بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الصلاة و السلام على رسولنا و على اله الطيبين و صحابته اجمعين .
اللهم ارض عن ابي بكر الصديق و عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و على بن ابي طالب والحسن و الحسين و فاطمة الزهراء و عائشة بنت ابي بكر الصديق و حفصة بنت عمر بن الخطاب و على جميع الصحابة و امهات المؤمنين.
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
ظاهرة الغش في التعليم: رؤية شرعية
فارس العزاوي
منتدى المعلم الثقافي الاجتماعي
ظاهرة الغش في التعليم: رؤية شرعية
دراسة مقدمة إلى حلقة نقاش بعنوان:
(ظاهرة الغش في الامتحانات: الأسباب والمعالجات)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فلا يخفى أنَّ من مقاصد الشرع تعبيدَ الناس لرب العالمين، قال الشاطبي: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلَّف من داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا"[1]، ومقتضى هذا المقصد التِزام الشرع المطهَّر في المعتقد، والعبادة، والمعاملة، والخُلُق، والأدب، ولا شكَّ أنَّ من أعظم وظائف الإنسان الخليفة ما نصَّ عليه المولى - سبحانه - في كتابه في قوله: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، وقوله - سبحانه -: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وقوله - سبحانه -: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، وهي دالَّة على الارتِباط بين التعليم والتزكية كما هو ظاهر من منطوقها؛ لهذا كان من مقاصد الشرع تزكية النفوس، وعدَّه بعض أهل العلم من المقاصد الكليَّة العُليَا؛ فيكون أسوة بمقصد التوحيد، وإذا كانت التزكية والتربية بهذه المثابة، فإنَّ القيام على خلافها يُعتَبَر نشازًا وانحِرافًا عن الجادَّة والسبيل، ومن أفراد هذا الانحِراف ما شاع بين طلبة العلم في المدارس والثانويات من إخلال بأمانة التعليم، وخروجٍ عن سبيل التربية التي تُعَدُّ مقصدًا من مقاصد القائمين على مسالكها ومناشطها، ومن أعظم مظاهر الإخلال ما نلمَسُه من انتشار ظاهرة الغش بين طلابنا بصورة جليَّة، وممَّا زاد الأمر خطورةً أنَّ هناك مَن يُيسِّر ويُسهِّل للطلاب الوقوع في هذه الظاهرة الخطيرة، والتي تُعَدُّ كبيرةً من كبائر الذنوب كما سيظهر لنا من خِلال أدلَّة الشرع، وخاصةً من بعض القائمين على الجانب التربوي والتعليمي، سواء في ذلك المعلِّمون والإدارِيُّون، ولا يتوقَّف الأمر في انتشار الظاهرة السوء هذه على مدارس التربية والتعليم، بل شملت المؤسسات التعليميَّة الأخرى؛ كالجامعات والمعاهد العلمية والتقنية؛ وعليه لا بُدَّ من الوقوف في وجه هذه الظاهرة، وتكثيف الجهود من أجل القَضاء عليها، ولا شكَّ أنَّ من الوسائل المُعِينة إشاعةَ الثقافة الشرعيَّة في الأوساط التعليميَّة والتربويَّة بشتَّى صُوَرِها، وفي هذا المِحْوَر سنُحاوِل الوقوف على الرؤية الشرعية التي تُظهِر الحكمَ الشرعي لهذه الظاهرة، وقد جعلناها في جملة مطالب وفقًا لما يأتي:
المطلب الأول: في مفاهيم الدراسة وما يُقارِبها.
المطلب الثاني: حكم الغش وأنواعه.
المطلب الثالث: تحقيق المَناط في ظاهرة الغش في التعليم.
المطلب الأول: في مفاهيم الدِّراسة وما يُقارِبها:
يقتَضِي الحديثُ عن ظاهرة الغشِّ تسكينَها في إطارها المفاهيمي، وهُناك جملةٌ من المفاهيم التي تقتَرِب من الظاهرة معنى لا لفظًا ينبغي الوقوفُ عندها وإدراكُ مضمونها وفَحواها بغيةَ التعرُّف على المنظومة التي تشكِّل الإطار المفاهيمي الذي نحن بصدد جعْل بحثنا في حدوده المصطلحيَّة، وتحديد الإشكالات المنهجية والمجالية المحيطة به، وما يترتَّب عليها من آثار نفسية ومجتمعية خطيرة.
الأول: مفهوم الغش:
لو تأمَّلنا الكلمة في سياقها المعجمي، لظهر لنا أنَّ اللفظة متضمِّنةٌ جملةً من المعاني: إظهار خِلاف ما يُضمَر، عدم تمحُّض النصيحة، المشرب الكدر، الغل، الحقد، الكدر المشوب، الظلمة، الخلط[2].
والغش في الاصطِلاح تتعدَّد رسومُه التعريفيَّة بحسب تنوُّع التخصُّصات واختِلافها؛ فهو في الاصطِلاح الشرعي: ما يُخلَط من الرَّدِيء بالجيِّد، أو نشرُ السوء وبثُّه على حساب الخير، وفي الاصطِلاح التربوي: عمليَّةُ تزييف لنتائج التقويم، أو هو محاولة غير سويَّة لحصول الطالب على الإجابة من الأسئلة باستِخدام طريقةٍ غير مشروعة، وهو في اصطِلاح علم الاجتماع الإسلامي: ظاهرة اجتماعيَّة منحرفة؛ لخروجها عن المعايير والقِيَم الشرعية، ولما تتركه من آثار سلبيَّة تنعَكِس بصورة واضحة على مظاهر الحياة الاجتماعيَّة في المجتمع، وبالجملة: الغشُّ يُعتَبر سلوكًا غيرَ أخلاقي وغيرَ تربوي، ينمُّ عن شخصية غير سويَّة وليست ناضجة، وهي تعكس الخللَ التربوي وضعفَ الأثر الشرعي في نفسية صاحبه[3].
الثاني: مفهوم الخيانة:
مرجع المفهوم من حيث لفظُه إلى مادة (خون)، وهي دالة على جملة من المعاني، ومنها: النقص، التفريط في الأمانة، النفاق، مخالفة الحق، نقض العهد، الضعف، مسارقة العيون، إضمار شيء في النفس بخلاف ما يظهره[4].
أمَّا مفهوم الخيانة في إطارها المصطلحي، فإنَّ اللفظ قد استعمَلَه القرآن الكريم في معاني مختلفة كلها دائرة في مفهوم الخيانة، ومن تلكم المعاني:
أولاً: المعصية، وقد دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ [البقرة: 187].
ثانيًا: نقض العهد، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].
ثالثًا: ترك الأمانة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105].
رابعًا: المخالفة في الدين، ودلَّ عليها قوله - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ [التحريم: 10].
خامسًا: الزنا، في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52].
ولقد حاوَل البعض رسمَ الخيانة مصطلحيًّا[5]؛ فقال الجاحظ: "الخيانة: هي الاستِبداد بما يُؤتَمن الإنسانُ عليه من الأموال والأعراض والحُرُمِ، وتملكُ ما يُستودَع ومجاحدةُ مُودِعِه".
وقال المُناويُّ: "الخيانة: هي التفريط في الأمانة، وقيل: هي مخالفة الحق بنقض العهد في السر".
وقال ابن الجوزي: "الخيانة: التفريط فيما يُؤتَمن الإنسان عليه".
وقال القرطبي: "الخيانة الغدر وإخفاء الشيء".
الثالث: مفهوم النِّفاق:
النِّفاق أظهر من أن نَسُوق معانِيَه ومَضامِينَه اللغوية والشرعية، والمعلوم أن النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو حيوان يجعل له عِدَّة مخارج يخدع بها مَن يُحاوِل اصطياده، فإذا أرادَه من أحد مَنافِذه هرب من إحدى المَخارِج التي أعدَّها لهذا الغرض، والمعنى الاصطِلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي، فالنِّفاق - كما يعرِّفه العلماء - هو إظهار الإسلام والخير، وإبطان الكفر والشر، وهو تعريفٌ جامعٌ لأنواع النِّفاق، فكما هو معلوم: النفاق عند أهل العلم نوعان؛ نفاق أكبر مُخرِج عن الملَّة، وقوامه إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وهو الذي دلَّت عليه النصوص القرآنية في مواضع متفرِّقة من كتاب الله - تعالى - ومنها قوله - تعالى -: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 1 - 3]، ونِفاق أصغر لا يُخرِج عن الملة، ويُعتَبر معصية كبيرة، وهو إظهار الخير وإبطان الشر، وقد دلَّت عليه نصوص السنَّة؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان))[6].
رابعًا: أكل الحرام:
الحرام عند العلماء - خاصَّة الأصوليين - مفهومه: ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام، وحكمه وضابطه يُثاب تارِكُه ويستحقُّ العقاب فاعلُه، أمَّا أكله فيَعنِي تناولَه، فيكون أكلُ الحرام اصطِلاحًا تناولَ الممنوع شرعًا، أو التلبُّسَ بالممنوع شرعًا؛ حتى يعمَّ التناوُلَ وغيرَه، بحكم أنَّ التناوُل يتعلَّق بالأكل دون غيره، فيكون القصد بالأكل في المفهوم أشمل ممَّا يدل عليه اللفظ، وقد جاءت في التحذير من أكل الحرام نصوصٌ متعدِّدة في كتاب الله - تعالى - وسنَّة النبي - صلَّىَّ الله عليْه وسلَّم - من ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 29]، والمراد بالباطل: ما يُخالِف الشرعَ؛ كالرِّبا، والقمار، والبخس، والظلم، قال بعض المفسِّرين: "والمراد من الأكل: ما يعمُّ الأخذَ والاستِيلاءَ، والمراد بالباطل: الحرام"[7]، ومن الأدلَّة التي تدلُّ على أكل الحرام ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالِي المرءُ بما أخذ المال، أمن الحلال أم من حرام))[8]، وما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - كذلك: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يَقبَل إلا طيبًا، وإن الله أمَر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]))، ثم ذكَر الرجل يُطِيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستَجاب لذلك[9].
والناظر في مفهوم الغش والمفاهيم الأخرى يُدرِك مَدَى تقارُبها من حيث معناها ومقتضاها؛ ولهذا فإنَّ هناك تقاربًا في المفاهيم يجعلها في منظومة مفاهيميَّة واحدة تَتقارَب مضامينها وإن لم تَتطابَق كليًّا؛ ولذلك نقرِّر فنقول تأسيسًا: إنَّ الغشَّ من حيث مفهومُه يتضمَّن الخيانة بحكم كون الغشِّ نقضًا للعهْد وتفريطًا في الأمانة، وهو يقتَرِب من النفاق العملي؛ لكون الغاشِّ يُضمِر خِلافَ ما يُظهِر، ويترتَّب على الغشِّ أكلُ المال الحرام؛ لأنَّه أكل أموال الناس بالباطل.
يتبع...