بسم الله الرحمن الرحيم
و كونوا عباد الله إخوانا
إن الحمد لله نحمده و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه.
((يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون)).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)).
(( يَا أ يها الذين آ منوا اتقوا الله وقولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيما)).
أ ما بعد،
أخواتي في الله،
تتفاوت قدرات الناس في ضبط النفس، والصبر على الأذى، فمنهم من يكون سريع الانفعال ويقابل الأذى دون النظر في العواقب، ومنهم من يتمالك نفسه، ويكبح جماح غضبه ويتحلى بالصبر والحلم ويتلمس الأعذار والمبررات لمن أساء إليه، وهذا هو الرجل الحليم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه رضوان الله عليهم بالتحلي بالحلم في تعاملهم، ويحثهم عليه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة):[رواه مسلم].
وورد في الأثر أنه ذات ليلة خرج الخليفة عمر بن عبد العزيز ليتفقد أحوال رعيته وكان في صحبته شرطي، فدخلا مسجدًا وكان المسجد مظلمًا، فتعثر عمر برَجُلٍ نائم فرفع الرجل رأسه وقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: "لا". وأراد الشرطي أن يضرب الرجل فقال له عمر: "لا تفعل إنما سألني: أمجنون أنت؟ فقلت له: لا".
فقد سبق حلم الخليفة غضبه، فتقبل ببساطة أن يصفه رجل من عامة الناس بالجنون، ولم يدفعه سلطانه وقوته إلى البطش به.
فلو استوعب كل منا شخصية الآخر لتغير الأمر.
> فلا نغضب فهذا من الخرق المذموم، و لا نعاتب فهذا الصنيع مما تكرهه النفوس و تنفر منه القلوب و لنلتمس لبعضنا أعذارا و لله در القائل:
لعل له عذرا و أنت تلـــوم
و رب امرئ قد لام و هو مليم
> و لا نغتاب بعضنا البعض فهذا محرم بالكتاب و السنة، و هذه خصلة ذميمة لا تصدر إلا من نفس ضعيفة وضيعة دنيئة،فمن مقاصد هذا الدين العظيم؛ حفظ أعراض المسلمين من أن تنتهك بالباطل، وأن يخاض فيها بغير حق، وقد سوّى النبي صلى الله عليه وسلم بين عِرض المسلم ودمه وماله بقوله في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا): [متفق عليه]
ـ وفي ذلك أعظم بيان لعِظَمِ حرمة عِرض المسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً, المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا ـ وأشار إلى صدره ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه): [رواه مسلم]
وبيَّن صلى الله عليه وسلم صفة المسلم الحقيقي بقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده): [رواه مسلم]
وحذَّر صلوات الله وسلامه عليه من يتتبع عورات المسلمين، وتوعَّده بأَشدِّ الوعيد، فقال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته):[صحيح الجامع/7984].
بل قد جاء في الحديث الصحيح أن الخوض في عرض المسلم أنه أعظم من الربا والزنا، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه):[صحيح الترغيب/1857].
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ): [رواه البخاري/6113].
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "عَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ، وَإِيَّاكُمْ وَذِكْرَ النَّاسِ فَإِنَّهُ دَاءٌ".
وقد جاء التحذير من إطلاق اللسان فيما حرَّم الله تعالى من الولوغ في أعراض الناس ، وفي الغيبة، والنميمة، والسب، والقول على الله بغير علم، وعموم معاصي اللسان وآفاته.
قال تعالى:((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)): [سورة ق:18].
و يامن يخوض في أعراض الناس و يقذهم بالسوء اتق الله واحذر، فالموت تأتي بغتة و النار مثواك لا مفر، و إنه لحق كما جاء على لسان سيد البشر، إلا من تاب من فعله و استحل ممن ظلمهم و اعتبر، فعسى الله أن يتوب عليه و يغفر.
> ولا نسيء الظن و نكون ممن يحسبون كل صيحة عليهم فهذا من الشيطان حيث يلقي في روع الإنسان الظنون السيئة، و الأوهام الكاذبة، ليفسد بينه و بين إخوانه:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظنَّ فإن الظن أكذب الحديث): [متفق عليه].
و قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:"لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة".
ولله در القائل:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهـــــم
وعادى محبيه بقول عداتــــــه
فأصبح في ليل من الشك مظلـــم
ومن المحزن حقا أن نرى بعض من يدعون طلب العلم يتكلم عن زلات العلماء وأهل القرآن و يتطاول عليهم، وينسى فضلهم ولايكون لهم منصفا، حتى أننا نجد بعضهم هداهم الله للصواب يتعدى الأمر عندهم بيان خطأ الشخص إلى تجريحه، والعدل أن يتحدث أولا عن فضائل الشخص ثم يذكر الخطأ بالأدلة إن كان هناك خطأ.
ويقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله:
"اعلم يا أخي .. أختي وفقني الله وإياكم لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب" اهـ
> و لا نؤاخذ بالزلة فهذا مسلك خاطئ :
فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبــه
> و لنقبل أعذار الآخرين فالواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه لجرم مضى، أو لتقصير سبق أن يقبل عذره، و أن يجعله كمن لم يذنب. فقبول الأعذار من صفات الكرام.
قال صلى الله عليه و سلم:(من لم يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر الله له): [رواه أحمد وصححه الألباني].
و قال صلى الله عليه و سلم:(من تُنصل إليه)أي "اعتُذر إليه" فلم يقبل فلن يرد على الحوض): [رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني].
قال الشافعي رحمه الله :
قيل لي: قد أساء إليك فـلان
الفتى على الذل عـــــــار
قلت: قد جاءنا وأحدث عذرا
دية الذنب عندنا الاعتـذار
> ومضة
ـ وصية غالية من الإمام الشافعي فيما روي عنه:
(فعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره بالعداوة وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك ولكن القه وقل له بلغني عنك كذا وكذا واحذر أن تسمى له المبلِّغ فان أنكر ذلك فقل له أنت أصدق وأبر لا تزيدن على ذلك شيئا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجها لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى وأبلغ في الكرم لقول الله تعالى: (( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ))، فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك ولا تبخس باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه، و قد كان الرجل الصالح يقول: "رحم الله من كافأني على اساءتي من غير أن يزيد، ولا يبخس حقا لي".
يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به فان اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل، و قد كان الرجل الصالح يشبه سهولة مفارقة الصديق بصبي يطرح في البئر حجرا عظيما فيسهل طرحه عليه و يصعب إخراجه على الرجال البرك فهذه وصيتي لك و السلام).اهـ
> بيت القصيد
إِتضع للناس إن رمتَ العـــلا
فلها ترقى ولا تلقى الضــرر
وإذا غاظكَ خطب فاصطــــــبر
واكظم الغيظ ولا تبدي الضجر
واجعل المعروف ذخراً إنــــه
خير غرسٍ مانحٍ أحلى الثمـــر
فالتزمه فهو إن حققتـــــه
للفتى أفضل شيء يدخـــــــر
وخيار البرِ ما عجلتـــــــه
حيث في التأخير آفات الخطـــر
ولدى العجز يرى الصفح سُـدى
وخيار العفو في وقت الظفــر
احمل الناس على أخلاقهـــــم
تنل الحمـدَ لديهم وتُبـــــر
وافعل الإحسان فيهم دائمــاً
فبه تملك أعناق البشــــــر
سلـم الأمر إلى خالقـــــــه
تكن السالم مـن كـل كــــدر
وعلى ما فات لا تأســـــــف
وقل كل شيءٍ بقضاءٍ وقــــدر
> مسك الختام من حديث خير الأنام صلى الله عليه وسلم
قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا): [متفق عليه].
> و كونوا عباد الله إخوانا
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وسُبحانك اللهم، وبحمدك، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرك، وأتوب إليك.
منقول للفائدة