وكونوا عباد الله إخوانا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
5/2/1428
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- روح الثبات والمصابرة. 2- ضرورة ترابط المجتمعات المسلمة. 3- الحاجة إلى الصبر. 4- توثيق الإسلام للعلاقة بين المسلمين. 5- فطرية التعاون والتآزر. 6- اضطهاد بعض المجتمعات المسلمة. 7- التلاحم واقع منشود. 8- أهمية التعاون والتكاتف.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، لَقَد تَوالتِ السّنون والعصورُ الإسلاميّة منذ الرعيل الأوّلِ إلى يومِنا هذا والإسلامُ يلقِّن أبناءَه يومًا بعد يومٍ روحَ الثبات على الدين وآدابَ المغالبة والمدافعةِ والصبر على الشدائدِ وتكفُّؤ الفِتَن والرَّزايا بروحِ الراضِي بقضاء ربِّه الوَاثقِ بإنجازِ وعده، محتمِلاً مع ذَلك كلَّ نصب، مُستسيغًا في سبيل الله كلَّ تعب، وليس هذا الشعور الإيجابيُّ مختَصًّا بالفَردِ المسلِمِ دونَ المجتمعات المسلِمةِ برمّتها، كلاَّ، بَل إنّ عَليها جميعًا ما يجِب من استِحضارِ مثلِ تِلكُمُ المشاعِر على وَجهٍ آكَد مِن مجرّد حضورِه في صورةِ أشخاصٍ أو أَفرادٍ لا يَصِلون دَرجةَ المجموع؛ لأنَّ مِن سُنن الله في هَذِه الحياةِ الدنيا أنّ المجتمعاتِ المسلمةَ المؤمنَة بربِّها الراضيَةَ بدينها ونبيّها قد تتَفاوتُ في القدرات والملكاتِ والجهود والطاقات، قوّةً وضعفًا، وغنًى وفَقرًا، وصِحّةً ومرضًا، وسِلمًا وحَربًا، وإنّها بهذَا التّفاوتِ لتؤكِّد حاجةَ بعضِها لبعض في المنشَطِ والمكرَه والعسرِ واليُسر والحزنِ والفرَح، وكذا تؤكّد حاجَتَها إلى تقاربِ النفوس مهما تباعَدَتِ الديار، وإلى التّراحُم مهما كثُرتِ المظالم، وإلى التفاهُم مهما كثُر الخلاف، بل إنَّها في حاجةٍ ماسّة إلى إحساس بعضِها ببعض من خِلال أسمى معاني الشعور الإيجابيّ الذي حَضَّ عليه ديننا الحنيف؛ إذ ما المانع أن تسموَ معاني الإلفة والترابط بين المجتمعاتِ المسلمة إلى حدِّ ما لو عَطَس أحدٌ في مشرقِها شمّته أخوه في مغربها، وإذا شكَا من في شمالها توجّع له من في جنوبها؟!
فلا غروَ عبادَ الله؛ إذ لا بُدّ لكلّ مجتمعٍ مسلم أن يبثَّ آهاتِه وهمومَه لإخوانِه من المجتمعاتِ المسلِمَة، فلا أقَلَّ حينَها من أن يُلاقي من يواسِيه أو يُسليه أو يتَوجَّع له، وليس وَراءَ ذلكم مثقالُ حبّة من خردَل من تعاونٍ وتراحُم.
إنّه متى شوهِدَ مثلُ ذلكم الواقعِ الإيجابيّ بين المجتمَعات المسلِمة فلن تقعَ حينها فريسةً لما يسُوؤها، بل كلّما لاح في وجهِها عارضُ البلاء وكشَّر أمامَها عن أنياب التمزّق والتفرُّق والأزمات التي تعجمُ أعوادَها وتمتحِن عزائِمَها لم تمُت في نفسها روحُ المصابَرة المستنيرةُ بهديِ الوليّ القدير مهما ظلَّت كوابِسُ الظّلم والتسلّط جاثمةً على صدرِها.
ومِن هذا المنطلقِ يبقى الإسلامُ شامخًا أمامَها، ولا يموت المسلِمون جرّاءَهَا، بل إنّهم لا يَزالُون يردِّدون كتابَ ربّهم ويتلون قولَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]. إنّهم يستَلهِمون مِن آيات الصبرِ التي تجاوَزَت أَكثرَ مِن ثمانينَ مَوضعًا في كتاب الله جلّ وعلا الشِّعارَ والدِّثار؛ لأنّ الصبرَ من أكرم أنواعِ المغالبة والمدافعةِ بين الحقّ والباطل في شتّى صوَرِها، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]. ولم يكن الصبرُ أَكرمَ في ذلك إلاّ لشمولِه الواسعِ أنواعَ الحُسن فيه على مَرَاقي التوفيق، وذَلكم من خِلال حُسن الاستقبال للبلايا والمحَن والعداء وحسنِ الاحتمال لها وحُسن التصرّف معها وحُسن حملها بقوّة واقتدارٍ للزَّجّ بها بعيدًا عن طريقِ المسير الخالِد وحُسن تعاطُف المجتمعات المسلِمة مع بعضها لتصبحَ كالأعضاءِ لِلجَسَد الواحد؛ لينَالوا بذلك مَا وعَد الله به أولئك بقوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]. ولم يكن هَذا الأجر الممدودُ بغير حدٍّ إلاَّ لأنّ أولئك الصابِرين أوفَوا بعهدِ الله من بعد ميثاقه، وأوفوا للإسلامِ، وأوفوا للثباتِ والمدافعةِ، وأوفوا لبعضِهم البعض مهما امتدّ النفَس واشتدّتِ اللأواء.
عبادَ الله، لقد انطلَقَ نور الإسلامِ ليكونَ مما يهدِي إليه توثيقُ علاقةِ الفرد المؤمن بالفرد المؤمن والمجتَمَع المؤمن بالمجتَمَعِ المؤمن على أكرمِ أساسٍ وأشرف نبراس، وقد أحاط ذلكم التوثيق بسياجِ الفضيلة والإيثار والرحمةِ والنُّصرة، فقد قال جلَّ شأنه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وقال سبحانَه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وقال المصطَفَى صلوات الله وسلامه عليه: ((المؤمن للمؤمِنِ كالبنيانِ يشُدّ بعضه بعضًا)) رواه البخاريّ ومسلم، وقال أيضًا: ((مثَل المؤمنين في توادُّهم وتراحمِهِم وتعاطُفِهم كمَثل الجسد الواحد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسدِ بالسَّهر والحمّى)) رواه مسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) رواه البخاريّ ومسلم.
كلُّ هذِه النصوصِ ـ عباد الله ـ دالّةٌ بوضوحٍ على تحضيضِ الشارع الحكيمِ على التعاون والإلفة والتناصُر واتّحادِ الآمال والآلام بين المسلمين مجتمعَاتٍ وأفرادًا؛ لأنّ الربَّ واحِد، والدِّين واحد، والنبيَّ واحد.
إنّ هذه لحقيقةٌ شامخةُ البناء، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء؛ لذا كان لزامًا على المجتمعاتِ المسلمة أن تتوهّج في نفوسها المعاني الكَريمة للتماسُك والتراحم والتناصُر، وأن يتوهّج السُّموّ الروحيّ في الأخوّة والتضامنِ والمساواة والتخلّص من سلبيّة احتكارِ الشعور وفرديّة العواطِف والنشوز بين الأجناسِ المختلفة، فدينُ الإسلام لم يجعل للجِنسِ ولا للُّغة ولا للَّونِ معيارًا لتلك المعاني الجليلة؛ لأنّ الكلَّ عبادُ الله، والنبيُّ يقول: ((وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) رواه البخاري ومسلم.
إذًا كيفَ لا تحُضّ شِرعةُ الله ومنهاجُه على مِثلِ هذه المعاني وقد كرّم الله بني آدَمَ وحملهم في البَرّ والبحر ورزقهم من الطيِّبات؟! وقد كرَّمَ من بني آدم أمّةَ الإسلامِ، فأوجب عليهَا من التراحمِ والترابط والاجتماع والنُّصرة ما يحرِّم من خلاله كلَّ مَعنى من معاني الفُرقة والاختلاف والأثَرَة وحبّ الذات والخذلان والإسلام للغير. وإنّ مَن لديه أدنى إلمامٍ بعالَم بَعضِ الأحياء ليدرِكُ جيِّدًا أثرَ تِلكم المعاني في واقعها لأجلِ البقاء والسيادة والوقوفِ في وجهِ الظالم المعتَدِي، فالنَّملُ على سبيل المثال يتعاوَنُ في دأَب وصبر على الأعمالِ المتعدّدة والمحاولات المتكرِّرة، وقد ذكَر الله جلّ وعلا عن أمّة النمل موقفَها معَ سليمانَ عليه السلام: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل: 18]. ولِجُموعِ النحل مثلُ ذلكم الشّعور مع مملكته، تتعَاوَن في دقّةٍ وانتظامٍ في عمارة خلاياها وحمايَتِها. وقولوا مثلَ ذلكم في الطيور والحيوانات الأخرى؛ حيث نراها تسير جماعاتٍ وأسرابًا، وإذا عرض لها عارضُ خطرٍ تكتّلَت واجتَمَعت؛ لإدراكِها بالغريزة أنّها إذا انقَسَمَت هانت وذلّت.
فإذا كان ذلكم هو الشعورَ الجليّ في الحشراتِ والحيوانات العجمَاوَات غريزيًّا فكيف بالإنسان المسلم الذي استطاع أن يملِكَ ذلكم الشعورَ بالغريزةِ والشريعة معًا؟! حيث يقول الرَّسول : ((المسلِمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمه، ولا يُسلِمه، من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربةً من كرَب الدنيا فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامَةِ، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) رواه البخاري بهذا اللّفظ.
إنَّ في أمَّتِنا الإسلاميّة مجتَمعاتٍ مسلمةً تمرّ عليها أيّام عِجافٌ، قُلِب فيها الباطلُ حقًّا والحقُّ باطلاً؛ لأنّ دَورةً من دوراتِ الزمن منَحَتِ المبطلَ القوّةَ في الأرضِ، فجعَلَته هو صَاحبَ الأرض، وجَعَلَت مالكَ الأرض الأصل إِرهابيًّا طرِيدًا لا حقَّ لَه، كلُّ ذَلك يستَدعي شَحذَ همَمِ المجتمَعَاتِ المسلمة شعوبًا وحُكَّامًا وأصحَابَ قَرار أن يحيطوا تِلكم المجتمَعاتِ بالرحمة والتّعاطفِ والإحساس بالواجِب تجاهَها والسَّعي الدَّؤوب لإحقاقِ الحقّ وإبطال الباطل، فالحقُّ لا يمكِن أن يضيعَ جَوهرُه لأنَّ عِللاً عارضةً اجتَاحَت أهلَه؛ إذ لم تتحوّل جرائمُ فِرعَون إلى فضائل لأنّه مَلَك سلطةَ الأمر والنهي واستَطَاع قتلَ الأبناءِ واستحياء النساء. إنّنا إذا لم ندرِك ذلكم جيّدًا فلن نَستَبِين أغراضَ الغارةِ الشَّعواء الكامِنَة في جَعلِنا وإخوانَنا من المجتمعات المسلِمَة قِصّةً تُروَى وخبرًا كَان، أو تبقيَنا جملةً لا محلَّ لها من الإعراب، إلاّ أن تَلتَقيَ الأطماع على أنقاضِنا، وعزاؤنا أنّ اللهَ غالِبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ والسّنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.