كيف نزرع في القلب القناعة بما كتبه الله لنا أو علينا حتى نعلم أن ما كتبه الله خير لنا ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سائل يقول : كيف نزرع في القلب القناعة بما كتبه الله لنا أو علينا وأنا أعلم أن هذا أمر الله فوق كل شيء وهو من أراد أن يكون هكذا فلماذا دائما نطفش من حالنا ووضعنا ؟ مع علمنا لا بد بالإيمان بالقدر كان خيرا اوشرا
كيف نسلم قلوبنا لهذا الأمر الذي يلازمنا ؟
كيف كيف كيف
بدأت أشكو من قلبي أكثر من وضعي
أفيدونا جزاكم الله خيرا
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
هذه الـنَّفْس لا يُرضيها شيء ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو كان لابن آدم وَادِيان مِن ذهب لابْتَغَى لهما ثالثا .
قال عليه الصلاة والسلام : لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ . رواه البخاري ومسلم .
والحل في ذلك : أن يَرْضَى الإنسان عن الله في كل حال ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وحسّنه الألباني .
وأن يَعلم الإنسان أن اختيار الله عزّ وَجَلّ لِعباده أفضل مِن اختيارهم لأنفسهم .
ثم ليتفكّر ويتأمّل ما هو فيه مِن نِعَم لا تُعدّ ولا تُحصَى
روى الإمام مسلم من طريق أَبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ قال : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما وَسَأَلَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ : أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ ، قَالَ : فَإِنَّ لِي خَادِمًا ، قَالَ : فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : وَجَاءَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَأَنَا عِنْدَهُ ، فَقَالُوا : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّا ، وَاللَّهِ مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ، لاَ نَفَقَةٍ ، وَلاَ دَابَّةٍ ، وَلاَ مَتَاعٍ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَا شِئْتُمْ ، إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ ، بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا .
قَالُوا : فَإِنَّا نَصْبِرُ ، لاَ نَسْأَلُ شَيْئًا.
وأن يَنظر الإنسان النظرة الشرعية المتوازنة لِمَا في يديه مِن الـنِّعَم ، وما يتقلّب فيه ، وما أنْعَم الله عليه بِه مِن نِعمة الإسلام التي لا تُعادلها نِعمة .
قال عليه الصلاة والسلام : إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والخَلْق فلينظر إلى من هو أسفلَ منه . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : انظروا إلى مَن أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فَوقَكُم ، فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله عليكم .
فإن بعض الناس يَقلِبون النظرة ؛ فإذا نَظَر في أمور دِينه نَظَر إلى مَن هُمْ أقلّ مِنه ، فما يزال في انحدار وهبوط .
وإذا نَظَر في أمْر دُنياه نَظَر إلى مَن هو فوقه في النِّعَم الظاهرة ، فَحَمَله ذلك على أن يزدري نِعَم الله ويحتقرها .
وليس الشأن أن يَعْلَم الإنسان أن هذا أمْر الله ؛ فالكلّ مِن عند الله ولا شكّ ، ولكن على المؤمن أن يَعلم أن ما يأتي مِن عند الله خير له ، كما قال الله عن المؤمنين : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .
وهنا قالوا : (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) ، ولم يقولوا : علينا ، مُشاهَدة أن ما كتبه الله عليهم وما أصابهم : خير لهم ، وهو لهم لا عليهم .
قال ابن عاشور في تفسيره : يَعلمون أن ما أصابهم ما كان إلاّ بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك ، فهو نَفع محض ، كما تدل عليه تعدية فعل " كَتَب " باللام المؤذنة بأنه كتب ذلك لِنَفْعِهم . اهـ .
وهنا على الإنسان أن ينظر فيما أصابه مِن عِدّة جِهات :
الأولى : أن المصيبة لم تكن في دِينِه ، فإن كل مصيبة تهون دون مُصيبة الدِّين .
الثانية : أنها لم تكن أعظم ، فإن كل مُصيبة أهون مِن أختها التي هي أعظم منها .
الثالثة : أن ينظر إلى المصيبة على أنها مُمْحاة للخطايا ، فإن البلاء لا يزال بالإنسان حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة .
الرابعة : أنه لم يَتسخّط أقدار الله عزَّ وجَلّ ؛ فيجتمع عليه حرّ المصيبة وذهاب الأجر .
وكان يُقال : المصيبة واحدة ، إن صبر لها صاحبها ، وإلاّ فهي اثنتان إن لم يصبر .
حَضَر ابنُ السَّمَّاك جنازةً فعزَّى أهلها ، وقال : عليكم بتقوى الله والصبر ، فإن المصيبةَ واحدةٌ إن صَبر لها أهلُها ، وهي اثنتان إن جَزِعُوا ؛ ولَعمري للمُصِيبة بالأجر أعظم مِن المصيبة بالميت ، ثم قال : لو كان مَنْ جَزِعَ على مَيِّتِهِ رُدَّ إليه لكان الصابرُ أعظم أجرًا وأجزل ثوابًا .
الخامسة : أن المصيبة التي تُعيده إلى الله هي مِحْنة في طيِّها مِنْحَة ، فمُصيبة تُوقظ قَلبه ، خير مِن نعمة تُنسيه وتُطغيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وما يُصيب الإنسان ؛ إن كان يَسرّه فهو نعمة بيّنة ، وإن كان يَسوءه فهو نعمة ؛ لأنه يُكفِّر خطاياه ، ويُثاب عليه بالصبر، ومِن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد ، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) الآية ، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر ، أما الضراء فظاهر ، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها ، كما قال بعض السلف : ابْتُلِينا بالضراء فصبرنا، وابْتُلينا بالسراء فلم نَصبر . اهـ .
وكَم هي الأمور التي لا يُحبّها الإنسان في ابتداء الأمر ثم يَحْمَد عاقبتها ؟!
قال ابن القيم : كم مِن مِحْنة في طَيِّها مِنحة . اهـ .
السادسة : أن المصائب والأمراض قد تكون سبب عافية ، فكم مِن مرض فتّاك لم يُكتشف إلاَّ بعد وقوع مُصيبة أو مَرض ؟
السابعة : أن يحمد الله على ما أصابه ، فهذا مِن أعظم مقامات الْحَمْد ، وجزاؤه : بيت الحمد في الجنة .
قال ابن مسعود في قوله تعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) : هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله ؛ فيرضى ويُسلِّم .
قال أبو ظبيان : كنا نَعْرض المصاحف عند علقمة بن قيس ، فمرت هذه الآية : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ، قال : فسألناه عنها ، فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها مِن عند الله ؛ فيرضى ويُسَلِّم . رواه البيهقي في " شُعب الإيمان " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فالمؤمنون إذا أصابتهم مُصيبة مثل المرض والفقر والذل صبروا لِحُكم الله ، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم ، كمن أنفق أبوه مالَه في المعاصي فافتقر أولاده لذلك ، فعليهم أن يصبروا لِمَا أصابهم وإذا لامُوا الأب لِحُظوظهم ذَكَر لهم القَدَر .
و " الصبر " واجب باتفاق العلماء ، وأعلى مِن ذلك الرضا بِحُكم الله و" الرضا " قد قيل : إنه واجب ، وقيل : هو مُستحب ، وهو الصحيح ، وأعلى من ذلك أن يَشكر الله على المصيبة ، لِمَا يَرى مِن إنعام الله عليه بها ، حيث جعلها سببا لتكفير خطاياه ، ورفع درجاته ، وإنابته وتضرعه إليه ، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين . اهـ .
الثامنة : أن ينظر عند وُرُود المصيبة إلى ما أبْقَى الله له ..
وهكذا كان السلف ينظرون إلى المصيبة .
لَمَّا سَقَط محمد بن عروة بن الزبير رضي الله عنهم مِن على سطحٍ في اصطبل الدواب للوليد بن عبد الملك ، فَضَرَبته بِقوائمها حتى قَتَلته ، فأتى إلى عروةَ رجلٌ يُعَزِّيه ،
فقال له عروة : إن كنت تُعَزّيني بِرِجْلِي ، فقد احْتَسبتُها ، فقال : أُعَزِّيك بمحمد ، فقال : وما لَه ؟ فَخَبَّره به ، فقال : اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء ، وأخذتَ ابنًا وتَركت أبناء ، وأَيْمُنك ؛ إن كنتَ أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، فلما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق ، فأتاه ابن المنكدر ، فقال : كيف كنت ؟ فقال : " لقد لقينا مِن سفرنا هذا نصبا " .
وقال عبد الله بن عروة :
نَظَر أَبِي إلى رِجْله في الطست ، فقال : إن الله يعلم أني ما مَشيت بك إلى معصية قطّ وأنا أعلم .
وقَعَد بَنُوه يَخِنُّون ، يعني : يَبْكُون ، فقال : يا بَني ، إن أباكم لم يكن فَرَسا يُرَاهَن عليه ! قد أبقى لي خير خُلّتَين : ديني وعقلي .
وجاء عيسى بن طلحة إلى عروة بن الزبير حين قَدِم مِن عند الوليد بن عبد الملك وقد قطعت رجله ، فقال لبعض بَنِيه : اكشف لِعَمِّك عن رِجلي يَنظر إليها ؛ ففعل ،
فقال عيسى بن طلحة : يا أبا عبد الله ، ما أعددناك للصِّرَاع ولا للسِّباق ! ولقد أبْقَى الله لنا ما كُنا نحتاج إليه مِنك : رأيك وعلمك ، فقال عروة : ما عَزَّانِي أحدٌ عن رِجْلِي مِثلك .