ما حالنا بعد رحيل شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
لقد رحل رمضان بعد أن قضى المسلمون أيامه بالصيام وأحيا الصالحون ليله بالقيام، رحل شهر الغفران والعتق من النيران
رحل شهر رمضان الذي تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران،
رحل شهر القران، شهر ليلة القدر التي هي خير وأفضل من ألف شهر،
رحل بعدما سكنت فيه النفوس واطمأنت فيه القلوب.
دع البكاء على الأطلال والـــــدار *** واذكر لمن بان من خل ومن دار
واذر الدموع نحيباً وابك من أسف*** على فراق ليالٍ ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جعلت*** إلا لتمحيص آثام وأوزار
يا لائمي في البكاء زدني به كلفاً *** واسمع غريب أحاديثٍ وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع*** منا المصلي ومنا القانت القاري
وفي التروايح للراحات جامعة *** فيها المصابيح تزهو مثل أزهار
شهر به ليلة القدر التي شرفت *** حقاً على كل شهر ذات أسرار
فيا ترى بعدما رحل رمضان كيف يكون حال المسلم والمسلمة وكيف يستغلون أوقاتهم وبماذا يتقربون إلى ربهم فإن كان شهر الصيام قد رحل
فقد شرع الله الكريم - سبحانه - العديد من العبادات التي يتقرب بها المسلمون إلى ربهم - سبحانه -
القرآن كتاب حياة ومنهج وجود للإنسان، وهو يقدم للمسلم كل ما يحتاج في الدنيا والآخرة، ويجيب عن كل ما يخطر بباله من تساؤلات..
إنه أب حنون، وأم رؤوم ينزل على القلوب المؤمنة بردًا وسلامًا، ويمسح بيده الحانية عليها، فيزيل كل ما يعلق بها من أمراض وآلام،
فهل يُعقل أن يغفل المسلم عن هذا الخير ولا يجعل لنفسه وِرْدًا ولو صغيرًا - من القرآن، وقد صدق الحق - جل وعلا -؛ إذ يقول:
"… فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" - طـه.
إن كثيرًا من المسلمين يضعون المصاحف في علب جميلة مزخرفة ومزركشة.. وكأن القرآن جزء من الديكور والزينة!!
والقرآن لم يُجعل لهذا، بل أنزله الله - تعالى -للتدبر والتأمل والفهم والتطبيق.
وقد روى البيهقي في شعبه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن وذكر الموت.
ومما يؤكد أهمية القرآن في حياة كل مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن من الدعاء أن يقول العبد:
"اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همِّي وغمي"..
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر في الحديث المتفق عليه أن يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، كما كان ابن مسعود، وعثمان، وزيد - رضي الله عنهم - يختمون في كل أسبوع مرة.
والقرآن الكريم.. فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وحكم ما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم. لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء ولا يملُّه الأتقياء، ولا يبلى على كثرة الرد والتكرار، وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، المتمسكون به ناجون فائزون، والمعرضون عنه هلكى خاسرون، ولم تملك الجن حين سمعته إلا أن قالت:
" إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا" سورة الجن.
وقال الله - تعالى -:
"وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِين…"، الآيات من سورة الأحقاف
أنواع هجر القرآن
وبعض الناس يظنون أن هجر القرآن محصور في هجر القراءة فحسب، ولكن الصواب أن أنواع الهجر كثيرة، فهناك هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، وهناك هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به، والثالث هجر تحكيمه والتحاكم إليه، في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته اللفظية، أو أنه يحكي ماضيًا أو أشياء صعبة التحقق، والعدول عنه إلى غيره من شر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة عن الآخرين.
وهناك هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد الله منه، وكل هذا داخل في قول الله - تعالى -:
" وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" الفرقان.
ومن هجر القرآن كذلك وجود حرج في الصدر منه، وهجر القرآن داء وبيل ومرض خطير؛ لأنه هجر لمصدر النور والهداية والسداد والرشاد،
وإن في القرآن خيرًا لا يحصى ومن ذلك أنه:
كتاب هدى: " الـم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين" البقرة
كتاب رحمة: " الـم* تِلْكَ آياتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ* هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين" لقمان
كتاب شفاء: " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين" الإسراء
كتاب طمأنينة: " أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب" الرعد.
كتاب الحياة الحقيقة: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم" الأنفال.
كتاب السرور والفرح: " قُلْ بِفْضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون" يونس.
كتاب خير عام: " وَقِيلَ لِلَّذِينَ آمَنُوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا" النحل.
كتاب حق: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ" النساء.
ويقول الشاعر عمر عسل:
عشـقتك يا كتـاب الله حـتى *** كأنـي لا أري حبًّـا سواكا
إذا حـط الظلام على دروبي *** بلا خوف أسير على سناكا
وإن ضلَّت خُطاي طريق حق *** أرى نور الحقيقة في هواكا
نزلت على الأمين لنا سلامًـا *** فهل تبعث جماعتنا خطاكا؟
آداب قراءة القرآن
1- التأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه، سُئلت السيدة عائشة عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: (كان خلقه القرآن).
2- أن يحل حلاله ويحرم حرامه.
3- قراءته على أكمل الحالات من طهارة، واستقبال قبلة، والجلوس في أدب ووقار.
4- ترتيله وعدم الإسراع في القراءة؛ لقول الله - تعالى -: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه)
5- التزام الخشوع والبكاء أو التباكي عند قراءته كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه (ابْكُوا فإن لم تبكوا فتباكوا)،
وقوله - صلى الله عليه وسلم - (زَيِّنوا القرآن بأصواتكم) رواه النسائي.
6- تحسين الصوت بالقرآن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (زينوا القرآن بأصواتكم) رواه النسائي.
7- الإسرار بالتلاوة إن خشي الرياء، أو كان يشوِّش على مُصَلٍّ، والجهر بالقراءة إن كان في ذلك فائدة مقصودة تحمِل الناس على قراءته والتفكر في معانيه، وتعظيمه، واستحضار القلب عن تلاوته.
إن تلاوة القرآن قيمة عظيمة فحافظ عليها، لكن القيمة الحقيقة أن تشهد وتتغير الجوارح بما قرأت.
تذكر دائمًا أنك في مرحلة اختبار قاسٍ تحتاج لجهد وإرادة، وهذا الاختبار يتكون من سؤال واحد: هل يصبح القرآن حجة لك أم عليك؟ فكِّر جيدًا في السؤال، ثم أجب عليه في حدود الواقع العملي وفي زمن مدته عمرك الذي قدَّره الله لك.
اسأل الله الفائدة لي ولكم ..
وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال