بعينين واسعتين تراقب الطفلة الصغيرة أمها وجدتها وهما تتحدثان عن الزمن الذي تردى.. ورجال هذا الزمن الهش الذي صار يفرز رجالا من ورق.. تمصمص الجدة شفتيها وتمطها مستنكرة كل الأوضاع والظروف المحيطة بها .. وتستطرد الحديث وتترحم علي الرجال ممن كانوا كالجبال لا يهتزون لأعتى العواصف .. ولا تكسرهم الكوارث .
تتحرك الخيالات في رأس الطفلة كلما قصت جدتها أساطير الرجال .. فتهرع إلي كراسة الرسم لترسم جبلاً كبيراً يقف أمامه رجلاً أطول قامة من الجبل .. فالرجال في أساطير جدتها أقوى من الجبال ..
اليوم ستستمتع بصديق عمرها الذي لا يقل قوة عن الجبل .. أنه البحر بكل لذته وقوته .. وبكل رقته وجماله وجبروته وهيجانه .. تمارس لعبة التأمل في كينونه الكون فتطيل النظر لتعرف ما وراء هذا الاتساع الكبير من المياه الثائرة.. تتلقف الموجة العاتية في جسارة .. فإذا ما هدأت ابتسمت الصغيرة ابتسامة الانتصار .. ثم حدثت نفسها بأن القوة ليست حكراً علي الرجال .. فقد تكون هي يوماً الأقوى!!
تتعب من صد الموجات المتتالية فتخرج لتستلقي علي الرمال .. فتدغدغها فكرة .. فتهب لتصنع جبلا من الرمال .. تحاول أن تعلو به حتى يستطيل عن قامتها .. تقف أمامه مزهوة وتنادى أمها لتري الجبل ، وتسألها: أكان جدي كهذا الجبل يا أمي؟؟
تضحك الأم وتقول: لا يا ابنتي .. هذا جبل من رمال .. بلمسة من إصبعك الصغير ينهدم ..
تتوالي السنون وتقفز الأرض بالصغيرة لأعلي عدة مرات لتصبح في ريعان الشباب.. تبحث عن جدها بين كل من تقدموا لخطبتها .. فلا تجده!! .. تُسَلِم فكرها لتلك الفكرة التى طرأت لها .. وهى أن ما كانت تحكيه جدتها ما هو إلا أساطير ..
تتزوج من أحدهم حتى ترضي غريزة الأمومة بداخلها وتنجب ذلك الرجل الذي رسمته يوما في كراستها أو صنعته من رمال شاطئ الإسكندرية .. تريد أن تحول الأسطورة إلي حقيقة .. فهى لا تعدم الوسيلة؟؟ !!
يكبر الحلم .. تنحته .. تهيئه .. تلقنه البطولة فيتجرعها بنهم .. يخرج تاركا أسوار معملها .. يتقيأ كل ما جرعته له خلال سنوات!! .. يتلذذ بكؤوس قدمتها له أيادٍ نجسه .. يُصاب بالميوعة .. وتُصاب هي بخيبة الأمل ..
تنتصب شامخة .. تتزود بأمل جديد .. فهى لن تعدم الوسيلة.