الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 3 )
الشيخ صالح بن عواد المغامسي
مجموعة فوائد - فصل في أولاده :
الدرس الثـالـث :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوّى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، كنا قد ذكرنا شيئًا من نسبه عليه الصلاة والسلام ومولده وهجرته، ثم انتهينا إلى وفاته صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا جملةً من الفوائد لعله قد يكون من المناسب استحضار بعضها، فإننا ذكرنا زواجه عليه الصلاة والسلام من خديجة بنت خويلد، وقلنا إن هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين خصّها الله جلّ وعلا ببعضٍ من الخصائص، منها من انفردت به عن أمهات المؤمنين، ومنها ما انفردت به عن نساء العالمين أجمعين،
فما الذي انفردت به عن أمهات المؤمنين؟
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها أحدًا في حياتها.
والثانية: أن الله جلّ وعلا رزقه منها الولد. هذا من انفردت به عن أمهات المؤمنين، ثم قلنا إن لها خصيصة ليست لأحدٍ من نساء العالمين، أن الله أمر جبريل أن يُبلغها السلام، وهذه الخصيصة لم تكن لأحدٍ –فيما نعلم- من نساء العالمين.
ثم إننا ذكرنا أن الهجرة حدثٌ يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم كقدوة، وقلنا ما كان يتعلق به كقدوة هذا الذي يُحتذى به، أما ما كان لا يتعلق به كقدوة فهذا يُعلم ويُعرف له قدره عليه الصلاة والسلام، لكن الأمة غير ملزمةٍ به، وذكرنا على هذا مثالا حادثة الإسراء والمعراج.
كما أننا تكلمنا عن أبي طالب، وقلنا إنه ناصر النبي عليه الصلاة والسلام وعضده وكان معه في شعب بني هاشم حينما حاصرت قريشٌ النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أنه يتعلق بنصرة أبي طالبٍ للنبي عليه الصلاة والسلام فوائد ذكرنا منها فائدتين:
• أن الإنسان يستخدم الوسائل التاريخية المتاحة إذا كان في ذلك نُصرةً للإسلام.
• والثانية الهداية، وقلنا إن كون أبي طالبٍ رغم نصرته للنبي عليه الصلاة والسلام لم يُرزق الهداية يدل على أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، ونسأل الله جلّ وعلا أن يثبتنا وإيّاكم على هديه.
اليوم إن شاء الله تعالى سنأخذ ثلاثة فصولٍ من الكتاب من المتن المُقرر، منها ما
يتعلق بوفاته عليه، وهذا هو الفصل الأول، ثم ننتقل إلى فصلٍ في أولاده عليه الصلاة
والسلام، ثم فصلٍ في حجه عليه الصلاة والسلام.
( وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها )
الأصل أن الميت لا يُفرش له شيءٌ في قبره، دفن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من أصحابه ماتوا في حياته ولم يُنقل أنه أُدخل معهم في قبرهم شيءٌ، ولكن هذه القطيفة كان عليه الصلاة والسلام يفرشها ويجلس عليها ويلبسها أحيانًا، فأنزلها شقران الذي هو صالح مولاه معه في القبر، ثم فرشها وجعل النبي عليه الصلاة والسلام عليها، وأصل هذا الكلام الذي ذكره المصنف في صحيح مسلمٍ من حديث ابن عبّاس.
على هذا تتحرر مسألة هل يجوز أن يُفرش تحت الميت قطيفة أم لا؟
قال بعض العلماء في الإجابة عن هذا وحكاه النووي عن الجمهور أنه يُكره فعله وأن شقران فعلها دون علم الصحابة لأنه كره –أي شقران- أن يلبسها أحدٌ بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا التعليل الذي ذكره النووي رحمه الله غير صحيح، أو بتعبيرٍ أصح ضعيف، لأننا نقول إن الله جلّ وعلا لا يختار لنبيه إلا الأفضل، فما كان الله ليسمح قدرًا لشقران أن يضع هذه القطيفة تحت النبي صلى الله عليه وسلم والله يكره ذلك، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يكفله ربه ويرعاه ويحفظه ويُحيطه بعنايته حيًا وميتًا، فينجم عن هذا تخريجًا أسهل فنقول إنه يُكره بل قد يصل أحيانًا إلى حد المنع أن يوضع تحت أي ميّت قطيفة حمراء أو قطيفة من أي نوع، وإنما هذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل ما وجه الخصوص هنا، قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأرض حرّم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، فلأن الأرض لا تأكل جسده أذن الله قدرًا لشقران أن يضع هذه القطيفة تحت نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يمكن تخريج المسألة بأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وأن هذا من خصائصه، وممن نص من العلماء على أن هذه خصيصةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وكيع بن الجراح المحدث المشهور، شيخ كثير من السلف كالإمام أحمد وغيره، فوكيعٌ نص على أنها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر لنا أنه ينجلي الإشكال في المسألة، والله أعلم.
( ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران، وأطبق عليه تسع لبنات، ودُفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة، ثم دفن معه أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما - )
أما كون من نزل معه القبر فقد ذكر المصنف رحمه الله أنه نزل القبر خمسة، العباس وقثمٌ والفضل وعليٌ وصالحٌ مولاه الذي هو شقران، وهذا روايةٌ أضعف والصحيح أن الذي نزل القبر أربعةٌ فقط ليس منهم العباس، ذكر المقدسي رحمه الله في هذا أن العبّاس منهم كما ذكره النووي، لكن الصحيح أن الذي نزل القبر أربعة هم قثمٌ والفضل ابنا العبّاس بن عبد المطلب وعليٌّ ومولاه شقران، هؤلاء الأربعة الذين تولوا نزول قبره وإجنانه –أي ستره صلى الله عليه وسلم – دون الناس، هؤلاء الذين نزلوا القبر.
ثم وُضعت عليه تسع لبناتٍ، وقبلها كانوا قد اختلفوا هل يلحدون له لحدًا كما هو صنيع أهل المدينة، أما يجعلون القبر شقًا كما هو صنيع أهل مكة، فبعثوا إلى الاثنين وقالوا: اللهم خِر لنبيك –أي اختر لنبيك-، فالذي ذهب ليأتي بالحفار الذي يشق لم يأت ولم يجده، والذي ذهب إلى بيت أبي طلحة وكان يلحد لأهل المدينة -أي يضع لحدًا في القبر- جاء وحفر القبر للنبي عليه الصلاة والسلام.
وقبل أن يحفروا القبر اختلوا أين يُدفن، وهذا أحد أسباب تأخير دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أقول أحد الأسباب يدل على أن هناك أسبابٌ أخرى، هذا أحد الأسباب التي دعت الصحابة إلى أن يتأخروا في دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكرٍ رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما مات نبيٌّ إلا دُفن حيث يُقبض )، وهذا القول أحد خصائص الأنبياء، وهذا –إن صحّ القول- يقودنا –من باب الاستطراد العلمي- لمعرفة بعض خصائص الأنبياء كفوائد.