عزفٌ على أوتار الروح...في رحلةٍ إلى القمر
كم هي هادئةٌ أزقةُ هذه المدينة، لا شيء يكسر هذا الصمت سوى صوتُ خطواته الرتيبة الوحيدة، وحفيف أوراق الأشجارِ المتراميةِ هنا وهناك...سارَ مراقباً ظلّهُ على الأرض، فكان يسبقهُ حيناً، ويتأخر عنه حيناً آخر، ليشعُرَ بأُنسٍ للُحَيظات ثم يعودّ إلى انفراده لأخرى...
كان الضوءُ الأصفرُ الدافئ لإنارةِ الأزقةِ وبعضِ البيوتِ الساهرة يتعارَكُ بتثاقلٍ مع ظلمةِ الليل، باعثاً في نفسهِ حزناً جميلاً، انسابَ كجدولٍ رقراقٍ بين ثنايا نفسه المضطربة,,,ضمَّّ ذراعيه إلى صدرهِ محاولاً إقصاءَ بعض البرودةِ الرطبةِ التي تمتازُ بها هذه المدينة، حتى في مثلِ هذا الوقتِ من الصيف...
„آهٍ يا الهي يا صديقي الحبيب، لكم أنا وأنتَ في وحدتنا متشابهان” فكرَ في نفسهِ ونظرَ نحو السماءِ، الغيوم كانت - على عكسِهِ - مبحرةً نحو الشرق مشرذمةً على شكل كُتلٍ ذاتِ أحجام مختلفة وأشكالٍ عشوائية...تنقلت عيناهُ بين تلك الشراذم من الغيوم، محاولاً استراقَ النظر، فما وجدَ أحداً هناك، ولا لحظَ شيئاً، فابتسمَ ومضى متابعاً سيرَه.
صوتٌ بديعٌ بدأ يترامى إلى مسمعه من بعيد...إنه الصوتُ الأحب إلى قلبه، صوت التشيلو، اتجه نحوه إذ ازدادت ضربات قلبهِ، فازداد الصوتُ قرباً شيئاً فشيئاً، وإذا برجلِ ضريرٍ يعزف إحدى أحب الألحان إليه، لحنٌ لدفورجاك، يدعى „أغنية إلى القمر“...آهٍ ما أجمل هذا اللحن، يا لروعة أداءِ هذا الرجل...شعرَ بقلبه آلة تشيلو بين يديه، مداعباً أوتارَ روحه بقوس من مئات المشاعر، دافعاً بجسده للتمايل بخفةٍ وليونةٍ في تناغمٍ شاعري بالغ الرهافة والرومانسية...أغلقَ عينيه، وانساب مع مفردات ذلك اللحن، صاعداً معهُ حيناً فيكادُ يلمسُ القمر، هابطاً حيناً ليستلقي كراقص باليه ملقياً برأسهِ على ذراعٍ ممددةٍ على الأرض...غابَ، هامَ، توترَ حيناً ثم صمت...ليعودَ بعد فترة غيبوبةٍ حالمةٍ فيمتطي نورَ قمرٍ ما ظهرَ الليلة، لكن رآهُ لحناً أثيرياً مرهفاً...ثم يصحو إذ يسود الصمت مرة أخرى...لقد انتهت المعزوفة...يفتح عينيه محاولاً تذكرَ مكانه وزمانه...يثبّتُ نظرهُ على الضرير الفنان ليعيدَ التوازن إلى جسده مرة أخرى. يقنربُ منه محيياً باحترام بالغ...يشكرهُ على تلك الرحلة واضعاً بعضَ المالِ في حقيبةِ التشيلو المفتوحة، ويسير عائداً إلى منزلِه وقد أنهكتهُ رحلته..... إلى القمر
م0ن