لم أعد أعرف كيف أتعامل مع نادية. إنّ العلاقة بيننا يُفترض أن تكون زمالة عادية، طالما أنها تعمل موظفة في القسم الذي أتولى إدارته، لكن الأمور ليست كذلك، لأن بيني وبين هذه السيدة الجميلة تاريخاً مرت عليه سنوات كثيرة. هل يجوز لرجل مثلي، تزوج وأنجب ثلاث عرائس، أن يخوض في السِّير القديمة ويقول، إن فلانة كانت حبيبته أيام الجامعة؟
نادية، كانت حبيبتي حين كنّا في أوّل الشباب. وأعترف بأنني كنت وغداً معها ولم أتمسك بالوعود التي قطعها أحدنا للآخر. لقد سافرت إلى الخارج، حال التخرج، لمواصلة دراستي العليا، ونسيت كل ما كان يربطني بالحبيبة. أما هي، فقد حاولت من جانبها أن تبقى على صلة الرسائل بيننا، ثمّ لم تعد كرامتها تسمح لها بأن تلاحق شاباً يتنصل من وعوده.
بقيت في الخارج ست سنوات. وتزوجت بأجنبية ثمّ طلقتها. ولما عدت، أخيراً، إلى البلد وجدت أن في إمكاني أن أنتقي زوجة جديدة من شريحة واسعة من الفتيات الشابات، اللواتي يتطلعن إلى الإرتباط بالدكتور الموعود بمناصب عالية.
لم يخطر في بالي أن أسأل عن نادية. فتلك صفحة انقلبت ومضت من صفحات كتاب حياتي، لكني سمعت، بالمصادفة، أنها تزوجت بزميل لنا وتعمل في إحدى الإدارات. ولا أدري لماذا تخيلت، حين سمعت ذلك، سيدة سمينة تسير وهي تجر أطفالها وراءها، ولا تستطيع أن تلتقط أنفاسها بسبب الحر والعرق وشقاوة الأولاد.
تزوجت أنا أيضاً، ورزقني الله بثلاث بنات. ومرّت سنوات تتراوح بين الملل والطموح واليوميات العادية، وغرقت زوجتي في مهماتها البيتية ومتطلبات العناية بالصغيرات. صارت تشبه تلك المرأة الجاهزة للحضور في الخيال حين نتحدث عن سيدة مسحوقة تحت وطأة واجباتها الكثيرة.
ثمّ.. عاودت نادية الظهور في حياتي. جاءت منقولة من إدارة بعيدة إلى الإدارة التي أتولاها، لأنها أقرب إلى محل سكنها. وحالما رأيتها حدث لي أمر لا أعرف تفسيره. هل تعرفون تلك الشموع الصغيرة الملونة، التي توضع فوق كعكة أعياد الميلاد.. الشموع التي ينفخها الصغار فتنطفئ ثمّ تعاود، بقدرة قادرة، الإشتعال من تلقاء ذاتها؟
اتقدت شمعة مشاعري من جديد، بعد أن تصورت أن لا نار فيها. ورأيت أمامي نادية وكأنّ الزمان لم يمر عليها ولم يجرح أي خيط من حرير جمالها. هل أغالي إذا قلت إنها في ثلاثينيات عمرها صارت أروع مما كانت في عشريناته؟
جاءت وسلمت عليَّ بهدوء ولياقة، من دون مصافحة، بل إنني لم أجرؤ على أن أمد يدي لمصافحتها، وقالت إنها مستعدة للبدء في العمل فوراً، وتسلُّم الملفات التي تحتاج إلى مراجعة. ثمّ ذهبت وجلست في مكتبها وتركتني واقفاً مثل تمثال مهجور، واقفاً بلا حراك.
هل رأت الدهشة في عينيَّ؟ هل لمست انبهاري؟ هل هي مستعدة لمغامرة لا أحد يعرف إلى أين تقودنا.. سوى أنها ستؤجج النيران التي خمدت مع الوقت، وتعيدنا طفلين يعدوان معاً ويسبقان ظليهما؟
بصراحة، أنا أنتظر خطوة أولى منها. فهل يطول إنتظاري؟
* الإنتقام طبق يؤكل بارداً:
هبَّ واقفاً يحييني مثل جندي في حضرة الضابط. ولم يجرؤ على أن يمد يده لمصافحتي. إنّه يخشى من ذاكرة الأيدي، من ماضي اليدين اللتين تلامستا قبل أكثر من خمس عشرة سنة، واحتضنت الكبرى منهما الصغرى. أما أنا، فلم أكن أحمل في صدري سوى أحاسيس مجمدة، مثل أكياس الخضار "الفروزن" التي أشتريها من "السوبرماركت". باقلاء خضراء مقشرة، وجزر مقطع إلى حلقات وشطائر باذنجان مشوية. ولم أكن أخشى شيئاً، لأنني واثقة بأن هذه المشاعر لن تعاود الإلتهاب من جديد، وهي ليست مثل الخضار التي يذوب الثلج عنها وتصبح صالحة للطهو في المقلاة.
يا إلهي كم تتبدل الأحاسيس وكم يتبدل البشر؟ هل يُعقل أنّ هذا الكرش المندلق أمامي، هو نفسه الذي كان صاحبه الشاب الأكثر وسامة في دفعتنا؟ وهذه الصلعة المتحايل عليها.. كيف حلت محل تلك الخصلات المفلفلة التي كانت تدغدغ أحلامي كل مساء.. على مدى سنتين؟
حين سافر وتركني، تصورت أنني سأموت من القهر. كانت دموعي تتهاطل من دون أن أتمكن من وقفها. وامتنعت عن مشاهدة الأفلام والإستماع إلى الأغاني العاطفية، لإنّها كانت تصيبني بحالة من الإنهيار وتدخلني في عذاب لا طائل من ورائه. ولما اتخذت قراري بالنسيان، لم أكن أمزح أو أكذب أو أتجمل. بل رحت أبحث عن الرجل الذي يستحق أن أضع ثقتي فيه وأن أسير معه حتى آخر العمر.
نسيت إبراهيم في اللحظة، التي قلت فيها لحمدان إنني موافقة على الإرتباط به. وتزوجت، وجاء الحب لطيفاً بعد الزواج، مثل موجات تضرب الشاطئ برهافة ثمّ ترتد عنه إلى لجة البحر لتعود أقوى وأكبر. وبفضل الحب الذي أحاطني به زوجي تألقتُ في حياتي العائلية، وأنجبت قمرين أضاءا بيتنا بالسعادة، ونجحت في عملي وبلغت مراتب طيبة في الموقع والمكسب.
مرّت السنوات خفافاً، فلم تترك آثارها في وجهي ولا في قامتي. وكانت زميلات الدراسة يفتحن أفواههنّ من الإعجاب، عندما نلتقي في الجمعية أو في حفل عائلي، وأسمع السؤال ذاته: "ما سرُّ هذا التألق؟". وكنت ألتفت إلى حمدان، زوجي، وأنا ممتنة له ولضربة الحظ التي جمعتني به.
ثمّ بنينا بيتاً جديداً في ضاحية جديدة، ورغبت في نقل مقر عملي إلى فرع ثانٍ للشركة، قريب من بيتي الجديد. وبعد إنجاز أوراق النقل عرفت أن مديري الجديد هو.. شبح الأمس. لكنني لم أعد تلك الشابة التي تخاف الأشباح وتذرف في سبيلها الدموع. ذهبت إلى أوّل يوم لي في الدوام، ووقفت أمام إبراهيم.. عفواً الدكتور إبراهيم، وقرأت في عينيه رواية كاملة تبحث عن ناشر.
ما أغبى الرجل الذي يتصور أنّه قادر على اللعب بالمرأة ذاتها مرّتين. كنت أقف أمامه نخلة شامخة وكان يرتعش في وقفته مثل تمثال خشبي مهجور ومكسور وينتظر الترميم. سأتركه ينتظر إلى ما لا نهاية وسأستعذب طعم إنتقامي.. هذا الطبق اللذيذ الذي يؤكل بارداً.