسعارهم بمعدلات مجنونة، وأدى هذا فعلاً إلى زيادة نصيبهم النسبي من كعكة الدخل، (وانعكس هذا في التدافع على شراء الأرض وحيازتها) وبالتأكيد كان هذا الضغط من العوامل المفجرة لضوابط الأسعار في القطاعات الأخرى، وداخل القطاع الزراعي نفسه. وقد تؤدي إعادة الترتيب الشاملة لنسق الأسعار إلى بعض الهبوط النسبي في نصيب الأعيان، ولكن يظل صحيحًا أن تحرير مستويات الأسعار والدخول من سيطرة الدولة، مكَّن الأعيان (ويمكنهم) من تحسين مستواهم المعيشي، ومن إدمان نمط الاستهلاك المستورد (كقرنائهم في المدينة). وفضلاً عن الفائدة الاقتصادية المباشرة التي يجنيها الغزاة من ذلك، فإن إدمان نمط الاستهلاك المستورد أداةٌ استراتيجية لإدامة التبعية (الفصل الخامس).
وإضافة إلى تغير نمط الاستهلاكن فتح باب الأمل على مصراعيه لتملك الأراضي الجديدة (المستصلحة)، وأدت زيادة الدخول وفتح أبواب الاستيراد، إلى استخدام الفائض الاقتصادي في توسع عشوائي في استيراد المدخلات (75)، (بمساعدة القروض السلعية أو تسهيلات الموردين
أو الاستيراد دون تحويل عملة)، وما يتبقى لا يوجه عبر الدولة في مشروعات استراتيجية لإنتاج هذه المدخلات وغيرها، لكن يتصرف فيه أصحابه بقرارات فردية، وكشركاء أقزام، في كثير من الحالات، في مشروعات المستثمرين الأجانب، إن هذه الفئة الاجتماعية المتنامية ارتبطت – إذًا - في استهلاكها وإنتاجها بالخارج، (ويلوح لها أيضًا بإمكانيات مساعدتها في التصدير). وحققت أثناء ذلك تحسنًا حقيقيًّا في مستوى معيشتها وإنتاجيتها؛ فالصفقة إذن متكاملة، والربط بين طرفيها مُحْكمٌ، ويصعب بعد ذلك فك التحالف بين فئة الأعيان، وبين القوى الخارجية التي قدمت الدعم السياسي، والتوجيهات الاقتصادية التي أدت إلى انحياز واضح لمصالحها المباشرة. يصعب إقناع هذه الفئة أن زيادة دخولهم وإنتاجية مزارعهم ـ من خلال لعبة السوق والأسعار ـ كانت على حساب التنمية المستقلة الشاملة، وبقاء قطاع من الزراعة المصرية كسيحًا مهدرًا، رغم أن هذه حقيقة.

(3) مأساة القُطن وتغيير هيكل الإنتاج الزراعي:
أ- إن "التغيير النوعي" الذي طالب به البنكُ الدولي (ودعمته الوكالة والصندوق)، تضمن ـ إلى جانب ما ذكرناه ـ إدخال أصناف بديلة للتصدير. وتعبيرًا عن الالتزام بالتعليمات؛ أعلنت الحكومةُ أنها تدرس فعلاً إدخال دورات زراعية بديلة (46). ثم فوجِئ الجميع بحديث لوزير التخطيط (عبد الرزاق عبد المجيد) يقول: إن "القطن لم يعد ثروة قومية. ولعلَّني لا أكون مبالغًا إذا قلت إنه أصبح يمثل مشكلة حقيقية، وأن الاستغناء عن زراعته، قد يكون أجدَى وأفيد للاقتصاد القومي من الإصرار على زراعته" (76).
وكان طبيعيًّا أن يواجه هذا الكلام بالدهشة والمعارضة من الفنيين والاقتصاديين الوطنيين. كتب مثلاً سيد أيوب: "إن القطن الذي بدأت زراعته في مصر عام 1820، واستمرت إلى اليوم، هو المحصول الزراعي الأول والرئيسي لمصر، وسيظل كذلك إلى مستقبل بعيد، وسيصعب لأسباب اقتصادية واجتماعية وفنية التخلي عنه والانتقال إلى محصول آخر بديل أو منافس. فقد فرض القطنُ نفسه علينا، وتقبلناه وتزداد أهميته يومًا عن يوم (...) إنه المحصول الأول والرئيسي، وأصبح فلاح مصر خبيرًا مُتخصصًا في زراعته، وهو الخامة لكثير من الصناعات الرئيسَة الناجحة، وهي الحليجُ والغزل والنسيج والصباغة والملابس الجاهزة واستخلاص الزيوت، وما يتبع هذه الصناعات الرئيسَة مِن صناعات أخرى فرعية ضرورية للبلاد؛ مثل ما يتفرع من صناعة استخلاص الزيوت من إنتاج المِسلي الصناعي والصابون والجلِسرين، وإنتاج الكُسْبِ الذي يعتبر المصدر الأكبر للأعلاف الحيوانية الجافة. وأحطاب القطن هي مصدر الطاقة الرئيسي المُستخدَم في منازل الفلاحين، وتستوعب كل هذه الأنشطة عِمالة كبيرة، لها أهميتها الكبرى. وترتب أيضًا على القطن وإنتاجه، ظهورُ طبقات من العلماء المتفوقين في علوم زراعته وصناعته واقتصادياته" (77).
ولا تقتصر أهمية القطن في الحقيقة على هذا التاريخ العريق، وما ترسب عنه من إنجازات هامة؛ إذ معروف أيضًا أن مصر تحتل المركز الأول بين دول العالم المصدرة للقطن طويل التيلة؛ حيث تمثل صادراتُها حولي 49 % من إجمالي الصادرات العالمية من تلك الأقطان" (78).
ولكن يبدو أن سياسة إزاحة القطْن كانت قد بدأت فعلاً قبل إعلان الحرب رسميًّا على لسان وزير التخطيط، ويشهد على التقليص المُتعمَّد والمُطرد للمساحات المُنزَرعة قطنًا خلال سنوات الانفتاح. وتحقق هذا الاتجاه من خلال سياسة الأسعار، وبالتعليمات الإدارية المباشرة. فتوجيهات وزارة الزراعة قضت بإلغاء زراعة القطن في الأراضي ضعيفة الإنتاج، ومحاولة الاكتفاء بزراعة الأراضي الخصبة مرتفعة الإنتاج. "وهذا أمرٌ يجافي الصواب ـ كما كتب صلاح
أبو النصر؛ إذ إنه يجب أن نقسم الهدف من زراعة القطن إلى قسمين؛ أولهما مساحات قُطنية تُزرع بقصد نتاج محصول وفير وتبلغ 1.2 مليون فدان، أمَّا القسم الثاني، فهو مساحات قطنية تُزرع بنبات القطن كوسيلة من وسائل استصلاحها، دون النظر إلى ما يغله الفدان، وتبلغ مساحتها من 300 إلى 500 ألف فدان.. وقد أُعفيت محافظة الجيزة من زراعة القطن، فماذا كانت النتيجة؟ هبوط عام في إنتاجية الأرض الزراعية في المحافظة، وساءت الصفات الطبيعية للتربة فيها" (79). على كلٍّ، حدث أن تطورت العلاقة بين مساحات القطن والقمح والبرسيم كما في الجدول (2).

جدول رقم (2)
المساحات المُنزَرعة بالقطن والقمح والبرسيم (بالمليون فدان) (80)

المحصول
1973
1974
1975
1976
1977
1978
القطن
القمح
البرسيم (مستديم)
1.60
1.25
1.59
1.45
1.37
1.62
1.35
1.39
1.69
1.25
1.40
1.71
1.42
1.20
1.79
1.18
1.38
ـ

وقد ترتَّب على هذا الاتجاه النزولي للمساحات المنزرعة قطنًا، أن إجمالي الإنتاج من القطن الخام، كان مُتجهًا بالتوازن نحو الانخفاض، أساسًا في الأصناف متوسطة التيلة (انخفض بنسبة 60 %)، تليها الطويلة التيلة الممتازة
(24.2 %). وفي المقابل يبدو من الجدول التوسُّع المُطرد في القمح والبرسيم.

ب ـ إنَّ قضية الزيادة المطردة في استهلاك القمح تُثير الانتباه والحذر (اقترب الاستهلاك من علامة الـ 7 مليون طن عام 1978، بزيادة 15 % عن العام السابق). وترتبط بهذا الزيادة المطردة في الاعتماد على استيراد القمح والدقيق الفاخر من الخارج. أصبح متوسط الاستيراد السنوي 156.6 مليون جنيه (في فترة 73 ـ 1977) مقابل 42.6 مليون جنيه (في فترة 67/ 1968 ـ 71/ 1972). و35.3 مليون جنيه (في فترة 62/ 1963 ـ 66/ 1967). وبالتالي أصبح متوسط الإنتاج السنوي المحلي (في فترة 73 ـ 1977) لا يغطي أكثر من 37 % من استهلاك القمح والدقيق الفاخر، وهذا التطور حدث وسط الانهيار الذي أصاب الميزان التجاري الزراعي خلال سنوات الانفتاح. فالصادرات من السلع الزراعية ومن السلع الغذائية (مثل السكر والمشروبات والسجائر والبصل المجفف والمولاس والكُسْب) كانت تزيد عن الواردات من السلع الزراعية ومستلزمات الإنتاج الزراعي، ومن السلع الغذائية (مثل دقيق القمح وزيت بذرة القطن والسكر).
ظل القطاع الزراعي يحقق فائضًا في ميزانه التجاري طوال الستينيات وحتى عام 1973، وبدءًا من عام 69/ 1970، كانت قيمة الفائض تزيد سنويًّا عن 100 مليون جنيه، ووصلت إلى 145 مليون جنيه عام 1973. ثم حدث تحول مفاجئ بدءًا من عام 1974، فانقلب الفائض إلى عجز على النحو التالي (بالمليون جنيه) (81).
1974
1975
1976
1977
ـ 51.7
ـ 283.4
ـ 151.0
ـ 159

وهذا التحول مثير بالفعل للقلق (من أي منظور)، فهو يعني أن قطاع الزراعة لم يعُد من مصادر الإضافة إلى حصيلة النقد الأجنبي، بل لم يعد يكفي احتياجاته من النقد الأجنبي، وأصبح عبئًا على قطاعات التصدير الأخرى.
ولم يكن ارتفاع أسعار الواردات السبب الأساسي في هذا التحول؛ لأن أسعار الصادرات الزراعية الرئيسية، زادت بمعدل يزيد عن معدل الارتفاع في أسعار الواردات من المحاصيل الزراعية الرئيسية، طوال هذه السنوات، كما يبدو من الجدول رقم (3) (82):

جدول رقم (3)
معدل الارتفاع في أسعار السلع الزراعية الداخلة في تجارتنا الخارجية:
67/ 1968 ـ 71/ 1972
1973 ـ 1977
الصادرات
القطن
الأرز
الواردات
القمح
الذرة الشاميَّة
الدقيق
22.2 %
3.1 %
ـ 11.5 %
ـ 1.4 %
ـ 14.9 %
140.9 %
146.5 %
117 %
116.9 %
123.3 %

ويُلاحظ أن القطن وحده يمثل حوالي 68 % من إجمالي قيمة صادرات السلع الزراعية والغذائية، ويمثل مع الأرز نسبة 78 % (في المتوسط السنوي لفترة الانفتاح 73 ـ 1977). ويلاحظ أيضًا أن القمح على جانب الواردات يمثل 37.9 % من إجمالي قيمة الواردات الزراعية والغذائية، ويمثل مع الذرة والدقيق نسبة 51.8 % (في المتوسط السنوي لنفس الفترة). وعلى ذلك، فإن التدهور في الميزان التجاري الزراعي؛ كان نتيجة انخفاض الكميات المصدرة من السلع الزراعية (من جانب)، وزيادة الكميات المستوردة (من الجانب الآخر). وقسمٌ من هذه النتيجة يمثل تطوُّرًا طبيعيًّا يرتبط بزيادة عدد السكان. ولكن يرتبط قسم آخر بمجمل السياسات الاقتصادية للانفتاح. كان النقص في كمية الصادرات، وكانت الزيادة في كمية الواردات (في السلع الأساسية محل المقارنة) كما في الجدول (4) (79):


جدول رقم (4)
نسبة التغير في كمية الصادرات الواردات
67/ 1968 ـ 71/ 1972
1973 ـ 1977
الصادرات
القطن
الأرز
الواردات
القمح
الذرة الشامي
دقيق القمح
ـ 9.4 %
49.1 %
36.2 %
ـ 55.8 %
ـ 38.8 %
ـ 34.7 %
ـ 51.5 %
104.3 %
79.9 %
ـ 37.4 %

وقد انخفضت كمية الأرز المُتاحة للتصدير؛ بسبب زيادة الاستهلاك المحلي، وانخفضت كميات القطن المُتاحة للتصدير بسبب الاتجاه المدبر لتقليل الإنتاج، باعتبار أن محصول القطن "أصبح يمثل مشكلة" كما قال وزير التخطيط، فهل التوسع في القمح والبرسيم (وفول الصويا أيضًا) (83) أكثر جدوَى من التوسع في زراعة القطن من منظور وطني لمصالح الاقتصاد القومي؟ وهل يؤدي ذلك إلى تحسين الميزان التجاري الزراعي مثلاً؟ إن موقفنا السابق في الدفاع عن تحقيق أقصَى حد ممكن من الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الغذائية، لم يضعنا في تعارض مع تساؤل مصطفى الجبلي حول جدوَى التوسع في إنتاج بعض المحاصيل الغذائية، وقد ضرب بالتحديد مثل القمح واللحوم؛ فالقمح في كل الأحوال، وأمام حقيقة وجود احتياجات غذائية أخرَى (بمنظور الاكتفاء الذاتي) تتنافس على رُقعة زراعية محدودة، أصبح تحقيق الاكتفاء الذاتي منه أمرًا مُتعذرًا. وعدم وجود المراعي الطبيعية لا يبرر التوسع في زراعات البرسيم، بل يدعو إلى تقليل هذه المساحة إلى النصف، والاقتصار على عدد محدود من حيوانات اللبن واللحم عالية الكفاءة التحويلية، مع ضرورة التركيز على التوسع في إنتاج الدواجن، وتنمية مصادر الأسماك باعتبارها مصدرًا رخيصًا للبروتين الحيواني. وحسب تعبير الجبلي، فإن "هناك اختلالاً في استخدام الأراضي بين محاصيل الأعلاف - والتي تشغل نحو 30 % من المساحة لتغذية 4 ملايين من الحيوانات -وبين المحاصيل الغذائية التي تشغل نحو 55 % من المساحة، وذلك لسكان يصلون سنة 1985 إلى نحو 50 مليون نسمة" (84).. إن "الرقعة الحالية المحدودة تشهد تنافسًا شنيعًا بين الإنسان والحيوان، والأربعة ملايين حيوان يأكلون أكثر من الـ 37 مليون إنسان. هذه عملية حقيقية في الزراعة المصرية" (85). وعلى كلٍّ، فإن الدراسات حول تغيير الهيكل المحصولي، كانت جارية قبل الانفتاح. وقد تمت في وزارة الزراعة بالاشتراك مع هيئة الأغذية والزراعة (1972) دراسة مقارنة في هذا الاتجاه لتراكيب محصولية بديلة تشمل تغيير مساحة القطن والقمح والفواكه والخضر وهيكل الإنتاج الحيواني، وأثبتت هذه الدراسة ـ فيما يتعلق بالقطن بالذات ـ أن العائد من الحبوب (قمح ـ أرز ـ ذرة) بمعنى أن ميزة القطن تفوق ميزة هذه المحاصيل في الدورة، (ولم يتغير هذا التقدير وفق الأسعار الحالية) ـ وأثبتت الدراسة أيضًا أن التوسع في زراعة القطن يحقق زيادة في العمالة تقدر بنحو 30 % بالنسبة لدورة الحبوب البديلة، علاوة على أنها تستهلك كمية من المياه تعادل 33 % من استهلاك دورة القمح والأرز (86). وقد توصّل البنك المركزي إلى نتيجة مشابهة، وكتب أنه "بمقارنة العائد القومي من زراعة القطن بالعائد القومي من زراعة القمح، ويُلاحظ أنه في ظل أقل معدل تبادل بالأسعار العالمية بين القطن والقمح (7.5 طن قمح مقابل طن قطن)، فإن زراعة فدان قطن تمول واردات بما يوازي إنتاج أربعة أفدنة قمح. ومع أخذ التكاليف في الاعتبار وإجمالي العائد من الدورة ككل يلاحظ أن صافي العائد بالأسعار العالمية من زراعة فدان قطن (بمتوسط أسعار 1976 و1977) يُوازي 672.5 جنيه مقابل 426.5 جنيه من زراعة فدان قمح، ثم أرز، أي أن هناك مَيزة نسبية في زراعة القطن (87). وأكد خبير القطن الكبير محمد فرغلي نفس النتيجة، فكتب: "لقد عشت في عالم القطن ما يقرب من الأربعين عامًا، ولكنَّ العاطفة ليس لها أي تأثير في اقتناعي التام بأن سياسة تخفيض المساحات المنزرعة قطنًا، حتى من أجل زراعة الحبوب ليست السياسة الأفضل، بل وستظهر على مدى سنين نقط الضعف العديدة فيها" (88).
وقد أشارت دراسة الجبلي ـ بحق ـ إلى "أنه إذا كانت ميزة القطن النسبية للاقتصاد القومي، تفوق كثيرًا ميزته النسبية للمزارع؛ وفقًا للأسعار السائدة، فإن الدراسة أوضحت ضرورة منح حوافزَ سعرية وغيرها للمزارعين؛ لضمان استمرارية إنتاجهم بالقدر الذي تُحدده الدولة".
فماذا حدث لكي تنقلب الحسابات، وتستخدم الأسعار والتدخلات الإدارية لإحداث عكس ما كان متفقًا عليه؟ ماذا حدث؛ لكي يتحول القطن إلى مشكلة؟
ج ـ إن إمكانيات مصر في إنتاج القطن طويل التيلة، تدعو إلى زيادة المساحة المنزرعة قطنًا؛ وفقًا لمبدأ المزايا النسبية (الذي تتحدث عنه الهيئاتُ الدولية كثيرًا)، وزيادة كمية الأقطان المصدرة، بالارتباط مع سياسات اقتصادية ملائمة من منظور التنمية المستقلة، كانت تؤدي قطعًا إلى الحد من قيمة العجز الحادث في الميزان التجاري الزراعي بنسبة كبيرة (89). ولكن حدث أن تضافر نقص كمية القطن المنتجة، مع باقي السياسات الملائمة لفرض التبعية، في اتساع العجز ومع ذلك، فإن مضار تقليص المساحة المنزرعة قطنًا، تتعدَّى هذا الأثر على الميزان التجاري. إن الضرر الأكبر يتمثل في أن محاربة زراعة القطن مسألة متسقة منطقيًّا، بل مسألة محورية، باتجاه إعادة تشكيل بنية الاقتصاد المصري، ومن هذا المنظور فقط، يمكن تفسير لغز أن "القطن أصبح يمثل مشكلة". فمن المفارَقات العجيبة أن هذا المحصول كان المؤسسة الرهيبة التي يسيطر الأجانب ـ عن طريقها ـ على الاقتصاد المصري حتى منتصف القرن الحالي، وهذا المحصول نفسه أصبح الآن "مشكلة" في وجه المخططات الخارجية لاستعادة السيطرة، وكافة ما ذكرناه للقطن من أفضال، يزيد من عداء الغزاة لوجوده. فزراعة القطن ـ في كل مراحلها ـ تعتمد لاستمرارها وتطويرها ـ كما ذكرنا ـ على الخبرة المحلية المتراكمة لدى الفلاحين والفنيين والعلماء والإداريين المصريين، عبر أجيال عديدة، وارتبط القطن بشكل مباشر بحياة المواطنين في الريف وخارج الريف. إنه العمود الفِقَري للهيكل الإنتاجي، ومنطق عملية القطن يتطلب بالضرورة وضعًا مؤسسيًّا يمتد بإدارته إلى كافة أنحاء القطر؛ لضمان الإنتاج المنتظم من القطن الخام، ثم لضمان الانتظام في تدفقه إلى أوجه استهلاكه في الداخل والخارج. وكان الأجانب يديرون هذه المؤسسة بطريقتهم الخاصة وبشروطهم، وكانت الدولة تتدخل أيضًا ـ على الأقل لتحديد المساحة. ومع التوجه الاستقلالي، ومع التطور المرتبط بذلك في السياسات الاقتصادية، أصبحت قبضة الدولة أكثر إحكامًا إن القطن يستأثر الآن باهتمام الأكبر لقطاعات الزراعة والتجارة والصناعة في الدولة. فوزارة الزراعة مثلاً، تتولَّى إنتاج الأصناف الجديدة، وتحسين الأصناف الجارية، وتعمل على منع اختلاط الأصناف بتحديد مناطقَ لزراعة كل صنف، وتُعِد التقاوِي على مستوى فني عالٍ من حيث النقاوة، وقوة الإنبات، والخلو من التقاوِي الغربية، وتتولى إرشاد الزراع إلى أفضل الطرق الزراعية، والمواعيد المناسبة، والإشراف بواسطة أجهزتها على كل خطوة من خطوات الإنتاج، وهي التي توفر الأسمدة والمبيدات للآفات الزراعية ومبيدات الحشائش، ولا يقتصر فضلُ علماء وزارة الزراعة على تحسين أصناف القطن، أو استنباط أصناف جديدة؛ فبحوثهم حول مقاومة الآفات العديدة للقطن، وحول التربة في مناطقَ زراعية، والمحافظة عليها من التدهور، تتمتع بسُمعة عالمية رفيعة. ونذكر أيضًا أن وزارة الري تنسق مع الزراعة توفير مياه الري في مواعيدها المنتظمة، وهي المسئولة عن المصارف الرئيسية. وقد تمت تصفيةُ القيادة الأجنبية لمرحلة التسويق، وتمت تصفية شبكة تجار الداخل الممتدة على طول الوادي. وأصبحت الدولة تقدم الائتمان عبْر الجمعيات التعاونية. وحل التسويق التعاوني محل تجار الداخل، فأصبح القطن يتدفق من الحقول إلى المغازل المحلية والأسواق الخارجية، عبْر قنوات تحكمُها الدولةُ. وشركات التصدير الستة في قبضة القطاع العام بالكامل (90)، وصناعة الغزل والنسيج يملك القطاع العام القسم الحديث والمركز منها، والقطاع الخاص (23 %) نموذج للقطاع الخاص الصناعي المُرتبط أساسًا بالداخل وقراراتِه. إن عملية القطن تحولت – إذًا - إلى مؤسسة تُدار وطنيًّا ومركزيًّا بالكامل.
وبحكم الوزن الهائل الذي يمثله قطاع القطن (بكل تشعباته داخل الاقتصاد المصري)، يدعم قيامَ هذه المؤسسة إمكانيةُ الإدارة المركزية لتنمية شاملة، تتمحور حول ذاتها. وكل هذا مما ينبغي تصفيته.
ويُضاف إلى ذلك، أن التوسع الطبيعي في إنتاج القطن الخام، لا بد وأن يرتبط باطراد ـ في إطار التوجه إلى تنمية مستقلة ـ بزيادة نسبة ما يستخدم منه في الصناعة المحلية (غزلاً أو نسيجًا)؛ سواء لمقابلة الاستهلاك المحلي،
أو لتصدير قسم متزايد من القطن مصنعًا، بدلاً من تصديره خامًا. "فتصنيع كل محصول القطن الخام محليًّا وتصديره كأقمشة وغزل يؤدي إلى تقليل عام المخاطرة الناتج عن تغير أسعار القطن الخام في الأسواق العالمية، علاوة على أن ذلك يخلق فرص عمل جديدة، ويرفع العائد من القطن" (86). وقد تحركت صناعة الغزل والنسيج المصرية في هذا الاتجاه فعلاً(91). في (59/1960) كانت صناعة الغزل والنسيج تغطي القسم الغالب من الطلب المحلي، وكانت صادراتها تمثل 9.7 % من القيمة الإجمالية للصادرات، ومع نهاية الخطة الخمسية الأولى (64/ 1965) وحتى عام 1975 كانت نسبة صادرات الغزل والنسيج حوالي 14 %. وبلغت كميات الغزل المصدرة ذروتها عامي 1972، 1973 (حوالي 46 ألف طنٍّ في السنة الواحدة) والذروة لصادرات المنسوجات كانت في الأعوام من 1968 حتى 1972 (بمتوسط سنوي 22 ألف طن).

ويلاحظ أن أسعار التصدير كانت ترتفع باطِّراد.. كان سعر الطن من الغزل 760 دولارًا (1968) فوصل إلى 2155 دولار (1977) وسعر طن النسيج كان 728 دولار فأصبح 1661 دولارًا (في نفس العامين على التوالي (92). ووفقًا لمابرو، شهد هَيكلُ صادرات الغزل والنسيج تحولاً مستمرًا نحو زيادة نسبة النسيج على حساب الغزل، حتى أصبحت الغلبة لصادرات النسيج في عام 1975. وبالنسبة للغزل نفسه كان التحول مستمرًا أيضًا من الغزل السميك إلى الغزل المتوسط والرفيع، وكل هذا كان "علامة مُشجعة إلى حد بعيد" (93) كما تصور مابرو (أو كما يمكن أن يتصور أي باحث موضوعي). ولكنه لم يكنْ كذلك في الحقيقة من منظور الهيئات الدولية (ومن معها)، بل كان التطور في هذا الاتجاه داعيًا إلى تغليظ العداء لمحصول القطن؛ فهذا التنويع لهيكل الصادرات. تحقق من خلال صناعات تحويلية وطنية، وعبر قنوات تصدير وطنية. ولا تخضع السلسلة فعلى أية حلقة من حلقاتها لسيطرة شركات أجنبية. وأكثر من ذلك؛ فإن هذا النجاح في التصدير، ارتبط بفتح أسواق الدول الاشتراكية أمام الإنتاج الصناعي المصري، وهذه "مصيبة" أخرَى.
إن الأسواق الغربية عاجزة عن استيعاب كل صادرات القطن المصري الخام، وهي أشد عجزًا عن استيعاب القطن المصنع، ورغبتها في استيراد الغزل والأنسجة المصرية أقل من قدرتها، في إطار الشروط المؤسسية الراهنة لقطاع القطن. وعلى ذلك كان توزيع صادرات الغزل والنسيج على الكتلتين (الغربية والشرقية) كما في الجدول (5) (94):
جدول رقم (5)
نسبة توزيع صادرات الغزل والنسيج على كل من الكتلتين إلى إجمالي صادرات الغزل والنسيج *

1973
1974
1975

عملات حرة
اتفاقات
عملات حرة
اتفاقات
عملات حرة
اتفاقات
غزل
نسيج
27 %
36.9 %
72 %
53.5 %
29 %
23.5 %
70 %
74.7 %
12.9 %
4.6 %
86.8 %
94.9 % * *

* النسب في كل حالة لا يساوي مجموعها 100 ـ الفارق يمثل حصة الدول الأخرى.
* * النسبة تمثل في هذا الإحصاء (وفق البنك المركزي) ما قيمته 210.2 مليون دولار. وقد تفوقت في هذا العام حصة صادرات النسيج على حصة صادرات الغزل بالنسبة للدول الاشتراكية (الاتفاقات) لأول مرة وبالتالي في إجمالي صادرات الغزل والنسيج.
ويعني ذلك أن المستوى الحالِي لإنتاج الغزل والنسيج يربط هذه الصناعة ـ بالضرورة ـ بأسواق الدول الاشتراكية. ومثل هذه الرابطة مرفوضة استراتيجيًّا من الولايات المتحدة والهيئات الدولية، وهي سبب يكفي وحده لعداء القوى الخارجية لمحصول القطن ونتائجه.
د ـ "القطن أصبح - إذًا - "يمثل مشكلة" من كافة الزوايا، أمام المخططات الخارجية؛ ولذا كان طبيعيًّا أن تختصه هذه المخططات بهجمات متنوعة.
لوحظ منذ بداية الانفتاح، وخاصة منذ عام 1975، تصاعد الهجوم ضد الأوضاع المؤسسية التي تحكم التعامل في القطن. التسويق التعاوني واحتكار الدولة للتصدير كانا موضعَ هجوم دائم في لجان مجلس الشعب المعنية، وفي المجلس القومي للإنتاج، وفي أجهزة الإعلام، وبالتأكيد في أماكنَ أخرَى لم نسمع عنها. ولكن فاجأ الجميعَ خبيرُ القطن محمد فرغلي (قارب - أو تجاوز - الثمانين، وأُمِّمت ممتلكاته)، فقد كتب في معارضة هذا الهجوم، فأشاد بنجاح القطاع العام في مجال تصدير القطن، واعتبر قيام الدولة بهذه المهمة نظامًا أمثل، وقال: "لقد عملت في ميادين القطن، ابتداء من إنتاجه إلى بيعه إلى المغازل في شتَّى أنحاء العالم سنوات عديدة، كما أنِّي في غِنًى تام عن القول بأنني أشد أنصار الحرية في الاقتصاد والتجارة (...) ولكن بكل أسف، بل بكل ألم، أقول إن ظروفنا لا تسمح لي بأن أشارك السادة أصحاب هذا الرأي في مواقفهم. وليس معنى هذا أن التسويق التعاوني نظام مثالي، أو أنه لا يدعو إلى الكثير من الانتقاد، ولكن البديل الوحيد للتسويق هو الرجوع إلى النظام القديم ـ أو ما يشابهه ـ والذي كان سائدًا عشراتِ السنين قبل عام 1961. وهذا الرجوع ـ في تقديري ـ أمر في منتهى الصعوبة والخطورة، إن لم يكن مُستحيلاً" (95).
وقد اعترف الرجل ـ بعد فترة ـ بأن أصدقاءه وعارفيه، انتقدوه في موقفه هذا، ولكن حدث أن كافة المسئولين في القطاع الاقتصادي، تبنوا هذا الرأي، بنفس الحجج العملية التي قدمها رجل الأعمال الوطني، وحين عادت لجنة الزراعة في مجلس الشعب إلى التقدم بتوصية إلى وزارة الصناعة، ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لدراسة "تحرير" تجارة القطن، وطلب من وزارة الزراعة دراسة خفض مساحة وإنتاج القطن، عارض الفنيون في وزارتَي الصناعة والاقتصاد ـ بالإجماع ـ إلغاء النسق الحالي للتسويق التعاوني والتصدير (91). تمامًا كما عارض الفنيون في وزارة الزراعة اتجاه خفض مساحة وإنتاج القطن. وزكريا توفيق (الذي لا يشك في ولائه للانفتاح) وقف بصرحة إلى جانب الفنيين، على ضوء خبرته السابقة (كان أول رئيس للمؤسسة المصرية العامة لتصدير الأقطان قبل تعيينه وزيرًا)، فكتب بدوره في معارضة هذا الكلام عن "تحرير" تجارة القطن، وأيضًا من مُنطلق أنه غير واقعي(97).
  • والموقف ببساطة كالتالي: فكرة إنهاء الأوضاع المؤسسية الحالية، وإنشاء أوضاع بديلة لتجارة القطن، تُباع لمنتجي الأقطان، على أساس أن إنهاء الوضع الحالي يقضي على احتكار الحكومة لشراء الأقطان، وعلى فرضها بالتالي لأسعار مُحددة. وترك الأسعار ـ كما يقولون ـ لكي تحددها حركة التنافس في السوق المحلية والأسواق الدولية، يؤدي إلى ارتفاع أسعار الشراء لأقطان المنتجين، وإلى زيادة دخولهم. هذه الفكرة تباع لكافة منتجي الأقطان، وكبار المنتجين، يتصورون أن فرصتهم بالذات في السوق المرسل، ستكون أفضل في الحصول على أسعار أعلى من غيرهم عند فتح باب المنافسة. ولكن ينبغي ـ في المقابل ـ أن يقتنع المستهلكون المحليون، أي صناعة الغزل والنسيج، أن الوضع المؤسسي المقترح، يقدم لهم مزايا مُحتملة، متمثلة في الحصول على القطن بأسعار أقل ـ في حالة التعامل مع تجار القطن في الداخل، وفي حالة التخلص من الأسعار المحددة التي تفرضها الحكومة. وقد يلوح هذا الاحتمال؛ إذا كانت سلسلة تحرير التجارة كاملة، فيكون للغزالين المصريين مثلاً حقُّ الاستيراد الحر من الأسواق الخارجية، في حالة ارتفاع الأسعار المحلية، للضغط على هذه الأسعار وإعادتها إلى التوازن المعقول مع أسعار الخارج. ومطلب الغزَّالين المصريين مثلاً، حق الاستيراد الحر من الأسواق الخارجية، في حالة ارتفاع الأسعار المحلية، للضغط على هذه الأسعار وإعادتها إلى التوازن المعقول مع أسعار الخارج. ومطلب الغزالين المصريين المشروع لا بد أن يوضع في الاعتبار؛ لأن الصناعة المصرية كانت تستهلك 42 % من القطن الشعر (67/ 1968)، و50 % (73/ 1974)، ووصل استهلاكُها إلى حوالي 65 % في السنوات الأخيرة. وفي كل الأحوال، لا يعني قبول المستهلكين
    أو المنتجين لآليات السوق، أنهم يقبلون تقلباتٍ حادة ومتلاحقة في الأسعار؛ فالمفروض ـ كما يقال ـ أنَّ آليات السوق تضمن استقرار الأسعار عند مستويات موضوعية، مع ذبذبات بسيطة حول هذا المستوى، وفي حالة الاختلال العنيف يطلب دعاةُ السوق الحرة على الفور تدخل الدولة. وفي حالة كالقطن؛ حيث إن المستهلكون في مصر والخارج مؤسسات منظمة، يكون الاستقرار في شروط العمل (وضمنها طبعًا أسعار المدخلات الأساسية) مسألة مطلوبة جدًا من أجل التنبؤ والتخطيط لآجال مَعقولة. ومن أجل هذا الضمان للاستقرار النسبي ابتدَع أصحاب السوق أدوات مناسبة تنظم العلاقة بين العرض والطلب على مستوى السوق المحلي (بورصة البضاعة الحاضرة)، وتنظم العلاقة بين العرض والطلب بين السوق المحلي والأسواق الخارجية (بورصة العقود). وبورصة العقود في هذا الإطار المؤسسي، هي القمة الحاكمة، فذبذبات أسعارها هي الموجه والحافز لكل عمليات البيع والشراء في المراحل السابقة، وكل ذلك كان قائمًا في مصر تحت قيادة بورصة ليفربول، وصناعة الغزل والنسيج في لانكشاير، وكان متركزًا داخل مصر على أوضاع مرتبة، وعاملة بكفاءة ونشاط على كل المستويات، بدءًا من تُجار الداخل، إلى سماسرة البورصة والمصدرين، وكانت كل هذه المؤسسة التابعة، تحت الإدارة المباشرة للكوادر الأجنبية واليهودية المُدَرَّبة.
والموقف الآن، جدَّ فيه أن السوق الدولية للقطن، والتي يتعامل معها القطنُ المصري، تغيرت مؤسساتها تمامًا، فمن ناحية أصبح جزء هام. من صادراتنا القُطنية موجهًا إلى الدول الاشتراكية، وهذه الدول لا تحدد أسعار صفقاتها عن طريق بورصة عقود، وفي الدول الغربية لم تعد الصورة مختلفة؛ إذ أقفلت معظم دول العالم بورصاتِها؛ بسبب المُضارَبات، وحتى بورصتا ليفربول ونيويورك، أصبحت أسعارُهما مجرد مؤشراتٍ لا يُلتفت إليها كثيرًا؛ لأنها قائمة أيضًا على المُضاربات.. وبالتالي لا معنى لإعادة إنشاء بورصة عقود في مصرَ لقيادة سوق القطن، ولا مانع من إضافة أنه حتى في حالة قيام سوق للعقود في مصر يتطلب الأمر ـ بالضرورة ـ توفير عملات حرة للقيام بعمليات التوازن الحيوية بين بورصة العقود في الإسكندرية والخارج، وإلا أصبح سير البورصة في اتجاه واحد تابع للخارج، وهذا أمر خطر وغير عملي.. وغير عملي أيضًا ضمان توفر العملات الحرة اللازمة لهذا الغرض ـ ثم هناك مُتغيرًا آخر هام في سوق القطن، أشرنا إليه، وهو الوزن الكبير المطلب المحلي، الذي لا يمكن تجاهل مصالحه. وهذا "الزبون" المهم لا يرى له أية مصلحة في تصفية العلاقات الحالية المستقرة.
أمام هذه الوقائع الجديدة، كيف يمكن تغيير الوضع المؤسسي الحالي لتجارة القطن، وما جدوَى مثل هذا التغير بأي معيار؟ إن العدول عن إنشاء بورصة العقود، يهدم المنطق المتماسك لدعوة "تحرير" تجارة القطن؛ إذ تتطلب العملية ـ في كل الأحوال ـ مركزًا يحدد القدر المعقول من الاستقرار السعري، وفي غياب بورصة العقود سنجد أنفسنا من جديد أمام ضرورة تدخل الدولة لتحديد الأسعار،
وإلا تحولت تجارة القطن في الداخل والخارج إلى فوضَى شاملة. وارتباط القطن بملايين المنتجين، وبالصناعة الأولى في مصر، وبحقيقة أنه مصدر أساسي للنقد الأجنبي، كل هذا لا يسمح باحتمال مواجهة مثل هذه الفوضى. ولكن لا يعتقد أن الفوضى والقلاقل المحتملة تقل كثيرًا إذا اقتصر تدخل الدولة على حالة تحديد أسعار التصدير، يكفي تصور التقلبات العنيفة التي تحدث بالضرورة كلما تراءَى للسلطات المُختصة أن تزيد أسعار التصدير، ويحدث هذا عادة بعد بيع جزء من المحصول، وبالتالي يصبح المتبقي مجالاً أسهل لهذه التقلبات، ويترتب على ذلك حتى إفلاس بيوت التصدير في القطاعين العام والخاص، وخرابُ الصناعة المحلية. وإذا امتد تدخل الدولة إلى تحديد أسعار شراء القطن من المنتجين؛ فإن العملية تكون قد عادت مرة أخرى للوضع الحالي، مع فارق أن القطاع الخاص حل في تجارة الداخل محل التسويق التعاوني. وإذا تلخص التغيير في هذا؛ فإن هذا الفارق في نوع الوسيط ليس في صالح منتجي الأقطان أو مُستهلكيها (في الداخل والخارج)؛ ففي إطار السعر المحدد سيعمَد الوسيط الخاص ـ بكافة أشكال التحايل والضغوط ـ إلى التنافس في تعظيم ربحه؛ سواء في شراء القطن بأقلَّ من السعر المحدد، أو ببيعه بسعر يزيد عن المحدد. ثم هل تضمن شبكة المقتحمين الجدد لتجارة القطن ـ بتجربتهم المحدودة ـ أن تمتد بيوت التصدير بانتظام يتفق مع ما اكتسبته السوق المصرية من سمعة عالية، في احترام المواعيد، ودقة تلبية الطلبات؟ إن الأيام الأولى من موسم القطن ـ مثلاً ـ تشهد لحظة إلحاح على تغطية مئات الآلاف من البالات، تتمكن قناةُ التسويق التعاوني الحالية من مواجهتها، ولا يتصور أن يتمكَّنَ التجارُ الجدد من تقديم نفس الضمان.

ويجرنا كل ذلك إلى حقيقة هامة؛ فكافة الحجج السالفة كانت ـ على أسس عملية ـ حُججًا قاطعة ضد نسف الوضع المؤسسي الحالي للقطن، واستعادة أوضاع قديمة، ولكن أقطع من كل ذلك، ما بدأنا في سرده عند حديثنا عن مدَى قدرة وخبرة تجار الداخل، فواقع الأمر، أن الأوضاع المؤسسية القديمة تطورت عبر أجيال، مع النمو المُتصاعد في زراعة القطن، ومع التوسع المُصاحب في روابطه الدولية. في هذه العملية التطورية تراكمت خبرات، وتبلورت كوادرُ تفهم قواعد اللعبة، وتديرها بحِذق، وهذه الشبكة الواسعة من الكوادر ماتت وانتهت.. ولسنا بصدد تجربة ناشئة يتدرب الكادر الجديد معها، وينمو بنموها، نحن أمام العمود الفقري، المكتمل النمو، للهيكل الإنتاجي المصري، ولا يمكن ـ في ظل أي إدارة للاقتصاد المصري ـ المقامرة بتسليم هذه المؤسسة القطنية إلى هواة. وبتعبيرٍ آخر، فإنه إذا كان يروقُ للبعض أنَّ يُصرَّ على مزايا "السوق المرسل" في التعامل مع القطن المصري، بعد كل ما قيل، فإنه لا يوجد من يقوم بتشغيل هذا النموذج "الجميل".
هـ ـ القطن المصري أصبح مُلتحمًا – إذًا - بنظامه المؤسسي الحالي القائم على الإدارة المركزية للدولة، وأصبح مرتبطًا بتشابكات مع الصناعة المحلية، وبعلاقات دولية، تثير انزعاجًا مشروعًا لمخططي بُنية التبعية. ووصل الحُنُق بممثل الهيئات الدولية (وزير التخطيط المصري)، وفي مواجهة هذه الحالة التي تبدو مستعصية - إلى المطالبة بالاستغناء نهائيًّا عن زراعة القطن. ولكنْ لم يكن من هذا مما يُعقل، ولعل الوزير نفسه لم يكن يقصد المعنى الحرفي لكلماته؛ فهي زفرة ضيق في حرب، ثبت أنها ممتدة، ولن تنتهي بضربة وحيدة قاضية.
مع هذا الفشل في تصفية الأوضاع المؤسسية القائمة، تصفية كاملة، وبضربة واحدة، اتجهت السياسات إلى محاصرة قطاع القطن والتضييق عليه، وإلى إضعاف وزنه النسبي داخل الاقتصاد المصري وصادراته، وإلى إفراغ هذا الوضع المؤسسي من مضمونه "المزعج"، وإلى تقطيع أوصاله، وعلاقاته. وهذا الكلام مجرد وصف موضوعي لما تحقق.
يقول زكي شبانة: إن "السياسة القطنية المصرية اتجهت إلى تخصيص المزيد من الأقطان للاستهلاك الداخلي؛ وذلك لتدعيم وتنمية صناعة الغزل والنسيج المصرية (...) وانطلاقًا من ذلك؛ فإن التركيب المُقترح لمصر، يمكن أن يسير في اتجاه التخفيض التدريجي لمساحات القطن (....) وفي حالة الأخذ بالتركيب المحصولي المقترح؛ فإن الكمية المستهدف إنتاجها تكفي لحاجة التصدير (بالعملات الحرة وجزء مناسب من الصادرات لدول الاتفاقيات) ويقترح تغطية باقي احتياجات الاستهلاك المحلي باستيراد الأقطان قصيرة التيلة الأمريكية، مع إدخال البوليستر في صناعة المنسوجات في مصر.
ويرى البعض قصر التصدير من القطن طويل التيلة على بلاد العملات الحرة فقط، وتخفيض نسبة المصدر إلى دول أوروبا الشرقية ودول الاتفاقيات إلى نحو 40 % من إجمالي الصادرات القطنية المصرية" (98)، هذا التحديد يعني بالدقة ـ في إطار فهمنا للوضع العام ـ الوصف الذي أوردناه (وسنوضح هذا حالاً)، وكافة ما جاء في التحديد يتحقق فعلاً، وأهميته تكمن في أن يثبت، (لمن يحتاج) أن المتحقق "سياسة قطنية "مترابطة الحلقات، وليس إجراءات متفرقة وغير مرتبة.
الخفض التدريجي والمنتظم للمساحات المُنزرعة قطنًا تحقق فعلاً، ولم يكن منطق هذا الاتجاه مفهومًا (كما ذكرنا) وفق اعتبارات اقتصادية بريئة. وناشد محمد فرغلي الحكومة (منذ عام 1976) أن تعدل عن هذا الاتجاه الخطير لوزارة الزراعة، والذي بدأ مع الانفتاح، ولكن يمكننا الآن أن ندرك ببساطة أن هذا الإجراء كان جزءًا من سياسة قطنية متكاملة. وهذا الإجراء وحده ضربة "لمشكلة القطن" من المنبع، بتقليص حجم "العدو"، أي حجم إنتاج القطن، وبالتالي حجم إسهامه المطلق والنسبي في مجمل النشاط الاقتصادي. وقد تراجع عبد الرازق عبد المجيد عن فكرة الاستغناء نهائيًّا عن زراعة القطن أمام ردود الفعل الواسعة، ولكن أصرَّ - في تصريحات تالية - على ضرورة الاستمرار في خفض المساحات المزروعة قطنًا؛ بحيث "لا يُزرع القطنُ إلا في حدود ما يمكن تصديره خامًا أو مصنَّعًا بعملات حرة"، وقد عارض محمود داود وزير الزراعة - هذا الاتجاهَ علنًا، وقال: "إن المساحة الحالية هي أدنى حد يمكن تخصيصه للقطن تحت ظروفنا الحالية (....) ويقتصر الإلغاء على بعض المساحات المحددة التي يثبت ضعفُها في بعض المراكز/ وهذه محدودة جدًا (...) وهنا سيكون الإلغاء في أضيق الحدود؛ مما يُتيح تعويضه في المناطق الأخرى" (99).
ولكن حدث فعلاً - وعلى أيَّة حال - أن انخفضت مساحة القطن بحوالي 600 ألف فدان عمَّا كانت عليه قبل الانفتاح. وكان طبيعيًّا أن يؤدي هذا تلقائيًّا إلى خفض كميات القطن الخام المُتاح للتصدير، وهذه نتيجة مطلوبة لتقليص أهمية القطن كمصدر للنقد الأجنبي؛ ولتأكيد هذه النتيجة تضمَّنت السياسة القطنية أيضًا زيادة المبيعات للمغازل المحلية، فارتفعت الأهمية النسبية لهذه المبيعات من 44 % من إجمالي كمية المبيعات (مغازل محلية وتصدير) في عام 1973 إلى 63 % عام 1977، وبالتالي كانت الكمية المصدرة من القطن المصري عام 1977 حوالي 51 % فقط من الكمية التي تم تصديرها عام 1973. وبالأسعار الثابتة لعام 1978، كانت قيمة صادرات القطن 592 مليون دولار عام 1974، فانخفضت إلى 275 مليون دولار عام 1978. وقد انخفضت تبعًا لذلك نسبة صادرات القطن إلى مجْمَل الصادرات السلعية إذا كان هذا الاتجاه يعني ارتفاع معدل الزيادة في الصادرات من قطاعات الصناعة التحويلية الوطنية (وقد تحقق هذا قبل الانفتاح). ولكن حدث هذا الانخفاض (أثناء الانفتاح) في ظروف تدهورت فيها أيضًا قيمة الصادرات من إنتاج الصناعات التحويلية الوطنية من 808 مليون دولار عام 1974، إلى 725 مليون دولار عام 1978 (بالأسعار الثابتة لعام 1978)، ويقدر أن يصل الهبوط إلى 690 مليون دولار عام 1979 (10) ـ لقد عوض الاقتصاد المصري عن الانخفاض في صادرات الصناعات التحويلية والقطن الخام بزيادة في صادرات النفط، وخارج الميزان السلعي كانت هناك زيادة في متحصِّلات السياحة وقناة السويس.
إن خفض الإنتاج أدى إلى تقليل الوزن المطلق والنسبي للقطن في مجمل النشاط الاقتصادي، وساعد هذا في خفض إسهامه المطلق والنسبي في تشكيلة الصادرات المصرية. ولم يكن الخفض في إنتاج القطن كافيًا وحده للهبوط بصادرات القطن الخام إلى المستوى الملائم؛ ولذا عمدت السياسات - كما قلنا- إلى زيادة المبيعات إلى المغازل المحلية. إن المستوى الملائم لكمية الاشتراكية (102)؛ لأن أحد الأهداف الأساسية خفض الحجم المطلق والنسبي للقطن المصدر إلى هذه الدول، وقد أوضح زكي شبانة هذه السياسة، واعترف بها وزير التخطيط. إلا أن تدبير أسواق بديلة لم يكن سهلاً، فرغم انخفاض الكميات الإجمالية المصدرة على نحو حاد، كانت نسبة القطن الشعر المتجه إلى الدول الاشتراكية الأوروبية 42.7 % من إجمالي صادرات القطن الشعر (75/ 1976)، وأصبحت 42.5 % (76/ 1977)، ثم فرض الحظر على تصدير القطن الشعر إلى الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا بالعملات الحسابية (وهما أكبر مستوردين للقطن المصري في هذه الكتلة)، فانخفضت النسبة إلى 25.7 % (77/ 1978)، ولكن لم تزد في المقابل صادرات القطن إلى الدول الغربية، فنسبة هذه الأسواق كانت في السنوات الثلاث على التوالي 37.7 % ـ 38.6 %، أي رغم القرارات التي هبطت بمجموع صادرات القطن، وبمجموع الصادرات إلى الدول الاشتراكية وبنسبتها، بدرجة محسوسة، لم تزد الصادرات إلى دول العملات الحرة الأساسية بدرجة مناسبة، وقد أسهمت الصين الشعبية في ذلك الموسم 77/ 1978 في منع الأزمة؛ إذ تضاعفت وارادت الصين من القطن، وأصبحت نسبتها 14.5 % بدلاً من 7.3 % (76/ 1977)(103)، وزادت نسبة يوغوسلافيا إلى 8.5 % وكانت 1 %، فتمت تغطية الفجوة.
وفي العلاقات الدولية الراهنة، لا يمثل ارتباط القطن المصري بالسوق الصيني أو اليوغوسلافي نفس المحاذير التي يمثلها الارتباط بالسوق السوفيتي ودول شرق أوروبا (من منظور المخططات الأمريكية الإسرائيلية). ولكن يعني كل هذا أن الأسواق الغربية لم يكن في تخطيطها أن تستوعب الأقطان "المحرَّرة" من أسواق الكتلة الاشتراكية، وتتأكد بالتالي أهمية المخطط المسند لزيادة المبيعات للمغازل المحلية، لقد انخفضت كمية صادرات القطن الشعر، وزاد الاستهلاك المحلي كما في جدول (6) (104):


جدول رقم (6)
الصادرات والاستهلاك المحلي من محصول القطن بالألف طن:
37/ 1974
74/ 1975
75/ 1976
76/ 1977
الصادرات
الاستهلاك
261
220
191
222
169
226
152
235


ولكن إلى أين تذهب الغزول المنتجة؟ لم يكن مقصودًا دعم وتنشيط الروابط العضوية بين إنتاج الحقول المصرية والمصانع المصرية، فهذا يدعم المؤسسة الوطنية للقطن. والمقصود استنزاف هذه المؤسسة وإرباكها. لقد زاد إنتاج الغزول؛ بهدف إقلال صادرات القطن الشعر إلى الدول الاشتراكية، وفي نفس الوقت لم يحدث أن استوعبت الأسواق الغربية فائض الغزول، فاضطرت السلطات في عامي 1975 و1976 إلى زيادة صادرات الغزل إلى الدول الاشتراكية. والتعليمات الخارجية كانت تقضي بالحد من الاستيراد من هذه الدول؛ ولذا لم تستخدم حصيلة الصادرات لاستيراد آلات أو مستلزمات إنتاج، ولم يكن ممكنًا أن تدفع الدول الاشتراكية ثمن مشترياتها بالعملات الحرة؛ كي تستخدمها السلطات المصرية في الاستيراد من الغرب، وبالتالي استخدمت حصيلة الصادرات في تعجيل سداد الديون المصرية (105)، وكان هذا سفهًا واستنزافًا للموارد، وبالإضافة فإن التعليمات الخارجية لم تكن تحد من تصدير القطن الخام إلى الكتلة الاشتراكية؛ لكي تسمح بزيادة التصدير من الغزل والنسيج. وعلى ذلك كان طبيعيًا أن يتوقف هذا الاتجاه، فانخفضت صادرات الغزل والنسيج إلى الكتلة الاشتراكية بدءًا من عام 1977 (عام قانون التصفية ـ الفصل التاسع)، وفي نفس الوقت أغرق السوق المصري بمنسوجات مستوردة، فاختنقت الصناعة الوطنية (انظر البند التالي ـ ثالثًا ـ عن قطاع الصناعة).
و ـ إلا أن خفض تصدير القطن الخام من أجل زيادة الإنتاج المحلي من الغزول، كان مجرد مرحلة انتقالية، لم تنعش الصناعة، ولكن ضربتها، والضربة الأكبر كانت مع الخطوة التالية لفصم العلاقة العضوية بين القطن المصري والصناعة المصرية؛ فحين يصل خفض المساحة المنزرعة قطنًا إلى الحدود المرسومة له؛ تكون الكمية المنتجة ـ وفق السياسة المُعلَنة ـ "تكفي لحاجة التصدير (بالعملات الحرة، وجزء مناسب من الصادرات لدول الاتفاقيات) ويُقترح تغطية باقي احتياجات الاستهلاك المحلي، باستيراد الأقطان قصيرة التيلة الأمريكية، مع إدخال البوليستر في صناعة المنسوجات في مصر".
وهذا الاقتراح تحول بدوره إلى إجراء منفَّذ، وهو ما تعتبره ـ في السياق الحالي ـ تقطيعًا لأوصال المؤسسة القطنية المتكاملة. كان القانون يمنع استيراد أقطان قصيرة التيلة لاستخدام المغازل المحلية؛ خوفًا على محصول القطن المصري من الآفات، التي يُحتمَل أن تُصاحب الأقطان المستوردة. ولا مانع طبعًا من إعادة النظر في هذا الموقف ولو جزئيًّا، من منظور مستقل، وقد تحدث في هذا الاتجاه محمد فرغلي مثلاً، ولكن السياق الحالي للتطورات لا يبرر التصور بأن المراجعة الحالية للموقف التقليدي تتم وفق حسابات وطنية، وبعيدة عن حسابات المخططات الخارجية، في عام 1976 ـ 1977 تم استيراد 288.3 ألف قنطار لكي تستخدم في المصانع التي تبعد 30 كيلو مترًا على الأقل من مناطق زراعة القطن، وبالتالي اقتصر استخدام هذا القطن على منطقة الإسكندرية. ويُلاحظ أن اختيار الإسكندرية يتيح توسعًا سريعًا في التجربة؛ لأنها تستحوذ على حوالي 40 % من صناعة الغزل والنسيج. وقد زادت الكمية المستوردة إلى 478 ألف قنطار في الموسم التالي 77/ 1978، ويتوقع أن يصل الاستيراد إلى مليون قنطار عام 1979. وتقول مصادر غربية: إن محاولات الحكومة المصرية لتحديث وتوسيع صناعة الغزل والنسيج، تهدد إمكانياتِ التصدير للقطن المصري؛ ولذا "يلزم زيادة الضغط على الحكومة؛ لكي تسمح بزيادة الواردات من الأقطان القصيرة التيلة. وفي الواقع، يبدو أن وزارة الزراعة تدرس حاليًا الوسائل الممكنة لنقل القطن المستورد إلى المصانع القائمة في مناطق زراعة القطن؛ بحيث لا تكون هناك إمكانية لتلويث المحصول المحلي" (106).
هذا الاتجاه المنفذ على عجل، يجعل ما يتبقَّى من الصناعة الوطنية صناعة تابعة، معتمدة في تشغيلها على مستلزمات إنتاج مستوردة، وتنتج للسوق المحلية. وهذا الانقطاع بين المحصول وبين الصناعة الوطنية، يساعد أيضًا في مواصلة خفض المساحات المزروعة إلى الحدود المستهدفة، أي: حدود الصادرات الممكنة من القطن الشعر بالعملات الحرة، وحدود استخدامات بعض الشركات المحلية للأقطان الرفيعة المصرية، وذلك بعد إعادة تشكيلها؛ بحيث تخضع في عمليات إنتاجها وفي عمليات التسويق الداخلي والتصدير لإدارة أجنبية. ونضيف في هذا السياق أن صناعة الغزل والنسيج والملابس الإسرائيلية تقوم على التصدير، ويمكنها بالتالي أن تشارك بخبرتها واتصالاتها في تسويق منتجات الصناعة المصرية بالأسواق الأوروبية وغيرها. ويمكنها أيضًا أن تستخدم حصة متزايدة من الأقطان المصرية الرفيعة لتحسين إنتاجها وصادراتها.
وقد نشير في مقابل هذا إلى أن فرغلي حين طالب بتجربة استخدام أقطان مستوردة، طالب في نفس الوقت "بعدم الاكتفاء باستيراد الأقطان الأمريكية فقط، بل استيراد ما يماثلها من الأقطان الإيرانية والسودانية والتركية والهندية إلخ.. وهذا من شأنه أيضًا زيادة مجالات التبادل التجاري بيننا وبين هذه البلاد الصديقة، وترخيص الأقمشة الشعبية إلى حد ملموس".. وقال الرجل هذا الرأي، في إطار أن تستمر المغازل المحلية في زيادة استهلاك القطن المصري، وفي إطار أن انخفاض إنتاجنا من محصول القطن لا يجوز أن يستمر (88). وواضح أنَّ ما يحدث حاليًا هو إدخال الأقطان المستوردة في إطار نسق مختلف تمامًا؛ فأولاً يقتصر استيراد الأقطان على الولايات المتحدة (من خلال القروض السلعية لوكالة التنمية الأمريكية)، وترتبط هذه السياسة بتخفيض مسئولية الصناعة الوطنية عن تصنيع القطن المصري، وترتبط بضرب قطاع القطن من الأساس، أي بتخفيض المساحة المنزرعة قطنًا بالتعليمات المباشرة، وبالسياسة السعرية. إلا أن الحديث عن السياسة السعرية، ينقلنا إلى بند آخر في تقطيع الأوصال. فإضافة إلى استخدام الأسعار ـ في مرحلة معينة ـ كحافز سلبي ضد زراعة القطن، نشير إلى هدف إنهاء حق الإدارة المركزية في تحديد أسعار القطن في مراحله المختلفة؛ فتحديد أسعار الشراء من الحقول يستهدف أن يصل (في لحظة مناسبة لمجمل المخطط المعادي) إلى مستوى الأسعار العالمية دون أن تدخل من حسابات محلية لخدمة التخطيط المركزي وتمويله، وأسعار شراء المغازل المحلية للقطن تتحدد الآن فعلاً حسب المستويات العالمية، ولا يحق للدولة أن تتدخل في هذا الأسعار لدعم الصناعة الوطنية. وهذه الإجراءات جزء من البرنامج العام لإبعاد الأسعار عن دائرة التخطيط وإبعاد قسم متزايد من الفائض الاقتصادي من يد الدولة، وتسليمه إلى منتجي القطاع الخاص، وهذه الإجراءات في مؤسسة القطن أداة مناسبة لتفكيك الروابط الخاصة بين أفرع نشاطها. ونُضيف أخيرًا في نفس الاتجاه، ما أصاب نظام التسويق التعاوني من تعديلات تُخل بوحدته انحيازًا لكبار الزراع(107).
(4) الزراعات البديلة:
أ- كانت ضروريًّا أن تصاحب هذه الحملةَ على القطن، إشاعةُ آمال تساعد في بيع الفكرة؛ ولذا تضمنت مقترحات البنك الدولي، حديثًا عن أصناف جديدة من الإنتاج الزراعي ترتبط بالصناعة والصادرات. أي تضمَّنت وعدًا بإدخال بدائلَ جديدة، تؤدي وظيفة قطاع القطن كدعامة لصناعة محلية نامية، وكمصدر للنقد الأجنبي (من خلال التصدير). ولا شك أن البحث في هذا المجال مشروع في إطار التوصل إلى الهيكل المحصولي الأمثل، ولكن يختلف البحث في هذا الأمر، وتختلف النتائج، حسب المنظور العام لاستراتيجية ونموذج التنمية. ومسألة إدخال مزروعات غير تقليدية ـ بالتحديد ـ احتلت اهتمامًا كبيرًا من جانب الاقتصاديين والفنيين المصريين. الجبلي ـ على سبيل المثال ـ كان مهمومًا دائمًا بهذه القضية. في دراسة وزارة الزراعة (1972) قيل: "إن هناك احتمالاتٍ كبيرة للتوسع في زراعة الفواكه (الموالح أساسًا) والخضر والزهور والنباتات الطبية والعطرية لأغراض التصدير؛ لِما تحققه من عائد نقدي مرتفع، علاوة على خلقها لفرص عمل جديدة؛ سواء في عمليات الزراعة والجمع، أو التعبئة والتصنيع، وما يصحب ذلك من آثار على تكوين المجمعات الزراعة الصناعية الحديثة، وتطوير القرية، وتعظيم الإنتاج".
ولكنْ من منظور التنمية المستقلة، كان ضروريًّا أن يرتبط مثل هذا التفكير عند الجبلي، بتحذير من التوسع السريع في التنفيذ، قبل القيام بدراسات تنبؤية عن احتمالات التسويق خارجيًّا، وعقد اتفاقات طويلة المدَى، تضمن انتظام هذا التسويق في ظروف العقبات التي تشكلها التكتلات الاقتصادية القائمة. "اللهم إلا إذا كان ذلك ضمن إطار خطة للتكامل الزراعي بين الدول العربية" (108). كذلك لا بد من إنشاء المؤسسات اللازمة لعمليات التعبئة والتصنيع والنقل والتسويق والتصدير، وكل ذلك يتطلب وقتًا للإنجاز واكتساب الخبرة، إذا كان المقصودَ إقامةُ سلسلةِ مؤسسات وطنية، تتحكم في كافة مراحل العملية، وتتشابك مع الجهود المركبة للتنمية المتمحورة حول نفسها.
ولكنَّ الدعوة الحالية لإدخال محاصيلَ غير تقليدية (وبديلة على وجه التحديد لمحصول القطن) تعمل ـ كالعادة ـ في إطار نسق مختلف تمامًا، وتحمل بالتالي مضمونًا معاكسًا؛ فهي عاملة في مُخطط محاصرة وإضعاف القطن (بوزنه ودوره كمؤسسة وطنية)، وبهدف إنشاء قطاع جديد يقيم وضعًا مؤسسيًّا خاضعًا للسيطرة الأجنبية، أي يمثل ما كان يمثله القطن في الزمن الماضي؛ فالمنتجات الجديدة تُحتاج بالضرورة مدخلاتٍ مستوردة متنوعة (بدءًا من البذور المحسنة وانتهاء بالخبرة الفنية)، ويمكن أن نضرب هنا مثلاً من قمة "مشروعات الأمن الغذائي"، أي مشروعات إنتاج الدواجن التي يجري التوسُّع فيها بنشاط ملحوظ. الشركة العامة للدواجن تقود الإنتاج؛ سواء بإنتاج الدواجن بنفسِها،
أو ببيع الكتاكيت والأعلاف لبيوت البداري في المحافظات، وللجمعيات التعاونية، ومزارع التسمين في الإصلاح الزراعي، وفي القطن الخاص.

وقد رأت السياسات الجديدة أن يجد دور شركة القطاع العام في إنتاج الدواجن؛ بحيث "يقتصر دور الشركة العامة للدواجن في خلال السنوات الخمس القادمة، على أساس التركيز على إنتاج الكتاكيت والأعلاف وتحسين نوعيتها"(109)؛ وبحيث يتولى القطاع الخاص مرحلة التسمين والنمو السريع (بعد تجاوز مرحلة التفوق المرتفع) ويبيع الناتج للمستهلك بأسعار "حرة" وأرباح عالية. وقد نذكر هنا أن معظم بيوت البداري (وحدات حكومية) تحولت "إلى مخازنَ غير مستخدمة، والجزء الباقي لا يعمل إلا دورة واحدة أو دورتين على الأكثر" (110)، وبالنسبة للشركة العامة نفسها، كان طبيعيًّا أن يستفاد من تجهيزاتِها لإنتاج الدواجن التي لم تَعُد مستخدمة، وقد نشأت بالفعل شركة الإسماعيلية/ مصر للدواجن (من شركات عثمان أحمد عثمان) لتتولَّى هذه المهمة، فجردت شركة القطاع العام من ممتلكاتها؛ بحجة إدخالها شريكة في شركة الإسماعيلية/ مصر. بلغت حصة الشركة العامة للدواجن في رأسمال الشركة الجديدة 900 ألف جنيه، رغم تبين أن الحصة العينية التي قدمتها الشركة العامة قيمتها 3.1 مليون جنيه (أي أكثر من إجمالي رأسمال الشركة الجديدة)، ورغم هذا الافتئات، ظل نصيب الشركة العامة حوالي 30 % من رأس المال، ولكن مثلت بعضو واحد في مجلس الإدارة، كما لو كانت حصتها 9 % فقط من رأس المال (111).
هذه صورة الوضع المؤسسي الحالي لقطاع إنتاج الدواجن، أي لمشروع "الأمن الغذائي" رقم واحد. وهذا الوضع يضمَن توسُّع المشروع بالاعتماد الكامل والمستمر على المدخلات المستوردة؛ فالشركات، ومزارع القطاع الخاص للتسمين، تستورد الآلاتِ والمعدات اللازمة لتربية الكتاكيت وتسمينها من الخارج، بما فيها المباني جاهزة التركيب، ووحدات التدفئة ووحدات التهوية، وأفران حرق النافق، ووحدات التحصين والتفريخ، وكذلك آلات تدريج وتعبئة البيض، وحتى صناديق البيض وكرتون البيض، كما يستورد أيضًا الكثيرَ من الأعلاف ومكونات الأعلاف وإضافات الأعلاف من الخارج؛ وذلك لتصنيع الأعلاف الخاصة بالدواجن داخل البلاد. وفضلاً عن ذلك، معروف أن الكتاكيت تستورَد أيضًا بمعدلات متسارعة، ودون جهد محلي لإنتاج كتاكيتَ بديلة ملائمة، ووقف الاستيراد، بل لوحظ أن الشركة العامة للدواجن أخذت تستورد الأمهات التي تنتج جيلاً واحدًا (بدءًا من عام 1978) بدلاً من استيراد الجدود كما كان الحال قبل ذلك (112).
إن الدعوة لإدخال منتجات جديدة، ترتبط إذن ـ في النسق الحالي ـ بالتوسع في مشروعات تتأكد تبعيتها للخارج، من حيث المدخلات المطلوبة. ووفقًا للسياسات الحالية، يستهدف أيضًا أن يدار قسم كبير من الإنتاج الزراعي غير التقليدي بواسطة الأجانب مباشرة (عبر الشركات المشتركة أو من خلال التعاقد مع خبراء)، وعمليات التسويق المحلي، والتصدير بالذات (بما يتطلبه من اتفاقات منظمة مع السوق العربية) يعني في الظروف السائدة الاعتماد على الوسطاء الأجانب في المقام الأول. ومعروف أن التسهيلات الائتمانية المناسبة (الممولة من قروض وكالة التنمية الأمريكية والبنك الدولي وغيرهما) تقدم بسخاء، وكذا الحوافز السعرية، والإعفاءات الضريبية، من أجل سرعة التحول نحو هذا التغيير في هيكل الإنتاج الزراعي، أي لارتباط مساحات أوسع، ولارتباط أعداد متزايدة من أقدر الزراع (ماليًا وفنيًا) بهذا القطاع الصاعد. "ولماذا نذهب بعيدًا؟ إن إسرائيل تعاني من مشكلة أرض، وتعاني من مشكلة مياه، فماذا فعلت؟ إنها لا تزرع أرزًا أو قمحًا
أو قصبًا أو أيًّا من هذه المحاصيل، إنما ركزت كل جهودها على المحاصيل التي لا تستغرق وقتًا طويلاً في الأرض، ركزت على الخضروات والفواكه، وتمكنت من خلق سوق رائجة لهذه المحاصيل في أسواق الخارج" (73). هكذا أكمل وزير التخطيط تصوره حول مستقبل الزراعة المصرية، وترك لنا أن نستنتج قيمة الاستعانة بالخبرة اليهودية، كما سبق أن "أفادتنا" في الزمن السابق في محصول القطن.

ب ـ ويرتبط بقضية إنشاء قطاع جديد تابع في مجال الزراعة، وبدور الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا المجال، أن البنك الدولي ـ حتى أوائل 1977 ـ كان يرى أن أهمية التوسع الأفقي تتعلق بالأجل الطويل، "ومن الواضح أن الوصول إلى هدف النمو الزراعي المطلوب يتطلب زيادة في استثمارات القطاع، ويتطلب أيضًا تخصيص قسم أكبر من هذا الاستثمار في الأراضي القديمة. وفي النهاية، فإنه حتى بالنسبة للاستثمار في الأراضي الجديدة، فإن العائد يمكن أن يكون أسرع إذا تركز الاستثمار في مساحات أصغرَ، وتجريبية، يمكن أن تخدم كمساحات نموذجية، بدلاً من الانتشار المبعثر عبر كل الـ 900 ألف فدان التي يجري استصلاحها حاليًا" (113). وفي اجتماع المجموعة الاستشارية الأولى (مايو 1977) أكَّد البنك الدولي (على لسان الحكومة المصرية) نفس الموقف، فأعلن أنه في إطار إعادة ترتيب الأولويات، ستلتزم الحكومة بتوجيه "اهتمام أكبر بقطاع الزراعة، مع إعطاء الأفضلية للمشروعات ذات العائد السريع في الأراضي الزراعية القائمة، وللاستغلال الاقتصادي للأراضي التي تم استصلاحها فعلاً (بدلاً من مواصلة مشروعات استصلاحات أخرى طويلة الأجل)"(114). ولكن حدث تحول مفاجئ في موقف البنك الدولي (والحكومة المصرية بالتالي) في اجتماع المجموعة الاستشارية الثانية (يونيو 1978). فأعلن أن الضغط السكاني يتطلب الانتباه "نحو التوسع في مشروعات استصلاح الأراضي، باعتبارها حلاً هامًا للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد.. ورغم الجهود الحالية المبذولة لزيادة مستوى الإنتاجية في المساحة المنزرعة القائمة، فإن الإنتاج الزراعي الناشئ عن هذا لا يمكنه إشباع الحاجات الغذائية للسكان، ودعك من الحاجة لتوفير فائض للتصدير يمكن أن تعتمد عليه البلادُ في الحصول على نقد أجنبي. وكإجراء أساسي، فإن الدولة تعطي ـ بناء على ذلك أولوية متزايدة للتوسع الأفقي في الزراعة، بالنظر إلى الدور الحيوي لهذا النشاط، وإلى أهميته للاقتصاد القومي" (115).
ماذا حدث خلال عام واحد، لكي يتم تعديل جوهري كهذا في أولويات استراتيجية؟ وهل يمكن أن حيثيات التحول كما نقلناها، لا تستند - بأيَّة حال - إلى عوامل طرأت خلال العام 77 ـ 1978، ولم تكن في الحسبان قبل ذلك؛ ولذا يمكن أن نقول إن المطالبة بوقف التوسع الأفقي في مرحلة الانفتاح الأولى، وبالتركيز على مشروعات التوسع الرأسي في الأراضي القديمة والجديدة، قابلت في نفس الفترة مطالبة القطاع العام الصناعي بالتوقف عن البدء في مشروعاتٍ جديدة، للتركيز على مشروعات الاستكمال والإحلال والتجديد، وكانت الحجة في الحالتين تحقيق عائد سريع، الأمر الذي لم يتحقق بدلالة كل معدلات النمو التي فحصناها في أجزاء مختلفة من الكتاب (وكان متعذرًا أن يتحقق في ظل السياسات الاقتصادية المفروضة)، وبالتالي يبدو أن السبب الحقيقي لهذه المطالبة كان يكمن في محاولة لتجميد توسعات القطاع العام الجديدة في الزراعة والصناعة، إلى حين الانتهاء من السيطرة على القرارات، ومن تحديد الاتجاهات المطلوبة، وبعد هذه المرحلة يمكن دعوة القطاع العام في دوره الجديد؛ لكي يسهم مرة أخرى في تمويل وتحرك التنمية، ولكن في إطار ما تستهدفه الهيئات الدولية (ومن معها).
في قطاع الزراعة بالذات، كانت عمليات التوسع الأفقي (وخاصة في مرحلة الاستصلاح) منوطة بجهود الدولة. وجهود الدولة في هذا الاتجاه كان ينبغي أن تتوقف إلى حين الاطمئنان على طبيعة الدور المرشح لهذه الأراضي عند زراعتها، وعلى طبيعة وضعها المؤسسي.
  • وقد حسمت هذه القضية (كغيرها من القضايا) عبر عدد من السنوات. كان إجمالي المساحات الإجمالية التي دخلت برامج الاستصلاح منذ عام 1952، وحتى بداية الانفتاح أكثر من 900 ألف فدان. سلمت معظم هذه المساحات إلى مؤسسة استزراع وتنمية الأراضي (773 ألف فدان)، وبقيت بعض المساحات تحت إشراف كل من الجهاز التنفيذي للمشروعات الصحراوية (81 ألف فدان) والهيئة العامة للإصلاح الزراعي (58 ألف فدان). وقد أنفقت الدولة على مشروعات الاستصلاح هذه منذ 1953 إلى 1974 حوالي 600 مليون جنيه (منها حوالي 455 مليونًا إنفاق استثماري على أعمال الاستصلاح والتعمير والاستزراع). وهذه المساحة كان أغلبها صالحًا للزراعة، بل كانت بينها مساحات منزرعة فعلاً (506 ألف فدان) (116). وقد توالت بسرعة إجراءات التمليك والتأجير، وحين تحولت الهيئات والمؤسسات إلى 8 شركات قطاع عام في نهاية 1975، كان حجم المساحات المستصلحة المسلمة على هذه الشركات عام 1976 حوالي 624 ألف فدان. وحتى عام 1977 لم تكن هناك سياسة واضحة لاستغلال الأراضي التي تم استصلاحها، وهل يتم في صورة مزارع يتولى القطاع العام إدارتها، أو عن طريق التأجير أو التمليك، وهل يكون التأجير أو التمليك لمساحات صغيرة أو وحدات كبيرة؟ ومن الناحية العملية، كانت هناك مساحات مزروعة على الذمة، ومساحات مزروعة بالتأجير أو التمليك في غياب سياسة عامة. ومع كل العوامل الأخرى المضادة التي واجهت القطاع العام، كان طبيعيًّا أن يزداد إهمال وتعثر الشركات الزراعية، فهربت الخبرات الفنية والتنظيمية، وانتهى التخطيط تمامًا، وانعكس ذلك بشكل خاص في الأراضي المزروعة على الذمة (أي بإدارة شركات القطاع العام مباشرة). فوصل الأمرُ إلى زيادة مطردة في نسبة المساحات المهجورة، أي التي لا تزرع أصلاً، أثناء سنوات الانفتاح (وصلت النسبة إلى 57.3 % في آخر 1977 بالنسبة لأكبر 4 شركات) وأهدِرت الأموال والاستثمارات التي أنفقت في استصلاحها. وبالنسبة للأراضي المزروعة على الذمة، حدث تدهور ملحوظ ومطرد في معدلات الإنتاج النباتي مع زيادة التكلفة، ومع عدم الكفاية في تخطيط التركيب المحصولي، وحدث تدهور متزايد أيضًا في الإنتاج الحيواني، وبالتالي "أسفرت نتائج غالبية الشركات عن خسائرَ متتالية؛ نتيجة للقصور في الدراسات التخطيطية، وفي نُظم الرقابة الداخلية، وقد أدَّى ذلك إلى اختلال مراكزها المالية". ولم يكن نشاط شركات القطاع العام المتخصصة في الإنتاج الحيواني وإنتاج الدواجن، وفي الثروة المائية، أسعد حالاً. كلها تدهورت إنتاجيًّا، وزادت خسائرها (117). ولا شك أن هذه النتائج كانت تمهيدًا ملائمًا لإنهاء فكرة قطاع عام في القطاع الزراعي. الشركات الزراعية الثمانية كانت تزرع بعض المساحات على الذمة، وتؤجر بعض المساحات، وتملك البعض الآخر. ووفقًا للتوجيهات الدولية المدعمة بهذه النتائج تقرر التوسع في التأجير والتمليك، وأعلن رسميًّا في عام 1977 (خارج مصر) أن "المليون أكر (حوالي 900 ألف فدان) التي تم استصلاحها يجري توزيعها على مُزارعين صغار (بدلاً من العمليات المدارة حكوميًّا)، أو على مشروعات مشتركة لمجمعات زراعية، تهدِف إلى إدخال تكنولوجيا جديدة في الري (كالري بالتنقيط Sprinkle مثلاً) وفي تصنيع الناتج الزراعي، وفي التسويق من خلال التصدير، وهناك بنفس القدر مجالٌ كبير لتحسين كفاءة المزارع الصغيرة الخاصة المنتجة لمحاصيلَ تجارية موجهة للتصدير" (118). وبالفعل ركزت وزارة الزراعة في تلك الفترة، على تصميم وتنفيذ الهياكل الارتكازية لاستكمال مشروعات مختارة على مساحة 145 ألف أكر. ويسهم المستثمرون العرب والأجانب في المشروعات المشتركة، في تمويل العمليات اللازمة لحوالي 92 ألف أكر؛ تجري إضافتها إلى المساحة المنتجة، وخاصة في المناطق القريبة من مصادر الري والصرف، ومن الموانئ؛ لتيسير تصدير المنتج. وبالإضافة إلى هذه المساحة يتم مشروع متكامل لإنتاج سكر البنجر فوق 100 ألف أكر في غرب الدلتا. وهو مشروع مشترك (مصري أجنبي)، وأعدت دراسة الجدوَى الخاصة به شركة استشارية بريطانية (U. L. G) بمساعدة وزارة التنمية فيما وراء البحار. وهناك مثال أخير للمشروعات الزراعية الصناعية لمعالجة فول الصويا، وقد تمت دراسته مع شركة أمريكية (Contintental Grain) لملاحقة التوسع السريع والمخطط في هذا المحصول الجديد. وقد أُعلِن ـ داخل مصر ـ عن هذه السياسة المتكاملة في مجال الأراضي المُستصلحة على لسان رئيس مجلس الوزراء (أواخر 1979)؛ إذ قال إنه "سيتم التصرف في الأراضي المستصلحة بمعرفة شركات القطاع العام بعد استصلاحها مباشرة؛ سواء بتوزيعها على صغار الزراع أو خريجي الجامعات والمعاهد العليا أو إقامة مجمعات زراعية صناعية عليها"، وبالنسبة لمسألة المجمعات هذه، فإنه يجب "إتاحة الفرصة أمام رأس المال الأجنبي والخبرة الأجنبية للمساهمة في تنفيذ مشروعات الخطة مع رأس المال العام أو الخاص منفردًا؛ ولذلك تعمل الوزارة على استكمال دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروعات التي يمكن أن تنفذ بالتعاون مع رأس المال الأجنبي، بإقامة مجمعات زراعية صناعية على الأراضي الجديدة، ويبلغ عدد هذه المشروعات حتى الآن 11 مشروعًا ستقام على مساحة 652 ألف فدان من الأراضي المستصلحة
    أو المقرر استصلاحها، ويجري التفاوض حاليًا مع الشركات الأمريكية واليابانية والسويدية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية لتنفيذها، وذلك بخلاف خمسة المشروعات التي تم تأسيس شركاتها، وبدأت العمل فعلاً على مساحة 36.6 ألف فدان" (119).
لقد حدث – إذًا - أن ركزت الدولة تخصيصاتها الاستثمارية (الموجهة "بالمساعدات") نحو الأراضي المستصلحة ذات الاحتمالية الإنتاجية الأقرب والأعلى؛ كي تسلمها (بعد كل ما أنفقته من أموال وجهود تنظيمية) هدية إلى شركات الاستثمار المشترك، وإلى بعض المحظوظين.
  • ولا مانع من الإشارة هنا إلى أهم تجربة "رائدة" بين المشروعات الخمسة التي تم تأسيسُ شركاتها، والتي أشار إليها رئيسُ مجلس الوزراء (120)، نقصد شركة "الإسماعيلية/ مصر للتنمية الزراعية"؛ فهذه الشركة حلت محل الشركة المصرية الزراعية العامة (قطاع عام) في تنمية واستغلال أراضي مشروع وادي الملاك. ولم يتضمن نصيب شركة القطاع العام ـ في رأسمال الشركة الجديدة ـ قيمة الأراضي المسلمة؛ حتى لا تكون لها الغلبة في رأس المال،
    أو حتى لا يتحمل أصحاب الشركة الجديدة أعباء مالية ضخمة (رأسمالها الإجمالي 4 مليون جنيه)؛ ولذا تسلمت شركة الإسماعيلية الأراضي المستصلحة مقابل إيجار زهيد، واختزل نصيب شركة القطاع العام في رأس المال إلى قيمة حصة عينية متمثلة في خطوط شبكات الري بالرش المتنقلة، وفي آلات وتجهيزات أخرى. وتم تقييم هذه الحصة من قِبل شركة الإسماعيلية بأقل من قيمتها الحقيقية، أي بمليون جنيه فقط (وبالتالي هبط نصيب الشركة المصرية الزراعية ـ مالكة الأرض ـ في رأس المال إلى 25 %) (121) وقد شاركت في المقابل شركة البيبسي كولا بواقع 15 % من رأسمال المشروع، وشركة إنتاج معدات الري بالرش (جيفورد) 10 %، وشركة سابا السويدية لتسويق الحاصلات 5 %، وللمزارعين الأمريكيين (الخبراء) 5 %، والنسبة الباقية لـ "المقاولون العرب". وهذا المشروع أحيط بضجة إعلامية ومبالغات، تصل إلى درجة الإسفاف، حول معجزات التكنولوجيا الأمريكية في الأراضي المصرية. "الأرض تكون هذا العام صحراءَ قاحلة، وفي عام واحد تتحول إلى أرض خضراء وإنتاج ممتاز.. ستملأ مصر بالخضرة والخير. لقد زادت إنتاجية الفدان عندنا من البطاطس والطماطم عن إنتاجية فدان الشرقية والإسماعيلية.. إننا نعجب لماذا نقضي في مصر عشراتِ السنين نستصلح الأرض، ونصرف عليها، ويكون إنتاجها ضعيفًا؟! وكل أراضي الاستصلاح في مصر مثال على ذلك" (122).
هذه الدعاية لا تحتاج إلى خبير فني ليكشف أنها زائفة. وإذا كان الفلاحان (أو الساحران) الأمريكيان قادرين على معجزة تحويل الصحراء إلى أرض مثمرة خلال عام واحد، فلماذا سيستمر المشروع 12 سنة لتغطية المساحة المستهدَفة (كما قيل سهوًا) أثناء الحملة الإعلامية؟ إن مشروع شركة الإسماعيلية/ مصر للتنمية الزراعية، هو النموذج المتكامل والمجسد، لما يُراد بالزراعة المصرية. وخاصة في الأراضي الجديدة. وقد لا يتكرر النموذج بكل تفاصيله في كل مكان، ولكن الجوهر سيكون واحدًا، فقد لا يشارك الأجانب في كل حالة في ملكية الشركات المسيطرة على العمليات الإنتاجية، ولكنْ سيحرِصون على التحكم في المدخلات (حبوب ـ آلات ـ خبرة) وستكون المخرجات أيضًا في قبضتهم، وخاصة في التسويق الخارجي. وبكلمات حسين عثمان، فإنه كان ضروريًّا أن نستعين بالخبرة الفنية للمزارعين الأمريكيين (وفي مقابل ذلك) دخلوا شركاء في رأس المال، "وكما طرقنا باب الفلاحين، وقلنا لهم: تعالوا شاركونا، طرقنا باب مصانع إنتاج آلات الري الحديثة، وطلبنا من الشركة المنتجة لنظام الري المحوري مشاركتَنا.. يبقى أننا نضع في خطتنا أن نقوم بتصدير جزء من إنتاج هذه الأرض من الخضروات والفواكه، وعملية توزيع وتسويق خضروات في أوروبا، وطلبنا منهم مشاركتنا؛ حتى نضمن حسن التوزيع" (122) .
هذا النموذج المتكامل لقطاع زراعي تابع، كان مُفتَرضًا أن يبدأ بعشرة آلاف فدان؛ لتمتد إلى 21 ألف فدان (في نفس المنطقة). وقال حسين عثمان: إن لديه "خططًا جاهزة لمجموعات، كل مجموعة تصل إلى 50 ألف فدان في أماكن منتشرة على أرض مصر". وقد بلغت الضجة الإعلامية ذروتها حين زار الرئيس السادات أرض هذه المعجزة (مع كافة مسئولي الدولة)، واعتبر يوم الزيارة (29 يناير) عيد الثورة الخضراء، وصدر الأمر بتسليم مزيد من الأرض المستصلحة (150 ألف فدان) إلى شركة الإسماعيلية (123).
  • إن توسع هذا النمط في إدارة الزراعة المصرية، من خلال شركات الإسماعيلية، والشركات المشابهة، يسانده التوسع الموازي في تسليم الأراضي إلى من أُسمَوا بالمزارعين الصغار. وعبَّر الرئيس السادات عن هذا الاتجاه بشعار: "فليمتلكْ كل مصري قطعة من أرض مصر". وهو شعار ـ كما لاحظ
    عبد المنعم بلبع، يعني أن "الأرض لم تعد لمن يزرعها، بل هي لمن يستثمرها". ولا توجد بيانات متكاملة حول توزيع هذه الأراضي (التي أُنفقت مئات الملايين من الجنيهات في استصلاحها)، ولكن النظرة العامة تكشف أن قسمًا كبيرًا، وزِّع على "أصحاب الصلات الطبية"، والقسم الآخر بِيع في المزاد، وفي الحالين ذهبت هذه الثروة القومية ـ في أغلبها ـ إلى من لا يستحقون (ليس بمعيار عدالة التوزيع فقط، ولكن أيضًا بمعيار الكفاءة والخبرة الإنتاجية)، وتشكلت جمعيات تعاونية عديدة لاستصلاح واستزراع الأراضي، وقد سدد بعض هذه الجمعيات قسطًا من ثمن الأرض، وأصبح أعضاؤها من الناحية القانونية مشتركين في امتلاك مساحات تصل إلى آلاف الأفدنة، يخص كل فرد فيها نحو 10 إلى 20 فدانًا. ويقول وزير استصلاح الأراضي إنه ينبغي زيادة حد الملكية للفرد (في الأراضي الجديدة) من 50 إلى 100 فدان، وبالنسبة للأسرة من 100 إلى 200 فدان. وبالنسبة للشركة الزراعية من 10 آلاف إلى 30 ألف فدان (124). ولكنَّ أحدَ الأساتذة البارزين كان محقًا حين تساءل: "هل هذه الجمعيات جادة في استصلاح هذه المساحات الواسعة، وهل هي قادرة على ذلك؟ وكيف يتأتَّى للكثير منها هذه القدرةُ، وهي مكونة من أفراد بعيدين عن النشاط الزراعي واستصلاح الأراضي؟!" طبعًا كان أحد شروط بيع الأراضي الحكومية لهذه الجمعيات، هو أن تُبدي جديتها وقدرتها بإنجاز عمليات الاستصلاح والاستزراع في فترات زمنية محددة. ولكن هل يمكن تنفيذ هذا الشرط، وما هو جزاء المخالفين، وما هو الوضع القانوني لهذه الجمعيات؟ هل هو مماثل للشركات المساهمة، وهل في النظام الذي تقوم عليه الجمعية ما يحفظ للعضو حقه قبل إدارة الجمعية؟ "إن ذيوع هذه الجمعيات وانتشارها واستحواذها على عشرات الآلاف من الأفدنة في مختلف جهات الجمهورية، يحتم مراجعة قوانين إنشاء هذه الجمعيات ووضع الضوابط التي تضمن للعضو حقه، وعدم تحول الإدارة فيها إلى هيئة إقطاعية مستقلة مثلما كانت شركات الأراضي قبل الإصلاح الزراعي، وعدم استحواذ هذه الجمعيات على هذه المساحات للإتجار فيها" (125) إن التصرف في الأراضي ـ على النحو الذي تحقق ـ فتح الباب أمام أعداد واسعة، ممن لا ينوون فعلاً زراعة الأرض، ولكن حصلوا على الأرض لمجرد المضاربة (126). ولكنْ حتى بالنسبة للجادين، حدث كما قلنا هذا التدافعُ لتشكيل الجمعيات التعاونية ودخول أفراد لا يمُتون بصلة للريف أو النشاط الزراعي، وصاحب هذا ظهور مهنة خبراء الزراعة والهندسة؛ فالجمعيات والأفراد الذين لا يمتهِنون الزراعة، محتاجون إلى من يُمِدُّهم بالمساعدة الفنية والتقنية في مجال "تخطيط" الاستصلاح والاستزراع والأشراف على التنفيذ؛ ولذا بدأت مكاتب الخبرة تنتشر في كل مكان وعلى مستويات مختلفة. وفضلاً عن حقيقة أن الفوضَى القائمة سمحت لعديد من غير المُتخصِّصين، بولوج الميدان، فإن الخبراء المصريين يطالبون بحمايتهم من "زحف الخبراء الأجانب". ولكن حمايتهم مستحيلةٌ؛ فالخبراء ـ كأفراد ومكاتب وشركات خدمات ـ أدوات أساسية في مخطط التنمية التابعة التي تبدأ على نطاق واسع في الأراضي الجديدة، وتسعَى الإعلانات والتصريحات لنشرها أيضًا في الأراضي القديمة على حساب "القطن اللعين".
  • بعد الاطمئنان على مستقبل الأراضي التي تُستَصلح، وبعد الاطمئنان إلى مدى صلاحياتهم في تحديد اتجاهات الاستصلاح لأراض جديدة (ويتضمن ذلك أولويات التوزيع الجغرافي) عاد البنك الدولي (ومن معه) كما قلنا إلى إطلاق النور الأخضر أمام عمليات التوسع الأفقي. ومسألة التحكم في أولويات التوزيع الجغرافي لها بعد يتعلق بالاستراتيجية العُليا، فوفقًا لهذه الاستراتيجية، يتطلب الأمر مدَّ إسرائيلَ بمياه النيل (127)، ويرتبط بهذا توجيه مشروعات الاستصلاح الجديدة إلى شرق القناة. ولكن هذا القرار كان ينتظر تكامل التطورات السياسية التي توجت بالاتفاقات مع إسرائيلَ. وقد نضيف أن هذا الانتظار الضروري، كان أيضًا من العوامل الأساسية خلف مطالبة الهيئات الدولية بوقف عمليات الاستصلاح حتى منتصف 1977؛ لأن البدء في عمليات جديدة ـ قبل هذا التاريخ ـ كان سيُلزم بتخصيص مواردَ كبيرة لسنوات طويلة في مشروعات استكمال الاستصلاح وتطوير الاستزراع، في مناطقَ بعيدة عن التوزيع الجغرافي الأمثل (من وجهة نظر الهيئات الدولية)؛ ولذا، حدث بعد التطورات السياسية المطلوبة، ومع سيطرة البنك الدولي (ومن معه) على القرار، أنْ عاد التوسع الأفقي يحتل أولوية متقدمة، واحتل مشروع توسيع ترعة الإسماعيلية الاهتمام الأكبر؛ "لكي يتمشَّى مع احتياجات الري وبرنامج استصلاح 1.5 مليون أكر شرق الدلتا وشرق قناة السويس" (115).
ومع كلٍّ، فقد أعفانا مسئولٌ كبيرٌ من عبء ومسئولية الاستنتاج؛ إذ وضع الرجل ببساطة كل النقاط على الحروف، وأوضح (يوسف والي) أن "تطوير الزراعة المصرية يسير حاليًا في إطار حلقات ثلاث؛ الأولى: مصر ـ الولايات المتحدة، والثانية: مصر ـ الولايات المتحدة ـ إسرائيل، والثالثة: مصر ـ إسرائيل ـ الدول العربية، وأضاف أن الحلقة الأولى في طريقها للتحقيق، وأتاحت لنا تحسين المدخلات؛ بمعنى البذور والأسمدة والمبيدات والمكننة الصغيرة. وسنشرع في العمل بالحلقة الثانية لتحسين المخرجات بمساعدة الإسرائيليين. وأخيرًا الحلقة الثالثة وتتجه للانفتاح على الدول العربية وبالذات السودان" (ويرتبط هذا بقضية مياه النيل بطبيعة الحال)، ومعروفٌ أن زيارة وزير الزراعة الإسرائيلي آرييل شارون، كانت تهدف إلى تحديد الوسائل التي يجب اعتمادُها من أجل التعاون بين البلدين(128).






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس