صقر يوم أحد
إسلامه رضي الله عنه
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً - الأحزاب 23 تلا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية
الكريمة، ثم استقبل وجوه أصحابه، وقال وهو يشير الى طلحة : من سرّه أن ينظر إلى
رجل يمشي على الأرض، وقد قضى نحبه، فلينظر الى طلحة
ولم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله، وتطير قلوبهم شوقا
اليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله لقد اطمأن إذن الى عاقبة
أمره ومصير حياته.. فسيحيا، ويموت، وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه
ولن تناله فتنة، ولن يدركه لغوب ولقد بشّره الرسول بالجنة، فماذا كانت حياة هذا
المبشّر الكريم
لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهباً من خيار
رهبانها، وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم، والذي تنبأ به الأنبياء
الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه..وحذّر طلحة أن يفوته موكبه، فانه موكب الهدى
والرحمة والخلاص
وحين عاد طلحة الى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر،
الفى بين أهلها ضجيجاً وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم، أو بجماعة منهم عن محمد
الأمين وعن الوحي الذي يأتيه وعن الرسالة التي يحملها الى العرب خاصة، والى الناس
كافة وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير
بعيد، وأنه يقف الى جوار محمد مؤمناً منافحاً، أوّاباً وحدّث طلحة نفسه: محمد،
وأبو بكر تالله لا يجتمع الإثنان على ضلالة أبدا ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره،
وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة أفيكذب اليوم على الله، ويقول: أنه أرسلني
وأرسل اليّ وحيا..؟؟ وهذا هو الذي يصعب تصديقه
وأسرع طلحة الخطى ميمماً وجهه شطر دار أبي بكر ولم يطل الحديث
بينهما، فقد كان شوقه الى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات
قلبه فصحبه أبو بكر الى الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أسلم وأخذ مكانه في
القافلة المباركة وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين
وعلى الرغم من جاهه في قومه، وثرائه العريض، وتجارته الناجحة
فقد حمل حظه من اضطهاد قريش، اذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد، وكان يدعى أسد
قريش، فربطهما في حبل زاحد و لم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر و طلحة
القرينين بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه، اذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها، وخافت
عاقبة أمرها
جهاده رضي الله عنه
في غزوة بدر
وهاجر طلحة الى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة، ثم
شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدا غزوة بدر، فان الرسول صلى
الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة
ولما أنجزاها ورجعا قافلين الى المدينة، كان النبي وصحبه
عائدين من غزوة بدر، فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه
وسلم بالجهاد في أولى غزواته
بيد أن الرسول أهدى اليهما طمأنينة سابغة، حين انبأهما أن لهما
من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما، بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من
شهدوها
في غزوة أحد
روى الترمذي بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال يوم أحد : أوجب حمزة أي وجبت له الجنة
و في رواية : أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع
وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت
تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بانزال هزيمة نهائية بالمسلمين، هزيمة حسبتها قريش
أمرا ميسورا، وقدرا مقدوراً ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم..
ودارت الدائرة على المشركين
ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم، ونزل الرماة من
مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة،
فامتلك ناصية الحرب و زمام المعركة واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه، وكان
للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين
وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك والوثنية، فسارع نحو الرسول وراح رضي الله
عنه يجتاز طريقاً ما أطوله على قصره..! طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف
المسعورة وعشرات من الرماح المجنونة
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدم
و ويتحامل على نفسه، فجنّ جنونه، وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول
وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه، وتحيط به تريد أن تناله بسوء ووقف طلحة
كالجيش اللجب، يضرب بسيفه البتار يميناً وشمالاً ورأى دم الرسول الكريم ينزف،
وآلامه تئن، فسانده وحمله بعيداً عن الحفرة التي زلت فيها قدمه
كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره، متأخرا به
الى مكان آمن، بينما بيمينه، بارك الله يمينه، تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين
أحاطوا بالرسول، وملؤا دائرة القتال مثل الجراد ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله
عنه يصف لنا المشهد تقول عائشة رضي الله عنها
كان أبو بكر اذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم
طلحة.. كنت أول من جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي الرسول صلى الله
عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم أخاكم.. ونظرنا واذا به بضع وسبعون بين
طعنة.. وضربة ورمية.. واذا أصبعه مقطوع فأصلحنا من شانه
و عن جابر رضي الله عنه قال : لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ناحية اثني عشر رجلاً منهم طلحة فأدركهم المشركون فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : من للقوم ؟
فقال طلحة : أنا
قال صلى الله عليه وسلم : كما أنت
فقال رجل من الأنصار : أنا
قال صلى الله عليه وسلم : أنت فقاتل حتى قتل ثم التفت
فإذا المشركون فقال صلى الله عليه وسلم : من لهم
فقال طلحة : أنا
قال صلى الله عليه وسلم : كما أنت
فقال رجل من الأنصار : أنا
قال صلى الله عليه وسلم : أنت فقاتل حتى قتل فلم يزل
كذلك حتى بقي مع نبي الله طلحة
فقال النبي : من للقوم ؟
قال طلحة : أنا فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى قطعت
أصابعه فقال : حس
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو قلت "بسم
الله" لرفعتك الملائكة و الناس ينظرون
وروى أيضاً البخاري عن خالد بن قيس قال : رأيت يد طلحة التي
وقى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد أشلاء
و عن عائشة و أم اسحاق ابنتي طلحة قالتا : جرح أبنا يوم أحد
أربعاً و عشرين جراحة وقع منها في رأسه شجعة مربعة و قطع نساه -أي العرق- و شلت اصبعه و كان سائر الجراح في جسده و غلبه الغشي
و رسول الله صلى الله عليه و سلم مكسورة رباعيته مشجوج في وجهه قد علاه الغشي و
طلحة محتمله يرجع به القهقرى كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده الى
الشعب
جاء اعرابي لرسول الله صلى الله عليه و سلم يسأله عمن قضى نحبه
: من هو ؟ و كانوا لا يجترئون على مسألته صلى الله عليه و سلم و يوقرونه و يهابونه
فسأله الاعرابي فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم اني اطلعت من باب المسجد و علي
ثياب خضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أين السائل عمن قضى نحبه
؟
قال الاعرابي : أنا
قال صلى الله عليه و سلم : هذا ممن قضى نحبه
وقال صلى الله عليه و سلم : طلحة ممن قضى نحبه
وقال طلحة رضي الله عنه عقرت يوم أحد في جميع جسدي حتى في ذكري
وفي جميع المشاهد والغزوات، كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي
وجه الله، ويفتدي راية رسوله ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة، يعبد الله مع العابدين،
ويجاهد في سبيله مع المجاهدين، ويرسي بساعديه مع سواعد اخوانه قواعد الدين الجديد
الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات الى النور فاذا قضى حق ربه، راح يضرب في الأرض،
ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة، وأعماله الناجحة
كرمه رضي الله عنه
كان طلحة رضي الله عنه من أكثر المسلمين ثراء، وأنماهم ثروة
وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته كان
ينفق منها بغير حساب وكان الله ينمّيها له بغير حساب
لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير، وطلحة
الجود، وطلحة الفيّاض اطراء لجوده المفيض. وما أكثر ما
كان يخرج من ثروته مرة واحدة، فاذا الله الكريم يردها اليه مضاعفة
تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول: دخلت على طلحة يوما فرأيته
مهموما، فسألته ما شانك..؟
فقال : المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني
وقلت له : ما عليك.. اقسمه
فقام ودعا الناس، وأخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم
ومرّة أخرى باع أرضاً له بثمن مرتفع، ونظر الى كومة المال
ففاضت عيناه من الدمع ثم قال : ان رجلاً تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق
من أمر، لمغرور بالله
ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه، ومضى في شوارع
المدينة وبيوتها يوزعها، حتى أسحر وما عنده منها درهم
ويصف جابر بن عبدالله جود طلحة فيقول : ما رأيت أحد أعطى لجزيل
مال من غير مسألة، من طلحة بن عبيد الله
وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه، فكان يعولهم
جميعا على كثرتهم..وقد قيل عنه في ذلك: كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه
مؤنته، و مؤنة عياله وكان يزوج أياماهم، ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم
ويقول السائب بن زيد: صحبت طلحة بن عبيدالله في السفر والحضر فما
وجدت أحداً، أعمّ سخاء على الدرهم، والثوب والطعام من طلحة
أدبه رضي الله عنه
أثناء انسحاب الرسول صلى الله عليه و سلم من أحد قال أبن
اسحاق : نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم الى الصخرة من الجبل ليعلوها وكان قد
بدن -أي ضعف و أسن- و ظاهر بين درعين فلما ذهب لينهض لم يستطع فجلس تحته طلحة ابن
عبيد الله حتى استوى عليه
و قد أصاب العرج إحدى رجلي طلحة رضي الله عنه أثناء دفاعه عن
رسول الله صلى الله عليه و سلم و لما حمل النبي صلى الله عليه و سلم تكلف استقامة
المشي أدباً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستوت رجله العرجاء لهذا التكلف
فشفى من العرج
الفتنة و وفاته رضي الله عنه
وتنشب الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه
ويؤيد طلحة حجة المعارضين لعثمان، ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير
وإصلاح أكان بموقفه هذا، يدعو الى قتل عثمان، أو يرضى به..؟؟ كلا
ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقداً مخبولاً،
ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله
عنه نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى الى هذا المأزق والمنتهى لقاومها، ولقاومها
معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير، لا أكثر
على أن موقف طلحة هذا، تحوّل الى عقدة حياته بعد الطريقة
البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل، فلم يكد الامام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة
ومنهم طلحة والزبير، حتى استأذن الاثنان في الخروج الى مكة للعمرة ومن مكة توجها
الى البصرة، حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان
وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان، والفريق
الذي يناصر عليّا..وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه
الاسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة، تنتفض همومه، وتهطل دموعه، ويعلو نشيجه
لقد اضطر الى المأزق الوعر فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع،
وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة، أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة
وحين ينهض لقمع تمرّد من هذ النوع، فان عليه أن يواجه اخوانه وأصحابه وأصدقاءه،
وأتباع رسوله ودينه، أولئك الذين طالما قاتل معهم جيوش الشرك، وخاضوا معا تحت راية
التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم، وجعلت منهم إخواناً بل إخوة متعاضدين فأي مأزق
هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟
وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق، وصون دماء المسلمين لم
يترك الامام علي وسيلة إلا توسّل بها، ولا رجاء إلا تعلق به ولكن العناصر التي
كانت تعمل ضدّ الاسلام، وما أكثرها، والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة
المسلمة، أيام عاهلها العظيم عمر، هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة، وراحت
تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها
بكى عليّ بكاء غزيرا، عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها
على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير، حوراييّ
رسول الله فنادى طلحة والزبير ليخرجا اليه، فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم فقال
لطلحة : يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت..؟؟
ثم قال للزبير: يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مرّ بك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا، فقال لك: يا زبير، ألا تحبّ
عليّا..؟
فقلت: ألا أحب ابن خالي، وابن عمي، ومن هو على ديني..؟؟
فقال لك: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم
قال الزبير رضي الله عنه : نعم أذكر الآن، وكنت قد
نسيته، والله لا أقاتلك وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية
أقلعا فور تبيّنهما الأمر، وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في
صف عليّ، تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية فإن
قتل عمّار إذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة، فسيكون طلحة باغياً
انسحب طلحة والزبير من القتال، ودفعا ثمن ذلك الانسحاب
حياتهما، ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى.. أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا
وهو يصلي
وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته
كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة، حتى صار عقدة
حياته..كل هذا، مع أنه لم يشترك بالقتل، ولم يحرّض عليه، وانما ناصر المعارضة ضدّه،
يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول الى تلك الجريمة البشعة
وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب
بدم عثمان، كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره.. وكان قبل بدء المعركة يدعو ويضرع بصوت تخنقه الدموع، ويقول :
اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى
فلما واجهه عليّ هو والزبير، أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما، فرأيا
الصواب وتركا أرض القتال..بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون ألم
يقل الرسول عنه : هذا ممن قضى نحبه، ومن سرّه أن يرى شهيداً يمشي على الأرض،
فلينظر الى طلحة لقي الشهيد اذن مصيره المقدور والكبير، وانتهت وقعة الجمل
وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة إلى البيت
الحرام فالمدينة، نافضة يديها من هذا الصراع، وزوّدها الإمام علي في رحلتها بكل
وسائل الراحة والتكريم..وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا،
الذين كانوا معه، والذين كانوا ضدّه و لما رأى على طلحة مقتولاً جعل يمسح التراب
عن وجهه و قال : عزيز علي أبا محمد أن أراك مجولاً تحت نجوم السماء ثم قال : الى
الله أشكو عجري و بجري و ترحم عليه وقال : ليتني من قبل هذا اليوم بعشرين سنة و
بكى هو و أصحابه عليه
ولما فرغ من دفن طلحة، والزبير، وقف يودعهما بكلمات جليلة،
اختتمها قائلا: إني لأرجو أن أكون أنا، وطلحة والزبير
وعثمان من الذين قال الله فيهم:
ونزعنا ما صدورهم من غلّ اخوانا على سرر متقابلين
ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال : سمعت
أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : طلحة والزبير، جاراي في الجنّة
أبو عبيدة بن الجرّاح
أمين هذه الأمة
نسبه رضي الله عنه
هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة
بن الحارث أشتهر بكنيته و نسبه لجده فيقال : أبو عبيدة بن الجرّاح
فضائله رضي الله عنه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
و سلم قال : إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح
وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة و عن أبي هريرة رضي الله
عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح
وقال أبو بكر رضي الله عنه يوم موت النبي صلى الله عليه
و سلم : ...فبايعوا عمر أو أبا عبيدة
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو كنت متمنيّا، ما
تمنيّت الا بيتاً مملوءاً برجال من أمثال أبي عبيدة
و قال عنه عمر وهو يجود بأنفاسه : لو كان أبو عبيدة بن
الجرّاح حياً لاستخلفته فإن سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله ؟
إنه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح
وقد أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مدداً لعمرو بن
العاص، وجعله أميراً على جيش فيه أبو بكر وعمر
و كان رضي الله عنه أول من لقب بأمير الأمراء
وصفه رضي الله عنه
الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف
اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين وقد فقدهما في غزوة أحد كما سيذكر
إسلامه رضي الله عنه
أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام
الأولى للإسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر الى
الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة
المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذاً الدنيا وراء ظهره
مستقبلاً تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة
جهاده رضي الله عنه
في غزوة بدر
جاءت قريش بخيلها و خيلائها تريد النيل من الإسلام وكان في
ركبها عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة ويذكر أبو عبيدة إبراهيم عليه السلام
وأبيه حيث لم يدع ابراهيم عليه السلام وسيلة إلا اتخذها لعل قلب والده يستنير
بنور الإيمان و لكنه كان عدواً لله فتبرأ منه ابراهيم عليه السلام جعل أبوه
يتصدى له و جعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أبى الاب الا المواجهه قتله أبو عبيدة
فقيل في ذلك نزل قوله تعالى : لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ
أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ -
المجادلة آية 22
في غزوة أحد
إن أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله ففي غزوة
أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك
ودون ذلك، على إغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل
مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..
ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا
وعاديا يريد أن يطفئ نور الله وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة
بعيداً عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته..
بل هما متجهتان دوماً الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في
حرص وقلق
وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه
وسلم، إنخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثباً حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على
أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالاً
وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي
عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع
رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهماً ينطلق من يد مشرك فيصيب
النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صوب
رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه
وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم ؟
ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد
دخلتا في وجنتي النبي، فلم يطق صبراً وأقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى
نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية وما
أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته
لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيراناً، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى
اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد
سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى
الله عليه وسلم..فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة إحدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط
على الأرض وسقطت ثنيته معه ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو
عبيدة في الناس أثرم
وقال أبو بكر : فكان أبو عبيدة من أحين الناس هتماً
في غزوة الخبط
وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في
مستواها دوما بصدقه وبأمانته..فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة
الخبط أميراً على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب
تمر..والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو
وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تمر، حتى اذا أوشك
التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا
راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الماء..ومن
اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا
يعنيهم إلا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول
الله لها
في فتح الشام
ولاه أبو بكر رضي الله عنه القيادة العامة في أرض الشام
فاستعفاه أبو عبيدة من ذلك و لكم أبو بكر أصر فلما تحرج موقف المسلمين في الشام
واجتمعوا باليرموك ولى أبو بكر خالداً منصب القيادة العامة بدلاً من أبي عبيدة
الذي بقى في جند حمص ولكن عمر بن الخطاب أعاده الى منصبه بعد وفاة أبي بكرو كان
يقول عنه : لا أمير على أبي عبيدة
وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الإسلام في إحدى
المعارك الفاصلة الكبرى..واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان
خالد..لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر،
وكتمه هو في نفسه طاوياً عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه
العظيم..وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين
ويسأله خالد : يرحمك الله يا أبا عبيدة ما منعك أن
تخبرني حين جاءك الكتاب ؟
فيجيبه أمين الأمة : إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما
سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة
ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته
أكثر جيوش الاسلام طولاً وعرضاً وعتاداً وعدداً فقادهم أبو عبيدة من نصر الى نصر
حتى فتح الله الاراضي الشامية كاملة فبلغ الفرات شرقاً و آسيا الصغرى شمالاً
و رغم النصر فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من
المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام
عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..فانظروا ماذا قال
للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، و أمانته : يا أيها الناس..اني مسلم من
قريش..وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في إهابه
حب رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي عبيدة
لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا
عبيدة كثيرا..وآثره كثيراً
ويوم جاء وفد نجران من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث
معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله : لأبعثن معكم رجلاً
أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين
وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع إختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة
من حظه ونصيبه..يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أحببت الإمارة قط، حبّي
إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّراً، فلما صلى بنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له
ليراني..فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج
معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة
ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون
بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره إنما تعني أنه كان واحداً من الذين ظفروا
بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم
زهده رضي الله عنه
ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل
مستقبليه: أين أخي..؟
فيقولون : من..؟
فيجيبهم : أبو عبيدة بن الجراح
ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه
الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئاً..لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله ويسأله عمر
وهو يبتسم : ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس ؟
فيجيبه أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني
المقيل
وفاته رضي الله عنه
عندما داهم الطاعون بلاد الشام صار يحصد الناس حصداً
فوجه عمر بن الخطاب رسولاً الى أبي عبيدة يقول فيها : إني بدت لي إليك حاجة لا غنى
لي عنك فيها فإن اتاك كتابي ليلاً اإني أعزم عليك الا تصبح حتى تركب الي و إن أتاك
نهاراً فإني أعزم عليك ألا يمسي حتى تركب إلي
فلما أخذ أبو عبيدة الكتاب قال : قد علمت حاجة أمير
المؤمنين إلي فهو يريد أي يستبقي ما ليس بباق
ثم كتب اليه يقول : يا أمير المؤمنين أني قد عرفت حاجتك
إلي و إني في جند من المسلمين و لا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم و لا أريد
فراقهم حتى يقضي الله في و فيهم أمراً...فإذا أتاك كتابي هذا فحلني من عزمك و ائذن
لي بالبقاء
فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه فقال له من عنده لشدة
ما رأوه من بكائه : أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين قال : لا ولكن الموت منه قريب
ولم يكذب ظن الفاروق فقد أصاب الطاعون أبي عبيدة و مات رحمه
الله وقال معل بن جبل : أنكم فجعتم برجل -والله- ما أعلم أني رأيت رجلاً أبر صدراً
ولا أبعد غائلة ولا أشد حباً للعاقبة
منقول