الأمير السعيد
أوسكار وايلد
ترجمة أحمد الصادق
أعلى المدينة ، وعلى قاعدة عمودية طويلة ، وقف تمثال الأمير السعيد .
كان مطلي برقائق رفيعة من الذهب الخالص النقي ، وكانت عيناه جوهرتين زرقاوين ملتمعين ، وقد استقرت ياقوتة ضخمة حمراء تتوهج على مقبض سيفه .
لقد كان محل إعجاب على مدى واسع بحق .
فعلق عليه أحد أعضاء مجلس المدينة : " إنه لجميل جمال ديك الرياح* " متمنياً أن يحصل على سمعة حسنة في التذوقات الفنية ، وأضاف : " ولكنه غير مفيد بالمرة " مخافة أن يعتقد الناس أنه غير عملي ، حيث أنه في الحقيقة لم يكن .
وقالت أم ، حساسة الشعور ، لابنها الصغير الذي كان يبكي طالباً شيئاً مستحيلاً : " لمَ لا يمكنك أن تصبح مثل الأمير السعيد ؟ إن الأمير السعيد لم يبكي أبداً طلباً لأي شيء "
وغمغم رجل مُخَيَّب الآمال وهو يحدق إلى التمثال الرائع : " إني مبتهج لوجود شخص ما في العالم سعيد بالفعل "
وقال أطفال المؤسسة الخيرية : " إنه يبدو كَمَلَك بالضبط " حيث خرجوا من الكاتدرائية* لابسين عباءات قرمزية لامعة ومآزر بيضاء نظيفة بلا أكمام .
فرد عليهم أستاذ الرياضيات : " كيف عرفتم ؟ أنتم لم تشاهدوا ملكاً مطلقاً " فأجابوا : " حسناً .. ولكننا شاهدناهم في أحلامنا " فعبس أستاذ الرياضيات وبدا متجهما للغاية ، حيث أنه لم يتقبل فكرة أحلام الأطفال .
***
ذات ليلة ، طار سنونو* صغير أعلى المدينة ، وكان قد ذهب أصحابه إلى مصرمنذ ستة أسابيع ، ولكنه تخلف عنهم ، لوقوعه في حب مع أجمل قصبة . لقد قابلها في أوائل الربيع ، حيث كان يطير بمحازاة النهر وراء فراشة صفراء كبيرة ، وكلن معجباً ومفتوناً بخصرها الرفيع ، حتى أنه توقف عن الكلام معها .
" هلا بادلتيني الحب ؟ "
قالها السنونو الذي أحب أن يدخل في صميم الموضوع دون مقدمات . فانحنت له القصبة في انخفاض ، فطار حولها لامساً المياه بجناحيه ، صانعاً مويجات فضية . تلك كانت مغازلته . وظل هكذا طيلة فصل الصيف .
سقسقت الخطاطيف الأخرى في ثرثرة : " إنها لعلاقة عاطفية سخيفة .. إنها لا تملك نقوداً ، ومتعددة العلاقات إلى حد بعيد " وبالفعل ، كان النهر ممتلئ عن آخره بالقصب . وعندما أتى الخريف ، طاروا بعيداً كلهم .
بعدما ذهبت الخطاطيف ، شعر بالوحدة ، وبداً يضجر من محبوبته ، وقال : " إنها لا تحادثني ، وإني لأخشى أن تكون قصبة مغناج* ، فإنها تتراقص دائماً في غزل مع الرياح " وبالطبع ، فكلما هبت الرياح ، كلما صنعت تلك القصبة هذه الانحناءات المحترمة الرشيقة للغاية . تابع السنونو : " إني أسلم بأنها تحب مكانها ، ولكني أحب الترحال ، وبناءً على ذلك يجب على زوجتي أن تحب الترحال أيضاً "
" هل ستذهبين معي بعيداً ؟ "
قال ذلك أخيراً لها ، ولكن القصبة هزت رأسها ، وكانت مرتبطة جداً بوطنها .
فصاح فيها" لقد كنتِ تافهة / عابثة معي .. إني لذاهب إلى الأهرام ، وداعاً " وطار بعيداً .
طار طوال النهار كله ، وفي الليل وصل إلى المدينة ، وقال : " أين يا ترى سأهبط بالضبط ؟ أتمنى أن تكون للمدينة إعدادات "
ثم رأى التمثال على القاعدة العمودية الطويلة ، وصاح : " سأنزل هنا ، إنه لموقع حسن ذو وفرة من الهواء النقي " وهكذا حط بالضبط بين قدمي الأمير السعيد .
" إن لدي سرير ذهبي " قالها بنعومة لنفسه وهو ينظر حوله ، واستعد للخضوع للنوم ، ولكن بينما كان يضع رأسه تحت جناحه ، سقطت قطرة كبيرة من الماء عليه ، فصاح : " يا له من شيء غريب ! إنه لا وجود لسحابة واحدة في السماء ، والنجوم واضحة جداً ولامعة ، وحالياً تمطر ! إن مناخ شمال أوروبا لمفزع حقاً .. القصبة اعتادت أن تحب المطر ، ولكن هذا كان مجرد لأنانيتها لا غير "
ثم سقطت قطرة أخرى .
" ما فائدة التمثال إذا كان لا يصد الأمطار ؟ " قالها السنونو : " يجب أن أبحث عن مدخنة جيدة " وعزم أن يطير بعيداً .
ولكن قبل أن يفتح جناحيه ، سقطت قطرة ثالثة ، فنظر أعلاه ، ورأى .. !
حسناً ، ماذا رأى ؟
كانت أعين الأمير السعيد مملوءة بالدموع ، والدموع كانت تنهمر أسفل وجنتيه الذهبيتين . كان وجهه جميلاً للغاية في ضوء القمر ، حتى أن السنونو الصغير بدا في قمة الشفقة .
قال السنونو : " من أنت ؟ "
- " أنا الأمير السعيد "
سأله السنونو : " " فلماذا تبكي إذن ؟! لقد بللتني تماماً "
أجابه التمثال : " عندما كنت حياً وأملك قلب إنسان ، لم أكن أعلم للدموع طريقاً . فقد عشت في قصر (سانس – سوسي) sans-souci حيث لا مكان للحزن .. في الصباح كنت ألعب مع رفقائي في الحديقة ، وفي المساء أبدأ الرقص في الردهة الكبيرة . حول الحديقة التف سور شامخ للغاية ، ولكني لم أهتم بمعرفة ماذا يركد وراءه ، فكل شيء عندي ويخصني كان جميلاً جداً . حتى أن رجال الحاشية دعوني الأمير السعيد . وحقاً قد كنت سعيداً ، إذا كانت اللذة هي السعادة .. هكذا عشت ، وهكذا مت . والآن وقد مت ، وضعوني هنا في هذا الارتفاع الأقصى ، حيث يمكنني رؤية كل الفظائع البشعة وكل البؤس والتعاسة لدي مدينتي . ومع ذلك قلبي صُنِع من رصاص . والآن ، لا يمكنني أن أختار سوى البكاء "
قال السنون في نفسه : " ماذا ! أليس هو مصمت ذهباً ؟ " لقد كان كيساً جداً في حرصه على عدم اطلاق أي تعبير شخصي بصوت عالٍ .
" على بُعد كبير " تابع التمثال كلامه في نغمة موسيقية خفيفة : " على بعد كبير ، في طريق صغير ، هناك بيت فقير . أحد النوافذ مفتوحة ، ومن خلالها يمكنني أن أرى امرأة جلست نحو منضدة ، وجهها رفيع وهزيل ، ولديها يدين خشنتين حمراوين ، مثقوبتين من أثر الإبرة ، فهي حائكة ، تطرز شكل أزهار الآلام على رداء من ساتان سيذهب إلى أحب وصيفة من وصائف الملكة لترتديه في الحفل الملكي القادم . وفي ركن الغرفة ، يرقد ابنها الصغير في السرير مريضاً . عنده حمى ويريد برتقالاً . وأمه ليس لديها شيء لتعطيه له سوى ماء النهر ، وها هو يبكي . يأيها السنونو ، يأيها السنونو .. أيها السنونو الصغير ، ألن تحضر لها الياقوتة الحمراء التى على مقبض سيفي ؟ إن قدمي مثبتة بإحكام بهذه القاعدة ولا يمكنني أن أتحرك "
فقال السنونو : " ولكن هناك من ينتظرني بمصر . أصدقائي يطيرون أعلى وبمحاذاة النيل ، ويكلمون أزهار اللوتس الضخمة . وقريباً سيذهبون للنوم في مقبرة الملك العظيم . الملك هناك بنفسه في تابوته الملون ، ملفوف بكفن أصفر من الكتان ، ومحنط بالتوابل ، وحول رقبته سلسلة من اليشم* الشاحب ، ويداه كأوراق الشجر الذابلة "
" يأيها السنونو ، يأيها السنونو .. أيها السنونو الصغير " قالها الأمير : " ألن تبقى معي لليلة واحدة ، وتكون رسولي ؟ إن الصبي عطشان جداً ، والأم في غاية الحزن "
أجاب السنون : " أنا لا أعتقد أني أحب الصبيان .. في الصيف الماضي ، عندما كنت ماكثاً على النهر ، كان هناك صبيان مشاغبان ، أولاد الطحان . كانا يقذفان الأحجار علىَّ دائماً ، ولكنهما لم يصيباني في أي مرة . فبالطبع ، نحن الخطاطيف نطير بعيداً جداً لأجل ذلك . غير أني أنحدر من عائلة مشهورة بخفة حركتها وسرعة بداهتها . ولكن ما حدث ، كان علامة على عدم الإحترام "
ولكن الأمير السعيد بدا حزيناً جداً ، وأشفق عليه السنونو وقال : " الجو شديد البرودة هنا ، ولكني سأنتظر معك لليلة واحدة ، وأكون رسولك "
قال الأمير : " شكراً لك أيها السنونو الصغير "
وهكذا نزع السنونو الياقوتة الضخمة من سيف الأمير ، وطار بها بعيداً أعلى سطوح المدينة ، ممسكاً إياها بمنقاره .
لقد مر بميدان الكاتدرائية ، حيث نُحتت الملائكة الرخامية البيضاء . ومر بالقصر وسمع صوت الرقص . فتاة جميلة تأتي إلى الشرفة بمرافقة محبوبها ، ويقول لها : " ما أروع النجوم .. ما أعجب قوة الحب "
فتجيبه : " آمل أن يكون ثوبي جاهزاً للحفل الملكي .. لقد أمرت أن تُطرز أزهار الآلام عليه ، ولكن الخياطين كسالى جداً "
مر السنونو فوق النهر ، ورأى المنارات وهي تهدي صواري المراكب . ومر فوق الغيت * ، ورأى اليهود المسنين يتقايضون مع بعضهم ، ويزنون النقود في كفوف الميزان النحاسية . أخيراً وصل إلى البيت الفقير ونظر داخله . كان الصبي يرتجف على سريره من الحمى ، والأم قد غلبها النوم ، كانت متعبة جداً . قفز السنونو ، و وضع الياقوتة الضخمة على المنضدة بجوار كشتبان السيدة . ثم طار بخفة حول السرير يهوي جبهة الصبي بجناحيه . فيقول الصبي : " كم أشعر بالانتعاش ! لابد أني أتحسن " ويغوص في سبات لذيذ .
ثم طار السنونو عائداً إلى الأمير السعيد ، وأخبره بما فعله ، وعلق قائلاً : " غريب .. إني أشعر بالدفء الآن ، رغم أن الجو بارد جداً "
فقال الأمير : " هذا لأنك فعلت فعلاً حسناً " فبدأ السنونو في التفكير ، ثم راح في النوم . التفكير دائماً ما يجعله نعسان .
عندما مضى اليوم ، طار أسفل النهر واستحم .
" يا لها من ظاهرة غير عادية ! " قالها أستاذ علم الطيور عندما كان يعبر الجسر : " سنونو في الشتاء !! " وكتب رسالة طويلة عن ذلك للجريدة المحلية . الكل استشهد بها على أنها مليئة بكلمات لم يستطيعوا أن يفهموها .
قال السنونو مبتهجاً عند ذلك المنظر : " إني لذاهب الليلة إلى مصر " لقد زار كل المعالم والآثار المدنية ، وجلس لمدة طويلة على قمة برج الكنيسة ، أينما ذهب تسقسق العصافير ، وتقول لبعضها : " يا له من غريب مميز ! " فنعم بنفسه كثيراً .
وعندما بزغ القمر ، طار راجعاً إلى الأمير السعيد . وصاح : " ألديك أي تكليف لي بمصر ؟ إني على وشك الرحيل "
" يأيها السنونو ، يأيها السنونو ، أيها السنونو الصغير " قالها الأمير : " ألن تبقى معي لليلة أخرى ؟ "
أجاب السنونو : " ولكن هناك من ينتظرني بمصر .. غداً سيحلق أصحابي فوق الشلال الثاني . فرس النهر يضطجع هناك وسط نباتات البردي ، وعلى عرش جيرانيتي عظيم يجلس الإله ممنون . طيلة كل ليلة يشاهد النجوم ، وعندما يشرق نجم الصباح يبكي باطلاق من شدة السعادة ، ثم يصمت . وعند الظهر تهبط الأسود الصفراء عند حافة المياه لتشرب . لديهم عيون مثل البريل* الأخضر ، وزئيرهم أعلى من هدير الشلال "
" يأيها السنونو ، يأيها السنونو ، أيها السنونو الصغير " قالها الأمير : " بعيداً عبر المدينة أرى شاباً في الحجرة العلوية . إنه يستند على مكتب مغطى بالأوراق ، وبجانبه كأس به باقة من البنفسج الذابل . شعره بني متموج ، وشفتاه حمراوان مثل الرمان ، ولديه عينان واسعتان حالمتان . إنه يحاول أن ينهي مسرحية لمخرج المسرح ، ولكنه يتجمد برداً ولا يستطيع أن يكتب بعد الآن . لا توجد نيران في المدفأة ، والجوع قد أضعفه وأصابه بالدوار "
" سوف أنتظر معك لليلة أخرى " قالها السنونو الذي يحمل بحق قلباً طيباً : " هل آخذ له ياقوتة أخرى ؟ "
قال الأمير : " واحسرتاه ! لم يعد لدي ياقوت .. كل ما لدي الآن هما عيناي . إنهما مصنوعتان من صفير* نادر مجلوب من الهند منذ آلاف السنين . اقتلع واحدة منهما وخذها له . سوف يبيعها للصائغ ، ويشتري طعاماً وحطباً للنار ، وينهي مسرحيته "
قال السنونو : " أيها الأمير العزيز ! .. لا أستطيع أن أفعل ذلك ! " وبدأ في البكاء .
" يأيها السنونو ، يأيها السنونو ، أيها السنونو الصغير " قالها الأمير : " افعل كما آمرك "
وهكذا اقتلع السنونو عين الأمير ، وطار إلى حجرة الطلاب العلوية . كان سهلاً بما في الكفاية لأن يدخل ، حيث كان هناك ثقب في السطح ، اندفع كالسهم من خلاله ، ودخل في الغرفة . قد دُفِنَت رأس الشاب بين يديه ، فلم يسمع رفرفة جناحي الطير ، وعندما رفع رأسه وجد الجوهرة الزرقاء ترقد على البنفسج الذابل .
فصاح : " لقد بدأت أُقَدَّر حق قدري .. هذا من بعض المعجبين العظام . الآن يمكنني إنهاء مسرحيتي " وبدا سعيداً للغاية .
في اليوم التالي طار السنونو إلى المرفأ . جلس على سارية مركب هائل ، وشاهد البحارة يسحبون صناديق كبيرة قد رُبِطَت بالأحبال ، صائحين : " هيلا ، ارفع ! " مع كل صندوق يتم رفعه . وصاح السنونو : " إني ذاهب إلى مصر ! " ولكن لم يعره أحد اهتماماً . وعندما بزغ القمر ، طار عائداً إلى الأمير السعيد .
" لقد جئت لأودعك " قالها السنونو في التماس .
" يأيها السنونو ، يأيها السنونو ، أيها السنونو الصغير " قالها الأمير : " ألن تبقى معي لليلة أخرى ؟ "
أجاب السنونو : " لقد حل الشتاء ، والجليد البارد في طريقه إلى الوجود . في مصر الشمس دافئة على سعف النخل الأخضر ، والتماسيح تركد في الطين ويحرسون أنفسهم بكسل . رفقائي يبنون عشاً في معبد بعلبك ، ويشاهدهم الحمام الوردي والأبيض ويسجعون لبعضهم . عزيزي الأمير ، يجب أن أتركك ، ولكني لن أنساك أبداً ، وفي الربيع القادم سوف أحضر لك جوهرتين جميلتين لتحل محل ما قد أخرجته . الياقوتة ستكون أكثر حمرة من الزهرة الحمراء ، والصفير سيكون أزرق كزرقة البحر العظيم "
" في الميدان " قالها الأمير : " تقف فتاة صغيرة بائعة أعواد ثقاب . لقد سقطت أعوادها في البالوعة ، وقد تلفت جميعها . سيضربها أبوها إن لم تحضر بعض المال إلى البيت ، وها هي تبكي . إنها حافية وبلا جوارب ، ورأسها الصغير عارٍ . اقتلع عيني الأخرى وأعطها إياها ، فلن يضربها أبوها عندئذٍ "
قال السنونو : " سوف أبقى معك لليلة أخري ، ولكن لا يمكنني أن أقتلع عينك . ستصبح أعمى تماماً هكذا "
" يأيها السنونو ، يأيها السنونو ، أيها السنونو الصغير " قالها الأمير : " افعل كما آمرك "
وهكذا اقتلع العين الأخرى للأمير ، واندفع بها كالسهم . انطلق ماراً فوق الفتاة بائعة أعواد الثقاب ، وأفلت الجوهرة لتسقط في راحة يدها ،. فصاحت الفتاة الصغيرة : " يالها من كسرة زجاج جميلة " وركضت إلى بيتها ضاحكة .
ثم رجع السنونو إلى الأمير . وقال : " إنك مكفوف الآن . لذا فسأبقى معك دائماً "
فقال الأمير المسكين : " لا أيها السنونو الصغير . يجب عليك أن ترحل إلى مصر "
" بل إني سأبقى معك دائماً " قالها السنونو ، ونام بين قدمي الأمير .
طوال اليوم التالي جلس على كتف الأمير ، وظل يخبره بقصص ما قد رآه في المدن الغريبة . فأخبره عن طيور أبي منجل* الحمراء ، التي تقف في صفوف طويلة على ضفاف النيل ، ويلتقطون أسماكاً ذهبية بمناقيرهم . وعن أبي الهول القديم قِدم العالم نفسه ، والذي يعيش في الصحراء ، ويعرف كل شيء . وعن التجار الذين يمشون ببطء بجوار إبلهم ، ويحملون سبح كهرمانية بين أيديهم . وعن ملِِك جبال القمر ، الأسود سواد الأبنوس ، والذي يبجل بلورة ضخمة . وعن الحية الخضراء العظيمة التي تنام في نخلة ، ولديها عشرون كاهناً يطعمونها بكعك العسل . وعن الأقزام الذين يبحرون في بحيرة كبيرة على أوراق نباتية عريضة ، ودائماً في حالة عراك مع الفراشات .
قال الأمير : " عزيزي السنونو الصغير ، لقد أخبرتني بأشياء عجيبة ، ولكن الأكثر عجباً من أي شيء هو معاناة الرجال والنساء ، فليس هناك لغز أعظم من البؤس . حلِّق فوق مدينتي أيها السنونو ، وأخبرني بما ترى "
وهكذا حلَّق السنونو فوق المدينة الواسعة ، ورأى الأغنياء يمرحون في بيوتهم الجميلة ، بينما المتسولون يجلسون عند البوابات . وطار بين الأزقة المظلمة ، ورأى الأوجه البيضاء للأطفال المتضورين جوعاً . يبدون فاترين في الشوارع الكحلاء . تمدد صبيان تحت قنطرة الجسر محتضنين بعضهما للحفاظ على دفئهما ، ويقولان : " كم نحن جوعى ! " ويزعق الخفير فيهم : " يجب ألا تستلقيا هنا " فهاما خارجين تحت المطر .
ثم طار عائداً إلى الأمير وأخبره بما رآه .
" إني مغطى بذهب خالص " قالها الأمير : " يجب أن تخلعه ، رقاقة تلو الرقاقة ، ثم أعطهم لفقرائي . فدائماً ما يظن الناس الأحياء أن الذهب يمكنه إسعادهم "
فنزع السنونو الذهب الخالص ، الرقاقة تلو الرقاقة ، حتى بدا الأمير السعيد رمادياً وباهتاً تماماً . رقاقة تلو الرقاقة من الذهب النقى أحضرها إلى الفقراء ، فأصبحت وجوههم أكثر نضرة ، وأخذوا يضحكون ويلعبون الألعاب في الشارع ، ويصيحون : " لدينا الخبز الآن ! "
ثم تساقط الثلج ، وبعد الثلج أتى الصقيع . بدت الطرق وكأنها صُنِعت من الفضة ، كانت براقة جداً ومتلألئة . وتدلت كتل جليدية كالخنجر البلوري أسفل طُنُف البيوت . الجميع يجولون بملابس مبطنة بالفرو ، وارتدى الصبية الصغار قلانيس قرمزية منصرفين على الجليد .
بات السنونو المسكين شاعراً بالبرد أكثر فأكثر ، ولكنه لم يترك الأمير ، فلقد أحبه حباً جماً . والتقط فُتات الخبز من خارج باب المخبز حيث لم يكن الخباز ناظراً . وحاول جعل نفسه دافئاً برفرفة جناحيه .
ولكن أخيراً ، علم أنه في طريقه إلي الموت . وبالكاد كانت لديه قوة لأن يطير إلى كتف الأمير مرة أخرى . وهمس : " وداعاً عزيزي الأمير .. هل تدعني أُقَبِّل يدك ؟ "
فقال اتلأمير : " إني لمسرور لذهابك إلى مصر أخيراً ، أيها السنونو الصغير .. لقد بقيت لمدة طويلة ها هنا ، ولكنك يجب أن تقبلني من شفتيَّ ، لأني أحبكَ "
" ليست مصر هي التي سأذهب إليها " قالها السنونو : " إني لذاهب إلي بيت الموت . الموت شقيق النوم ، أليس كذلك ؟ "
ثم قبل الأمير السعيد من شفتيه ، وسقط ميتاً عند قدميه .
في هذه اللحظة سُمِع صوت انشقاق غريب داخل التمثال ، كأن شيئاً قد كُسر . الحقيقة أن القلب الرصاصي قد انقصف إلى نصفين . بالطبع كان متجمداً بشكل مفزع .
في الصباح الباكر لليوم التالي كان المحافظ يمشي في الميدان مع فرقة من أعضاء مجلس المدينة . وعندما مروا بالقاعدة العمودية ، نظر أعلى إلى التمثال وقال : " ياللخيبة ! كم يبدو الأمير السعيد بالياً ! "
" بالياً بالفعل ! " قالها أعضاء مجلس المدينة صائحين ، موافقين على ما يقوله المحافظ دائماً ، ثم اشرأبوا ناظرين إلى التمثال .
قال المحافظ : " لقد سقطت الياقوته من سيفه ، وذهبت عيناه ، ولم يعد مذهباً بعد الآن .. في الحقيقة ، إنه أقرب شأناً من شحاذ ! "
" أقرب شأناً من شحاذ ! " قالها الأعضاء .
تابع المحافظ : " وفي الواقع هناك طائر ميت عند قدمه .. ويجب علينا حقاً أن نصدر بلاغاً بأنه غير مسموح للطيور بأن تموت هنا " وقام كاتب المدينة بتدوين هذا الاقتراح في مذكرة .
وهكذا سحبوا تمثال الأمير السعيد أرضاً . وقال دكتور الفنون الجميلة بالجامعة : " إنه لم يعد جميلاً ، فلم يعد ذا فائدة "
ثم أذابوا التمثال في الفرن ، وقام المحافظ بتحديد زيارة إلى مجلس المدينة ليقرر ماذا يُفعل بالمعدن . وقال : " بالطبع يجب أن نحصل على تمثال آخر .. وسوف يكون تمثالاً لي "
" تمثالاً لي ! " قالها الأعضاء ، ثم تنازعوا . وكان آخر ما سُمِع منهم أنهم مازالوا يتنازعون .
" ياله من أمر غريب ! " قالها مشرف عمال المسبك : " هذا القلب الرصاصي المكسور لن ينصهر في الفرن . يجب أن نلقيه بعيداً " فالقوا به على كومة من الثرى حيث كان يرقد كذلك السنونو الميت .
***
" أحضر لي أنفس وأعز شيئين في المدينة " قالها الله إلى أحد ملائكته ، فأحضر له المَلَكُ القلبَ الرصاصي والطائر الميت .
فقال الله : " لقد أصبت الاختيار ، ففي جنة فردوسي سيغني هذا الطائر الصغير إلى الأبد ، وفي مدينتي الذهبية سوف يمجدني الأمير السعيد "
_________________________
الهوامش :
ديك الرياح* : أداة على شكل ديك لإظهار اتجاه الريح .
الكاتدرائية* : كبرى الكنائس في مدينة معينة (أبرشية) ، وتشتمل على عرش الأسقف .
السنونو* : طائر طويل الجناحين مشقوق الذيل (خطاف) .
مغناج* : " امرأة ذات دلال تحاول أن تجذب الرجال إرضاءً لغرورها .
اليشم* : (حجر كريم) مصطلح عام يشمل مجموعة من المعادن الصلدة التي تتدرج ألوانها من الأبيض تقريباً إلى الأخضر الداكن .
الغيت* ghetto) حي اليهود (أو الأقليات) بمدينة .
البريل* : (beryl)حجر كريم أخضر اللون عادةً .
الصفير* : (sapphire) ياقوت أزرق اللون .
أبو منجل* : (الحارس) طائر مائي طويل القائمتين والمنقار .
_______________________