لقد مللت الكلام والمتكلمين ...
لقد تعبت روحي من الكلام والمتكلمين ...
أستيقظ في الصباح ... فأرى الكلام جالساً بجانب مضجعي على صفحات الرسائل والجرائد والمجلات ...
وهو ينظر إليَّ بعيون ملؤها الدهاء والخبث والرياء .....
أغادر فراشي وأجلس إلى جانب النافذة لأزيح نقاب النوم عن بصيرتي بفنجان من القهوة ... فيتبعني الكلام وينتصب أمامي راقصاً صارخاً معربداً ... ثم يمد يده مع يدي إلى فنجان القهوة , ويرتشف منه بارتشافي ... وإذا تناولت لفافة ... يتناولها معي ... وإذا رميت بها .. رماها معي.
أقوم للعمل ... فيلحق بي موسوساً في أذني ...
مهمهماً حول رأسي ...
مقرقعاً في خلايا دماغي ... فأحاول طرده ...
فيضحك مقهقهاً ..
. ثم يعود إلى الوسوسة والهمهمة والقرقعة.
أخرج إلى الشارع ... فأرى الكلام واقفاً في باب كل حانوت ... منبسطاً على جدران كل منزل ...
أراه في وجوه الناس وَهُمْ صامتون ...
وفي حركاتهم وسكناتهم وَهُمْ لا يدرون ...
إن جالست صديقي ...
يكون الكلام ثالثنا ...
وإن التقيت بعدوّي ... ينتفخ الكلام ويتمدد ثم يتجزّأ متحوّلاً إلى جيش عرمرم ... أوَّله مشارق الأرض وآخره ... مغاربها ... فإذا غادرته هارباً ...
ظلَّ صدى كلامه يتمايل مختبطاً في باطني ...
إختباط طعام لا تهضمه المعدة ...
أذهَب إلى المحاكم والمعاهد والمدارس ...
فأرى الكلام وأبو الكلام وأخاه ...
وهُم يلبسون الكذب رداءً ...
والإحتيال عمامة ً وحذاءً ...
أسيرُ إلى المعمل والمكتب والإدارة ...
فأجد الكلام واقفاً بين أمّه وعَمَّتِه وجَدَّتِهِ ...
وهو يقلب لسانه بين شفتيه الغليظتين ...
وهُنَّ يبتسمنَ له ويضحَكنَ مني ...
وإذا بقي لي شيء من العزم والتـَّجلـُّد ... ...
رأيت هناك الكلام جالساً على عرشه ...
وهو متوَّج الرأس ...
وفي يده صولجان, دقيق الصنع, لطيف الجوانب ناعمها .
وعندما أعودُ في المساء إلى غرفتي ...
أجد الكلام الذي سمعته سحابة نهاري ...
متدلـِّياً كالأفاعي من سقفها ...
منسلاًّ كالعقارب في قرانيها ...
الكلام في الفضاء وما وراءه ...
وعلى الأرض وتحتها ...
الكلام على أجنحة الأثير ...
وفي أمواج البحر ...
وفي الغابات والكهوف ...
وفوق قمم الجبال
الكلام في كل مكان ...
فإلى أين يذهب من يريد الهدوء والسكينة ...
ـ أيوجد في هذا العالم طائفة من الخرسان لأنتمي إليها ...
هل يرحمني الله ويمنحني موهبة الطرش ...
فأحيا سعيداً في جنة السكون الأبدي ؟؟؟؟؟
ولو كان المتكلمون نوعاً واحداً ...
لرضينا وتجلـَّدنا ... ولكنهم أنواع وأشكال لا عدد لها:
" فهناك طائفة (( المستضعفين )) الذين يعيشون في المستنقعات ... النهار وطوله ... وعندما يجيء المساء ... يقتربون من الشواطيء ... رافعين رؤوسهم فوق سطح الماء ... مفعمين صدر الليل بضجيج قبيح ... تأباه المسامع والأرواح.
" وهناك طائفة (( المستبعضين )) والبعوض من مولدات المستنقعات أيضاً ... وهُم الذين يرفرفون حول أذنك بنغمة تافهة رفيعة شيطانية ... سداها النكاية ... ولحمتها البغضاء ...
" وهناك طائفة (( المستطحنين )) وهي طائفة غريبة ... في داخل كل فرد من أفرادها ... حجر يدار بالكحول ... فيولـِّدَ جعجعة جَهنـَّميّة ... أخـَفـّها ... أثقل مما تـُحدثه حجارة الرحى ...
" وهناك طائفة (( المستبقرين )) وهم الذين يملؤون أجوافهم حشيشاً ... ثم يقفون على منعطفات الشوارع والأزقـَّة ... مبطـِّنين الهواء بخوار ... ألطفه ... أغلظ من خوار جاموس ...
" وهناك طائفة (( المستبومين )) وهُم الذين يصرفون الساعات بين مقابر الحياة وأجداثها ... محوّلين سكينة الدُّجى ... إلى عويل ... أفراحه ... أحْزَن من نعيب البُوم ...
" وهناك طائفة (( المستنشرين )) وهُم الذين لا يرون من الحياة إلاّ أخشابها ... فيصرفون الأيام بتجزئتها وتفصيلها ... محدثين بذلك خشخشة ... أعذبها ... أضنك مما تحدثه المناشير...
" وهناك طائفة (( المستطبلين )) وهُم الذين يقرعون نفوسهم بمطارق ضخمة ... فيخرج من أفواههم الفارغة ... قرقعة ألطفها ... أغلظ من قرقعة الطبول ...
" وهناك طائفة (( المستعلكين )) وهُم الذين لا شُـغلَ لهم ولا عمل ... فيجلسون حيثما يجدون مقعداً ... ويمضغون الكلام ... ولكنهم لا يلفظونه ...
" وهناك طائفة (( المستهزئين )) وهُم الذين يستغيبون الناس ... ويستغيبون بعضهم بعضاً ... ويستغيبون نفوسهم على غير معرفة من نفوسهم ... ولكنهم يدْعُون الإستغابة بإسم المُجون ... والمُجون ... ضَرب من الجد ... ولكنهم لا يعلمون ...
" وهناك طائفة (( الأنوال )) التي تـُحَرِّك الهواء بالهواء ... ولكنها تظل هي بدون قمصان ولا سراويل ...
" وهناك طائفة (( الزرازير )) التي قال عنها الشاعر:
لمّا حام حائمها توهَّمت ـــــــــ أنها صارت شَواهينا
" وهناك طائفة (( الأجراس )) وهي تدعو الناس إلى الهياكل ... ولكنها لا تدخلها ...
" وهناك طوائف وعشائر لا تـُعَد ولا تـُحصى ولا تـُوصَف ... أغربها في عقيدتي ... طائفة نائمة ... تملأ الفضاء غطيطاً ... ولكنها لا تدري .....
... والآن ... أنا كالطبيب المُعْـتـَل ...
أو كمجرم يقف واعظاً بين المجرمين ..
. فقد هجوت الكلام ... ولكن بالكلام ...
وتطيرت من المتكلمين ... وأنا واحد منهم ...
فهل يغفر الله ذنبي ...
قـُبَيل أن يرحمني وينقلني إلى غابة الفكر والعاطفة والحَق ... حيث لا كلام ... ولا متكلـِّمون ؟؟؟؟؟
جبران خليل جبران
حقا اصاب
عندما يكون الكلام هو البضاعة الرائجة في كل مكان وزمان وليس برسم التنفيذ والاصلاح فالأفضل أن ننتمي لطائفة الصامتين